ملوک الطوائف و نظرات در تاریخ اسلام
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
ژانرها
وفي مفتح هذا العهد - الذي نحن بصدده - أشار نبلاء إشبيلية وأصحاب الرأي فيها على أبي القاسم قاضي إشبيلية أن يتبوأ عرش المملكة،
8
ولما أدرك الغاية التي يرمون إليها أظهر لهم أنه لا يستطيع أن يقبل هذا الشرف الذي يولونه إياه إلا بشرط أن يشرك معه في الحكم أفرادا يعينهم هو بنفسه على أن يكونوا وزراءه وأعوانه في الاضطلاع بأعباء الحكم، بحجة أن هؤلاء الأشخاص الذين يشركهم معه في الرأي ستتألف منهم هيئة شورية تقوم على تدبير المملكة بحيث لا يصدر إلا عن رأيهم، ولا يتخذ أي قرار بدون مشاورتهم، فقبل الإشبيليون ما اشترطه القاضي من أن يكون حكمه على قواعد الشورى، فلا يحكم بمفرده، وطلبوا إليه إنفاذ ما اعتزمه من تعيين أولئك الزملاء والأعوان، فعين بعض كرام الأسر العريقة مثل ابن حجاج وآخرين كانت تسمو إليهم الأنظار وترمقهم العيون من نصرائه الذين أنجبهم العصر، وأطلعهم كواكب في سماء المصر، كأبي بكر الزبيدي العالم النحوي الشهير مؤدب هشام الثاني، وبعد أن تم له ما أراد من ذلك انصرف همه إلى تكوين جيش للمملكة، ورفع أعطيات وأرزاق الجند، فانضوى تحت لوائه كثير من العرب والبربر، ثم اشترى عددا كبيرا من المماليك ودربهم على القتال، وجرد منهم حملة على الشمال، وهي في الكثير الغالب كانت موجهة إلى أمراء آخرين، وقد حاصر قصرين في شمال «فيزي» أنشئا متقابلين على صخور يفصلهما سور، وأطلق عليهما اسم «الأخوين» وهما معروفان الآن باسمهما العربي وهو اسم «الأخوين» وقد حرفه القوم فهو يقولون «الأڨوين»، وكان يقطنهما إسبانيون مسيحيون كان أسلافهم قد عقدوا معاهدة مع موسى بن نصير، والظاهر أن هذين القصرين لم يكونا في العصر الذي نتحدث عنه في حيازة ملك ليون ولا في حيازة أمير مسلم، ولذلك استولى القاضي عليهما وأرغم الذين كانوا يدافعون عنهما - وهم زهاء ثلاث مئة فارس - على الانضواء تحت لوائه، وبذلك زادت نواة جيشه فبلغت خمس مئة فارس، وثمة اجتمع لديه من الجند ما يكفي للإغارة على الممالك المتاخمة له ، إلا أن حالته هذه لم تكن لتمكنه من صد هجمات قوية ضد إشبيلية.
وهذا ما وقع له سنة 1027: ففي هذه السنة جاء الخليفة الحمودي يحيى بن علي وأمير بربر قرمونة محمد بن عبد الله وحاصرا إشبيلية، ولما كان في منتهى الضعف بحيث لا يستطيع المقاومة طويلا أخذ الإشبيليون يفاوضون يحيى وأعلنوا أنهم مستعدون للاعتراف بسيادته عليهم، على شرط ألا يدخل البربر مدينتهم، فقبل يحيى هذا الشرط ولكنه شرط عليهم - ضمانا لوفائهم وإخلاصهم - أن يرسل بعض أعيان ونبلاء إشبيلية أولادهم ليكونوا عنده رهائن يضمن بها ولاء الإشبيليين، فلم يستطع أحد منهم أن يقدم ابنه خشية من البربر الذين يقضون على حياته لأقل شبهة، والقاضي وحده هو الذي لم يتردد في إجابة الطلب إذ أرسل إلى يحيى بنجله عباد. وكان الخليفة يعلم ما للقاضي من الجاه والنفوذ فاكتفى بقبول ابنه رهينة لديه، وبفضل هذا العمل المجيد الدال على الإخلاص للبلاد ازدادت مكانة القاضي عند الإشبيليين عامة، وأصبح - منذ ذلك الحين - لا يخشى شيئا لا من جانب الشعب، ولا من جانب الخليفة الذي اعترف بسيادته شكلا، وخيل إليه أن الفرصة السانحة قد أمكنته من الانفراد بالحكم.
ولما كان قد أبعد من مجلس الحكم مثل ابن حجاج وغيره، ولم يبق معه سوى زميلين رأى أن يصرفهما عن خدمته ونفى «زبيدي» وعين رجلا من خواص إشبيلية اسمه «حبيب» رئيسا للوزارة، ولم يكن «حبيب» هذا من رجال المبادئ إلا أنه كان مع هذا ذكيا مخلصا بكل معاني كلمة الإخلاص لمولاه، منصرفا إلى مصلحته.
وعلى أثر ذلك أراد القاضي أن يزيد في رقعة المملكة بالاستيلاء على باجة، وقد حلت أخيرا بهذه المدينة المصائب في غضون القرن التاسع عشر من جراء الحرب التي نشبت بين العرب والخائنين. إذ نهبت وخرب البربر جزءا منها، وعاثوا فيها سلبا، وأحرقوا ما صادفوه في طريقهم، وكان في نية القاضي أن يعيد تشييد ما خرب منها، ولكن لما اتصل بعبد الله بن الأفطس أمير بطليوس عزم القاضي، جرد جيوشه تحت إمرة ابنه محمد «الذي خلفه فيما بعد باسم المظفر» وتم استيلاء هذه الجيوش على باجة في الوقت الذي جاء فيه إسماعيل بن القاضي بجيش إشبيلية، وجيش حليف أبيه أمير قرمونة، فبدأ حصارها في الحال، وأمر فرسانه بالسلب والنهب في القرى الواقعة بين إيفرن والبحر، وعلى الرغم من المدد الذي جاء به ابن طيفور فإن محمدا كان سيئ الحظ كثيرا إذ بعد أن فقد نخبة فرسانه المحاربين وقع أسيرا بين يدي أعدائه وأرسل إلى قرمونة.
زادت هذه الانتصارات في حماسة القاضي وحليفه الأمير، فلم يكتفيا بالإغارة على بطليوس وحدها بل أغارا على قرطبة أيضا، فاضطرت حكومتها أن تستخدم للدفاع كثيرا من بربر ولاية سيدونا.
وبعد فترة من الزمن أبرم القاضي وحليفه صلحا أو سمه - إن شئت - هدنة مع بني الأفطس، وحينئذ أطلق محمد من الأسر برضى القاضي في
(مارس 1030) ولما أبلغه أمير قرمونة نبأ إطلاق سراحه عرض عليه أن يعرج في طريقه على إشبيلية ويبلغ القاضي شكره، ولكن محمدا لفرط اشمئزازه من القاضي قال لأمير البربر: «إني أوثر أن أظل سجينك على أن أقوم بما أشرت به علي، فإذا كنت مدينا لغيرك بإطلاق سراحي، وكان علي أن أشكر قاضي إشبيلية وفاء لهذا الحق، فإني أفضل أن أبقى حيث أنا في سجني.»
فاحترم الأمير شعوره وأرسله إلى بطليوس مشيعا بما يليق برجل عظيم مثله من واجب الإجلال والتكريم.
صفحه نامشخص