57 - وحدثني أحمد بن أبي عمران، عن مسلم بن أبي عقبة، عن أبيه عقبة، -وكان عقبة هذا مصادقا لأبي يوسف القاضي وتربا له-، قال:
((كان أبو يوسف قد انقطع إلى أنحاء الفقه، فأحسن القول عن أبي حنيفة؛ وكانت زيادته في العلم، بمقدار نقصانه في الرزق. وكان كل من يستعرض حاله بالكوفة، يشير عليه [بالرحلة] إلى بغداد. ويرى أبو يوسف صواب ما يشار به عليه، فيقعده نقصان حاله عن المركب الفاره، واللبسة التي تشبه من حل محله من العلم، ونزع إليه من أقصى النواحي.
((وكان له غلام كان لأبيه، حاذق بعمل الجواشن والدروع وكثير مما يحتاج إليه من آلة الحرب، وكان يأتيه في كل شهر بما يقوته في حاضرة الكوفة، ولا يعينه على حضرة السلطان. فرغب في الغلام عامل للمهدي على الكوفة -قد ذهب عني اسمه-، فطلبه من أبي يوسف -وهو يومئذ من أصاغر رعاياه- فباعه منه بتسعين دينارا.
((وخرج عند ذلك إلى بغداد، فارتاد دابة وثيابا.
وكان لعبد الله بن القاسم الغنوي -أحد أصحاب الأعمش- محل من المهدي، ولم يكن في المجالس التي تنعقد ببغداد في الفقه أجل من مجلسه. فدخل أبو يوسف مع كافة من دخل، من غير تسليم على عبد الله، ولا مقدمة لحضور مجلسه. وكان أبو يوسف حسن الصورة، جميل الإشارة، لطيف التخلص والاحتجاج، فقبله قلب عبد الله ولم يعرفه.
((وجرت مسائل وأجوبة، كان حظ القياس فيها مقصرا، وكان الاحتجاج على ظاهر القول. فتكلم أبو يوسف فيها فأحسن الاحتجاج وجود، وأعانه على هذا طول لسانه وحسن بيانه، ثم سألهم فقصروا عن الجواب، فأبان عنه لهم برفق. فلما تقضى المجلس عاتبه عبد الله على تخلفه عنه وتعريفه مكانه، وسأله أين نزل، فأخبره، فرغب له عن الموضع الذي سكنه، ودعاه إلى منزل بالقرب منه، وقرر خبره عند أبي عبيد الله كاتب المهدي، فوصله بالمهدي وأسنى رزقه؛ ثم قرنه بالهادي فأقام معه مدة أيامه؛ وبلغ مع الرشيد ما لم يبلغه عالم بعلمه، ولا محبوب بمرتبته)).
صفحه ۹۰