(1) في ما كان بسورية في أيام الملك قسطنطين
إن قسطنطين الملك بعد أن ظهر على مزاحميه بالملك بآية سموية تنصر، واستتب له الملك أذاع أمرين: الأول سنة 312 والثاني سنة 314، أباح بهما الكاثوليكيين مباشرة فروض دينهم، وإقامة الكنائس لهم واسترداد ما كانت ضبطته لهم الحكومة من كنائس وعقار ورجوع المنفيين منهم، وبنى بأورشليم بطلب والدته الملكة هيلانة كنيسة بديعة على قبر المخلص، وأخرى على مغارة المولد في بيت لحم وأخرى في جبل الزيتون، ونقض كثيرا من معابد الأصنام منها هيكل الزهرة في أفقا الذي كان ماخورا للعواهر، فجعله معبدا للعذراء الطاهرة، وكذلك صنع ببعلبك وجعل البيزنطية عاصمة المملكة في المشرق، وباسمه تسمت قسطنطينية، وكتب إلى أوسابيوس القيصري أن يستنسخ له خمسين نسخة من الأسفار المقدسة، وأن يعني بضبطها فأتم أوسابيوس ذلك كما قال (في ك4 من ترجمة قسطنطين ف29)، ومن الآثار التي وجدت في سورية، وعليها اسم قسطنطين عمود من الحجر المحبب وجد على الرأس الذي عند نهر الكلب دالا على الميل التاسع من بيروت، كتب عليه أنه أقيم تكرمة لقسطنطين وأبنائه (ذكره ودنيكتون خط 1847 ورنان في بعثة فونيقي صفحة 341). (2) في ما كان بسورية في أيام يوليانوس الجاحد
إن يوليانوس أخذ الملك سنة 361، وكان مسيحيا إلا أن معاشرته للأساقفة الأريوسيين أضلته أولا ضلالهم، ثم جاهر بكفره وانحيازه إلى الوثنية؛ ولذلك لقب بالجاحد، وقد زار أنطاكية سنة 362، فاستقبله الوثنيون بمنزلة إله وزار جميع معابد الوثنيين، قال رنان (في بعثة فونيقي صفحة 287): «نعلم أن قسطنطين أبطل عبادة أدونيس في أفقا بنقضه هيكل الزهرة، ونقله سكان أفقا إلى بعلبك، ونرى هذا الهيكل مجددا بعد ذلك فيظهر أن يوليانوس أمر بتجديده، وكذلك في هيكل المشنقة الذي روى أوسابيوس أن قسطنطين نقضه، ثم جدد في أيام يوليانوس، وأنبأنا زوزيموس الذي كان في القرن الخامس أن الوثنيين كانوا يجتمعون بأفقا في أيامه، وهذا يؤيد أن يوليانوس جدده، على أن الهيكلين نقضا مرة أخرى في أيام الملك أركاديوس.»
عزم يوليانوس أن يجدد هيكل أورشليم؛ ليثبت بطلان نبوة المسيح أنه لا يبقى فيه حجر على حجر إلا وينقض ونبوات الأنبياء أن يبقى خرابا إلى الأبد، فكتب إلى اليهود يحضهم على استئناف بناء هيكلهم بأورشليم، واستدعى بعضهم إليه فقال: إنه لدى بحثه في أسفارهم تبين له أن مدة سبيهم قد انقضت وأنه يلزمهم تجديد الهيكل، وأرسل العملة من كل صوب إلى أورشليم، وأمر خازنه أن يعد المال اللازم لذلك، فتسارع اليهود من كل فج إلى أورشليم وكانوا يعاونون بمالهم وأيديهم على تجهيز ما يلزم للبناء، وكانت نساؤهم يبعن حليهن ويدفعن ثمنه للنفقة، وأخذ العملة ينقضون أسس البناء القديم فأتموا نبوة المسيح بأنه لا يبقى حجر على حجر، ولما أراد البناءون وضع الأساس انبعثت لهبات نار التهمت الفعلة، وكل ما كانوا قد أعدوه من الأخشاب، وحاولوا مرات أن يأخذوا في العمل وصدهم شبوب النار عن الدنو من المحل، فغادروه خجلين، روى ذلك كثيرون من الآباء والعلماء، بل رواه إميان مرسلان (ك23 ف1)، وهو مؤرخ وثني كان خادما ليوليانوس ومقربا إليه، بل أقر به يوليانوس نفسه، فقال في الفقرات الباقية من تآليفه (صفحة 295): «إن أنبياء اليهود قد تهددونا بمثل هذه النوازل (احتراق هيكل أبولون في دفنة)، ولكن ما يقولون في هيكلهم الذي انقض ثلاث مرات، ولم يبن حتى الآن ... وقد أردت أن أجدد بناءه فمنعت؛ ولذلك لم يبن حتى الآن.» وقد أصيب يوليانوس في حربه مع الفرس في 27 تموز سنة 363 بسهم حطم يده وأصمى كبده، وروى تاوادوريطوس (3 من تاريخه ف20) أنه ملأ راحته من دمه، وطرحه إلى الجو قائلا: «انتصرت يا جليلي.» يريد المسيح.
لم نعثر من أخبار سورية على ما يستحق أن يدون في أيام يوفيان خليفة يوليانوس سوى أن أحد عماله أحرق كنيسة بيروت، فعزم يوفيان أن يقطع رأسه، ولكن شفع به بعض المقربين فاقتصر الملك على أن يغرمه نفقة تجديد بناء الكنيسة من ماله، وكذلك لم نعثر على شيء ننظمه في سلك هذا التاريخ في أيام خلفاء يوفيان إلى تاودوسيوس. (3) في ما كان بسورية في أيام تاودوسيوس
رقي تاودوسيوس إلى أريكة الملك سنة 378 وكان كاثوليكيا شديد المدافعة عن الإيمان القويم، وقد عني بعقد المجمع القسطنطيني الأول سنة 381، وحرمت فيه بدعة مكدونيوس الذي أنكر لاهوت الروح القدس، وكان الوثنيون قد هاجوا على المسيحيين في الإسكندرية فقتلوا منهم كثيرين، فأمر تاودوسيوس بنقض هياكل الإسكندرية، وأتبع بها باقي هياكل الوثنيين بمصر، ثم عمم أمره إلى سوريا فأبى الوثنيون بغزة الطاعة للأمر، فاجتزأ الوالي أن يقفل معابدهم، وأما في دمشق فحول هيكل الوثنيين إلى كنيسة، وكذلك هيكل الشمس الشهير ببعلبك بعد أن ذب عنه الوثنيون بالقنا والقواضب، وهاج أهل أباميا واستدعوا رجالا من الجليل وصمموا على المدافعة عن هيكلهم، فلم ينجحوا فدمرت هياكلهم إلا هيكل المشتري؛ فإن بناءه كان متينا وحجارته ضخمة فلم ينجح الجنود بنقضه إلى أن أتى رجل لا يعرف صناعة البناء، فتكفل بهدمه بنفقة يسيرة، وأخذ يحفر في جانب ثلاثة عواميد فوجد أن في أسسها قطعا من خشب الزيتون ، فأضرم النار عليها فاحترقت ولم يبق للأعمدة ما ترسخ عليه فتداعت وسقطت وجذبت معها باقي البناء، وكان هناك هيكل آخر يسمى أولون استحوذ الجنود عليه، فخرج الوثنيون منه ووجدوا القديس مرسل أسقف المدينة بعيدا عن ساحة الحرب، فألقوه في نار لقي ربه بلظاها.
وفي سنة 387 أراد تاودوسيوس أن يحتفل لمضي السنة العاشرة لملكه، والرابعة لإشراك ابنه أركاديوس في الملك، فاضطره الأمر إلى فرض ضريبة، ولما بلغ أمره إلى أنطاكية هاج أهلها وماجوا، وانتشروا في المدينة يصيحون بالخراب وانضم إليهم من كان من الأجانب في المدينة، وحطموا تماثيل الملك والملكة وأبنائهما، وكفى الجنود في تشتيت شملهم تصويب بعض الأسهم إليهم، وفر كثيرون منهم وأدركوا سوء عاقبة صنيعهم، وغصت الشوارع بالرجال والنساء والأطفال الهاربين من رجال الحكومة، وجلس القضاة يحكمون بالعذاب والسجن على كل من قبض الجنود عليه، فجازوا أخص المجرمين بما جنت أيديهم وعاد إلى المدينة من أقصاهم عنها ردعهم، وكان فم الذهب يومئذ كاهنا وكانت أيام الصوم فألقى عشرين خطبة تزري بخطب فصحاء أثينا ورومة، وأراد أهل أنطاكية أن يرسلوا إلى الملك وفودا ليشفعوا بهم، فلجئوا إلى أفلابيانوس بطريركهم فلم تقعده شيخوخته ولا مشاق السفر عن تلبية دعوتهم وسار مسرعا إلى القسطنطينية، وكان الملك قد أمر لأول وهلة بدك المدينة وجعلها مدافن لأهلها، ثم أمر أن يتوجه بعض حاشيته للفحص عن المجرمين وعقابهم بما يستحقون، فأتموا ما أمروا به وحكموا على كثيرين بالقتل من الوجهاء والأغنياء، فشفع بهم كثيرون من الأساقفة والكهنة الذين كانوا وقتئذ بأنطاكية سائلين تأجيل نفوذ الحكم إلى ما بعد مراجعة الملك، وفي هذه الأثناء قابل أفلابيانوس الملك، وتلا بحضرته خطبة هي آية بالفصاحة والبلاغة، ومثال للكلام السامي، ذكرنا ملخصها في تاريخنا الكبير، فوقع كلامه أشد وقع على قلب الملك حتى ذرفت عيناه الدموع، وقال: «أي عجب أن نغفر للناس ونحن بشر مثلهم، ومخلص العالم صلب من أجلنا، ونحن إليه آثمون وصلى من أجل صالبيه، عد يا أبي مسرعا إلى شعبك، وأمن أهل أنطاكية فقد عفوت عنهم .» (4) في بعض المشاهير الدنيويين بسورية في القرن الرابع
أشهرهم في هذا القرن ليبانيوس ولد بأنطاكية سنة 314، ودرس العلوم في أثينا ثم علمها في القسطنطينية ونيكومدية (أسميد) وأنطاكية، ومن تلامذته القديس باسيليوس والقديس يوحنا فم الذهب، وكان صديقا للملك يوليانوس الجاحد، ولم يك على شيء من الغلو في مذهبه الوثني، وقد أدركه المنون بأنطاكية سنة 390، وله من التآليف خطب طبعت في التنبورك سنة 1791 ورسائل طبعت لمبسيك سنة 1711، وفقرات نشرها أنجلوس ماي، ومنهم إميان مرشلينوس ولد بأنطاكية أيضا سنة 330، ودخل الجندية وتقلب في مناصبها وحارب بجرمانيا وإفرنسة، وصحب الملك يوليانوس الجاحد في غزوته للفرس، ثم ترك الجندية وأقام برومة مكبا على كتابة تاريخ الملوك الرومانيين باللاتينية من نرفا سنة 96 إلى أيام والنس سنة 378 ينطوي على واحد وثلاثين سفرا منها ثلاثة عشر سفرا أبادتها الأيام، وبقي منها ما هو أهمها، تكلم فيه على الأحداث التي كانت في عصره من سنة 353 إلى سنة 378، وكلامه يعتمد عليه؛ لأنه شاهد عيان له وقد لزم حدود الاعتدال في كلامه على الدين المسيحي والوثنية منزها عن الغلو والتطرف، وطبع تآليفه مرات وترجم إلى الإفرنسية، وطبع سنة 1848 وقد ندر العلماء الدنيويون في هذا القرن بسورية وغيرها، وكثر العلماء الدينيون.
الفصل الثامن
في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع
صفحه نامشخص