مختارات من القصص الإنجليزي
مختارات من القصص الإنجليزي
ژانرها
وأخذ الظلام يشتد، وهبت ريح صرصر من الشرق، وكثرت الثلوج في الجو، وارتفعت من ناحية البحر همسة وحركة، وكانت الدنيا فيما خلا ذلك ساكنة. أأقول ساكنة؟ إن من العسير أن أصور لكم سكونها ووقعه، فما بقي شيء من أصوات الإنسان والحيوان والطير والحشرات والهوام، أو من الحركة المألوفة في حياتنا، وجعل الثلج المتساقط يزداد مع الظلام، ويأتي من كل أوب، واشتد البرد وهرأني واختفت أخيرا القمم البيضاء للتلال النائية، ولفها الليل في سواده، وصارت الرياح تنوح وتهجهج، ورأيت غبرة الكسوف تدنو مني، ولم يبق ما يرى غير النجوم الشواحب، واحلولكت السماء فما يلمع فيها شعاع واحد.
وثقلت على نفسي وطأة الظلام الكثيف، واشتد علي البرد وقف منه جلدي، وتعذر التنفس فانتفضت، وعانيت من ذلك كربا شديدا، ثم ظهر قوس الشمس، فنزلت عن السرج حتى تثوب نفسي إلي، فقد كان رأسي يدور وكنت أحس أني غير قادر على رحلة الإياب، ورأيت وأنا واقف ذلك الشيء الذي لاحظت حركته على الشاطئ، ولم يبق عندي شك في أنه جرم يتحرك، فقد كان احمرار الماء يبدي حركته. وكان كالكرة وفي حجمها، أو أكبر، وله خيوط تمتد منه وتذهب في الأرض، وكان أسود اللون بالقياس إلى لون الماء المضطرم، وكان ينط، فشعرت بالإغماء، ولكن الفزع من الارتماء هنا بلا حيلة ولا حول في هذا الغسق البعيد الفظيع قواني، فامتطيت الآلة وقعدت على السرج. (15) أوبة الرحالة
وهكذا عدت. وأحسب أني فقدت وعيي زمنا طويلا. وقد عاد الليل والنهار يخطفان وهما يتعاقبان، وارتد إلى الشمس وهجها الذهبي، وإلى السماء زرقتها، وخلصت أنفاسي، وصارت معارف الأرض في مد وجزر، وراحت عقارب العدادات ترجع، وبدت لي في غموض صور المساكن ودلائل انحطاط الإنسانية. ثم تغيرت هذه المناظر أيضا وولت. ولما بلغ عداد الملايين الصفر قللت السرعة وبدأت أرى مبانينا الصغيرة المألوفة، ورجع عقرب الآلاف إلى المبتدأ فصار تعاقب الليل والنهار أبطأ فأبطأ، ثم أحاطت بي جدران المعمل، فخفضت حركة الآلة برفق.
ورأيت شيئا استغربته. وأذكر أني قلت لكم إني لما بدأت رحلتي، وقبل أن تعظم سرعتي، رأيت السيدة «واتشيت» تقطع الغرفة كالشهاب، فلما عدت اجتزت الدقيقة التي كانت تقطع فيها المعمل مرة أخرى. ولكنه خيل إلي الآن أن كل حركة لها نقيض حركاتها السابقة، فقد انفتح الباب، وانسابت منه في المعمل، مرتدة بظهرها واختفت من الباب الذي رأيتها تدخل منه. وقبل ذلك خيل إلي أني أرى «هيليار» ولكنه كان كومض البرق.
ثم وقفت الآلة، ورأيت حولي مرة أخرى معملي القديم المألوف، وآلاتي ومعداتي كما تركتها، فترجلت عن السرج خائر القوى، وقعدت على دكتي، وظللت عدة دقائق أرعد وأنتفض، ثم هدأت، ونظرت فرأيت حولي معملي كعهدي به، وكأني كنت قائما وكأنما كل ما بدا لي لم يكن سوى حلم.
ولكن لا! لقد بدأت رحلتي وكانت الآلة في الجنوب الغربي من المعمل، وهي الآن قائمة في الشمال الغربي، إلى جانب الحائط حيث رأيتموها. وهذه هي المسافة من الممشى إلى قاعدة التمثال حيث خبأ السفليون آلتي.
وركد ذهني لحظة، ثم نهضت وقطعت الدهليز إلى هنا، وكنت أظلع لأن قدمي تؤلمني، وقد رأيت جريدة «البول مول غازيت» على المنضدة بجانب الباب، وألفيت تاريخها هو تاريخ اليوم، فصعدت عيني إلى الساعة فوجدتها الثامنة تقريبا. وسمعت أصواتكم وأنتم تأكلون، فترددت، فقد كنت مضنى. ثم شممت رائحة اللحم الشهي ففتحت عليكم الباب. والباقي تعرفونه. اغتسلت، وأكلت، وقصصت عليكم القصة.» (16) بعد القصة
وقال بعد لحظة صمت: «إني أعلم أن هذا كله لا يحتمل التصديق. ولكن الشيء الوحيد الذي لا أكاد أصدقه أنا هو أني هنا في هذه الليلة، في هذه الغرفة القديمة المعهودة، أنظر إلى وجوه أصدقائي وأقص عليهم غرائب ما وقع لي.» ونظر إلى رجل الطب وقال: «كلا! لست أتوقع منك أن تصدق. فاعتبر الحكاية من الخيال، أو عدها نبوءة. أو قل إني حلمت بها في المعمل، أو ازعم أني كنت أفكر في مصائر جنسنا حتى تجسدت لي هذه الأسطورة، وقل إن تأكيدي صحتها أسلوب فني لزيادة قيمتها ووقعها، فعلى اعتبار أنها قصة، ما رأيك فيها؟»
وتناول بيبته، وشرع على عادته ينقر بها نقرا مضطربا على قضبان الموقد، وكانت فترة صمت، ثم بدأت الكراسي تتحرك، والأقدام تمسح السجادة، فحولت عيني عن الرحالة في الزمن إلى السامعين، وكانوا في الظلام وكان رجل الطب يتأمل مضيفنا وقد استغرقه ذلك. والمحرر يحدق في عقب سيجارته - السادسة - والصحفي ينشد ساعته، أما الباقون فكانوا - على ما أذكر - بلا حراك.
ونهض المحرر واقفا وهو يتنهد وقال: «ليتك كنت كاتب قصص!» وأراح يده على كتف الرحالة في الزمن. - «ألا تصدق؟» - «إن ...» - «ظاهر.»
صفحه نامشخص