ملوک الطوائف و نظرات در تاریخ اسلام
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
ژانرها
الجزء الأول: ملوك الطوائف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
صفحه نامشخص
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملوك الطوائف وعواصمهم
الهوامش
الجزء الثاني: نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
بعد وفاة النبي
قواعد الإسلام
الهوامش
صفحه نامشخص
الجزء الأول: ملوك الطوائف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
صفحه نامشخص
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملوك الطوائف وعواصمهم
الهوامش
الجزء الثاني: نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
بعد وفاة النبي
قواعد الإسلام
الهوامش
صفحه نامشخص
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
تأليف
رينهارت دوزي
ترجمة
كامل كيلاني
تصدير
بقلم كامل كيلاني
هذه فصول مترجمة من كتاب العلامة المستشرق «دوزي» وقد آثرنا نقلها إلى العربية لتبيان وجهة تفكير عالم أوروبي كبير، وهي - وإن خالفت آراءنا أحيانا في بعض مناحيها - جديرة أن تقرأ بعناية فائقة، فليس كل ما لا نرضاه من الآراء خليقا بالطرح والإهمال.
وإذا كان العلامة فخر الدين الرازي يقول في مقدمته لشرح «الإشارات» لابن سينا: «إن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد.»
صفحه نامشخص
فما أجدرنا أن نقول بدورنا: «والترجمة أيضا غير النقد.»
لهذا اقتصرت على نقل آراء ذلك المستشرق بلا مناقشة أو تعليق إلا ما يقتضيه المقام من توضيح لما أعتقد أن أكثر القراء في حاجة إليه. •••
على أنني لم أكد أنشر الفصل الأول من هذا الكتاب في «ديوان ابن زيدون» حتى نال من استحسان القراء أكثر مما كنت أقدره له.
وقد وعدت بإظهار هذا القسم كاملا بعد أن أنجز شرح «ديوان ابن زيدون» ثم منعتني عوادي الزمن ومشاغله عن إنجاز هذا الوعد، ثم تغلبت العزيمة على التردد والتسويف. ورأيت أن أفي ببعض ما وعدت به القراء، فأنجزت ترجمة هذا الكتاب وكلي أمل في أن ألحقه بالكتاب الثاني الذي وعدت به القراء وهو: «ابن زيدون: أدبه وعصره». فإذا انتهيت منه شرعت في إظهار «ديوان ابن حمديس». وأنا أستمد من الله العون على إنجاز هذا الوعد، وأستلهمه الرشد والسداد.
الجزء
ملوك الطوائف
الفصل الأول
(1) بعد إلغاء الخلافة
منذ سنين عدة تقلص ظل السلطة العامة عن الولايات الإسلامية في بلاد الأندلس وأصبح أمر كل منها بيدها، ولم يكن تفكك السلطة مما يرغب فيه أهل تلك الولايات عامة أو يتفق ومصالحهم وآمالهم.
وقد جزعوا لهذا التفكك وذهب بهم التفكير إلى أبعد مداه أسفا على الماضي وجزعا من المستقبل.
صفحه نامشخص
1
ولم يكن ليستفيد من هذا الانحلال والتفكك في تلك البلاد إلا ملوك الإفرنج وحدهم، وقد كان من نتائجه أن اقتسم قواد البربر جنوب الجزيرة فيما بينهم، وحكم الصقالبة الشرق، وأصبح ما بقي بعد ذلك من بلاد الأندلس نهبا مقسما بين ذوي المطامع من المغيرين المتوثبين على تلك البلاد، وبين آخرين من بقايا الأسر العريقة ممن سنحت لهم الفرصة وساعدتهم على الثبات أمام ضربات عبد الرحمن الثالث
2
والمنصور التي كانت مصوبة إلى الأرستقراطية.
وقد انتهى ذلك كله بأن تكون من المدينتين الكبيرتين قرطبة وإشبيلية حكومتان شوريتان. (2) قرطبة
أما قرطبة فقد اجتمع كبار أهلها بعد إلغاء الخلافة - وعمدوا إلى ابن جهور
3
فأسندوا إليه السلطة التنفيذية، وقد كان مشهورا عندهم جميعا بجدارته وكفايته لتقلد هذا المنصب والاضطلاع بالحكم، ولكنهم لم يكادوا يعرضون عليه قرارهم حتى رفض - بادئ ذي بدء - ذلك المركز السامي، ثم قبله بعد أن ألح عليه في ذلك جمهرة منتخبيه، ولكنه اشترط عليهم أن يكون إلى جانبه في الحكم زميلان له في مجلس الشورى، هما محمود بن عباس وعبد العزيز بن حسن وكانا من أعضاء أسرته.
فأجابه أصحابه إلى ما طلب، ولكن على شرط ألا يكون لهذين الزميلين إلا صوت استشاري فقط.
وقد حكم السفير الأول ابن جهور تلك الحكومة الشورية الجديدة متوخيا في أحكامه العدل والسداد، وكان مخلصا رشيدا، وإليه يرجع الفضل في استتباب الأمن ورفع المظالم، فلم يكد يتولى الحكم حتى أمن أهل قرطبة وأصبحوا لا يشكون شيئا من الإعنات والمظالم التي كانت تترى عليهم من قساة البربر الجائرين.
صفحه نامشخص
وكان أول ما عني به أن صرفهم عن الخدمة واحتفظ ببني يفرن وحدهم لأنه رأى أن من المستحيل عليه أن يعتمد على سواهم لما عرفه من ولائهم وطاعتهم له.
وقد استبدل بالآخرين الذين سرحهم من البربر حرسا وطنيا، وكان يظهر بمظهر من يريد استقرار نظام الحكم الجمهوري، فإذا طلب إليه تنفيذ أمر بعينه قال لهم: «ليس من شأني أن أقرر أمرا هو من اختصاص مجلس الشورى، وما أنا إلا منفذ لأمره وقراراته.»
وكان كلما وردت عليه قصة أو كتاب رسمي موجه إلى شخصه أبى أن يتسلمه، وأمر بتوجيهه إلى مستشاريه.
ولم يكن ليصدر قرارا قبل عرضه على مجلس الشورى. أضف إلى هذا أنه لم يكن يتظاهر البتة بمظهر الحاكم، فظل باقيا في مسكنه المتواضع الذي اعتاد سكناه دائما، وآثر الإقامة فيه على أن ينتقل إلى قصر الخلافة.
4
وكانت العقيدة في نزاهته ثابتة قوية لا تحوم حولها الشكوك والريب وقد رفض - مع هذا - أن يكون بيت المال في داره وتحت إمرته، فعهد بحراسته إلى أكبر الناس مقاما وأكثرهم احتراما في المدينة.
وكان - على حبه المال - يؤثر المصلحة العامة التي قضت عليه ألا يرتكب عملا غير شريف. والحق أن ابن جهور كان مقتصدا بل حريصا حرصا يكاد يصل به إلى درجة البخل، فقد أثرى حتى أصبح أغنى رجل في قرطبة ولكنه مع ذلك لم يأل جهدا من جهوده المحمودة في توفير اليسر والرخاء على الناس كافة.
وكان يبذل كل ما في وسعه في تحسين العلاقات الودية وتوثيقها بينه وبين الممالك المجاورة، وقد كتب له النجاح في ذلك وحالفه التوفيق فلم يمض وقت طويل حتى استتب الأمن وانتشرت التجارة والصناعة وهبطت أسعار المواد الغذائية، وأمنت السبل، فأم قرطبة طوائف كثيرة من السكان أعادوا بناء الأحياء التي دمرها البربر أو أحرقوها حينما أوقعوا النهب والسلب في المدينة. (3) إشبيلية
على أنه مع تلك الأعمال التي قام بها، فإن قرطبة عاصمة الخلافة القديمة لم تسترد مكانتها السياسية، ومنذ ذلك الحين أخذت إشبيلية - التي سنعنى بتاريخها عناية خاصة - تحرز الشأن الأول في المركز السياسي.
كانت إشبيلية - منذ أمد بعيد لا تزال - مرتبطة الحظ بقرطبة، متأثرة بما يجري من الحوادث فيها، متأسية بالعاصمة، خاضعة لملوك الدولة الأموية - على التعاقب - ثم لدولة بني حمود، ومن جراء ذلك كان للثورة التي وقعت في قرطبة أثرها السيئ في إشبيلية، فقد ثار القرطبيون على قاسم بن حمود وطردوه، فعول هذا الأمير على الالتجاء إلى إشبيلية حيث يقيم بها ولداه، ومعهما حامية من البربر تحت قيادة محمد بن زيري من قبيلة بني إيفورين.
صفحه نامشخص
وأرسل إلى الإشبيليين يأمرهم بإخلاء مئة مسكن لجنوده القادمين معه، وقد ترك هذا الأمر أثرا سيئا في نفوس أهل إشبيلية. هذا إلى ما عرف عن جنود قاسم الذين هم أفقر أبناء جنسهم من أنهم من شرار اللصوص.
وقد أظهرت قرطبة للإشبيليين أنه من الممكن أن يتحرروا من هذا النير الذي يضجون بالشكوى منه. فعولوا على أن يحذوا حذو قرطبة، إلا أن خوفهم من حامية البربر المقيمة بين ظهرانيهم حال بينهم وبين تحقيق أمانيهم. وبعد جهد نجح قاضي المدينة أبو القاسم بن عباد
5
في استمالة قائد الحامية وضمه إلى جانبه بعد أن صرح له بأنه من الهين السهل أن يصبح ملكا على إشبيلية، فأعلن حينئذ مناد ابن زيري استعداده لمساعدته، وسارع القاضي فعقد بينه وبين قائد بربر قرمونة محالفة تقلدوا السلاح - على أثرها - ضد ولدي قاسم وحاصروا قصره.
ووصل قاسم
6
إلى إشبيلية التي كانت مغلقة، وحاول أن يجتذب سكان المدينة إليه بالوعود الخلابة، ولكنه أخفق في هذه المحاولة، ولما أوجس في نفسه خيفة على ولديه اللذين كانا معرضين للهلاك داخل المدينة، قطع على نفسه عهدا أن يجلي - هو ومن معه من الجند - عن أراضي إشبيلية إذا ما أسلموا إليه ولديه وأموالهما وممتلكاتهما، فضمن له الإشبيليون تنفيذ هذا الشرط، وعلى أثر ذلك انسحب قاسم وعاد أدراجه، وثم سنحت للقاضي أول فرصة ليرضي حامية البربر.
ولما حصلت المدينة على حريتها اجتمع كبارها ليختاروا حاكما يولونه عليهم ، إلا أن الخواطر حينئذ لم تكن هادئة، والنفوس لم تكن مطمئنة، خشية أن تتمخض الحوادث عن ثورة، أو أن يعيد بنو حمود الكرة عليهم، وحينئذ لا يتوانون لحظة في معاقبة المجرمين الثائرين، ولهذا لم تبد من أحد منهم أية رغبة في أن يأخذ على عاتقه عبء المسئولية عما وقع. (4) بنو عباد
واتفق عامتهم على أن يلقوا عبء المسئولية على عاتق القاضي وحده الذي حسدوا ثروته واستشعروا سرورا خفيا في أعماق نفوسهم بدنو الساعة التي تصادر فيها هذه الثروة الطائلة.
فعرضوا على القاضي أن يتولى حكم المملكة، وكان - مع ما يجيش بصدره من مطامع وآمال - حكيما حازما، فرفض في إباء أن يتولى الحكم في وقت غير مناسب. ولم يكن القاضي متصل النسب بالسلالات العريقة، إلا أنه امتاز بحيازته أكبر ثروة، فقد كان يملك ثلث أرض إشبيلية وكانت له فوق ذلك منزلة سامية من الاعتبار نظرا لمواهبه العلمية، وكان يعوزه أن يضمن إلى هذه المؤهلات أن تندمج أسرته ضمن السلالات العريقة القديمة.
صفحه نامشخص
وقد تم له ذلك - فيما بعد - تدريجا، وكان يدرك أنه في حاجة ماسة إلى وجود عدد من الجند تحت إمرته، وليس لهذا العدد وجود، ولم يشك في أن الأرستقراطية العظيمة المجيدة في إشبيلية لا بد أن تثور على صعلوك مثله غير معروف النسب، يسمو إلى تسنم ذروة الخلافة، ولم يكن ثمة شيء غير هذا في الواقع، وقد وقع هذا حقيقة عندما أوشك بنو عباد أن يؤسسوا الخلافة لأنفسهم.
وثمة زعم آل عباد أنهم من سلالة ملوك لخم الذين كانوا يحكمون الحيرة قديما قبل ظهور محمد
صلى الله عليه وسلم
وكان الشعراء الذين يريدون إشباع بطونهم يتحينون الفرص للإشادة بهذا النسب العريق المزعوم، على أنه لم يوجد ما يبرر هذا الزعم، لأن بني عباد والمتزلفين إليهم ومن يتملقونهم لم يستطيعوا أن يقيموا الدليل على ذلك، وكل ما يربط هذه الأسرة بملوك الحيرة أنها تنتسب إلى قبيلة لخم اليمنية التي ينتسب إليها ملوك الحيرة. ولكن فرع أسرة آل عباد الذي تسلسل منه آباؤهم لم يقطن - على ما يظهر - الحيرة بتاتا، بل كانوا يقيمون أخيرا قرب العريش الواقعة على حدود مصر وسوريا في ناحية حمص.
وعلى الرغم من أن آل عباد بذلوا ما في استطاعتهم كي يصلوا نسبهم بملوك الحيرة فإنهم لم يستطيعوا أن يصعدوا به إلى أبعد من نعيم والد عطاف، وكان عطاف هذا على رأس كتيبة من جنود حمص، وقد رحل إلى إسبانيا مع بلج حيث أعطيت لجنود حمص أراض على مقربة من إشبيلية، وأقام على ضفاف الوادي الكبير، وقد انحدر عن أصل هذه الأسرة فروع فيما يقرب من سبعة أجيال أخرجت ببطء من ظلمة الماضي أناسا صالحين عاملين مقتصدين، وإسماعيل والد القاضي هو عنوان مجدها، وهو الذي خط بيمينه - في الصحيفة الذهبية لنبلاء إشبيلية - اسم عباد.
7
ولا غرو فقد كان إسماعيل من حملة الأقلام والسيوف، وكان رجل فقه ودين كما كان رجل حرب وطعان، فقد تولى قيادة فرقة في حرس هشام الثاني، ثم صار - فيما بعد - إماما لمجلس قرطبة الكبير، ثم قاضيا لإشبيلية، واشتهر بالفقه والذكاء والورع وإرشاد العامة، وإسداء النصح للكافة، وكانت شهرته في النزاهة تربو على شهرته في غير ذلك من الأمور، فهو - على الرغم من انتشار الفساد والرشوة - كان يتورع عن أن يقبل هبة من سلطان أو وزير، وكان كريما إلى أبعد غايات الكرم، وقد لقي القرطبيون منه كرم الضيافة، وحسن العشرة، فجعلته كل هذه المزايا والصفات جديرا أن يحرز أكبر ألقاب النبل والسؤدد في الغرب.
وقبيل العهد الذي نحن بصدده توفي إلى رحمة الله في غضون سنة 1019م.
وربما كان ابنه أبو القاسم محمد يماثله علما وأدبا، وإن كان لا يدانيه خلقا وفضلا، فقد كان أنانيا ذا أثرة وطمع وصلف وتكبر وإنكار للجميل، وقد حدث على أثر وفاة أبيه أن طمع في أن يخلفه في منصب القضاء، ولكن القوم آثروا عليه غيره، فتقدم بالرجاء إلى قاسم بن حمود فنال - بفضل قاسم - منصب القضاء الذي كان يؤمله.
وقد يرى المتتبع للحوادث فيما بعد كيف كان نكرانه لهذا الجميل . (5) قاضي إشبيلية
صفحه نامشخص
وفي مفتح هذا العهد - الذي نحن بصدده - أشار نبلاء إشبيلية وأصحاب الرأي فيها على أبي القاسم قاضي إشبيلية أن يتبوأ عرش المملكة،
8
ولما أدرك الغاية التي يرمون إليها أظهر لهم أنه لا يستطيع أن يقبل هذا الشرف الذي يولونه إياه إلا بشرط أن يشرك معه في الحكم أفرادا يعينهم هو بنفسه على أن يكونوا وزراءه وأعوانه في الاضطلاع بأعباء الحكم، بحجة أن هؤلاء الأشخاص الذين يشركهم معه في الرأي ستتألف منهم هيئة شورية تقوم على تدبير المملكة بحيث لا يصدر إلا عن رأيهم، ولا يتخذ أي قرار بدون مشاورتهم، فقبل الإشبيليون ما اشترطه القاضي من أن يكون حكمه على قواعد الشورى، فلا يحكم بمفرده، وطلبوا إليه إنفاذ ما اعتزمه من تعيين أولئك الزملاء والأعوان، فعين بعض كرام الأسر العريقة مثل ابن حجاج وآخرين كانت تسمو إليهم الأنظار وترمقهم العيون من نصرائه الذين أنجبهم العصر، وأطلعهم كواكب في سماء المصر، كأبي بكر الزبيدي العالم النحوي الشهير مؤدب هشام الثاني، وبعد أن تم له ما أراد من ذلك انصرف همه إلى تكوين جيش للمملكة، ورفع أعطيات وأرزاق الجند، فانضوى تحت لوائه كثير من العرب والبربر، ثم اشترى عددا كبيرا من المماليك ودربهم على القتال، وجرد منهم حملة على الشمال، وهي في الكثير الغالب كانت موجهة إلى أمراء آخرين، وقد حاصر قصرين في شمال «فيزي» أنشئا متقابلين على صخور يفصلهما سور، وأطلق عليهما اسم «الأخوين» وهما معروفان الآن باسمهما العربي وهو اسم «الأخوين» وقد حرفه القوم فهو يقولون «الأڨوين»، وكان يقطنهما إسبانيون مسيحيون كان أسلافهم قد عقدوا معاهدة مع موسى بن نصير، والظاهر أن هذين القصرين لم يكونا في العصر الذي نتحدث عنه في حيازة ملك ليون ولا في حيازة أمير مسلم، ولذلك استولى القاضي عليهما وأرغم الذين كانوا يدافعون عنهما - وهم زهاء ثلاث مئة فارس - على الانضواء تحت لوائه، وبذلك زادت نواة جيشه فبلغت خمس مئة فارس، وثمة اجتمع لديه من الجند ما يكفي للإغارة على الممالك المتاخمة له ، إلا أن حالته هذه لم تكن لتمكنه من صد هجمات قوية ضد إشبيلية.
وهذا ما وقع له سنة 1027: ففي هذه السنة جاء الخليفة الحمودي يحيى بن علي وأمير بربر قرمونة محمد بن عبد الله وحاصرا إشبيلية، ولما كان في منتهى الضعف بحيث لا يستطيع المقاومة طويلا أخذ الإشبيليون يفاوضون يحيى وأعلنوا أنهم مستعدون للاعتراف بسيادته عليهم، على شرط ألا يدخل البربر مدينتهم، فقبل يحيى هذا الشرط ولكنه شرط عليهم - ضمانا لوفائهم وإخلاصهم - أن يرسل بعض أعيان ونبلاء إشبيلية أولادهم ليكونوا عنده رهائن يضمن بها ولاء الإشبيليين، فلم يستطع أحد منهم أن يقدم ابنه خشية من البربر الذين يقضون على حياته لأقل شبهة، والقاضي وحده هو الذي لم يتردد في إجابة الطلب إذ أرسل إلى يحيى بنجله عباد. وكان الخليفة يعلم ما للقاضي من الجاه والنفوذ فاكتفى بقبول ابنه رهينة لديه، وبفضل هذا العمل المجيد الدال على الإخلاص للبلاد ازدادت مكانة القاضي عند الإشبيليين عامة، وأصبح - منذ ذلك الحين - لا يخشى شيئا لا من جانب الشعب، ولا من جانب الخليفة الذي اعترف بسيادته شكلا، وخيل إليه أن الفرصة السانحة قد أمكنته من الانفراد بالحكم.
ولما كان قد أبعد من مجلس الحكم مثل ابن حجاج وغيره، ولم يبق معه سوى زميلين رأى أن يصرفهما عن خدمته ونفى «زبيدي» وعين رجلا من خواص إشبيلية اسمه «حبيب» رئيسا للوزارة، ولم يكن «حبيب» هذا من رجال المبادئ إلا أنه كان مع هذا ذكيا مخلصا بكل معاني كلمة الإخلاص لمولاه، منصرفا إلى مصلحته.
وعلى أثر ذلك أراد القاضي أن يزيد في رقعة المملكة بالاستيلاء على باجة، وقد حلت أخيرا بهذه المدينة المصائب في غضون القرن التاسع عشر من جراء الحرب التي نشبت بين العرب والخائنين. إذ نهبت وخرب البربر جزءا منها، وعاثوا فيها سلبا، وأحرقوا ما صادفوه في طريقهم، وكان في نية القاضي أن يعيد تشييد ما خرب منها، ولكن لما اتصل بعبد الله بن الأفطس أمير بطليوس عزم القاضي، جرد جيوشه تحت إمرة ابنه محمد «الذي خلفه فيما بعد باسم المظفر» وتم استيلاء هذه الجيوش على باجة في الوقت الذي جاء فيه إسماعيل بن القاضي بجيش إشبيلية، وجيش حليف أبيه أمير قرمونة، فبدأ حصارها في الحال، وأمر فرسانه بالسلب والنهب في القرى الواقعة بين إيفرن والبحر، وعلى الرغم من المدد الذي جاء به ابن طيفور فإن محمدا كان سيئ الحظ كثيرا إذ بعد أن فقد نخبة فرسانه المحاربين وقع أسيرا بين يدي أعدائه وأرسل إلى قرمونة.
زادت هذه الانتصارات في حماسة القاضي وحليفه الأمير، فلم يكتفيا بالإغارة على بطليوس وحدها بل أغارا على قرطبة أيضا، فاضطرت حكومتها أن تستخدم للدفاع كثيرا من بربر ولاية سيدونا.
وبعد فترة من الزمن أبرم القاضي وحليفه صلحا أو سمه - إن شئت - هدنة مع بني الأفطس، وحينئذ أطلق محمد من الأسر برضى القاضي في
(مارس 1030) ولما أبلغه أمير قرمونة نبأ إطلاق سراحه عرض عليه أن يعرج في طريقه على إشبيلية ويبلغ القاضي شكره، ولكن محمدا لفرط اشمئزازه من القاضي قال لأمير البربر: «إني أوثر أن أظل سجينك على أن أقوم بما أشرت به علي، فإذا كنت مدينا لغيرك بإطلاق سراحي، وكان علي أن أشكر قاضي إشبيلية وفاء لهذا الحق، فإني أفضل أن أبقى حيث أنا في سجني.»
فاحترم الأمير شعوره وأرسله إلى بطليوس مشيعا بما يليق برجل عظيم مثله من واجب الإجلال والتكريم.
صفحه نامشخص
وبعد بضع سنين؛ أي في سنة 1034، انتقم عبد الله بطريقة قد تعتبر غير شريفة، وثأر لنفسه من تلك الشدائد التي نالته، وذلك بأن أباح للقاضي أن تمر بأرضه جنوده بقيادة ابنه إسماعيل وهي ذاهبة في طريقها للإغارة على مملكة ليون، ولما كان إسماعيل وجنوده في مضيق لا يبعد كثيرا عن حدود ليون باغته جيش بني الأفطس فقتل من جنود إشبيلية عددا كبيرا، وقتل فرسان ليون فلول الجيش عند لياذهم بالفرار، وأفلت إسماعيل من هذه المذبحة ومعه نفر يسير من رجاله، وفيما كان موليا وجهه شطر مدينة لشبونة الواقعة على حدود مملكة أبيه - من الجهة الشمالية الغربية - تحمل هو ومن معه أشد آلام الحرمان من حاجات المعيشة الضرورية.
ومنذ هذه الآونة صار القاضي الخصم الألد لأمير بطليوس، وليس لدينا معلومات تفصيلية عن المعارك التي دارت بعد ذلك بين أمير بطليوس وخصمه.
ومما لا ريب فيه أن هذه الحروب لم يكن لها نتائج ذات خطر عظيم لإسبانيا المسلمة، ولم تترك فيها أثرا يضارع ما تركه فيها حادث آخر سنتناوله فيما يلي.
قلنا إن القاضي اعترف بسيادة الخليفة الحمودي يحيى بن علي ولكن هذا الاعتراف كان تعهدا غير مجد، وقد بقي كذلك مدة طويلة، فقد قام القاضي بحكم إشبيلية بلا سلطان عليه ولا رقابة، وكان يحيى من الضعف بحيث لا يستطيع أن يلزمه بالمحافظة على حقوقه، وقد تبدلت هذه الحال تدريجا إذ وفق يحيى لأن يضم حوله جميع أمراء البربر تقريبا، فأصبح الآن بحق زعيم عامة الحزب الأفريقي بعد أن كانت هذه الزعامة اسمية فيما مضى، ولما كان معسكره العام في قرمونة التي طرد منها محمد بن عبد الله أصبحت جيوشه تهدد قرطبة وإشبيلية في آن واحد، وقد أوحى هذا الخطر المخيف المحدق إلى القاضي بفكرة وطنية لها خطرها وقيمتها لو لم يشبها الحرص والطمع والأنانية والجشع.
فقد رأى من الضروري أن يجتمع العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد حتى لا يغزو البلاد البربر الذين اتخذوا الأملاك التي سبق لهم غزوها.
وهذه هي الوسيلة التي تجعل البلاد بمنجاة من التعرض لمثل ما حل بها من المصائب من قبل، وكان القاضي يشعر من أعماق نفسه بهذه الضرورة، فقويت عنده الرغبة في أن يتألف حزب قوي كبير يندمج فيه جميع العناصر المعادية للحزب الأفريقي، وهو في الوقت ذاته يتمنى أن يكون رئيسه، ولم تكن العقبات التي يجب عليه أن يذللها لنيل تلك الغاية بخافية عليه.
فقد كان يدرك أن ملوك الصقالبة وأمراء العرب وشيوخ قرطبة يجرحون في كرامتهم متى رأوه يحاول أن يبسط سلطانه عليهم، على أن شيئا من ذلك لم يثبط همته ولم يجعل اليأس يتسرب إلى نفسه.
على أن المصادفات ستخدمه، فهو سيتمكن إلى حد ما أن يصل إلى الغاية التي يرمي إليها، ويدرك المشروع الذي كان يعمل على تحقيقه. وسنرى - فيما بعد - على أي نحو يتم له ذلك. (6) هشام الثاني
أسلفنا أن الخليفة التعس هشام الثاني فر من القصر في عهد سليمان الثاني. وقلنا إن أكثر الظواهر تدلنا على أنه مات في آسيا مجهولا لا يعرفه أحد.
ومع هذا فقد بقي الشعب غير مصدق أنه مات لشدة تعلقه بالدولة الأموية التي درت عليه أخلاف اليسر والرخاء، وكسته حلل الشرف والمجد، وكان عامة أفراد الشعب يتلقون الإشاعات التي كانت ترد إليهم من الخارج منبئة ببقائه على قيد الحياة باهتمام وشغف، وهناك أفراد كانوا يزعمون أنهم واقفون على تفاصيل حياته بآسيا، وقد أشاع بعض أولئك الزاعمين أنه رحل أولا إلى مكة ومعه خريطة مملوءة بالنقود والنفائس، فسلبه الزنوج الذين كانوا يرافقونه كل ما معه، وزعموا أنه استمر يومين لا يتذوق طعاما ولا شرابا، إلى أن رآه صانع فخار فرق له ورثى لحاله، فعرض عليه أن يعجن له الصلصال على أن يعطيه في اليوم درهما ورغيفا، فرجا صانع الفخار أن يعطيه الأجر سلفا، إذ قد مضى عليه يومان لم يذق فيهما طعاما، وبعد لأي ما استطاع هشام - على عجزه عن العمل - أن يكسب قوت يومه.
صفحه نامشخص
إلا أنه أنف هذه الحال فهرب، وسار مع قافلة ذاهبة إلى فلسطين، ووصل إلى بيت المقدس وهو في أشد حالات الإملاق، وإنه ليتنقل في بعض طرق المدينة، إذ وقف على دكان حصري، وأخذ ينظر إلى عمله بانتباه شديد، فسأله الحصري: «هل تعرف هذه الصناعة؟»
فأجابه محزونا: «كلا، وأنا آسف لأنه لا سبيل إلى أن أعيش وأكسب ما أسد به الرمق.»
فقال الحصري: «إذن فابق معي لحاجتي إليك في إحضار الخيزران، ولك أجرك.» فقبل مسرورا، وبقي عند الحصري حتى حذق هذه الصناعة.
وما زال على هذه الحال بضع سنين، وقد أذاعوا بعد ذلك أنه عاد إلى إسبانيا في سنة 1033، ونزل مالقة ثم تحول عنها إلى المرية فوصل إليها سنة 1035، فاضطر الأمير زهير إلى إبعاده خارج حدود مملكته، فرحل إلى قلعة رباح حيث ألقى بها عصا التسيار.
هذه الرواية التي صادفت رواجا وقبولا من الشعب لا تستحق - على ما يظهر - أن تنال شيئا من الثقة، والذي وقع حقيقة هو أنه في العهد الذي كان فيه يحيى يهدد إشبيلية وقرطبة كان في قلعة رباح رجل حصري اسمه خلف يشبه الخليفة هشاما الثاني تمام الشبه، ولكن لم يقم دليل على أنه هو بعينه، وقد نفى الأمويون شيعة هشام ومعهم ابن حيان وابن حزم المؤرخان ما دار حول هشام «المزعوم» من الروايات والأراجيف وعدوه ضربا من الحيلة السياسية والخداع والقحة، وإن كان من مصلحتهم أن يهتدوا إلى مكان هشام إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ولم يتردد خلف حين طرق سمعه كثيرا أنه شبيه هشام في أن يدعي أنه هو نفسه الخليفة هشام الثاني، وقد جازت هذه الحيلة على أهالي قلعة رباح لأن خلفا لم يكن معروف النسب عندهم، والأغرب من هذا أنهم دخلوا في طاعته، وثاروا على أميرهم إسماعيل بن دحمان ذي النون أمير طليطلة، فجاء هذا وحاصرهم ولم تطل مدة مقاومتهم، وأخرج هشاما المزعوم من المدينة فهدأ ثائر الأهالي، وعادوا إلى السكينة والخضوع. (7) دهاء القاضي
ولم ينته دور خلف عند هذا الحد، بل رجع عودا على بدء حين علم قاضي إشبيلية بخبره، وعلم الفائدة التي يجنيها من وراء ذلك الرجل إذا هو أحضره إلى إشبيلية، وكان الذي يهمه إنما هو استغلال الموقف بقطع النظر عن شخصية الرجل، كما كان يسره كثيرا أن يرتضي الناس أنه هشام ليستطيع أن يكون باسمه حزبا ضد البربر، ويكون وهو رئيس الوزراء روح هذا الحزب وزعيمه. ولهذا بادر إلى دعوة الخليفة المزعوم إلى إشبيلية ووعده بتعضيده إذا نجح في إثبات شخصيته، ولما حضر الحصري إلى إشبيلية قدمه القاضي إلى نساء هشام بالقصر، فصرحن جميعهن تقريبا بأنه هو بعينه الخليفة السابق، وعول القاضي على قولهن، وبعث إلى شيوخ إشبيلية وأمراء العرب والصقالبة يعلنهم بأن هشاما الثاني عنده ، ويدعوهم إلى حمل السلاح معه دفاعا عن حقوقه، ومؤازرة لقضية الخلافة.
وقد كلل الله هذا المسعى بالنجاح، واعترف بسيادة «هشام» محمد بن عبد الله أمير قرمونة المخلوع الذي لجأ إلى إشبيلية وعبد العزيز أمير بلنسية ومجاهد أمير دانية وأمير طرطوشة.
وعلم عامة الشعب في قرطبة علما مقرونا بالسرور أنه لا يزال على قيد الحياة، إلا أن كبيرهم الحزم بن جهور كان أقلهم تصديقا للخبر حرصا على الحكم، فلم ينخدع، ولم تجد هذه الحيلة إلى نفسه مساغا، ولكنه لم يجد سبيلا إلى مقاومة إرادة الشعب، ومخالفة ميوله، ورأى ضرورة اتحاد العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد، لأنه كان يخشى في ذلك الحين أن يهاجم البربر قرطبة، فلهذه الأسباب لم يناقض أغراض مواطنيه، وسمحت نفسه بأن تتجدد البيعة لهشام الثاني من جديد.
وكان من نتيجة هذه الحوادث أنه بينما كان الحزب العربي الصقلبي يتسلح ضد يحيى، كان هذا محاصرا إشبيلية، مجدا في تخريب ما يتصل بها من العمران، موطنا النفس على الانتقام الهائل من القاضي الخائن، ولكن الملتفين حوله - من بربر قرمونة الذين أكرههم على الانضواء تحت رايته - كان هواهم مع هشام الثاني، خليفتهم السابق وكانت المخابرة بينهم وبينه سائرة.
صفحه نامشخص
وفي أكتوبر (سنة 1035) ذهب فريق منهم خفية إلى إشبيلية، وأبلغوا القاضي ومحمد بن عبد الله، أن من السهل مباغتة يحيى لأنه لا يكاد يفيق من السكر، ولم يدع القاضي وحليفه هذه الفرصة تمر دون أن يستفيدا منها، وهنا وجه القاضي ابنه إسماعيل ومعه محمد بن عبد الله على رأس الجيش الإشبيلي، وعندما أرخى الليل سدوله كمن إسماعيل مع أكثر الجند في كمين، وأرسل كوكبة لمناوشة قرمونة ليغري يحيى بالخروج إلى ظاهرها، وقد نجح في خطته هذه، إذ كان يحيى - حين بلغه مجيء ابن عباد على رأس جيش - ثملا، فنهض وكان متكئا على سريره وصاح قائلا: «يا لها من فرصة سعيدة، هذا ابن عباد مقبلا لزيارتي، والآن أيها الجند، خذوا أسلحتكم وامتطوا جيادكم قبل ضياع الوقت.»
وخرج في ثلاثة آلاف فارس، وكان النبيذ قد لعب برأسه، فلم يتمهل ريثما يعبئ جنده وينظم خططه، يضاف إلى ذلك أن ظلام الليل الحالك كان يحجب عنه كل شيء. وفوجئ الإشبيليون منه بهذا الهجوم المباغت، فقابلوه بجلد وعنف، وأخذوا يتقهقرون بنظام نحو المكان الذي كمن فيه إسماعيل.
ومن هذه اللحظة سعى يحيى إلى حتفه بنفسه، فإن إسماعيل انقض عليه بكل قوات الجند، واضطره إلى التقهقر، وقتل يحيى نفسه في المعركة، وكاد يأتي القتل على أكثر رجاله لو لم يحل محمد بن عبد الله دون ذلك، وقال له: «إن أغلب هؤلاء المساكين من بربر قرمونة الذين أكرههم هذا الطاغية على الدخول في خدمته مع كراهتهم واحتقارهم إياه.»
فأبقى عليهم وأمر جنده بترك تعقبهم وخف محمد بن عبد الله إلى قرمونة على ظهر جواده ليسترد ملكه، وأراد زنوج يحيى الذين استولوا على أبواب المدينة أن يحولوا بينه وبين الدخول لولا أن ساعده الأهالي على دخولها من ثغرة، وسار إلى قصر الإمارة، وسلم نساء الأمير يحيى إلى بنيه، واستولى على ما في القصر من كنوز ونفائس في (نوفمبر سنة 1035م).
وقد أحدث نبأ وفاة يحيى سرورا عظيما في إشبيلية وقرطبة، وعندما وصل الخبر إلى مسامع القاضي خر ساجدا شكرا لله، وحذا حذوه جميع من كانوا حوله والآن أصبح القاضي لا يخشى شيئا من جانب بني حمود.
وقد نودي بإدريس - أحد أشقاء يحيى - خليفة في مالقة، وقد كان يعوزه الوقت الكافي الذي يستطيع فيه أن يكسب بقوة نفوذه وما يقدمه من وعود، قلوب زعماء البربر، ليجعلهم في صفه، ولهذا لم يعد في استطاعته أن يخضع الجزيرة بعد أن نادى الزنوج فيها بابن عمه محمد خليفة.
ولما رأى القاضي أن الظروف خدمته، هم بأن يقيم هو وهشام الثاني المزعوم بقصر الخلافة في قرطبة، إلا أن يقظة ابن جهور، وتصميمه على عدم التخلي عن الحكم، وقفا حجر عثرة في طريقه، فقد نجح في إقناع أهل قرطبة أن الخليفة المزعوم لم يكن سوى رجل ماكر مخادع وأن اسم هشام قد ألغي من الإمامة، وعرف أن القاضي عند مجيئه بهشام إلى قرطبة سيلقى أبوابها مغلقة في وجهه، وثمة لا يستطيع التغلب على مدينة منيعة حصينة مثلها، فيضطر أن يعود من حيث أتى.
وعول - في بداية الأمر - على أن تعسكر جيوشه عند الأمير الصقلبي، وهو الأمير الوحيد الذي أبى الاعتراف بهشام الثاني، ذلك الأمير هو زهير أمير المرية، ومنذ أراد الخليفة قاسم أن يهون على الأمير، وأقطعه عدة أملاك، بدأ زهير يناصر الحموديين. ولما نودي بإدريس خليفة بادر بالاعتراف به.
ولما صار الآن مهددا من القاضي عقد محالفة مع حيوس الغرناطي ثم زحف جيش إشبيلية، وذهب لمقابلته بجنوده وجنود حليفه إذ اضطره إلى التقهقر.
ومن المحقق أن القاضي قد بالغ في الاعتداد بقوته، ولم يحسب حساب أعدائه، وكان عليه أن يخشى مجيء الوقت الذي تغزو فيه جيوش المرية وغرناطة - بدورها - إشبيلية.
صفحه نامشخص
وكثيرا ما خدمته المصادفات الحسنة التي شاءت أن يخلصه أحد أعدائه من عدوه الآخر.
الفصل الثاني
في العصر - الذي نحن بصدد التحدث عنه - ظهر رجلان طبقت شهرتهما الآفاق، وكلاهما كان يحمل لصاحبه حقدا قاتلا، وكانا هما اللذان بيديهما تسيير دفة الأمور في غرناطة والمرية. هذان الرجلان هما: المغربي ابن عباس، واليهودي صمويل.
فالربان صمويل هاليفي، وكان يدعى عبادة بن نغذلة، ولد في قرطبة ودرس التلمود على الربان هانوخ، الرئيس الروحي للجالية اليهودية، ثم انصرف بجد ونجاح إلى دراسة الأدب العربي وتثقف بأكثر العلوم التي كانت معروفة إلى ذلك العهد، ثم كان - بعد انقطاعه عن الدرس - بدالا صغيرا، وقضى في هذه التجارة مدة طويلة، أولا في قرطبة، وثانيا في مالقة التي أقام بها بعد الفترة التي استولى فيها بربر سليمان على العاصمة، ثم ساعفه الحظ وانتشلته بعض الفرص السعيدة من هذا المركز الوضيع.
ذلك أن حانوته كان قريبا من قصر أبي القاسم بن العريف وزير جيوش ملك غرناطة، وكان على رجال القصر في الغالب أن يراسلوا مولاهم فيما يعرض لهم من الشئون، ولكونهم جهلاء بفن الكتابة لجئوا إلى صمويل هذا ليحرر لهم ما تمس إليه الحاجة من تلك الرسائل التي أثارت إعجاب الوزير إذ ألفاها مكتوبة بأبلغ وأجزل أسلوب عربي، مما حمل الوزير عند عودته إلى مالقة أن يسأل عن المنشئ لتلك الرسائل، ولما علم أنه اليهودي استقدمه إليه، وخاطبه بقوله: «ليس خليقا بك أن تبقى صاحب حانوت، وما أجدرك أن تكون كوكبا يسطع لألاؤه في بلاط الملك، فإذا توفرت على ذلك رغبتك، فإني متخذك لي ناموسا خاصا.»
فتقبل منه هذه المنة شاكرا، وصحبه الوزير معه عند عودته إلى غرناطة، وازداد إعجابه به عندما أخذ يبادله الحديث في شئون الدولة، إذ وقف منه على رجل نادر الذكاء بين الرجال، بعيد النظر، سديد الرأي، حتى قال بعض المؤرخين اليهود: «إن النصائح التي كان يسديها صمويل كانت بمثابه أقوال صادرة عن إنسان ملهم يستوحي كلام الله ويستفسره.»
ولهذا كان الوزير يأخذ بها، ويخصه بجميل الثناء، ولما أحس الوزير بدنو الأجل في مرضه الذي مات فيه، جاء الملك يعوده، وقد داخله حزن عميق على وزيره، وخادمه الأمين الذي سيفقده ولا يجد من يخلفه، فانتهز هذه الفرصة وقال للملك: «لم تكن النصائح والآراء الرشيدة التي كنت أبديها لك أيها الملك في العهد الأخير صادرة مني بل كانت وحيا أتلقاه من صمويل ذلك اليهودي الذي آثرت أن يكون ناموسي الخاص، فأقصر نظرك عليه واتخذه أبا لك ووزيرا، أخذ الله بيدك، وشد به أزرك.»
وقد عمل حيوس الملك بهذه النصيحة، وأحل صمويل بالقصر
1
محل وزيره الراحل، وصار هذا اليهودي ناموس الملك ومستشاره.
صفحه نامشخص
وربما لا يحدثك التاريخ عن رجل يهودي حكم في دولة إسلامية حكما مباشرا وصريحا باسم وزير مستشار إلا في هذه المملكة الإسلامية.
على أن بعض اليهود قد تمتع - على الأرجح - بشيء من الاعتبار والحظوة لدى بعض ملوك المسلمين الذين كانوا يستعملونهم غالبا على وزارة المالية، ولكن التسامح لم يبلغ بالإسلام إلى حد أن يتولى يهودي منصب رئيس الوزراء، وإذا جاز هذا الأمر في جهات أخرى فلم يكن ليجوز في غرناطة تلك المدينة التي كثر عدد اليهود المقيمين بها حتى أطلقوا عليها اسم مدينة اليهود،
2
ولما كانت في أيديهم معظم الثروة فقد كانوا يتدخلون غالبا في شئون الدولة.
وصفوة القول أن اليهود وجدوا هنا أرضا أخرى غير الأرض الموعودة من الصحراء وصخرة حريب.
ويصح أن يفسر سمو صمويل إلى هذا المنصب بأسلوب آخر، فإنه لم يكن من السهل على ملك غرناطة، أن يعثر على من يقلده منصب الوزير الأول، إذ من المحقق أنه لم يكن في استطاعته أن يسند هذا المنصب الخطير لا إلى رجل من البربر، ولا إلى آخر من العرب. وقد كانوا يؤثرون - في ذلك الحين - أن يكون الوزير أديبا قد بلغ في الأدب الغاية وملك ناصية البيان، كي يستطيع أن يحرر الرسائل التي ترسل إلى الملوك بالنثر المبدع، والأسلوب الرائع الممتع، وقد كان ملك غرناطة يرغب في أن تتوافر هذه المواهب عنده، ومثله في ذلك مثل صعلوك يعمل على أن يكون من العظماء، ولما كان نصف بربري بذل كل ما في وسعه حتى لا يظهر بهذا المظهر، وكان يتمنى - من أعماق نفسه - أن يكون ذا علم وأدب، وكان يزعم - حتى لا ينسب إلى ضعة النسب - أن السلالة التي انحدر منها - وهي صنهاجة - لم تكن من عنصر البربر بل كانت من عنصر العرب.
3
فلكل هذه الاعتبارات كان لا بد له من وزير مضطلع بفنون الأدب لا نظير له عند جيرانه، ولكن أنى له أن يظفر بذلك؟
إن البربر الذين عنده كانوا لا يحسنون إلا عملا واحدا هو القتال والاستيلاء على المدن ونهب ما فيها من الأموال والذخائر وصرفها وتخريبها، ويعجزون بعد ذلك عن النطق الفصيح، أو كتابة سطر صحيح بلغة القرآن، والعرب الذين كانوا يخضعون لسلطانه كانوا لا يحملون هذا النير على عاتقهم إلا وهم يرجفون غضبا ويضطربون حمية وخجلا، ويرون خيانته عملا شريفا، فهو لا يستطيع أن يأمن جانبهم، وقد ساعفته الظروف فرأى يهوديا مثل صمويل شهد له علماء العرب أنفسهم بالاستبحار في العلوم وفقه أسرار لغة العرب، ومما يشهد له بالمهارة والحذق أنه مع حرصه على التمسك بدينه، كان لا ينحرف وهو يكتب لأساطين المسلمين عن أن يستعمل في رسائله ومكاتباته الصيغ والنصوص والعبارات الدينية المألوفة عند كتاب المسلمين، فلا بد أن يكون هذا الرجل قد أحرز من البلاغة العربية كنزا ثمينا كان ينفق منه كلما أراد الكتابة، ولهذا لم يشعر الملك - وقد رفعه إلى منصة رياسة الوزارة - بخجل، والعرب أنفسهم قد ارتاحوا إلى هذا الاختيار ووافقوا عليه، وعلى الرغم من عدم تسامحهم وارتيابهم في اليهود فقد أذعنوا اضطرارا واعترفوا بعبقرية صمويل ونبوغه ومزاياه، وفي الحق أنه كان متحليا بمختلف العلوم، زاخر العباب فيها، فهو الرياضي المنطقي الفلكي الذي يجيد - فوق ذلك - سبع لغات، أضف إلى هذا أنه - بوجه عام - كان كثيرا ما يكرم الشعراء ورجال الأدب، والكثير ممن خصهم بنواله، لم يقصروا في إطرائه ومدحه والثناء عليه، وقد دخل في غمار من مدحه الشاعر منفائيل.
ووجه إليه بالكلمة التالية التي لا يذكرها المسلمون، إلا مقرونة بفزع واستنكار عظيمين: «أيها العلم الفرد الذي جمعت في شخصك من المزايا والسجايا الحميدة ما لم يظفر سائر الناس إلا بجزء يسير منه، أنت يا من أطلقت الجود من محبسه بعد أن كان سجينا، إنك لأسمى الناس قدرا وأرفعهم منزلة في الشرق والغرب، فإنك كالذهب قيمة وسائر الناس كالنحاس ... إلخ.»
صفحه نامشخص
وأما الذي كرهه العرب من آثار ذكائه الحقيقي فهي الخدمات العديدة التي أداها للأدب العبري، فقد نشر باللغة العبرية مقدمة للتلمود، وقعت في اثنين وعشرين جزءا جعلها خاصة بالغراماطيق، ومن أهم كتب الغراماطيق وأوفرها مادة «كتاب الثروة» صنفه قاض من أقضى القضاة، وأكثرهم ثقافة ودراية، كان على دين صمويل الذي ازدهر بالمعارف والبحوث في القرن الثاني عشر، وقد وضع هذا الكتاب في المرتبة الأولى من الكتب التي بحثت في الغراماطيق، كان هذا المؤلف شاعرا أيضا، وقد نسج على منوال المزامير، وابن سيراخ، ولما كانت أشعاره مفعمة بالكنايات وأمثال العرب والحكم المختلسة من أقوال الحكماء والفلاسفة، والمعاني الشعرية التي اخترعها الشعراء المجيدون، فقد أصبح من العسير - إلا على الخاصة - تفهم معانيه. على أن أكبر علماء اليهود كان يتعذر عليه فهم غوامضه ما لم يستعن بالمتون والشروح والتعليقات.
ولما كان التعمق والبحث في آداب اللغة العبرية أكثر شيوعا منهما في اللغة العربية التي هي صورة منها، ونموذجا لها، كان الغموض لا يعد نقصا وعيبا، بل يعد من الدراية والكفاية العلمية.
وكان صمويل يسهر على مصالح اليهود، ويعنى عناية أبوية بالشبيبة اليهودية، يتفقد رقيقي الحال منهم، ويمدهم بما يسد حاجاتهم - عن كرم وسخاء - وكان في خدمته كتاب ينسخون المشنا والتلمود، فكان يوزع نسخها جوائز على التلاميذ الذين لا يملكون شراءها، ولم تكن مكارمه وخيراته وإحساناته لتقتصر على أتباع دينه في إسبانيا فحسب، بل كانت تتعداهم إلى أمثالهم في إفريقية وصقلية وبيت المقدس وبغداد، وقد أصبح اليهود في كل صقع وبلد يعتمدون على معونته وكرمه.
لهذا عمد اليهود في غرناطة إلى أن يبرهنوا على إخلاصهم وحبهم وولائهم واعترافهم له بالجميل عليهم وعلى أبناء دينهم، فمنحوه لقب «ناغد» أي زعيم أو أمير يهود غرناطة.
ولما كان زعيم أمة ورئيس دولة فقد ضم إلى رجاحة العقل وتوقد الذكاء يقظة وتبصرا وحزما، وصفات خلقية ثابتة جعلته في مصاف كبار الزعماء والرؤساء، فكان يتكلم قليلا ويفكر طويلا، وهذه في العادة من أعظم صفات الرجل السياسي المحنك.
وكان يهتبل الفرص فلا يدعها تمر دون أن يستفيد منها عن حنكة وخبرة ودربة، وكان عليما بأخلاق الناس وميولهم، خبيرا بالوسائل التي يتغلب بها على رذائلهم وشرورهم، وكان - فوق هذا - جميل الهندام حسن الهيئة مشرق الطلعة، ففي مجالس الحمراء البديعة كان يبدو أنيقا رشيقا حتى ليخيل للناظر إليه أنه نشأ منذ نعومة أظفاره في أحضان الأناقة الفاخرة، ولم يكن أحد ليجيد الكلام بلباقة وحذق مثله، ولا ليفنن في التظرف في الحديث ويتملق محدثه ويتملك بقوة بيانه مشاعر محدثه مثله، ويندر فيمن أسرعت بهم عجلة الحظ فرفعتهم فجأة من الحضيض إلى ذروة المجد ألا يكونوا على نمط أولئك الذين كانوا فقراء، فأصبحوا أغنياء، فإن كثيرا منهم يغلب عليه طبعه الأول فينحط إلى درجة صعلوك وقح مفتون، وصمويل لم يكن على نمط أولئك، بل كان كمن نشأ في السيادة والمجد منذ ولادته.
ولما كان ذا عطف محبا للجميع، فقد أضاف إلى سجاياه الكريمة خلقا نبيلا، متأصلا في نفسه، هو التخلي عن صفة الادعاء الكاذب، فهو - بدلا من أن يخجل من عمله الذي كان يزاوله من قبل فيعمل على إخفائه - كان يعلنه لمحدثه ومن يعيبه عليه، وكان يعلن ذلك في صراحة وبساطة تقنع محدثه أنه يعتزي إلى عمل شريف. •••
وأما ابن عباس وزير زهير أمير المرية فقد كان رجلا فائق الشهرة عظيم الخطر، وقد قالوا عنه إنه اختص بأربعة أشياء لا يدانيه فيها غيره: (1)
الأسلوب الإنشائي (2)
الثروة (3)
صفحه نامشخص
البخل (4)
الكبر
فكانت ثروته - على الحقيقة - لا تقع تحت حصر، وقد قدروها بما يربو على خمس مئة ألف دوكا.
4
وكان قصره - لفخامته - كقصر ملك مؤثثا بأفخر الأثاث والرياش غاصا بالخول والعبيد، فيه نحو خمس مئة قينة جميعهن ذوات جمال رائع نادر، ومما هو خليق بالإعجاب في قصره هذا مكتبته الفاخرة التي كانت تحوي عدا الكراسات المنفصلة زهاء أربع مئة ألف مجلد، وقد تمت السعادة لهذا الرجل فلم يعد ينقصها شيء، فقد كان بهي الطلعة جميلا شابا، قد أوفت سنه على الثلاثين، ينحدر نسبه من أسرة عريقة، يرجع أصلها إلى بعض قبائل العرب التي نصرت النبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد كان لكثرة الثراء يسبح في بحر من الذهب، ولما كان عليما بفنون الأدب قديرا على التعبير عن آرائه في عذوبة ولطف ورقة، ذاعت شهرته الأدبية وتردد ذكره في المحافل والأندية، وتوافر الناس على محبته وتقديره. ولكن مما يؤسف له أن شيئا من الخوف والارتباك قد ملأ فؤاده، وتملك عليه مشاعره، وأصبح ينتابه من الوساوس والشكوك والاضطرابات المفزعة ما لا حد له، ومن جراء ذلك كثر أعداؤه، وقل أولياؤه، وكان أهل قرطبة من أشد الناس نقمة عليه - لكبريائه وغطرسته - فقد حدث مرة أن زار مدينتهم مع زهير، فواجه بكل احتقار وزراية أكبر رجل من عظماء قرطبة الممتازين بأصل أرومتهم وبمواهبهم الخلقية والعلمية، وكان مما جبه به ذلك العظيم قوله: «إني لا أرى في مدينتكم هذه سوى صعلوك سائل، أو مأفون جاهل.»
وفي الواقع كانت أوهام هذا الرجل ودعواه الجوفاء قد وصلت إلى حد السفه والجنون، وقد جاء في شعره من الغلو والإغراق في القول ما معناه: «لئن كانوا قد أصبحوا كلهم عبيدي، فإن نفسي لن يقنعها ذلك ولن تسكن إليه.»
ومن أبياته التي كان يرددها في كل مجلس وعند كل مناسبة، وبخاصة إذا كان يلعب الشطرنج ما مضمونه: «قد أمن الشقاء جانبي، وهو ممنوع البتة أن يحوم حولي، أو ينزل بساحتي.»
وهذه القحة التي كان يواجه بها القضاء، ويجبه بها القدر، كانت مبعث إثارة النفوس والخواطر ضده، مما حمل شاعرا جريئا على أن يجهر بما يعبر به عن الرأي العام، فأحال الشطر الثاني إلى ضد معناه، وذلك حيث يقول: «ولكن القدر الذي لا ينام سيوقظ راقد الشقاء.»
صفحه نامشخص
ولما كان ابن عباس عربيا قحا، أصبح يكره البربر ويحتقر اليهود. وربما كانت تقضي عليه ميوله بأن لا ينضم ملكه إلى الحزب العربي الصقلبي، ذلك الانضمام الذي تكون نتيجته اللازمة، إيداع زهير غيابة السجن بيد قاضي إشبيلية زعيم هذا الحزب. وقد كان امتعاضه من زهير شديدا لمحالفته ملكا من ملوك البربر، اتخذ له وزيرا يهوديا كان شديد الكراهة له، وهو يعلم ذلك، وقد تمالأ مع ابن بقية
5
وزير الحموديين بمالقة وعمل على خلع إسماعيل بأن اختلق لإدراك هذا الغرض عدة وشايات ودسائس لم تفلح، ثم عمد بعد ذلك إلى أن يوقع ملكه مع ملك غرناطة بأن يجعله يقدم مساعدته لمحمد أمير قرمونة وعدو حبوس، وقد نجح في محاولته هذه.
وبعد فترة من الزمن وافى الأجل المحتوم حبوس في يوليو سنة 1038
6
وقد أعقب ولدين باديس
7
وهو بكره، وبلقين، وهو أصغر منه. وأراد البربر وجماعة اليهود أن يتبوأ صغيرهما العرش، وآخرون من اليهود بينهم إسماعيل، ومعهم العرب، كانوا يميلون إلى جانب باديس. وكان لا بد - لهذا الخلاف - من أن تنشب حرب أهلية، لو لم يبادر بلقين إلى التنازل عن العرش لباديس والدخول في طاعته، فحذا حذوه أنصاره مكرهين.
8
وأول عمل عمله الأمير الجديد أنه بذل كل ما في وسعه لتوطيد أركان المحالفة بينه وبين أمير المرية، وقد صرح هذا الأخير بأن كل شيء تتم تسويته عند المقابلة. وخرج في حرس تام العدد والعدة، ومنظر يستوقف الأبصار، واجتاز حدود مملكة باديس - على غير علم منه - إلى أن صار فجأة على أبواب غرناطة، فأثر هذا العمل - الخالي من اللياقة - في نفس باديس. ومع هذا فقد قابله بكل حفاوة، وأولم له ولمن معه وليمة فاخرة، وغمر أتباعه بالعطايا والهدايا، وعلى الرغم من هذه الحفاوة البالغة، فإن المفاوضات التي دارت بينهما، على عقد تحالف وطيد، لم تسفر عن نتيجة، إذ لم يستطع الأميران ولا وزيراهما (كان إسماعيل لا يزال وزيرا في مكانه) أن يتفقا على شيء، وكان في مقابلة ما فعله باديس من الحفاوة بضيوفه، أن أميرهم زهيرا،
صفحه نامشخص
9
بتأثير وزيره ابن عباس حين اجتمع بباديس، تظاهر أمامه بعظمة تركت في نفسه أثرا سيئا، وجعلته يبيت النية على الإيقاع بأمير المرية، وتأديبه أدبا يكون كفاء لقحته وجفائه، وصمم على الإيقاع بوزيره أيضا لما بدا منه من عناد وفظاظة حين عول أخوه بلقين، وأحد قواده، أن يبذل آخر محاولة للتوفيق بينهما.
وتفصيل الخبر أن بلقين ذهب حين أقبل الليل إلى حيث مجلس ابن عباس وخاطبه بقوله: «اتق الله - أيها الوزير - واخش عقابه، فأنت الذي يحول دون اتفاق أميره، وقد رأيناه أطوع لك من بنانك، لا يصدر إلا عن رأيك، ولا يعمل إلا بمشورتك، ولعلك تدرك أكثر مما ندرك مبلغ ما وصلنا إليه من السعادة، ومواتاة الحظ، في الوقت الذي كنا نعمل فيه متفقين، حتى لقد حسدنا جميع أعدائنا. وإذن فواجبنا جميعا أن نعود إلى ما كنا عليه من الاتفاق والمحالفة. والشرط الذي لم يتم عليه الاتفاق بيننا، هو مبلغ المعونة التي تمدون بها محمدا أمير قرمونة. فلندع هذا الأمير وما يخبؤه له القدر من حظ - وذلك ما يريده أميرك - ثم لنتفق بعد هذا على تسوية جميع الشروط، فإن كل شيء - بعد نقطة الخلاف هذه - ميسور وسهل.» •••
فرد عليه ابن عباس بلهجة قاسية، تشف عن نفوذ وسلطان قاهر من جهة، وعن امتهان لمحدثه وزراية عليه من جهة أخرى. ولما حاول أخو أمير البربر وسفيره أن يعالجه من ناحية العاطفة، قام إليه معانقا باكيا، فلم يؤثر فيه بمعانقته ودموعه، بل قال له: «وفر عليك هذه المظاهر الكاذبة، والعبارات الفارغة، فإنها لا تترك أي أثر في نفسي، وإن ما قلته لك آنفا، هو ما أعيده على مسامعك اليوم، فإذا لم تعمل أنت وأصحابك على تنفيذ ما نريد، فسأعمل بعد على ما يدعوكم إلى الحسرة والندم.»
فأحرج بلقين هذا الرد وأجابه بقوله: «هل هذا هو جوابك الذي أحمله إلى المجلس؟»
فقال ابن عباس: «هو هذا بدون شك. ولك أن تبالغ في قولي ما شئت، وتزيد في لهجته شدة ما استطعت.» •••
فبكى بلقين حمية وغضبا لما لحقه من الإهانة والازدراء، وعاد إلى باديس، ومجلسه منعقد، فأفضى إليه بكل ما دار بينه وبين ابن عباس من حديث، وأصابه من عنت. فامتعض باديس صنهاجة امتعاضا شديدا وقال: «إن وقاحة هذا الرجل لا تحتمل. فقوموا جميعا، قومة رجل واحد للدفاع عن كرامة المملكة، وإلا فإنكم - وما تملكون - تصيرون ملكا لغيركم.»
وقد شاطره الغرناطيون هذا الغضب، وظهر بلقين، أشد من أخيه باديس حماسة وغضبا، وطلب إليه - في عنف - أن يتخذ أهل المرية في الحال، ما يلزم من التدابير نحو هذا الطاغية وملكه، فقطع على نفسه عهدا بذلك.
وكان لا بد لزهير في العودة، من اجتياز قنطرة لا محيد له عنها.
فأمر باديس بقطع هذه القنطرة، وأرسل جنوده فاحتلوا تلك المضايق والأوعار، ولم يكن حنقه على زهير شديدا كأخيه، ولم ييئس من عود صديق والده القديم إلى ما كان عليه من عواطف سامية، وميول شريفة، ولهذا عول على أن ينبهه في الخفاء إلى الخطر المحدق به، فعمد إلى حرسي من البربر من جند المرية، وبعثه إلى زهير رسولا، فوافاه ليلا وأسر إليه بما يلي : «أخبرك يا مولاي - وأنا صادق فيما أقول - أنك ملاق غدا من المخاوف والمصاعب، إذا أنت اجتزت القنطرة في طريق عودتك، ما تتعرض معه لأشد أنواع الخطر والهلاك. فأنصحك أن تخف للرحيل - منذ الليلة - قبل أن يتسع الوقت لجند غرناطة فيحتلوها ويضيقوا عليك الخناق. وإذا نجوت سريعا، وحدث أنهم تتبعوك، كان في استطاعتك أن تدبر معهم معركة في براح من الأرض بعيدا عن تلك المضايق، أو تلحق بإحدى قلاعك فتكون في مأمن من غائلتهم.» •••
صفحه نامشخص