مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
ژانرها
كان الصحفيون حذرين كعادتهم تحت قانون الصحافة والمطبوعات الحازم، الذي روعيت في صياغته مصلحة البلاد العليا! إلا أن أحدهم سأل سؤالا لم يجبه عليه أحد، وتجاهلته حتى جريدته ذاتها. قيل: إنه لم تقم له قائمة بعد ذلك؛ أقصد استغنت الصحيفة عن خدماته الجليلة بخطاب شكر ضاف مهذب، مرتب ثلاثة شهور، وأمنية حارة له بالتوفيق في جريدة أخرى! المشكلة كلها أن سؤاله الضال، غير المسئول، الذي لم يراع فيه حرمة المصالح الوطنية والدور الرسالي للأمم السودانية، حرمها من إعلانات بمبلغ يعادل مليون مرة مرتب الصحفي وأبيه وأمه - إذا كانت حية وتعمل - وأبناء عمومته إلى يوم الدين؛ لأن الشركة المعلنة الخيرة تقصد من وراء الإعلان دعم خط الصحيفة الملتزم الوطني، ورفع المقدرات المالية لمالكها الهمام! قد بدا لنا واضحا الآن أن جريدتكم تستخدم براغيث وجرذان، وليس صحفيين محترمين!
أكد الأطباء أن أسرع علاج للتسمم الميثانولي الحاد هو شرب جرعات خيرات من أخيه الأثينول، وهو كما يعرفه العرب بالعرق، الذين هم أول الشعوب التي قامت بتقطيره في العالم. كلاهما سم قاتل، لكنهما يتعادلان. تشرح لنا دكتورة مريم ذلك علميا كما يلي: التركيبة الكيميائية للميثانول ...
كان الأطفال يرجوننا ألا نتركهم يموتون، هم أيضا يريدون استعادة نظرهم، يرغبون في أن يروا العالم مثلما كانوا يرونه من قبل: ملونا جميلا ويجري أمامهم مثل القطط الضالة، نحن لا نملك الشيئين ... كان يقول لهم بقا: عليهم بالصبر والإصرار على الحياة. في الحقيقة كانوا أكثر إصرارا على الحياة من أي مخلوق رأيته في حياتي. أبي كان رجلا ميسور الحال، فهو ليس ثريا، لكنه لم يكن ينقصه شيء. بالتأكيد لا مجال لمقارنة حياته مع حياة هؤلاء البائسين. على الرغم من ذلك لم يكن شديد التمسك بالحياة، كان سعيدا جدا لم يصب بأي أمراض مؤلمة، لم يخنه أحد، لم يدخل السجن، لم يقض ليلة واحدة باكيا شاكيا. وكان يمتلك زوجة رائعة وفية؛ التي هي أمي الجميلة. يحب الحياة، يعيشها بمتعة خاصة، وله الحق في ذلك؛ فلقد أعطته الحياة كل شيء. مات وهو في ريعان شبابه، وما ذلك في رأيي إلا لأنه لم يكن متمسكا بالحياة تمسك هؤلاء المحرومين. الذين لم يعيشوا يوما واحدا طيبا بأي مقاييس كونية، لكن الحياة في تقديرهم ثروة لا يمكن التفريط فيها. قالت لي أمي ذات يوم، وكنت قد حدثتها عن طفلين مشردين مصابين بالسل ماتا ذات صباح: الموت خير لهم هؤلاء المساكين!
ولو أن الوقت غير ملائم للتحقيق، إلا أننا كنا نريد أن نعرف من أين لهم بهذا المشروب القاتل؟ كيف تحصلوا عليه وهو غير مشاع، غير رخيص ولا يباع في البقالات أو عند الطبليات أو الباعة المتجولين؟! كانت لهم إجابات مختلفة، لكن أغربها هي إجابة آدم سانتو - توفي فيما بعد - الذي قال: إنه تحصل عليه من المصري، كأن هذا المصري علم على رأسه نار! لكن البقية تحصلوا عليه من زملائهم الذين تحصلوا عليه من زملاء آخرين، هكذا بلا نهاية ولا بداية. يفضل الأطفال المشرودن مادة السلسيون، وهو مادة تستخدم للصق يدخل الميثانول في تصنيعها. رخيصة ويستنشق عبقها المثير. أنبوب واحد صغير يكفي لسكر عشرة متشردين وينيمهم مجنبا إياهم مشقة البحث عن طعام. يهبهم في الحلم الحياة، الراحة والجمال الذي ينشدونه. قد يستخدمون ما يقع في أيديهم من مسكرات أو مخدرات، خاصة الأشهر: البنقو. المشكلة الوحيدة التي تمنعهم من تعاطي كل شيء هي المال. إنهم فقراء، عاطلون عن العمل، حتى التسول فإنهم لا يتسولون، لا يسرقون، لا يرقصون ويغنون ويضحكون ويبكون في الطرقات مثل مشردي البرازيل؛ لكي يحصلوا على ثمن وجبة تافهة وجرعة كراك. لكنهم يرقدون هناك تحت ظل حائط أو نيمة أو وكر أو في بناية مهجورة. يأكلون البقايا باستمتاع قذر! المزبلة هي أعظم سوبر ماركت طبيعي وهبه الله للمتشردين. يتسلون بممارسة الجنس فيما بينهم. قد تكفي سيدة مجنونة واحدة نزوة شلة من المتشردين. أما المتشردة الجميلة - وهي كذلك دائما - فلا يمكن مسها بغير مقابل. ويصعب اغتصابها لشراستها. الأكثر عرضة للاغتصاب هم المتشردون الجدد؛ نساء كانوا أم رجالا، طفلات أم أطفالا، وذلك قبل انتمائهم لشلة تقوم بحمايتهم وقائد يرعاهم. في الغالب يصبح المغتصب الأقوى هو من يقوم بالحماية لاحقا؛ حيث يصبح المغتصب واحدا من ممتلكاته الخاصة وفردا من شلته: وفيا ذليلا طائعا ولقوية ممتعة.
إذا توفر لدى المتشرد بعض ما يسكر، قليل مما يطعم، وشيء من الجنس من نوعه أو النوع الآخر لا يهم؛ فهو الأكثر سعادة والأكثر غنى من رئيس دولة في العالم الثالث.
يتسلل الشيء إلى المعدة ... يسمونه فيما بينهم الإسبرت، وهو من مشتقات كلمة إنجليزية تعني الروح
sprit
وربما كانت اختصارا ذكيا لجملة المشروب الروحي. في اللحظات الأولى من احتسائه، يهب الشخص لذة مجنونة لا تقاوم. وعندما تبدأ عملية الأيض أو التمثيل الغذائي، تحمل الأعصاب وشاية سريعة إلى الكبد مخبرة إياه بأن سما زعافا يتغلغل في أحشاء ذلك المتشرد الذي نعنى بحمايته، وعلينا مسئولية حياته. فيفرز الكبد الوفي إنزيم نازع الكحول، وهو متوافر ومحفوظ بصورة جيدة لمثل هذه اللحظات الصعبة والحروبات غير المتوقعة؛ لأن الكبد يعرف نزق وشيطنة سيده الإنسان، متشردا فقيرا كان أم سياسيا غنيا. فيتحول الميثانول الذكي إلى مادة الفورمالدهيد شديدة السمية، ثم خلال ثلاث دقائق أخرى يتحول إلى حمض النمليك. بهذه المراوغة الشيطانية يفقد الكبد إمكان السيطرة عليه، لكنه يظل يفرز الإنزيم نازع الكحول، وتتراكم النواتج الاستقلابية السامة للميثانول بصورة متواصلة دون أدنى مقاومة من الجسد، بعد أن حيدت سلطة الكبد، من ثم تظهر أعراض التسمم. ولأن المتشرد هو مخلوق جائع، يحتسي هذا المشروب من أجل أن ينسى ألم الجوع، العوز، خيانة الأصحاب، مرارة الاغتصاب، ظلم الشرطي، إهانات المارة، قلق الحنين إلى الأسرة، الوساخة الشخصية، القمل، برغوث الثياب، والأمراض الكثيرة التي تنهش جسده، فإن الميثانول يجد بيئة جيدة ليمتص سريعا عبر المعدة الخاوية الشرهة، التي تنتظر ما يشغلها، ويخفف عنها ألم إفرازاتها المرة النشطة. لا يحس الشخص بأعراض التسمم إلا بعد مضي ست ساعات إلى ثلاثة أيام، هذا إذا شرب الشخص النحيل ذو الوزن الهزيل جرعة زائدة من الميثانول، هي في الغالب لا تتوافر لديه، فما يتوافر لديه بعض مليجرامات من الأثينول، يضيف إليها خمسة أضعافها من الماء القراح؛ لذا لا تظهر علامات التسمم فيه إلا بعد شهور أو سنوات، أي بعد أن يقوم الأثينول بتدمير خلايا الكبد والبنكرياس. ذلك تماما كما يفعل العرق «الميثانول + الأثينول» للمدمنين عبر سنوات طويلة من اللذة ... النشوة وأحلام اليقظة على أنغام موت بطيء وبارد. تفسير هذا الموت السريع للضحايا هو أنهم قد تناولوا كميات كبيرة من الميثانول، ليس ذلك القدر الضئيل الذي اعتادوا على تناوله من صنوه الأثينول. فالتشخيص الطبي الباتع لحالاتهم يطلق عليه الأطباء: «التسمم الكحولي الحاد»
Acute alcoholic intoxication .
ما يقلقنا الآن أكثر، كيفية التعامل مع الجثة التي ترقد أمامنا مغطاة بأسمال باليات تفوح من فمها رائحة الموت مختلطة بقيء الأطفال على أنغام شخير بعض من نام منهم. كنا نعي جيدا خطورة أن تضبط الجثة في حوزتنا. يحزننا أيضا تركها في هذه الغرفة المهجورة مع الأطفال المرضى الذين لم يحدد مصيرهم بعد، الذين سيصبح مستقبلهم «على كف عفريت» إذا وجدتهم الفرقة. فسيحقنون في الحال - حسب ظننا، وبعض الظن إثم - بمادة الفورمالين الرخيصة القاتلة، ويودعون الحياة التي يحبونها جدا - رغم قسوتها - إلى الجنة البغيضة التي أعدها لهم ذلك المفتي الفصيح، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئا أكثر مما فعلنا، أن سقيناهم العرق وأطعمناهم اللبن الطازج ووهبنا لهم جرعات كبيرة من زيت الخردل لتقوية معداتهم الملتهبة. كان الأمر كابوسا حقيقيا. لكننا أجبرنا على المغادرة السريعة وتركهم كما هم عندما اتصلت بنا حكمة رابح صديقتي وأخبرتنا أن الفرقة في طريقها إلينا. شاهدهم البعض قريبا جدا من مسرح البقعة يتعثرون في زحمة المرور، يطلقون صفير إنذار ونجدة، يردد العسكر المتحمسون صرخات الحرب وهم محشورون في عربة لنقل البضائع «دفار جامبو» عملاقة. أضافت: لقد قاموا باعتقالات واسعة لناشطين في أم درمان والخرطوم، ولا ندري من هم وكم عددهم حتى الآن.
صفحه نامشخص