إهداء
إقرار مهم
سلوى السردية
الموت نشوة
العاشقان
روح الخشب
الفقيه المتشرد
انحراف البنت
منطق الجسد
ذاكرة العرق
العرس الوحشي
إخوان في الرضاعة
ذاكرة المؤلف
عودة البازنجر
إهداء
إقرار مهم
سلوى السردية
الموت نشوة
العاشقان
روح الخشب
الفقيه المتشرد
انحراف البنت
منطق الجسد
ذاكرة العرق
العرس الوحشي
إخوان في الرضاعة
ذاكرة المؤلف
عودة البازنجر
مخيلة الخندريس
مخيلة الخندريس
ومن الذي يخاف عثمان بشرى؟
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
ما زالت تلك المرأة الجميلة توقع اسمها على كتبي، وتحكي لي في الأمسيات عن جدنا برمرجيل. إلى مريم بت أبو جبرين: أمي.
عبده بركة
ألذ من المدام الخندريس
وأحلى من معاطاة الكئوس
معاطاة الصفائح والعوالي
وإقحامي خميسا في خميس
فموتي في الوغى عيشي لأني
رأيت العيش في أرب النفوس
ولو سقيتها بيدي نديم
أسر به لكان أبا ضبيس
أبو الطيب المتنبي
إقرار مهم
جرت أحداث هذه الرواية في دولة شديدة الشبه بجمهورية السودان، قد تتطابق أسماء المدن، القرى، الأشخاص، الوزارات والصحف. قد تتطابق الأحداث، السياسات، الأزمنة والأزمات أيضا، لكن تظل أحداث الرواية تجري في دولة خيالية لا وجود لها في الواقع؛ لأن ما يحدث في هذه الرواية يستحيل حدوثه في واقع السودان. هي من شطحات الخيال المريض لكاتبها بركة ساكن، بالتالي الأفكار التي تطرحها هذه الرواية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن رأي المؤلف، بل تعبر عن أفكار القارئ، وهو من يتحمل مسئوليتها والدفاع عنها.
وقبل أن أحدثكم لماذا أتبنى هذا الرأي الصريح المتطرف، هو أن الآراء في قاموسي أربعة: آراء خيرة، آراء شريرة، آراء خيرة وشريرة، آراء لا خيرة ولا شريرة. طبعا كما هو معروف ومؤكد، لا توجد آراء بين بين. فالرأيان الأولان هما رأيان قد يصدران من الكاتب الأول للنص - في هذه الحالة هو شخصي الضعيف. أما الرأيان الأخيران فهما رأيا القارئ، الذي لسوء حظه يتطلع إلى الرأيين الأولين، لكنه للأسف يفهمهما كما يشاء، ويؤول النص وفقا لما يريده هو. فما أراه أنا خيرا مطلقا وجمالا متكاملا مفرطا في إنسانيته، قد يراه هذا القارئ الشرير شيطانيا قبيحا وحيوانا مفترسا. العكس أيضا صحيح؛ قد يقرأ ما أعني به أنا شرا جميلا خيرا مطلقا، بالتالي من يتحمل سوء أو حسن ظن القارئ غير القارئ نفسه؟ وهذا يقود إلى الرجال والنساء الذين يستخدمهم البعض لتقييم أعمال أدبية صرفة أو سياسية أو حتى علمية؛ بغرض تجريمها وتحريمها أو صرف صك مرور خجول من أجلها.
في ظني أن السلطات الرشيدة، يجب عليها أن تقاضي أو تحاكم القارئ الذي عين حكما؛ لأنه لا يقوم سوى بعرض قراءة خاصة به للعمل الفني، بالتالي يفضح سريرة نفسه وقبحها أو يستعرض جمالها. وسأحكي لكم قصة هنا - أفكر فيها الآن - ستكون جميلة في رأينا وعفيفة، إذا سمحتم لي باستخدام هذا المصطلح الخلقي في وصف عمل أدبي، ولو أنني أتفق مع الكثيرين بأن العمل الأدبي حمال قيم، طالما اعتمد على اللغة التي قال عنها كارل ماركس ذلك.
ذات يوم مطير، وأنت تخاف من المطر والبرق، يخيفك أكثر الرعد الذي يصحب البرق الفجائي، ليس ذلك خوفا من الموت، لكنها فوبيا صاحبتك منذ أن كنت طفلا صغيرا ترضع من ثدي أمك، يوم أن خطفت الصاعقة روح والدك أمام عينيك. عندما احتشدت السحب السوداء الخيرة الحبلى بالمياه في السماء، في الشرق، فأسرعت الخطا نحو بيتك. أنت تعرف أن السحب القبلية مطرها مؤكد، وهي معرفة شائعة. وأنت تهتم بكل ما ينذرك بالمطر، فليست في بلدك هيئة أرصاد تهتم بصحتك وسلامتك. تحركت من السوق الكبيرة حيث تعمل قبل ميعاد خروجك الطبيعي بساعتين، على بعد خمسة كيلومترات من بيتك في حي الموظفين. حتى لا نفضحك فإننا سوف لا نذكر في أي مدينة أنت، أو اسمك كاملا، أو رقم بيتك أو تليفونك، سوف لا نصف هيئتك كيف تبدو، فبعض الناس بإمكانهم حذر من تكون، وسيرسلون لك رسائل نصية يقولون لك فيها: بركة ساكن كان يقصدك، وبذلك يزيفون الواقع، وهم الذين يقصدونك في حقيقة الأمر.
عندما هبطت النقطة الأولى على رأسك الكبير الأصلع أصبت بهلع فوبوي عنيف . سالت نقاط الماء من أعلى رأسك متدلية في دلال مرعب ناحية فمك من أنفك الأفطس الذي بدأ يرتجف الآن. مرت النقاط خلال شفتك العليا عابرة شاربك الكبير إلى شفتك السفلى. احتفظ شارباك ببعض الماء على الشعيرات الخشنة السوداء، مررت عليهما كفك اليسرى بطريقة غير إرادية. في ذلك الحين لم يبيض شعرك كما هو الآن، لم تصبح ذقنك ولحيتك مثل مزرعة قطن منسية بعد. لم تستطع أن تفتح فمك لبلع النقاط الطيبات التي جاءتك من السماء مباشرة، تركتها تسقط على الأرض لتنضم إلى أخواتها السماويات تحت قدميك، ما كنت تحتاج للبرق المرعب وهزيم رعد طائش؛ لكي تقفز على أقرب جدار بيت من بيوت جيرانك لتنجو بنفسك. جدار من الطوب الأحمر مطلي بالجير والأسمنت، بيت جارك العزيز. الماء يتبعه البرق، البرق تتبعه الصاعقة، الصاعقة قد أخذت روح أبيك وقد تأخذ روحك بذات العنف والقسوة. لقد حرقت أباك حريقا تاما ونهائيا، إلى أن أصبح أسود مثل جوال الفحم. لم تتركه لكي يصرخ أو يطلب النجدة، لم تنذره، لم تمهله لكي يودعك بنظرة قصيرة، عندما هبطت في بيت جارك، الذي كنت تعرف أنه يقيم وحده، فلقد ذهبت بنتاه وزوجه إلى بيت أبيها؛ احتجاجا على الشجار الدائم الذي يدور بينهما. أقصد هنا أنه ضربها ضربا مبرحا؛ مما جعل أخاها وأباها يأتيان إليه من مدينة الخرطوم، يضربانه، يفصدانه بسكين المطبخ مرتين في بطنه وذراعه. ولم ينجده سوى تدخلك وبعض الجيران في الوقت المناسب؛ أي بعد أن أخذ عقابه جيدا وبوفرة، وقبل أن يقتله الرجلان الغاضبان، مع العلم أن أخا الزوجة كان أعز أصدقائه، كما ستعرفون لاحقا.
دخلت حوش جارك الواسع، بغريزة الحياة الفاعلة فيك، وجنون الفوبيا، الذي ظل يطاردك منذ سنوات طوال. توجهت مباشرة إلى غرفة المعيشة، وبكل ما لديك من قوة دفعت الباب لتدخل، ففوجئت بشيء غريب، وجدت زوجتك الحبيبة، تقفز على مسبار جسد جارك الطيب، مثل فرس في سباق فاشل، كانا في تمام عريهما. على الرغم من صدمة الحدث إلا أنك لاحظت أن ظهر زوجتك كان جميلا كما لم يكن من قبل، وأنها كانت تستمتع بالفعل، شاهدك جارك أولا، حيث إن زوجتك كانت تعطي ظهرها للباب، ظهرها العرق الجميل الذي لم تتعرف عليه من الوهلة الأولى؛ لأنك عندما فوجئت بهما يرقصان رقصة الحب، صرخت قائلا: آسف، آسف.
بالطبع كنت تظنها امرأة أخرى صادها جارك، يشاع عنه أنه صائد ماهر للنساء، ويهمس بأنه يعجبهن.
في اللحظة التي أردت أن تنسحب فيها، وتعود لأمطارك المرعبة في الخارج، التفتت زوجتك الجميلة إليك، كان وجهها عرقا، ومغطى بشعرها الغزير الأسود، شفتاها كبيرتان مكتنزتان، بدا الجانب الذي يواجهك من صدرها ناهدا، جموحا وبارزا كأنه كوخ صغير من الشيكولاتة. أنت تعرف أن المرأة تصبح في قمة جمالها، ومنتهى أنوثتها، أثناء ممارستها الجنس. عندها قفزت زوجتك الجميلة الحبيبة من أعلى شيء جارك، عارية كالبرق، مرعوبة، كل ما تتذكره أنت، أنها دارت دورتين حول نفسها، صرخت بأعلى صوتها الذي كنت تشبهه بنغمات الكمان، وأنت تسمعها أول مرة. في الحق، هو السحر الذي أوقعك في حبها. - سجمى؟ إدريس؟
قبل أن نحكي لك، لماذا كان ذلك آخر ما رأيته، اسمح لي أن أحدثك عن بعض التاريخ بشأنك وشأن زوجتك - لا تنسيا أنني أؤلف كل ذلك الآن ولا أعرف شيئا عن تاريخ علاقتكما الزوجية أو غيرها، فأنا لا أعرفكما من الأساس، إنما توحي إلي بها الموحيات الآن - تزوجتما عن حب - لسلوى رأى آخر سنعرفه لاحقا - هي مغرمة بك وأنت أيضا مغرم بها، عندما تزوجتها كانت عذراء. بشهادتك وشهادة الطبيبة مريم - بنت خالتك - التي قامت بمساعدتك في فض عذريتها بطريق علمية حتى لا تؤذيها، فكانت المسكينة حبيبتك مختونة ختانا فرعونيا قاسيا، لدرجة أنك تحيرت كيف بإمكانها أن تتبول وأن ينزل منها دم الحيض؛ لأنك لم تر شيئا في ذلك المكان يوم «دخلتك» سوى ثقب لا يدخل إبرة الخياطة! قالت لك: إنهم وضعوا قشة كبريت لضبط المقاس.
لكن، إذا كانت لك تجربة جيدة مع النساء، وكنت حاذقا ذكيا في شأنهن - الرجل غالبا ما لا يكون ذكيا حاذقا في مثل هذه الأشياء - لاكتشفت أشياء مهمة، هي:
أن ملمس خيط الختان كان بارزا خشنا، أي أنه لم يكن قد أصبح مثل بقية الجلد حوله، إذا مررت أصابعك عليه لوجدته خشنا مثل نشارة الخشب الملصقة على سطح أملس، وهذا يعني الكثير لرجل تقليدي مثلك إذا انتبه.
الشيء الآخر والمهم، أنك لم تسأل الطبيبة - طبعا إذا كان يهمك ذلك، على فكرة، أنا لا يهمني - ما إذا كانت زوجتك عذراء أم أنها صارت عذراء قبل شهرين من الزواج!
الشيء الأهم، وأنت تحتفي بعذرية زوجتك، لقد حكيت ذلك لكثير من أصدقائك الحميمين بفخر، لم تسأل نفسك عن عذريتك أنت، وكم من النساء فضضت بكاراتهن بمتعة رهيبة، ولم تسأل نفسك كيف سيصير بهن الحال إذا شاءت أقدارهن الرهيبة أن يتزوجن من رجل يرى أن شرف البنت في عضوها؟
أقول لك هنا ما لم تشأ أن يذكر في رواية سيقرؤها كثير من الناس: هل كنت غاضبا تماما وأنت تفاجأ أن زوجتك كانت تستمتع بالجنس مع جارك الطيب العزيز؟
حسنا، دارت زوجتك حول نفسها دورتين - كما قلنا لك ذلك سابقا - هذا كل ما تتذكره، ثم وجدت نفسك في المستشفى فاقد الذاكرة بصورة كلية. أنت الآن تقيم في بيتك الهادئ تحت رعاية زوجتك الجميلة، وهي الوحيدة التي ترعاك، بعد أن انصرف عنك الجميع. كانت ترعاك بحب حقيقي وبصدق، لم تدخر جهدا من أجلك وأجل أطفالك الثلاثة، إذا كانت لك ذاكرة إنسانية جيدة لسمعتها تقول لك كل يوم: أنا آسفة، لقد حدث كل شيء دون إرادتي، ما كنت لأصارحك وأحكي لك كل شيء، وتعني بينها وبين نفسها أنك لم تكن بالذكاء الكافي.
بالتأكيد ليس بإمكانك أن تستمع لحكايتها؛ لأنك إذا لم تكن بذاكرة خربة الآن، لسمعت ما يبكيك، وسامحتها ببساطة؛ لأن كل ما حصل بين زوجتك وجارك، حدث قبل سنوات كثيرة قبل أن تتزوجا، لكن عقلك المرتبك خلط الحابل بالنابل.
هذه هي القصة، ودعوني أرى أي خيرين أنتم وأي أشرار بينكم. ما رأيكم الآن؟ ويعني هذا السؤال فيما يعني الآتي: إنكم قرأتم ما تريدونه أن يحدث في القصة، وليست هي مسئوليتي إذا لم يحدث، أو أنه حدث بالفعل على المستوى الذهني أو مستوى النص، لكني لا أظن أن أحدكم قد بلغ من الفظاعة أشدها ونصب نفسه قاضيا حكيما، أو حتى شاهدا صالحا؛ ليجيب على أسئلة الجلاد بكلمة واحدة مسالمة بائسة مثل كلمة: نعم، أقصد لا.
أنا سأنسحب عند هذا الحد، قد أتدخل أحيانا في مجريات السرد، قد لا أتدخل؛ لأنني أريدكم أن تستمتعوا بهذه الرواية وأنتم تطرحون من خلالها وجهات نظركم المختلفة، تتحملون مسئوليات ما تصلون إليه من نتائج وتأويل قد يضر بالنص ضررا بالغا، فأنا لست سوى ميسر، بينكم وبينكم أيضا، سلوى عبد الله، أمها، عبد الباقي الخضر، إدريس، الفقيه المتشرد ... وغيرهم سيحكون لكم ما يربككم ويتطلب منكم وجهة نظر واضحة وفعلا مباشرا. مع السلامة.
سلوى السردية
قبل أن أبدأ مشوار السرد حيث أرادني المؤلف الأول أن أكون الراوية أو صوت الراوية، أريد أن أعرفكم بنفسي، وأفشي لكم سرا. أولا: أنا سلوى عبد الله، أسكن بالأزهري في الخرطوم، عمري سبعة وعشرون عاما، تخرجت في كلية البيطرة جامعة بحر الغزال، قسم الإنتاج الحيواني، أعمل الآن طبيبة بيطرية في وزارة الثروة الحيوانية. إذا شيء لي أن أصف كيف أبدو، فإنني مثل كل البنيات جميلة، عاطفية. ونسبة للهجين الوراثي الذي شكل ملامحي؛ حيث إنني من أم ترجع أصولها إلى شرق دارفور وأب من قبيلة الأزاندي، ورثت من والدي لون البشرة الحمراء والوجه الدائري ومن أسرة أمي قصر القامة والأثداء الكبيرة، لكن لا يعني ذلك أنني قصيرة جدا، فطولي هو 160سم، بالنسبة لبنت نحيفة ذات وجه وسيم - يقولون أيضا: إنه ساحر - أظنه طولا مقبولا. يهمني أيضا أن تعرفوا عني أنني فتاة ملول، أحب دائما أن أؤكد لنفسي أنني محبوبة وأنني مرغوب في، هذا قد يوقعني في شباك لرجال كثر. لكن لا تخافوا علي، إنني دائما ما أتعامل مع الرجل في حدود، فمثلا لا تتجاوز علاقتي الجسدية مع الرجل الوسيم قبلات عميقات ، وقد أمارس معه الجنس أونلاين
online sex
لا أكثر، أما الرجل غير الوسيم فحسبه مواعيد لا أفي بها إطلاقا. وأظن أن هذا يكفي.
أما الشيء السر، فإن الشخصية التي يلبسها عنوة الكاتب على اسمي، هي شخصية غير محببة لدي وأنه أقحمني فيها إقحاما، الأجدر به أن يختار اسما آخر غير اسمي. لكنه لا يستطيع، فهو يريد ألا ينساني وللأبد بأن يحولني من حبيبة معشوقة إلى شخصية روائية لا علاقة لها بواقع حالي، لكنها أكثر ديمومة مني ومنه، فهي ستبقى بعد موتنا البيولوجي بسنوات كثيرة، قد يكون العكس؛ أي أنه ينوي التخلص مني أيضا بأن يسردني، يفرغ الشحنة العاطفية التي تخصني على لوحة مفاتيح حاسبه الآلي، كما يفعل الأجداد في العصر الحجري بأن يتخلصوا من خوفهم من الوحش برسمه على الجدران. الشيء الأهم أن الكاتب يريد أن يكفر عن خيانته الشخصية لي، فلقد خانني مرارا وتكرارا وأجحف بكل المشاعر الطيبة والحب الذي أكنه له. ليس هذا المكان بالموضع المناسب للتشكي، كما أنني لا أشكو، لكنني للأسف سأنتقم. هذه الكلمة لا أحبها، لكن استخدامها يجعلني أحس بالرضا؛ لأن الكاتب هنا يريدني أن أمثل شخصية أخرى باسمي، ليست شخصيتي، بالتالي سوف أترك ما يخصني ويخصه وأتحول إلى مسخ سردي، أسكن في سلوى التي يريد. ربما تعلمت من هذه التجربة أن أصبح روائية في يوم ما وأكتب قصتي الفعلية معه ومع غيره، صدقوني سأحكي كل شيء دون مواربة، سأفضح شخصيته الحقيقية، أقصد الشخصية الداعرة الشهوانية التي تختفي وراء ذلك المثقف الذي يدعي الحشمة، وسيعرف الناس كم هو تافه وحقير. كان هذا الروائي المغمور هو الشخص الوحيد الذي تجاوزت معه القبلة والجنس الإلكتروني إلى ما لا أغفره لنفسي من أفعال. حسنا، إلى أن يحين ذلك الوقت الذي أمتلك فيه أدوات الكتابة، دعوني أصطحبكم في هذه الرواية كراوية أو شخصية أساسية، كما يكتبها ويتخيلها الروائي بركة ساكن، أي سأكون مثل المسرنمة التي يطوف بها حمار النوم أينما يشاء، سأكون طيعة وسهلة وأن أسلمه قياد روحي وجسدي بصورة مطلقة ونهائية ؛ لأمكنه من كتابة رواية جيدة، قد تكون أجمل رواية يكتبها في حياته. أعتقد أن هذا التفسير والشرح لا بد منهما؛ حتى لا يخلط الناس ما بين سلوى في الواقع وسلوى السردية؛ لأنه سيجعلني أحكي بضمير المتكلم، وهي طريقة توحي بأن الراوي هو المؤلف وهو الذي يحكي عن تجاربه الحياتية الشخصية.
أشكركم لما أبديتموه من صبر لقراءة شروحي، وأشكر المؤلف الذي أتاح لي هذه الفرصة وهذه المساحة؛ لكي أعبر فيها عما أشاء للقراء، إنه وفاء منه للاتفاق المبدئي بيننا، عندما طلب مني أن يستخدم اسمي في روايته «مخيلة الخندريس». وآسفة للإطالة.
سلوى عبد الله زاندي
الموت نشوة
لم تعد علاقتي به ذات جدوى، أنا لا أفكر بطريقة مادية أو براجماتية. لقد أحببت بإخلاص، أظن أنه كان وما زال مخلصا في حبه لي، لكني الآن على مشارف الثلاثين من عمري، أريد أن أتزوج. في الحقيقة - بصورة أدق - أريد أن يكون لي طفل، أظن أن ذلك هدف نبيل وإنساني في مجتمع يدعي المحافظة والتمسح بقيم فوق ما نستطيع. مجتمع يقدس المظهر ولا يهمه جوهر الأشياء في شيء. في هذا السياق الذي هو واقع الحال لا يمكنني أن أنجب طفلا بغير أب؛ لأن تلك جريمة في حق الطفل وحتى الأب وحقي. فالتربية الجيدة للطفل تبدأ من قبل ميلاده، ويجب أن يلاحظ أيضا أنني لا أريد أي أب كما اتفق، أريد أن أنجب طفلا من رجل أحبه، عندما أقول: رجل أحبه، لا أعني غيره هو بالذات.
الأمر ليس بهذه البساطة. فكرت كثيرا فيما إذا كنت أحبه من أجل الطفل؛ أقصد من أجل تصوري الخاص للطفل الذي هو إنسان الغد. يعجبني أسلوبه في الحياة، على الرغم من أن هذه الجملة عامة، قد لا تعني شيئا بالذات إلا أنها تعني الكثير بالنسبة لي، أو أنني أتوهم أنها كذلك. علمني حب الأطفال، كان يقول لي دائما: إن الرجل مثل ذكر النحل لا فائدة منه ترجى إذا لم يستطع أن يضع أطفالا أقوياء في رحم سيدة، وإذا فعل ذلك فلا فائدة منه بعدها! عليه الرحيل. والمرأة الذكية هي التي لا تحتفظ بالرجل؛ لأنه سوف يسعى لنيل مكانة في الأسرة لا يستحقها في الغالب. يريد أن يصبح سيدا، ملكا وربا. كان الأحق بهذه المكانة الأطفال. هذه الفكرة رغم بدائيتها في عمقها تحمل كثيرا من الدجل والاحتيال العاطفي، يهدف من ورائها بوضوح - هذا الوضوح أحبه فيه أكثر - أن يهبني طفلا دون أي روابط شرعية؛ أي بغير ذلك الطقس الاجتماعي البغيض لدينا - نحن الاثنين - الذي لا مستقبل لأطفال في هذا المكان دونه. علمني حب الأطفال. علمني كيف أحب الأطفال، كل الأطفال في ذات اللحظة التي حرمني منهم فيها. كنا نراهم يوميا، يعومون في دفء سائلنا الأبيض الحميم، لهم طعم لاذع. كنا نراهم في المنازل، في الطرقات، المدارس، الأندية. ومن ثم ارتبط عملي بهم؛ فأنا أعمل في دار رعاية للمتشردين من الأطفال، أو باسم ألطف «الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية». هي دار لمنظمة مجتمع مدني تطوعية. نقوم بتوفير الحد الأدنى لهم من متطلبات الحياة: إفطار بالفول المصري أو العدس، ماء للاستحمام، النظافة الشخصية وغسيل الملابس المتهرئة القديمة الممزقة، التي لا تتحمل الغسيل في الغالب، فتتمزق أكثر. نقدم لهم أيضا خدمات طبية عند الطلب. لكننا في الحقيقة لا نقدم لهم شيئا مهما، فقط نبقي على الوضع كما هو. العمل الفردي أو في جزر بدون تخطيط اجتماعي حكومي للمدى الطويل والقصير لا فائدة ترجى منه، ويظل كل ما نقدمه مجرد إبقاء على الوضع كما هو، بل تعقيده أكثر؛ وذلك لشح الإمكانات وقلة المحسنين الذين يقتنعون بأن رعاية المتشردين بها أجر أو ثواب في الحياة الأخرى، أو تشبع حاجاتهم الآنية من المساهمة في دعم الخير الإنساني والمشاركة في استمرارية الحياة بألم أقل. مقابل الفكرة الأخرى، التي ترى في المتشردين الشر في اكتماله وكامل شيطانيته. بل يحس البعض بأن المتشرد مخلوق أدنى بكثير، ليس اجتماعيا فحسب بل إنسانيا أيضا. كنا نحبهم ونحب بعضنا، كنت أحبه بغير شروط. نعم، أخذت الشروط تنمو قليلا قليلا مثل الطحلب فوق سطح حجر على ضفة النهر. عندما تحب المرأة فإنها تفكر بطريقة لا تشبه التي ورطتها في الحب، فإنها تفكر في الأطفال، البيت والزوج. وهذا طبيعي، لكنه قد يعيق فكرة الحب التي تنهض على سلطة الجسد: رغائبه واختياره داخل دوامة الانتخاب الطبيعي.
كنت أقتنع بكثير من آرائه. القليل منها يستهويني، الآخر أتحمله بفريضة المحبة. وهو يفعل كذلك تجاه أفكاري الشاذة أيضا، وترددي المتكرر. لكل منا ما يخصه من جنون وخير، لكن يبقى الحب القاسم المشترك، وهو ما يبقينا على صلة. وهذا التحليل مضلل أيضا؛ لأننا لسنا دائما على ما يرام ولسنا دائما في حالات حب، قد يقع خصام بيننا يدوم لأيام طويلة، قد أكرهه، وتمر بي أيام قد أقع في حب شخص آخر، وحدث ذلك مرتين خلال فترة علاقتي به، وهي الآن في عامها الرابع. إذن، ليس الحب هو الذي يبقينا معا، إنهم الأطفال! هذا ما توصلت إليه أخيرا. الأطفال الذين تستحيل عملية إنجابهم وتتعقد كلما مضى يوم من حياتي بدون أن يكون ذلك الشيء قد تخلق في رحمي.
كنا نمر سريعا أمام مستشفى أم درمان التعليمي. في اتجاه قبة الإمام المهدي. الجو كما هو في مايو حار جدا. كنا مرحين وقريبين من بعضنا البعض على الرغم من الحزن الذي يغمر قلبينا، لولا خوفنا من الشرطيين، وخشيتنا من أن يرانا أحد أفراد النظام العام المتنكرين في هيئة مدنيين، لتلامسنا بأيدينا بل لأمسكنا بكفينا معا ونحن نسير في هذا الطريق الفسيح. كانت دائما ما تغمرنا تلك النشوة الإنسانية الجميلة كلما اختلينا ببعضنا في مكان آمن، نستطيع فيه أن نتعرى، نقبل بعضنا ونصلي صلاة الجسد. لقد فعلنا ذلك قبل ساعتين في بيت الخليفة عبد الله التعايشي تحت رعاية وحماية بعض الرسميين. هو أكثر الأمكنة أمانا لدينا نرتاده عندما نشتاق لبعضنا البعض، حتى ولو كنا متشاجرين؛ لأن الجسد لا علاقة له بالخصومة، إذا وقعت فإنه يصلحها. اكتشفنا ذلك المكان بالصدفة البحتة، أقصد الغرفة السرية التي تقع تحت غرفة الخليفة مباشرة. بوابتها تفتح في الحمام المهجور ، لا ندري في ماذا كان يستخدمها الخليفة، هل كان يخاف أن يتآمر عليه البعض وهو نائم؛ لذا كان ينتقل لهذه الغرفة الآمنة ليلا لينام بدون كوابيس؟ أم أنها كانت سجنا سريا أو بيت أشباح يستضيف فيه الخليفة وأخوه يعقوب جراب الرأي بعض المارقين الكفرة من جدودنا المشاكسين؟ لقد زعمنا حين اكتشافها أن إدارة السياحة نفسها قد لا تعلم عنها شيئا. قمنا بمرور الأيام بفرشها بمفارش من الخيش وملاءات كنا نهربها إلى هنالك كلما سنحت لنا فرصة لحملها في حقيبة اليد. قد شردنا القطط المسكينة، التي كانت تظن نفسها سيدة المكان الوحيدة، آخذة ذلك الحق من كونها أول من اكتشفه؛ أي بوضع اليد. كنا نسمي الغرفة: بيت جدنا التعايشي، وهو مؤسس الدولة السودانية الحديثة، بالتالي الأب الشرعي لعلاقتنا المربكة والراعي التاريخي لها. حيينا الحرس. كانوا يعرفوننا لكثرة ترددنا إلى البيت مدعين بأننا نقوم بدراسة أكاديمية عن بيت الخليفة، لكننا لم ندخل مرة أخرى، بل عبرناه إلى الحديقة الصغيرة التي تقع في مثلث تحيط بها طرقات الأسفلت. كانت الحديقة مزدهرة في يوم ما، لكنها أصبحت الآن بفعل الإهمال ما يشبه المزبلة، ولو أن الغرف التي استخدمت في الماضي كبوفيه ما زالت قائمة.
كانت دكتورة مريم في انتظارنا ترتجف قلقا، تسيل الدموع من عينيها الطيبتين الواسعتين. أعطاها عبد الباقي القارورة البلاستيكية، فتحتها بيد مرتعشة. مضينا خلفها إلى الحجرة الخلفية حيث تخفى الأطفال. كانوا يموتون ببطء شديد، يتلوون من آلام مبرحة في بطونهم، قد تقيئوا كل شيء، يشتكون من صداع يجعلهم يصرخون في ألم آلمنا نحن أيضا. سقتهم بترتيب بدا لنا عشوائيا، لكنها بكلمات متقطعة قالت: إنها تفعل ذلك وفقا للمرحلة المرضية التي فيها كل طفل. والغريب في الأمر كان الأطفال يتحسنون بصورة سريعة! أو هكذا بدا لنا. وبعد نصف ساعة تكلم اثنان وبقي اثنان في حالة احتضار. بعد ساعة مات واحد وتحدث الآخر. كنا قد قمنا بتهريبهم من أحد الشوارع الطرفية حيث كانوا يقيمون بصورة دائمة في مصرف للمياه. وهو مكان مكشوف بالنسبة للفرقة ؛ حيث إنهم يستطيعون الوصول إليهم بسهولة ويسر، وما يعده الأطفال مخبأ يراه الجماعة قلب المصيدة. أصيب الثلاثة بالعشى. وتوقعت دكتورة مريم أنهم سوف لا ينجون من العمى إذا نجوا من الموت؛ لأن مادة الميثانول التي أسرفوا في شربها خلال الساعات العشر الماضية، تقوم بتدمير شبكية العين. طبعا هذا بالإضافة إلى تدمير كثير من الأنسجة الحساسة بالأحشاء، مثل: الكبد والبنكرياس وغيرهما. سقيناهم كل العرق الذي استطعنا أن نحصل عليه بما لدينا من نقود قليلة. بعض بائعات العرق الكريمات عندما عرفن أننا نحتاجه لإنقاذ أطفال مهددين بالموت أعطيننا من لدنهن وسعهن، ودعين من قلوبهن الجميلة النقية السوداء لهم بالشفاء ولنا التوفيق.
أنا - عبد الباقي ودكتورة مريم - نمثل فريقا واحدا من عدة فرق أخرى تقوم بالمهمة ذاتها في الخرطوم بحري وأم درمان. الهدف الرئيسي هو الوصول للأطفال المصابين قبل أن تصلهم الفرقة، وليس الوصول إليهم فحسب بل إخفاؤهم؛ لأنهم في حالة خطر دائمة وسيصبح مصيرنا مثل مصير أصدقائنا في فريق آخر تم القبض عليهم وجلدوا بحد حامل الخمر، وغرموا ولعنوا ثم أبقوا تحت الإقامة الجبرية بمنازلهم. وأصبح العمل أكثر تعقيدا، خاصة بعد أن أفتى مسلم طيب حريص على الدين أن العلاج بالعرق والأثينول حرام قطعا، وأن الأفضل لهؤلاء الصبية الموت؛ لأنهم إذا ماتوا سيموتون شهداء ويدخلون الجنة مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا. خير لهم من أن يحيوا ويعيشوا مجرمين ثم يموتوا بسوء الخاتمة: اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين. كنا نشعر أن واجبنا الإنساني يحتم علينا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأي أسلوب كان. ونشك بعمق في أن الفقيه المفتي طيب الذكر قادر على ضمانة دخوله هو نفسه وبعض عشيرته الأقربين إلى الجنة، دعك من ترشيح الآخرين لها. أو كما أفتى لنا أحد الأصدقاء، وهو يرمي في وجهنا أرقاما مجنونة عن أن السودان هو من أكبر المصادر للميثانول والأثينول، وهما من فصيلة الكحول، واللذين يستخدمهما الغرب بعد تنقيتهما لصنع ألذ أنواع الخمور المحرمة هنا في السودان. ولا تفوقه في ذلك غير دولة البرازيل؛ حيث إنها تمتلك أكبر مخازن الميثانول في العالم. وإذا كان هذا المفتي تقيا بما يكفي ولا يخشى لعنة رأس المال الإسلامي بالسودان، التي سوف تصيبه في مقتل؛ لتطرق ولو بحرف واحد لتقطير الكحول في مصنع السكر العملاق. وكأنما سمعه مفت أكثر ذكاء، وأكثر منه مالا؛ حيث إنه قال بالحرف الواحد: لا حرمة في إنتاج وبيع الميثانول والأثينول، فالبلح والعنب حلالان طيبان، وهما مصدران للنبيذ الخبيث وهو محرم. فالعبرة في الاستخدام وليس في إنتاج المادة ذاتها، وإلا حرمنا البطاطس والسكر والذرة بجميع أنواعها، بل كثيرا ما أحل الله لنا من نعم الدنيا والعياذ بالله من غضب الله! أتحرمون ما أحل الله؟!
إلى اليوم 20 / 7 / 2011 تم التأكد من موت ستة وسبعين متشردا وفقا للصحافة، وذلك في غضون أربعة وعشرين ساعة منذ أن اكتشف أول حالة، واتضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامته جريدة السودان في اليوم نفسه أن وزير الرعاية الإنسانية قد فوجئ هو نفسه بالأمر وبدا عليه الحزن العميق، ووصف الأمر بالمأساة. ربما كان مشغولا بالإعداد لزيارته الأخيرة للبرازيل. أما مسئول الشرطة فقد نفى نفيا قاطعا أن هنالك جهة حكومية وراء اغتيال المتشردين. إنه يحتفظ الآن بعشرة من المدنيين المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه يؤكد أيضا أن الأمر غير منظم وغير مقصود. اندهشنا جميعا لآرائه القاطعة قبل انتهاء التحقيق. همست دكتورة مريم في أذني قائلة: إذا أردنا معرفة الرقم السليم للمقتولين فعلينا دائما أن نضرب رقم الصحافة في ثلاثة على الأقل.
قلت لها وبقلبي حسرة: هذا متفق عليه، للأسف.
كان الصحفيون حذرين كعادتهم تحت قانون الصحافة والمطبوعات الحازم، الذي روعيت في صياغته مصلحة البلاد العليا! إلا أن أحدهم سأل سؤالا لم يجبه عليه أحد، وتجاهلته حتى جريدته ذاتها. قيل: إنه لم تقم له قائمة بعد ذلك؛ أقصد استغنت الصحيفة عن خدماته الجليلة بخطاب شكر ضاف مهذب، مرتب ثلاثة شهور، وأمنية حارة له بالتوفيق في جريدة أخرى! المشكلة كلها أن سؤاله الضال، غير المسئول، الذي لم يراع فيه حرمة المصالح الوطنية والدور الرسالي للأمم السودانية، حرمها من إعلانات بمبلغ يعادل مليون مرة مرتب الصحفي وأبيه وأمه - إذا كانت حية وتعمل - وأبناء عمومته إلى يوم الدين؛ لأن الشركة المعلنة الخيرة تقصد من وراء الإعلان دعم خط الصحيفة الملتزم الوطني، ورفع المقدرات المالية لمالكها الهمام! قد بدا لنا واضحا الآن أن جريدتكم تستخدم براغيث وجرذان، وليس صحفيين محترمين!
أكد الأطباء أن أسرع علاج للتسمم الميثانولي الحاد هو شرب جرعات خيرات من أخيه الأثينول، وهو كما يعرفه العرب بالعرق، الذين هم أول الشعوب التي قامت بتقطيره في العالم. كلاهما سم قاتل، لكنهما يتعادلان. تشرح لنا دكتورة مريم ذلك علميا كما يلي: التركيبة الكيميائية للميثانول ...
كان الأطفال يرجوننا ألا نتركهم يموتون، هم أيضا يريدون استعادة نظرهم، يرغبون في أن يروا العالم مثلما كانوا يرونه من قبل: ملونا جميلا ويجري أمامهم مثل القطط الضالة، نحن لا نملك الشيئين ... كان يقول لهم بقا: عليهم بالصبر والإصرار على الحياة. في الحقيقة كانوا أكثر إصرارا على الحياة من أي مخلوق رأيته في حياتي. أبي كان رجلا ميسور الحال، فهو ليس ثريا، لكنه لم يكن ينقصه شيء. بالتأكيد لا مجال لمقارنة حياته مع حياة هؤلاء البائسين. على الرغم من ذلك لم يكن شديد التمسك بالحياة، كان سعيدا جدا لم يصب بأي أمراض مؤلمة، لم يخنه أحد، لم يدخل السجن، لم يقض ليلة واحدة باكيا شاكيا. وكان يمتلك زوجة رائعة وفية؛ التي هي أمي الجميلة. يحب الحياة، يعيشها بمتعة خاصة، وله الحق في ذلك؛ فلقد أعطته الحياة كل شيء. مات وهو في ريعان شبابه، وما ذلك في رأيي إلا لأنه لم يكن متمسكا بالحياة تمسك هؤلاء المحرومين. الذين لم يعيشوا يوما واحدا طيبا بأي مقاييس كونية، لكن الحياة في تقديرهم ثروة لا يمكن التفريط فيها. قالت لي أمي ذات يوم، وكنت قد حدثتها عن طفلين مشردين مصابين بالسل ماتا ذات صباح: الموت خير لهم هؤلاء المساكين!
ولو أن الوقت غير ملائم للتحقيق، إلا أننا كنا نريد أن نعرف من أين لهم بهذا المشروب القاتل؟ كيف تحصلوا عليه وهو غير مشاع، غير رخيص ولا يباع في البقالات أو عند الطبليات أو الباعة المتجولين؟! كانت لهم إجابات مختلفة، لكن أغربها هي إجابة آدم سانتو - توفي فيما بعد - الذي قال: إنه تحصل عليه من المصري، كأن هذا المصري علم على رأسه نار! لكن البقية تحصلوا عليه من زملائهم الذين تحصلوا عليه من زملاء آخرين، هكذا بلا نهاية ولا بداية. يفضل الأطفال المشرودن مادة السلسيون، وهو مادة تستخدم للصق يدخل الميثانول في تصنيعها. رخيصة ويستنشق عبقها المثير. أنبوب واحد صغير يكفي لسكر عشرة متشردين وينيمهم مجنبا إياهم مشقة البحث عن طعام. يهبهم في الحلم الحياة، الراحة والجمال الذي ينشدونه. قد يستخدمون ما يقع في أيديهم من مسكرات أو مخدرات، خاصة الأشهر: البنقو. المشكلة الوحيدة التي تمنعهم من تعاطي كل شيء هي المال. إنهم فقراء، عاطلون عن العمل، حتى التسول فإنهم لا يتسولون، لا يسرقون، لا يرقصون ويغنون ويضحكون ويبكون في الطرقات مثل مشردي البرازيل؛ لكي يحصلوا على ثمن وجبة تافهة وجرعة كراك. لكنهم يرقدون هناك تحت ظل حائط أو نيمة أو وكر أو في بناية مهجورة. يأكلون البقايا باستمتاع قذر! المزبلة هي أعظم سوبر ماركت طبيعي وهبه الله للمتشردين. يتسلون بممارسة الجنس فيما بينهم. قد تكفي سيدة مجنونة واحدة نزوة شلة من المتشردين. أما المتشردة الجميلة - وهي كذلك دائما - فلا يمكن مسها بغير مقابل. ويصعب اغتصابها لشراستها. الأكثر عرضة للاغتصاب هم المتشردون الجدد؛ نساء كانوا أم رجالا، طفلات أم أطفالا، وذلك قبل انتمائهم لشلة تقوم بحمايتهم وقائد يرعاهم. في الغالب يصبح المغتصب الأقوى هو من يقوم بالحماية لاحقا؛ حيث يصبح المغتصب واحدا من ممتلكاته الخاصة وفردا من شلته: وفيا ذليلا طائعا ولقوية ممتعة.
إذا توفر لدى المتشرد بعض ما يسكر، قليل مما يطعم، وشيء من الجنس من نوعه أو النوع الآخر لا يهم؛ فهو الأكثر سعادة والأكثر غنى من رئيس دولة في العالم الثالث.
يتسلل الشيء إلى المعدة ... يسمونه فيما بينهم الإسبرت، وهو من مشتقات كلمة إنجليزية تعني الروح
sprit
وربما كانت اختصارا ذكيا لجملة المشروب الروحي. في اللحظات الأولى من احتسائه، يهب الشخص لذة مجنونة لا تقاوم. وعندما تبدأ عملية الأيض أو التمثيل الغذائي، تحمل الأعصاب وشاية سريعة إلى الكبد مخبرة إياه بأن سما زعافا يتغلغل في أحشاء ذلك المتشرد الذي نعنى بحمايته، وعلينا مسئولية حياته. فيفرز الكبد الوفي إنزيم نازع الكحول، وهو متوافر ومحفوظ بصورة جيدة لمثل هذه اللحظات الصعبة والحروبات غير المتوقعة؛ لأن الكبد يعرف نزق وشيطنة سيده الإنسان، متشردا فقيرا كان أم سياسيا غنيا. فيتحول الميثانول الذكي إلى مادة الفورمالدهيد شديدة السمية، ثم خلال ثلاث دقائق أخرى يتحول إلى حمض النمليك. بهذه المراوغة الشيطانية يفقد الكبد إمكان السيطرة عليه، لكنه يظل يفرز الإنزيم نازع الكحول، وتتراكم النواتج الاستقلابية السامة للميثانول بصورة متواصلة دون أدنى مقاومة من الجسد، بعد أن حيدت سلطة الكبد، من ثم تظهر أعراض التسمم. ولأن المتشرد هو مخلوق جائع، يحتسي هذا المشروب من أجل أن ينسى ألم الجوع، العوز، خيانة الأصحاب، مرارة الاغتصاب، ظلم الشرطي، إهانات المارة، قلق الحنين إلى الأسرة، الوساخة الشخصية، القمل، برغوث الثياب، والأمراض الكثيرة التي تنهش جسده، فإن الميثانول يجد بيئة جيدة ليمتص سريعا عبر المعدة الخاوية الشرهة، التي تنتظر ما يشغلها، ويخفف عنها ألم إفرازاتها المرة النشطة. لا يحس الشخص بأعراض التسمم إلا بعد مضي ست ساعات إلى ثلاثة أيام، هذا إذا شرب الشخص النحيل ذو الوزن الهزيل جرعة زائدة من الميثانول، هي في الغالب لا تتوافر لديه، فما يتوافر لديه بعض مليجرامات من الأثينول، يضيف إليها خمسة أضعافها من الماء القراح؛ لذا لا تظهر علامات التسمم فيه إلا بعد شهور أو سنوات، أي بعد أن يقوم الأثينول بتدمير خلايا الكبد والبنكرياس. ذلك تماما كما يفعل العرق «الميثانول + الأثينول» للمدمنين عبر سنوات طويلة من اللذة ... النشوة وأحلام اليقظة على أنغام موت بطيء وبارد. تفسير هذا الموت السريع للضحايا هو أنهم قد تناولوا كميات كبيرة من الميثانول، ليس ذلك القدر الضئيل الذي اعتادوا على تناوله من صنوه الأثينول. فالتشخيص الطبي الباتع لحالاتهم يطلق عليه الأطباء: «التسمم الكحولي الحاد»
Acute alcoholic intoxication .
ما يقلقنا الآن أكثر، كيفية التعامل مع الجثة التي ترقد أمامنا مغطاة بأسمال باليات تفوح من فمها رائحة الموت مختلطة بقيء الأطفال على أنغام شخير بعض من نام منهم. كنا نعي جيدا خطورة أن تضبط الجثة في حوزتنا. يحزننا أيضا تركها في هذه الغرفة المهجورة مع الأطفال المرضى الذين لم يحدد مصيرهم بعد، الذين سيصبح مستقبلهم «على كف عفريت» إذا وجدتهم الفرقة. فسيحقنون في الحال - حسب ظننا، وبعض الظن إثم - بمادة الفورمالين الرخيصة القاتلة، ويودعون الحياة التي يحبونها جدا - رغم قسوتها - إلى الجنة البغيضة التي أعدها لهم ذلك المفتي الفصيح، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئا أكثر مما فعلنا، أن سقيناهم العرق وأطعمناهم اللبن الطازج ووهبنا لهم جرعات كبيرة من زيت الخردل لتقوية معداتهم الملتهبة. كان الأمر كابوسا حقيقيا. لكننا أجبرنا على المغادرة السريعة وتركهم كما هم عندما اتصلت بنا حكمة رابح صديقتي وأخبرتنا أن الفرقة في طريقها إلينا. شاهدهم البعض قريبا جدا من مسرح البقعة يتعثرون في زحمة المرور، يطلقون صفير إنذار ونجدة، يردد العسكر المتحمسون صرخات الحرب وهم محشورون في عربة لنقل البضائع «دفار جامبو» عملاقة. أضافت: لقد قاموا باعتقالات واسعة لناشطين في أم درمان والخرطوم، ولا ندري من هم وكم عددهم حتى الآن.
تقع الحديقة قريبا جدا من مسرح البقعة، جنوب بيت الخليفة التعايشي، شرق سجن الخليفة، في الطريق إلى مستشفى الدايات، تحتل الحديقة المهجورة هذا المثلث الصغير. كان علينا أن نهرب في اتجاه بيت الخليفة، هذا هو الحل الوحيد. اقترحت دكتورة مريم أن نقوم بزيارة البيت، سوف لا يشك فينا أحد. تبادلت النظرات مع عبد الباقي، ابتسمنا لبعضنا ونحن نسرع الخطا نحو البوابة القديمة الأثرية، التي تحرسها جماعة من الرسميين. قمنا بزيارتنا الثانية للبيت في اليوم نفسه. اندهشت دكتورة مريم عندما شاهدت الحفاوة التي استقبلنا بها الرسميون. في الحقيقة كانت هذه الحفاوة الدافئة نتاج علاقة قديمة مستمرة سوف لا تخطر ببال صديقتنا الدكتورة. خاطبونا بالأساتذة ولم يأخذوا منا رسوم الزيارة المعتادة. كانوا يحسون من أعماقهم بأنهم يجب أن يقدموا لنا المساعدة المرجوة؛ لربما تكرمنا بذكر أسمائهم في البحث الذي نقوم بإعداده أنا وعبد الباقي عن بيت الخليفة، ذلك المشروع الوهمي الذي سوف لن ينجز أبدا!
جلسنا عند الفسحة أمام العربات التاريخية المهلهلة المهملة المغطاة بطبقة من الغبار سميكة. كان الظل باردا، تيار الهواء يمر شمالا جنوبا بحرية. كنا نحتاج لقدر كبير جدا من الهواء البارد؛ لإنعاشنا وإعادة الحياة إلينا. قلوبنا وآذاننا تقفز خلف الجدران لتعانق موجودات الحديقة في الخارج، تحوم حول الأطفال المشردين. كان هتافهم قاسيا وعنيفا، مختلطا بصفارات الإنذار المرعبة، عندما أخذ الزوار يخرجون من بيت الخليفة مهرولين يتقصون ما يحدث في الخارج، خرجنا معهم. دارت العربة العملاقة دورتين قبيحتين حول الحديقة الصامتة، كانت مليئة بالجنود الشباب المتحمسين لفعل كل ما يؤمرون به. ليس بإمكانهم أن يلاحظوا شيئا بهذه الطريقة الاستعراضية الفجة في البحث؛ لأن الأطفال كانوا يرقدون داخل الغرفة، ليس في حوش الحديقة. توقعنا أن يتوقفوا ويهبطوا ويدخلوا، لكنهم عندما أكملوا دورتهم الرابعة، اتخذت العربة الشارع الجانبي الشرقي الذي يقود إلى الإذاعة. تلاشى صراخهم الرهيب خلفهم تدريجيا، إلى أن اختفى نهائيا عندما انعطفت الشاحنة بهم يمين الإذاعة القومية متخذة طريق الطابية إلى مستشفى القوات المسلحة بأم درمان، أو إلى أي جحيم آخر لا ندريه.
لم نعد إلى الأطفال والمتشردين بالحديقة، على الأقل الآن، كان هذا رأي الجميع، كما أننا لم نرجع إلى بيت الخليفة عبد الله التعايشي مرة أخرى.
تشير الساعة إلى الثانية بعد الظهر. دكتورة مريم ستعود للعمل بمستشفى الحوادث بالخرطوم عند الثالثة والنصف، قد تحتاج إلى ساعة كاملة تقضيها في المواصلات العامة بين أم درمان والسوق العربي؛ لأن الوقت هو زمن ذروة التزاحم المروري، فالطرقات ضيقة وهي مصممة في عصر الاستعمار لبضع عشرات من السيارات الصغيرة يستغلها السادة السياسيون والإنجليز. الآن على ذات الطرق أن تتحمل ما لا يقل عن مليوني سيارة في اليوم. فكان الخيار الأرجح أن نذهب معها أنا وبقا إلى الخرطوم، من هنالك يذهب هو للسلمة وأنا لبحري، وسوف ننسق الخطوة القادمة عن طريق التلفونات أو الرسائل النصية القصيرة. تعرفت على دكتورة مريم منذ سنوات كثيرة مضت؛ أي منذ أن تخرجت في جامعة الأحفاد قبل خمس سنوات. كنت أقوم بقضاء فترة تدريبية بمنظمة رعاية الطفولة السويدية، التقيت بها هنالك، تعمل حينها منسقا لمشروع حماية الطفل بالمنظمة. احتضنتني وشملتني برعايتها منذ اليوم الأول الذي تقابلنا فيه. هي التي جعلتني ألم بالجوانب النظرية والعلمية في مجال حقوق الأطفال. ولم يكن فارق العمر بيننا كبيرا، كنت أصغر منها بثلاث سنوات، وهي تكبرني بخبرات عملية وإنسانية تفوق الخمسين عاما. ومثل كل سودانيين يتقابلان في أي زمان أو أي مكان يجدان شخصا مشتركا بينهما، هذا إذا لم يكتشفا أنهما أقارب، فبيني وبينها شخص عابر في حياتي، لكنه خلف في أثرا كبيرا ونهائيا، وهو أحد أقربائها بل ابن خالتها حسن إدريس. المرأة لا يمكنها أن تنسى الشخص الأول في حياتها، حتى إذا كان وقحا وناكرا للجميل مثل هذا الإدريس. أنا لا أحب أن أخوض في هذه الحكاية التي يؤلمني ذكرها الآن، هو لم يخدعني لكنني كنت أتوقع منه موقفا أكثر مروءة وإنسانية؛ أي ما تتوقعه كل فتاة من رجل تورطت معه في علاقة حميمة أدت إلى أن تجعلها حبلى بطفل. أتمنى ألا أعود لهذه الحكاية مرة أخرى.
العاشقان
والدتي لم تكن كبيرة السن أو هكذا تعتقد هي، أنجبتني عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. ما زالت امرأة نحيفة قصيرة بعض الشيء، ظلت دائما محتفظة بنضارة الشباب، في هيأتها ذاتها عندما تخرجت في كلية الآداب قبل عشرين سنة. لا يحق لأحد أن يقدر عمرها بأكثر من أربعين عاما. أمي تعد نفسها أجمل مني. قد تبدو أصغر مني عمرا، إلا أنها تصر على أنها أجمل مني، أرى أنها تخلط فيما بين ما هي عليه قبل عقد من الزمان والآن. عندما كانت أجمل بنت في الحي، وأحلى وأصغر أم في الجامعة. فالواقع أمي تؤكد على أنه إذا كانت هنالك مسابقة جمال في تلك الأزمنة لنالت جائزة أجمل بنت في السودان دون منازع. لا مصلحة لي في ألا أصدق ذلك، لكن المشكلة تكمن فيما بعد النقاش اليومي عن العمر والجمال؛ لأنه ينتهي بشجار، لأن أمي تريدني أن أتزوج بأي طريقة كانت، بل بأول من تقدم إلي. قد تقدم إلي كثيرون، بل لماذا أنتظر إلى أن يتقدم إلي أحدهم؛ فالبنت الذكية هي التي تختار زوجها وتدفعه بحنكة إلى أن يطلب يدها، قد ترفضه إذا لم يعدها بثروته كلها. وأنت الآن تدخلين في «سن اليأس»، تضيعين وقتك في حب شخص لا يمكن أن يتزوجك، لا أعرف مثقفا تزوج من قبل، إنهم لا يتزوجون قبل أن يشعروا بأن الموت يطرق أبوابهم أو أنهم على قارعة الإفلاس! - قولي لي: كم من النساء تزوجن شعراء؟ أريد عشرا منهن. - لكن يا أمي ما شاعر ...
كعادتها تهمل إجاباتي عندما تسيطر فكرة ما على رأسها، خاصة بعد أن أخذت تنتابها حالات الإحباط النفسي بين وقت لآخر. - أنا أعرف عشرات النسوان الما تزوجوا شعراء وكانوا بحبوهم مثل عيونهم، ياما كتبوا فيهم شعر وأغاني ...
أقول لها: يا أمي هذا جدل بيزنطي لا يوصل لنتيجة؛ إنه ليس بشاعر. وكأنها لم تسمعني، تعدد لي أصحابي الشعراء الذين لم يتزوجوا حتى الآن:
عثمان بشرى.
عاصم الحزين.
إلياس فتح الرحمن.
كمال الجزولي.
عاصم الرمادي.
عبد الله شابو.
عالم عباس. - يا أمي، يا أمي ديل فيهم ناس متزوجين وعندهم أولاد وبنات متزوجات.
لكنها تواصل في إصرار مجنون، وكأنها تقرأ كتابا منشورا أمامها:
بشرى الفاضل.
أحمد النشادر.
مأمون التلب.
علي نصر الله.
محمد الصادق الحاج.
نصار الحاج.
عصام عيسى رجب ... - يا أمي يا أمي!
أضافت وهي تنحرف قليلا عن الموضوع الأساسي، محملقة بعينيها في الأفق البعيد: كويس، أو اتزوجوا نسوان تانيات ...
هل تذكرين ذلك الشاعر الذي كتب قصيدة جميلة عن حبيبته إيما، أظنه قال فيها: إنها تشبه غيمة وتشبه نجمة، وحاجات تانية ما بتذكرها، لقد تزوج من فتاة أجمل منها اسمها انتصار! وذلك الذي كتب عن فتاة ذوبته عشقا - وهي ماريا - تلك القصيدة الطويلة التي درسناها في الجامعة بعنوان ماريا وامبوي، سقطت فيها مرتين، قد تزوج امرأة اسمها ليلى علم الدين. وقالت: إن أراجون الذي ظل حياته كلها يكتب لعيون حبيبته إلزا أجمل الأشعار، العيون التي ظن أنها الأجمل منذ أن خلق الله حواء أم البشر، اقترن في أواخر عمره بفنانة غجرية متشردة لا تكاد عيناها تريانه جيدا.
لم يبق لها سوى أن تضيف للقائمة: رامبو، مالارميه، بودلير وأمل دنقل. ذات مرة اعترفت لي بأن صديقة لها - أظنها تقصد نفسها - كانت تعشق شاعرا، لكنه يخونها مع صديقتها المقربة جدا بل الوحيدة، عندما اكتشفت أمرهما برر لها ذلك بقوله: إن للجسد سلطانا، ونحن لسنا سوى شغيلة عنده. قالت: إنها لم تفهم شيئا، لكنها لم تعد تحبه منذ تلك اللحظة. بل كرهت المثقفين جميعا، على رأسهم الشعراء؛ لأن الشعراء يتفلسفون في الخيانة، ويقولون كلاما غير مفهوم، كيف يكتب شخص سوي نصا بعنوان «في مديح الخائنات»، وهو يعني بالخائنات، الخائنات، نعم الخائنات ذاتهن، ليس مجازا أو رمزا؟!
أحبت أمي وكرهت بعد وفاة أبي بسنوات، لكني أعرف أنها الآن تحب روائيا في عمرها، لا خير منه يرجى - سوء الظن في الروائيين من حسن الفطن - وأظن أنه يستغلها جسديا وماديا، فأنا لا أعرف شيئا عنه وعن علاقتهما، وخطأ تخميناتي على أمي أن تتحمله؛ لأنها لم تفصح لي عن شيء ... لم تتكرم علي بمعلومة مفيدة، غالبا ما تدعي: هو صديقي ما أكثر.
أمي ليست صريحة معي، لكنها دائما تريدني أن أكون صريحة معها: حتى لا يخدعك الرجال ... فكل الرجال مسيلمة يا بنتي، كذاب! بدون فرز وبدرجات متفاوتة، بعضهم إبليس بعينه، «أوعك تدي واحد قلبك كله!»
اعشقيهم بلسانك لا أكثر؛ أقصد بطرف لسانك، لا تفرطي في قلبك أو جسدك. الرجل مثل الطفل؛ إذا شبع نسي أن له بطنا، وإذا جاع تشهى كل الأشياء، حتى إذا كانت حجارة.
أمي أجمل مني! أنا لا أعترف بذلك. كنت أطول منها قامة لكني بدينة بعض الشيء، بل قل الشيء كله. ورثت بنيتي الجسمانية من أبي، لكنني جميلة أيضا. فكثير من الرجال يحبون الأرداف المدورة، وهو الشيء الذي عليه أردافي الآن. أسمع كثيرا من تعليقات المارة بالشوارع والمواصلات العامة، تضايقني في أحيان كثيرة، أغض عنها الطرف في بعض الأحيان، أطرب لها، وخاصة إذا كان مزاجي عكرا وكنت في حاجة إلى دعابة ما، مهما كانت سخيفة. طولي 175 سنتيمترا، فكرة الجمال عندي تتمثل في تصور الآخر لك من جانب، وتصورك لنفسك من الجانب الآخر. أنا أيضا لا كرش لي، مثل أمي، أمارس الرياضة بصورة متواصلة وخاصة تمارين البطن. لا آكل الشحوم أو السمن، أمشي كثيرا برجلي ولا أتركه يرق في. لي بشرة سوداء ناصعة ورثتها عن جدود شتى، فور ونوبة برابرة وعرب. لا أستخدم كريمات تبييض البشرة، وهذا مبدأ إنساني، جمالي وخلقي لا أحيد عنه، ولو أنني بذلك أفقد فرص العمل في كثير من القنوات التلفزيونية، البنوك، الشركات التي تهتم بالمظهر العام المنمق والمعلن عنه رسميا وإعلاميا. ورغم ذلك يحبني الكثيرون من أجل أنني أرغب أن أكون كما خلقني الله، يقولون: إن لي ملامح ملكة نوبية. باختصار، أعرف أنني جميلة وهذا يكفي.
أنا وأمي وحيدتان، أقاربنا يسكنون بعيدا متفرقين في مدائن السودان الكثيرة. ترك لنا أبي بيتا كبيرا في الخرطوم بحري. قمنا بتأجير نصفه الذي يفتح على شارع السيد علي الميرغني. نسكن نحن في النصف الآخر المطل على شارع فرعي صغير لا اسم له، يحتوي على غرفتي وغرفتها، صالون وثلاثة حمامات بكل من الغرفتين والصالون. الجزء الآخر من البيت تستأجره منظمة مجتمع مدني تعمل في حماية الأطفال المتشردين. وهي المنظمة ذاتها التي أعمل فيها أنا أيضا باحثة اجتماعية. تسمى المبادرة الصديقة للأطفال
CFI .
ليس كل ما تقوله أمي لا فائدة منه؛ لأن فكرتها عن حبيبي عبد الباقي كانت في محلها. إن علاقتنا قد استنفدت فرصها كلها. هو يريدها أن تبقى طالما كنا نذهب كثيرا إلى غرفة جدنا الخليفة عبد الله التعايشي السرية ونقضي فيها أجمل أوقات حياتنا. عندما نكون معا كنا نمتلك الحياة كلها، لا يهمنا شيء آخر في العالم، حتى الأطفال المتشردين، المسلولين وغيرهم. كان همنا أن نمتع جسدينا ... أن نشبع رغبة الوحش الساكن في حشو كل منا. أظن الجنس يستطيع أن يفعل ذلك؛ أن يقوم بواجب التواصل الإنساني، الجنس الآمن. لم أقل إن همه كان الجنس أو همنا، بل كل شيء، لكن الأشياء الأخرى إما يصعب الإيفاء بها أو لنا فلسفة في جدواها. إذن، حان الوقت أن نفترق. أنا أريد أطفالا، بل تريدهم أمي أكثر. أمي تصاب بين وقت وآخر بالإحباط النفسي، وتظل لشهر أو شهور ترى وتسمع أشخاصا وتتحدث معهم. مرات عديدة كانت تفكر في الانتحار. لا تستمر الحالة طويلا، لكن عندما تصاب بتلك الحالة نكون في أسوأ أيامنا. في الآونة الأخيرة أخذت تساعد في رعاية المتشردين حسب مزاجها وبما تستطيع. فهي ليست ذات بال طويل وصبر على نزق وشيطنة هؤلاء المنفلتين الذين لا يترددون في عض اليد التي تقدم إليهم كسرة الخبز. فالحياة علمتهم عدم الثقة في الآخرين، ولا في أنفسهم كذلك. أمي تريد أطفالا يملئون حياتها، يوفرون لها الرفقة، أطفالا تثق بهم، على الأقل يمكنها أن تتنبأ بما ينوون القيام به. كنت أتحدث إلى نفسي بصوت عال؛ مما أخاف أمي وظنت أن مرضها قد انتقل إلي. لكن عندما حكيت لها القصة هدأت وكادت أن تبكي! أمي لا تبكي بسهولة. ثم سمعنا طرقا عنيفا على الباب، على الرغم من أن لدينا جرسا إلا أن الطارق لم يستخدمه. هتفت أمي: منو؟ إن شاء الله خير؟
كان يتنفس بصعوبة. ملابسه ممزقة ... وتوجد فيما تبقى منها بعض بقع الدم الجاف. لم يكن هنالك زمن للأسئلة. استحم ... لبس أحد جلابيب أبي، أمي تحتفظ بالكثير منها للذكرى. أمي تهمس في أذني من وقت لآخر مستفسرة عما لحق به. أهمس لها بأنني لا أدري، لكني كنت قد خمنت كل شيء. باختصار شديد وفي كلمتين أخبرني بكل شيء. احتسينا القهوة. عرفت أمي فخافت علينا. كان عبد الباقي رجلا مربوع القامة. طوله 174 سنتيمترا أو يقل بقليل. تدل ملامحه على أنه قد يكون من سكان وسط السودان، أو لحد ما الشمالية. كان غاضبا وهو يحكي كيف قبضوا عليه وضربوه في الشارع العام، ثم أطلقوا سراحه ثم لحقوا به مرة أخرى في بيته. ودارت معركة معهم في البيت. تدخل جيرانه، أصحابه وزوجته. ضربوا الجماعة ضربا مبرحا حتى فروا بجلدهم هاربين.
قاطعتني أمي: سجمى! عنده أولاد؟ بتحبيه ليه؟ - يا أمي شنو علاقة الأولاد بالحب؟
انتفضت أمي تقول، وهي تحملق في عيني كأنها تراني لأول مرة في حياتها، ولأول مرة ألاحظ أن بعينيها حزنا عميقا لا يستطيع الكحل اصطياده: عندو مرا ولا لأ؟
أجبتها بهدوء: عندو مرا.
حاولت أن تكون هادئة مثلي. - يعني عايزة تقلعي راجل المرا وتشردي عياله؟ - يا أمي ممكن نعيش مع بعض المشكلة شنو؟ أنا أصلا ما عايزة راجل متفرغ عشاني. يكفي نصف راجل أو ربع راجل ما أكثر.
صمتت لبعض الوقت، كأنما كانت تريد أن تقول شيئا ما، ثم غيرت رأيها، قالت وهي تمضي بعيدا عني، وتبعثر كلماتها في المكان: كلام ما مقنع. الراجل راجل والمرا مرا ما في نص ولا ربع. وأحسن تسيبي الزول لحاله، خلينا من الكلام الفارغ، شوفي أي مخلوق ما عنده زوجة وعرسيه.
تعكر مزاج والدتي فجأة، ولم تقبل أن تستمع إلى فكرتي الجديدة بشأنه. بل لم تعرف أنه لا يريد أن يتزوجني، وأنني صرفت النظر عنه. بالطبع لم أقل لها إن ما تبقى بيني وبينه هو فقط التعود على تلك المتعة الجسدية، لم يفكر كلانا إلى الآن في التخلي عنها على المدى القريب. هنالك أشياء يجد المرء نفسه ملتزما بالقيام بها، قد لا يفكر كثيرا في مسألة جدواها من عدمه، خاصة الأشياء التي لها علاقة بالجسد، فهذا الأخير له منطقه الخاص وأفاعيله التي لا يستشير فيها العقل، فهو لا يفكر بالأعضاء التناسلية وحدها، لكنه يشرك كل الأجزاء الأخرى فيه، ويشرك العقل، الجزء الأكثر بشرية منه، فهو دكتاتور رحيم، ولا يلام الجسد عندما يعمل عمل الجسد. بعد أن قرأت كتاب السر أخذت حياتي تتغير بسرعة، رميت بكلماتي في ظهرها: أنا ح أتزوج في هذا العام، ح أتزوج رجلا كاملا.
فاجأتني بثورة من الضحك، عادت واحتضنتني وأكدت لي للمرة الألف أنها سوف لا ترفض أن أتزوج أيا كان، إذا كنت أحبه ويحبني، متزوجا أم غير متزوج مجنونا أم عاقل، المهم يستطيع أن ينجب أطفالا يعيشون معي في البيت هنا، ولتذهبا أنت وهو للجحيم. قلت لها: هل غيرت رأيك؟
قالت وفي وجهها ابتسامة رائقة: لا، لم أغير رأيي، أنا عن نفسي لا أتزوج رجلا متزوجا.
وضعنا الخطة، اتفقنا على أن نشرك فيها بعض الصحفيين المهتمين بالموضوع؛ لأنهم يمتلكون الخبرة في التحري، أيضا الشرعية والحيلة في تقديم الأسئلة والدخول إلى كل المؤسسات الحكومية والمدنية. طبعا ليس كذلك تماما، لكن لحد ما ... الأهم أن لهم أفضلية علينا في ذلك. البحث عن الصحفي المناسب كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كنا نريده ذكيا، شجاعا ويؤمن بالقضية بصورة قريبة من وجهة نظرنا. حتى يكون هنالك توافق وتناسق في فريق العمل. أهم ما في الأمر ألا يكون مواليا للسلطة؛ لأن الموالاة تحتم عليه التوافق مع وجهة النظر السائدة، حتى ولو أنها جانبت الصواب. وفوق هذا وذاك نحن لا نستطيع أن نقدم له أجرا، مهما كان ضئيلا، فالعمل تطوعي وإنساني في المقام الأول. لم أقترح عليه أحمد الباشا، سيرفضه ظانا منه - وأنا أعرف ظنونه - أنني كنت في يوم ما مغرمة به أو أنه مغرم بي. كما أنه صدق إحدى كذباتي التي كان الهدف منها إثارة غيرته. بأن أحمد الباشا أكثر وسامة منه وأن كثيرا من البنيات يستلطفنه، قلتها بالطريقة التي تجعله يسمع كلمة كثيرا «كل» أو أنا واحدة منهن. أكدت له بأنني لا أهتم بذلك على الرغم من أنه كان يتودد إلي بين حين وآخر. كما أن الباشا بعد أن طرد من جريدته أصبح مخيفا ومتجنبا من قبل كثير من المؤسسات وكل الجرائد الوطنية وغير الوطنية بالطبع. فلعنة حرمان الصحيفة من الإعلانات لعنة تظل تطارد صاحبها في الحياة الدنيا حتى الممات، قد تلحق بنسله الميامين، إذا استطاع أن ينسل في ظل لعنته تلك. قال لي عبد الباقي بعد قليل من التفكير: أقترح صديقنا الصحفي أحمد الباشا، هو أكثر شخص مناسب لهذه المهمة.
المشكلة الوحيدة في أنه مراقب، تليفونه لا يعمل، ولا نعرف إليه سبيلا.
كان ينظر في عمق عيني، أو كنت أظن أنه كان يحملق في وجهي؛ ليعرف ردود أفعالي وتأثير اقتراحه المثير. اقترحت عليه حكمة رابح؛ هي ذات خلفية قانونية مثقفة وشديدة الجمال، وأعرف أنه يحب طريقتها في كتابة الشعر. تعمل بالمحاماة والصحافة في الوقت نفسه. اقترح هو صديقتنا دكتورة مريم الطبيبة البشرية ذات النشاط، والهمة والقلب الحنون. قد عملنا معا كثيرا، خضنا مغامرات شتى في سبيل المتشردين والأطفال، هي شخصية لا يختلف عليها اثنان. عليه أن يتصل بالباشا، علي أن أتصل بحكمة ومريم.
أمي تحرص بشدة على أن تكون علاقتها الخاصة في غاية السرية والكتمان، لا تريدني أن أشك لحظة في أن لها علاقة، قد أفسرها بأنها مشبوهة قد تقلل - حسب ظنها - من حسن صورتها عندي؛ حيث إنها تعمل طوال الوقت على أن تجعل من نفسها قديسة في نظري. من حقها ذلك، ولو أنني أرى ذلك تزييفا روحيا كبيرا، وأن عليها أن تنتبه لنداء جسدها بصورة أو بأخرى. فلقد كانت جميلة وفتية، أهدرت وقتها وروحها من أجل تربيتي بصورة لائقة، فكنت وما زلت مشروعها في الحياة، المشروع الذي كاد أن يثبت فشله، أو أنه فشل بالفعل، حسب رأيها عندما لا تكون في مزاج رائق. توفي والدي ذات صباح باكر. كنت حينها نائمة في غرفتي، أحتضن كما كنت أفعل طوال طفولتي دميتي الصغيرة التي أحضرها لي أبي من دولة أجنبية زارها، على ما أعتقد كانت فرنسا أو ألمانيا. استيقظت على صراخ النساء، جدتي، خالاتي، أمي ونساء الجيران. انتزعت نفسي من السرير، هرولت ناحية باب الحجرة، لكنها كانت مغلقة من الخارج. أخذت أصرخ وأضرب الباب بكفي الصغيرتين، أصرخ بكل ما لدي من صوت وأركل بكل قواي، إلى أن تعبت تماما، خمدت في شبه إغماء، لم يأت إلي أحد، اختفت الأصوات تدريجا، حلت محلها همهمة رجال، ليس صوت أبي من بينهم، كنت أميز صوته من بين كل الأصوات، وأستطيع أن أسمعه من مسافات طويلة. ثم جاءتني خالتي، حملتني من على الأرض، حيث تبولت دون إرادتي ... أخذتني على كتفها. كان وجهها مبللا بالدموع، وبصوتها حشرجة غير مستحبة. بدأت أصرخ من جديد مطالبة بأمي، إلى أن جاءت بعينين بنيتين غارقتين في الدموع؛ احتضنتني بقوة، قبلتني وطلبت مني أن أذهب مع «خالتو». أحسست بشيء غير عادي يحدث في بيتنا، لكن خالتي العجول هرولت بي إلى بيتها عابرة الشوارع الواسعة الساخنة وأنا على كتفها أصرخ وأرفس بقدمي. على بعد ميلين من بيتنا تركتني؛ لألعب مع بنتيها الشيطانتين صديقتي، أحبهما كثيرا، كنت أصغر منهما قليلا في العمر. حالما أنسيتاني كل شيء وأقامتا لي عرسا، زوجتاني من طفل من القصب صنعته الأخت الكبرى علياء، رقصت كعروس حقيقية، على إيقاع صينية الشاي، فأنا أحب الرقص، غنتا رقصتا، انضمت إلينا فتيات الجيران الأخريات؛ فقد كان عرسا بهيا وجميلا.
عندما عدت في اليوم الثالث لم أجد أبي في البيت إلى هذا الحين. كانت أمي تقول لي: إنه مسافر إلى مكان بعيد، ثم أخبرتني فجأة بأنه مات؛ أي ذهب إلى الجنة، كلنا سنلحق به آجلا أم عاجلا. سوف لا يأتي مرة أخرى للحياة الدنيا، هذا مصير البشر. ثم زرنا قبره مرارا وتكرارا لسنوات طويلة، صيفا وشتاء، في الأعياد وفي المناسبات العامة، كلما مرضت أو مرضت أمي، كلما بلغنا الصحة، كلما مات أحد أقاربنا، بل كلما تذكرته أمي. ثم فجأة توقفنا عن زيارة قبره، وأستطيع أن أؤرخ لذلك، منذ اليوم الذي التقينا فيه بما أسمته أمي صديقها الروائي وليد الجندي في المقابر. كان هو الآخر في زيارة لما أسماها المرحومة صديقتنا سيدة. لا أدري كيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك بعيدا عن بصري وسمعي، بينما كنت أنا أكبر قليلا قليلا، تمر السنوات علي ... عليهما ... وعلى علاقتهما مع بعض. من جانبي كنت أحس بفقدان أبي، دائما ما أرغب في أن أتحدث إليه، كان يسافر كثيرا، إلا أنه عندما يكون بالمنزل فإنه يلعب معي، يحكي لي ويستمع إلى ثرثرتي. رغم صغري في ذلك الحين كنت أتعلم منه وأسأله عن أمور كثيرة لا أذكرها الآن، لكنها تجعله يضحك من صميم قلبه، ويحملني على كتفه، يجري بي في حوش البيت. أريد من يفعل بي ذلك الآن، قد يكون هذا مستحيلا لوزني الثقيل، لكن غير المستحيل أن أجد من يحكي لي، يستمع لحكاياتي ويضحك من قلبه لأجلي.
يقول عني أصحابي أنني مترددة وغالبا ما أغير رأيي، ليس لعدم ثقة في النفس، ولو أنه يبدو كذلك، لكني كنت في صميمي أحتاج لآخر يتخذ معي القرار. أقصد أنني أحتاج فعلا لأبي في هذا الشأن، قد يرى الناس ذلك غريبا بالنسبة لإنسانة في نهاية العقد الثالث من العمر ... تخرجت في الجامعة منذ أكثر من خمس سنوات وأحبت ما لا يقل عن خمسة رجال، وتعمل في مجال حماية الأطفال والمشردين بصورة يشهد عليها مديروها بأنها متميزة وجادة. كان عبد الباقي قد عرف في وقت مبكر هذه المعضلة، وأخذ يعلمني كيف أملأ فراغ الأب، لكن المشكلة الأساسية تقع في أنه ملأ هذا الفراغ بنفسه. كان يكبرني بعشرة أعوام؛ يعني أنه أصغر من أمي بثماني سنوات. كما قلت من قبل، أمي ليست طاعنة في السن، تكبرني بثمانية عشر عاما لا غير. أمي أيضا كانت تفتقد أبي، تفتقده بشدة وبصبر. إذا كانت صريحة معي كنت أمنت لها خصوصية عظيمة، بل لساعدتها في أن تتزوج أيضا. بإمكان أمي أن تتزوج، ماذا يمنع؟!
كان وليد الجندي شخصا غامضا، هو أيضا من نوعية الكتاب الذين يصبح كل نصيبهم من الإبداع كتابا واحدا لم يكتمل، أو بضع مقالات لم تنشر بعد، ثم يقضون بقية العمر في التضجر، لوم الدهر، صب اللعنة على الحكومات، ضيق ذات اليد وفشل المشروع الوطني السوداني. في الحقيقة لم ألتق به سوى مرات معدودات طوال سنوات علاقته مع أمي؛ لأن أمي تحرص ألا تكون لي معه أية علاقة قد تقود إلى فضح تفاصيلها هي الشخصية. أمي أيضا كانت واحدة من الفريق. اقترحت أنا للفريق أن ينضم إلينا وليد الجندي ... كانوا يعرفون أنه مقرب إلى أسرتنا الصغيرة، لكنهم لا يعرفون تفاصيل علاقتنا به. رفضت أمي الفكرة في بادئ الأمر بحجة أن الفريق يجب أن يكون مختصرا بقدر الإمكان حتى لا يفتضح أمره - كما أعلنت - وهو سبب غير وجيه. كانت تضمر سببين آخرين مقنعين لم تصرح بهما. لكن عينيها برقتا سعادة عندما أقنعتها حكمة رابح بضرورة أن ينضم إلينا الأستاذ وليد الجندي، حتما سيستفيد الفريق من حسه الروائي والنقدي، حيث يشاع أنه ضليع في النقد الأدبي أيضا.
الاجتماع الأول كان في بيتنا. أنا وحكمة رابح علينا أن نجمع المعلومات عن مادة الميثانول ... كل ما يخصها من تفاصيل، معلومات مكتبية من الإنترنت عن طريق الأخ «قوقل»، معلومات ميدانية عن أين وكيف يوجد هذا الميثانول في الخرطوم، ومدى سهولة أو صعوبة الحصول عليه. هذا قد يقود إلى مصدره، بالتالي يضعنا وجها لوجه أمام المتهم الأول أو الخيط الذي يقود إلى المتهم الأول. هذا إذا كان هنالك متهم في الأساس؛ لأن من نسميهم نحن بالجماعة أو الفرقة ونتهمهم بالتسبب في قتل المتشردين كانوا هم أيضا يتهمون جهات شريرة أخرى - نحن بعض هذه الجهات - ويعملون ليل نهار من أجل القبض عليها ووضعها في ميزان العدالة، وهذا يضع كل اتهاماتنا لهم ليست سوى أوهام ويدرجها تحت نظرية التآمر، ما لم تكن هنالك معلومات جيدة، دقيقة ومؤكدة، لا توجد حقيقة. الرأي الأرجح، أقصد الوسطي في الصحافة أن أحدهم سرق مادة الميثانول معتقدا أنها أثينول وباعها للمتشردين بحسن نية، وغرضه من وراء ذلك الربح الحلال ... لا أكثر.
أمي ووليد مسئولان عن التحقيق مع وزارة الرعاية الإنسانية، وأن يتبعا في ذلك ما يستطيعان من الحيل والمكر البشري، عليهما أن يعرفا ما هو الرأي الحقيقي لوزارة الرعاية الإنسانية في هذا الشأن، وما هي الإجراءات التي اتخذتها . ويا حبذا لو تطرقا إلى سياساتها تجاه المتشردين. الدكتورة مريم وباقي عليهما متابعة التشريح الجنائي الذي حدث للجثث، وأن يحاولا من ذلك تحديد وقت تناول الميثانول. أما الباشا الذي لم يحضر الاجتماع لصعوبة الوصول إليه، فكان عليه القيام بتحقيق صحفي شامل مع إدارة شرطة أم درمان محلية البقعة، أمين عام الرعاية الإنسانية، المدير الطبي لمستشفى أم درمان التعليمي، الأحياء من الأطفال والمتشردين الذين نجوا من الموت، وبعض منظمات المجتمع المدني. قلت لأمي، على خلفية نقاش طويل عن الحب والحياة، مصائر البشر، عن الموت والجمال، أيضا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد مررت إليها عدة تلميحات عن علاقتها بالجندي، وبدا لي أنها تعاملت مع تلميحاتي بتسامح لم أعتده منها، مما شجعني على خطوة أكبر: أنا أدعوك الليلة للعشاء في سوق نمرة اتنين ومعانا الأستاذ!
سألت مندهشة: منو الأستاذ؟!
قلت لها وأنا أنظر بزاويتي عيني في أم وجهها: الأستاذ الروائي.
لم أعرف أن أمي بهذا القدر من الخجل، إلا عندما عضتني في كفي، وقرصتني بشدة في خدي مثل طفلة شقية تلعب لدميتها لعبة خشنة، وكنت أحس بها تريد أن تحتضنني وتبكي، لكن أمي لا تبكي، على الأقل لم أعتد أن أرى دموعها، لكنها حولت طاقة البكاء إلى ضحكات مجلجلات. أنا التي بكيت، بكيت بقدر ما ضحكت هي.
أمي ارتدت بنطالها الجميل الأزرق، ارتديت بنطالي الجميل الأزرق. أمي تحب قمصان القطن البيضاء الخفيفة غالية الثمن. لبست بلوزة قصيرة بيضاء. لأن أمي قصيرة بعض الشيء؛ فإنها تختار حذاءها ذا الكعب العالي الذي لديها منه الكثير المثير. الحذاء الرياضي
sport
هو الأنسب لي، يظهرني عملية، أكثر شبابا، أخف وزنا، ويريحني في سير المشاوير الطويلة. أمي تحب المشي أيضا. بقيت كثيرا أمام المرآة ... أخفت بعضا من توقيعات محن الأيام بوجهها. تستطيع أمي أن تجعل عينيها أكثر اتساعا بل ضعف حجمهما الحقيقي عندما تحيطهما بقدر زائد من الكحل في زوايا تحددها بدقة. أنا تعلمت منها فن وضع الكحل ولو أن مقلتي خلقتا جميلتين، تماما مثل عينيها. ساعدتني في تصفيف شعري، كما تفعل منذ أن نبت لي شعر في رأسي، فهي لا تثق في إمكاناتي في تصفيف شعري، دائما ما تتهمني بالعجلة والإهمال، وأنني أتعامل مع شعري كما أتعامل مع حذائي، ودائما ما تلومني على التدهور الذي أصابه نتيجة لذلك. لكن الأغرب في الموضوع أنها لا تؤمن بغير طريقة واحدة لتصفيفه، طريقة جعلتني أبدو في هيئة واحدة
LOOK
منذ ميلادي إلى اليوم: خصلتان كبيرتان طويلتان تنحدران إلى نهاية العنق. تقول أمي: إنهما في الماضي كانتا تصلان إلى منتصف ظهري، لولا أنني تمردت عليها مرتين وذهبت للكوافير مع صديقاتي: يوم تخرجي من الجامعة، ويوم ميلادي العشرين.
عطرتني ... أبدت ملحوظة غامضة حول شفتي، قالت: إنني يجب أن أتزوج بأسرع ما يمكن، إنها تريد أن ترى أحفادها قبل أن تموت. ذكر الموت هنا وهي في كامل زينتها، سابحة في عطر برادا
BRADA
المحبب لديها، المقصود منه إثارة الشفقة والتخويف، قد يعني أيضا أنها تريد أن تتزوج، وعزوفي عن الزواج هو عقبتها الكأداء، من يدري؟
روح الخشب
أخذت حكمة رابح تستعرض علينا بصورة دراماتيكية، المعلومات التي تحصلت عليها - في الحقيقة شاركنا جميعا في الحصول عليها - عن الميثانول. ابتدرت العرض بمقدمة طويلة مرحة، لا أظننا نحتاج لكتابتها هنا؛ لسبب واحد هو أن مقدمتها تطرقت لما اعتبرناه هدفا إستراتيجيا لا يمكن الإفصاح عنه. لذا، سنبدأ من هذه الجملة، وعذرا لبترها: ... ثم استطاع العالم روبرت بويل بعد تجارب كثيرة فاشلة عزل الميثانول النقي عن طريق التقطير الإتلافي للخشب؛ أي حرق الخشب، وتقطيره بمعزل عن الهواء، وذلك في عام 1661، أطلق عليه روح الخشب. في الحقيقة لم يكن هو المقطر الأول للكحول، فقد سبقه العلماء العرب بسنوات كثيرة، ذكر الرازي تلك المسألة في كتاب «الأسرار». الميثانول مثل رصيفه الأثينول «العرق» ينتميان إلى فصيلة «الكحول» - وهي كلمة عربية الأصل نقلها عالم سويسري للغات الأخرى بذات أصلها - في عام 1834 تم تكوينه كعنصر كيميائي وأخذ يعرف باسم الميثلين، ثم عرف باسم الميثيل، ذلك في سنة 1840 ولم يعرف باسم الميثانول إلا في 1892، أقيم أول مصنع لإنتاج الميثانول في 1923 في ألمانيا. «سنتجنب أيضا فقرتين طويلتين عن أسماء المصانع التي شيدت بعد ذلك والترتيب الزمني لها، وأيضا سنغض الطرف عن عشرين اسما لعلماء طوروا صناعات خاصة بالميثانول والأثينول؛ لأسباب غير فنية ولكنها خاصة بموضوع الرواية.»
نتيجة لقدراته الكبيرة في التفاعل مع العناصر الكيميائية، يعد الميثانول أحد العناصر المكونة للكثير من المركبات الكيميائية والمنتجات ذات الاستخدام اليومي، ويمكن استخدامه لأغراض كثيرة، بما في ذلك الصناعية، مثل:
صناعة اللدائن.
صناعة الأسبرين.
صناعة الألياف.
صناعة السليكون.
صناعة مطاط اليوتيل.
المبيدات الحشرية.
دباغة الجلود.
الصناعات البتروكميائية.
إنتاج ألياف البولي استر.
صناعة علب الأغذية والمشروبات وغيرها.
ويستخدم الميثانول في كثير من دول العالم الأكثر فقرا في غش الخمور؛ حيث إنه أرخص بكثير من الأثينول. له تاريخ طويل من القتل والتسبب في حالات العمى، تليف الكبد، إتلاف خلايا الجسم، التهاب البنكرياس، وغير ذلك من كوارث بشرية مؤلمة.
أما صنوه الأثينول فيدخل في صناعة الخمور المتنوعة. ويستخدم كوقود حيوي، قد يحل محل البترول على خلفية ارتفاع أسعار النفط، على الرغم من أن له آثارا سالبة على البيئة لا تقل عن الوقود الأحفوري، بل قد تكون أكثر ضررا؛ نسبة لسهولة امتصاصه في التربة ومزجه بالهواء، وسهولة تفاعله مع عناصر كيميائية وعضوية أخرى.
لكن المعلومة الأكثر إثارة هي التي تحصلنا عليها من العم «قوقل». فقد كتب صحفي ساخر نفضل عدم ذكر اسمه: في 11 يونيو 2009 افتتح مصنع لكحول الأثينول «العرقي البكر» وهو أول مصنع لإنتاج الأثينول بأفريقيا، بالتالي الأكبر حجما. أنشئ بخبرات برازيلية لها باع طويل في تقطير الخمور. وتشجيعا لهذه الصناعة المباركة تم إعفاؤها من الرسوم الجمركية، كل أنواع الضرائب، الزكاة والعشور. ينتج مصنع كنانة 65 مليون لتر سنويا وطاقته القصوى تعادل 200 مليون لتر في العام، بذلك يعد السودان أكبر الدول المنتجة للأثينول الذي يتم تصنيعه من مخلفات قصب السكر والمنتجات المصاحبة لإنتاج السكر مثل المولاص، في مصنع كنانة العملاق ... ينافس بذلك دولة البرازيل صاحبة أكبر مخزون منه في العالم. يغزو الأثينول السوداني اليوم السوق الأوروبية المشتركة ، يفضل الأوروبيون إنتاجه في دول أفريقية بائسة فقيرة؛ نسبة للمشاكل البيئية والاقتصادية المصاحبة لإنتاجه، فيستهلك إنتاجه 7٪ من الحبوب الخشنة في العالم، و9٪ من الزيوت النباتية عالميا، 2٪ من الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل، وتعده منظمات عالمية من المنتجات التي تهدد بصنع ندرة غذائية في العالم، بالتالي يطلقون عليه المنتج الإجرامي. السوق الأوروبية المشتركة أكبر المستوردين للأثينول السوداني.
لا بأس أن نسهم كسودانيين في «تظبيط» الأمزجة الخواجاتية الراقية، ونعمل بصورة فاعلة في تنشيط الأخيلة وهياج حالات العشق الأوروبي الرزين الأكثر فسقا وجمالا أيضا. ولا أظننا سنخسر شيئا إذا زدنا من حوادث السير والجرائم الخفيفة التي يفتعلها السكارى العاديون بنسبة ضئيلة لا تكاد تحسب. قد يلهم خندريسنا الطيب شعراء مغمورين في تأليف قصائد عظيمة، لا تقل جمالا عن «الأرض اليباب» أو «أوراق العشب» أو كتابة روايات في عظمة «أطفال منتصف الليل». كما أن هذا الخندريس الطيب سيزيد الصادر السوداني بنسبة 10٪ بذلك يتحسن الميزان التجاري الوطني ... خاصة أن الموازنة السودانية العامة قد فقدت 90٪ من مواردها بانفصال الجنوب ببتروله وموارده الغابية، وهما البقرتان الحلوبتان اللتان أرضعتا البلاد التي تعاني من سوء تغذية منذ الاستقلال إلى أعوام كثيرة قادمة بإذن الله. (هنا سنضطر إلى حذف بعض الأرقام وجداول الكميات التي توضح كمية الصادر السوداني من الأثينول للسوق الأوروبية المشتركة، كما أننا سوف لا نتطرق للمسائل الاقتصادية البحتة، مثل: الميزان التجاري، التحويلات الائتمانية والنمو الاقتصادي الخاص بمسألة التبادل التجاري المحدد مع السوق الأوروبية المشتركة، يمكن الحصول على ذلك عن طريق معامل البحث «قوقل».)
أمي ذكرتني بأمر مهم. وهو أن صناعة الأثينول في السودان تجذرت عميقا في المجتمع السوداني، لكنها بدأت بقدماء النوبة الذين يستخدمونه في شكله الخام في التحنيط، العلاج والنظافة، وذلك قبل آلاف السنين. ثم دخل مرة أخرى كخمور أكثر نقاء عند اتفاقية البغض - البغط - التجارية، التي وقعت ما بين جدودنا النوبة والعرب المسلمين، الذين جاءوا بقيادة عبد الله بن أبي السرح، في محاولتين فاشلتين لاحتلال بلاد النوبة الغنية بالذهب والعاج؛ حيث إنه من بنود الاتفاقية أن يقدم العرب المسلمون إلى النوبة الوثنيين قدرا كبيرا من الخندريس «الأثينول» وقناطير مقنطرة من العدس والتوابل سنويا، مقابل بعض ما تنتجه بلاد النوبة من خيرات. ولم ينقطع تصنيع الأثينول بعد ذلك محليا، فالنساء العربيات المهاجرات لأرض السودان بحثا عن المراعي وهربا من الجفاف، كن الفداديات الأوائل؛ حيث إن آلاف اللترات تصنع يوميا عن طريق حفيداتهن الوريثات الحديثات للتقطير، وهن صانعات: عرق البلح، العيش، الجنزبيل، الجوافة والمولاص. والعرق كما يعرفه الجميع عبارة عن الأثينول مضافا إليه الميثانول. الفداديات الخبيرات يستطعن أن يفصلن بين الاثنين، وذلك في مراحل التقطير المختلفة؛ حيث يطلقن على الأثينول النقي الأكثر قيمة اسم: العرق البكر، السكوسكو، أو السيكو، تيمنا بتلك الساعة السويسرية الجميلة الأنيقة الدقيقة، وهو ينتج أولا عندما تصل درجة حرارة المادة موضوع التقطير 73، ثم بعد ذلك ينتج العرق التني؛ وهو الميثانول والأثينول مختلطان معا، مع كثير من الشوائب والغازات بعضها سام جدا.
حكت لي والدتي قصة غريبة وقعت بين قاض وشرطيين ومقطرة أثينول بلدي؛ حيث قبض على امرأة ذات حملة شرطية ضد المشروب الأكثر جماهيرية لدى الندماء في السودان، وجد عندها الشرطيون النبهاء الأتقياء الناهون عن مثل هذه المنكرات والآمرون بالمعروف، زجاجتين من العرق السيكو؛ أي الأثينول النقي. قدمت للمحكمة، معها المعروض من الخندريس. كانت الفدادية من الذكاء بحيث إنها تبينت أن لون العرق المعروض أمام القاضي مختلف عما هو في الواقع، وظنت أن ما يعرض الآن أمامها ليس هو العرق السيكو الذي أنتجته بيدها الماهرتين وبخبرة عشرين عاما، وقبل أن ينطق القاضي المتعجل بالحكم قالت له: ممكن كلمة يا مولانا؟
قال لها من خلف نظارته السميكة، وقد ترك العبث بالقلم في الأوراق الداكنة اللون: تفضلي يا ميمونة، إذا كان عندك كلام، قوليه. قالت له وهي تشير إلى قارورتي العرق اللتين تقبعان في ركن قصي من المحكمة: العرقي ده ما حقي.
فانتهرها الشرطي الشاهد ومحرر البلاغ بأن هنالك خمسة شهود آخرين سوف يحلفون قسما على المصحف: ورقة ورقة وآية آية، على أن هذا العرق قد تم ضبطه في بيتها وبحضورهم شخصيا وحضورها هي ... شهاداتهم مسجلة، قرأها القاضي. قالت له بعدما انتهى من تلاواته: أنا اسمي ميمونة سكوسكو يا مولانا! وخوفا على سمعتي يا مولانا واسمي؛ ما بعمل عرقي زي ده بدون مؤاخذة يا مولانا.
مشيرة إلى القارورتين الحزينتين القابعتين في ركن قصي من المحكمة تنتظران تنفيذ الحكم الرادع عليهما وعلى سيدتهما.
قال لها مولانا بحكمة، وهو يعطيها انتباه عدالته كله: ما فاهم، ممكن تشرحي أكتر؟
قالت له، وهي ترمي ساعديها المثقلين بالذهب الفالصو في الهواء. فيصدران شخشخة خشنة مثل كشيش جرس صدئ: العرقي الأنا بعمله يا مولانا. إذا كشحته ما بيصل الواطا بيتبخر في الهواء قبل ما يصل الأرض، وإذا أشعلت فيه قشة كبريت يولع زي السبيرتو والعالم كله عارف الكلام ده، وجربه يا مولانا. أنا العرقي بتاعي يا مولانا يولع الرتينة.
وأمر القاضي الشرطي باختبار العرق، لم يتبخر لم يشتعل، لم تكن به رائحة العرق المتميزة، بل كان ماء نقيا طهورا حلالا، صالحا للشرب الإنساني، لا مذاق، لا لون، لا رائحة، لدرجة أن القاضي بلع منه بقة كبيرة استقرت في معدة جلالته بكل سلام وبركة، فقام حضرته بشطب البلاغ ضدها على الفور، وطالب بتحرير آخر في حق الشرطيين اللذين قبضا عليها، بتهمة تزييف الأدلة، وهو يقصد بينه وبين نفسه: تهمة شرب العرق، وهي تهمة يصعب على الادعاء إثباتها ويستحيل على المتهمين الشرطيين نفيها!
الفقيه المتشرد
أمي تحبني أو هذا هو خيارها الوحيد، فليس لدي إخوة أصغر أو أكبر يقاسمونني حبها، كنا أنا وهي فقط في هذه الحياة. أنا أيضا أحبها، هذا لا يمنع الشجار اليومي الذي يجري بيننا واختلاف وجهات النظر في أشياء جوهرية ومهمة. مشكلة أمي لا تتحمل السرعة التي أغير بها رأيي في القرارات التي قد أكون اتخذتها بكامل وعيي وإرادتي. والشيء الآخر هو أن أمي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة تخصني بل الأشياء التي تخصني وحدي، كتصفيف شعري أو فرده، تعاملني كطفلة غير راشدة، هذا هو السبب المباشر الذي يوتر العلاقة بيننا . قد كنت أصر على أن يبقى بقا الليلة في البيت، أن يبيت بالديوان، وجهة نظرها ألا يبقى رجل مع سيدتين لا تربطه بهما وشائج شرعية: يقولوا الناس علينا شنو؟ - أنا يا أمي لا أهتم بما يقول الناس.
ترد مستخدمة طريقتي نفسها، مع التأكيد على كلمتي أهتم والناس، ربما نطقتهما مستخدمة أسنانها: لكني يا سلوى، أنا أهتم بما يقول الناس.
قلت لها همسا: نحن ماشين نشوف المتشردين في الحديقة، وحنجي وننوم هنا في البيت، والبيت ده بيتك زي ما هو بيتي وبيت أبوي.
قالت بكل برود، بذات درجة الصوت الهامس في أذني، وهي تقبض على رأسي بشدة كأنما لو أنها أطلقتني سأهرب قبل أن تكمل جملتها: أبوك لو كان عارف بنته بتطلع زيك قليلة أدب كان «قتلك»، قتلك قبل ما يموت.
قلت لها، قد ملئت غيظا: كويس، أنت ليه ما قتلتيني؟!
قالت وهي تحملق في عيني: أنا لا أقتل الذباب والحشرات.
لحسن الحظ عبد الباقي لم يكن قريبا ليسمع شتائمنا، كان بالديوان وكنت وأمي بالمطبخ، عندما تصل أمي لهذه المرحلة من إطلاق الشتائم أفضل الانسحاب؛ لأنني لا أستطيع أن أحمي نفسي من أسلحتها الشريرة التي تبدأ بالقذف بآنية المنزل، لا يعلم غير الله ما يكون آخرها!
خرجنا - أنا وبقا - استقللنا المواصلات العامة من بحري المحطة الوسطى إلى ميدان الشهداء، إلى الحديقة. عبرنا أمام بيت جدنا الخليفة عبد الله التعايشي، لم تكن لدينا - الاثنين - رغبة في ممارسة الجنس، ولو أن كلينا نظر إلى البيت الأثري الجميل في تشه، كان يشغل جسدينا وروحينا الأطفال والمتشردون المعرضون للتصفية. حيانا الرسميون الذين يحرسون بوابة بيت الخليفة. قد تكون القطط سعيدة الآن في حجرتنا، قد تتوسد مخداتنا ولحافنا اللذيذ. كانت الحديقة المهجورة صامتة كعادتها، دخلناها بحيث لا يرانا أحد، خاصة رجال الشرطة. لم نجد الأطفال الآخرين. شممنا رائحة الجثة المتعفنة منذ ولوجنا حوش الحديقة، عندها أصررنا على الدخول سريعا. كانت الرائحة تجذبنا للداخل على الرغم من أنها لا تطاق. وجدنا جثتين لطفلين آخرين متعفنتين ، في الحجرة شبه المظلمة، تحرسهما جيوش من الذباب والجرذان، كان طنين الذباب مرعبا. ونحن نتعمق في الحجرة المهجورة وجدنا آخر يحتضر يطلب الماء، بين حين وآخر يردد في صوت حزين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
صلى الله عليه وسلم . يرتل سورة من القرآن لم نتبينها، لكننا كنا متأكدين أنه يقرأ سورة ما. يطلب جرعة ماء، ثم يردد الشهادة مرة أخرى. كان شبه مشلول ... شبه ميت ... شبه نبي ... شبه إنسان!
بغير أي تحفظ، في لحظة واحدة حملناه خارج المكان، أنا من جهة الرأس، باقي من جهة الساقين. كان ثقيلا، طويلا كث الشعر، باردا وثرثارا مثل ببغاء. أحضرنا له ماء، رفع رأسه، نظر إلينا، قال بصوت متحشرج: عايز آكل، أنا جيعان حاموت من الجوع.
أصابتنا الحيرة البالغة في أسلوب التعامل مع حالته، كان الخوف هو السيد الأساسي والوحيد للموقف. العفنة تطل علينا بعنقها القذر من داخل الحجرات، شبح الجثث يطاردني ... يرتسم في كل شيء أنظر إليه. كانت عيونهم البارزة للخارج تحملق في طوال الوقت ... أصبت بحالة من الغثيان. المتشرد الطويل يثرثر في همس غير منقطع، يقرأ ما يمكن أن نطلق عليه كلاما مقدسا ... وهو يحتضر في صورة دراماتيكية. يرجونا بإصرار إنساني ومحبة في البقاء عنيفة، أن ننقذه! نخاف أيضا على أنفسنا من السجن والمساءلة؛ حيث بالإمكان أن تلفق في حقنا أي من التهم ذات المعيار الثقيل. كنا كما هو واضح ومعروف أننا نخشى من فرقة الموت. لم نرهم ... لم نحتك بهم، لكنهم كانوا دائما ما يفيخون في وعينا ويشعلون عشب المخالفات في ذواتنا ... نتخيلهم يطوفون حولنا مثل فريق من الشياطين. إنهم دائما موجودون في مكان ما في الوعي أو خارجه. إذا كان لدينا المال لكان تصرفنا مختلفا، فالمال - كما يقولون - نوع من التفكير. كنا في قارعة الطريق ويسهل القبض علينا؛ لأن الجثة التي لا تكف عن الثرثرة ترقد ممددة على الأرض في وضع شاذ ومفضوح. قمنا بتغطيتها بجوال فارغ من الخيش عثر عليه عبد الباقي في المكان . قبل يومين أقام بعض السياسيين الرحماء مأتما للعزاء في بيت كبير وثري، تحدثوا فيه عن المتشردين بحب وعاطفة جياشة. قد بكى البعض على الظلم الذي حاق بهم وحقهم المسلوب في الحياة الكريمة. كنا هناك، تعرفنا برجل ذي مال وعاطفة، رجل شحيم بدين نظيف، تفوح من جوانبه فابريقات كرستيان ديور، قال لي إنه سيقدم لنا كل ما يستطيع من مساعدة طالما كنا نخدم المتشردين طواعية: أنا مهتم شديد بموضوعهم، لا بد من تصحيح وضع المتشردين في السودان.
قمت بالاتصال به عبر جواله، جاء صوته هادئا منسابا رقيقا من الجانب الآخر، بلغني شوقه في كلمات عشر ثقيلة، وأنه سأل عني كثيرا، وفي باله محاولة مبيتة للاتصال بي ودعوتي لوجبة في مكان سوف أختاره بنفسي. لم يسألني لم اتصلت به، ولم يعطني فرصة لقول ما أريد قوله، إلى أن نفد رصيدي القليل جدا من الدفع المقدم وانتهت المكالمة إجباريا. لكنه اتصل بي مرة أخرى سريعا قائلا: إنه سيدخل في اجتماع بعد قليل مع مسئول كبير، سينتهز الفرصة ويناقش معه موضوع المتشردين، سيتصل بي لاحقا، ربما بعد الاجتماع مباشرة: تسلمي يا ستي، باي باي!
أخذ منا سائق التاكسي كل ما لدينا من نقود، وهي ليست كثيرة. أمي كانت أكثرنا حركة وقلقا على صحة المتشرد المريض، واتبعت معه طريقة للإطعام تقول: إنها الوحيدة التي تنفع مع شخص لم يتذوق الطعام منذ أيام. كل ما يعاني منه كان ألما في المعدة حادا ... أعطيناه جرعة كبيرة لا نعلم مقدارها العلمي من الفلاجيل، وهو الدواء الذي نتناوله في البيت لكل الأمراض التي تصيبنا في الأحشاء؛ حيث إننا لا نستطيع أن نفرق ما بين ألم المعدة، ألم المصران، والمغص الكلوي. صنعت له أمي كوبا كبيرا أيضا من الحلبة. سألناه ما إذا كان يشعر بصداع؟ قال: إنه يريد أن يأكل لا أكثر. التهم كل ما يستطيع بلعه مثل تمساح بشري. أعطته أمي إحدى جلابيب أبي، بعد أن استحم جيدا. رمينا بلباسه، بنطاله وفانلته الداخلية الممزقة التي تفوح منها رائحة نتنة بعيدا ... تم استبدال كل شيء. كان شابا وسيما نحيفا تبدو على وجهه بعض التقرحات بفعل المرض أو الشجار اليومي ... عيناه ضيقتان محمرتان ... كان يبتسم بصورة متواصلة حتى ظننا أنه أبله. قال إنه لم يتناول الأسبرت أو أيا من المخدرات في حياته، ليس حتى التمباك والسجائر. وقال إن والده أودعه خلوة في ضواحي كردفان، وأنه هرب منها وعمل مساعدا في شاحنة لوري إلى أن وصل أخيرا إلى مدينة أم درمان، التي كان يعلم أن بها أحد أقاربه. بحث عنه ولم يجده؛ لأنه كان يظن أن ذلك سهل، فأم درمان في مخيلته لم تكن سوى قرية كبيرة. وهكذا بات يومها في الطرقات ثم يومين ... إلى أن أصبح بلا نقود. ثم تعرف على أطفال ورجال وبنات الشوارع، ثم صار واحدا منهم. هو الآن زعيم لكل المجموعة التي تقيم حول موقف الشهداء وعمارة المتشردين، قد حصل على شهرة عظيمة في المعركة التي دارت بين مشردي سوق أم درمان ومشردي الشهداء؛ حيث كان أول من استخدم النبلة في مثل تلك المعارك. يسمونه: «الفكي»؛ لأنه كان الوحيد بين كل المتشردين الذي يحفظ بعض سور القرآن ويعرف كيف يتوضأ، ولو أنه لم يتوضأ أو يصلي في حياته كلها. كان يصنع التمائم والأحجبة لأصحابه، ويعرف كيف يلقن الشهادة للمحتضرين منهم؛ حتى يموتوا على ذمة الإسلام ويدخلوا الجنة. كانت بساقه اليسرى علامة لجرح كبير ... بل قطع بسكين أو آلة حادة، تجنب الخوض فيما هو وراء ذلك الأثر.
في الحقيقة أنا لست خالية ذهن تماما عن ماهية هذا الفقيه المتشرد، فعملي في مجال المتشردين جعلني أعرف الكثيرين منهم شخصيا وأسمع عمن لم ألتق بهم، وخاصة إذا كانوا ذوي سمعة متميزة وخطرة مثل هذا الفقيه المزيف، الذي يرقد في ديواننا الآن بعد أن نجا بحياته وألف قصة روت كيفية وصوله إلى أم درمان طازجة قبل قليل. ربما تكون هي قصة متشرد حقيقية رواها له في يوم ما. هذا الذي يعرف بالفكي أخطر متشرد مر بمدينة أم درمان، مغتصب، سارق، كاذب، قاتل ، وعلى ذلك كله يمارس الدجل والشعوذة. كان بقا أيضا قد تبين أننا قد أنقذنا حياة متشرد كبير، زعيم لا يشق له غبار، رجل صال وجال في شوارع المدن الثلاث. الشيء المحير فعلا هو أن متشردا بكل تلك السمعة لم لم يحاول أن يغير من واقعه شيئا، وكيف حاصره الموت في ذلك المكان المهجور العفن؟! إذن، هل صحيح ما قاله إنهم كانوا يقصدونه هو بالذات: ليشنو (لماذا)؟
لأي مدى يمكن الاستفادة منه في مشروع التحري؟ عندما مشي على قدميه، بعد أسبوع بأكمله حيث لاحظنا أنه يمشي بعرج طفيف نتيجة لقصر في رجله اليسرى. لاحظنا أيضا أنه أطول بقليل مما رأيناه في بادئ الأمر وأكثر نحافة، بجسده ندب صغير، جروح متعددة مبعثرة في وجهه وكتفيه. لكنه تحدث بفصاحة قبل أن يتمكن من المشي بأيام كثيرات، أقصد منذ اليوم الأول؛ حيث إنه استطاع أن يثرثر ببراعة مع أمي، وباءت محاولاته بالفشل في إقناعها بأنها مريضة نتيجة عمل شرير فعل بها، وأنه «فكي» عالج ويعالج المرضى عن طريق القرآن، ورتل عليها سورة يس من ذاكرته. أمي، أنا وبقا كنا نعرف أنه إنما يريد أن يقدم شيئا لنا ولأمي بالذات مقابل رعايتها المتفردة له ... لم ينج أيضا من تهمة التكسب. أمي تفعل كل شيء بحب، تقول: إنها لا تقوم بعمل أي شيء ما لم تشعر بالحب.
تمشى قليلا، احتسى قهوة طيبة صنعتها له أمي. قال وهو يضغط بكف يده اليسرى، على عنقه النحيف الذي تغطيه شعيرات الذقن الكثة، إنه يريد أن يقول لنا الحقيقة وراء حياته. لقد كذب علينا في بادئ الأمر، وحكى لنا حكايات سمعها من بعضهم، وهي الحكايات الرسمية وراء كل متشرد، يحكونها للشرطيين وللقضاة إذا مثلوا أمامهم في محكمة، للباحثين الاجتماعيين وموظفي المنظمات العاملة في المجال. - أنا بخاف من الناس، لكن أنتو ناس طيبين أنقذتوا حياتي.
أنجبته أمه على مسطبة خلف مباني السينما الوطنية بالخرطوم بحري قبل ما لا يقل عن ثمانية وعشرين عاما - وهذا بالتخمين - بعد انتهاء العرض السينمائي بقليل، قبل أن يغادر رواد السينما شارع السيد علي الميرغني. لقد شهد ميلاده مئات الأفراد ... كان ميلادا طليقا وحرا، على الهواء مباشرة، تماما مثل ميلاد الحملان! تبرع ممرض رحيم - كان قد صحب حبيبته الجميلة للسينما عرض في هذا اليوم - بقطع حبل السرة والتخلص من الملحقات المصاحبة للولادة. أرضعتني أمي في الفور، هكذا كانت تقول له دائما: أنت مولود جيعان! حتى آخر مرة رآها فيها، كانت تكرر له الجملة نفسها، وسيظل جائعا طوال عمره؛ لأن كلبا ضالا قد أكل المشيمة خاصته ... خطفها من قرب أمه الدائخة التي كانت تنوي أن تقوم بدفنها عند باب السينما متى ما أفاقت من خدر الولادة. على الرغم من أنه كان أول المواليد، إلا أن أمه في ذلك الوقت عمرها اثنا عشر أو ثلاثة عشر عاما، لكنه يصر على أن عمرها كان ثماني سنوات أو أقل. دكتورة مريم أكدت لنا أن ذلك مستحيل لأسباب علمية؛ حيث إن الرحم لا يكون قد اكتمل عند الثامنة. الشيء الآخر والأهم هو: من عرفه أن أمه كانت في الثامنة؟ كيف عرفت أنها في الثامنة؟ لقد شاهد بأم عينيه طفلات صغيرات في أقل من الثامنة من عمرهن يمارسن الجنس في الأوكار ومجاري مياه الخريف باستمتاع، بل يمتهن الدعارة ويكسبن منها الكثير، وإنهن يحبلن ويلدن ويرضعن أطفالهن! هو نفسه قد مارس الجنس مع بعضهن، ليلا ونهارا، في الأجحار والأوكار وقارعة الأزقة الخالية من المارة في منتصف الليالي المظلمة، أينما اتفق وصادف أن اختلى بواحدة منهن. لقد حكى لنا فيما بعد أن أمه ذاتها ولدت في أحد شوارع أم درمان من أم طفلة، أنجبتها ثم ماتت مباشرة بعد ميلادها ... وهذا قضاء وقدر لا أكثر. إذن، من عرفها بتاريخ ميلادها؟ ولو أن هذا المنطق أيضا يمكن الرد عليه وتفنيده بكل بسهولة. تربى في كل الشوارع بدون فرز. يعرف كل الأمكنة بالعاصمة ذات المدن الثلاث بأسمائها، يحفظ تاريخ كل مبنى، حديقة، حفرة، وكوشة، بل يستطيع أن يقول: إن أول مالك عربة في الشارع الفلاني كان اسمه فلان الفلاني! هذا الرجل النحيل الطويل ذاكرة للمكان لا يستهان بها. ثم حدثنا قائلا: أنا أول زول باع الأسبرت في الخرطوم للشباب. وحياتي ما شربته ... قلبي أباه كلو كلو (نهائيا) ريحتو بتعمل لي طمام. أنا لا أدخن ولا بشم ولا بسكر بس لو ربنا هداني من الشغل داك! تاني ما عندي مشكلة.
سألته مستفسرة: الشغل داك شنو؟
قال دون إحراج وهو يبتسم وينظر إلي في وقاحة: اللقو!
واللقوية هي كل ما يمكن أن يمارس معه الجنس وتطلق على المذكر والمؤنث ... على امرأة، رجل، أو حيوان. وهي مفردة شائعة في لغة المتشردين المسماة بالرندوك. ويستخدمها أيضا أنصاف المتشردين وبعض العاملين في الأسواق والمهن الهامشية، ونحن الناشطين مع المتشردين.
قال إنه حفظ كل الذي حفظه من القرآن من صلاة الجمعة وبعض القراء العرضيين الذين يوجدون هنا وهنالك، يقرءون القرآن وينتظرون الناس أن يضعوا في مواعين فارغة أمامهم بعض المال، مال يتراكم يوما بيوم إلى أن يصبح في يد البعض ثروة طائلة: في واحد بنى بيتا وعنده عشرين ركشة!
كان بإمكانه أن يصير شحاذا من تلك الفئة القرآنية التي تثري بسرعة، إلا أنه لا يمكنه أن يكون طاهرا طوال الوقت، والقرآن يحتاج لطهارة. اعترف فيما بعد أنه عمل في مهنة شحاذ قارئ للقرآن لما يقارب الشهرين على أسوار الجامع الكبير بالخرطوم، لكنه أصيب باللعنة وبدأ جسده يصدر رائحة أشبه ببول الكلب، كبر القمل برأسه حتى أصبح في حجم الصراصير، قد بصق في مرات كثيرة ديدان كبيرة في حجم الأصبع من فمه، وأقسم أن ثعبانا حيا خرج من دبره. عرف أن ذلك حدث له؛ لأنه كان يتلو القرآن في نجاسة، وهو لا يستطيع أن يتحكم في أمر نجاسته؛ لأنه لا يستطيع التحكم في ممارساته الجنسية الضالة. في اعترافه المشين للسمعة الإنسانية، قال: إنه يمارس الجنس مع كل الأنواع، نساء ورجالا، أطفالا وطفلات وبعض الحيوانات الأليفة مثل الكلاب والمواشي، قد لخص عبد الباقي ذلك قائلا: مع كل ذي دبر!
كان يستطيع أن يحفظ كل ما يسمعه دون أن يعرف ماذا يعني ذلك عن ظهر قلب! واختبرناه. أخذ يكرر لنا كلاما علميا قالته دكتورة مريم - بنسبة ثمانين بالمائة - وكأنه محاضر جامعي في علم الأحياء الدقيقة، أو ببغاء آدمي كبير. أسمعنا من الذاكرة مباشرة - هو لا يقرأ ولا يكتب - خطبة صلاة جمعة كاملة. كنا نكتشف فيه شخصية غريبة ومدهشة لإنسان إذا كان قد وجد قليلا من الرعاية والإرشاد النفسي؛ لأصبح اليوم شخصية مختلفة، على الأقل فقيها دينيا، أو كما قالت دكتورة مريم: خطيبا سياسيا ماهرا. أضافت: إن هذا الفكي قد يكون ذكيا جدا أو في غاية الغباء، من يدري؟! ابتدرنا الحوار في موضوع الإسبرت، ونحن قد تعبنا من حكاية بطولاته التافهة، التي نعدها نحن غير إنسانية وفي غاية الوحشية والقرف.
مصادر الأسبرت (الأثينول) كثيرة ومتعددة. قال: أهمها: دكاكين تركيب العطور.
قال له بقا مؤكدا: نعرف هذا المصدر.
قال وهو ينظر في عمق عيني بقا، وفي فمه ابتسامة مربكة: ستات العرقي!
قال له بقا: نعرفهن برضو.
قال: الأسطى! - من هو الأسطى؟ - اسمه الأسطى. - وتاني؟ - ما عنده اسم. - وتاني.
قال: الصياغ بتاعين الدهب والفضة. - وتاني؟
قال: أمي. - أمك؟ - أيوا ... أمي، يجيبه ليها الأسطى براو «بنفسه». - وتاني.
قال ضاحكا: أنا.
كان يبتسم كثيرا، بصورة حسبناها في بادئ الأمر مرضية، لكننا قليلا قليلا تعودنا عليها وفهمنا أنها ليست سوى حيلة لتلطيف اللغة الخشنة التي يعبر بها عن الأشياء. يحب أن يتحدث عن كل شيء ... يخاف من شيئين: الموت والشرطة. وهو في ذلك مثلنا جميعا. إلا أنه اعترف لنا طواعية بجريمتي قتل قام بهما وعشرات جرائم الاغتصاب. وهو لا يسميها اغتصاب، بل يطلق عليها سيطرة، وقال: إنها سنة الحياة؛ راكب أو مركوب!
في الحقيقة استخدم الفكي كلمتين بذيئتين تافهتين وهما: «ظاعط أو مظعوط»، لكننا استبدلناهما بتلك الكلمتين المحترمتين مراعاة منا للذوق العام وحساسية المصنفات الأدبية المفرطة وخصوصية الشعوب الرسالية الطيبة، مثل شعبنا السوداني. على كل، الفكي يفضل أن يكون الأول، لكن في ظروف كثيرة في هذه الشوارع اللعينة المظلمة، وخاصة في صباه الباكر ، كثيرا ما كان الثاني! - والمشكلة شنو؟
والآن يبدو أننا تعرفنا على خمسين مصدرا للميثانول والأثينول في المدن الثلاث ... الخرطوم، بحري وأم درمان. والفكرة الحكيمة التي أتت بها أمي هي أن نصطحب الفكي معنا لنرى أمه ونتحدث معها بشأن الأسطى. من اسمه يبدو أنه ذو أهمية بالغة، وظننا أنه مفتاح اللغز. بعد أن اشترينا له ملابس جديدة وحذاء جديدا جميلا ... أخذناه للحلاق الذي قام بإزالة شعر ذقنه ورأسه كله حتى ينمو له آخر خال من بيض القمل والبراغيث، وحف شاربيه بعد لأي، فالشاربان دليل الرجولة. قام بنفسه بنظافة جسده الشخصية ... تعطر جيدا وخرجنا. كان يمشي بسرعة أمامنا، وهو يتحسس ملابسه من وقت لآخر ... يبتسم لنا ابتسامته المريبة تلك. عبرنا أزقة كثيرة في سوق أم درمان. كان يتوقف فجأة عندما نمر بمزبلة كبيرة. وكم مرة منعه بقا من تناول بعض المرميات على الأرض! كان يقول أنه يفعل ذلك دون شعور منه ... وأن رائحة المزبلة تجذبه إليها. للمزبلة رائحة متميزة ورحيمة، أستطيع أن أشم من بعد كاف رائحة ما يمكن أكله وهو مرمي بإهمال في كومة الأوساخ ... لولا هذه المزابل الرحيمة لماتت أمم من البشر. كنت أتوقع أن تقع عيني على أمه بين وقت لآخر ... في ركن ما ... في زاوية ما من الطريق، لكنني لم أنتبه إلى أنه لا يوجد متشردون في الشوارع. أم درمان في هذه الأيام أصبحت مثل مدينة فاضلة، خالية من الشحاذين، المتشردين، والمتسكعين الكثيرين الذين كانت تذخر بهم وتجمل وجهها الفقير الخشن بسحنتهم البائسة! في حقيقة الأمر، المدينة نفسها مثل متشرد مهمل فاقد الرعاية الأسرية، بائل في نفسه متبول على غيره، مخبول وأعمى. أخذت أحس بالخوف الفعلي. ولجنا ممرا مظلما - أو يكاد أن يكون كذلك - يقع خلف سوق أم درمان، عند زقاق المباول العامة، كانت رائحة المكان لا تطاق، تحتلها أنفاس الفضلات الآدمية والحيوانات النافقة التي ترى هنا وهنالك. أمام مجرى مائي شبه مغلق، طلب منا أن نتوقف ونتركه يذهب وحده. قلنا له عليه ألا يخشى شيئا من جانبنا ! قال: إنهم يخشون ... كما أننا الآن جنب المكان. جلسنا على الأرض كما طلب منا؛ لكي لا نرى منذ الوهلة الأولى. تقدم بضع خطوات ثم أطلق صفيرا ناعما ثلاث مرات وصمت. بعد دقيقة أو أكثر أو أقل سمعنا صفيرا آخر. ثم رد الفكي بصفير؛ فانفتح غطاء مجرى لتصريف مياه الأمطار وخرج منه طفلان صغيران أشعثان عاريان تماما كأنهما إبليسان صغيران من رسومات الفنان الإسباني بول كلي ... جريا نحو الفلكي وتشعبطا في يديه الطويلتين. قال مبتسما: ديل أولادي حسكا وجلجل.
لم نسأله أيهما حسكا وأيهما جلجل، فلقد كانا يشبهان بعضهما البعض مثل عملتين من فئة واحدة.
بعد قليل خرجت شيطانة كثة الشعر ... بل لها شعر طويل يصل إلى منتصف ظهرها، متسخ وملتف على ذاته. لونها يميل للصفرة، صغيرة عجفاء مثل جرو أجرب جائع. قفزت مباشرة في كتف الفكي الطويل. باسها في وجهها المتسخ قائلا لنا: دي بتي نونو.
نظرت إليه باستغراب أو إعجاب، أو ربما بتساؤل، ثم عضته في عنقه النظيف المعطر بشدة. صرخ في صوت قبيح مرح: حبوبتكم جريوة وين يا عيال الكلب؟
قال الطفلان معا في آن واحد: اتلحست (ماتت). ثم أضافت نونو بصوت خمير: دقست واتلحست، شالوها الإرا (البوليس) ميتة يوم الجمعة.
لم يظهر على وجهه النظيف أي أثر للحزن، الصدمة أو المفاجأة، وكأنه سمع نشرة أخبار الأرصاد الجوية التي لا يفهم فيها شيئا.
قلت له معزية: البركة فيكم!
وتقبل التعازي من الجميع. لم يبك ... لكنه أخذ يحزن تدريجيا في صمت قاتل، أو كما ظننت. لم يسأل عن شيء، مضى وأبناؤه معلقون على كتفيه وظهره. مر أمامنا ونحن جالسون كأننا لم نكن هناك. خرج من الزقاق، خرجنا خلفه. كان منظرا غريبا وشاذا، رجل يرتدي ملابس جميلة جديدة زاهية، نظيف حليق الرأس، الذقن والشارب، يفوح من بين جوانبه عطر
hope ، على ظهره وكتفيه أطفال في غاية الاتساخ والبشاعة، يصيحون مثل دجاجات بلدية شمت فساء ثعلب ... اثنان عاريان تماما، صبية تلبس ما لا يستر ولا يعري، مزقا شديدة الاتساخ، بها عفونة جثة قط نافق منذ أسبوع، شعرها الكث الغريب يغطي كثيرا من عريها. وقبل أن ينتبه إليهم من يمكن أن يؤلمهم، قمنا بحشرهم في عربة أجرة. انطلقنا نحو منزلنا في الخرطوم بحري، احتج كثيرا سائق العربة على الروائح التي لا تطاق، وكان يمضي في الشوارع بسرعة عالية، يريد أن يتخلص من شحنته بأسرع ما يمكن، كما أنه لم يستطع أن يخفي جنون حب الاستطلاع عنده، وكان يسأل كلما وجد فرصة لذلك، ماذا نريد أن نفعل بهم؟ إلى أين نأخذهم؟ وهل نحن جهة حكومية أم منظمة؟ هل سمعنا بقصة الأطفال الذين ماتوا بالإسبرت؟ هو شاهد جثتين قبل يومين في زقاق في السوق الشعبي بأم درمان، رآهما في الصباح الباكر وهو في طريقه لترحيل بعض بائعات الشاي. علم بعد ذلك أن الجهات المسئولة كانت تجمع جثثهم بشاحنات الأوساخ من الأزقة، المجاري والشوارع الجانبية، تأخذهم ليدفنوا بعيدا في الصحراء شمال أم درمان. أضاف بما يعني أنهم ليسوا سوى أوساخ، وهو يشجع على التخلص منهم بأي صورة كانت، وها هو الله قد خلصنا منهم، أرسل إليهم من يسقيهم الأسبرت المسموم. كان ثرثارا؛ لذا قررت ألا أدعه ينزلنا عند المنزل، لكن على بعد شارع من الزقاق الذي نقيم فيه، همست لعبد الباقي بذلك.
أفرغت أمي أمعاءها مرتين، قبل أن ينعطف بنا سائق سيارة الأجرة الصغيرة الثرثار ناحية سينما حلفايا، حيث أوقفه عبد الباقي. أعطيناه ما اتفقنا عليه من نقود، وتوقفنا في مكاننا إلى أن اختفت العربة عن الأنظار تماما، من ثم هرولنا بهم ناحية منزلنا الذي لا يبعد كثيرا، وسط أعين المارة المتطفلة المشحونة بالأسئلة التي لا إجابات لها في غير حجرات التحري المخيفة في مخافر الشرطة، أو أمكنة أخرى أكثر رعبا.
تركنا أمي تفرغ ما تبقى من أمعائها عند قارعة الطريق، معطية ظهرها للأسفلت ووجهها لحائط السينما العجوز المغلقة، المهجورة التي هي الآن إحدى أوجار اللصوص وملاجئ المتشردين، غير الآمنة، بعد أن انتهى عصر السينما والرفاهية، وفشل مشروع الاستنارة القومي.
انحراف البنت
هل الرجل انتهازي بطبعه أم المرأة لم تستطع أن تفهمه كما يجب. أم العكس أن المرأة هي الانتهازية، والرجل ليس سوى كائن دائما ما يصعب عليه فهم المرأة؟ لكن في الأمر انتهازيا من جهة ما، هو أو هي ... هذا ما أنا متأكدة منه تماما. ليست لدي تجربة كبيرة في الحياة تمكنني من إطلاق أحكام نهائية على الظواهر، لكن كما تقول أمي: إن وعي المرأة دائما ما يسبق عمرها، وكل النساء خبيرات في الحياة، وإلا لما استطعن أن ينجبن الرجال، يربينهم ويزوجنهم أيضا. أمي دائما لها آراء حادة في هذا الأمر.
لقد قلت في مكان ما من هذه القصة: إنني أحب عبد الباقي، وإنني أريد أن أنجب منه أطفالا أو طفلا. لكن الشيء المحبط الذي لم أتطرق إليه هو أن عبد الباقي يعد الحب هو الغاية النهائية، ولا علاقة للزواج به، والأسوأ أنه يعد كل حبيبة تفكر في الزواج شخصية منحرفة، أو بدأت تنجرف في تيار الانحراف، فكيف لشخص أن يسعى لما هو أفضل تاركا خلفه ما هو أجمل وأبقى؟! أعرف أن هذا ما يسميه البعض الانتهازية، أنا مثل أمي، أسميه التهرب من الذهاب بالعلاقات الإنسانية الجميلة إلى نهاياتها السعيدة المرجوة. وهذه النهايات ليست الزواج فحسب، هذا الاسم البرجوازي البغيض، لكن أن يعيش الشخصان معا وينجبا أطفالا يربيانهم تربية خيرة. لكن كيف يتم ذلك في غير المؤسسة الزواجية التقليدية التي يعود لها الفضل في التقليل من عدد المتشردين والأطفال الذين هم خارج الرعاية الأسرية؟ وهي أيضا المتسبب الأكبر - من جهة أخرى - في الزيادة الكبيرة في تعدادهم! نتحدث عن الفقر، الجهل، المرض، الأطفال غير المخطط لإنجابهم. ولو أن الرافد الأساس في السودان للمتشردين هو الحرب وسلم ما بعد الحرب، وهو ما يسميه كاتب مخبول «جثة الحرب». عبد الباقي لا بدائل لديه، دعونا نسمع عبد الباقي معبرا عن نفسه، هذه مساحة إبداعية إنسانية نعطيها لعبد الباقي ليقول ما يشاء قوله؛ لأنه يستطيع أن يعبر عن حاله أكثر مني كراوية أنثى:
المرأة مثل أغنية جميلة لا تكتفي من الاستماع إليها مرة واحدة، وهي مثل البحر مجهولة الأعماق، ومثل الطائر لا يطمئن للهواء والشجرة معا، يطمئن فقط لجناحيه. ستبدو أفكاري غريبة بعض الشيء، متناقضة بعض الشيء، أولا بالنسبة لرجل متزوج ويقيم علاقات خارج المؤسسة الزواجية، بل يحب بعمق، الشيء الذي سوف لا تجدون وسيلة لفهمه هو أنني أحب زوجتي وأحب سلوى، هما سيدتان جميلتان، وطيبتان، المشكلة الفعلية في المؤسسة ذاتها. بالتأكيد ستقولون: «إن العامل الفاشل يلوم أدواته!» وأنا أفعل؛ لأن الحبيبة بعد العقد تتحول إلى امرأة تمتلك رجلا، والرجل يتحول إلى أب يمتلك امرأة، أب بكل رموزه الشنيعة، ويعمل الاثنان لهدم المشروع بارتباطهما القوي به. عندما أنجبت زوجتي أطفالي الأربعة، صرت أحب أطفالي أكثر وهي أيضا كانت تحب أطفالها، وافتقدنا معا الحبيب والحبيبة. وهذا تبرير مثالي ونفعي، لكنه يذهب كثيرا في عمق الحقيقة، يفتش عنها بوضوح. وأنت أمام الحقيقة مثل جرذ أعمى تشم طريقك إليها ولا تراها، حتى إذا لامس جلدك جلدها، وملأت خياشيمك الفأرية بعبق إبطها الحنون، تظل غريبا عنها. كنت واضحا معك منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها وقررنا أن نعيش كحبيبين. أنا متزوج، زوجتي طيبة جميلة، أحبها. لدي أربعة أطفال: بنتان وولدان. وأخبرتني أنت أيضا بأنك تحبين حسن إدريس، وحدثتني عن كل شيء حدث بينكما، وكيف أنه وقف موقفا مخزيا تجاهك، وأنه كاد يقتلك عندما علم بأنك حبلى، فأجهضك قسرا في شهرك الأول. على الرغم من أنكما افترقتما منذ سنة كاملة، وأنه قد تزوج قبل شهر من لقائنا، إلا أنك ما كنت تدرين: هل تسامحينه أم تكرهينه أم أنك ما زلت تغرمين به؟! وكنت أيضا لا تدرين: هل ستعشقينني في يوم ما أم لا؟! - قد أتعلم كيف أحبك إذا تجاوزت بعض الجراح.
هي طريقتك المراوغة في الكلام والعاطفة ... فلم نستطع أن نسمي تلك العاطفة العنيفة التي جمعتنا معا، وتركنا كل شيء لما تأتي به الأيام، وكان هذا ما يعجبني فيك. لم أمارس الجنس مع زوجتي منذ اليوم الذي عرفتك فيه، ليس لأنني أكتفي بك فحسب، لكنني لا أعرف الكذب الجسدي، أو أن جسدي هو الذي لا يعرف الكذب البشري. والجنس والحب كلاهما خيال مثل الجسد، لا يمكن للثلاثة أن يتشكلوا عنصرا ماديا واحدا دائما، إلا عندما ينتجون الأطفال. وهذا هو سر تحول الحب إلى الأطفال وترك المؤسسة الزواجية خاوية على عروشها المتهالكة في الأصل تندب حظها. لقد جمع بيننا الأطفال المتشردون أكثر مما يجمع بيننا أي شيء آخر؛ الحب على سبيل المثال. كنا نظن - وما زلنا - أننا نستطيع أن نفعل شيئا من أجلهم، ولو من أجل طفل واحد لا غير، شيئا فعليا ملموسا، شيئا يشبع فينا رغبة الانتماء للإنسانية. - ليس لمجرد أنك خلقت بهذه الهيئة البهية قد توجت إنسانا - كنت تقولين لي - لكن لأنك نلت إنسانيتك بكل جدارة عن طريق سعيك الدءوب للانتماء الفعلي للبشرية، وهذا ما يجب وما يكون.
المتشردون هم قضيتنا وسلمنا للإنسان، البعض يعمل في مجال السياسة أو الأدب، البعض في معامل العلم التطبيقي أو النظري، قد يحمل سلاحا ويخوض معركته الفعلية ضد الظالمين. البعض يبحث عن كينونته الإنسانية في الحب، وذلك مثل أمك وجبران خليل جبران. البعض في الشعر والفنون الأخرى مثل الجسد، وآخرون مثل الروح. عم سيف سمعريت يفعل ذلك ببساطة أكثر، إنه يعمل وسيطا ما بين المعرفة والباحث عنها. البعض يقدم نفسه أنموذجا للسلوك المنفلت مثل: عثمان بشرى، أحمد زكي، زهرة بت إبليس، رامبو ... وآخرون. كل تلك منافذ للولوج عبر ثقب إبرة الإنسانية التي تسع الجميع: المشاركة في الحياة والهم الوجودي. أنا أحب أن أثرثر؛ لأنني لا أعرف أن أعبر عن نفسي بطرق أخرى. وها هي سلوى تورطني بالكتابة، كما ورطتني بالحب من قبل، وها أنتم تجدون كتابتي هموم مثقف أكثر منها فقرة في رواية أريد مني أن أكون أحد كاتبيها.
عبد الباقي يتهرب من التعبير عن نفسه، وكنت قد أتحت له فرصة ذلك كتابة، فهو يعرف كيف يفعل الأشياء بقلمه، لكن لا بأس! في الحق كنت مكتفية به لأسباب كثيرة؛ أولها: مثلي مثل كثيرات لا أحب تعدد العلاقات، أحب أن أعطي نفسي لرجل واحد فقط، وهو الذي أرتبط معه في علاقة، وطالما كانت هذه العلاقة مستمرة. والشيء الآخر: صعوبة الدخول في علاقة أخرى مع رجل، فعملية اختيار الشخص المناسب الذي يحرك في البنت أحاسيسها ومشاعرها، يرقص جسدها ترقبا ويحافظ على سرها وعليها، عملية تصير أكثر صعوبة يوما بعد يوم. وكلما مرت البنت بتجربة مريرة كانت أكثر حرصا في التجارب اللاحقة، إلا إذا شاءت الواحدة منا أن تعطي نفسها للآخر كيفما اتفق. ولا أحد يستطيع أن يخدعها أو يكذب عليها - عكس ما تعتقده أمي - فالبنت تعرف ما تريد ولا تفعل إلا ما ترغب فيه حقيقة. ومثلنا مثل الآخر، نحن نبحث عن المتعة الجسدية، نعم نريدها بشروطنا الخاصة، قد نفشل كثيرا ... قد ننجح ... قد نتنازل عن هذه الشروط أو عن بعضها بكامل وعينا وإرادتنا. عبد الباقي يعرف ذلك ويفهمه، لكنه أيضا يريد أن يفعل الأشياء وفقا لشروطه هو الخاصة، ولا ضير في ذلك. أنا قررت أن شروطه الخاصة لا تتوافق مع شروطي الخاصة، أنا أريد زوجا وأطفالا - تريدهم أمي أكثر - وأريد بيتا صغيرا أم كبيرا، أقصد مملكة برجوازية خاصة. وشرط هذا البيت الأطفال وليس الرجل، أستطيع أن أدير بيتي وحدي، وأنشئ أطفالي كما أشاء، كل ما يجعل الرجل مهما في هذه المملكة هو الطقس الاجتماعي، وفوضى القوانين والموروثات الاجتماعية. أعرف مئات النساء اللائي رغم ذلك كله تخلين عن الزوج؛ إما لأنه مات، أو طلقهن أو طلقنه، أو هجرهن وتزوج من أخريات، واستطعن أن يقدن حياتهن كأجمل ما يكون، بغير طلته الخشنة البهية!
عندما يقرأ عبد الباقي ذلك سيحكي لي قصة القط الذي لم يستطع أن يتحصل على اللحم المعلق في سقف البيت، الذي يغويه بعبقه المثير، فشتمه بأنه سيئ الرائحة، طاردا الهواء من أنفه: أفوووووووو.
إنك لم تكذب، لكنك أيضا لم تقل الحقيقة في شأن زوجتك، فكانت زوجته قبيحة مثيرة للمشاكل، لئيمة مزعجة، لا أدري كيف قال إنه يحبها؟! هذه ليست غيرة مني عليها، لكن الحقيقة عينها. هي قريبته، كان يحب في الجامعة إحدى زميلاته، لكنه عندما أراد أن يتزوج تزوج بنت عمته. هي «فصامية ذكورية» متأصلة، يظن الكثير من الرجال الفصاميين أن قريباتهم لا يفعلن كل ما يفعله هو مع الفتيات الأخريات، وينسون أن قريباتهم هن حبيبات، عشيقات وخليلات آخرين مثلهم. قد يؤدين دورهن في العشق بغاية الحميمية والصدق الجسدي والروحي أيضا. بقا ليس من ذلك النوع التائه في بحيرات العسل الأخلاقي، على الأقل معي. فهو يحترم ويقدر كل ما يجري بيننا، لا أعرف لم لم يتزوج حبيبته الأولى، لكن علي أن أصدق ما قاله هو: أمها لا تريدها أن تتزوج من «رطاني»؛ وتقصد شخصا لديه لغة محلية أخرى غير العربية، طبعا لا توجد إشكاليات إذا كانت لغته الأم الإنجليزية أو الفرنسية على سبيل المثال. على الرغم من أنهما من مدينة واحدة، وإقليم واحد، وفي الواقع من أصل واحد، كل ما في الأمر أن مجموعتها القبلية استعربت قبل خاصته ببضع مئات من السنوات قلائل، حوالي مائتي سنة قبل قيام السلطنة الزرقاء، واستعارت اللغة العربية كلغة أم.
حبيبي الأول كان شخصا أقل ما يوصف به أنه جبان، ولم تكن تمنعه من الزواج بي أي سلطة اجتماعية أو ادعاء نقاء عرقي أو أية من تلك الإشكالات الفظيعة. كان همه - للأسف عرفت ذلك مؤخرا - أن يتزوج فتاة لها بشرة - يا حبذا إذا كانت - بيضاء. وطالما يستحيل ذلك في السودان؛ فصفراء فاقع لونها. كان يرى في الأوروبيات تمثيلا للجمال المتناهي في تمام اكتماله، لا أدري لماذا لم أنتبه لذلك عندما كان يقول لي: لم يخلقنا الله إلا كومبارس لنيكول كيدمان. كنت أظنه يلهو أو في أسوأ الأحوال يحاول إثارة غيرتي. انتهى به الطواف إلى الزواج من حورية فاتنة، حمراء البشرة، وهي أخت أحد أصدقائه، وصديقتي بصورة أو بأخرى. كانت قد تحولت إلى بيضاء عندما رآها في المركز الثقافي الفرنسي، عندما تزوجها كانت شديدة البياض، وبإمكانه أن يرى الدم يجري في شرايينها، لها أرداف حقيقية مدورة كبيرة، لم يلاحظها طوال فترة الخطوبة، على الرغم من أنهما مارسا الجنس مرارا، لها نهدان شاهقان أثارا إعجابه! هما لم يكونا هنالك من قبل بالفعل، الذين يعرفونها قديما تحدثوا عن عروس أخرى لها بعض ملامح خطيبته السابقة، عندما بدأت تنجب له الأطفال، أخذت بشرتها تتقشر، وظهر على مواقع حساسة من جلدها طفح قبيح، فنصحها طبيب جلدية استشارته بعدم استخدام المراهم الكيميائية التي تبيض بشرتها عن طريقها؛ لأنها قد تصاب بفشل كلوي حاد أو سرطان البشرة أو الاثنين معا. ولأنها لم تستطع أن تعود للونها الأول الطبيعي، وكان جميلا وناصعا، وليس بإمكانها مواصلة استخدام المراهم الكيميائية؛ لتظل ببشرتها البيضاء التي شاهدها بها إدريس في المركز الثقافي الفرنسي قبل سنوات كثيرة وأعجب بها، فقد أخذت تذبل بسرعة، بل تنحدر انحدارا بليغا نحو هوة اليأس والأحزان. وبدأت مرحلة جديدة في حياتها الزوجية، تتسم بالشجار اليومي، بل والضرب في كثير من الأحيان. ولم يكن السبب لونها، لكن لمشاكل اجتماعية أكثر تعقيدا.
كلما تمعنت في غابة التعقيدات التي تعيشها البنت يوميا، وما يجب أن تكون عليه وما لا يجب، دون المراعاة لها هي ككائن له خياراته، أثمن كلمات أمي ووصاياها لي. قد تبدو دكتاتورية بل وساذجة في أحيان كثيرة، إلا أنها لم تكن دائما في الجانب الخطأ مائة بالمائة؛ إذ كيف لي أن أوازن ما بين رغباتي ورغبات الآخر وتصوري للمستقبل؟
لم يوضح لي الفكرة إطلاقا، كنت لآخر لقاء معه اتفقنا على أن نحتفظ بالطفل، وأن نتزوج وأن نخبر أمي بشأن الزواج في أقرب وقت ممكن. وكنت سعيدة جدا به، قد أظهر لي ما يمكن تفسيره بأنه أيضا في غاية السعادة، ولو أنه بدأ يكثر من شرب العرق بصورة لا يمكن تبريرها بغير الشعور بالإحباط والقلق. وأصر على أن يسقيني بعضا منه، لكني رفضت، فأنا في شهري الأول وعلي أن أكون حريصة على صحة طفلي. كان شخصا طويلا يتمتع بصحة جيدة، وسيما وهادئا، قليل الكلام ويهتم بمظهره وأناقته بصورة جيدة، ولا يملك الآخر إلا أن يفترض فيه حسن النية. ولو أنه أصيب بمرض السكر قبل سنتين أو أكثر، إلا أنه يمتلك طاقة كبيرة ينفقها في العمل عند شركة الصرف الصحي الخاصة التي يعمل بها، وفي لعب الكتشينة وشرب الخمر مع أصدقائه. كالعادة عندما نرغب في البقاء معا ليوم أو أيام، أعلن لأمي بأنني أسافر في رحلة عمل لمدينة قريبة أو بعيدة، وهي غالبا ما لا تمانع وشرطها الوحيد أن أتصل بها كثيرا؛ لأطمئنها بأني حية أرزق، وتزودني بجملة واحدة: اعملي حسابك من أولاد وبنات الحرام! وهي لا تدري بأنني أكبر بنت حرام أنجبتها هي نفسها، وكان يؤلمني كثيرا أنها لا تعرف ذلك.
أستيقظ مبكرا، كنا ننام في سرير واحد كبير من خشب الموسك الناعم البني. لم أنم جيدا الليلة الماضية؛ لقلق ينتابني بين حين وآخر من أجل أمي التي تركتها وحيدة في البيت، وبشأن الطفل الذي يتشكل الآن في، وهي لا تعلم عنه شيئا. أول ما تفعله أمي إذا عرفت، فإنها ستقوم بشيء واحد، ببساطة وبدون أي تفكير أو رحمة: تقتلني!
أنا أعرف أمي تماما، من أي نوع من البشر هي.
أخذ زجاجة العرق من تحت السرير، مسح عليها بكفيه، تناول كوبا صغيرا فارغا، كان قد استخدمه بالأمس، نظر في عمقه باحثا عن أوساخ أو ما يقنعه على غسله. صب عليه ما تبقى من الخمر، قربه من أنفه، استنشق رائحته لبعض الوقت، ثم ابتلعه في جرعة واحدة. صر وجهه، مد شفتيه إلى الأمام فيما لو أنه يجعل منهما مدخنة بشرية لخروج غازات حارقة من جوفه، تجشأ ثم بصق على الأرض من قرف، قال لي: نحنا ما عايزين اللي في بطنك ده.
قلت له: أنت ومنو؟
قال وهو يحملق في عيني: أنا وأنت.
قلت له بتحد وإصرار: أنا عايزاه!
قال ببرود وقلق: لا يمكننا نتزوج، أنا ما جاهز للعرس، ولا عندي إمكانية لفتح بيت.
شرحت له للمرة العاشرة، حيث كان دائما ما يكرر هذه الجملة البائسة البليدة: العرس لا يحتاج لشيء سوى عقد، وأنت عندك بيت ولا ينقصك شيء، أنا ما عايزه منك غير العقد وأرحل معاك في اليوم نفسه. وكنا اتفقنا قبل أيام، مش كدا، وناقشنا الموضوع دا؟
تحدث كثيرا عن إمكاناته في إعالة أسرة، وأنه الآن يتكفل برعاية أيتام كثر، بالإضافة إلى أبناء وبنات أختيه المطلقتين اللتين لا تعملان. وقال ما لا أتذكره عن أمه وأبيه، وأظنه ذكر شيئا عن جار ما، أو جارة ما. لكنني أتذكر تماما أنه عندما توقف عن الكلام، هجم علي ... صعد على بطني بكامل ثقله، كان يضربني بصورة عشوائية في صدري وكليتي وتحت السرة بخوف ورعب شديدين، وهو في حالة أشبه بالجنون. كان يردد بأنني ورطته في هذا الحمل المشئوم من أجل أن أجبره على أن يتزوجني، وأنه سوف لا يفعل ذلك مطلقا، وعلي أن أجهض الآن. قد شتمني أيضا واصفا إياي بالداعرة والخبيثة ... إلى أن أغمي علي. نزفت في ذلك اليوم دما كثيرا، وكدت أن أموت لولا أنه تصرف أخيرا، أتى لي بالدكتورة مريم بنت خالته، تلك السيدة الرحيمة الجميلة، فأنقذت حياتي.
لا أدري أي شيطان رجيم جمعني بهذا المخلوق الغريب؟! أكتب الآن وأحس بجيش من النمل يسرح على جلدي، إحساس ما بين الخوف الجنون والنجاة، إحساس لا يمكن وصفه، لكنه يحيل لي صورته في شكل مخلوق آدمي له منقار أشبه بحقنة، وبطن منتفخة محشوة بالدم المتخثر. رغم ذلك أسأل نفسي كثيرا: هل أنا أكرهه؟ أنا أمقته، وأستطيع ... حسنا، لا أحب أن أخوض في هذه السيرة المهلكة.
منطق الجسد
أثناء البحث بالقوقل عن «فرقة الموت» المنوط بها مهمة اغتيال الأطفال المتشردين في البرازيل، تحصلنا على كتاب «الحرب ضد الأطفال في شوارع أمريكا». وهو كتاب مشهور «ألفه السيد أوفه بولمان». بهذا الكتاب حقائق مخيفة ومرعبة في الوقت نفسه. تركنا مهمة تلخيصه على الصديقة الصحفية حكمة رابح، على وعد أن تقوم بطباعته وتوزيعه لنا.
فقد تشكلت «فرقة الموت» في البرازيل، من داخل وزارة الداخلية في سبعينيات القرن الماضي. وعلى ذمة العم قوقل، كانت تمول من قبل بعض الأثرياء، الأسر الكبيرة، الشركات الرأسمالية العملاقة، ولفيف ممن لا يرون في المتشردين سوى قاذورات وفضلات اجتماعية يجب التخلص منها بأي شكل في سبيل بيئة إنتاجية معافاة.
قامت لجنة في البرلمان البرازيلي في نهاية عام 1991 بإحصائية مخيفة؛ حيث أشارت إلى مقتل 7000 طفل خلال السنوات الخمس المنصرمة، وفي أواسط عام 1992 ازداد عدد الأطفال القتلى ليصل 16414، وحسب إحصائية الحكومة البرازيلية فإن عدد الأطفال المشردين في السبعينيات في القرن الماضي كانت 1,5 مليون طفل.
قرأت هذه الفقرة لأمي، بالتأكيد لم أقرأ لها الطريقة البشعة الدموية التي كانوا يقتلون بها الأطفال، وأخفيت عنها حكايتين - في الحقيقة شهادتين - لطفلين نجيا من مذبحة، أو كما يسمونها في البرازيل حفلة مريعة. لكني أكدت لها أن القتل كان مباركا ومؤيدا من قبل الحكومة نفسها وتحت إشرافها. كعادتها، أمي لم تصدق أن يحدث ذلك في أي دولة كانت في العالم. والسبب بسيط جدا، وهو أن الحكومات عليها حماية الناس وليس قتلهم وفقا للعقد الاجتماعي غير المعلن بين الشعب والسلطة. قلت لها: هذا ما يدرس في الجامعات ويعمل به في الدول التي أنتجته فقط، فنحن نستهلك كل ما أنتج الغرب من تكنولوجيا ومعارف مادية، ولكننا نتجنب تماما منتجاته من القيم الإنسانية الرفيعة والأخلاق العالية. قالت أمي: أعرف، نحن نأخذ ما يتناسب وطبيعتنا.
طبعا، أمي كانت تقصد إغاظتي، لكنني تجاهلت الأمر ... أخذت ألعب مع الطفلين. كان يوما طويلا جدا، الأطفال الأشقياء لا يكفون عن الصراخ. كما هو متوقع من أمي أنها اشترت لهم ملابس صينية من المحطة الوسطى بحري. قام والدهما بعملية الاستحمام، وقصف أظافر الكفين والقدمين. كما قام بإزالة شعر رأسيهما إزالة تامة بماكينة حلاقة أبي القديمة. هذه الخطوة لا بد منها لكي لا يبدوا كمتشردين، بالتالي نبعد عنهم عين الرقيب الحقيقي أو المتخيل. كما أنه لا بد للروائح النتنة التي تنبعث منهما أن تزول. لكن أمي رغم ذلك لم تحبهما أو تطمئن لهما؛ فلقد كانا فوضويين بامتياز. أمي تحب النظام، كما أنها لم تعتد على الأطفال في بيتها، وتبين أن حبها للأطفال كان نظريا بحتا. كانت تحتج على كل ما يقومان به حتى أكلهما، فهما لا يعرفان كيف يأكلان سوى عن طريق خطف الطعام وحشو أكبر كمية ممكنة منه في الفم والبلعوم، ولا تفيد صفعات والدهما الخجلة على ظهورهما من إثنائهما عن ذلك. كانا أيضا يسرقان كل ما تقع عليه أياديهما الصغيرة: صابون الحمام، زجاجة عطر، راديو أمي الصغير كم مرة وجدته مخبأ خلف الباب، الأحذية، قوارير المشروبات الغازية الفارغة، حتى الخبز والعظام، يفعلون ذلك جميعا. لكن البنت كانت أكثر هدوءا وخجلا، أقل إصدارا للضجيج، ربما للإعياء الشديد الذي يبدو عليها. يظهر واضحا أنها تعاني من سوء تغذية حاد وفقر في الدم، وأنها مهمومة بأمور أخرى عميقة غير الأكل، الشرب، والفوضى. كانت الأكبر عمرا، قدرت دكتورة مي عمرها بعشر سنوات. قال والدها: إنها أكبر من ذلك بكثير، أي أن عمرها خمسة عشر عاما، إنها إذا تزوجت ستنجب أطفالا. قال: إنها تحيض في كل شهر مرتين، ذلك دليل عنده على خصوبتها وكبر سنها. قد ساورني شك عظيم في أنه يخفي عنا شيئا، فسألته: وين أم العيال ديل؟
قال في حزن، وهو يعدل بنطاله الجديد: ماتت قبل أيام. شربت الأسبرت «المسموم».
وأضاف أنها كانت صغيرة العمر، أكبر بقليل من بنته نونو. - إذن، نونو أمها براها.
أجاب سريعا بأن نونو في الحقيقة ليست ابنته من صلبه، بل إنه تبناها، كانت ترعاها أمه، وتقيم معها في الزقاق. وجدها منذ أن كان عمرها يوما واحدا مرمية في إحدى المزابل، كادت تأكلها القطط والكلاب الضالة: كانت «بت حرام».
تخلصت منها والدتها خوفا من الفضيحة. - ظاهر إنو أما (أمها) من أسرة غنية شديد ...
لأنه وجد معها مائة جنيه كاملة وخاتم ذهب، قام بأخذها إلى أمه التي أرضعتها ورعتها. الحمد لله نجت من الموت. قال: إنها كانت جميلة زي القمر وسمينة ... لكن أكل الشوارع والعفن «أثر معاها».
قالت نونو الصغيرة، التي كانت تستمع للقصة في هدوء، بعد أن جلست قربه، بل التصقت به في غنج، مبعثرة خصلات شعرها المتوحشة على صدره، واضعة راحة كفها على فخذه الأيسر، ووجهها يكاد أن يلتصق بوجهه الجاف الخالي من الشعر، أزاحها عنه بعيدا بحركة لا إرادية، وهو متجاهلا النظر إليها كلية: الفكي ده راجلي (زوجي) أنا، مش أبوي، راجلي عدييييل كده!
كانت دهشتنا كبيرة، لدرجة أن بقا توقف عن اللعب مع الطفلين وانضم إلينا بعينين واسعتين. كان الفكي هادئا ولو أنه بدا مرتبكا بعض الشيء، قال: طبعا تزوجتها، عشان ما يقرب منها واحد من بتاعين الشوارع الصعاليك المعفنين ديل، الناس الما بترحم، الزواج سترة، مش كدا؟
قال له بقا وهو لا يستطيع أن يخفي غيظه: لكنها طفلة!
قال وهو ينظر إليها مبتسما: أنا أمي لمان ولدتني كانت أصغر منها بكثير، يا اخوي البت إذا نطت عتبة البيت، تشيل راجل قدر أبوها، والكلام ده معروف، ومن الأحسن تتزوج النسوان وهم صغار أحسن مما «يجلكنوا»، مش كده؟
قلت له: إن هذا عيب وغير صحيح، وإن البنت لا يكتمل نموها الجسدي والعقلي إلا بعد ثماني عشرة سنة على الأقل، والرجل الطبيعي، الشهم والإنساني لا يتزوج البنات القاصرات. أعرف أنني لم أجد اللغة المناسبة التي تجعله يفهم، وهو أيضا لم يجتهد ليفهم، كان يحملق في واضعا ابتسامته الغريبة الغبية في وجهه، فلم أعرف أنه كان سعيدا حقا أم يريد أن يبكي الآن! المهم أنه لفت نظري لكي أحملق لأول مرة في نونو حقيقة، وأتمعن في تفاصيلها، كان ثدياها صغيرين جدا، فارغين تماما، متدليان مثل كيسين من الجلد مبتلين بالماء. يتضح ذلك من خلال فستان الطفلات الذي اشترته لها أمي عندما كانت تظن أنها طفلة، وجهها طفلي، بعينها نزق وبريق لا يمكن فهمهما مطلقا، كانت شفتاها جافتين، وزنها لا يتعدى ثلاثين كيلو جراما، لها بطن صغير بارز قليلا ولا يتناسب مع حجمها. أكثر الأشياء غرابة فيها هو شعرها الغزير شديد السواد القذر الخشن، الذي يتبعثر على كتفيها يغطي جانبا كبيرا من ظهرها، بل يتدلى إلى ما دون الردفين، هذا إذا كانت تسمي تلك الجلدتان الباليتان ردفين! همست لي أمي ذات مرة: إن هذه البنت ذات أصول أجنبية، من جهة الأم أو الأب ، كثير من ملامحها تدل على ذلك، شوفى أنفها، شوفى شعرها. وقالت محرزة فجأة: أنا عرفت أهلها الحقيقيين، والله عرفتهم.
ذلك عندما حدثنا الفكي عن المزبلة التي التقطها منها. في الحقيقة كان هو أيضا يعرف أمها، اعترف لنا لاحقا أنه ابتزها كثيرا، إلى أن هدده رجل - قال إنه والد الأم - بالقتل. وهو الذي أرسل إليه من يذبح رجله اليسرى كعربون لعملية أكثر إيلاما في الطريق إليه: إذا قليت أدبك تاني يا وسخ!
عندما تفحصتها دكتورة مريم لاحقا قالت: إنها مصابة بالسل الرئوي. مثلها مثل الطفلين والفكي نفسه، وبرحمتها المعهودة بدأت معهم دورة علاج السل، الجيد في الأمر أن عقاقيره متوافرة ومجانا.
في الحقيقة، بدأنا نفهم الفكي بصورة أوضح، وفهمنا أيضا لماذا عندما دخل الحمام مع نونو أخذ زمنا طويلا جدا! إذا كنا أسأنا الظن فيه مبكرا؛ لفسرنا الأصوات التي صدرت من الحمام في ذلك الوقت تفسيرا صائبا. وعندما خرج اعتذر لنا بحيلة أنها لم تستحم منذ الخريف الماضي على الأقل، وأن الكوشة التي برأسها تحتاج إلى مياه سيل لكنسها وليس دشا، فصدقناه وضحكنا. الآن تأكد لنا أننا كنا نضحك على أنفسنا لا أكثر، علينا منذ الآن ألا نصدق حرفا واحدا مما يقول لنا، طلبت أمي منه مغادرة البيت فورا، أن يأخذ زوجته وأطفاله، إذا كانوا حقا أطفاله ولم تكن هنالك قصص مؤلمة أخرى وراء كل واحد منهما: وأمشى أختانا ...
قال مستعطفا: إذا لقوني حيقتلوني، وأنا عايز أعيش، أربي عيالي.
انتهرته أمي محتجة: أنت زول تستحق الموت، تنوم مع شافعة (طفلة)؟!
قالت نونو محتجة، وهي ترقص صدرها الأعجف الفارغ: أنا ما شافعة يا أمي، أنا مرا بالغة والأولاد ديل أولادي، ولدتهم من بطني دي!
وأشارت إلى بطنها الصغير غير المتناسب مع حجمها الضئيل. بالتأكيد كاد التعجب أن يقتلنا، وسيبدو الأمر مقبولا إذا وقفت عند هذا الحد. لكنها رفعت جلبابها للأعلى - ذلك الأطفالي الجديد، الذي اشترته لها أمي من كشك بالمحطة الوسطى - بسرعة لا يتوقعها منها أحد ... رقدت بظهرها مواجهة الأرض ... أبعدت ساقيها النحيفين الأصفرين، المنقوشين ببقع سوداء كبيرة وصغيرة، في زاوية مقدارها مائة وثمانون درجة بالضبط، كومت شعرها سريعا في شكل وسادة صغيرة من الصوف، وصاحت بصوت قبيح - أو هكذا سمعناه - قائلة: ده يدخل جمل!
مشيرة إلى شيء مريب كان ما بين ساقيها، تحجبه عن أعيننا غابة كثيفة من الشعر الأسود الطويل. حمدنا الله كثيرا على ذلك الغطاء الصوفي الطبيعي للعورات البشرية ذات الأبعاد الاجتماعية الحساسة.
أحسست بأنني أنا الفاعلة، وينظر العالم كله الآن إلي، إلى شيئي أنا، وكدت أن أموت من الخجل، أما أمي فهربت خارج الصالون تلعن اليوم الذي جمعها بالفكي وأسرته غير المحترمين، أطلقت أحد أمثالها المحببة إلى نفسها:
اللي يلعب مع الجريوات يخربشنه.
لم تعجب أية أو أيا منا طريقتها في التدليل على إمكاناتها الأنثوية بمنطق الجسد. كانت طريقة شاذة وقبيحة بكل المقاييس! ضربها الفكي ضربا عنيفا على ظهرها ووجهها، وسحبها من شعرها الغزير محاولا أخذها للخارج، طبعا كان ذلك عبثا؛ لأنه لم يستطع أن يفعل. كانت مثل جزع شجرة عرديب معمرة تعتصم بالأرض، تحملق في عينيه بلا دموع بلا استعطاف أو رجاء، إلى أن تدخلنا وحلنا بينهما. تلفظ الفكي بألفاظ لا يمكن ذكرها في هذه الرواية خوفا من شيوخ المصنفات الفنية والأدبية الرساليين، وكان غاضبا جدا ومبتسما جدا وهو يعتذر عن سلوك زوجته المشين: امسحوها لي في وشي يا جماعة دي زولة ماسورة.
أمي بدأت تتفهم الأمر شيئا فشيئا. أعدت لهم وجبة أخرى، طعموها بهدوء أكثر. خرج الطفلان جلجل وحسكا، حتى الآن لم نتبين أيهما جلجل وأيهما حسكا؛ لأننا إذا نادينا حسكا التفت الاثنان، أو جاءا معا إذا كانا بعيدين، والعكس صحيح. ولأن اسم جلجل ثقيل بعض الشيء؛ فإن أمي اكتفت بأن تطلق على الاثنين اسم حسكا. تبولا عند باب الديوان مباشرة، تغوطا كثيرا. عرفنا ذلك عندما داهمتنا الرائحة المتميزة للمخلفات الآدمية مع طليعة فوج الذباب. قامت «ما أصبحت أم الطفلين» بنظافة المكان جيدا، ورمي القاذورات في الشارع يمين الباب. قالت لها أمي إن ذلك خطأ أيضا ، عليها أن تتخلص منها في المرحاض! هزت نونو رأسها في استغراب وابتسمت. لقد نسيت أمي تماما أن نونو لم تر مرحاضا في حياتها. مرحاضها هو هذا الفضاء الرحب، وكل مكان وزمان لا يشاهدها فيه شخص غريب وهي تقضي حاجتها، هو بلا شك مرحاض. أما براز الأطفال، من يهتم ببراز الأطفال؟!
الساعة الآن قاربت الثانية عشرة منتصف الليل. نحن لم نستطع أن نعرف المعلومات الأساسية عن المورد الأصلي للميثانول القاتل، كان كل مرة يأتينا الفكي بفكرة جديدة، ولا ندري هل نصدقه أم أنه سيجيد مرة أخرى إدهاشنا باكتشاف كذباته الكبيرة جدا؟! فالفكي مثل قنبلة موقوتة في يد جندي، قد تنقذه من الموت وقد تقتله، لا ندري هل سينفجر بين أيدينا أم أننا سنحطم به جدران سر موت المتشردين المسمومين بالميثانول.
عندما نعس الأطفال ونعست زوجته، تركنا لهم الصالون، بعد أن أحضرت أمي فرشا خاصا للأطفال؛ لأن أمهم أكدت لها أنهم يتبولون عادة أينما ينامون. بقا رحل إلى بيته متصيدا آخر باص من المواصلات العامة. أنا وأمي لم ننم، ساهرنا إلى أن غدر بنا النعاس، لا ندري بالضبط متى نمنا ... كنا خائفتين من مصيبة لا ندريها قد يفعلها الفقيه المتشرد وأسرته الصغيرة العجيبة.
ذاكرة العرق
العرق أو ما يطلقون عليه الأثينول أو الميثانول: هو في الواقع خليط بين الاثنين، بنسب متفاوتة. لكن من خلال استيتس
status
في الفيس بوك بعنوان الكحول، علقت أستاذة جامعية لمادة الكيمياء اسمها عائشة حسن كاتبة: «العرق البكر الذي ينتج في الدقائق الأولى من عملية التقطير الكحولي البلدي؛ أي قبل أن تغلى المادة المخمرة موضوع التقطير، وهي البلح أو العنب، السكر، الجوافة أو الذرة أو غيرها من النشويات المخمرة بفعل الحرارة، ويسمى أيضا الأثينول أو السيكو أو السكوسكو، وغالبا ما يكون خاليا من الشوائب والميثانول ...» وأخذت تعدد أسماء العرق، حتى تخيل لي أنها فدادية لا يشق لها غبار. فخاطبتها في رسالة داخلية
message ، ما إذا كانت لديها معرفة في كيف تتم عملية صناعة الأثينول بلديا في البيوت؟ واستخدمت هذه الصيغة المحترمة حتى لا أكون قد أسأت لها فيما لو ظنت أنني أقصد أنها تصنع العرق بنفسها ... وهذا بالطبع حرام بين؛ لأن الله لعن صانع الخمر، وشاربها، بائعها، حاملها والمحمولة إليه. ومن اسمها أستطيع أن أخمن أنها مسلمة ملتزمة. لكن لحسن المفاجأة أن أرسلت لي كتابا إلكترونيا فريدا ألفه أحد الأوروبيين المفتونين بما سماه «عبقرية المرأة السودانية في التخمير» عنوان الكتاب
Fermentation Technology in Sudan . قد تناول فيه صناعات كثيرة بالتفصيل: كيف تعد وكيف تستخدم، بل كيف ومتى يتم تناولها مثل الكول، الشرموط، أم جنقر، المرايس بأنواعها، المرس، خميس طويرة، الكاني مورو والشربوت، ثم تناول صناعة الإيثانول تحت عنوان العرق.
تعد صناعة العرق صناعة مستحدثة في السودان؛ لأنه لا توجد قبيلة لديها اسم غير مركب له، وتقريبا ترجمة اسمه في أكثر من عشر من اللغات المحلية هي بالشيء المر، «أتى بقائمة طويلة من أسماء العرق، من كثير من القبائل الشمالية، الجنوبية، قبائل شرق وغرب السودان، باللغات المحلية، من أراد أن يستزيد معرفة فليسأل جدته في البيت، وكلها تعني الشيء المر.» إذن، ظل هذا الشيء المر عابرا في الثقافات السودانية قديمها وحديثها، ولو أن تقطيره بدأ مع دخول العرب للسودان، فهو كذلك احتفظ باسمه الأصيل الذي يشرح ويعبر تماما عن طريقة استخلاصه، فهو ليس سوى عرق البلح أو العنب عندما يتعرض لدرجة حرارة عالية، نفس فكرة تقطير العرق. أما المجموعات السكانية القديمة فهي بارعة في صناعة المريسة بكل أنواعها، وهي خمور طيبة وصديقة، أقرب للغذاء منها للكحول، هي متعمقة في الثقافات الأفريقية وتسمى في بعض البلاد الأفريقية بالبيرة المحلية. تصنع بتخمير النشويات الطبيعي بتعرضها لبكتيريا التخمر العالقة بالهواء. كان هذا الكتاب ممتعا، والتصميم الإيضاحي لصناعة العرق كان مفيدا أيضا، وخاصة خطوات تصنيعه من الذرة المسماة بالفيتريتا؛ حيث تبدأ بعمل:
الزريعة: «وهي عملية تنبيت (زراعة) الذرة في وسط رطب، غالبا ما تكون بين سطحين من الخيش أو الكتان.»
السورج: «وهو خلط مسحوق الزريعة مع عجين شديد الحموضة بفعل التخمير مع إضافة قليل من الماء وتقليب الخليط في صاج كبير من الحديد على نار موقدة بالحطب إلى أن يحمر أو يصبح بنيا، وهو الذي يعطي المريسة لونها المميز ورائحتها الزكية أيضا، وتستخدمه بعض القبائل مثل قبيلة الأدك في النيل الأزرق كوجبة غذائية كاملة.»
الفطارة: «وهي عجين فطير يتم تقليبه على النار في ذات صاج السورج إلى أن يتحول إلى عصيدة عملاقة.»
يتم خلط المكونات الثلاثة مع بعضها البعض، ثم تترك ليوم كامل معرضة لبكتيريا التخمير بعد إضافة قدر محسوب من المياه، بعد ذلك تقوم الفدادية بتصفية الخليط، مستخدمة قطعة من قماش الدمور الخفيف؛ لتنتج المريسة ومعها المشك، وهذا الأخير ألذ وجبة يمكن تقديمها لحيوان عزيز للنفس: حمارك المفضل، بقرتك الحلوب، أو ثورك الخاص، أو بيعه كعلف لأصحاب الماشية. لكن معظم الفداديات يحتفظن بماشية في منازلهن للاستفادة من المنتج المصاحب للمريسة الذي هو المشك، والخليط نفسه يمكن أن يصنع منه عرق العيش، عندما تقوم الفدادية بقليه على النار بعد أن تم تخميره - خليط السورج والفطارة - جيدا بمعزل عن الهواء. وتمد صبابة (ماسورة) ملفوفة بقطع قماش مبلولة بالمياه، تنتهي في وعاء آخر مغلق وهو أيضا غارق في مياه باردة، تقوم بتغييرها كلما سخنت. والفدادية البارعة تعرف من درجة سخونة المياه كمية العرق ونوعيته؛ فتقوم في الحال بتعبئته في زجاجات، وهذا البكر لا يباع إلا لخاصة الزبائن، وهو الأثينول النقي التي تحدثت عنه ميمونة سكوسكو في حكاية أمي، ويدلل كثيرا من قبل الندماء، على الرغم من أنه يقتلهم في بطء وصمت، بتحطيم خلايا أكبادهم الحزينة وإتلاف البنكرياس. ومن ثم تنتظر تقطير الفدادية العرق درجة ثانية، الذي يتم بيعه للعامة، وهو الأكثر خطورة؛ لأنه يحتوي على الأثينول والميثانول وكثير من الشوائب التي بعضها شديد السمية، وهذا يفضله الشعراء المفلسون وأغنياء المتشردين وبعض المبتدئين في مهرجان السكر الذين لا طاقة لهم بتناول السكوسكو النقي، مثل صديقنا الطيب الحلزون وحبيبته مها عبده. هم يحتاجونه لنسيان شرور العالم الكثيرة التي تحيط بهم، أو تأجيل الإحساس بها إلى حين. الفكي لا يتعاطاه، ليس لأنه يتسبب في تليف الكبد أو إتلاف البنكرياس، وهو لا يعرف عنهما شيئا، ولا يدري ما إذا كان له بنكرياس أم لا؛ لكن قلبه هو الذي رفض هذه الأشياء، كما قال، ويقصد بخبث شديد أن قوة خفية خلفه تمنعه من إتيان المهلكات، وهي أيضا محاولات بائسة للنصب والاحتيال علينا.
لم ينم الفكي ولم تنم زوجته إلا متأخرين؛ وذلك لعدم تعودهما على النوم في حجرة أو على فراش، هي المرة الأولى في حياتهم جميعا أن يدخلوا حجرة نظيفة - دخل الفكي السجن عدة مرات - وينامون على سرير وملاءة. ولأول مرة أيضا تدور مروحة فوق رءوسهم، قد أرعبهم صوتها المخيف، وظنوا أنها ستسقط عليهما، لم يعرف أي منهم كيف يتم إيقافها. أخيرا توكلوا على الله ... رقدوا جميعا على فرش فوق الأرض متلاصقين، عندما صعب عليهم النوم، فتحوا الباب وجميع النوافذ. كانوا يحتاجون لهواء أكثر ... لفضاء أرحب ... لرائحة الشارع؛ حتى يناموا. وأخيرا اضجعوا حيث وجدتهم أمي في الصباح الباكر، عندما استيقظت لأداء صلاة الصبح. كانوا منكمشين على بعضهم البعض، تحت حائط الديوان ما بين الباب وأصص الزينة المتراصة في فناء البيت، ملتحفين الأرض، تغطيهم السماء الشاسعة الرحيمة، تحوم حولهم قطتان ضالتان، كأنهم يمثلون لوحة وحشية منسية لهنري ماتيس!
العرس الوحشي
أصبح كل شيء واضحا الآن بعد أن تناقشنا بكل صراحة ووضوح، قال - كما هو الحال - إنه يحبني لكنه أيضا ليس بإمكانه أن يفعل شيئا من أجل أمي. أمي تريدني ألا أدخل في علاقة ما، ما لم أكن متأكدة أنها سوف تنتهي بالزواج. وهو يعرف ذلك جيدا، قلت له: شوف لي عريس.
في الحق كنت جادة معه؛ لقد تغيرت آرائي كثيرا في هذه الأيام القليلة، لقد تعلمت درسا مهما من الفكي وأسرته أن السعادة لا تحتاج لتكلفة باهظة، تفكير، شروط أو تخطيط، إنها دائما هناك، في القصر كما هي في المزبلة. قال إنه سوف لا يفعل. كان يعلم نقطة ضعفي، وهي أنني أحبه بعمق؛ لذا كان دائما لا يتنازل عن مواقفه. يدفعني أنا للتنازل، ويعرف تماما أنه يستطيع أن يجدني كلما شاء. من جانبي لا أرى في ذلك مشكلة، فكل ما أفعله معه كان دافعه الحب والرغبة الأكيدة في الفعل. لكن قررت أن ينتهي كل شيء اليوم، في هذا اليوم بالذات. لم ننتبه إلى أننا كنا نتحدث بصوت عال ومزعج إلى أن دخلنا المكتب. رأينا الدهشة في وجوه الزملاء، اعتذرنا لهم، واصلنا الحوار بهدوء في المكتب، لكن كان هذه المرة عن أسرة الفكي، لقد أصبحنا مرتبطين بهذه الأسرة المتشردة بصورة غير مهنية، وكنا نعرف أننا لا نستطيع أن نحل مشاكلهم الإنسانية، لا يمكننا أن نجعلهم يسكنون معنا في البيت، فبيتنا صغير، ولا يتحمل أسرة أخرى. ليس بإمكاننا أن نستأجر لهم بيتا، فالإيجار غال جدا في الخرطوم، هذا إذا قبل صاحب المنزل استئجار بيته لمتشردين. كما أننا لا نستطيع أن نلتزم بالدفع شهريا، وليس للفكي دخل يمكنه من دفع الإيجار، بل لا يستطيع أن يوفر الطعام اليومي لأسرته التي تتغذى الآن من سوبر ماركت الطبيعة؛ وهي المزابل! وفقا لتجاربنا الكثيرة مع المتشردين نعرف أيضا أنهم لا يميلون للإقامة الدائمة في مكان ما، ما لم يتم ذلك تحت شروط إنسانية معينة تضع حالاتهم الخاصة في الحسبان. الشيء الأخطر هو كيفية الحفاظ على أمنهم وحملات تجميع المتشردين تقوم بدورياتها المعتادة في كل الشوارع. المنظمة لا تستطيع أن تفعل شيئا في كل هذه الأمور ولا توجد أي مؤسسة تساعد في حل هذه المحنة. كان علينا في الآخر أن نقوم بطردهم من بيتنا، طبعا إلى الشارع! هذا مؤلم، ولا يمكن تحمله ولو أنهم لا يتوقعون منا خيرا من ذلك. أحسست بألم في معدتي. كان بيتنا في الجانب الآخر من المنظمة، وهي كما سبق أن قلت هي جزء من بيت ورثناه من والدي رحمة الله عليه. لم أعمل بنصيحته: امشي البيت. اتفقنا على أن نشرك كل الموظفين في الحوار الخاص بأسرة الفكي، وهم جميعا يعملون في مجال العمل الإنساني، ولهم خبرات في التعامل مع المتشردين والأطفال لا يستهان بها.
المدير العام رجل خمسيني أصلع ... لا يتحدث كثيرا، لكنه يتميز بعلاقاته الواسعة وسنوات عمله الطويلة في المجال؛ فلقد عمل مع منظمات لها سمعتها في مجال حقوق الأطفال، مثل: اليونيسيف، منظمة رعاية الأطفال السويدية والأمريكية، وأطفال الحرب، عمل أيضا في منظمة رعاية كبار السن. ومن الزملاء: حليمة حسين، وهي على الرغم من صغر سنها إلا أنها عملت مع المتشردين كثيرا وخاصة في دارفور وجنوب السودان. هنالك عماد، مصطفى، أنا وبقا كما هي العادة ضيفا دائما علينا وهو في إجازته السنوية. توصلنا سريعا لحل فيما يخص الأطفال والأم أيضا؛ وهو أن نودعهم بيت الحماية بالمايقوما، والأم سوف تقوم برعاية أطفالها بنفسها وخدمة الأطفال الآخرين بمقابل مبلغ ضئيل. المدير العام يستطيع أن يسهل ذلك، والآن. أما الأب فبإمكانه أن ينام في المنظمة مع الخفير، وأن يعمل نهارا في غسيل السيارات في وسط الخرطوم طالما كان يستطيع أن يحتفظ بملابسه نظيفة ولا يتردد على المزابل وأوكار المتشردين الآخرين، ويمشط شعره بالمشط عندما ينمو له شعر. وهو لحسن الحظ - على حسب إقراره - لا يتعاطى المخدرات أو المكيفات، ومستعد لترك الدجل والشعوذة. لكن بقا كان له رأي آخر، وهو: أن نجعل منه نجما.
لم يدهشنا اقتراح بقا الغريب! على الرغم من أننا انفجرنا ضحكا. ذهبنا جميعا بأفكارنا إلى الكيفية التي سيستثمر بها بقا إمكانات الفكي في الحفظ السريع. لكن، هنالك مشكلة أخرى وهي أن الفكي لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم ما يحفظ، فهو مثل المسجل الإلكتروني لا أكثر، ولو أنه يحفظ ما يسمع بأي لغة كانت، حتى ولو كان نباح كلب، فهو يحاكي أصوات الحيوانات والطيور كلها وكأنه من ذات الفصيلة. فقط تبقى لنا أن نعرف كيف سيصنع بقا من الفكي نجما، إذا تذكرنا شيئا محبطا آخر؛ وهو أن الفكي كذاب ولا يمكن أن يوثق به، وأنه غير مستقر نفسيا! قال بقا سيأخذ منه ذلك ما بين ستة أشهر إلى سنة من الآن: الموضوع عايز شوية تعب.
فض الاجتماع على صراخ أمي من خلف الحائط، شاكية من الأولاد الشياطين: حسكا وجلجل اللذين قلبا حياتها جحيما، إنهما لا يسمعان الكلام. ولا تدري أين ذهب الفكي وأين ذهبت أمهما، قالت: شردوا وخلوا لي العيال.
وأضافت بصورة واضحة وجلية: إذا تأخرتوا تلقوني كتلتم (قتلتهم)؛ ديل خربوا البيت خراب!
الطفلان اللذان يكادان أن يكونا في عمر واحد: الطول نفسه الحجم نفسه والملامح، الصلعتان نفساهما، اللتان أنجزهما لهما أبوهما الفكي بماكينة حلاقة أبي الأثرية ... النزق نفسه، الشيطنة، النهم وحب الاستطلاع. إلا أن أحدهما يكبر الآخر بعام كامل - حسب إفادة الفكي - فيمكن تقدير عمريهما ما بين السنة الرابعة والخامسة.
قاما بقلب كل منقولات البيت رأسا على عقب في فترة من الزمن لا تتعدى ربع الساعة، حيث خرجت أمي لشراء رغيف من أجل وجبة الغداء. وكانت قد أغلقت باب الشارع عليهما جيدا؛ خوفا من أن يهربا ويجدهما من يضر بهما، خاصة أنهما خلعا ملابسهما جميعا وبقيا عاريين كما ولدتهما نونو. تعفرا في التراب وأصبحا مثل شبحين خرجا لتوهما من القبر. أكثر ما أثار غيظ أمي وأغضبها أكثر هو أنهما حطما زجاجات العطور البلدية التي كلفت أمي الكثير في إعدادها وأنها تحتفظ ببعضها منذ زواجها، تريد أن تورثها لي عندما أتزوج. قد أكلا بعض الدلكة أيضا، وشربا جرعات لا شك أنها كبيرة من عطر «الخمرة» البلدي قبل أن يدلقاه على الأرض؛ لذا كانا شبه سكرانين أو أنهما كانا في حالة سكر تام. أصبحت رائحة البيت مثل خدر العروس. في الحقيقة جعل ذلك أمي تتذكر يوم عرسها، فبكت بكاء مرا، بكت كما يبكي سكران مبتدئ. همس بقا في أذني: الميثانول!
كان الأبوان قد اختفيا قبل ذلك الحفل بساعتين، خرجا في غفلة من أمي. لم يسرقا شيئا، تفقدنا كل حاجيات البيت، وجدناها كما هي. كان الطفلان يلعبان لا أكثر، أو قل: إنهما أقاما عرسا وحشيا بديعا، شاركت فيه كل أدوات المنزل، عطور أمي، الأغذية المحفوظة في الثلاجة، صنابير المياه، التلفاز الكبير والأصص التي كانت قبل ساعات قلائل تحتوي في أحشائها على نباتات زينة حية جميلة ومخضرة. قمنا بغسلهما ... ألبسناهما ملابسهما النظيفة ... أعطيناهما حلوى حتى يكفا عن البكاء والصراخ؛ لأن أمي ضربتهما ضربا مبرحا وهي في حالة ثورة وجنون.
لم يسألا إطلاقا عن أبويهما. كانا يأكلان كل ما تقدمه لهما أمي التي يبدو أن ثورة غضبها قد انتهت إلى ثورة رحمة مفاجئة. كان نصيبنا منها غداء جيدا وشايا بالنعناع. أتينا بعربة المنظمة اللاندكروزر لنأخذهما إلى دار الرعاية بالمياقوما، وهي إحدى الملاجئ الرحيمة التي تستقبل الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية واللذين أعمارهم فوق الرابعة. لقد أراحنا الله من مسئولية الأبوين، طالما هربا بإرادتيهما، وخاصة ذلك الشرير الأكبر الفكي. ولو أننا بفقدنا له نكون قد فقدنا مرة أخرى أول الخيط لموردي الميثانول، وتعود قضية البحث إلى المربع الأول. إلا أن الخير كله في إنقاذنا لحياة الطفلين الشقيين، وقد يصادفان مستقبلا مختلفا عن الذي كان يتربص بهما في مجاري المياه بأم درمان. إلا أن أمي فاجأتنا قائلة: خلوا الأولاد هنا، أنا عايزاهم يومين تلاتة يكونوا معاي!
قلت لها وقد أغضبني انقلابها المفاجئ: يا أمي وطني نفسك، خلي عندك رأي واحد. لدى أمي فلسفة في تغيير الآراء؛ حيث إنها تعد الإنسان السليم هو الإنسان الذي لديه المقدرة على الاقتناع بالأفكار الجديدة التي تطرأ عليه، والعمل وفقا لها فورا، ولديه مقدرة أكبر في ألا يتحرج من ذلك ... بل أن يدافع عن أفكاره الجديدة. وهي تعد نفسها إنسانة سليمة. تحدثني أيضا عن كتب قرأتها في هذا الشأن، عن فليسوف غريب له باع في منهاج التفكير الإيجابي. لكن بيني وبين نفسي أميل لفكرة أن وراء تردد أمي وتغييرها المفاجئ لآرائها عنصرا مرضيا. ربما هي آثار ثانوية لنوبات الإحباط التي تداهمها أحيانا، إنني لحد ما، ورثت عنها تقلب الآراء.
قالت وهي لا تعير غضبي اهتماما كعادتها: خلي صحتهم تتحسن شوية ويمكن أخلاقهم تتحسن برضو. هم أطفال لا ذنب لهم ... أطفال في غاية الذكاء والبراءة. خلينا نساعدهم شوية، هم شياطين أولاد كلب لكن ذنبهم شنو؟
ثم سألتنا إذا كنا لا نريد الشاي بالنعناع مرة أخرى. على بقا أن يقوم باللعب مع الطفلين لعبة الرسوم التي يحبانها، هذا إذا لم يكن لديه شيء آخر يفعله، أو أنه لا يريد أن يذهب إلى بيته الآن.
إخوان في الرضاعة
حدثنا الفقيه المتشرد حكايات لا أدري مدى صحتها، لكننا اتفقنا على ألا نكذبها تماما وألا نصدقها تماما وأن نترك مهمة تصديقها وتكذيبها للأيام. قال الفكي في تلك الليلة التي قضاها معنا في البيت، بينما نحن نحاول أن ننتزع منه معلومة مفيدة قد تقودنا إلى معرفة مصدر الميثانول القاتل: إن بعض المتشردين سرقوا جركانتين من الأسبرت من متجر لتركيب العطور من السوق الشعبي بالخرطوم، وقاموا ببيع الكمية بوحدات أصغر في قارورات المياه الصغيرة جدا، بعد أن أضافوا إليه جركانتين أخريين من المياه؛ مما جعل لونه أغبش. باعوا القارورة الواحدة بجنيه واحد؛ نسبة لأن هذا المبلغ كان كبيرا جدا بالنسبة للمتشردين الذين لا يعملون، لا يسألون الناس ولا يسرقون، فإن كل قارورة اشترك في شرائها أكثر من متشرد أو طفل. هذا حدث في الخرطوم، بل أكد لنا أن البعض تحصل عليها من غير نقود، ولم نسأل كيف. - كويس بحري جاها من وين؟ - أم درمان جاها من وين؟
قال إنه اشترى من أمه، أمه اشترت من الأسطى، أين الأسطى؟ هو لا يعرف له سبيلا، الأسطى هو صديق أمه، وأمه دقست واتلحست.
هو أيضا لا يعرف شيئا عن المتجر الذي سرق منه المتشردون الميثانول، كل ما يعرفه عنه أنه في السوق الشعبي بالخرطوم. بقراءة بسيطة لمحكيات الفكي تثار أسئلة مهمة:
أولا: كيف عرف الفكي أن اللصوص أضافوا جركانتين أخريين إلى الميثانول؟ لماذا لم تكن ثلاث جركانات أو أربع؟
من أين للفكي بالمال الذي يشتري به الميثانول؟
هل هنالك حقا شخصية اسمها الأسطى غير الفكي ذاته؟
لماذا كان الفكي مختبئا في الحديقة مع الجثث وفضل الموت جوعا على أن تقبض عليه الشرطة؟
ألم يقر الفكي أنه أول من باع الميثانول للشباب؟
ما هي حكاية أمه التي دقست واتلحست؟
لماذا تتدقس وتتلحس الآن؟
هل هؤلاء الأطفال أطفاله حقا؟
هل نونو هي زوجته فعلا؟
هل هي زوجته فقط؟
ما هو دور الفكي في كارثة موت مئات المتشردين بالميثانول؟
هل هنالك من يعمد على التخلص من الفكي؛ لأنه يمتلك خيوطا قد تقود إلى جرائم ارتكبها هو أو ارتكبها آخرون يجب حمايتهم؟
ووجدنا أنفسنا فيما يشبه فيلما بوليسيا معقدا، أو دوامة من الاحتمالات لا قبل لنا بها ولا مقدرة أو وقتا لدينا لحل طلاسمها؛ مما وضع الأمر برمته في حيز الاستحالة، وأصبنا جميعا بالإحباط واليأس. مما زاد الأمر تعقيدا هو اعتقال صديقنا الصحفي الباشا وحجزه من قبل جهة غير معروفة:
لا هي جهاز الأمن الوطني.
لا هم رجال الشرطة.
ليست الاستخبارات العسكرية.
وليسوا الشعبي.
ليسوا القوات المسلحة.
ليست شرطة النظام العام.
ليسوا قوات أب طيرة.
ليسوا قوات الدفاع الشعبي.
ليست قوات حرس الحدود.
ليست شرطة الدفاع المدني.
ليست القوات الخاصة لمستشاري ونواب الرئيس.
ليست الشرطة الشعبية.
لقد طرق أصحابه، الناشطون الإنسانيون، وكثير من المحامين، كل تلك الأبواب الخشنة، فكانت إجابتهم واحدة: ليس لدينا اسم كهذا، بل لم نسمع به إطلاقا.
من هنا نتج خوفنا عليه، لدينا خوف طبيعي من الأجهزة الأمنية، وهو أمر مستحب ومقبول ولا عيب فيه. ولدى أمي حكمة جيدة في هذا الموضوع فهي دائما ما تكرر:
الما بخاف من الحكومة، ما بخاف من الله.
وهي توءم لحكمتها الأخرى:
الما بخاف من الله، خاف منه.
وهما أختان صغيرتان لحكمتها الكبرى:
الخواف ربى عياله.
أما خوفنا الأعظم فهو من الأجهزة غير الحكومية التي قد لا يكون خلفها قانون أو أي نوع من الرقابة أو المحاسبة مهما كانت ضئيلة وغير فاعلة، وهي جهات متطرفة أقرب إلى فرق الموت!
قررنا جميعا أن نترك موضوع المجزرة جانبا، وأن نقوم بعملنا الروتيني في حماية ما تبقى من أطفال ومتشردين. أن نعمل على عودتهم للمنظمة كما هو في السابق ... حيث يتناولون الإفطار، يغسلون ملابسهم، ويستحمون إذا أرادوا، ثم يعودون للشارع! للأسف هو المكان الذي يفضلونه على غيره. تعلمنا من خلال عملنا الطويل مع المتشردين، أنهم لا يحبون أن يحجزوا إطلاقا في أي مكان كان، حتى إذا توافرت لهم فيه كل سبل العيش. إنهم تواقون للحرية ويدفعون ثمنها بكل سخاء، الحرية بفهمهم الخاص، الذي تكون من الأزقة، المزابل، المطاردات اليومية من قبل حملات الشرطة، المخازي، المآسي، الخيانات، الاغتصاب، الجوع، التسمم المزمن، التسمم الحاد، والقتلة المجهولين. مع شروق كل شمس مخافة أو فكرة تستهدفهم. هم صامتون في عفنهم اليومي وحزنهم المقيم، يكونون آراءهم في الحرية: الرأي الذي لا يستطيعون التعبير عنه إلا بالهروب المتواصل والانكماش في الذات، عندما يصبح الآخر، كل الآخر عدوا، تصبح الذات هي الملاذ الوحيد الآمن.
العمل الروتيني ليس بالسهل في هذه الأيام، حيث اختفى المتشردون تماما. كان عددهم يقارب 20 ألفا، إما أخذوا في الحملات اليومية، أو اعتقلوا لتهم غير واضحة ومبررة، أو اختبئوا في المجاري والغابات البعيدة عن يد الشرطة، أو أنهم قتلوا بالميثانول. كثير منهم هرب خارج مدينة الخرطوم، قيل إنه تم ترحيلهم إجباريا. البحث عنهم قد يقود إلى صدام مع جهات ذات قوة ونفوذ لا قبل لنا بها. في واقع الأمر نحن نتجنب الدخول في صراع مع أي جهة كانت، نحب أن نقوم بعملنا بهدوء وصبر وأمان، فليست مسئوليتنا أن نغير العالم في ليلة وضحاها، ولسنا أيضا الوحيدين المسئولين من ذلك، والتفكير بهذه الطريقة هو المخرج الوحيد لنا من الأزمات النفسية. قد تدربنا على ذلك، إلا أننا كنا دائما ما ننسى ما تعلمناه في غرف وحجرات التدريب إلى ما تعلمناه ونتعلمه يوميا في الحياة من صراعنا ومعاناتنا اليومية، أو ما ورثناه من قيم إنسانية غير معيارية؛ أي أننا لا نستطيع أن نفرق بين ما هو واجب عملي نأخذ عليه أجرا شهريا، وبين ما هو واجب إنساني علينا القيام به، بدافع وجودنا في هذا الكون معا.
كنا محبطين وحزانى ... لم نستطع أن نخرج من جحر تأنيب النفس والضمير، ودائما ما نجد سببا لذلك. كنا نحس بالتقصير، بودنا أن نفعل أكثر من ذلك. هناك آلاف الفرص التي إذا كنا قد استغللناها بصورة مختلفة لحققنا نتائج أفضل ، ولكان الواقع أفضل مما هو عليه الآن ولو بنسبة ضئيلة. اقترحت دكتورة مريم أن نخرج من جب الأحزان هذا وأن نرفه عن أنفسنا، بأن نذهب في رحلة جماعية إلى مكان بعيد عن العاصمة البائسة. كان اقتراحا وجيها جدا، لكن من يحمينا من المتشائمين، مثل الأستاذة حكمة رابح التي عندما اتصلنا بها تليفونيا لكي تنضم إلينا قالت: إذا كانت عندكم قروش ما عايزنها، أنا بعرف طالبات فقيرات ما عندهم حق الفطور، ويحتاجون لكتب ودفاتر للمحاضرات.
كانت تتحدث بجدية غريبة، قلت لها: نحن لسنا مسئولين عن حل مشاكل الشعوب السودانية، الدولة هي المسئولة، وزارة الرعاية الإنسانية، مثلا: ما تعكري مزاجنا ونحن ماشيين الرحلة، بلاش مثاليات، بلاش كلام فارغ.
قالت إنها ستحضر، ما لشيء إلا لتعكر مزاجنا أكثر ... وقالت: ح أجيب معاي الشاعر عثمان بشرى!
ومن الذي يخاف عثمان بشرى؟! فليأت الشيطان ذاته، ربما تكون هي جادة فيما تقول، لكنها تشير أيضا لحادثة غير حميدة حدثت لنا في رحلة سابقة كان عثمان بشرى طرفا فاعلا فيها. للذين لا يعرفونه هو شاعر مجيد لكنه يفعل كل شيء وفقا لقوانين تخصه هو، لقد شتم شرطيا - ولا يفعل ذلك شخص طبيعي كامل الأهلية، كما تقول أمي - عندما طلب منه شرطي النظام العام، إما أن يبتعد قليلا عن سيدة جميلة كان يجلس قربها في الحديقة العامة، أو أن يبرز له قسيمة الزواج أو شهادتي الميلاد أو البطاقتين الشخصيتين اللتين توضحان أنهما أخوان، وذلك وفقا لقانون النظام العام: ودا ما من راسي يا زول!
فقال له عثمان بشرى: إن البنت التي يجلس لصقها الآن، هي أخته في الرضاعة. لأنه لا يمكن إثبات ذلك؛ طلب من الشرطي ترك ما يريبه لما لا يريبه، وهي قاعدة فقهية لا غبار عليها، وعثمان بشرى ذو الخلفية الدينية، أدرى بها. فقالت له السيدة الجميلة الناهد المعجبة بنفسها كثيرا، وبصدرها أكثر، بينما تفوح منها رائحة عطر نسائي ساحر: في إمكانها إثبات ذلك الآن، بأن ترضع عثمان بشرى ثلاث رضعات مشبعات أمام الشرطي ، وبشهادتنا نحن الحضور جميعا، بذلك تصبح أخته وأمه أيضا في الرضاعة! فاعتبر الشرطي أن ذلك ليس سوى تلاعب مكشوف ودعارة بينة، وأنه ليس أكثر من حق أريد به باطل. في الحقيقة كان الشرطي رجلا عاقلا وسيما أسود ذا ذقن حليقة بإتقان ... كان يستخدم المنطق والحوار، لا يحمل معه بندقية ولا حتى سوطا من الجلد، يجادل عثمان بشرى بالتي هي أحسن، واضعا على فمه الدقيق ابتسامة لا بأس بها. لكن عثمان بشرى فاجأنا بأن شتم الشرطي! هذا يعني أن الرحلة انتهت، وعلينا الهرب بأسرع ما يمكن، ولو أن الشرطي قبل اعتذارنا إلا أنه لم يتنازل عن أخذ عثمان معه للقسم الأوسط، متهما إياه بالسكر البين. أكدنا له أنها رائحة فمه الطبيعية وأنه لا يتناول الكحول. إلا أن الشرطي أخذ يتصل بالرقم 999 عبر تليفونه النقال؛ مما عجل بهروبنا جميعا بما فينا عثمان بشرى، الذي اختفى كما تختفي الريح بين العشب.
حسنا، وافق الكثيرون على الرحلة، تبرعت لنا أمي بخروف، لكنها تريد أيضا أن يكون هذا الخروف سماية، إنها تريد أن تغير اسمي الطفلين، من حسكا وجلجل، إلى جلال وحسبو، وتخرج لهما شهادتي تقدير العمر. لا أحد يعرف الاسم الحقيقي للفكي، ويستحيل معرفة اسم أبيه أيضا، كما أننا نشك أيضا في أبوته لهذين الطفلين، وهذا لا يمنع أن ندعوهما له. أما الأم فكان أمرها أيضا غريبا ومضللا، فهي ليست سوى نونو، هل يحق لنا أن نبتكر لها اسما كاملا يتكون من اسم لها ولأبيها وجدها؟
ما قانونية ذلك يا أستاذتنا حكمة رابح؟
ذاكرة المؤلف
الفصل القادم هو الفصل الأخير في هذه الرواية، بالتالي أريد أن أنتهز هذه الفرصة ككاتب للرواية - وأظن من حقي الأدبي أن أنتهز الفرص في رواية أنا أحد كتابها - أن أعتذر للشخصيات التي استخدمتها في هذه الرواية، الذين لم أستشر منهم سوى شخصية واحدة وهي شخصية سلوى؛ الساردة الأساسية في الرواية. لقد أعطيتها الفرصة كاملة لأن تعبر عما يجيش بخاطرها تجاهي من حب وكراهية وبعض ما لا يقال مرتين، لكنها أيضا لم تحسن القول، أو قل: إنها أخفت بعض الحقائق التي ربما تحسن من صورتي الشخصية أمام القراء، وحملتني مسئولية فشل العلاقة. بل لا تغيب عن فطنة القارئ أنها أشارت في غير ما موقع أنني انتهازي، وهي صفة أكرهها، لكن كما يقول أستاذنا الروائي عيسى الحلو: «من بعض مهام الكاتب أن يحافظ على نفسه.» ومن هذا الباب، أستمد الحق بأن أدفع عن نفسي، وأحكي أيضا لكم كيف تعرفت بي سلوى.
لا أظنها ستنكر ما قالته لي بنفسها ذات صفاء، عندما كنا عاشقين هائمين ببعضنا حد الجنون، في نزوة تلك المحبة تصارحنا بصورة فظيعة وجميلة. كانت تشاهد التلفاز، وهي إحدى العادات التي اكتسبتها منذ تخرجها من كلية البيطرة: القراءة ومشاهدة التلفاز. كانت تطوف على القنوات المحلية والعالمية، تختار ما يتناسب واستعدادها النفسي لمشاهدته، إلى أن عثرت على رجل في منتصف العمر، يحاوره مذيع ضليع فصيح، في قناة محلية، يتحدثان بجدية في موضوع الأدب، قالت: عجبتني في اللحظة اللي شفتك فيها، قبل ما أعرف أنك بتتكلم في شنو.
حسنا، إلى الآن لا توجد أي مشكلة، لكنها أضافت لنفسها: هذا هو الشخص الذي أبحث عنه.
أيضا لا أظن أن بالأمر مشكلة ما، لكنها أكدت لنفسها - أنا أحاول أن أتذكر جملتها بالنص: سأحصل عليه مهما كلفني ذلك: بالحلال، بالحرام، بالحسنى، بالقوة، بأي طريقة كانت! سيبدو الأمر أيضا عاديا لولا أنها قررت بينها وبين نفسها، في حال فشلها في اصطيادي، أنها سوف لا تتجرأ في أن تستخدم ضدي أعظم سلطة أعطيت للمرأة، وهي السلطة التي سجد لها إبليس - حدث ذلك سرا قبل أعوام كثيرة، وكنت أحد شهود العيان - الذي رفض أن يسجد لآدم من قبل: سلطة الجسد.
أول ما التقينا، بعد مكالمات كثيرة، في الخرطوم عند بيت أختها الكبرى بأم درمان، على بعد أمتار قليلة من مبنى المحلية. كعادة أم درمان في أوائل فصل الشتاء، كان اليوم مغبرا، تدور الأتربة في شكل دوامات صغيرة، نسميها نحن في القرى: صفارة الشيطان، فتحمل معها الأوراق، أكياس البلاستيك الفارغة، والأتربة المكدسة على جوانب الطريق، المبعثرة على الأسفلت. تحمل كل شيء وتعيد توزيعه: على وجوه الناس، العربات الفارهة، أسطح المنازل، أسفلت آخر، وكل ما يلتقي به الإعصار الصغير. كنت نظيفا أنيقا، كأنني في موعد غرام، لولا أن صادفتني صفارة الشيطان فور هبوطي من الحافلة، ملأت فمي بحفنة من الغبار المشحون بوسخ المدينة وأمراضها، دخلت مطعما قريبا غسلت وجهي. طرقت الباب، عرفتها مباشرة، كانت ترتدي فستانا قصيرا جميلا مرقطا مثل جلد النمر، يظهر ساقين جميلتين بل مدهشتين، لم تحدثني عنهما بالتلفون إطلاقا، على الرغم من أنها حدثتني عن أشياء أقل قيمة عندي، مثل عينيها. أنا أحب العطر، أحب أن أشمه في المرأة، عبر كل مسام جسدي المنغلقة بالغبار الأم درماني، تسلل عطرها إلى مجرى دمي. كان صدرها معمولا بحيث ينتفض معلنا عن أنثى مثيرة، أعدت نفسها لتقتلني بالدهشة والشبق، ألا يكون لدي حل آخر غير الإعجاب بها، وأنا أرمل في منتصف عمره، رقيق القلب مل الكتب وصرير الأقلام؟! هذا ما حدث، أخذت بجسدها، احتضنتني برقة وحميمية؛ مما أكد لي أنه لا يوجد شخص مضجر في هذه اللحظة بالمنزل. في الصالون الأنيق، بعد لحظات قلائل لدخولي قدمت لي زوج أختها، ثم أختها، ثم أمها، ثم انسحب الجميع. ثم مضيت أنا أيضا أخوض في أغبرة أم درمان، تسلمني صفارة شيطان لأخرى. وكان يغمرني إحساس واحد ساخن وعنيد: تلك المهرة لي، سأحصل عليها مهما كلفني ذلك: بالحلال، بالحرام، بالحسنى، بالقوة، بأي طريقة كانت!
إذا شئت أن أحدثكم عن عبد الباقي صديقي، هو شخص في واقع الأمر - أي خارج هذا النص - له شخصية مختلفة، لا أعني أن شخصيته أفضل أو أسوأ، هذا ليس من اختصاصي ولا اختصاص الرواية، كما أن المثالية العالية، التي ظهر بها هنا، هي مثالية مبالغ فيها كثيرا بالنسبة لشخص لا يؤمن في الواقع بغير طموحه الذاتي المتمثل في المعرفة. وهو أيضا تقي ومتدين وله بعض الميول الصوفية الواضحة. كما يرجى وينتظر من شخص مثله أن يكون محبا للشعر والنساء. هو أيضا أعزب ولا ينوي الزواج قريبا ما لم يتحصل على عمل ثابت بدخل معقول وزوجة تعمل في وظيفة ما: امرأة لا يشترط فيها أن تكون جميلة بصورة قاطعة في ملامحها الخارجية، لا يقترح لها لونا محددا، لا وزنا ولا عينين تشبهان شيئا ما. يريدها متعلمة وتخرجت في جامعة ما، طيبة، تحترم أمه كبيرة السن، تقبل أن تقيم معها في البيت. بإمكانها أن تنجب أكبر عدد ممكن من الأطفال، ليست تماما مثل أمه التي أنجبت أربعة عشر طفلة وطفلا، لكن امرأة تنجب وسعها. لا يكفر بقا بما يسمى تنظيم النسل أو التخطيط الإنجابي، يؤمن بأن كل طفل سيولد برزقه. لكن الشرط الأهم، أنه لا يمتلك مالا للشيلة أو مهرا أو ما ينفقه للولائم والضيوف. كل ما يستطيع أن يقدمه لها هو الاحترام المتبادل، ماء حيويا طازجا، يضيف: الصبر عليها في السراء والضراء. قلت له: إن معظم النساء اللائي نعرفهن بهذه المواصفات، ويقبلن بشروطه تلك.
قال في جد: إذن، أنت لم تفهمني يا صديق!
ظل عازفا عن الزواج إلى اليوم. أريد أيضا أن أقدم اعتذارا خاصا للأستاذة حكمة رابح، التي تم ذكر اسمها عدة مرات في هذه الرواية، لكنها لم تنل دورا كبيرا يليق بمكانتها الطبيعية خارج الرواية أو على الأقل بمكانتها عندي. فهي صديقة عزيزة لي، ولزوجتي سابقا وأطفالنا أيضا أصدقاء، ودرسنا معا بكلية الآداب جامعة أسيوط بجمهورية مصر العربية. هي فلسطينية من ناحية الأب، مصرية من ناحية الأم، تحمل الجنسيتين. التقينا بعد ذلك كثيرا في القاهرة، عمان وفرانكفورت. أحيانا صدفة، أحيانا بتدبير متعمد من أطفالنا، فزوجها متوفى، زوجتي أيضا متوفاة. لها بنت وولد، ولي ولدان وبنت اسمها مريم. أنا تفصلني شهور قلائل عن الخمسين، هي في العام القادم سيصبح عمرها ثمانية وأربعين عاما. حكمة رابح نوع المرأة التي تجذبك بطريقة لبسها أولا، ثم عندما تكتشف أن بعينيها غربة وسحرا، وتكسبك تماما إلى صفها إذا حدثتك. جمعتنا في الماضي الجامعة، ثم موت الزوجين، ثم العلاقة الجميلة التي بدأت تنمو بين أطفالنا . أما ما يجعلنا مختلفين لكن بمحبة هو إشكاليات الهوية، حيث كان يغيظها جدا أن أعلن لها كلما دعا الأمر أنني كاتب سوداني أكتب باللغة العربية، ولست كاتبا عربيا؛ لأنني ببساطة لا طاقة لي أن أتحمل الإرث العربي الثقيل، بدءا بحروب البسوس، داحس والغبراء، انتهاء بالحروبات العربية الإسرائيلية ومآلات القضية الفلسطينية، مرورا بتفجيرات سبتمبر، حرب دارفور، احتلال العراق، معارك جبال النوبة، النيل الأزرق، وما سوف يلي هذا وذاك. وأرى بصورة واضحة وجلية أن دخول السودان للجامعة العربية ما هو إلا ورطة حاكها السيد جمال عبد الناصر لأغراض تخص الأمن القومي المصري لا أكثر، وهي الآن تؤجج الصراع السوداني السوداني القائم على اختلاف المفاهيم في مسألة الهوية؛ أي تم حسم المسألة دون استطلاع لآراء الشعوب السودانية ... هذا كله لا يهم. لولا أنني في ذلك الحين كنت أرتبط بعلاقة جادة مع سلوى عبد الله؛ لتزوجت حكمة رابح في عيد ميلادها الخامس والأربعين، فقد كانت المرأة الصحيحة لي، وأنا أكثر ما يناسبها من رجال، ذلك حسب قولها؛ لذا ظللنا أصدقاء على خلفية باهتة من المحبة وظلال الاشتهاء. الشخصية الأخرى التي لا تختلف في واقعها كثيرا عما هي في الرواية، بل يكاد أن يتطابق السردي فيها مع الواقعي، هي شخصية الشاعر عثمان بشرى. ربما الاختلاف الوحيد بين الشخصيتين أن عثمان بشرى الحقيقي لا يكتب الشعر أو الرواية أو أيا من أصناف الأدب، له اهتمامات بالتصميم الهندسي والفن التشكيلي. أسوأ ما فيه ليست مسألة السكر، لكن سعيه الدءوب نحو التغيير بأي صورة كانت! هذا ما يجعله كل ستة أشهر ينتمي لحزب سياسي مختلف. وهو الآن ترك كل شيء وانضم لجيش التحرير الوطني بإحدى صحاري دارفور: نصف إسلامي، نصف علماني ومجنون كامل! يتصل بي من وقت لآخر، يسأل عن أمه وبعض أقاربه.
الفكي المتشرد رجل تعرفت عليه بينما كنت أعمل في منظمة بلان سودان بمدينة خشم القرية. رجل يعاني من شلل الأطفال في رجله اليسرى، لكنها تعيقه من المشي بصورة مرعبة، مؤثرة على رجله الأخرى السليمة، بل أصبح جسده كله مائلا لجهة اليمين - «أفكاره تميل دائما لليسار» - حتى فمه وأنفه وعيناه، وكتفه يميل كثيرا إلى جهة اليمين، كأنه يضع عليه حملا ثقيلا يجذبه للأسفل. بهذا الشكل الغريب غير المألوف، يعمد دائما على البقاء في المنزل ولا يخرج إلا للضرورة القصوى؛ لذا يحتفظ في حجرته الصغيرة بعدد من الحجارة الرخامية الملساء، كل منها يمثل أحد أصدقائه الحميمين، من بينهم حجر كبير أسود: هو أنا. لهذا الفقيه المتشرد - أنا الذي أطلقت عليه هذا اللقب، فاسمه الحقيقي الطيب أوهاج - عادة غريبة، فهو عندما يغضب من أحد أصدقائه لأي سبب كان، مهما كان بسيطا تافها، فإنه يعاقب صديقه بالبول عليه. إذا كان غضبه كبيرا جدا، قد يغوط عليه مرارا وتكرارا ... كم هي الحجارة الملوثة ببوله وبرازه مرمية خلف حجرته الصغيرة! أما إذا تشهى إحدى صديقاته فلا محالة أنه يستمني عليها، ويترك سائله هنالك إلى أن تيبسه الشمس الحارقة. يعجبني فيه أنه لا ينسى أي حدث مر به، أو كلاما سمعه، أو أحد أصدقائه مهما أساء إليه. كان دائما ما يشكو لي من ذاكرته: إنها تؤلمني، إنها مليئة بكل شيء، الصالح والطالح، أحس بها ستنفجر في يوم ما، أريد أن أنسى. كان يكثر من شرب العرق إلى أن يغمى عليه من السكر، لا يمكنك أن تكرمه إذا لم توفر له بعض زجاجات العرق البكر. ورث عن أبيه مالا كثيرا، لديه أختان ثريتان جميلتان.
حسنا، فلننظر لشخصية أخرى، السيدة نونو التي ظهرت في ذاكرة الخندريس كزوجة أو ما شابه ذلك للفكي المتشرد. هي سيدة أيضا عادية، كل ما أذكره منها فعلتها تلك التي كررتها في فصل منطق الجسد. لا أدري أين هي الآن وماذا تفعل، لكن سمعت بعض قريباتي يتحدثن عن ابنة لها تزوجت وأنجبت أطفالا في إحدى قرى مدينة القضارف.
أما التوءم، فأنا أدين لهما باعتذار بالغ، لقد استخدمتهما فيما سبق في روايتي «الجنقو مسامير الأرض»، باسمي عبد الرازق وعبد الرزاق. كثيرون منكم يذكرون ذلك. واسماهما الصحيحان هما: حسن وحسين، أصدقاء طفولتي في مدينة القضارف. في الحقيقة هما أعداء طفولتي، كلما أحاول أن أتخلص من ذكراهما بكتابتهما، يقفزان مرة أخرى إلى وعيي. لم تكن علاقتي معهما حسنة، كانا يجيدان المصارعة والرمي بالحجارة، وكل فنون القتال الصغيرة التي تناسب أعمارنا؛ لذا دائما ما كنت أخرج من معركتي الصغيرة ضدهما مهزوما ويسيل الدم من رأسي ومنخري. كانا لا ينهزمان ولا يكفان عن الشجار بل يفتعلانه، ولم أستطع طوال فترة طفولتي أن أبتكر وسيلة تحميني منهما. - الهرب؟!
كانا مثل صاروخين من الريح، يدركاني دائما قبل أن أقترب من باب بيتنا بمسافة كافية تفصلني عن كل سبل النجدة المحتملة. - العض؟!
يمتلكان أسنان سمكة قرش وأظافر قطط، ويردان لعضتي بقرمتين من لحم الكتفين، كل بجهة. - الصراخ؟!
كانا مثل شيطانين قدا من هزيم الرعد وفساء الشياطين، قد صرخا مرة في أذني - كل من جانب - إلى أن أغمي علي. - الرفس؟!
كانا مثل جحشين وحشيين من فصيلة منقرضة، يرسلان الركلات من كل جهات الدنيا وبكل الأوضاع، لا يفرقان بين ما هو رأس وما هي كلية أو ساق، ينزلان بي من الأذى ما يجعلني ألزم السرير أسبوعا كاملا.
الحل الوحيد أن أمتثل لطرائقهما في التفكير وأذعن لأمرهما بأن أدفع لهما الجزية اليومية: نصف وجبة إفطاري اليومي، أو نصف سعر الإفطار. بعد ذلك قد يلعبان معي، يضحكان ويحكيان لي حكايات ما أنزل الله بها من سلطان، مثلا كيف يتحولان لقطين أو عقربين وأحيانا عفريتين من الجن، ولقد قالا لي ذات مرة: إنهما تحولا إلى رجلين عجوزين! حكاياتهما هذه أحيانا ترعبني بقدر ما تفعل رفساتهما. ربما لهذا السبب انتقمت منهما وصورتهما بتلك الصورة البشعة في هذا النص كمتشردين عفنين متسخين قذرين، وحبستهما في رواية «الجنقو مسامير الأرض» في سجن بالحمرة بإثيوبيا، وجعلت أحدهما يطلق الهواء من دبره مثل آلة الضغط الهوائي «كمبرسون»، تماما كما كنت أطلق الهواء عندما يوقعان بي في إحدى كمائنهما البغيضة. أتمنى أن يكونا بصحة جيدة الآن ويستطيعان القراءة - لقد تركا المدرسة في سن مبكرة - ليطلعا على اعتذاري الكبير لهما !
بقية الشخصيات لا تحتاج مني إلى اعتذار؛ لأنها في الواقع ليست سوى شخصيات تخيلية بحتة، ابتكرتها مخيلتي، مثلها مثل شخصية ود أمونة، وسارة، ونوار سعد، وجبارة الحفار وغيرها من الشخصيات الحبرية.
على الرغم مما يبدو، على أنني قد أنهيت ملحوظاتي عن الأبطال هنا، لكني تذكرت شخصية في غاية الأهمية والغنى الفني في واقع الحياة، ولو أنها مرت في هذه الرواية مرورا عابرا، وأنها ستظهر ظهورا مفاجئا قبل نهاية الرواية بقليل، وهي شخصية الصحفي أحمد الباشا، الذي جيء به في هذه الرواية كشخصية مشاكسة، قد فقد وظيفته من جراء سؤال أحرج إدارة الجريدة وفصمها (فطمها) من إعلان تقتات عليه. الباشا في الواقع الفعلي، أي خارج رواية «ذاكرة الخندريس»، رجل سياسي شرس، ومغن في غاية الرقة، ولو أنه يغني عينة تلك الكلمات التي يغنيها أمير موسى، التي تجعلك بعد الاستماع إليها تسرع لأقرب متجر عطور، تشتري خمسين لترا من الأثينول، تحتسيها في جرعتين كبيرتين، ناسيا أن لك كبدا قد يهلك؛ لأنك إذا لم تفقد الوعي ستفقد روحك في أقرب مخفر للسلطة، إذا ما سولت لك نفسك بأن تخرج في مظاهرة غير محسوبة العواقب ولا سبب لها معروف غير انفعالك الوقتي أو جنونك الطارئ. أقصد عينة الأغاني التي يؤلفها شباب مثل: عاطف خيري، الصادق الرضي، طه القدال، أزهري الحاج، والمريبين عاصم الحزين وعثمان بشرى. تتجنب الشاعرات كنجلاء عثمان التوم، حكمة رابح وسارة حسبو كتابة نوع هذه الأغاني لرقة إنسانية ورثنها من الأم الأولى حواء وبعض الجدات اللاحقات. تتشكل عقليته من حروبات وأدبيات العصر الجيفاري الحار. مثله الأعلى هذا الرجل الثائر. تعرفت عليه عن طريق حبيبتي سلوى وبعض صديقاتها، حيث كن يجبرونني على حضور الحفلات التي يقيمها كجلسات استماع، في مقر الحزب الشيوعي بأم درمان أو في بيته أو بيت أحد أصدقائه، أحيانا قليلة عند مكتبة عم سيف سمعريت بالصحافة. بالتأكيد، أي منكم يستطيع أن يتخيل أين الباشا في هذه اللحظة، وما هو المصير الذي آل إليه! إنه مفقود منذ ديسمبر 2009، لا أحد يعلم عنه شيئا ، ويقال ما يقال في شأنه. البعض يؤمن به كمهدي منتظر في يوم ما سيعود، ابنتي مريم واحدة من المؤمنين به.
قال لي ذات مرة، كنا قد احتسينا بعض الجن الحبشي الذي أتيت به من موقع عملي في مدينة الكرمك بالنيل الأزرق، أو لربما اشتريته من أحد الموردين السريين بالخرطوم: صديقي بركة ساكن (وضع العود جانبا، مسح فمه العريض وشفتيه الغليظتين من بقايا الجن) الكتابة زي الغنا يا بركة (وهو ينطق حرف الراء مشددا)، ما عندها جدوى، من الأحسن نمشي نحارب؛ لأن الحكومات الشريرة لا تسمع غير قعقعة الرصاص ولا تسجد إلا للبندقية. بل لا تحاور أصحاب الرأي المدنيين، لا تعترف بهم في الأصل ... الرصاص، الرصاص يا صديق!
قلت له، والقهوة تلعب بعقلي الذي يظل دائما يقظا ولو أنني احتسيت خندريس العالم كله: لا تنس قول المهاتما غاندي: «لا تحارب عدوك بالسلاح الذي تخاف أنت منه!»
قال، وهو يأخذ عوده فجأة، يعزف لحنا مرتجلا عنيفا بنغمة دو شرسة: ومن الذي يخاف من الرصاص؟
على الرغم من سكري البهي، إلا أنني كدت أن أنفجر من الضحك أو الخوف، شربنا كثيرا بعد ذلك، غنينا أغنية لا أذكر بدايتها، لكنني متأكد أنها انتهت بجملة: «وين نتلاقى تاني؟!»
نعم، تذكرت الآن الأغنية، لقد طلبتها بنفسي؛ لأنها الأغنية المفضلة لدى أمي، هي من أجمل أغنيات صديقها وابن مدينتها الفنان المرحوم عبد العظيم حركة. أمي من مواليد مدينة كسلا بشرق السودان. تذكرت أيضا أنني الذي غنيتها، ليس صديقي الباشا، كان يعزف لي بالعود، أنا لا أجيد العزف، بل لم أجربه مطلقا؛ لأنني في الواقع أشتر في العزف، في الرقص، أشتر أيضا في الغناء، أكدت بعض الحبيبات أنني أيضا أشتر في العاطفة.
ذات مرة، كنت أنا وهو وبنتي الصغرى مريم - عمرها في ذلك الوقت 13 عاما - نتجول في السوق العربي، كانت مريم تريد أن تشتري حذاء لا أظن أنهم فكروا في صناعته بعد! ظللنا نبحث عنه طوال النهار، بدءا من شارع محمد نجيب انتهاء بالسوق العربي؛ فأرهقنا المشي، جلسنا باقتراح منه في مقهى «أتنى»، هو مقهى من مخلفات عصور الجمال والحريات في السودان، الآن ليست به سوى ذكريات حقب الستينيات والسبعينيات؛ أي ما قبل أن يفكر النميري في حور وخندريس الجنان الحلال. يحتفي به المثقفون بأن يلتقوا فيه أو بالقرب منه، قد يحتسون الأثينول والعرق البلدي. يعشقون أيضا على ذكرى العصور الغابرات، عصور لم يعشها معظمهم، لكنهم سمعوا بها وشاهدوا آثارها، مثل تلك الآلة الحاسبة الميكانيكية العجوز التي كل ما تبقى في مقهى أتنى من تلك الأزمنة، وهي ما زالت تعمل. ابنتي مريم لا تحب تلك الأمكنة، كما أنني لا أدري بالضبط ما تحب. كعادته، إما أن يغني أو يجادلني في الثورة التي يؤمن أنها قائمة لا محالة: ليست مثل أكتوبر أو أبريل، بل ثورة لا يمكن سرقتها؛ لأننا سنحميها بالسلاح، ثورة الشعب المسلح يا صديقي! أثناء حديثه كان يرتجل خلفية موسيقية رقيقة.
قلت له: أنا أفضل أن أسمع الغناء، الغناء الذي أختاره أنا، لكن ابنتي أصرت على الغناء الذي يختاره هو. قد ظهر لي جليا أنها من أشد المؤمنين به، تماما مثل سلوى حبيبتي وصديقاتها، بل الكثير من الشباب والشابات، أعرف أيضا بعض العجائز الذين يحبونه وهم كثر. ولأنه فنان مشهور، خاصة بين المثقفين؛ تحول المقهى في لحظات إلى بيت عرس، عرس الثورة المرتقبة. غنى لنا أغنيته المرعبة، التي لا أحبها أنا مطلقا: بكرة أحلى.
كانت تلك هي آخر مرة أراه فيها، أو يراه فيها أحد أصدقائه أو المعجبين والمؤمنين به، لقد ذاب في الحياة مثل ذرة ملح في البحر. أعرف أنني لم أطل كثيرا، وأتمنى أن تستمتعوا بالفصل الأخير من رواية «ذاكرة الخندريس»، إذا كنتم قد استمتعتم بالفصول السابقة! أريد أن أذكركم بشيء أخير، وهو أنني أمارس حقي الطبيعي في الثرثرة.
عودة البازنجر
سريعا ما ظهرت على الطفلين علامات الراحة؛ صارت بشرتهما ناعمة، نما على رأسيهما شعر نظيف ناعم خال من القمل والبراغيث. أصبحا يكسبان يوميا وزنا إضافيا. هذا هو الشهر الثاني لهما بمنزلنا ... لا أكثر. تعلما كيف يستخدمان المرحاض، وافتتنا بمشاهدة القنوات الفضائية، خاصة اسبيس توون، إم بي سي ثري، واسبيس بور. بل أصبحت لهما أفلامهما ومسلسلاتهما المفضلة. تحسنت لغتهما، تجدهما عندما يتشاجران يستخدمان لغة مثل: احذر أيها الغبي! بدلا من: هيييي أوع.
وأصبحا يدعوان أمي بلفظة «ماما»، بدلا من «الجلكا».
الغريب في الأمر اكتشفنا مؤخرا أنهما توءم؛ نتيجة لمعايشتنا لهما اليومية وملاحظة نظام نمو الأسنان والسلوك الذي يكاد أن يكون متطابقا. كما أن دكتورة مريم أخذتهما لاختصاصي أطفال، أكد لها ذلك. هو أمر كان دائما موضع شك لدي، كنت قد أحسست أنهما توءمان منذ اللحظة الأولى التي رأيتهما فيها. لكن إصرار الفكي على عكس ذلك جعلني أتجاهل الموضوع.
لكن أجمل المفاجآت، وأكثرها إرباكا عندما قررت أمي وحبيبها وليد الجندي ذلك الروائي الغريب، الزواج. كان هذا حدثا عجيبا وجميلا في الوقت نفسه. كنت دائما ما أفكر في سعادة أمي، فقدها المبكر لزوجها، صبرها الطويل علي، ونوباتها النفسية المتكررة التي كانت بقدر كبير نتيجة لفقدها والدي وحياة العزوبية الروتينية التي تعيشها. لا شيء غير الزوج يحل محل الزوج ... كل الحذلقة الاجتماعية وطبيبات الأسرة لا تقنع امرأة عرفت متعة جسد الآخر، بأن تستعيض عنه بالطقوس الاجتماعية وثرثرة الأهل والجيران. فالجسد يحن إلى جسد لا إلى لغة. قالت لي: كل ما يعيبه كان شيئا واحدا - حدثتني أمي بخجل - إنه يتعاطى الكحول، ليس كثيرا، لكنه يشرب العرق كل يوم، أليست هذه مشكلة كبيرة؟ ألا يفتت ذلك كبده، إذا لم يكن قد تفتت أصلا؟
طمأنتها بأنها تستطيع أن تجعله يقلل من تعاطيه أو يتركه للأبد، حسب مجهودها معه، طالما لم يكن مدمنا، فيمكن تدارك الأمر ... - لكن المشكلة الأخرى - إيه المشكلة الأخرى يا أمي؟
يصر على أن تنتقل أمي معه إلى بيته، هي لا ترغب في أن تتركني أعيش وحدي في هذا البيت. - ح ترحلي معاي؟
يستحيل ذلك بالطبع، أن أنتقل معها لبيت زوجها. وهو أيضا يرفض أن يقيم معنا في البيت؛ فبيتنا لا يتحمل بنتا، زوجا، أما وطفلين مشاغبين . هذه الأمور المعلقة لم تنقص شيئا من سعادة أمي ونضارتها؛ حيث إنها أصبحت جميلة وندية مثل زهرة. أثبتت بالفعل أنها أجمل مني ... أجمل بكثير، بل أصغر عمرا. كنت أحس كلما تجملت أمي كانت تقصدني أنا بالذات. هذا الشيء لا يؤلمني ولا يربكني؛ لأنها ببساطة تريد أن تصبح يانعة مثل ابنتها الوحيدة التي هي أنا. مر الزواج برفق وسهولة، حيث تم عقد القران في بيت جدي بالقرية. انتهى كل شيء، وأقاما معي بالبيت إلى أن تحل إشكالية بقائي وحدي. أمي قالتها صراحة: إنها لا تخاف علي من مكروه بقدر ما تخاف علي من نفسي، وأنني قد لا أستطيع أن أضبط سلوكي. بصراحة أكثر: الجاهل عدو نفسه، وأنني إذا بقيت وحدي بالمنزل سوف أخرب سمعتها وسمعة أسرتها.
الروائي وليد الجندي، يكبر أمي بسبع سنوات. ليس في عمرها، كما كانت تقول هي. لم يتزوج من قبل ... كانت له تجربة حب يتيمة مع المرحومة سيدة إبراهيم التي قتلت في تظاهرات شعبية، اختنقت بمسيل الدموع، بينما تعاني هي من مرض الأزمة ... ماتت على الأسفلت. كانت تعمل في التمريض بمستشفى أم درمان. لا يحب أن يخوض كثيرا في هذا الأمر. يعمل هو مستشارا هندسيا مستقلا ... تخرج قبل سنوات كثيرة من كلية الهندسة جامعة القاهرة. عمل كثيرا جدا في كل بقاع السودان، لم يستقر بالخرطوم إلا قبل عشر سنوات فقط. أمي تعرفت عليه في إحدى زياراتنا لقبر أبي، منذ سنوات بعيدة. بينما كان يزور هو من أسماها صديقتنا سيدة إبراهيم. نشر روايته الأولى قبل شهر تقريبا، لكنه لم يحبط لأنها لم تخلق الأثر الذي كان يتوقعه، حيث لم يكتب عنها أي من النقاد الذين قاموا بقراءتها. فهو يظن أنه قام بمجهود كبير من أجل أن تصبح روايته ذات قيمة فنية عالية، أن تصبح في الوقت نفسه علامة فارقة في تاريخ الرواية السودانية على أقل تقدير، في ظنه، وهو صادق في ذلك. كما أشار بعض القراء إلى أول رواية في العالم تكتب من وجهة نظر القلم الذي تسطر به، الأوراق والحبر. هو يعرف أن الزمن خير الناقدين، سوف ينصفه. على كل هو ليس متعجلا، فالنقد في بلدنا بطيء وهو غالبا ما يلحق بالكتابة بعد جري قد ينقطع نفسه أثناءه. قد كتب الرواية في ثماني سنوات. بإمكانه أن ينتظر بضعة أعوام أخرى لكي يأتي من يكتب عنها بعمق، يكفي أن أمي احتفت بالرواية احتفاء بالغا، لدرجة أنها نادمته، غنوا معا للفنان إبراهيم عوض الذي يفضلانه: عزيز دنياي ...
أقنعني الجندي زوج أمي أن أرحل معهما في بيته، فهو بيت كبير في السلمة بالخرطوم. يتكون من طابقين عملاقين، يستطيع أن يوفر لي نوعا من الخصوصية: يعجبك!
وفعلا قبلت، لا لشيء لكن لأنني لم أستطع أن أوفر هذه الخصوصية لأمي في بيتنا الصغير ... وزوجها.
في زيارة مفاجئة، جاءنا الفكي في مكتب المنظمة. عندما وجد المستأجرين الجدد ببيتنا، وصفوا له المكتب. كان لا يزال نظيفا ... بدا عليه الاهتمام بنفسه وهندامه، يبدو أنه قد استحم عدة مرات في الشهور الماضية، وغسل ملابسه كثيرا؛ لأنها بدت باهتة من أثر الصابون والشمس. فمن يره يظنه عامل يومية كادحا، ليس متشردا عاطلا، لا يرغب في العمل. ولو أنه ما زال نحيفا، تفوح من جسده وملابسه رائحة الشمس. بعد أن تناول بعض الماء وكوب الشاي سأل عن الأطفال: حسكا وجلجل. سألته سؤالا مفاجئا: أين هرب هو ونونو؟
قال لنا، وكنت أعلم أنه يكذب: إن نونو رفضت البقاء في البيت وأجبرته على الهروب. - أين نونو الآن؟
قال: إنها في أم درمان، قال: إنها تعمل مع إحدى النساء في سوق قندهار بأم درمان كمنظفة للآنية المتسخة، وأنها تنام في ذات المطعم، قال فجأة ودون مقدمات، واضعا على فمه ابتسامته المربكة: أنا عايز أشيل أولادي معاي.
قلت في استغراب. وكأنه ليست هنالك صلة بينه وبينهم: تشيلهم توديهم وين؟
قال بهدوء وفي فمه ذات الابتسامة الغريبة المربكة: يقعدوا مع أمهم في قندهار. أمهم تبكي الليل والنهار؛ لأنها مشاقة ليهم.
سألته بقسوة: قل لي يا الفكي: الأولاد ديل أولادك؟
قال بسرعة وبكل ثقة : أيوة أولادي ! في شنو؟
قلت له: هل يرغب في أن يعيش أولاده عيشة رغدة في بيت نظيف ويتوفر لهما الطعام والشراب وكل شيء. ويدرسان إلى أن يتخرجا من الجامعة وينفعاه وينفعا نفسيهما، ويظلا يحملان اسمه. وصورت له ما استطعت الحياة التي تنتظرهما في كنف أسرة مقتدرة.
قال بإصرار شبيه بالغضب واختفت ابتسامته بصورة كاملة ونهائية: عايز أولادي يتربوا معاي. أمهم عايزاهم.
انضم للحوار المدير التنفيذي للمنظمة وبعض الزملاء، سأله المدير التنفيذي عن أيهما أكبر سنا، جلجل أم حسكا؟
قال سريعا: حسكا.
سأله عن فرق العمر بين الاثنين.
قال، دون تردد وهو يتجنب النظر في عيني المدير: سنة.
قال له المدير التنفيذي إنه كاذب؛ لأن الطفلين توءمان. أنكر ذلك، وقال: إنهما يتشابهان لا أكثر، وإنه يعرف أطفاله جيدا. وأخيرا اتفق الجميع على أن تجرى فحوصات طبية متقدمة لمعرفة حقيقة الأمر، مثل اختبار ال
DNA . والفحوصات المصاحبة، بعد ذلك: نديك أولادك لو طلعوا أنهم أولادك بالجد.
لم يفهم شيئا، لكنه على ما يبدو عرف أن الموضوع أكثر تعقيدا مما يظن، فسأله المدير التنفيذي - بصورة ملتوية - ما إذا لو دفعت إليه أتعابه بسخاء كبير وبسرية تامة. هل يتنازل عنهم لأسرة كريمة تقوم برعايتهم؟ فسكت لفترة طويلة، فسألته عن كم هي أتعابه؟ - ادفعوا لي 500 جنيه وشيلوهم مرة واحدة.
قلت له، وأنا أحملق في عينيه: نديك 200!
قال وقد برقت عيناه إثارة: 500 بس، أنا جاملتكم، اللي في عمرهم ده الواحد 500، شيلوا الاتنين ب 500.
كما يقول المثل: «كنا نريد أن نصطاد فأرا، فاصطدنا فيلا!»
ها هي بوابة قميئة فتحت الآن، كنا نعلم بأنها موجودة في مكان ما لكن لا ندري أيا من خيوطها. بعد تشاور فيما بيننا، عزمنا على معرفة التفاصيل التي سوف نحتفظ بها لأنفسنا، إلى أن يحين وقت العمل. ها هو أول الخيط، لن نفرط فيه بعد الآن، مهما كلفنا. اقترحنا بأن نقوم بإغرائه بالمال ... إذا رفض فإننا اتفقنا على أن ننتزع المعلومات منه بالقوة. قررنا من حينها بسجنه في مكتب المنظمة إلى حين معرفة كل خيوط الشبكة . لكنه عندما رأى أول ألف جنيه حدثنا عن الزبائن. هو لا يعرف غير الزبائن الوسطاء، أما كل ما عداهم في علم الغيب. بالطبع صدقنا ذلك؛ لأن الزبائن ليسوا بالغباء الذي يجعلهم يكشفون له كل خيوط اللعبة، ولا الأهم منها، أو بعضها، فهو قد يقع في يد من يجبره على قول كل شيء في يوم ما. من ثم حدثنا عن الزبون الذي ينتظر في أم درمان لشراء التوءمين. سألناه: فيم يستفيد الزبائن من الأطفال؟ قال: إنه لا يعرف، لكن يقال: إنهم يستخدمونهم اسبيرات (قطع غيار).
عن طريق كمين قمنا بنصبه مع بعض أصحابنا في المباحث الجنائية والشرطة، في أقل من ساعتين، كان في يدي البوليس أحد أخطر الوسطاء في الخرطوم في المتاجرة بالأطفال، وهو من دل رجال المباحث على موقع «الجزارة البشرية»، طبعا بعد تمارين شاقة نفذها في غرفة الاعتراف والرقص الممتاز! •••
بالتأكيد، هذه الرواية ليست رواية بوليسية، وأنتم تتفهمون ذلك. أيضا لكي لا نربك القراء وبعض النقاد المحتملين، فالراوي فيما يلي هو الكاتب نفسه؛ لأنني لاحظت أن الأبطال الحبريين، الذين صنعتهم بنفسي وبما لدي من مواهب في بنائهم الموضوعي، وتشكيلهم تاريخيا ونفسيا، أخذوا يسوقون الرواية نحو مخافر الشرطة، ينحون بها منحى بوليسيا، ويتحدثون عن أصحاب لهم في الشرطة والمباحث الجنائية. أنا مثلي مثل ألفريد هتشكوك، وكل المؤمنين البسطاء، أخاف من الشرطيين. لذا سأقود السرد هنا بنفسي، كروائي وراو؛ حتى أجنب روايتي الوقوع في فخ الأجاثاكرستية، أو الكوناندولية، أن تصير رواية بوليسية، وبعد أن أنقذ روايتي سأعيد مقود الأمور للراوية الأساسية سلوى، أو غيرها ممن أتوسم فيهم خيرا. هذا يعني ببساطة أن السرد سوف لا يعود القهقرى إلى كيف تم القبض على عصابة الاتجار بالأطفال، كيف قاوموا، كيف تحايلوا، كيف تبادلوا الركلات، الضربات ... وتراشقوا بالأسلحة البيضاء؟ ولا كيف استل الشرطيون أسلحتهم النارية في مواجهة عنف البازنجر، من مات، من جرح من؟ وأنني أيضا سأتجاهل الأحداث التي كانت قبل وبعد أن يقول كبير ضباط الشرطة، وقد تطاير الشرر الممزوج بالخوف من عينيه : «اقتله، اقتله، عايز يخصيني، أرجوك!»
لكنني كما يفعل ربان السفينة التي تمرد بحارتها، وأعلنوا تحولهم إلى قراصنة، سأتدبر أمر روايتي بحكمة، بحرفية، وطول بال.
لا أدري كيف تجمع السكان بهذه السهولة حول الموضع الذي سيصبح في الشهور القادمة حديث الصحافة والناس، خاصة بعد فضيحة لجنة المنظمات التي تعمل في مجال حقوق الأطفال، تلك اللجنة الدولية التي جاءت تتقصى الخبر أو ما أسموه جريمة العصر، ودخلت البلاد بغير تصديق رسمي، حيث تم رفض طلبها من أولياء أمر الشعوب السودانية وسدنة أسرارها. وما سمي بفضيحة هو نجاح بوليسنا الهمام في القبض عليهم متلبسين بالتحري في قضية «الجزارة البشرية» - هذا هو الاسم الذي أطلقه بعض المعارضين والخونة للبيت الذي نحن بصدد التحدث عنه - بدون تصديق رسمي.
البيت بناية جديدة تتكون من طابقين، وهو سمة البيوت الكثيرة التي بناها الأثرياء الجدد، شيد في مدينة الفردوس، حي الصفاء، يجاور المبنى الفخم لشركة نون، الرائدة والمحتكرة لتجارة وتوريد سيارات شركة تويوتا اليابانية. للذين يعرفون تفاصيل وأفرع شارع الستين نستطيع أن نصف لهم المكان بجملة قصيرة: «تقاطع ش60 مع 33»، في شارع قذر، هذه الصفة الأخيرة ليست استثنائية، فكل شوارع المدينة تتصف بها، حتى أكثر أحياء العاصمة رقيا، حيث تتناثر في شوارعها أكياس البلاستيك الفارغة، فوارغ الأطعمة الجيدة، المزابل الحزينة، الأتربة، ونفاياتهم المنزلية القيمة. في العادة يبقي الأثرياء على بقايا مواد وحفريات البناء، من: طوب، أسمنت متحجر، قطع سيخ غير مفيدة، بعض الحصى، رمال صفراء خشنة، ما يمثل شحنة عربة نقل كبيرة من الأتربة وغيرها، تبقى عشرات السنوات بعد اكتمال المبنى إلى أن تصير هي ذاتها أحد معالم المكان. لا أدري ما الحكمة من ذلك؟! قال لي أحد الأصدقاء، مفسرا تلك الظاهرة: «إن جل هؤلاء الأثرياء الجدد ذوو عقلية ريفية بسيطة مثلهم مثل السياسيين، وليس بإمكانهم أن يفرقوا ما بين ما هو أوساخ وما هو زينة الحياة الدنيا.» يعجبني تعبير الروائي ميلان كونديرا قاصدا تلك الفئة: إنهم ليسوا أثرياء، لكنهم فقراء لديهم مال.
إذا تركنا النميمة جانبا، نجد كبار أثرياء المكان، بعض العاملين في بيوتهم، والقليل من الأطفال الذين لم ينصاعوا لأوامر أسرهم بالبقاء في المنازل وألا يقلقوا بشأن ما يدور؛ لأن التفاصيل ستصل إليهم في غرفهم الآمنة، نضيف إليهم ما لا يقل عن مائة شرطي مدججين بأسلحتهم الأوتوماتيكية الرهيبة، عشرين من الصحفيين، ثم الأطفال الأحياء الذين يتم إجلاؤهم من المبنى الآن، يغادرون مثل العميان إلى عربة الإسعاف. عندما مر موكب الجثث أو الرفات المحروق بعد ذلك، يتبعه خيط من العفونة، كان الأهالي ذوو القلوب الرقيقة الرحيمة والأنوف الطازجة قد هربوا بعيدا قابضين بأناملهم على أنوفهم في تأفف مقيت، اثنان منهم على الأقل سقطا مغمى عليهما. كان عبد الباقي، سلوى، مدير المنظمة الأصلع وكثير من أصدقائهم، يقفون في داخل قاعة الاستقبال معا ورجال المباحث. كانت دكتورة مريم ومعها مستشاران من الطب الشرعي، يتجولون حول ما يشبه قبرا أسطوريا ضخما، أو أكبر قبر على وجه الأرض، قبر لا يمكن ملؤه؛ لأنه يحول الجثة إلى بعض رفات حنين وسهل التخلص منه. ينقسم المبنى إلى قسمين رئيسيين مفصولين فصلا تاما عن بعضهما البعض، قسم للإعاشة وهو يتكون من مطبخ كبير، سفرة تسع عشرين شخصا وست حجرات، واحدة للمشرفة والطباخة، وخمس غرف أخرى بكل غرفة أربعة أسرة. يحتل قسم الإعاشة هذا الطابق الأعلى من المبنى كله، كان معدا جيدا بحيث يشكل بيئة معقولة للأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة والثامنة عشرة، بينهم بنتان. ولو أن الأطفال كانوا في حالة من الإعياء بالغة؛ نتيجة للمخدر الذي يتناولونه بصورة مستمرة، أو كما لاحظ أبطالنا، كانوا شبه موتى. حسنا، إنهم مثل الزومبي
Zombie ، نصف أحياء ونصف أموات، يأكلون ويشربون ويذهبون للمرحاض، عندما يتكلمون لا يقولون شيئا مفيدا، مجرد همهمات بائسات مملات في الغالب لا تعني شيئا يستطيع أن يفهمه المشرفون. وجوههم مسطحة، مسترخية لا تظهر أي مشاعر، كأنها أقنعة بلاستيكية. يقضون خمسين في المائة من يومهم - كما هو متوقع لمن في حالتهم - نياما.
الجزء الآخر من المنزل ينقسم إلى قسمين متصلين ببعضهما البعض : المقبرة والمشرحة. الأخيرة هي غرفة عمليات ميدانية معقمة، بها أجهزة بسيطة. تفسر دكتورة مريم ذلك بأنهم لا يحتاجون لغير مشارط، بعض المقصات والقطن. يعطون الطفل جرعة كبيرة من المخدر، لا يستيقظ بعدها أبدا. ثم يقومون بنزع أعضائه الحيوية، يحفظونها في ثلاجات خاصة - توجد اثنتان منها - ثم يتخلصون من بقية الأحشاء والجثة في المقبرة المجاورة، والمقصود هنا الحجرة الأخرى، أعني الفرن؛ حيث يتم تجفيفها تدريجيا، من ثم الاحتفاظ برفاتها لسانحة التخلص منه. قد لا تحتاج هذه العملية طبيبا متخصصا، بل يستطيع جزار ماهر - تلقى فترة تدريبية قصيرة على يد شخص متمرس - القيام بكل ذلك، بسرعة وإتقان. أهم شيء في الموضوع هو الحفظ السليم في المكان السليم، وسرعة التخلص من العضو بالبيع للزبون المناسب الذي في غالب الأحوال يتم توفيره قبل العملية، عن طريق وسطاء ثقات وذوي خبرة عالية في المجال. توالت المعلومات بصورة مدهشة بعد ذلك، تم كشف ثلاث شبكات رئيسية؛ أكبرها: فرع النيل الأبيض، مقرها مدينة ربك. الثانية: فرع النيل الأزرق، مقرها مدينة سنار. الثالثة: تسمى المكتب الرئيسي، مقره هذا المبنى بالخرطوم. أما الأفراد الذين ينطوون تحت هذه الشبكة، فإنني لا أستطيع أن أذكر أسماءهم هنا ولا وظائفهم أو أي معلومة عنهم، فهم عينة الشخصيات التي يعبر عنها بجملة غليظة حاسمة: «الشخصيات التي يجب ألا تمس!»
وكما تقول إحدى بطلات «ذاكرة الخندريس»، وأظن أنها أم سلوى: «خوف المؤمن على نفسه حسنة.» وإنني أعلم أيضا أنكم لا تتوقعون مني غير ذلك.
علي أن أتوقف هنا، أسلم مقود السرد لأبطال الرواية، سلوى سوف تكمل معكم كل ما ترغبون فيه أن يكتمل. •••
كنا في حالة نفسية جيدة وروح معنوية عالية، على الرغم من أننا فشلنا تماما في الوصول لأي خيط يقودنا إلى موردي الميثانول القاتل، وكان دائما ما ينقطع الخيط عند خط أحمر لا يمكن تجاوزه. فكل الموردين العشرين، إما أنهم قبضوا الآن تحت التحقيق، أو أنهم هربوا واختفوا نهائيا. اثنان منهم ماتا مسمومين بذات الميثانول. لكنا كنا سعداء جدا بما حققناه من نجاح في موضوع بيع الأطفال نجاحا ما كنا نحلم به، أتى إلينا ساعيا بقدميه ونحن لم نبرح مكتبنا، لكن أليست الصدفة تأتي لمن يبحث عنها؟
كانت أمي في غاية السعادة، لم أرها مطلقا في تلك الحالة إلا في يوم زواجها، لدرجة أنها سمحت لي صراحة أن أذهب مع بقا أينما شئت: اتفسحوا!
لكني قلت لها موضحة: للأسف يا أمي أنا وبقا انتهت العلاقة اللي بينا.
قالت مندهشة: لييه يا بت؟
قلت لها محاولة أن يكون صوتي هادئا وعاديا: أنا سوف لا أفكر في موضوع الزواج أبدا، في هذه الحياة ما هو أهم منه، أما الأطفال فالآن لدينا توءمان، أنا وأنت شركاء. قالت بصوت منخفض: شنو الأهم من الزواج؟
حسنا، يا سلوى، قولي لها ما هو الأهم من الزواج! لم تكن لدي فكرة محددة، أو إجابة مقنعة، أو إنني كنت أفكر في شيء بعينه عندما قلت لها تلك الجملة. لكن من منطلق أن أجيب على سؤالها الذي هو أشبه بصفعة غير متوقعة من كف نمر على وجهي، لم أقل لها إن عبد الباقي يعد التفكير في الزواج انحرافا من قبل البنت، ومحاولة فاشلة من الرجل على احتلال جسد المرأة وحسم معركته ضده بهزيمته أو بافتراسه، قلت لها: أهم من الزواج عدم التفكير فيه.
تراجعت أمي مبتسمة في حزن. بدا واضحا أن إجابتي لم تقنعها ... بل إن إجابتي لم تقنعني أنا أيضا. هكذا، تعكر مزاج أمي مرة أخرى، أخذت تعتذر لي ظنا منها أنني تأثرت برأيها السلبي عن عبد الباقي، وأنني استجبت للضغط الذي فرضته علي؛ فتركته. أكدت لي أنها لا تشك في أخلاقي وسلوكي بل ووعيي بالحياة، لكن قلب الأم الذي لا يطمئن على شيء، كان دليلها الأوحد. قلق أمي وعكرة مزاجها لم يمنع أن يستمر الحفل في مكتب المنظمة إلى ساعة متأخرة من الليل، وأن يغني صديقنا أمير موسى أجمل أغانيه ويحكي لي في أذني نكتتين بذيئتين. ولم يمنع أيضا من أن أقضي باقي الليل في حجرتي الجميلة في صحبة حبيبي الجديد، الذي تم إطلاق سراحه قبل ساعتين، اتصل بي بمجرد أن وجد أول مركز اتصالات، كان هزيلا، في أردية متسخة، لكن ليس بجسده أثر للضرب، إنهم لم يعذبوه مباشرة على جسده، فقط كانوا لا يسمحون له بالنوم. قال لي لاحقا: في الحقيقة كنت لا أرغب في النوم، إلا إذا باغتني النوم مباغتة، كنت خائفا جدا، خائفا بالجد.
كانت تفوح من جوانبه رائحة أشبه بعبق الخشب المتعفن. كنا في الحمام ... طلب مني أن أدلك جسده بيدي، قال: إنه يفتقد كثيرا ملمسا رقيقا. لم يمس جلده الماء طوال الأسابيع التي حبس فيها. كان سعيدا جدا، يظن أن حياة جديدة قد كتبت له، ما كان يصدق أنه سيخرج من ذلك الجب سالما. العجيب في الأمر إلى تلك اللحظة، لم يستطع أن يتبين حقيقة الذين قاموا بحجزه طوال هذه الأسابيع! لم يخبره أي منهم عن سبب حجزه، كما أنه لا يعرف لم أطلقوا سراحه أخيرا؟! سألته سؤالا ظل يؤرقني لشهور كثيرة مضت: ما هو السؤال الذي طرحه على وزير الرعاية الإنسانية في المؤتمر الصحفي بمقر جريدة السودان في 20 / 7 / 2011؟ كان عليه بالساحق والماحق والبلاء المتلاحق؛ فقد وظيفته لأجله وما زال مطاردا من قبل جهات كثيرة. تحدث وهو مغمض العينين، يحاول أن يضع ابتسامة صغيرة على شفتيه المبتلتين؛ لأن الصابون السائل كان يهبط من شعر رأسه على جفنيه وفمه مباشرة، قال من بين فقاعات الصابون: «سألته: هل تم تبادل أي خبرات فنية بين الحكومة الوطنية وحكومة البرازيل في شأن التعامل مع إشكالية التشرد؟ وهل تمت الاستفادة من تلك الخبرات، إذا ما كان قد حدث هذا التبادل فعلا؟»
29 / 11 / 2011
الدمازين - النيل الأزرق
صفحه نامشخص