مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
ژانرها
أفرغت أمي أمعاءها مرتين، قبل أن ينعطف بنا سائق سيارة الأجرة الصغيرة الثرثار ناحية سينما حلفايا، حيث أوقفه عبد الباقي. أعطيناه ما اتفقنا عليه من نقود، وتوقفنا في مكاننا إلى أن اختفت العربة عن الأنظار تماما، من ثم هرولنا بهم ناحية منزلنا الذي لا يبعد كثيرا، وسط أعين المارة المتطفلة المشحونة بالأسئلة التي لا إجابات لها في غير حجرات التحري المخيفة في مخافر الشرطة، أو أمكنة أخرى أكثر رعبا.
تركنا أمي تفرغ ما تبقى من أمعائها عند قارعة الطريق، معطية ظهرها للأسفلت ووجهها لحائط السينما العجوز المغلقة، المهجورة التي هي الآن إحدى أوجار اللصوص وملاجئ المتشردين، غير الآمنة، بعد أن انتهى عصر السينما والرفاهية، وفشل مشروع الاستنارة القومي.
انحراف البنت
هل الرجل انتهازي بطبعه أم المرأة لم تستطع أن تفهمه كما يجب. أم العكس أن المرأة هي الانتهازية، والرجل ليس سوى كائن دائما ما يصعب عليه فهم المرأة؟ لكن في الأمر انتهازيا من جهة ما، هو أو هي ... هذا ما أنا متأكدة منه تماما. ليست لدي تجربة كبيرة في الحياة تمكنني من إطلاق أحكام نهائية على الظواهر، لكن كما تقول أمي: إن وعي المرأة دائما ما يسبق عمرها، وكل النساء خبيرات في الحياة، وإلا لما استطعن أن ينجبن الرجال، يربينهم ويزوجنهم أيضا. أمي دائما لها آراء حادة في هذا الأمر.
لقد قلت في مكان ما من هذه القصة: إنني أحب عبد الباقي، وإنني أريد أن أنجب منه أطفالا أو طفلا. لكن الشيء المحبط الذي لم أتطرق إليه هو أن عبد الباقي يعد الحب هو الغاية النهائية، ولا علاقة للزواج به، والأسوأ أنه يعد كل حبيبة تفكر في الزواج شخصية منحرفة، أو بدأت تنجرف في تيار الانحراف، فكيف لشخص أن يسعى لما هو أفضل تاركا خلفه ما هو أجمل وأبقى؟! أعرف أن هذا ما يسميه البعض الانتهازية، أنا مثل أمي، أسميه التهرب من الذهاب بالعلاقات الإنسانية الجميلة إلى نهاياتها السعيدة المرجوة. وهذه النهايات ليست الزواج فحسب، هذا الاسم البرجوازي البغيض، لكن أن يعيش الشخصان معا وينجبا أطفالا يربيانهم تربية خيرة. لكن كيف يتم ذلك في غير المؤسسة الزواجية التقليدية التي يعود لها الفضل في التقليل من عدد المتشردين والأطفال الذين هم خارج الرعاية الأسرية؟ وهي أيضا المتسبب الأكبر - من جهة أخرى - في الزيادة الكبيرة في تعدادهم! نتحدث عن الفقر، الجهل، المرض، الأطفال غير المخطط لإنجابهم. ولو أن الرافد الأساس في السودان للمتشردين هو الحرب وسلم ما بعد الحرب، وهو ما يسميه كاتب مخبول «جثة الحرب». عبد الباقي لا بدائل لديه، دعونا نسمع عبد الباقي معبرا عن نفسه، هذه مساحة إبداعية إنسانية نعطيها لعبد الباقي ليقول ما يشاء قوله؛ لأنه يستطيع أن يعبر عن حاله أكثر مني كراوية أنثى:
المرأة مثل أغنية جميلة لا تكتفي من الاستماع إليها مرة واحدة، وهي مثل البحر مجهولة الأعماق، ومثل الطائر لا يطمئن للهواء والشجرة معا، يطمئن فقط لجناحيه. ستبدو أفكاري غريبة بعض الشيء، متناقضة بعض الشيء، أولا بالنسبة لرجل متزوج ويقيم علاقات خارج المؤسسة الزواجية، بل يحب بعمق، الشيء الذي سوف لا تجدون وسيلة لفهمه هو أنني أحب زوجتي وأحب سلوى، هما سيدتان جميلتان، وطيبتان، المشكلة الفعلية في المؤسسة ذاتها. بالتأكيد ستقولون: «إن العامل الفاشل يلوم أدواته!» وأنا أفعل؛ لأن الحبيبة بعد العقد تتحول إلى امرأة تمتلك رجلا، والرجل يتحول إلى أب يمتلك امرأة، أب بكل رموزه الشنيعة، ويعمل الاثنان لهدم المشروع بارتباطهما القوي به. عندما أنجبت زوجتي أطفالي الأربعة، صرت أحب أطفالي أكثر وهي أيضا كانت تحب أطفالها، وافتقدنا معا الحبيب والحبيبة. وهذا تبرير مثالي ونفعي، لكنه يذهب كثيرا في عمق الحقيقة، يفتش عنها بوضوح. وأنت أمام الحقيقة مثل جرذ أعمى تشم طريقك إليها ولا تراها، حتى إذا لامس جلدك جلدها، وملأت خياشيمك الفأرية بعبق إبطها الحنون، تظل غريبا عنها. كنت واضحا معك منذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها وقررنا أن نعيش كحبيبين. أنا متزوج، زوجتي طيبة جميلة، أحبها. لدي أربعة أطفال: بنتان وولدان. وأخبرتني أنت أيضا بأنك تحبين حسن إدريس، وحدثتني عن كل شيء حدث بينكما، وكيف أنه وقف موقفا مخزيا تجاهك، وأنه كاد يقتلك عندما علم بأنك حبلى، فأجهضك قسرا في شهرك الأول. على الرغم من أنكما افترقتما منذ سنة كاملة، وأنه قد تزوج قبل شهر من لقائنا، إلا أنك ما كنت تدرين: هل تسامحينه أم تكرهينه أم أنك ما زلت تغرمين به؟! وكنت أيضا لا تدرين: هل ستعشقينني في يوم ما أم لا؟! - قد أتعلم كيف أحبك إذا تجاوزت بعض الجراح.
هي طريقتك المراوغة في الكلام والعاطفة ... فلم نستطع أن نسمي تلك العاطفة العنيفة التي جمعتنا معا، وتركنا كل شيء لما تأتي به الأيام، وكان هذا ما يعجبني فيك. لم أمارس الجنس مع زوجتي منذ اليوم الذي عرفتك فيه، ليس لأنني أكتفي بك فحسب، لكنني لا أعرف الكذب الجسدي، أو أن جسدي هو الذي لا يعرف الكذب البشري. والجنس والحب كلاهما خيال مثل الجسد، لا يمكن للثلاثة أن يتشكلوا عنصرا ماديا واحدا دائما، إلا عندما ينتجون الأطفال. وهذا هو سر تحول الحب إلى الأطفال وترك المؤسسة الزواجية خاوية على عروشها المتهالكة في الأصل تندب حظها. لقد جمع بيننا الأطفال المتشردون أكثر مما يجمع بيننا أي شيء آخر؛ الحب على سبيل المثال. كنا نظن - وما زلنا - أننا نستطيع أن نفعل شيئا من أجلهم، ولو من أجل طفل واحد لا غير، شيئا فعليا ملموسا، شيئا يشبع فينا رغبة الانتماء للإنسانية. - ليس لمجرد أنك خلقت بهذه الهيئة البهية قد توجت إنسانا - كنت تقولين لي - لكن لأنك نلت إنسانيتك بكل جدارة عن طريق سعيك الدءوب للانتماء الفعلي للبشرية، وهذا ما يجب وما يكون.
المتشردون هم قضيتنا وسلمنا للإنسان، البعض يعمل في مجال السياسة أو الأدب، البعض في معامل العلم التطبيقي أو النظري، قد يحمل سلاحا ويخوض معركته الفعلية ضد الظالمين. البعض يبحث عن كينونته الإنسانية في الحب، وذلك مثل أمك وجبران خليل جبران. البعض في الشعر والفنون الأخرى مثل الجسد، وآخرون مثل الروح. عم سيف سمعريت يفعل ذلك ببساطة أكثر، إنه يعمل وسيطا ما بين المعرفة والباحث عنها. البعض يقدم نفسه أنموذجا للسلوك المنفلت مثل: عثمان بشرى، أحمد زكي، زهرة بت إبليس، رامبو ... وآخرون. كل تلك منافذ للولوج عبر ثقب إبرة الإنسانية التي تسع الجميع: المشاركة في الحياة والهم الوجودي. أنا أحب أن أثرثر؛ لأنني لا أعرف أن أعبر عن نفسي بطرق أخرى. وها هي سلوى تورطني بالكتابة، كما ورطتني بالحب من قبل، وها أنتم تجدون كتابتي هموم مثقف أكثر منها فقرة في رواية أريد مني أن أكون أحد كاتبيها.
عبد الباقي يتهرب من التعبير عن نفسه، وكنت قد أتحت له فرصة ذلك كتابة، فهو يعرف كيف يفعل الأشياء بقلمه، لكن لا بأس! في الحق كنت مكتفية به لأسباب كثيرة؛ أولها: مثلي مثل كثيرات لا أحب تعدد العلاقات، أحب أن أعطي نفسي لرجل واحد فقط، وهو الذي أرتبط معه في علاقة، وطالما كانت هذه العلاقة مستمرة. والشيء الآخر: صعوبة الدخول في علاقة أخرى مع رجل، فعملية اختيار الشخص المناسب الذي يحرك في البنت أحاسيسها ومشاعرها، يرقص جسدها ترقبا ويحافظ على سرها وعليها، عملية تصير أكثر صعوبة يوما بعد يوم. وكلما مرت البنت بتجربة مريرة كانت أكثر حرصا في التجارب اللاحقة، إلا إذا شاءت الواحدة منا أن تعطي نفسها للآخر كيفما اتفق. ولا أحد يستطيع أن يخدعها أو يكذب عليها - عكس ما تعتقده أمي - فالبنت تعرف ما تريد ولا تفعل إلا ما ترغب فيه حقيقة. ومثلنا مثل الآخر، نحن نبحث عن المتعة الجسدية، نعم نريدها بشروطنا الخاصة، قد نفشل كثيرا ... قد ننجح ... قد نتنازل عن هذه الشروط أو عن بعضها بكامل وعينا وإرادتنا. عبد الباقي يعرف ذلك ويفهمه، لكنه أيضا يريد أن يفعل الأشياء وفقا لشروطه هو الخاصة، ولا ضير في ذلك. أنا قررت أن شروطه الخاصة لا تتوافق مع شروطي الخاصة، أنا أريد زوجا وأطفالا - تريدهم أمي أكثر - وأريد بيتا صغيرا أم كبيرا، أقصد مملكة برجوازية خاصة. وشرط هذا البيت الأطفال وليس الرجل، أستطيع أن أدير بيتي وحدي، وأنشئ أطفالي كما أشاء، كل ما يجعل الرجل مهما في هذه المملكة هو الطقس الاجتماعي، وفوضى القوانين والموروثات الاجتماعية. أعرف مئات النساء اللائي رغم ذلك كله تخلين عن الزوج؛ إما لأنه مات، أو طلقهن أو طلقنه، أو هجرهن وتزوج من أخريات، واستطعن أن يقدن حياتهن كأجمل ما يكون، بغير طلته الخشنة البهية!
عندما يقرأ عبد الباقي ذلك سيحكي لي قصة القط الذي لم يستطع أن يتحصل على اللحم المعلق في سقف البيت، الذي يغويه بعبقه المثير، فشتمه بأنه سيئ الرائحة، طاردا الهواء من أنفه: أفوووووووو.
صفحه نامشخص