56 - وحدثني أحمد بن أيمن قال:
((كنت أكتب في حداثتي للعباس بن خالد البرمكي، وكان طويل اللسان مخشي الغضب. فإني لجالس بين يديه في داره بمدينة السلام، حتى دخل علينا #88# شاب حسن الصورة رث الهيئة، فأكب عليه فقال: ((ألست ابن فلان صديقنا؟))، فقال: ((نعم، يا سيدي!))، فقال: ((قد كان حسن الظاهر جميل الهيئة؛ فما بلغ بك إلى ما أرى؟))، قال: ((كان تجمله أوفى من عائدته! وتوفى، فكنت أتبلغ بما يستعمله الموفى على جاهه، إلى أن خان طبعي البارحة ولم أطق ستر ما بي فقصدتك))، فدعا بمائة درهم، وقال: ((تمسك بهذه إلى أن أنظر لك في عائد عليك من الشغل)). فلما قام من عنده قال لغلام يثق به: ((قص أثر هذا الفتى؛ فانظر ما يبتاعه بهذه الدراهم وأحصه عليه حتى يدخل منزله، واعرف المنزل وصر إلي)). فرجع إليه وقال: ((يا سيدي! هذا غلام عيار! ابتاع بنيف وثلاثين درهما سميذا وسكرا وعسلا ولحما كثيرا وحوائج الأعراس، وأخذ طباخا من طباخي الأعراس، وأحسب أن عنده دعوة وقد عرفت منزله))، فقال: ((دعه)).
فلم تمض إلا أيام يسيرة حتى وافى فأعرض عنه، واستثقل جلوسه بين يديه؛ فقال: ((يا عمي وسيدي! ليس يشبه هذا اللقاء ما لقيتني به في الأولى!))، قال: ((كنت في الأولى راجيا لصلاحك، وأنا اليوم آيس منه))، فقال: ((وكيف ظننت ذلك؟))، قال: ((أخبرني غلامي أنك أنفقت إلى أن بلغت منزلك نيفا وثلاثين درهما، وكان حقك أن لا تزيد على ثلاثة دراهم))، فقال: ((لو عرفت خبري لقدمت عذري!))، قال: ((ما خبرك؟)).
قال: ((كنت مع تضايق حالي، أمسك نفسي عن المسألة، وأقتصر وأهلي على البلغة. وأنا ساكن وأهلي في ظهر دار فلان -ووصف رجلا ظاهر اليسار من التجار- وقال: ((له طاقات في مطبخه تفضي إلى منزلي. فأولم وليمة لا أشك في حضروك إياها. فشرق منزلي بروائح الأطعمة، وكانت الصبية من #89# صبياني تخرج فتقول: ((رائحة جدي يشوى!)) وأخرى تقول: ((رائحة نقانق تقلى!)) وهذه تقول: ((يا أبه! أشتهي من هذا الفالوذج الذي قد شاعت رائحته لقمة!))، وقولهم يقرح قلبي. وأملت أن يدعوني فأتحمل التزليل لهم، فوالله ما رآني أهلا لذلك، فقلت: ((ولعله إذ نقصت عنده من منزلة من يدعون أن يبعث إلي؟ فوالله ما فعل. فبت بليلة لا يبيت بها الملدوغ، فأصحبت في الغداة فكنت أوثق في نفسي من سائر من بمدينة السلام. فلما أعطيتني تلك الدراهم اشتريت بها حوائج أصلح منها ما اشتهوه، فأكلوا أياما منه، وهم يدعون الله في الإحسان إليك، والخلف عليك))، فقال له العباس: ((أحسنت! بارك الله عليك!))، ثم صاح: ((يا غلمان! أسرجوا لي))، ولبس ثيابه، وركب وركبت معه، ودخل إلى صاحب الصنيع فقال: ((دعوتني وجماعة وجوه بغداذ إلى طعام مقتنا الله عليه! وعرضت نعمتنا للزوال، وأنفسنا إلى اخترام الأعمار!))، وقص قصة الفتى، وقال: ((عزمت على أن أصدق عن كل من حضر وليتمك، وتكون سببا لتخلف الناس عنك، والإمساك عن إجابتك أخرى الليالي))، فقال: ((أنا أفتدي إذاعتك بما غفلت عنه بخمس مائة دينار))، قال: ((أحضرها))، فأحضرها، فقال: ((اقبضها))، فقبضتها.
ثم ركب إلى جماعة فقال: ((أعطوني في معونة رجل من أبناء النعم اختلت حاله))، فأخذ منهم خمس مائة دينار أخرى، ورجع إلى منزله -وقد كان أمر الفتى ألا يبرح منه-، فأدخله إليه، وقال: ((فيم تهش إليه من التجارة؟))، فقال: ((في صناعة الأنماط، فإنها صناعة أسلافنا، ومن بها يعرف حقوقنا)). فدعا برجل منهم حسن اليسار، فأخرج إليه الألف الدينار التي أخذها، فقال: ((هذا #90# المال لهذا الفتى، فليكن في دكانك، واشتر له بها ما يصلحه من المتاع وبصره به))، ثم قال للفتى: ((احذر أن تنفق إلا من ربح)). فانصرف الفتى، وقد رد عليه ستره)).
فحلف لي أحمد بن أيمن: ((أن بضاعته تثمرت، وأرباحه اتصلت، وعامل السلطان، ودخل في جملة التجار وجلتهم)).
صفحه ۸۷