مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
ژانرها
قلت لها همسا: نحن ماشين نشوف المتشردين في الحديقة، وحنجي وننوم هنا في البيت، والبيت ده بيتك زي ما هو بيتي وبيت أبوي.
قالت بكل برود، بذات درجة الصوت الهامس في أذني، وهي تقبض على رأسي بشدة كأنما لو أنها أطلقتني سأهرب قبل أن تكمل جملتها: أبوك لو كان عارف بنته بتطلع زيك قليلة أدب كان «قتلك»، قتلك قبل ما يموت.
قلت لها، قد ملئت غيظا: كويس، أنت ليه ما قتلتيني؟!
قالت وهي تحملق في عيني: أنا لا أقتل الذباب والحشرات.
لحسن الحظ عبد الباقي لم يكن قريبا ليسمع شتائمنا، كان بالديوان وكنت وأمي بالمطبخ، عندما تصل أمي لهذه المرحلة من إطلاق الشتائم أفضل الانسحاب؛ لأنني لا أستطيع أن أحمي نفسي من أسلحتها الشريرة التي تبدأ بالقذف بآنية المنزل، لا يعلم غير الله ما يكون آخرها!
خرجنا - أنا وبقا - استقللنا المواصلات العامة من بحري المحطة الوسطى إلى ميدان الشهداء، إلى الحديقة. عبرنا أمام بيت جدنا الخليفة عبد الله التعايشي، لم تكن لدينا - الاثنين - رغبة في ممارسة الجنس، ولو أن كلينا نظر إلى البيت الأثري الجميل في تشه، كان يشغل جسدينا وروحينا الأطفال والمتشردون المعرضون للتصفية. حيانا الرسميون الذين يحرسون بوابة بيت الخليفة. قد تكون القطط سعيدة الآن في حجرتنا، قد تتوسد مخداتنا ولحافنا اللذيذ. كانت الحديقة المهجورة صامتة كعادتها، دخلناها بحيث لا يرانا أحد، خاصة رجال الشرطة. لم نجد الأطفال الآخرين. شممنا رائحة الجثة المتعفنة منذ ولوجنا حوش الحديقة، عندها أصررنا على الدخول سريعا. كانت الرائحة تجذبنا للداخل على الرغم من أنها لا تطاق. وجدنا جثتين لطفلين آخرين متعفنتين ، في الحجرة شبه المظلمة، تحرسهما جيوش من الذباب والجرذان، كان طنين الذباب مرعبا. ونحن نتعمق في الحجرة المهجورة وجدنا آخر يحتضر يطلب الماء، بين حين وآخر يردد في صوت حزين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
صلى الله عليه وسلم . يرتل سورة من القرآن لم نتبينها، لكننا كنا متأكدين أنه يقرأ سورة ما. يطلب جرعة ماء، ثم يردد الشهادة مرة أخرى. كان شبه مشلول ... شبه ميت ... شبه نبي ... شبه إنسان!
بغير أي تحفظ، في لحظة واحدة حملناه خارج المكان، أنا من جهة الرأس، باقي من جهة الساقين. كان ثقيلا، طويلا كث الشعر، باردا وثرثارا مثل ببغاء. أحضرنا له ماء، رفع رأسه، نظر إلينا، قال بصوت متحشرج: عايز آكل، أنا جيعان حاموت من الجوع.
أصابتنا الحيرة البالغة في أسلوب التعامل مع حالته، كان الخوف هو السيد الأساسي والوحيد للموقف. العفنة تطل علينا بعنقها القذر من داخل الحجرات، شبح الجثث يطاردني ... يرتسم في كل شيء أنظر إليه. كانت عيونهم البارزة للخارج تحملق في طوال الوقت ... أصبت بحالة من الغثيان. المتشرد الطويل يثرثر في همس غير منقطع، يقرأ ما يمكن أن نطلق عليه كلاما مقدسا ... وهو يحتضر في صورة دراماتيكية. يرجونا بإصرار إنساني ومحبة في البقاء عنيفة، أن ننقذه! نخاف أيضا على أنفسنا من السجن والمساءلة؛ حيث بالإمكان أن تلفق في حقنا أي من التهم ذات المعيار الثقيل. كنا كما هو واضح ومعروف أننا نخشى من فرقة الموت. لم نرهم ... لم نحتك بهم، لكنهم كانوا دائما ما يفيخون في وعينا ويشعلون عشب المخالفات في ذواتنا ... نتخيلهم يطوفون حولنا مثل فريق من الشياطين. إنهم دائما موجودون في مكان ما في الوعي أو خارجه. إذا كان لدينا المال لكان تصرفنا مختلفا، فالمال - كما يقولون - نوع من التفكير. كنا في قارعة الطريق ويسهل القبض علينا؛ لأن الجثة التي لا تكف عن الثرثرة ترقد ممددة على الأرض في وضع شاذ ومفضوح. قمنا بتغطيتها بجوال فارغ من الخيش عثر عليه عبد الباقي في المكان . قبل يومين أقام بعض السياسيين الرحماء مأتما للعزاء في بيت كبير وثري، تحدثوا فيه عن المتشردين بحب وعاطفة جياشة. قد بكى البعض على الظلم الذي حاق بهم وحقهم المسلوب في الحياة الكريمة. كنا هناك، تعرفنا برجل ذي مال وعاطفة، رجل شحيم بدين نظيف، تفوح من جوانبه فابريقات كرستيان ديور، قال لي إنه سيقدم لنا كل ما يستطيع من مساعدة طالما كنا نخدم المتشردين طواعية: أنا مهتم شديد بموضوعهم، لا بد من تصحيح وضع المتشردين في السودان.
قمت بالاتصال به عبر جواله، جاء صوته هادئا منسابا رقيقا من الجانب الآخر، بلغني شوقه في كلمات عشر ثقيلة، وأنه سأل عني كثيرا، وفي باله محاولة مبيتة للاتصال بي ودعوتي لوجبة في مكان سوف أختاره بنفسي. لم يسألني لم اتصلت به، ولم يعطني فرصة لقول ما أريد قوله، إلى أن نفد رصيدي القليل جدا من الدفع المقدم وانتهت المكالمة إجباريا. لكنه اتصل بي مرة أخرى سريعا قائلا: إنه سيدخل في اجتماع بعد قليل مع مسئول كبير، سينتهز الفرصة ويناقش معه موضوع المتشردين، سيتصل بي لاحقا، ربما بعد الاجتماع مباشرة: تسلمي يا ستي، باي باي!
صفحه نامشخص