مقدمة المؤلف
تمهيد
المقال الأول: في تاريخ سورية وسكانها قبائل مستقلة
1 - في سكان سورية الأولين
2 - في الحثيين
3 - في الفونيقيين
4 - في العبرانيين
المقال الثاني: في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
1 - في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
المقال الثالث: في تاريخ سورية في أيام الرومانيين
في ما كان بسورية إلى ميلاد المخلص
في تاريخ سورية في القرن الأول بعد الميلاد
1 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الأول
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن الأول
3 - في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثاني
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني
5 - في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثالث
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث
7 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس
10 - في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس
11 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس
12 - في تاريخ سورية الديني في القرن السادس
13 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
المقال الرابع: في تاريخ سورية في أيام الخلفاء
1 - تتمة تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن السابع
3 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن
5 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع
7 - في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الحادي عشر
10 - في تاريخ سورية الديني في القرن الحادي عشر
11 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
المقال الخامس: في تاريخ سورية في أيام صلاح الدين وخلفائه والمماليك البحرية والجراكسة
1 - تتمة في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني عشر
3 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثالث عشر
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث عشر
5 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع عشر
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع عشر
7 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس عشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس عشر
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس عشر
المقال السادس: في تاريخ سورية في أيام السلاطين العثمانيين العظام
في السلاطين العثمانيين في القرن السادس عشر وما كان في أيامهم من الأحداث بسورية
1 - في تاريخ سورية الديني في القرن السادس عشر
2 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع عشر
3 - في تاريخ سورية الديني في القرن السابع عشر
4 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن عشر
5 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن عشر
6 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع عشر
7 - في بعض المشاهير في القرن التاسع عشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع عشر
مقدمة المؤلف
تمهيد
المقال الأول: في تاريخ سورية وسكانها قبائل مستقلة
1 - في سكان سورية الأولين
2 - في الحثيين
3 - في الفونيقيين
4 - في العبرانيين
المقال الثاني: في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
1 - في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
المقال الثالث: في تاريخ سورية في أيام الرومانيين
في ما كان بسورية إلى ميلاد المخلص
في تاريخ سورية في القرن الأول بعد الميلاد
1 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الأول
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن الأول
3 - في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثاني
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني
5 - في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثالث
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث
7 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس
10 - في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس
11 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس
12 - في تاريخ سورية الديني في القرن السادس
13 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
المقال الرابع: في تاريخ سورية في أيام الخلفاء
1 - تتمة تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن السابع
3 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن
5 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع
7 - في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الحادي عشر
10 - في تاريخ سورية الديني في القرن الحادي عشر
11 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
المقال الخامس: في تاريخ سورية في أيام صلاح الدين وخلفائه والمماليك البحرية والجراكسة
1 - تتمة في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
2 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني عشر
3 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثالث عشر
4 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث عشر
5 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع عشر
6 - في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع عشر
7 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس عشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس عشر
9 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس عشر
المقال السادس: في تاريخ سورية في أيام السلاطين العثمانيين العظام
في السلاطين العثمانيين في القرن السادس عشر وما كان في أيامهم من الأحداث بسورية
1 - في تاريخ سورية الديني في القرن السادس عشر
2 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع عشر
3 - في تاريخ سورية الديني في القرن السابع عشر
4 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن عشر
5 - في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن عشر
6 - في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع عشر
7 - في بعض المشاهير في القرن التاسع عشر
8 - في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع عشر
الموجز في تاريخ سورية
الموجز في تاريخ سورية
تأليف
يوسف الدبس
مقدمة المؤلف
أقول أنا الحقير المفتقر إلى عفو ربي يوسف الدبس مطران بيروت الماروني، لما كان الله دعاني بنعمته إلى خدمته ونفع عباده، رأيت متحتما علي أن أصرف ما من علي به من القوة والعمر لاكتساب مرضاته بإفادة أبناء جلدتي، والاتجار بالوزرات التي عهد إلي بها؛ فعكفت على تأليف عدة كتب ووضع بعض ترجمات، وكان أهمها وأنفعها عندي إنشاء تاريخ لسورية موطننا العزيز، فصرفت في تأليفه نحوا من عشر سنين، وقد نجز بعون الله وطبع في ثمانية مجلدات ضخمة؛ لأني بسطت الكلام وتطرقت فيه إلى ما يلتحم معه أو يعود بالنفع على قارئيه، على أنه كان لا بد من إيجازه ليتيسر اقتناؤه ومطالعته، ولا سيما ليكون هذا الموجز صالحا لتعليم طلبة المدارس تاريخ بلادهم، فتراهم حتى الآن يفقهون تاريخ أمريكا وأوروبا وإفريقيا وهم عن تاريخ بلادهم غافلون.
وقسمت هذا الموجز إلى ستة مقالات أتكلم في كل منها على دور من الأدوار الستة، التي تعاقبت على سورية من قبيل الولاية عليها، فكان كلامي في المقال الأول في تاريخ سورية وسكانها منقسمون إلى قبائل مستقلة مع تعاقب سلطات المصريين والآشوريين والفرس على تلك القبائل أو بعضها، والمقال الثاني في تاريخ سورية في أيام ولاية إسكندر الكبير وخلفائه، والثالث في تاريخها في أيام القياصرة الرومانيين، والرابع في تاريخها على عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين، والخامس في تاريخها في أيام الأيوبيين والمماليك البحرية والجراكسة، والسادس في تاريخها على عهد العثمانيين العظام - أدام الله ملكهم ما كرت الأعوام.
تمهيد
قد انبسطت تخوم سورية تارة، وانقبضت أخرى بحسب تقلب الأيام والدول عليها، فكانت تشمل أحيانا ما بين النهرين وأرمينية وبعض آسيا الصغرى وبعض بلاد العرب، وتضيق أحيانا عن هذه التخوم، والذي نتعمد الآن الكلام فيه: يحده شمالا آسيا الصغرى وشرقا نهر الفرات والبادية إلى بلاد العرب، وجنوبا قسم من بلاد العرب إلى تخوم مصر وغربا البحر المتوسط.
وقد اختلف العلماء في مأخذ اسم سورية، وذهبوا فيه مذاهب أظهرها وأمثلها مذهبان: الأول أنها سميت سورية نسبة إلى صور مدينتها، وأول من سماها بهذا الاسم إنما هم اليونان ... فكأنهم عرفوا أهل صور لكثرة ترددهم إليهم للتجارة، فسموهم سوريين وبلادهم سورية، بإبدال الصاد بالسين لعدم وجود حرف الصاد باليونانية، والثاني أن اليونان سموا أهل هذه البلاد سوريين نسبة إلى أسيريا بلاد الآشوريين الذين كانوا يلون سورية، وحذفوا الهجاء الأول من الكلمة تخفيفا، والبدل بين السين والشين والثاء مستفاض.
المقال الأول
في تاريخ سورية وسكانها قبائل مستقلة
الفصل الأول
في سكان سورية الأولين
(1) في سكانها قبل الطوفان
لا مرية في أن سورية كانت قبل الطوفان مأهولة بولد آدم، ولا نعتمد في هذا على التقليدات التي ترويها العامة عن قبر هابيل وقائين وغيرهما ... إذ لا يمكن التيقن بهذه التقاليد، بل الحجة القاطعة في ذلك هي أن الحقبة التي كرت بين خلق الإنسان والطوفان، وهي 1656 سنة بحسب النسخة العبرانية و2242 بحسب الترجمة السبعينية هي فوق ما يكفي لانتشار ذرية آدم في سورية القريبة من مهد الإنسانية مع طول حياة الناس قبل الطوفان، وقد رأينا أن ذرية نوح انتشرت في الآفاق سواء كان في ما بين النهرين أو أرمينيا، أو ما يقرب إليهما لأقل من الحقبة المذكورة. (2) في سكان سورية الأولين بعد الطوفان
من سكان سورية الأولين بعد الطوفان الآراميون أبناء آرام، وهو الخامس من أبناء سام فهؤلاء قد أقاموا بدمشق وأنحائها، وفي سورية المجوفة أي: بلاد بعلبك والبقاع وما يليهما، واتصلوا من سهول حمص وبعلبك إلى شمالي لبنان ونواحي أطرابلس والبترون وجبيل حتى بيروت على قول بعضهم، وبنو آرام عوص وحول وجاثر وماش، فعوص أقام نسله في جهة حوران واللجان ... وقد سمى الكتاب هذه البلاد باسم عوص، إذ قال في فاتحة سفر أيوب: وكان رجل في أرض عوص اسمه أيوب وأما حول فأقام نفسه بين باسان والجولان حول بحيرة الحولة، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى حول المذكور، وأولاد جاثر أقاموا في إبطورية المعروفة الآن بالجيدور، وأما أولاد ماش فيظهر أنهم تخلفوا عن إخوانهم، واستمروا في ميشا في جوار نصيبين، كما يظهر أن ذرية لود أخي آرام كانت تسكن في شمالي سورية، واختلطت من أقدم الأيام مع الآراميين.
الكنعانيين
ومن هؤلاء السكان الكنعانيون أبناء كنعان بن حام بن نوح، فصيدون بكر كنعان توطن ولده في صيدا وما يليها، وسميت باسمه، وحث ابنه الثاني كانت مواطن ذريته الحثيين بين العاصي والفرات وجبل اللكام ... وفصيلة منهم سكنت حبرون أي: الخليل وجوارها قبل أن يأتيها إبراهيم ، واليابوسيون توطنوا في يابوس التي دعيت بعدا أورشليم، والأموريون أقاموا بجبل إفرام ويهوذا، وكانوا قد عبروا الأردن قبل عهد موسى وأنشئوا مملكة باسان وحشبون، والجرجسيون حلوا في شرقي الأردن وغربيه إلى الجليل، وجبل الكرمل، ويظن أن بحيرة الجرجسيين أوجناشر، وهي بحيرة طبرية تنسب إليهم، والحويون كانوا يسكنون في جوار جبل حرمون، وهو جبل الشيخ وفي جبع والرامة وقرية يعريم (وهي أبو غوش الآن)، وبعد أن طردهم يشوع بن نون ارتحلوا إلى أنحاء طرابلس، والعرقيون كانوا يسكنون عرقا في شمالي طرابلس إلى النهر الكبير، والسينيون كانت مساكنهم في مدينة سين في شمالي عرقا، ولا يبعد أن تكون أملاك هذه الفصيلة اتصلت بنهر السين أو السن بين جبلة والمرقب، والأرواديون كانت مساكنهم في جزيرة أرواد وما قابلها في اليابسة أي: طرطوس وعمريت وما يليها، والصمريون توطنوا سيميرا إحدى المدن الواقعة بين النهر الكبير جنوبا واللاذقية شمالا، وعند نهر مرقية بلدة تدعى مرة وناحية صمرين أو زمرين، والحماتيون كانوا يقطنون حماة، وما يليها بين الحثيين شمالا والآراميين جنوبا.
1
العبرانيين
أنبأنا الكتاب
2
أن أرفخشاد بن سام الثالث ولد شالح، وشالح ولد عابر، فعابر هذا عبر الفرات من المشرق إلى المغرب، فأخذ سكان سورية قبل إبراهيم يسمون ذرية عابر عبرانيين، وعابر ولد فالغ أو فالج ومعناه القاسم أو المقسم؛ لأن أبناء عابر انقسموا بعد عبورهم الفرات إلى فصيلتين: أقامت الأولى منهما بأور الكلدانيين، وارتحلت الثانية وهم بنو يقطان أو قحطان إلى بلاد العرب فقحطان هو أبو العرب العاربة ... ومن الفصيلة الأولى ولد إبراهيم وارتحل نحو ألفي سنة قبل الميلاد مع ابن أخيه لوط من أور الكلدانيين إلى حاران أولا، ثم إلى دمشق ثم إلى اليهودية، حيث بارك الله نسله ولا سيما إسحق ويعقوب وأبناؤه الذين انحدروا إلى مصر، فكثر عديدهم وأقاموا هناك أربعمائة وثلاثين سنة إلى أن ردهم الله إلى سورية إلى أرض الموعد، فهؤلاء هم العبرانيون وسيجيء الكلام فيهم.
وكان من ذرية إبراهيم ولوط ابن أخيه شعوب آخرون كانت مساكنهم بسورية، وهم: الموآبيون أبناء لوط من بنته الكبرى، وكانت مساكنهم في الشرق من البحر الميت، والعمونيون أبناؤه من بنته الأخرى وكانت محلاتهم في عبر الأردن، ثم الأدوميون أبناء أدوم، وهو عيسو بن إسحق وكانت مواطنهم في جبل سعير في جنوبي سورية، وشمالي بلاد العرب، ثم ذرية إسماعيل بن إبراهيم، والمدينيون ولد مدين بن إبراهيم من قيطورا، لكن هذين الشعبين يحسبان من سكان بلاد العرب.
الفلسطينيين
من سكان سورية القدماء الفلسطينيون، وكانت مساكنهم في البلاد التي سميت باسمهم، وأصلهم من إكريت وغيرها من الجزر ومن آسيا الصغرى، أسرهم المصريون وأحلوهم في فلسطين وترى بعض أخبارهم في الكلام على العبرانيين.
السامريين
أصل هؤلاء من بلاد الكلدان قد جلاهم إلى سورية ملوك آشور من بلاد الكلدان، وأسكنوهم السامرة وما يليها بعد جلائهم بني إسرائيل إلى بابل.
قبائل أخرى
كان من سكان سورية قبل الشعوب المذكورين عدة عشائر يعرفون بالجبابرة، والأظهر أنهم ساميون، فمنهم: الرافائيم أي: الرفائيون وكانت مساكنهم في ما وراء الأردن في بلاد باسان، وقد جاء ذكرهم في سفر التكوين (ق14 عدد 5) بين العشائر التي ضربها كدرلاعومر ملك عيلام، ثم الزوزيم أي: الزوزينون وجاء ذكرهم في المحل المذكور، وفي تثنية الأشراع (فصل 2 عدد 20)، وكانوا يسكنون في الأرض التي سكنها بعدا العمونيون في عبر الأردن، ثم الأيميون وجاء ذكرهم في المحلين المذكورين، وكانت مساكنهم في شرقي البحر الميت، حيث سكن بعدا الموآبيون، ثم بنو عناق ويظهر أنهم المسمون نفيليم أي: الجبابرة وكانت مواطنهم في قرية أربع وهي الخليل، ثم العويون وجاء ذكرهم في التثنية (فصل 2 عدد 23)، وكانوا يسكنون القرى المجاورة غزة.
فهذه أخص القبائل التي توطنت بسورية إلى عهد إسكندر الكبير، وأشهرها وأعظمها ثلاث قبائل، وكانت مساكن الأولى منها في شمالي سورية، وهم الحثيون، ومواطن الثانية منها في وسط سورية وهم الفونيقيون، ومحل الثالثة منها في جنوبي سورية وهم العبرانيون، وسنفرد لتاريخ كل من هذه القبائل فصلا من الفصول التالية.
الفصل الثاني
في الحثيين
(1) في تاريخ الحثيين وعوائدهم وكتابتهم
إن تاريخ الحثيين حديث النشأة، فقبل نحو نصف قرن ما كان العلماء يعرفون من تاريخهم إلا بعض كلمات واردة في الكتاب، كشراء إبراهيم من عفرون الحثي المغارة المضاعفة مدفنا لسارة، وتزوج عيسو بامرأتين حثيتين، وتزوج داود بامرأة أوريا الحثي، وشراء سليمان الخيول لملوك الحثيين إلخ، على أن الاهتداء إلى حل رموز الخطوط الهيروكليفية والمسمارية قد كشف النقاب عن تاريخهم، فظهر أنهم كانوا مملكة مقتدرة فسيحة الأرجاء، وكانت بينهم وبين فراعنة مصر وملوك آشور حروب هائلة، وتتبع العلماء البحث عن آثارهم، فوجدوا لهم آثارا كثيرة عرفوا منها أين كانت مساكنهم ومهاجرهم، وما كانت معبوداتهم ونمط أبنيتهم، واكتشفوا على كثير من خطوطهم لكنهم لم يهتدوا إلى الآن إلى حل رموزها، ويؤمل اهتداؤهم إلى ذلك في وقت قريب.
وقد انقسموا إلى فصيلتين، أقامت إحداهما في جنوب سورية في الخليل ونواحيها، ولم تكن لهذه الفصيلة ما كان من السطوة والسؤدد للفصيلة الثانية التي كانت مساكنها في شمالي سورية، ويظهر من هيئات صورهم في الآثار المصرية أن لون وجوههم كان أبيض ضاربا إلى الحمرة، ولا يطلقون لحاهم بل يحلقون شعور رءوسهم أيضا، ويتركون في أعلاها ناصية، ولباسهم قميص مستطيل وأحذيتهم معكفة أو معطفة إلى فوق كما كانت الأحذية في القرون الوسطى، وبقي شيء منها في بلادنا إلى عهد قريب، وكان أكابر رجالهم يتحلون بحلقة في أذنيهم، وكان أعظم مدنهم كركميش المسماة الآن إيرابولس وقادس على بحيرة حمص، وكانت بينهم وبين الروثانو أو اللودانو، وهم الآراميون أو اللوديون سكان بلاد دمشق مغالبات، فتغلب الحثيون عليهم أولا، ثم تغلب الآراميون على هذه البلاد بعد إذلال الآشوريين للحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد. (2) في ما يؤخذ من الآثار المصرية من تاريخ الحثيين
تبين من الآثار المصرية أن توتمس الأول أحد فراعنة الدولة الثامنة عشرة أخضع سورية في القرن السابع عشر قبل الميلاد وبلغ إلى الفرات، وأقام عليه بقرب كركميش مدينة الحثيين نصبا يذكر الخلف بغزوته، وتوتمس الثالث غزا سورية مرات، وبعد غزوته لها في السنة 33 من ملكه نقش على جدران الكرنك ذكر تقادم الملوك، وجزيات الشعوب الذين غزاهم ودانوا لسلطته، فكان في جملتها جزية سكان بلاد الحاتاس (كذا تسمي الآثار الحثيين) الفسيحة كانت هذه السنة ثماني حلقات من فضة وزنها 301 ليبرا، وحجرا ثمينا كريما أبيض، ومركبات وأخشابا، وعاد توتمس ثانية إلى سورية، وكتب في تواريخه «من ملك بلاد الحاتاس الفسيحة أربعون ليبرا ذهبا وواحد وعشرون عبدا وأمة وثيران وبقر»، وقد غزا توتمس الرابع أيضا الحثيين، ووجدت صحيفة في هيكل آمون كتب عليها «غزوة توتمس الرابع لبلاد الحثيين».
وغزا رعمسيس الأول من ملوك الدولة التاسعة عشرة سورية في القرن السادس عشر قبل الميلاد، فدخل فلسطين فلم يصادف شديد مقاومة، لكنه لم يبلغ نهر العاصي إلا والتقته جيوش لم تكن له في الحسبان يقودها سابالت ملك الحثيين، وهو أول من يعرف من ملوكهم، وقد أضرب المصريون عن ذكر تفاصيل هذه الحرب؛ لأنها لم تكن مشرفة لهم، والظاهر من آثارهم أن رعمسيس ألجئ أن يعقد مع ملوك الحثيين معاهدة صلح تعهدت بموجبها كلتا الدولتين بالمهاجمة والدفاع لكل من يناوي إحداهما.
وقد غزا ساتي الأول ابن رعمسيس المذكور العرب، فشتت شملهم ثم حمل على سورية فقل من ناواه فيها إلى أن بلغ قلعة قادس مدينة الحثيين، فتسعرت نار الحرب وطال أجيجها، وتوافرت المواقع ففتح المصريون قادس ... ولم يكن فتحها ختام الدفاع، بل كان الحثيون ينازعون المصريين كل قدم من أرضهم حتى أعيوا ساتي، فاضطر أن يوقع على معاهدة صلح مع موتنار ملكهم ضمنت لهم سلامة أملاكهم حتى ردت عليهم قادس، ولم يلزم الحثيون أنفسهم إلا بالانعكاف عن الاعتداء على الأعمال المصرية، وهذا ظاهر من الصور والخطوط المنقوشة على هيكل آمون في الكرنك، فنجاح الحثيين بهذه الحرب زادهم جراءة وبسالة، فقطعوا على المصريين طريق الفرات الذي كانت عساكرهم تمر به، وأمست أملاك مصر بسورية مقصورة على فلسطين وفونيقي التي لم يكن لأهلها هم إلا بأرباح تجارتهم بمصر، واضطر ساتي أن يكتفي بالمحافظة على أملاكه، وبعدم التحرش لحرب الحثيين.
وبعد أن رقي رعمسيس الثاني ابن ساتي إلى منصة الملك في أواخر القرن السادس عشر حمل على سورية حملتين: بلغ في أولاها إلى بيروت، ونقش صورته على صخر بنهر الكلب، وكان الحثيون قد رعوا معاهدة الصلح مع أبيه ما دام حيا، وأخذوا بعد موته يتأهبون لثورة هائلة، وكانت أملاكهم منبسطة من قادس إلى أطراف آسيا الصغرى، ومن لبنان إلى الفرات، وأنبأتنا آثار رعمسيس أنه تألب معهم لمناوأته سكان حلب وكركميش والآراميون سكان سورية المجوفة والأرواديون، وأما أهل صيدا وجبيل، فكانوا يمالئون رعمسيس وكان عدد مركباتهم لا يقل عن ألفين وخمس مائة مركبة، فزحف إليهم للسنة الخامسة لملكه بعسكر جرار، وبلغ إلى شبطون في حصن الأكراد، وكان موتنار ملك الحثيين يؤثر الحيلة على استعمال القوة، فأرسل إلى رعمسيس أعرابيين متنكرين قالا له: إن رؤساء العشائر المتحدة مع ملك الحثيين الخسيس الذي انزوى الآن بحلب خيفة من بطش الملك، فاغتر رعمسيس وقام إلى قادس بعدد قليل من جنده، ولم يعلم بالمكيدة إلا عند وصوله إليها، وبينما هو على عدوة العاصي يفكر بما يتوسل به لنجاته، إذ وثب ملك الحثيين بغتة على قلب جيشه، فشتته وشطر جنود رعمسيس شطرين، ولم تنج رعمسيس إلا شدة شجاعته، وقد كتب في آثاره أنه اخترق صفوف العدو ثماني مرات إلى أن أقدرته العناية على جمع شمل جيشه، وإصلاء نار الحرب على أعدائه النهار بطوله ... إن بنتأور الشاعر المصري نظم تاريخ هذه الموقعة، ونقش شعره على جدار هيكل الكرنك، وكتبت أخبارها على بابير محفوظ الآن في المتحف البريطاني.
واستؤنف القتال في اليوم التالي، ودارت فيه الدوائر على الحثيين، فقتل منهم خلق كثير وغرق بعضهم وفي جملتهم ملك حلب، فإنه يرى في هذه الموقعة معلقا برجليه، ويندفق من فيه الماء الذي كان يظن أنه ابتلعه، فأرسل ملك الحثيين يلتمس الأمن والصلح متذللا على ما في الآثار المصرية، فأجابه رعمسيس إليه وعاد ظافرا إلى مصر.
على أن ذلك الصلح لم يكن إلا هدنة، فإن ملك الحثيين هيج الكنعانيين على رعمسيس، فحاربتهم عساكره عند بحيرة الحولة وفي جبل طابور، وفي السنة الحادية عشرة لملكه تقوى السوريون على المصريين، حتى خيل أنهم حصروهم بمصر ثم تقوى رعمسيس فاسترد عسقلان وأورشليم والكرمل، ثم اتصل إلى طرد عساكر المتحدين من فلسطين وفونيقي، وبلغ إلى قادس ... ودامت هذه الحرب نحو خمس عشرة سنة، ولم تخمد إلا بعد أن قتل موتنار ملك الحثيين في إحدى مواقع الحرب، وتمثل هذه الحروب صور منقوشة في تاب، وبعد موت ملك الحثيين خلفه أخوه المسمى كيتامار، وكانت الدولتان المتحاربتان كلتا من القتال، فعقدتا عهدة صلح نقش نصها على ظاهر جدار الكرنك، ولخصناه في تاريخ سورية، ومؤداها امتناع كل من الدولتين عن السطو على بلاد الأخرى، وإلزام كل منهما بنجدة الأخرى لدى الاقتضاء، ويظهر منها أن كل ما كان من جبيل نحو الغرب والجنوب كان يخص المصريين، وكل ما كان منها نحو الشمال والشرق خص الحثيين؛ ولكي يوطد رعمسيس وثاق الصلح بينه وبين الحثيين تزوج بابنة كيتامار ملك الحثيين، فدعاه لزيارته بمصر فسار إليها وأقام رعمسيس في تاب نصبا نقش عليه صورته وصورة حميه وامرأته.
ودام السلم بين الحثيين والمصريين أعواما، ولا نجد في أثر مصري ما يدل على حرب بين الدولتين إلا ما كتبه رعمسيس الثالث أحد فراعنة الدولة العشرين على هيكل النصر في أن شعوبا من آسيا الصغرى، وجزر اليونان تألبوا عليه، وأذلوا شعوب الحثيين، فاضطروهم أن يصحبوهم لقتال المصريين، ولما انكسر هؤلاء انكسر معهم ملك الحثيين ... وقد نقشت أسماء من أذلهم رعمسيس الثالث على جدار مدينة أبو، فكان من جملتهم «ملك الحثيين المنكود الحظ الذي أسر حيا». (3) في ما يؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثار الآشوريين
تجلت فلاصر أن هذا الملك كان نحو سنة 1130 قبل الميلاد، وحارب الحثيين وخلد أخبار حربه لهم وانتصاره عليهم في ما كتبه على نصب أقامه، وهو ذا ملخص ما كتبه «أنا تجلت فلاصر المحارب الشريف، ذللت بلاد سوبير الفسيحة، وقد استحوذ أربعة آلاف رجل من فصائل الحثيين العصاة على مدينة سوبرتا فروعتهم مخافة سلاحي، فأذعنوا وذلت رقابهم لنيري فغنمت أموالهم، وأخذت مائة وعشرين من مركباتهم ووهبتها لرجال بلادي، وجيشت جنودي المظفرة، وزحفت إلى بلاد آرام وسرت حتى مدينة كركميش في بلاد الحثيين، فعبرت الفرات وصنعت بهم ملحمة كبرى، وغنمت من عبيدهم وأموالهم ما لا يدركه عد، وافتتحت بعض مدنهم ونهبتها وحرقتها»، (يظهر من كلامه أنه لم يفتح كركميش)، وقال: إنه سار في بلاد الحثيين حتى بلغ جبل أمانوس (اللكام)، فنكل بأهله ونهب أموالهم فدانوا له صاغرين، وعاد لكنه لم يبلغ نينوى إلا واحتشد عشرون ألف مقاتل من أهل هذا الجبل الحثيين مؤثرين الموت على الذل، فعادت إليهم جيوشه فبسلتهم وشتت شملهم، ودكت مدينتهم هاتوسا إلا بيتا صغيرا ترك ذكرا.
آشورنسير بال تولى الملك من سنة 883 إلى سنة 858 قبل الميلاد، وقد اكتشف لايرد على تمثاله في أسوار حصن نمرود، وهو الآن في المتحف البريطاني مكتوبا على صدره «آشورنسير بال الملك العظيم الملك القدير ملك البلاد من ضفة دجلة إلى بلاد لبنانا (لبنان)، وأخضع لسطوته البحار الكبيرة، وكل البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها»، وقد حمل على سورية ونقش تاريح حملته على صخر، وهذا مآله «غادرت كالح وعبرت دجلة قاصدا مدينة كركميش في بلاد الحثيين، واجتزت الفرات على قطع من أديم، واقتربت من كركميش ... وفرضت على سنغار ملك بلاد الحثيين عشرين وزنة من فضة وحلي كثيرة من الذهب، ومائة وزنة من النحاس، ومائتين وخمسين وزنة من الحديد والقصدير، وآلات من حديد ونحاس، وغنائم بلاطه وأثاثه شيئا كثيرا لا مثيل لظرافته، وأثاثا من أبنوس وأعراشا من خشب السنديان، ومائتي امرأة رقيقة وأنسجة من صوف وبرفير، ومركبات مرصعة بالعاج وتماثيل من ذهب»، وتسمية سنغار ملك الحثيين لا ملك كركميش مؤذنة بانبساط ملكه بسورية كلها، أو بالسواد الأعظم منها، ويدل على ذلك أيضا استسلام باقي الملوك إلى الغازي في كركميش، فإنه كتب «إن ملوك هذه الأعمال ذلت أعناقهم لنير سلطتي بعد أن تهيئوا لمناوأتي، فأخذت رهائن منهم وتركت كركميش وسرت قاصدا لبنان ... فجسر أمير كان يلي السهول المجاورة نهر عفرين، وأصحاب بعض المدن الشهيرة منها إعزاز أن يعترضوا مروري، ولما دنوت منهم ذلوا وقدموا إلي أثمن ما كانوا يملكون، فدوخت أمانوس (اللكام)، وسرت بجيشي على جانبي العاصي أياما إلى أن بلغت لبنان، وملكت سفحيه أي: من جهة البحر وجهة بعلبك والبقاع، وقد عدت لملوك الذين أخذ الجزية منهم، فكان منهم ملوك صور وصيدا وجبيل وأرواد»، ولم يذكر قادس فكأنها كانت قد خربت أو تقهقرت وقال: إنه أكب على الصيد بلبنان أياما فذكر ما اصطاده من الطير والوحش.
سلمناصر الثالث هذا الملك ارتقى إلى منصة الملك بعد أبيه آشورنسير بال سنة 858، واستمر عليها إلى سنة 823، وكانت له حروب كثيرة مع الحثيين، ويظهر من آثاره أن سنغار ملكهم السابق ذكره استمر في أيام هذا الملك الذي حمل عليه الحملة الثالثة سنة 854ق.م، ونقش تاريخها على صفحة في كورخ ملخصه: «إن سنغار ملك كركميش وغيره من الملوك وثقوا بقوتهم، وهبوا لمناوأتي، فتوكلت على قوة فركال السامية وعلى الجيوش المظفرة، فحاربتهم وشتت شملهم وبسلت خيولهم، وأمطرت عليهم طوفان نبال وأفعمت البرية من قتلاهم، وذريت جثثهم كالغبار في الصحراء، وأخذت كثيرا من مركباتهم وخيولهم، وأقمت رابية من رءوس قتلاهم على مدخل المدينة، ودمرت مدينتهم ودفعتها للنهب»، ثم تقدم إلى جبل اللكام وإلى وادي العاصي فضرب جيش المتحالفين، فلعبت بهم أيدي سبأ، وقتل منهم ألف وستمائة قتيل وأسر منهم نحو أربعة آلاف أسير استاقهم إلى نينوى.
وعاد سلمناصر فجمع الحثيون جيشا آخر، وتعقبوا آثاره واستردوا بعض المدن التي أخذها حتى بلغوا الفرات، فعكف الغازي عليهم ونكل بهم، وكان سنغار ملك الحثيين قد حصن مدينة من مدنه تسمى سازابي لا نعلم موقعها، فحاصرها سلمناصر وفتحها عنوة، وكتب على مسلته «دنوت من سازابي أحد حصون سنغار فحصرتها وافتتحتها، وقتلت كثيرا من رجاله وغنمت غنيمة ثمينة، وخربت مدن ولايته، وافترضت عليه جزية ثلاث وزنات ذهب، ووزنة من الفضة وثلاثين وزنة من النحاس ومائة من الحديد، وعشرين وزنة من النسيج الأبيض والبرفير، وابنته مع حلاها، ومائة بنت من الأشراف وخمسمائة ثور وخمسة آلاف خروف»، وجاء في الخطوط المنقوشة على الثيران المقامة بقصره في نينوى أنه فتح في إحدى حملاته سنة 846 سبعا وثمانين مدينة من بلاد الحثيين، وأراد سلمناصر أن يخضع سورية الوسطى، فعبر الفرات مرة أخرى واستوفى الجزية من الخاضعين له في سورية الشمالية، وسار إلى وادي العاصي، فتألب عليه إبدكولينا ملك حماة وابن هدد الأول ملك دمشق وعصابة من الحثيين، فكان المتحالفون عليه اثني عشر ملكا من جملتهم أخاب ملك إسرائيل، وتسعرت نار الحرب في كركر، فكان النصر له، وقد كتب في آثاره: «أنه قتل من الأعداء حينئذ أربعة عشر ألفا وانثنى عليه ابن هدد فبدد شمله ثانية، وقتل منهم عشرين ألف قتيل»، وانهزم ابن هدد في البحر فتتبعه على التيار لكن لم يدركه.
رمان نيرر الثالث حفيد سلمناصر الثالث حمل على بلاد الحثيين، وتطرق منها إلى فونيقي حتى صيدا وصور وبلاد عمري أي: مملكة إسرائيل وبلاد أدوم وفلسطين، ودخل دمشق وأسر ملكها المسمى مرياه أو مرياح، وكتب ذلك على أثر له ذكره لانرمان مجلد 4 صفحة 211، على أن خضوع هذه البلاد لملوك آشور لم يكن إلا موقوتا، فإذا عاد الغازي إلى عاصمة ملكه عاد الحثيون وغيرهم إلى استقلالهم، واستفحل أمرهم في بلادهم، وعليه استمر الحثيون ينعمون بالا في هذه الحقبة إلى أن رقي إلى منصة الملك.
تجلت فلاصر الثاني سنة 745ق.م فغزا سورية سنة 743ق.م، ويظهر من فقرة من آثاره أنه غشي سورية ظافرا، وأكره ملك الحثيين المسمى حينئذ بيزيريس على الخضوع لسلطته، وأقام بعسكره في أرباد المعروفة الآن بتل أرفاد في جهات حلب، وكان سكانها حثيين، واستدعى جميع ملوك سورية ليأتوه بالتقادم دلالة على انقيادهم لأمره، فأتوه بها صاغرين فانصرف مظهرا الرضى عنهم، على أن هذه التقادم هيجت مطامعه، فعاد السنة التالية إلى سورية فلم يكن الملوك المذكورون هذه المرة أوغادا، بل أخذتهم الحمية وضمتهم العصبية فقاوموه أشد مقاومة، واستمر على حصار أرباد سنتين، ولما فتحها تيسر له قهر باقي الملوك السوريين، فاستسلمت إليه حماة فجلا من أهلها جما غفيرا، وكذلك فعل بغيرها فكان المجلون إلى بلاده ألوفا، وأداه ملك سورية الجزية، وقد عدد هؤلاء الملوك في أحد آثاره متفاخرا ... فكان منهم بيزيريس ملك كركميش وأنبال ملك حماة ورصين ملك دمشق ومنحيم ملك السامرة، وحيرام ملك صور وسيبيتي بعل ملك جبيل، على أن الغازي ترك بعضهم على منصات ملكهم، لكنهم بدلا من أن يعنوا بلم شعث شعوبهم وإصلاح شئون بلادهم عادوا إلى معاداة بعضهم بعضا، فرجع إليهم تجلت فلاصر بجيش جرار سنة 734ق.م، فاستحوذ على مدنهم ونكل بأهلها وبسط صولته إلى أطراف فلسطين الجنوبية، ولما هم بالعود إلى بلاده استدعاهم إليه، فكانوا خمسة وعشرين ملكا.
سرغون بعد أن ملك بلاد آشور افتتح السامرة وصور ودمشق، وأغضى عن بيزيريس ملك الحثيين لقربه من بلاده، ولما رآه بيزيريس متشاغلا في حروبه حالف بعض ملوك آسيا الصغرى، ودرى بذلك سرغون فدهمه بغتة، وهاك ما كتبه: «في حملتي الخامسة (سنة 717 أو سنة 716ق.م) كان بيزيريس عصى كبار الآلهة، وعقد عهودا مع ميتا ملك بلاد موشكة، فأخرجته من مدينته، وأخذت خزائنه وكبلته بقيود الحديد، وغنمت ما كان من الفضة والذهب في قصره وجلوته مع سكان كركميش إلى بلاد آشور ... وأسكنت قوما من بلاد آشور في مدينة كركميش»، وأقام سرغون حاكما آشوريا في كركميش، فإنه استطرف هذه الطريقة في أن لا يبقي الولاة الوطنيين على مناصبهم بل ينصب مكانهم ولاة من بلاده.
وعليه فقد لحق الحثيون ببني إسرائيل المسبين إلى آشور وبابل، وانقرضت بهذه الضربة مملكة الحثيين، وكان بيزيريس آخر ملوكهم. (4) في ما يؤخذ من تاريخ الحثيين عن آثارهم
قد اكتشف في جهات سورية، ولا سيما الشمالية وفي آسيا الصغرى وبلاد اليونان وجزرها وغيرها آثار كثيرة للحثيين، وخطوط غير المصرية والآشورية، فأنبأتنا بما كان لهم من الصولة والسؤدد والمهاجرة إلى أصقاع شاسعة، على أن خطوطهم لم يتيسر إلى الآن حل رموزها، ومتى حلت كما يرجى أكسبتنا معارف كثيرة وزادت في تاريخهم، وفي اللغة المكتوبة فيها خطوطهم خلاف ... فمن قائل: إنها سامية، ومن قائل: إنها حامية، وقد اشتهر الحثيون بصناعة النحت، تشهد بذلك آثارهم الباقية، ولا سيما في أطلال بوغاز كوى بآسيا الصغرى، وقد أتقنوا هندسة التحصين كما يرى في محاصن بوغاز كوى المذكورة، وقد مهروا في استخراج المعادن كما يظهر من مناجم بلغارداغ في آسيا الصغرى أيضا، ونسب إليهم صناعة تحويل الحديد فولاذا ... وقد رأى بعض العلماء أن قسما كبيرا من الصناعة عند اليونان انتحلوه عن الآشوريين بواسطة الحثيين، ورأى بعضهم أن صناعة الحثيين خاصة بهم لم يأخذوها عن غيرهم، واحتجوا لرأيهم بأن آثار الحثيين في بوغاز كوى وغيرها أقدم من آثار الآشوريين ... حتى تفاخر تجلت فلاصر الثاني بأنه بنى في كالح صرحا أشبه بقصور الحثيين، وعلى كلا القولين فإن اليونان أخذوا أشياء كثيرة في صناعتهم من الحثيين.
ديانتهم:
يظهر أن الحثيين أخذوا ديانتهم عن البابليين، وبثوها في سورية وآسيا الصغرى، وتطرقت ومن ثم إلى بلاد اليونان، فإن معبودات كل هذه القبائل واحدة، وإن اختلفت اسما ... فعشتروت البابلية هي من معبودات الحثيين والكنعانيين وابنها وعروسها هو تموز أو أدونيس عند الفونيقيين، ويسميه الآراميون في سورية هداد وهو في آسيا الصغرى أنيس راعي النجوم، وجميع هذه القبائل تبكيه؛ لأنه قتل يافعا ثم تحتفل لقيامته من الموت، وفي لبنان صورته قتيلا في الغينة من الفتوح وصورته قائما من الموت في المشنقة من عمل جبيل.
ملابسهم وأسلحتهم:
أما ملابس الحثيين على ما يشاهد من آثارهم، فهي الحذاء المتعكف الطرف ونوع من القفاز (الكفوف) يدفئ الراحة، ولا يشمل الأصابع ليطلق لها العمل، ولهم نوعان من القبعة أحدهما كالعرقية، والثاني كالتاج مستطيلا من أعلى مخروطي الشكل مزدانا بعصائب، وملابس نسائهم طويلة تشمل الرجلين ويحتزمن بنطاق من حبل مشدود إلى الوراء، وملابس الرجال قميص تتصل إلى الركبة مشدودة على الوسط بمحزم يعلق به خنجر، وسلاحهم الرمح والقوس يشد على الظهر، والفأس ذو الحدين.
مستعمراتهم:
إن آثار الحثيين دلتنا على أن مستعمراتهم لم تنبسط جنوبا وغربا حتى دمشق ولبنان فقط، بل امتدت شمالا في آسيا الصغرى حتى مدخل البحر الأسود، وقد استفحل أمرهم بهذه البلاد على هيئة معاهدة ضمت جميع ولاياتهم، وتثبت ذلك آثار كثيرة، منها تمثال نمفيو على الطريق المؤدية من أزمير إلى سرت، وأطلال بوغاز كوى في الكبادوك وأطلال ياذيلي كايا هناك إلى غيرها.
قد ألف الأب قيصر دي كارا تأليفا في الحثيين ومهاجرهم نشره أولا في مجلة التمدن الكاثوليكي، ثم ضم إلى الكتاب وأحد وأطال وأجاد في تاريخ هؤلاء وارتحالاتهم، وفي جملة ما عني بإثباته أن سكان قبرس الأولين هم الحثيون، وإن كان اليونان توطنوها فقد سبقهم إليها الحثيون، وكذلك أن سكان جزائر بحر الروم ورودس وكريت وساموس وغيرها هم حثيون، بل إن سكان بلاد اليونان وبعض إيطاليا هم حثيون، وأن البلاسج الأولين هم من هذه القبيلة، وأن البلاسج المتأخرين عنهم هم يافتيون، وأن ارتحالات الحثيين هذه إلى هذه البلاد كانت في نحو القرن العشرين أو الواحد وعشرين قبل الميلاد، قرب الوقت الذي شخص به إبراهيم إلى فلسطين، والوقت الذي أغار به الملوك الرعاة على مصر واستحوذوا عليها، ومن رأيه أن هؤلاء الملوك أو أكثر جيشهم كانوا حثيين، وأن قدموس الذي ارتحل بذويه إلى بلاد اليونان، ووضع لهم حروف هجائهم لم يكن ارتحاله في نحو القرن الخامس عشر، كما هو الرأي العام بل قبل ذلك بنحو خمسة قرون، وقد أسند الأب دي كارا رأيه هذا إلى استدلالات كثيرة: منها المشابهة التامة بين مصنوعات الحثيين، ومصنوعات البلاسج الأولين النقدية، وبين تحصين المدن والقلاع عند القبيلتين، ووحدة المعبودات عندهما إلى غير ذلك من الأدلة، وألقى خطبة في شهر أيلول سنة 1891 بلندرة بحضرة جم غفير من المستشرقين أورد فيه حججه على أن البلاسج الأولين هم الحثيون، بل أفرد الأب دي كارا كتابا برمته ليثبت أن الملوك الرعاة الذين أغاروا على مصرهم حثيون أصلا، ومهاجرهم سورية الشمالية، وقد انضم إليهم بحملتهم على مصر غيرهم من القبائل السورية، وكانت حملتهم هذه بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، وكانت منهم ثلاث دول من مصر هي الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة من دول مصر، وفي أيامهم كان يوسف وزيرا بمصر .
الفصل الثالث
في الفونيقيين
(1) في اسم فونيقي وتخومها وأصل سكانها
اسمها كثرت الأقوال فيه، وأقربها إلى الصواب قولان: الأول أنه أخذ عن كلمة فون أو بون التي تعبر بها الآثار المصرية عن بلاد العرب الشرقية وشاطئ خليج العجم، من حيث أتى الكنعانيون إلى سورية، واستعمله العرب منسوبا نسبة أعجمية فكان فونيقي أو بونيقي، والثاني أن اسم فونيقي يوناني تأويله النخل سميت به لكثرة هذا الشجر فيها قديما، ويؤيده رسم صورة النخل على بعض مسكوكاتها القديمة.
وأما تخومها فلم تكن واحدة في كل عصر، فقد كانت قبل فتح يشوع بن نون لأرض الموعد تمتد من أنطاكية إلى غزة، وكانوا يقسمونها إلى فونيقي البحرية، وتشتمل على المدن الساحلية، وإلى فونيقي لبنان، وتشمل على لبنان وبعلبك ودمشق حتى تدمر، على أنه بعد أن طرد يشوع بن نون الكنعانيين من جبال فلسطين، وتوطن السواد الأعظم منهم في المدن البحرية أصبح اسم فونيقي لا يشمل إلا الأصقاع الساحلية من جبل الكرمل جنوبا إلى أرواد شمالا مع ما يجاور ذلك من جبل لبنان.
أما أصل سكانها فقد مر أن الكنعانيين بعد أن هاجروا إلى سورية توطن بعض فصائلهم فلسطين، وكانت تخومهم إلى صيدا شمالا، وسكن بعضها عرقا وما يليها شمالا، وكان سكان البلاد التي من صيدا إلى عرقا آراميين حلوا هذه البلاد قبل الكنعانيين ... ولا بد أن الشعبين اختلط أحدهما بالآخر مع كرور الزمان، وعليه كان سكان فونيقي القدماء آراميين وكنعانيين، وكانت عاصمة الفونيقيين أولا صيدا ثم خلفتها صور. (2) الفونيقيون في أيام سؤدد صيدا
كانت صيدا مقام ذرية صيدون بكر كنعان بن حام، ولما فتح يشوع بن نون بلاد الكنعانيين الجنوبية قهر ملوكهم، وأخذ أراضيهم وملكها لبني إسرائيل، ولم يتخط يشوع حدود صيدا في لحاقه لملوك الكنعانيين، فتزاحمت أقدام الفارين في هذه المدينة، وضاقت بهم الأرض فارتحلوا إلى أصقاع شتى، وأخص جالياتهم جاليتان: هاجرت الأولى منهما إلى تاب ببلاد اليونان، وهي المعروفة بجالة قدموس الفونيقي، وهو على رأي جمهور العلماء واضع الحروف اليونانية المشبهة الحروف الفونيقية ، وقد حكم في تلك الأصقاع، ولكن نازعه الوطنيون الولاية، واستمرت ولاية تاب تتنازعها سلالتان: إحداهما فونيقية والأخرى سبرتية أو وطنية مدة ثلاثة قرون، والجالية الثانية ارتحلت إلى المغرب في إفريقية فتوطنوا قرطاجنة وما يليها، وتبعهم غيرهم من الفونيقيين، واختلطوا بالسكان الأصليين الليبيين اليافتيين، فكانت منهم تلك الأمة التي طارت شهرتها وعظمت سطوتها وصولتها حتى حاربت الرومانيين تلك الحرب الشهيرة، وكانت لغة هذه الجالية لغة الفونيقيين أو فرعا منها إلى أيام القديس أغوسطينوس أسقف هيبونا التي أنشأها الفونيقيون.
ولما احتل الفلسطينيون جنوبي البلاد المنسوبة إليهم أزاحوا منها من كان قد بقي فيها من الكنعانيين، فانضموا إلى إخوانهم المنتشرين في الشمال إلى أرواد تجمعهم معاهدة اتفقوا عليها وسموا فونيقيين.
وكان الصيدونيون قد اخترعوا الملاحة والسفر بالبحر، وبينما كان أبناء عمهم الحثيون يشنون الغارة على مصر، فيستحوذون عليها ويجلسون قادتهم على منصات الفراعنة، كان الصيدونيون يغالبون البحر ويمتطونه، ويذللون أمواجه ليضربوا في ما وراءه للتجارة والكسب، وكانوا أول من أجاد على المعمورة بهذا الاختراع الخطير الكثير النفع، وقد احتكروا هذه الصناعة ولم يكن لهم فيها مبار مدة قرون. (3) مستعمرات الفونيقيين في أيام سؤدد صيدا
قبرس:
كانت هذه الجزيرة أول محاط الفونيقيين في البحر لقربها من بلادهم، وعن إسطفان البيزنطي أن الجبيليين سبقوا الصيدونيين إليها، لكن جبيل كانت مدينة هياكل ومعابد يهمها الدين أكثر من التجارة، فلم يكن لها أملاك هامة في الجزيرة بل أقام منازيحها هيكل الباف في غربي الجزيرة، وكان ولاة بعض الأعمال فيها يخضعون لجبيل إلى أن ذل جميعهم لسلطة صيدا، وقال بعضهم: إن هذه الجزيرة افتتحها أولا الحثيون وأنشئوا فيها مدينة شيتيوم وهماسيا، وسميت الجزيرة كلها باسم شيتيوم، ولا تحتاج الكلمة إلا إبدال الشين بالحاء؛ لتكون حيتيوم أو حتيم أو كتيم فتشعر بأنها من بناء الحثيين، وكذا همتوسيا أو حماسيا مشعرة باسم حماة مدينة الحثيين ... وعليه فيكون الحثيون سبقوا إلى قبرس، ثم استحوذ عليها الصيدونيون.
رودس:
انتقل الفونيقيون من قبرس إلى رودس، وعن سالون الأثيني أن الكاريين سكان الجزيرة القدماء اختلطوا بالفونيقيين، وأصبحوا شعبا واحدا، ثم تطرق الفونيقيون إلى إكريت وغيرها من جزر الأرخبيل إلى تاتوس التي كانت فيها معادن ذهب، شاهدها هيرودت بعد عشرة قرون، فدهش بما رآه من الأعمال الكبيرة التي أجراها الفونيقيون في استخراج هذه المعادن.
البحر الأسود وجبال قاف:
انطلق تجار الفونيقيين وتجارتهم إلى البحر الأسود وانتهوا إلى جنوبي قاف، وكانت سفنهم تشحن من هنالك الذهب وغيره من المعادن الثمينة، وكانت لهم محاط ومستعمرات في الأماكن المذكورة.
الأبير وإيطاليا الجنوبية:
توصل الفونيقيون أيضا إلى الأبير وصقلية وجنوبي إيطاليا، وكان لهم في هذه المواضع بيوت تجارة ومستعمرات، وكان لهم في مصر تجارة وسيعة، وكان لهم في منف حي خاص بهم ... وكانت سفن الصيدونيين والبيروتيين تسير على شواطئ إفريقية، وبنوا هناك كمباه حيث بنيت بعدا قرطاجنة وهيبون على مقربة منها.
قوافلهم:
بينما كانت سفن الفونيقيين تمخر البحور كما مر كانت قوافلهم تطوي البيد إلى سائر أنحاء سورية، وبلاد العرب والكلدان وأرمينية، وكانت لهم بيوت تجارية ومستعمرات في حماة، وتبساك على عدوة الفرات وتدمر ونصيبين إلى غيرها. (4) في حالة الفونيقيين السياسية على عهد الصيدونيين
كان الملوك الرعاة يلون مصر وكانوا سوريين، فكان الفونيقيون ناعمي البال لا يخشون سطوا، ولا يحاذرون إغارة عليهم، ولكن لما طرد المصريون الملوك الرعاة طمحت أعينهم إلى سورية، واختشوا أن يعاون أهلها الملوك الرعاة على العود إلى مصر ... فغزا آمون هو تاب الأول جنوبي سورية، وأكمل توتمس الأول إخضاع العشائر السورية حتى بلغ الفرات، وأقام له هناك نصبا، ويظهر أن الصيدونيين ومن تبعهم سالموا الفراعنة، ولم يشتركوا في العداوة لتوتمس الثالث عند غزوته للسوريين، واستسلموا إلى رعمسيس الأول، وإلى ساتي الأول ابنه وإلى رعمسيس الثاني عند محاربتهم للحثيين كما مر مؤثرين راحتهم ونجاح تجارتهم، وهذا بين من الآثار المصرية.
بل يظهر من هذه الآثار أن المصريين كانوا يمقتون البحر، ويعتبرونه نجسا فأقاموا الفونيقيين على سفنهم، وكان لتوتمس الثالث أسطول بحارته من الصيدونيين يجبي الجزيات من الأمصار الشاسعة، وهم كانوا يلون السفن المصرية التي تنقل العساكر إلى بلاد العرب بالبحر الأحمر، والتي تنقل حاصلات الهند وبلاد العرب إلى مصر. (5) تقهقر صيدا وسقوط مهابتها
قد أنبأتنا الآثار المصرية بأحداث كثيرة كانت في القرن الخامس عشر قبل الميلاد؛ منها أن البلاسج قدماء بلاد اليونان أحدثوا سفائن في البحر المتوسط، وتحالفوا مع سكان إيطاليا وصقلية وسردينيا والليبيين في إفريقية، وأبدى المتحالفون تعديات كثيرة أخصها على سفن الصيدونيين في بحر الروم، وهيجوا الوطنيين على النزالة الفونيقيين، ونجدوهم حتى طردوهم من مستعمراتهم من الأرخبيل ولم يبق لهم منها إلا القليل، وعقب ذلك فتح يشوع بن نون أرض الموعد، وتدميره إحدى وثلاثين مملكة وقتل ملوكها، وتمليك أرضهم لبني إسرائيل ... فأثقل الباقون منهم كاهل صيدا، وكانوا وبالا عليهم وضعف جانبها، وكان من أصحاب المحالفة المذكورة أهل كريت، وجزر البحر المتوسط وسواحله فقصدوا مصر ليستحوذوا عليها، فهب رعمسيس الثالث لمقاومتهم وأسر السواد الأعظم منهم وأسكنهم جنوبي فلسطين، ولحقهم أناس من بني جلدتهم، فتقووا هناك وسموا فلسطينيين، وضايقوا بني إسرائيل، وفي سنة 1200 قبل الميلاد حملوا على صيدا على حين غفلة، فافتتحوها عنوة وأبسلوا من وجدوا من أهلها، فكانت بذلك نهاية سؤدد صيدا وذهاب مهابتها. (6) في جعل صور عاصمة للفونيقيين
إن الذين فروا من صيدا اجتمعوا بصور حول هيكل ملكرت الذي كان مركزهم الديني، فزادت الأحداث المذكورة في عداد سكان صور، وجعلتها عاصمة الفونيقيين سياسة ودينا، وسمى إشعيا النبي صور بنت صيدون (ص23 عدد 12)، واستمرت صور رافلة بأطراف مجدها خمسة قرون كما سيجيء، واستحكم حينئذ اتحاد الفونيقيين وتوثقت عرى عهدتهم، وانضم إلى الصوريين كل العشائر الكنعانية التي كانت مساكنها إلى الشمال منها إلى أرواد، وحفظت مدنهم الشهيرة كبيروت وجبيل وغيرهما استقلالها المحلي مع إقرارها بالسيادة لملك صور، وكانت هيئة حكومتها ملكية مقيدة بمجالس عامة مؤلفة من أغنياء الشعب ومرتبطة بمشورة الكهنة والقضاة. (7) مستعمرات الفونيقيين في مدة سيادة صور
لما كان البلاسج أنشئوا سفنا وطردوا الفونيقيين من أكثر مستعمراتهم، فسار الفونيقيون بعد ذلك من وجهة أخرى لا يلقون بها منازعا ولا معارضا، فقصدوا جهة المغرب في إفريقيا حيث كان لهم مستعمرة فزادوا تلك الجهة عمرانا ونجاحا، وأخذت سفنهم تتقدم نحو الغرب حتى جزائر الغرب وفاس إلى أن اكتشفوا إسبانيا، وعمروا قادس مدينتها، وتواترت أسفارهم وتوافرت جالياتهم في تلك البلاد وبنوا ملاكا وسكس وغيرهما، واتصلوا إلى سفح جبال البيراناي، وكان الفونيقيون يجلبون من إسبانيا الذهب والفضة والحديد والرصاص والقصدير، ثم العسل والشمع والزفت، وبهذا المعنى قال حزقيال (فصل 27 عدد 12): «ترشيش (يريد بها إسبانيا) متجرة معك في كل غنى، وبالفضة والحديد والقصدير والرصاص أقامت أسواقك.» وكانت تجارتهم هذه رابحة كثيرا وأصبحت في جلى مهامهم، وكان لا بد لهم من محطة في طريقهم فاختاروا لذلك مالطة، واحتلتها جالية منهم في آخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وتوسعوا في الجزر القريبة إليها ثم قصدوا صقلية، وانتشرت تجارتهم فيها وعمروا فيها مدنا كثيرة منها بالرم، ولما كانت سفنهم التي تسافر إلى إسبانيا لا بد لها من المرور بجانب سردينيا، فعمروا كالياري فيها وجعلوها مستودعا لتجارتهم وذخائرهم، ثم تطرقوا إلى باقي محال هذه الجزيرة، واستحوذوا عليها، ووجد فيها حديثا أثر من أيام ولاية الصوريين عليها يسمى به معبود أهل الجزيرة سردوس باتر وفي الفونيقية أب سردون، ويظهر أنه كان لهم معاهد في سردينيا، وتطرقوا منها إلى جنوبي إيطاليا وتوسكانا، وكانت قوافل تجارتهم تتوغل في أملاك إفرنسة وألمانيا.
وروى إسترابون أنه كان لهم أو لجاليتهم بقرطاجنة مستعمرات في مراكش، وفي ما وراء بوغاز جبل طارق، وقد بقي أثر فونيقي هو خلاصة كتاب جزيل الأهمية كتب في الفونيقية يسمى درج حنون، وخلاصة ترجمته إلى اليونانية يتبين منها: أن أهل قرطاجنة الليبيين الفونيقيين أرسلوا حنون هذا بستين سفينة شاحنة جالية منهم إلى ما وراء بوغاز جبل طارق؛ لتحتل تلك الثغور، فذهب وأخذ يحل كل جماعة في محل مسميا المدن والقرى والجزائر التي توصل إليها؛ فأثبت هذا الدرج وجود مستعمرات للفونيقيين في ما وراء جبل طارق، وروى هيردوت (ك4 ق42) أن نكو ملك مصر سير سفنا ملاحوها من الفونيقيين، فدارت حول قارة إفريقية مبتدأة من البحر الأحمر ، ومنتهية إلى بوغاز جبل طارق ومنه إلى مصر. (8) في اتفاق الفونيقيين وبني إسرائيل
استمرت العداوة بين بني إسرائيل وعشائر الكنعانيين نحوا من ثلاثة قرون، وأخيرا ضايق الفلسطينيون الفريقين معا، وتقوى الآراميون على الكنعانيين واستحوذوا على أملاكهم في حماة وما يليها، وتغلبوا على بني إسرائيل في عبر الأردن، فقضت الضرورة على بني إسرائيل والفونيقيين أن يغادروا ما كان بينهم من الإحن والضغائن، وأن يعمدوا إلى الائتلاف وتشييد مملكة دعائمها الاتحاد الصحيح والمعاهدة المخلصة بين مملكة بني إسرائيل الجبلية ومملكة صور الساحلية، ولما ملك داود في نحو سنة الألف قبل الميلاد أرسل إليه حيرام الأول ملك صور وفدا يوقع على معاهدة الصلح والاتحاد بين المملكتين، وأبرم الوفاق بينهما، وسأل داود حيرام أن يرسل إليه مهندسا لبناء القصر الذي عزم على بنائه في صهيون، وأن يصحبه بعملة ماهرين نجارين ونحاتين، وأن يؤذن بقطع أخشاب من غياض لبنان لزينة قصره، فأتم حيرام كل ما سأل داود، واستمر حيرام مسالما لداود ما حيي ولما توفي خلفه ابنه أبيبعل، فكان على شاكلة أبيه، ثم توفي فخلفه ابنه حيرام الثاني فكان كذلك في موادة داود، ولما توفي داود وخلفه ابنه سليمان أرسل حيرام الثاني يهنئه ويوثق عرى الاتحاد بين المملكتين، وطلب منه سليمان أن يرسل عملة لقطع خشب الأرز في لبنان لبناء الهيكل، فأجابه حيرام إلى ذلك بكل ارتياح، وروى يوسيفوس (في تاريخ اليهود ك8 ف3) أن رسالتي سليمان وحيرام كانتا محفوظتين في خزائن الهيكل إلى أيامه، وروى عن هذه السجلات أيضا أن حيرام أهدى إلى سليمان عند بنائه الهيكل مائة وعشرين وزنة من ذهب، وجزوعا من أفخر الخشب، أمر بقطعها من لبنان، وأهدى سليمان إليه هدايا نفيسة كثيرة، وهذا وارد أيضا في سفر الملوك الثالث (ف9 عدد 15)، وأراد سليمان أن يعطي حيرام عشرين مدينة وقرية متاخمة لصور، فتمنع حيرام من قبولها مخافة أن تكون مندوحة للخصام بين المملكتين، واكتفى بأن يرسل سليمان له كل سنة ما دام البناء في الهيكل عشرين ألف كر زيت، وتزوج سليمان بإحدى بنات حيرام، ثم بإحدى بنات ملك الحثيين فكان زواجه بالامرأتين الكنعانيتين وسيلة لدخول عبادة بعل وعشتروت في أورشليم، وعقد سليمان وحيرام شركة في تسفير السفن إلى أوفير لاستجلاب الذهب، ومات حيرام قبل سليمان نحو سنة 944ق.م، واستمر الوفاق بين المملكتين، فلم نجد الكتاب ذكر حربا بينهما، بل نرى أحاب تزوج بإيزابل بنت إيتوبعل ملك صور، وكان من هذا الزواج ما كان من سوء العواقب. (9) ملوك صور
إن تاريخ صور مذ عقد ملوكها المعاهدة مع بني إسرائيل إلى بناء قرطاجنة يؤخذ من تواريخ صور التي ترجمها مينندر المؤرخ اليوناني، وحفظ لنا يوسيفوس فقرا من ترجمته في كتاب رده أقوال إبيون ... وقد مر ذكر حيرام الأول منهم، ثم ابنه أبيبعل وابن هذا حيرام الثاني صديق سليمان، فهذا عاش ثلاثا وخمسين سنة ملك في أربع وثلاثين منها فملك سنة 978 وتوفي سنة 944، وخلف حيرام الثاني ابنه بعل عزار وعمره 43 سنة، ولم يملك إلا في سبع منها وفي رواية أخرى 17 سنة، وخلفه بعد وفاته ابنه عبد عشتروت فملك تسع سنين، وتآمر عليه أبناء ظئره فقتلوه غيلة وملك مكانه أكبرهم مدة اثنتي عشرة سنة، ولم يذكروا اسمه وكان مقتل عبد عشتروت سنة 938ق.م، ولم يستتب الملك لقاتل عبد عشتروت، بل استمر الشغب والهرج إلى أن تيسر لعلية الصوريين أن يجلسوا على منصة الملك عشتر توت بن بعل عزار أخا الملك القتيل، فاستوى عليها اثنتي عشرة سنة، وبعد موته خلفه أخوه عشتريم وملك تسع سنين ثم قتله أخوه فالس، وأخذ ملكه، لكنه لم يهنأ به إلا ثمانية أشهر وقتله إيتو بعل كاهن الربة عشتروت، وملك مكانه اثنتين وثلاثين سنة وزوج إيتو بعل ابنته إيزابل بأخاب بن عمري ملك إسرائيل، وهو الذي بنى البترون، ومات إيتو بعل سنة 862ق.م، وخلفه ابنه بعل عزور وبقي على منصة الملك ست سنين، وتوفي فخلفه ابنه موتون وملك تسع سنين، فخلفه ابنه بيكماليون، واستمر على سدة الملك ستا وأربعين سنة.
في السنة السابعة لملك بيكماليون كان بناء قرطاجنة ، وذلك أنه كان لهذا الملك أخت اسمها إليسار، والشعراء يسمونها إليسا، أكبر من أخيها، وأوصى موتون والدهما أن يشترك ولداه في إرث ملكه، فثار الشعب وأجلسوا بيكماليون وحده على عرش الملك، وجعلوا ندوة مشورته من الشعب، فتزوجت أخته بزيكار بعل (وسماه فرجيل سيكا)، وكان أعظم الكهنة وله المقام الأول بعد الملك، فكان رئيس حزب الأشراف، فقتل بيكماليون زوج اخته، فطارت نفسها شعاعا لقتل أخيها لزوجها، وأنشأت ثورة لتأخذ بثأر زوجها وتثل عرش أخيها، ومالأها على ذلك ثلاثمائة عضو من أعضاء الندوة، فتغلب عليهم الحزب الشعبي ويئس الثائرون من الفوز، وآثروا مهاجرة وطنهم على الذل لبيكماليون، واستولوا على سفن كثيرة ركبتها إليسار وألوف من رجالها عازمين أن يعمروا صورا أخرى تحت جواخر، وأكسبها سفرها على هذه الحال اسم ديدو أي: الغارة وبلغت بمحازبيها إلى المغرب، حيث كانت جالية صيدونية من نحو ستة قرون، فاشترت إليسار لجاليتها أرضا وأنشأت مدينة سمتها قرية حديثا أي: المدينة الجديدة فكسر اليونان هذا الاسم وأصبح بالعربية قرطاجنة، وكان بناء هذه المدينة على الأظهر سنة 822، وقد كثر ما نظمه الشعراء في إليسار هذه ويسمونها ديدون وخبرها تاريخي صحيح، لكن مزجه بعض الشعراء بكثير من الأقاصيص.
وأما باقي ملوك صور فهذا فهرست أسمائهم وسنيهم عن لانرمان في حاشية علقها على المجلد السادس من تاريخه القديم للمشرق:
حيرام الثالث ملك بعد بيكماليون نحو
770
موتون
730
ألولا
724
إيتو بعل الثاني لا تعرف مدة ملكه
بعل
670
با ملك
650
إيتو بعل الثالث
590
إيتبعل
574
بعل الثاني
574 إلى 563
قضاة من سنة
563 إلى 559
بعل لاتور نحو
556
موربعل
555 إلى 551
حيرام الرابع
551 إلى 531
موتون الثالث نحو
531
ومن بعد هذا الملك الأخير أمست فونيقي ولاية من ولايات الفرس. (10) في ما كان بين الفونيقيين وملوك آشور
تجلت فلاصر الأول:
ملك سنة 1120ق.م إلى سنة 1100، ولم يجمع الباحثون في الآثار على أنه قد أتى فونيقي، أو حارب الفونيقيين وإن قيل في أثر له: «أنا تجلت فلاصر ملكت من البحر الكبير في أرض أحاري (أي: المغرب) حتى إلى بحر أرض نهري » (آخر مملكته في الشرق، وربما كان المراد البحر الأسود أو بحر قزبين)، واشتملت صحائفه على تفاصل غزواته الخمس، وذكر فيها نصراته على الآراميين لكنه لم يذكر لنفسه حربا مع الفونيقيين، وإن ضمن خشب الأرز في جملة جزياته.
آشور نزير بال:
نقشت أخبار غزواته لفونيقي على صخر كالح؛ حيث قال: إنه أخضع لسلطته سورية وبلاد الحثيين وجبل اللكام وشاطئ العاصي، وأنه نزل بنفسه إلى فونيقي، وساحل البحر المتوسط وأخذ الجزية من صور وصيدا وجبيل وأرواد.
وكتب على صخرة النمرود: «أخذت نواحي جبل لبنان، وذهبت نحو بحر فونيقي الكبير، وأخذت الجزية من ملوك بلاد البحر من سكان صور وصيدا وجبيل وحمالا وميزا وكيزا (لا تعرف مواقع هذه المدن الثلاث) وأرواد، وقد أتوني بالفضة والذهب والرصاص والنحاس والحديد، ومنسوجات الصوف والكتان وأخشاب الأرز، وجلود حيوانات بحرية وقبلوا قدمي»، وكانت هذه الغزوة سنة 865.
سلمناصر الثالث:
ملك من سنة 858 إلى سنة 823ق.م، ونقش على مسلة النمرود «في غزوتي الثامنة عشرة عبرت الفرات، وسرت بجنودي على مدن حزائيل ملك دمشق، وأخذت الجزية من صور وصيدا وجبيل»، ويظهر من آثاره الدالة على محالفة اثني عشر ملكا من سورية عليه أن لم يكن في جملتهم إلا ماتين بعل ملك أرواد، ولم يكن معه إلا مائتا جندي فيتبين أن الفونيقيين استسلموا إليه على عادتهم تداركا لأرباح تجارتهم.
رامان نيرار الثالث:
ملك سنة 809 إلى سنة 780ق.م، أغار على بلاد الحثيين والفونيقيين وابن عمري (أي: مملكة إسرائيل) وفلسطين وأدوم، وعد في أحد آثاره البلاد التي تؤديه الجزية، فقال: «فونيقي برمتها صور وصيدا.»
تجلت فلاصر الثاني:
ملك سنة 745 إلى سنة 726ق.م، وفي غزوته سورية 743 استدعى ملوك سورية فأتوه بالتقادم، وكان من جملتهم حيرام الثالث ملك صور، وفي سنة 742 حاصر تل أرفاد سنتين وبعد أن فتحها قهر ممالك سورية، فجلا منها ألوفا وأدى له ملوكها الجزية؛ وفي جملتهم حيرام ملك صور وسبيتي بعل ملك جبيل ... ولما هم بالعود من غزوته لسورية استدعى الملوك الذين أخضعهم، فكان منهم: ملك جبيل المذكور وماتان بعل ملك أرواد، وأرسل إلى صور قائدا آشوريا، ويظهر أن حيرام كان قد توفي، فدفع خليفته إلى القائد مائة وخمسين وزنة من ذهب افتدى ملكه بها.
سلمناصر الرابع:
ملك سنة 726 إلى سنة 721ق.م، ولم يوجد إلى اليوم أثر تاريخي ينبئ بأعماله الخطيرة، ولكن حفظ لنا يوسيفوس (في تاريخ اليهود ك9 فصل 14)، فقرات من تاريخ مينندر لمدينة صور، منها قوله: «إن ألولا ملك صور ملك ستا وثلاثين، ولما عصاه الشيتيون بقبرس سار إليهم بأسطول فدانوا لسلطته طائعين، وأرسل ملك آشور عليهم عسكرا واستحوذ على فونيقي كلها، ثم عقد عهدة صلح وعاد إلى بلاده، على أن سكان عكا وصيدا وصور القديمة، ومدنا أخرى ثاروا على الصوريين، وخلعوا طاعتهم واستسلموا إلى ملك الآشوريين، ولم يبق على نبذ طاعته إلا الصوريون في الجزيرة، فألب ستين سفينة حاملة فونيقيين، وفيها ثمانمائة مجدف، وأرسل الصوريون اثنتي عشرة سفينة فقط لمناصبة سفن ملك آشور فشتتوها وأخذوا خمسمائة أسير من جنوده وبحارته، فأكسبهم هذا الانتصار فخارا، وأعلى شأنهم وعاد ملك آشور عنهم تاركا جنوده لحراسة النهر وأقنية الماء؛ ليمنعوا الصوريين الاستقاء، ودامت هذه الحال خمس سنين، واضطر الصوريون أن يحتفروا آبارا.» ويظهر أن الصوريين لبثوا منتصرين ومحاصرين في أيام سلمناصر هذا وسرغون خليفته إلى أن رأى سرغون لا نفع للحصار، وآثر عليه التوقيع على معاهدة صلح تقضي على صور بدفع فدية سنوية، فكانت تدفعها متفاخرة، وضم سرغون قبرس إلى مملكته، فقد وجد أثر في لرنكا هو اليوم في متحف برلين، يتبين منه أن سرغون غزا قبرس وأضافها إلى أملاكه في السنة الحادية عشرة لملكه، أي: سنة 710، ولما مات سرغون اغتنم الولاة الفرصة لإعادة سؤدده على مدن فونيقي.
سنحاريب بن سرغون:
ملك سنة 704 إلى سنة 680ق.م، والظاهر من آثاره أنه عند دنوه إلى فونيقي تسارع ملوكها إلى الاستسلام إليه، وإلى دفعهم الجزية له فكذا فعلت أرواد وملكها عبد يليت، وشمرون وملكها مناحيم، وجبيل وملكها أور ملك، ومشى على أثر هؤلاء صيدا وسربتا (صرفند وأكوا عكا) وأكذيب (الزيب) وغيرها، وأما ألولا فأقام في صور البحرية، وهم بتحصينها رجاء أن يسعده الحظ كما أسعده في أيام سرغون، فخاب أمله وافتتح سنحاريب المدينة، ولجأ ألولا إلى الفرار فأقام سنحاريب مكانه أميرا يسمى إيتو بعل، فكان الثاني بهذا الاسم من ملوك صور، ونقش أخبار غزوته هذه على صفيحة تعرف بصفيحة تيلور، وله أثر آخر يعرف بصفيحة القسطنطينية لوجوده في متحفها ذكر فيه هذه الأحداث بأبلغ عبارة، فقال: «أما ألولا ملك صيدون فأخذت ملكه، وأقمت توبعل على عرشه وفرضت عليه جزية.» ونقش سنحاريب صورته على صخر في معبر نهر الكلب ذكرى لإخضاعه سورية وفونيقي.
آسر حدون:
هو ابن سنحاريب وقد خلفه بعد قتل أخويه لأبيهم سنة 680 إلى سنة 667، وكان عبد ملكوت ملك صيدا وغيره استغنموا فرصة قتل سنحاريب للتملص من نير سلطة الآشوريين، وسولت لملك صيدا نفسه أن يخلف صور في سيادتها، فدرى آسر حدون بما يأتمرون فغشى سورية وبلغ صيدا فافتتحها عنوة، وفر ملكها في البحر فلحقه آسر حدون فقتله ودمر المدينة، وهاك ما نقشه على أحد آثاره: «خربت مدينة صيدون وأهلكت سكانها عن آخرهم، ودمرت أسوارها ومنازلها وهياكلها، وفر ملكها عبد ملكوت في البحر فاجتذبته إلي من بين الأمواج، واستحوذت على خزائنه من ذهب وفضة ... وجلوت إلى آشور جما غفيرا من الرجال والنساء، وأقمتهم في أنحاء شاسعة، وبنيت في وسط بلاد الحثيين مدينة سميتها در آسر حدون، وأسكنت فيها قوما من جبال مشرق الشمس، وأقمت عليهم أحد عمالي» ... يعني أنه جلا السوريين إلى آشور وجلا قوما من آشور إلى سورية، ونقش هذا الملك أيضا صورته على معبر نهر الكلب.
آشور بانيبال بن آسر حدون:
تنزل له أبوه عن الملك سنة 667، والأظهر أنه استمر على منصته إلى سنة 637، وسار في أول أمره بجيش كثيف إلى مصر تداركا لإغارة ترهاقة مكلها الذي كان أبوه آسر حدون قد ذلله، فعند مروره بسورية تسارع إلى لقائه اثنان وعشرون ملكا منها ومن قبرس، وفي جملتهم بعل ملك صور، وملكي أصاف ملك جبيل، ولكن لا نعلم ما الذي جرأ بعد ذلك بعل ملك صور على المجاهرة بالعصيان على ملك آشور ومالأه غيره من ملوك سورية، فهب إليهم آشور بانيبال وحاصر صور سنة 644، ودام الحصار سنتين وأخيرا افتتحها عنوة، وهو ذا ما كتبه على أحد آثاره: «ذللت بعلا وملكت صورا وجعلته يعرض عن طماحه ويخضع لنيري، وأشخصت لدي بناته وأخوات أخيه ليكن لي إماء، وأتى يا ملك ابنه يبدي خضوعه ويقدم لي تقادم لم يسبق إلي مثلها، ويدفع لي رهينة بنته وبنات أخوته، فعفيت عنه ونصبته ملكا على البلاد»، وألجئ من مالأ ملك صور إلى طرح أسلحتهم صاغرين، واضطر ملك أرواد أن يرسل بنته؛ لتكون مخفورة بين حرم الغازي في نينوى، وساقه اليأس إلى الانتحار، وأسر ملك آشور أبناءه الثمانية، فقتل سبعة منهم واستحيى أكبرهم إذبعل، وجعله ملكا على أرواد، ويروى أنهم فروا إلى قبرس، ثم رجعوا إلى الغازي صاغرين فعفا عنهم ونصب أكبرهم على أرواد. (11) في الفونيقيين وملوك مصر وبابل وفارس
إن ابن آشور بانيبال المسمى آشور أديليلان كان ضعيفا وملكه منبسطا حتى مصر، فلم يمكنه ضبطه، وولى نبو بلاسر الكلداني على بابل، وجعله قائدا لجيوشه فتقوى عليه وثل عرشه ودك نينوى، وجعل عاصمة ملكه بابل، ولم تنج فونيقي من غائلة هذا الانقلاب، فإن نكو الثاني ملك مصر خرج على سورية طلبا لنصيبه من مملكة آشور سنة 608، فالتقاه يوشيا ملك يهوذا يريد منعه من العبور حفظا لأمانته لملك آشور فقتله نكو، ولما رأى ملك صور وغيره من ملوك فونيقي ما حل بملك يهوذا خضعوا لملك مصر، وتوصل نكو بغزوته إلى الفرات، وشق على نبو بلاسر ملك بابل أن يأخذ ملك مصر سورية كلها، وخشي أن يملك ما بين النهرين أيضا فأشرك ابنه بختنصر في ملكه، وفي سنة 606ق.م خرج بختنصر لمقاومة ملك مصر، فكانت موقعة هائلة دارت الدوائر على المصريين، فتتبعهم الكلدان على أعقابهم في سورية كلها، فاستسلم الفونيقيون والسوريون أجمع إلى بختنصر، وبلغ بجحافله إلى تخوم مصر، لكنه اضطر أن يعود إلى بابل لوفاة والده واستوى على منصة الملك وحده من 604 إلى سنة 561.
وعاد بختنصر إلى سورية سنة 602ق.م؛ ليقتص من يواقيم ملك يهوذا لمحالفته نكو ملك مصر، فأذله وأخذ بعض آنية الهيكل، ويظهر أن الفونيقيين خضعوا له طائعين، ولكن يواقيم انخدع ثانية بدسائس ملك مصر، فتمرد على ملك بابل فهب إليه بختنصر سنة 599ق.م فتوفي يواقيم، ولم يستطع ابنه يوياكيم أن يحارب إلا ثلاثة أشهر وسلم نفسه لبختنصر، فأخذه والده ونخبة من قومه أسرى إلى بابل واستلب كل ثمين في الهيكل، وفي هذه الغزوة أيضا بقي الفونيقيون على الطاعة لملك بابل، وكانت نفرة بين ملك بابل وملك مادي، فسولت لملوك مصر وسورية نفوسهم الانتقاض على ملك بابل، فهب بختنصر إلى سورية وقسم جيشه قسمين: حاصر أحدهما أورشليم وحاصر الآخر صور وضيق على أهلها، ودام الحصار ثلاث عشرة سنة، وكان ملكها إيتوبعل وأبطاله يبدون آيات الشجاعة والثبات، وغادروا أولا المدينة البرية فدك جنود بختنصر أبنيتها واعتصموا بالمدينة الجزرية، وشدد بختنصر الحصار بنفسه لها فقيل: إنه افتتحها عنوة، وقيل: إن إيتوبعل سئمت نفسه القتال، ورأى الخراب الملم بشعبه لانقطاعهم عن الأشغال التجارية، فاستسلم إلى بختنصر واعترف بسيادته، فأسره وكثيرا من أعيان قومه إلى بابل، وفر فريق من الصوريين بسفنهم إلى قرطاجنة، وأقام بختنصر على صور ملكا اسمه بعل ودانت له باقي مدن فونيقي، وتمت بصور نبوة حزقيال (في الفصل 26 عدد 2 وما يليه).
إن حفرع ملك مصر كان حليفا لأورشليم وصور ضد بختنصر، لكنه أبطأ في إنجادهما إلى ما بعد افتتاح صور، فجهز أسطولا واستأجر له بحارة وجنودا من اليونان وغيرهم، وسيرهم نحو فونيقي أملا أن يحمل سكان مدنها على استئناف الثورة على ملك الكلدان، فخاف أولئك السكان وأعرضوا عن مطاوعة حفرع، بل جهزوا سفنهم وانضمت إليها سفائن قبرس ... فكانت موقعة بحرية هائلة في مياه قبرس كان النصر فيها للأسطول المصري، وتتبع الأسطول الفونيقي يطلب غرامة حربية وافتتح صيدا عنوة؛ لأن ملكها كان رئيس الأسطول، وأخذ أرواد وجبيل وسالمته بقية مدن سورية، على أن تسلطه على هذه المدن لم يثبت إلا نحوا من ثلاث سنين أو أربع؛ لأن بختنصر عاد إلى فونيقي وأخضعها بل قصد مصر، فاستولى عليها وثل عرش حفرع وكتب ذلك في أثر له، وتمت بحفرع نبوات حزقيال في فصل 29 وما يليه وإرميا فصل 24 عدد 30.
أما بعل الذي أقامه بختنصر ملكا على صور فدبرها نحو عشر سنين، ثم ثار الصوريون عليه فخلعوه واستبدلوا الحكومة الملكية بحكومة جمهورية سموا رئيسها شفط أي: حاكما أو قاضيا، فلم تستقم لهم حال، وذكر مينندر عدة قضاة منهم في مدة وجيزة، ومدة هذه الثورة توافق مدة جنون بختنصر، واستدعوا بعد ذلك موربعل وملكوه فيهم سنة 555، ودام ملكه أربع سنين وتوفي سنة 551، وخلفه أخوه حيرام خاضعا أولا لملك بابل، ثم لكورش ملك الفرس الذي أخذ الملك من الكلدان، وخضعت له المدن الفونيقية دون مقاومة، وتوفي حيرام سنة 531، وأعاد كورش المسبين من الفونيقيين إلى بلادهم.
ولزم الفونيقيون الطاعة لكمبيس بن كورش، ولما اجتاز سورية قاصدا مصر لم يلق منهم إلا التجلة والإذعان، لكنه بعد انتصاره بمصر طمع في أن يتولى قرطاجنة، فأمر جنوده البحرية بأن يسيروا إليها، فأبى الفونيقيون منهم الإذعان لأمره؛ لأن أهل قرطاجنة أقرباؤهم فأعرض كمبيس عن ما كان قد قصده، ولما ملك في الفرس دارا من سنة 531 إلى سنة 485 قسم مملكته إلى تسع عشرة ولاية، وكانت الخامسة منها فونيقي وسورية وقبرس، وكان المفروض عليها من الجزية ثلاثمائة وخمسين وزنة من الذهب، واستمر الفونيقيون على الطاعة إلى أيام أرتحشستا الثالث الذي ملك من سنة 359 إلى سنة 338ق.م، فثار عليه ملوك قبرس وتاناس والي فونيقي، فزحف أرتحشستا إلى فونيقي بعسكر جرار فحاصر صيدا، فدافع أهلوها بعض الدفاع ثم التمسوا الأمان فلم يجبهم الغازي إليه، فاجتمع نحو أربعين ألفا منهم في بيوتهم، وألقوا النار فيها مؤثرين الحريق على نحر الفرس لهم، روى ذلك ديورودس الصقلي ثم خضع الفونيقيون والسوريون لإسكندر الكبير بعد فتحه صور كما سوف ترى. (12) في تجارة الفونيقيين
قضت على الفونيقيين حالة بلادهم أن يكبوا على التجارة، ولا سيما بعد أن ملك بنو إسرائيل كل ما كان خصبا من أرضهم، ولم تبق لهم إلا بعض المدن وقليل من السهول المجاورة لها وبعض أهضاب لبنان، وقد أفرد النبي حزقيال الفصل السابع والعشرين من نبوته للكلام في تجارة صور أي: مملكة صور لا المدينة وحدها، وأبان أنها كانت منبسطة في أكثر أنحاء المعمور المعروف وقتئذ، فكان لتجارتها في آسيا ثلاثة فروع إلى الجنوب والشرق والشمال، فكانت قوافلهم تسير في الفرع الجنوبي حتى اليمن، وحضرموت وعمان، وتجلب من هذه البلاد الذهب والحجار الثمينة والبخور والمر وغيرها، وتأتي موانئ عدن ببضائع الهند ومصنوعاتها، ومن أطراف اليمن ببضائع الحبشة، وأما الفرع الثاني فكان إلى جهات بابل ونينوى، فكانت قوافلهم تجاوز حماة وحلب ونصيبين، وتتصل إلى بلاد الآشوريين حيث كان قوم فونيقيون يتلقون بضائع بلادهم، فيبيعونها ويبعثون إلى زملائهم في فونيقي بضائع آشور وحاصلاتها، والقوافل التي كانت تيمم بابل كانت تسير في البرية إلى تدمر وتبسك على الفرات، وأما الفرع الثالث الشمالي، فكان إلى أرمينيا حتى كرجستان وحتى البحر الأسود وبحر قزوين، وكانت سفنهم تسير في البحر الأحمر وخليج العجم والأوتيانوس الهندي بدليل اشتراك سليمان، وحيرام في تسيير السفن إلى أوفير لجلب الذهب.
وكانت لهم تجارة عظمى بإفريقية، فكان لهم في مدن مصر السفلى والعليا أحياء برمتها، وكان كل ما يحتاج إليه المصريون من وراء البحار جلبه لهم الفونيقيون، وروى هيردوت (ك1 من تاريخه) أن الفونيقيين وحدهم كانوا ينقلون بضائع مصر وحاصلاتها إلى الآفاق، بل حفظ لنا في حطام المؤرخين القدماء آثار تنبئنا بتواصل مستعمراتهم ومحاط تجارتهم من تخوم مصر إلى ما وراء جبل طارق، خاصة بعد أن عمروا قرطاجنة كما تقدم وروى إسترابون (ك17 فصل 3) أن الصوريين عمروا هناك ثلاثمائة مدينة.
وأما تجارتهم في أوروبا فكان لها طريقان: الأول من جهة جزر البحر المتوسط، فكان لهم محاط تجارية في أكثرها فتوصلوا منها إلى بلاد اليونان ثم إلى صقلية وسردينيا وكرسيكا، ثم أمعن تجارهم في إيطاليا وإفرنسة، والثاني: من جهة إفريقية وبوغاز جبل طارق، وتوصلوا بهذا الطريق إلى إسبانيا وعمروا مدنا كثيرة، وتطرقوا من هناك إلى البرتغال وإلى بعض جزر الأتلانتيك، وأشغلوا قوافل فكانت تتوغل في داخلية إفرنسة وجرمانيا.
يكاد البنادقة والهولنديون والإنكليز أنفسهم في هذه الأعصر لا يساوون الفونيقيين في أعصرهم، وكما يقتدي جيلنا بالأوروبيين كان الأوروبيون يقتدون بالفونيقيين، وقد تعاظمت ثروة الفونيقيين وغناهم فكان من ذلك غائلتان، الأولى: تهييج مطامع الآشوريين والكلدان والفرس لامتلاك بلادهم. والثانية: حملهم على البذخ وفساد آدابهم، وأشار حزقيال النبي إلى ذلك، إذ قال لملك صور (ف28 عدد 13): «كنت في عدن جنة الله وكان حجر كريم كساءك ... وصنعت بيوت حجارتك من ذهب، فامتلأ باطنك جورا وخطئت ودنست مقادسك، فأخرجت من وسطك نارا، فأكلتك وجعلتك رمادا على الأرض على عيني كل من يراك.» (13) صنائع الفونيقيين
كان للفونيقيين تجارة وسيعة من مصنوعات أيديهم أيضا، وأول مصنوعاتهم وأفخرها البرفير، ويسمى الأرجوان أيضا الذي كان ملبس الملوك في القديم، وليس من نكير أن أول من أوجده الفونيقيون، وكانوا يأخذون مادة الصبغ من دم حيوانات بحرية ولون الأرجوان كان أحمر بنفسجيا، وحمرته تكون ناصعة أو يخالطها لون آخر، وكان أجوده ما أخذت صبغته من الحيوانات العائشة في البحرين صور وصيدا وما جاورهما؛ ولذلك كانت أخص مصايدهم لهذا الحيوان ومعاملهم للأرجوان في صور وصيدا، ثم أخذوا يصنعون ذلك في غيرهما كقبرس ورودس، وشطوط المورة، وكانوا يصبغون بهذه الصبغة أنسجة من قطن وصوف وحرير، وكان لهم من هذا الاختراع ثروة كبرى.
الزجاج:
سبق المصريون الفونيقيين باختراع نوع من الزجاج، وكانوا يصنعون منه آنية صغيرة وحليا كالعقود التي يحب السودان التحلي بها، لكن زجاجهم لم يكن شفافا وإنما الفونيقيون هم الذين اخترعوا الزجاج الشفاف، وفي متاحف أوروبا كثير من صنعهم لا ينحط اعتبارا عن مصنوعات البندقية في القرون الوسطى، ويقال: إنهم اهتدوا إلى اختراعه في أنهم أضرموا نارا على قطع من النطرون (ملح البارود)، فرأوا الملح يذوب وينصب على الرمل، فيتكون منه سائل براق أهداهم إلى اصطناع الزجاج، وكان مركز معامل الزجاج عند الفونيقيين صيدا وصرفند.
الآنية الخزفية والمعدنية:
اشتهر الفونيقيون بعمل المتاع والآنية الخزفية، وكانت مع سلع تجارتهم التي يحملونها إلى الآفاق من جرار وقدور وكئوس وصحف يستبدلونها بحاصلات البلاد الملائمة لتجارتهم ، فكانوا مثلا يعطون جزر بريطانيا هذه الآنية قياضا بالقصدير، وذهب كثير من العلماء أن اليونان أخذوا هذه الصناعة عن الفونيقيين مستدلين بالمشابهة بين مصنوعات القبيلتين، ووجد في بعض جزر الأرخبيل آنية من صنع الفونيقيين أنفسهم، وحسن اليونان مصنوعاتهم الخزفية بتمادي الزمان، وكذلك اشتهر الفونيقيون بمصنوعاتهم المعدنية، لكنهم لم يكونوا يعملون بالحديد ولا بالفولاذ، بل بالصفر أي: النحاس الأصفر، وحسبنا شاهد لذلك ما صنعه الصوريون من الآنية وأثاث الزينة في هيكل سليمان (3 فصل 7 عدد 13 وما يليه)، وجاء في الآثار المصرية ذكر آنية الصفر من صنع الفونيقيين، وذكر أوميروس مرات الكئوس التي يصنعها صاغة الفونيقيين من معادن ثمينة، وذكر حزقيال مهارة الصوريين في صنع العاج يزخرفون به المساكن والمتاع بأشكال بديعة، وقد اشتهر الفونيقيون بهندسة الأبنية وتحصين الحصون، ومزية أبنيتهم ضخامة حجارها، وحسن تنجيدها وهم أول من عني بتبليط الأزقة والشوارع.
الكتابة بالحروف:
أجمع العلماء على أن حروف الكتابة في كل اللغات أصلها الحروف التي وضعها الفونيقيون للكتابة ... فالحروف الفونيقية أم وحروف سائر اللغات أولادها، فقد كان من الفونيقيين جم غفير في مصر، فأخذوا العلامات الصوتية من اصطلاح المصريين في الكتابة الهيروكليفية معتاضين بخطوط عن الصور، فوضعوا اثنين وعشرين خطا لحروف لغتهم التي حصروها في اثنين وعشرين صوتا، وصاروا يكتبون بها ألفاظ لغتهم، وقد صرح شمبوليون الذي كشف عن كنوز الخطوط الهيروكليفية أن الخطوط الفونيقية اشتقت من هذه الخطوط، ووضع العالم دي روجه جدولا ووضع الحروف الفونيقية بإزاء العلامات الهيروكليفية المأخوذة عنها، فظهرت المشابهة بين علامات الاصطلاحين، وأوصل الفونيقيون حروف كتابتهم مع سلع تجارتهم إلى الآفاق، واليونان أنفسهم يعزون دخول حروف كتابتهم إلى قدموس الفونيقي، والحروف الإيبارية مصدرها تجارة صور مع إسبانيا، ومثل ذلك قل في الحروف اللاتينية وغيرها.
أما الحروف العربية التي نستعملها الآن، فالمشهور أن عبد الحميد الكاتب البغدادي هو الذي أكسبها الهيئة التي تراها لها الآن، والحروف السريانية التي نستعملها الآن أخذت عن الحروف الإسترانكلية، وهي أشبه بالفونيقية وكان ذلك في القرن الثاني عشر للميلاد.
وهذا جدول يتبين منه المشابهة بين الحروف الفونيقية، وبين الحروف اللاتينية واليونانية والعبرانية: (14) في لغة الفونيقيين وعلومهم ومعبوداتهم
أما لغتهم:
فهي سامية وأخت اللغة العبرانية، التي تكلم بها العبرانيون والعربية والآرامية والآشورية، فكل هذه اللغات فروع للغة واحدة سامية، وإن كان السواد الأعظم من الفونيقيين هو من نسل كنعان بن حام.
علومهم:
لا جرم أن الفونيقيين مهروا ببعض العلوم، وإن ندر كثيرا ما بقي منها، وكان لهم أسفار تنطوي على شرائعهم ورسوم دينهم، وكانوا يعزون هذه الأسفار إلى إله يسمونه تاوت، وربما كان طوت إله المصريين، وكان في مدنهم سجلات تدون بها الأحداث العامة، وتواريخ مملكتهم كما يظهر من الفقر التي وصلت إلينا من مينندر مأخوذة عن سجلات صور، وممن كتبوا تواريخ فونيقي ثيوت وموخ وغيرهما، ومما بلغنا من كتب الفونيقيين مترجمة إلى اليونانية إنما هو ترجمة فيلون الجبيلي لكتاب سنكويناتون البيروتي، الذي قدمه لأبيبعل ملك بيروت، وحفظ لنا أوسابيوس القيصري (في كتابه الاستعداد الإنجيلي ك1 فصل 6) فقرا من هذا الكتاب، وقال: إن المؤلف كان قريبا من عصر موسى، وأما فيلون الجبيلي فمن قائل: إنه كان في عصر خلفاء إسكندر، ومن قائل: إنه كان في القرن الأول للميلاد.
معبوداتهم:
قضت جميع القبائل القديمة أن لا بد للعالم من موجد ومدبر، وحملهم على ذلك النظر إلى العالم وما اشتمل عليه، وأنه لا يمكن أن يكون أوجد نفسه، ثم تقليد الآباء الأقدمين بأن الله خلق العالم، فرسخ في ذهن كل قبيلة أنه لا بد من إله ... فلا نجد قبيلة لم تقر بوجود إله، أو خلت من مساجد ومعابد، على أنهم لم يدركوا أن الإله روح بسيط، بل حسبوه كالهيوليات ونظروا إلى أسمى الكائنات فعبدوها، ولم يخل شعب من عبادة الشمس إذ رأوها أسمى الكائنات، وتبعوا بها القمر وسائر الكواكب، لكنهم اختلفوا في اسم المعبود الأكبر وهو الشمس، فسماه المصريون رع أو عمون وسماه الفونيقيون بعل شمائيم أي: رب السماوات، وسماه الحثيون ست أو ستخ أي: القدير على كل شيء، وسماه الآراميون هدد وربما هو حاد حاد أي : الواحد الأحد وهلم جرا، وأشهر معبودات الفونيقيين أدونيس ويسمى تموز ومعناه الرب والسيد، وهو بمقتضى أقدم تقليداتهم إله الشمس، يتصورونه يموت في الخريف تجف نضارة النبات وتذوي ثماره، ويحيا في الربيع إذ يعاوده الخصب والإزهار، ويدنو إيناع ثمره فيحتفلون لعيده في الخريف، فتلبس نساؤهم ملابس الحداد، وينحن على تموز أي: على موت الطبيعة المجملة بأزهارها وثمارها، وكانت النساء في جبيل يجززن شعرهن إشعارا بالحداد، ويطفن حائرات بائرات ويتغنين بالمراثي على أدونيس (المسمى نهر إبراهيم باسمه)، فإذا جاء الربيع احتفلوا بعيد قيامة أدونيس أي: بعود النضارة والإزهار والخصب إلى النبات، وأكثروا من الملاهي والطرب، ولم تكن عامتهم تدرك هذا الرمز، بل كانت تحسبه واقعيا وكانت النساء العبرانيات يشتركن مع الوثنيات في هذه الحفلات؛ ولذلك قال حزقيال (ص8 عدد 14): «فإذا هناك بنساء جالسات يبكين على تموز.» وأصبح تموز عند اليونان صيادا في سورية مغرما بعشتروت، وهي الزهرة عند اليونان، وبينما كان يصطاد في غابات لبنان غير بعيد عن جبيل حسده الإله آراس، وتقمص بخنزير بري، وكان بينهما عراك أفضى إلى قتل أدونيس ... ونقش مثال لهذه الحكاية على صخر بقرية الغينة بالفتوح، فأعادته الزهرة من الموت، ونقش مثال قيامته على صخر في المحل المعروف بالمشنقة ببلاد جبيل.
وجعل الفونيقيون السيارات السبع المعروفة عند القدماء بعولا ثانوية، وزادوا عليها ثامنا هو كوكب القطب الشمالي المعروف بالمسمار، وكانوا يتخذونه هاديا بأسفارهم، ولم يكن الآلهة عندهم ذكورا فقط، بل كان لكل بعل بعلة، وكل ما كانت للبعل خاصة شمسية كانت للبعلة خاصة قمرية؛ ولذا كانت عشتروت عندهم القمر، وكان أعظم هياكلهم هيكل ملكوت في صور، وأصل الكلمة «مالك قريت» أي: ملك المدينة أو ربها.
الفصل الرابع
في العبرانيين
(1) في اسم العبرانيين ونسبتهم إلى عابر وإبراهيم
إننا نوجز الكلام في تاريخ العبرانيين اعتمادا على أن أكثره معلوم من التاريخ المقدس، فأصلهم من سام بن نوح، فسام ولد أرفخشاد، وأرفخشاد ولد شالح، وشالح ولد عابر، فعبر الفرات نحو سورية فسمى أهل سورية ولده عبرانيين من عبور والدهم الفرات، وعابر ولد فانع ويقطان أو قحطان جد العرب، وفالغ ولد أرعو، وأرعو ولد سروج، وسروج ولد ناحور وناحور ولد تارح، وتارح ولد إبرام الذي سماه الله إبراهيم وناحور، وهاران الذي ولد لوطا وتوفاه الله قبل ابنه (تكوين 11 عدد 11 وما يليه).
إن مجموع أعمار هؤلاء الآباء إلى مولد إبراهيم هو 292 سنة بحسب النص العبراني و942 سنة بحسب الترجمة اليونانية السبعينية، وزادت هذه الترجمة أبا خلا عنه النص العبراني، وهو فينان بن أرفخشاد وأبو شالح، وذكرت أن أرفخشاد ولده وعمره 135 سنة، وكان المجموع 1077 سنة.
وقد رأى المحققون أن هذا هو الأصح؛ لأن ال 292 سنة، ولو أضفنا إليها عمر إبراهيم إذ نزل إلى مصر 75 سنة حتى صار 367 هي غير كافية لانتشار الناس في المعمور؛ وللحضارة التي وجدها إبراهيم في مصر. (2) في إبراهيم
هو ابن تارح ولده في أور الكلدانيين، وهو على الأظهر المحل المعروف الآن بالمغاور، وسماه بعضهم أم قير في وسط الطريق بين بابل ومصب الفرات، وكان مولد إبراهيم على الأرجح سنة 2220، وظعن أبوه به وبسائر عياله إلى حران وموقعها إلى الجنوب من أرفه على بعد ثماني ساعات، فأقام بها مدة، ثم ارتحل إبراهيم فرارا من بعض قومه الذين عبدوا الوثن، ولأمر الله له أن يخرج من بينهم، ويسير إلى أرض الكنعانيين، والأظهر والأنسب لحل بعض المشاكل أن شخوصه إلى أرض كنعان كان في سنة 2145ق.م، وروى يوسيفوس اليهودي أن إبراهيم بلغ دمشق أولا وولي أمرها، ثم زايلها وأتى إلى شخيم وهي نابلس الآن، ثم نصب مضاربه بين بيت إيل (في شمالي أورشليم)، ثم أمعن في أرض الكنعانيين جنوبا متنقلا، وكانت مجاعة هناك ألجأته أن ينحدر إلى مصر ومعه سارة امرأته، فأحبها فرعون وأدخلها بيته فضربه الله ضربات، فلم يدن منها، واستدعى إبراهيم وردها إليه ووهبه هدايا كثيرة، وعاد إبراهيم من مصر بعد نحو سنة ومعه ابن خياط وتوفرت قطعانهما، وكان خصام بين رعاتها دعا إلى انفصالهما، فاختار لوط السهول التي على ضفات نهر الأردن والبحر الميت حيث سدوم، وضرب إبراهيم خيامه في وطأ ممرا حذاء حبرون وهي الخليل.
وكان كدرلاعومر ملك عيلام قد تولى على سكان وادي الأردن، ثم عصوه فجيش عليهم مع بعض أحلافه، فخرج عليهم خمسة ملوك من تلك البلاد، فانتصر عليهم ملك عيلام، وأخذ منهم أسرى كان بينهم لوط، ولما علم إبراهيم ذلك جرد حشمه وعبيده وأحلافه، واتبع ملك عيلام وأحلافه فكسرهم، واسترجع لوطا ابن أخيه وجميع ما نهبوه.
وبعد أن أقام إبراهيم في أرض كنعان عشر سنين، ويئست سارة من أن تلد له ولدا، سألته أن يتزوج بهاجر أمتها التي يظن أن فرعون هداها إليها، فولدت هاجر ابنا سمته إسماعيل، ثم تجلى الله لإبراهيم ووعده بأن سارة تلد له ابنا فاستغرب أن يولد له ولد وهو ابن مائة سنة، وأن سارة تلد وعمرها تسعون سنة، ثم ظهر له ثلاثة ملائكة حققوا له أنهم سيعودون في السنة المقبلة ولسارة ابن، وسمعت هي وضحكت فلامها الملائكة لعدم إيمانها بقدرة الله، ثم حبلت وولدت إسحق، ومعناه ضحك، يشار به إلى ضحكها، وكان في هذه الأثناء أمر الله لإبراهيم بالختان واحتراق سدوم وعمورة.
وخرج إسماعيل من بيت أبيه إبراهيم وشب بين قبيلة جرهم وزوجوه امرأة منهم، وذكر الكتاب (تكوين 25 عدد 13) له اثني عشر ابنا وابنة اسمها بسمة، تزوجها عيسو ابن عمها إسحق، وامتحن الله إبراهيم بأن يذبح ابنه إسحق، فلم يبطئ بالإجابة فافتداه الله بكبش، وكرر وعوده لإبراهيم بأن يكون أبا لأمم كثيرة، وماتت سارة فابتاع المغارة المضاعفة من عفرون الحثي، ودفنها فيها وهذه المغارة قائمة الآن في جامع الخليل، وأرسل إلعازر الدمشقي قيم بيته إلى ما بين النهرين ليأتي بزوجة لابنه إسحق، فتوجه ووفقه الله إلى أن يأتي برفقة بنت بتوئيل بن ناحور أخي إبراهيم، وتزوج إبراهيم بعد وفاة سارة بامرأة اسمها قطورة، وقد يمكن أن تكون سرية له جعلها امرأة بيته بعد موت سارة وولد منها ستة أبناء، فكانوا أصلا لستة بطون من العرب منهم المدينيون، وتوفي إبراهيم وعمره 175 سنة، ودفنه ابنه إسحق في المغارة المضاعفة (تكوين 25 عدد 7). (3) في إسحق ويعقوب وأولادهما
تزوج إسحق وعمره أربعون سنة، ومضت تسع عشرة سنة ولم يرزق ولدا، فضرع إلى الله فحملت رفقة وولدت توءمين عيسو ويعقوب، ومعلوم ما كان بينهما من اختلاس يعقوب بكرية أخيه الذي تخلى عنها بطبخ عدس، وحقد عيسو على يعقوب وإضمار السوء له، وعرفت رفقة فأوعزت إلى يعقوب أن يهرب إلى لابان أخيها وزينت إلى إسحق بأن قالت له: سئمت نفسي الحياة من أجل ابنتي حث اللتين تزوج بهما عيسو، فإن تزوج يعقوب من الحثيين أو بنات سائر هذه الأرض فما لي والحياة ... فمضى يعقوب إلى حاران هربا من وجه أخيه؛ ورغبة في أن يتزوج بامرأة من بنات خاله، وبقي إسحق حيا إلى أن عاد ابنه من حاران بعد أن أقام ثمة عشرين سنة، وتوفي إسحق وعمره مائة وثمانون سنة، ودفن في المغارة المضاعفة.
ولما بلغ يعقوب إلى خاله لابان أحب ابنته راحيل، وخدم أباها سبع سنين، فزف إليه أختها لية الكبرى محتجا بأن العادة في بلادهم أن لا تتزوج الصغرى قبل الكبرى، وخدمه سبع سنين أخرى فأزوجه براحيل ووهب ابنته لية أمة اسمها زلفة وابنته راحيل أمة اسمها بلهة، وولد ليعقوب من لية وراحيل وأمتيهما اثنا عشر ابنا ... وهم راوبين وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساكر وزابلون من لية، ويوسف وبنيامين من راحيل، ودان ونفتالي من بلهة أمة راحيل، وجاد وأشير من زلفة أمة لية، وأيسر يعقوب كثيرا فقام بقومه وماشيته عائدا إلى أرض كنعان، ثم ابتاع يعقوب قطعة أرض من شخيم (نابلس) وضرب ثمة خباءه، وسطا شمعون ولاوي ابنا يعقوب على أهل شخيم لإذلال ابن رئيس البلد أختهما، فقام يعقوب من شخيم قاصدا أباه إسحق بوطأ ممرا بجانب الخليل، فماتت راحيل امرأته نفساء بعد أن ولدت بنيامين، فدفنها في المحل المعروف إلى الآن بقبر راحيل بين القدس وبيت لحم، فسر به إسحق وبارك أولاده، وكان يعقوب يحب يوسف لحسن سجاياه؛ ولتذكره به راحيل أمه التي قضت في غض صباها فحسده إخوته، وأراد بعضهم قتله وشفع بعضهم به فألقوه في بئر ، ثم مرت بهم قافلة سائرة من مدين إلى مصر، فباعوه بثمن بخس وأخذوا قميصه وغمسوه في دم تيس، وأرسلوه إلى والدهم يوهمونه أن وحشا افترسه. (4) يوسف في مصر
باع المدنييون يوسف لفوطيفار رئيس شرط فرعون، فنال حظوة في عيني مولاه، وأقامه على كل ما يملكه، وراودته امرأته عن نفسها، فأبى اتقاء الله وتحصنا من الخيانة وتعلقت بردائه فتركه بيدها وفر، فحنقت منه وشكته لزوجها، فألقاه في السجن، فرزق حظوة في عيني رئيس السجن، فجعل كل السجنى بيده، وحلم رئيس السقاة ورئيس الخبازين حلمين، وعبرهما يوسف لهما فكان كما عبر، ثم حلم فرعون حلمين فاستدعى يوسف لتعبيرهما ... فقال له: إنهما دالان على أنه سيكون سبع سنين في مصر إقبالا وخصبا تعقبها سبع سنين يكون فيها إمحال وجوع، فلينظر الملك رجلا حكيما يقيمه على مصر يختزن الخمس من بر سني الخصب ذخيرة لسني المجاعة.
فعجب فرعون من كلام موسى، وقال: «ليس عندي مثلك أنت تكون على بيتي، وإلى كلمتك ينقاد كل شعبي، ولا أكون أعظم منك إلا بالعرش ... فقد أقمتك على جميع أرض مصر.» وخرج يوسف وجال في جميع أرض مصر وكان يجمع في سني الخصب في كل مدينة غلال ما حولها، ولما أتت سنو القحط أخذ يوسف يبيع الأهلين الغلال أولا بالفضة ثم بالماشية، ثم سألوه أن يشتريهم وأرضهم لفرعون، وسارت جميع الأرض للملك، إلا أرض الكهنة؛ لأنه كان لهم أرزاق من عند الملك فلم يحتاجوا لبيع أرضهم، وجعل يوسف نظاما لهذه الأرض أن يعطوا الخمس للملك والأربعة الأخماس تكون بزرا للحقول وميرة لهم، فبقي هذا الرسم إلى الآن، والآثار المصرية تثبت انتقال ملك الأرض إلى الفراعنة، وإن لم تصرح بمن فعل ذلك.
وعمت المجاعة أرض فلسطين فانحدر إخوة يوسف؛ ليمتاروا لهم طعاما فعرفهم يوسف، وتنكر لهم وحسبهم جواسيس، ولم يأذن بانصرافهم إلا بشرط أن يعودوا وأخوهم بنيامين معهم، وأمر أن ترد لكل منهم فضته في جولقه، ولما رجعوا ثانية تعرف إلى إخوته بالطريقة المعلومة، وأرسل إلى أبيه أن ينحدر معهم إلى مصر. (5) انحدار يعقوب إلى مصر بذريته
ارتحل يعقوب بجميع عياله وماله، فكان جملة الداخلين إلى مصر سبعين نفسا مع ابني يوسف منسى وأفرائيم، والتقى يوسف أباه إلى جاسان، ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا، ومثل يوسف أولا خمسة من إخوته، ثم أباه بين يدي فرعون، فرحب بهم وأحلهم في أجود أرض مصر وهي جاسان، وكان للعلماء قبل الاكتشافات الحديثة أقوال متضاربة في موقعها، وانكشف الآن أنها في الجهة الشمالية الشرقية من مصر حيث الآن المديرية المعروفة بالشرقية، وأكدت ذلك آثار لا ريبة فيها استوفينا شرحها في تاريخنا المطول، وعاش يعقوب في مصر سبع عشرة سنة، وكان عمره عند انحداره إليها مائة وثلاثين سنة وبارك بنيه قبل موته، وتنبأ عما يكون لهم كما في سفر التكوين فصل 48، فحنط يوسف جثته ونقلها بما لا مزيد عليه من الحفاوة، ودفنوه في المغارة المضاعفة بالخليل، وعاش يوسف بعد وفاة أبيه نحوا من أربع وخمسين سنة، ثم توفي وله من العمر مائة وعشر سنين، واستحلف أهله أن ينقلوا عظامه إلى أرض الموعد متى من الله بخروجهم من مصر، وجاء في سفر يشوع بن نون (ف34 عدد 32) أن عظام يوسف التي أصعدها بنو إسرائيل من مصر دفنوها في شخيم (نابلس) في قطعة الأرض التي اشتراها يعقوب من بني حيمور، وروى القديس إيرونيموس أن مدفن يوسف كان يشاهد هناك إلى أيامه، وحقق بعض الجوالة بقاءه هناك إلى عهد قريب. (6) حالة بني إسرائيل في مصر
قد كان ملوك مصر في تلك الأيام من الملوك الرعاة السوريين أصلا، فأكرموا يوسف وأباه وإخوته، ولم يبرح بنو إسرائيل هناك ممتازين عن المصريين في دينهم وأدبهم ولغتهم، وكان المصريون يحسبونهم رعاة، والرعاة أرجاس بسبب ملوك الرعاة الذين استحوذوا عليهم، فكان لبني إسرائيل شيوخ يلون أمرهم، وكان كل سبط مقسوما إلى أسرات ولكل أسرة شيخ، ويرأس هؤلاء عمال تختارهم الحكومة من بني إسرائيل، فكانت هذه الحال نافعة لبني إسرائيل من جهة قربهم من شعب فاقهم حضارة، واقتبسوا منه بعض الصنائع ، وضارة من وجه تشويش بعض تقليداتهم وآدابهم، ويظهر أن الملوك الأولين الذين تولوا مصر بعد الملوك الرعاة لم يعنتوا بني إسرائيل، بل استخدموهم في حملاتهم على آسيا، وجاء في سفر أخبار الأيام الأول (فصل 7 عدد 20) أن أبناء أفرائيم بن يوسف نزلوا إلى جت (دكرين الآن)؛ ليأخذوا ماشيتهم فقتلهم رجال جت، وذكروا أن بعض بني سيلا بن يهوذا استحوذوا على بعض مدن الموآبيين، وكشف في صفائح مسمارية وجدت في تل العمرنة في ما بين النهرين 1887 عن أن بعض اليهود كانوا يسكنون فلسطين في أيام أمانوفيس الرابع أحد ملوك الدولة الثامنة عشر بعد طرد الرعاة، وقبل خروج بني إسرائيل منها بنحو مائة وخمسين سنة، فارتبك العلماء في مغزى هذه الصفائح، وأظهر ما قيل بذلك أن بعض بني إسرائيل حاربوا مع ملوك الرعاة في مصر، ورافقوهم عند خروجهم منها، فأقاموا في فلسطين وأورشليم، ولا نرى مانعا من أن يكون بعض بني إسرائيل عادوا إلى فلسطين قبل الخروج. (7) اضطهاد بني إسرائيل في مصر
مات يوسف وجميع إخوته وسائر ذلك الجيل، وطرد الملوك الرعاة من مصر، ونما بنو إسرائيل وكثروا وعظموا جدا، وقام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فوجس من كثرتهم ومن أن ينضموا إلى أعداء المصريين ويحاربوهم معهم، فأقاموا عليهم وكلاء تسخير؛ لكي يعنتوهم بأثقالهم، وأشغلهم رعمسيس الثاني ببناء مدينتين، وهما فيتوم ورعمسيس، وجاءت الآثار المصرية مصداقا لآي الكتاب، فقد وجدت صور كثيرة تمثل أسرى ساميين يشتغلون في البناء تحت إمرة عمال مصريين، بيد كل منهم سوط أو عصا طويلة، وفيتوم أو بيتوم تأويلها بيت الإله توم أو معبده، ويراد به عندهم الشمس، وكان موقع هذه المدينة على مقربة من تل المسقوطة، وتجد فيها صخرا كبيرا مرسومة عليه صورة الملك رعمسيس بين إلهين، وأما رعمسيس فسميت باسم رعمسيس الثاني الذي أشغل بني إسرائيل ببنائها، وموقعها في محل تل المسقوطة وهي مجاورة لأرض جاسان، وقد اكتشف العالم إدوار نافيل على فيتوم ورعمسيس المذكورتين، واستدل عليهما بآثار كثيرة لا تدع محلا للامتراء في بناء رعمسيس لهما، وقد حلل إدوار نافيل بعض اللبن الذي وجده، وقدر أن يستدل منه على أنه صنع العبرانيين ... طالع تاريخها المطول مجلد 2 صفحة 97.
على أن فراعنة مصر لم يكتفوا بإعنات بني إسرائيل بعمل اللبن، وتسخيرهم في الأشغال الشاقة بل اخترعوا لإنقاص عددهم ذريعة أخرى، وهي أن فرعون أمر قابلتي العبرانيات أن تقتلا كل ذكر يولد للعبرانيين، فاتقت القابلتان الله، ولم تفعلا، فأمر الملك جميع شعبه أمرا فظيعا أن يطرحوا في النهر كل ذكر يولد للعبرانيين. (8) في موسى
وولد لعمران من سبط لاوي ولد، وخافت عليه أمه من نفوذ أمر فرعون به فأخفته ثلاثة أشهر، ولما لم تستطع أن تخفيه أكثر وضعته في سفط من بردي وطلته بالزفت، ووضعته بين الخيزران على حافة النهر، ونزلت ابنة فرعون لتغتسل، فرأت السفط بين الخيزران ورأت فيه صبيا يبكي، وقالت أخته التي كانت حذا النهر لابنة الملك: إنها تأتيها بظئر ترضعه وأسرعت فدعت أمها، فقالت ابنة فرعون لها: «خذي هذا الصبي وأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك.» فأرضعته أمه مع الحليب حب الإله والغيرة على بني قبيلته، ولما كبر جاءت به ابنة فرعون فاتخذته ابنا وسمته موسى، أي: نشيلا من الماء، فلم ينسه رفاه عيشه في بيت فرعون الضيق الملم بشعبه، ورأى يوما مصريا يضرب عبرانيا فقتله وطمه في الرمل، ولما درى أن الخبر ذاع وأن فرعون يريد قتله فر موسى إلى أرض مدين في بلاد العرب، ونزل على رجل اسمه يترو أو يترون، ويسميه علماء العرب شعيب، فوكل إليه العناية بماشيته وزوجه صفورة ابنته، فأقام موسى هناك نحو أربعين سنة، وفي آخرها ظهر له الرب، وأمره أن يذهب إلى فرعون ويسأله إطلاق شعبه، وسأله موسى آية للتيقن بنفع شعبه، فجعل الله عصا موسى حية تسعى، ومد يده إليها فعادت عصا في يده، وأمره أن يأخذ أخاه هرون؛ ليكون معه وأن يأخذ العصا التي صارت حية فمضى موسى كأمر الله.
قال الكتاب (خروج فصل 5 عدد 1): «دخل موسى وهرون، وقالا لفرعون: كذا قال الرب إله إسرائيل : أطلق شعبي ليعبدوني في البرية. فقال فرعون: من هو الرب لأسمع قوله وأطلق إسرائيل؟» وكان فرعون هذا منفتاح بن رعمسيس الثاني، ولما لم يسمع لهما ضرب الله مصر على يدهما بضربات كثيرة ذكرها الكتاب في سفر الخروج: منها انقلاب ماء النهر دما، ومنها انتشار الدفاضع في البيوت والمخادع وعلى الأسرة، وظهور البعوض على كل تراب مصر، وامتلاء بيوت المصريين وأرضهم من الذبان والوباء الشديد الذي أصاب الخيل والحمير وكل الماشية إلا ما خص بني إسرائيل، والقروح التي أصابت الناس والبهائم، ثم البرد الذي لم يكن مثله في مصر، وأمات الناس والبهائم وأيبس العشب وكسر الأشجار، ولم يكن منه شيء في أرض جاسان، ثم الجراد الذي غشي أرض مصر وأكل جميع عشبها ... وأخيرا ضربة كل بكر في جميع أرض مصر من بكر فرعون إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم، فدعا فرعون موسى وهرون ليلا، وقال: «اخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل بغنمكم وماشيتكم كلها.» (9) في خروج بني إسرائيل من مصر
قد أقام بنو إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة، وقد نوه بذلك النص العبراني وغيره من الترجمات، ولكن يظهر من الترجمتين السبعينية والسامرية أن الأربعمائة والثلاثين سنة تحسب من خروج إبراهيم إلى بلاد الكنعانيين إلى خروج بني إسرائيل من مصر، وقد عول أكثر العلماء على ما في النص العبراني وهو الأصح، ولا سيما أن كثيرا من الآثار المصرية يستخلص منه أن المدة التي انقضت من عهد فرعون أبامي الذي استوزر يوسف في سنة 17 لملكه إلى زمان منفتاح فرعون الخروج إنما هي نحو أربعمائة وثلاثين سنة لا مائتان وخمس عشرة سنة، ويؤيده أن هذه المدة المذكورة أخيرا لا تكفي لتكون ذرية يعقوب عند خروجها من مصر ستمائة ألف ماش من الرجال خلا الأطفال، كما في سفر الخروج (فصل 12 عدد 37).
وفي تعيين سنة هذا الخروج أقوال؛ أظهرها عندنا أنه كان نحو سنة 1500 قبل الميلاد، فقد مر أن إبراهيم شخص إلى أرض كنعان سنة 2145، وعمره خمس وسبعون سنة، وولد إسحق بعد خمس وعشرين سنة، وإسحق ولد يعقوب وعمره ستون سنة، ويعقوب انحدر إلى مصر وعمره 130 سنة، فمجموع هذه السنين 315، وإذا أضفت إليها سني العبودية بمصر 430 سنة كان المجموع 645، فإذا أسقطتها من 2145 سنة شخص إبراهيم إلى أرض كنعان كان الخروج في 1500ق.م.
والمؤكد الآن أن بني إسرائيل أخذوا في خروجهم من مصر من تل المسقوطة، حيث كانت مدينة رعمسيس، وانتهوا بعد خمس مراحل إلى شاطئ البحر الأحمر، ولما رأى فرعون والمصريون أنهم خسروا الانتفاع بأعمال شعب كامل أمر فرعون بتتبع آثارهم، وجمع مركباته وجيشه، وأسرعوا في لحاقهم فأدركوهم عند خليج السويس، وقطعوا عليهم الطريق من جهة الشمال والشمال الشرقي، وكان في الغرب والجنوب جبل الطاقة وهو مستوعر المسالك، وفي الشرق البحر الأحمر، فارتاع بنو إسرائيل وضاقت بهم المسالك، فصلى موسى إلى الله ومد يده على البحر، فأرسل الرب ريحا شرقية شديدة فانشق الماء، ودخل بنو إسرائيل على اليبس في وسط البحر، ودخل المصريون وراءهم فقال الرب لموسى: «مد يدك إلى البحر فيرتد الماء على المصريين.» فكان كذلك وغرقت مركبات فرعون وفرسانه وجيشه ونجا بنو إسرائيل جميعهم، والراجح أن معبرهم كان من شاطئ الخليج الغربي بخط منحرف إلى شاطئه الجنوبي الشرقي، وحلوا في الموضع المسمى الآن عيون موسى، ولم يغرق فرعون؛ لأنه لم يدخل في البحر مع مركباته وجنوده ... فالكتاب لم يشر إلى غرقه، والتاريخ والآثار المصرية تنبئ بأنه مات حتف أنفه، وجعل الرب عمود نار وغمام يضيء بني إسرائيل، ويحجبهم عن نظر المصريين، ورافقهم هذا العمود في أسفارهم، ولا نرى آية عظمت الأسفار المقدسة في العهدين قدرها كآية شق البحر الأحمر، وإجازة بني إسرائيل في وسطه (طالع فصل 14 من سفر الخروج). (10) مقام بني إسرائيل بالبرية
أقام بنو إسرائيل بالبرية أربعين سنة منتقلين في مراحل كثيرة، وأهم ما كان في هذه المدة: أولا إنزال الله عليهم المن، فكان يسقط في الغداة حول المحلة وطعمه كقطائف بعسل، وكانوا يلتقطون منه كل واحد على قدر أكله، وكان ما بقي منه بعد الالتقاط يذوب إذا حميت الشمس، وما بقي منه إلى اليوم التالي دب فيه الدود وأنتن إلا يوم السبت، فما التقطوه يوم الجمعة لا يعتريه فساد، ثانيا: السلوى وهي طائر معروف إذ قال الكتاب في سفر العدد (فصل 11 عدد 31): «وهبت ريح من لدن الرب، فساقت سلوى من البحر وألقته على المحلة على مسير يوم من هنا ويوم من هناك حوالي المحلة، فأرسل الله السلوى إليهم مرتين ذكرهما موسى في سفر الخروج، وفي سفر العدد، وبين الأولى والثانية سنة وكلتاهما في الربيع، ثالثا: آية إجراء الماء من الصخرة، فقد أمر الله موسى (خروج فصل 17 عدد 3) أن يضرب الصخرة فتجري المياه، وقال بعض العلماء: إن محل هذه الصخرة في جوار دير القديسة كاترينا في سينا، والأظهر أنها كانت في وادي فيران، وقد ذكرها فيه رجال اللجنة الإنكليزية في بقعة تسمى حي الخطاطين، رابعا: حربهم مع العمالقة ذكره سفر الخروج (فصل 17 عدد 8 وما يليه)، وكان موسى إذا رفع يده تغلب بنو إسرائيل وإذا حطها تغلب العمالقة، فهزم بنو إسرائيل العمالقة، خامسا: تنزيل الله السنة على موسى وأولها الوصايا العشر، وألحق بها السنن والأحكام الواردة في سفري الخروج، وتثنية الاشتراع، سادسا: عبادة بني إسرائيل عجل الذهب لما أبطأ موسى في الجبل عندما صعد هو وهرون وشيوخ إسرائيل؛ ليشكروا الله على آلائه، سابعا: إنشاء موسى خباء المحضر أي: قبة العهد، ثامنا: إجراء الماء من الصخرة ثانية في قادش فإن الشعب خاصم موسى وهرون هناك لحاجتهم إلى الماء، فأخذ موسى عصاه وضرب الصخرة كأمر الرب، فخرج ماء كثير شرب منه الجماعة وبهائمهم، تاسعا: وفاة مريم أخت موسى في قادش وموت أخيها هرون في جبل هور، فإن الرب كلم موسى قائلا: ينضم هرون إلى قومه؛ لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيتها لبني إسرائيل؛ لأنكما عصيتما أمري عند ماء الخصومة، وأمر أن يصعد هرون إلى الجبل وينزع عنه ثيابه ويلبسها إليعازر ابنه، فمات هرون في رأس الجبال، ودفن هناك بحيث لا يعرف أحد قبره؛ لئلا يعبده بنو إسرائيل أو ينتهك العرب حرمته، ومع هذا ففي جبل هور مدفن يسمى مدفن هرون وقد زاره كثير من الجوالة، عاشرا: نهي الرب عن محاربة الأدوميين أبناء عيسو والموآبيين والعمونيين بني بنتي لوط؛ لأنهم إخوتهم (وقد كانت بعدئذ حروب عديدة بين هذه العشائر وبني إسرائيل)، وحارب بنو إسرائيل سيحون ملك الآموريين وعوج ملك بيسان في عبر الأردن، حادي عشر: تمليك موسى سبطي راوبين وجاد ونصف سبط منسى بن يوسف البلاد التي أخذوها منهما، ثاني عشر: وفاة موسى فقد جاء في سفر التثنية (فصل 3 عدد 25) أن موسى سأل الرب قائلا: «دعني أجوز فأرى الأرض الصالحة التي في عبر الأردن هذا الجبل الحسن ولبنان.» فقال له الرب: «حسبك لا تزد في الكلام معي لكن اصعد إلى قمة الفيحة (وهي قمة في جبل بنو تسمى الآن رأس الصياغة)، وارفع طرفك غربا وشمالا وجنوبا وشرقا، وانظر بعينيك لأنك لا تجوز هذا الأردن، ومر يشوع وشجعه فإنه هو يعبر أمام هذا الشعب ويورثه الأرض التي تراها.» فخطب موسى في بني إسرائيل خطبا كثيرة ذكرهم بها بأخص مواد السنة، وحض الشعب على اتقاء الرب والعمل بسنته، وأمر الكهنة أن يتلوها على مسامع الشعب مرة في كل سبع سنين في عيد المظال، ثم بارك بني إسرائيل بركات نبوية ذكرت في الفصل 23 من سفر التثنية، وصعد على جبل نابو ومات هناك وعمره مائة وعشرون سنة، ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا. (11) في يشوع بن نون
هو من سبط أفرائيم بن يوسف وكان مؤازرا لموسى، وعهد إليه بقيادة الشعب بعد وفاته، وأعدته عناية الله لأمرين: افتتاح فلسطين وقسمة أرضها على أسباط بني إسرائيل، وأتم الأول بعبوره الأردن ببني إسرائيل وافتتاحه أريحا، وكانت بمنزلة مفتاح لبلاد الفلسطينيين، إذ طاف رجال الحرب حول أسوارها سبعة أيام، وفي اليوم السابع طافوا سبع مرات فسقطت أسوارها ودخلها بنو إسرائيل، ثم حارب مدن الجنوب فافتتحها وقتل ملوكها، واعتصب عليه ملوك شمال فلسطين فشتت شملهم وتعقبهم إلى صيدا وصرفند، وانبسطت سلطته شرقا إلى بقعة المصفاة، وهي البقاع على الأرجح، فأصبحت ولايته من الجبل الأملس الممتد إلى سعير (جبل الشيخ) إلى بعل جاد في بقعة لبنان، وهي بانياس على الأظهر، وعاد يشوع من الشمال ظافرا غانما فحارب بني عناق وكانت مساكنهم الخليل وغزة وأشدود وغيرها، وكانت هذه البلاد منقسمة إلى نواح أو إقطاعات، وحاكم كل ناحية يسمى ملكا؛ ولذلك ترى في سفر يشوع أنه قتل ملوكا كثيرين، وجاء في الآثار المصرية ذكر تقسيم هذه البلاد إلى ممالك صغيرة، وجاء فيها ذكر يابوسي وأموري وجرجسي وحيوي وعرقي وسيني إلخ، فكان ذلك مصداقا لقول الكتاب: إن الملوك الذين قتلهم بنو إسرائيل واحد وثلاثون ملكا، منهم سيحون ملك الآموريين وعوج ملك باسان اللذان قتلهما موسى، وتسعة وعشرون ملكا قتلهم يشوع بن نون.
ثم قسم يشوع ما ملكوه من الأرض على بني إسرائيل كما في سفر يشوع فصل 14 وما يليه، ودبر يشوع بني إسرائيل خمسا وعشرين سنة على ما روى يوسيفوس اليهودي، ومات وعمره مائة وعشر سنين، ودفنوه في أرض ميراثة في ثمنة سارح التي في جبل أفرائيم إلى شمال جبل جاعش (يشوع عدد 23 عدد 24)، وهذا المحل هو المسمى الآن تبنة في جنوبي نابلس، وقد كشف فيها كاران عن مدفنه سنة 1863، ثم شخص إلى هذا المحل سنة 1870، فزاد تيقنا بذلك وتابعه على رأيه دي سولسي والأب ريشار والأب فيكورو (طالع تاريخنا المطول المجلد الثاني صفحة 314) ... وقد طالعت أخيرا بعض المعارضة لكاران في مذهبه هذا. (12) في قضاة بني إسرائيل
بعد وفاة يشوع بن نون اهتم بعض بني إسرائيل بمحاربة من بقي بينهم من الكنعانيين، فحارب بنو شمعون أدوناي بازق أي: ملك بازاق (في جهة اللد) وانتصروا عليهم، وحارب بنو يهوذا اليابوسيين في أورشليم وطردوهم منها لكنهم رجعوا إليها، وضربوا العناقيين في الخليل واستحوذوا عليها، وحاصر بنو يوسف بيت إيل وافتتحوها، وأحب بعض بني إسرائيل الراحة، وتقاعدوا عن طردهم أعداءهم بل سالموهم ومالوا إلى عبادة أوثانهم فضايقهم أعداؤهم، وكانوا إذا لجئوا إلى الرب أقام لهم مخلصا سموه قاضيا، فكان من هؤلاء أربعة عشر قاضيا: عثنيل وقد خلصهم من استعباد كوشان وشعثائيم ملك آرام، وآهود ونجاهم من ظلم عجلون ملك موآب، وشمجر وأنقذهم من بعض الفلسطينيين، ودابورة مع باراق وخلصاهم من ملك حاصور، وجدعون وخلصهم من المدينيين، وتولع ويانير كانا قاضيين ولم يذكر لهما الكتاب حربا، ويفتاح وأنقذ بني إسرائيل من الفلسطينيين وبني عمون، وأيصان من بيت لحم، وأيلون الزابلوني، وعبدون بن هليل، وهؤلاء لم يذكر لهم الكتاب حربا، والراجح أن هؤلاء القضاة الثلاثة كانوا يلون شرقي الأردن في مدة ولاية عالي وصموئيل وسطو شمشون في غربية، وعالي وصموئيل من قضاة إسرائيل، وكان عالي حبرا في خباء الرب الذي أقاموه في شيلو، وفي أيامه انتصر الفلسطينيون على بني إسرائيل، وأخذوا منهم تابوت عهد الرب وقتل ابناه حفني وفنحاس، وصموئيل كان يخدم عالي في بيت الرب وبعد موته حمل بني إسرائيل على محاربة الفلسطينيين فانتصر عليهم.
وكم كانت المدة التي دبر فيها هؤلاء القضاة بني إسرائيل؟ فتلك معضلة تضاربت الأقوال في حلها، وإذا حسبت السنون التي ذكرها الكتاب لكل منهم زادت كثيرا على مدة الأربعمائة والثمانين سنة، التي صرح الكتاب (ملوك 3 فصل 6 عدد 1) بأنها انقضت من خروج بني إسرائيل إلى أن شرع سليمان في بناء الهيكل، ولحل هذه المشكلة وضعنا الجدول الآتي على سبيل استخراج العدد غير المعلوم من المعلوم:
سنة 480
المدة التي من الخروج إلى بناء الهيكل (ملوك 2 ف6 عدد 1)
سنة 40
مدة إقامة بني إسرائيل في البرية كما في آيات عديدة
سنة 25
مدة قيادة يشوع بن نون لهم (يوسيفوس ك5 فصل 1)
سنة 40
مدة ملك شاول (أعمال الرسل ف13 عدد 41)
سنة 40
من مدة ملك داود (ملوك 2 ف5 عدد 4)
سنة 4
من مدة ملك سليمان (ملوك 3 ف6 عدد 1)
سنة 331
فيلزم أن تكون مدة القضاة المجهولة من موت يشوع إلى ملك شاول
سنة 480
وظهر أنه كان أحيانا قاضيان لبني إسرائيل في وقت واحد كل منهما في جهة (13) في شاول أول ملوك بني إسرائيل
اجتمع شيوخ بني إسرائيل يسألون صموئيل أن يقيم عليهم ملكا، فصلى إلى الرب فأمره أن يبين لهم سنة الملك وما يجريه عليهم من المتاعب والخسائر ، ولما ألحوا على صموئيل أوحى إليه الرب أن يختار شاول ملكا عليهم، وهداه إليه بأن شاول أتى إلى صموئيل يسأله عن أتن ضلت لأبيه وخرج يطلبها، فعرفه الرب به ومسحه سرا وأمره أن يوافيه في اليوم السابع إلى المصفاة (المعروفة الآن بشفعات)، ودعا صموئيل الشعب في ذلك اليوم إليها، وأمرهم أن ينتخبوا ملكا منهم بإلقاء القرعة على أسباط إسرائيل الاثني عشر، فأصابت بنيامين ثم ألقوا القرعة على عشائر هذا السبط، فوقعت لشاول بن قيس، ووقف بين الشعب فإذا هو يزيد طولا عن الشعب كافة من كتفه وما فوق، فهتف الشعب: «ليحيى الملك»، وكانت باكورة أعماله محاربته لناحاش ملك العمونيين، فهذا نزل على يابيش جلعاد في ناحية الصلت وضايق أهلها وطلبوا منه الأمان، فأجابهم أنه لا يؤمنهم إلا أن يقلع كل عين يمنى لهم، فأرسلوا رسلا إلى شاول وصموئيل، فاجتمع إليهم نحو ثلاثمائة ألف رجل ومن رجال يهوذا ثلاثون ألفا، ورتب شاول عسكره ثلاث فرق، فشتت بني عمون شذر مذر ووجد ناحاش ملكهم مجندلا بين القتلى.
وفي السنة الثانية لملكه حارب الفلسطينيين، وكان الرعب قد أخذ بني إسرائيل فلم يجتمع إلى شاول إلا بعض الشجعان في الجلجال (الجلجول الآن في جهة أريحا)، وأقام ثم شاول سبعة أيام لينتظر صموئيل بحسب موعده ليقدم الذبائح لله، فلم يأت وطفق الشعب يتفرق فأقدم على إصعاد المحرقة، ولما فرغ منه إذا بصموئيل قد أقبل فلامه شديد اللوم على اختلاسه حق الكهنة بتقدمة الذبائح، وأسمعه أن ملكه لا يدوم، وخرج الفلسطينيون ثلاث فرق يخربون في أرض إسرائيل، وأقبلت طلائعهم إلى معبر مكماش (مخماس)، فانفرد يوناثان بن شاول وتسلق على صخر هناك مع حامل سلاحه ووثبا على محرس الفلسطينيين، فقتلا منهم نحو عشرين رجلا، فاستولى الرعب على الفلسطينيين وأخذوا يهربون، ولما رأى عسكر شاول تشتتهم وثبوا عليهم وانضم إلى شاول من كان من بني إسرائيل مع الفلسطينيين وغيرهم حتى صار عسكره نحو عشرة آلاف رجل، واستمروا يطاردونهم من مخماس إلى يعلو وهي في شرقي عمواص، ثم حارب شاول كل من كان حوله من الموآبيين والعمونيين وملوك صوبا، وكان ظافرا، ولم يطرفنا الكتاب بشيء من تفصيل أخبار هذه الحرب.
لكن الكتاب أنبأنا أن الرب أرسل صموئيل إلى شاول؛ ليحارب العمالقة ويبيدهم؛ لأنهم اعترضوا بني إسرائيل في طريقهم إلى أرض موعدهم، فجمع شاول مائتي وعشرة آلاف راجل وزحف بهم إلى مدينة عماليق وضربهم، وقتل كل من وجده بحد السيف، وأسر أجاج ملكهم وأبقاه حيا وعفا عن خيار الغنم والبقر، وكل سمين وعاد ظافرا، فأوحى الرب إلى صموئيل أنه ساخط على شاول؛ لأنه لم يبد العمالقة وكل ماشيتهم كما أمره فأتى إليه صموئيل، فأنبه على ذلك قائلا: «أترى الرب يسر بالمحرقات كما يسر بالطاعة لكلامه!» وأبان له أن الرب قد رذله، فقال شاول: «قد خطئت فاغفر خطيتي.» وتحول النبي لينصرف فأخذ شاول بطرف ردائه فانشق، فقال له: «سيشق الرب مملكة إسرائيل عنك.» ثم قال صموئيل: «هلم إلي بأجاج ملك عماليق.» وأمر بقتله فقتل.
وأمر الرب صموئيل أن يمسح داود ملكا على إسرائيل وهداه إليه، فمسحه النبي سرا واعترى داء الماليخولية شاول، وأشار ذووه عليه أن يستدعي رجلا يحسن الضرب بالكنارة حتى إذا اعترته نوبة المرض فرج كربه، وهداه بعضهم إلى داود بن يسى فأرسل إلى أبيه أن يبعث إليه به، وجعله حامل سلاحه، وكان داود قبل أن يدعوه شاول أو بعده صارع جليات الجبار، وقتله بحجر ألقاه في مقلاعه، ثم أخذ سيفه واحتذ رأسه به، وأتى به إلى شاول فوضع السيف في بيت الرب، وأحب شاول داود وقربه إليه وصافاه يوناتان بن شاول وأخلص له، ولم يعتم شاول أن أخذته الغيرة من داود ووجس أن يكون خلفا له، فهرب داود من وجهه أولا إلى أخي ملك الكاهن، ثم إلى جت وموآب وطارده شاول وتمكن داود من قتله فعفا عنه.
وتألب أقطاب الفلسطينيين لمحاربة شاول مؤملين الظفر به لانقسامهم، وحسبانهم أن داود ورجاله يناصرونهم على شاول، وتقدمت جيوش الفلسطينيين نحو الشمال إلى مرج بن عامر، ونزلوا بجلبوع وهو المسمى الآن جبل جلبوع، ورأى شاول كثرة جيوش الفلسطينيين، فخاف وارتعد وسأل الرب فلم يجبه لا بالحلم ولا بالكهنة ولا بالأنباء، فمضى إلى عرافة في عين دور (جهة الناصرة) وطلب منها أن تصعد له صموئيل فأصعدته، فقال له: «شق الرب المملكة من يدك ودفعها إلى صاحبك داود، وغدا تكون معي أنت وبنوك في القبور.» وأمثل الأقوال في ظهور صموئيل أن الرب سمح بذلك لينذر شاول بهلاكه، وقال ابن سيراخ (فصل 46 عدد 22) في صموئيل: «ومن بعد رقاده تنبأ وأخبر الملك بوفاته، فعاد شاول إلى معسكره كئيبا مرتاعا، وتقدم الفلسطينيون إلى يزرعيل (ذرعين الآن)، وتسعرت نار الحرب وانهزم بنو إسرائيل وشد الفلسطينيون على أثر شاول وبنيه فقتلوا أولاده الثلاثة، وأدرك الرماة بالقسي الأب وأثخنوه بالجراح، فقال لحامل سلاحه: «استل سيفك وأوجئني به؛ لئلا يقلتني هؤلاء.» فلم يشأ حامل سلاحه أن يمد إليه يدا، فأخذ هو سيفه وسقط عليه فمات، وناح عليه داود مناحته المذكورة في الفصل الأول من سفر الملوك الثاني، وكان ملك شاول أربعين سنة. (14) في داود الملك والنبي
كان داود يحارب العمالقة عندما قتل شاول، ولما عاد ظافرا صعد إلى الخليل فأتى رجال يهوذا، فأقاموه ملكا، فلم يكن من إبنير بن نير عم شاول ورئيس جيشه إلا أنه أخذ أشبوشت بن شاول وملكه على سائر بني إسرائيل، فدان له سكان عبر الأردن وكثيرون من أسباط إسرائيل، واستتب له الملك على مريديه سنتين، فأخذ إبنير بن نير رجال أشبوشت، وأتى بهم إلى جبعون (الجب الآن)، فأرسل داود لملتقاهم يواب بن صروية أخته ... وكانت عاقبة القتال انهزام إبنير ورجال أشبوشت، واستؤنف القتال مرات فكان النصر لداود، وانحاز إبنير إلى داود وعاهده بأن يجمع بني إسرائيل إليه وهم بذلك، فشق ذلك على أيوب بن صروية رئيس جيش داود فقتل إبنير؛ لأن إبنير قتل أخاه عشائيل، وغدر بأشبوشت رئيسا غزاة له فقطعا رأسه وأتيا به إلى داود، فأمر داود بقتلهما فقتلا، وناح داود على إبنير وأشبوشت واستقل بالملك.
وكان باكورة أعمال داود حصاره قلعة صهيون في أورشليم وفتحها، وكان اليبوسيون قد بقوا بها وسماها مدينة داود وزاد في الأبنية والتحصين فيها، وحالف حيرام ملك صور كما مر في كلامنا على الفونيقيين، وخشي الفلسطينيون سطوة داود وشدة بأسه وآثروا الهجوم على الدفاع تداركا من زيادة صولته، فاجتمعوا في وادي الجبابرة (في جنوب أورشليم على الراجح ويسمى الآن البقعة)، فزحف داود إليهم فانذعروا تاركين ذخائرهم وأصنامهم، على أنهم استأنفوا القتال ثانية مستنجدين بغيرهم من ملوك سورية، فعكف داود عليهم من الوراء وأثار الرب عليهم عاصفا شديدا، فتبعهم داود إلى جازر التي هي التخم الفاصل مملكة داود عن مملكة الفلسطينيين، ثم نقل تابوت عهد الرب من يعريم (أبي غوش الآن)، حيث كان وضع بعد رد الفلسطينيين له إلى أورشليم باحتفاء عظيم، ووضعوه في وسط المظلة التي أعدها داود له في قصره، وأقام مرنمين يسبحون الله أمام التابوت في أوقات عينها ونظم لذلك مزامير، وكان كلام الرب إلى يوناتان النبي أن يقول لداود ليهتم ببناء هيكل له وترى داود يقول لسليمان ابنه (أخبار الأيام الأول فصل 23 عدد 2): «قد صار إلي كلام الرب قائلا: قد سفكت دماء كثيرة وباشرت حروبا عظيمة، فلا تبن أنت لي بيتا فهو ذا يولد لك ابن هو يبني بيتا لاسمي.» وكان داود يدخر كل ما يجمع من ذهب وفضة لينفقه ابنه في بناء الهيكل، واستأنف داود الحرب مع الفلسطينيين وأذلهم، وافتتح جت (ذكرين) عاصمتهم وما جاورها، ولما رأى نفسه آمنا من جهة مجاوريه عبر الأردن بعسكر جرار، فضرب الموآبيين وبدد شملهم وأسر منهم جما غفيرا، ثم ضرب داود هدد عازر ملك صوبة، وأخذ منه ألفا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل وعرقل خيل المركبات، وسمع توعي ملك حماة أن داود بدد جنود هدد عازر وآرامي دمشق، فأرسل ابنه يورام إلى داود فوقع على معاهدة بينهما، وكان من الجهة الأخرى معاهدا حيرام والفونيقيين، فأصبح ملك داود شاملا سورية من الفرات إلى حدود مصر، وأنبأتنا الآثار المصرية أن قد توفرت في تلك المدة الحروب الأهلية في مصر، فجعلت داود في مأمن من سطو المصريين على جنوبي مملكته.
وتوفي في تلك الأثناء ملك بني عمون فخلفه ابنه حنون، فأرسل داود يعزيه متذكرا أن أباه أحسن إليه عند فراره من وجه شاول، فحسب العمونيون وفد داود جواسيس فردوهم مهانين، وحلقوا نصف لحاهم، واستفاق بنو عمون إلى سوء فعلتهم، وخافوا بطش داود، فاستأجروا آراميي دمشق وسهول البقاع، وبعلبك وغيرهم من جوارهم، فأرسل داود يواب قائد جيشه وجميع الأبطال، واصطلت نار الحرب ما بين الفريقين وانهزم الآراميون والعمونيون، فحرش هدد عازر بين القوم واستدعى رجالا من الآراميين في عبر الفرات، فرأى داود الأمر يقضي عليه بأن يشهد الحرب بنفسه، فعبر الأردن وزحف إلى الآراميين فانهزموا من وجهه وأهلك منهم سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، ولما رأى باقي المتألبين جيش هدد عاز قد انكسر ذعروا وهربوا، وصالحوا داود ودانوا له، وفي السنة التالية أرسل داود يواب ورجال إسرائيل، فدمروا مدن بني عمون وحاصروا ربة عمون، ورجع داود إلى هناك، ففتح المدينة وأخذ تاج ملكها عن رأسه.
وفي أثناء هذه الحرب اقترف داود إثميه الشهيرين: مفاجرته بتشباع امرأة أوريا وتسببه بقتل زوجها، فهذان الإثمان سودا صفحات تاريخ داود، وقد صرف ما بقي من حياته آسفا باكيا مستغفرا الله مكفرا عن اقترافه لهما، وتشهد لذلك أكثر زبوره، وأرسل الرب إليه تانان يوبخه على صنيعه وينذره بما يجره ذنبه إليه من المصائب؛ وأولها موت الابن الذي ولدت بتشباع من زنائه، ثم خروج إبشالوم ابنه عليه ومحاربته له إلى أن قتل إبيشالوم فوجد عليه كثيرا، وكانت لداود حروب أخرى مع الفلسطينيين أوجز الكتاب بذكرها (ملوك ثاني فصل 21)، ثم أمر داود بإحصاء بني إسرائيل فأغضب الرب بهذا الإحصاء؛ إما لأن مصدره الخيلاء والتكبر؛ وإما لأن غرض داود منه أن يحدث ضريبة على رأس كل رجل، وأرسل الرب جاد النبي إلى داود يذكره بإثمه ويخيره ليختار إحدى ثلاث ضربات: إما الجوع مدة ثلاث سنين، إما الهرب أمام أعدائه ثلاثة أشهر وإما الوباء ثلاثة أيام، فقال داود: خطئت جدا واختار الوقوع في يدي الرب؛ لأن مراحمه كثيرة، فأرسل الرب وباء في إسرائيل، فمات من الشعب سبعون ألف رجل.
قد شاخ داود وطمع أدونيا أحد أبنائه أن يملك مكانه، وعلم ناتان النبي ما ينوي أدونيا، فكلم بتشباع أم سليمان أن تدخل على الملك، فتخبره ما يصنع أدونيا وتذكره بيمينه أن يجلس سليمان ابنها على عرشه، فاستدعى صادوق الحبر وناتان النبي وغيرهما من حاشيته، وعهد بالملك إلى ابنه سليمان ومسحه صادوق الحبر بمزيد الاحتفاء، فهتف جميع الشعب ليحيى الملك سليمان، وسلم داود إلى سليمان رسم هيكل الرب الذي يبنيه وسلم إليه ما كان أعده للنفقة على إنشاء الهيكل، وجمع جميع رؤساء إسرائيل وسليمان، وأوصاهم أن يتقوا الله ويعملوا بسنته، وبعد أن ملك داود أربعين سنة توفاه الله ... والقول المسلم به من جمهور العلماء أن داود ملك سنة 1055ق.م ومات سنة 1015، وقد كتب داود الزبور والأظهر أن ليس كلها له، بل بعضها متأخر عن أيامه كالزبور التي ذكر فيها سبي بابل. (15) في سليمان الملك
كان عمر سليمان يوم ملك عشرين سنة، وحاول أدونيا أن يأخذ الملك منه، فجامله سليمان أولا وعفا عنه، ولما لم ينكف عن مطامعه أرسل فقتله؛ كيلا يواصل إقلاقه الراحة العامة، وعزل أبياتار الحبر عن كهانة الرب؛ لأنه كان محازبا لأدونيا وقتل يواب لذلك؛ ولأنه كان قد قتل إبنير وعماسا واستتب الملك لسليمان ومات كبار محالفيه، وشاء أن يكون في مأمن من سطو الخارجين، فحالف فرعون ملك مصر وتزوج بابنته وصعد فرعون إلى جازر (تل جازر قريبة من عمواص شرقا وخلده جنوبا)، فأخذها وأحرقها وقتل الكنعانيين المقيمين بها ووهبها مهرا لابنته، وفاق سليمان أباه وجميع ملوك أمته بحكمته، وتعظيم سطوته وغناه وكثرة آثاره وفخامتها، وجدد محالفة أبيه مع حيرام الثاني ملك صور والفونيقيين، وتزوج بابنته وعاونه حيرام على بناء الهيكل بقطعه أخشاب الأرز من لبنان، ونقلها إلى جبيل ثم جعلها أطوافا في البحر إلى يافا، وبإرساله له عملة لبناء الهيكل وزخرفه، وقد كان إنشاؤه لهذا الهيكل في السنة الرابعة لملكه، وهي السنة الأربعمائة والثمانون لخروج بني إسرائيل من مصر، وهي سنة 1011 أو سنة 1020ق.م على قولين هما أظهر من باقي الأقوال، وأما عظمة بناء الهيكل، وفخامة أثاثه وزخرفته وهيئته، فقد ذكرها الكتاب في سفر الملوك الثالث ف6 فطالعه.
وقد أنشأ سليمان أبنية أخرى في أورشليم وغيرها: ففي أورشليم بنى قصورا أشهرها القصر المسمى غابة لبنان لكثرة ما فيه من أخشاب أرز لبنان، وكان مائة ذراع طولا وخمسين ذراعا عرضا وثلاثين سمكا، وأنشأ بجانبه أروقة وبنى قصرا آخر لسكناه، ولا جرم أنه كان فسيحا لكثرة نسائه وحاشيته، وأنشأ دارا أخرى خصها بامرأته بنت فرعون، وأجرى إلى أورشليم الماء من المحل المعروف ببرك سليمان بقرب منابع البرك المذكورة، وكان يسقي منها خمائل هناك ويجر باقي الماء إلى أورشليم والقناة من برك سليمان إلى أورشليم ما برحت محفوظة، وإن غير صالحة لجلب الماء إليها، وقد أنشأ سليمان أيضا جنات وفراديس، كما قال في سفر الجامعة (فصل 2 عدد 4)، والأظهر أن جنات سليمان هذه كانت في وادي إرطاس، ولم يكتف بجر الماء إلى أورشليم بل أحاطها بأسوار منيعة، وكان أبوه داود قد حصن مدينته، فسور ابنه المدينة كلها، والحجار الضخمة التي في الجنوب الغربي من الحرم هي من بقايا أسوار سليمان.
قد حصن سليمان خارجا عن أورشليم المدن حاصور (فوق بحيرة الحولة)، ومجدو وهي المسماة الآن لجون وجازر (تل جازر) التي وهبها فرعون لابنته زوجة سليمان وغيرها، وجاء في سفر الملوك الثالث (فصل 8 عدد 18)، وبنى سليمان بعلة وتدمر في البرية، أما تدمر فمعلوم موقعها ورأى سليمان بناءها لازما لتأمين طريق الفرات من سطو البدو على المارة والتجار، وإنشاؤه لها من أعظم آيات حكمته، وأما بعلة فذهب بعض المفسرين والجوابين أن المراد بها بعلبك وذهب غيرهم أن المراد بها مدينة غير بعلبك في فلسطين ... فبعلة اسم لمدن كثيرة فيها، وقد ورد اسم بعلبك في الآثار المصرية قبل سليمان مسمات ببقعات، والذي نراه أن بعلبك إذا لم يكن سليمان بناها، فقد حصنها وجعلها محطة للتجارة متوسطة بين تدمر وفلسطين، وبنى سليمان أيضا مدنا للخزن ومخافر يقيم بها الجنود جنوبا، ورجمت بالحجارة السوداء كل السبل المؤدية إلى أورشليم.
إن أبنية سليمان هذه كانت تستلزم نفقات وافرة لا تفي بها المكوس والضرائب والهدايا والجزيات، فحذا حذو ملك صور بالاتجار فوضع مكوسا على سلع التجارة الواردة على مملكته، بل أخذ يزاحم التجار بنقل البضائع إليها من بلاد العرب ومصر وما بين النهرين، وكان يشتري من مصر المركبات والخيل لملوك الحثيين والآراميين، واشترك مع حيرام ملك صور في عمل سفن على البحر الأحمر لنقل سلع بلاد العرب والهند وغيرهما ... وكانت هذه السفن تصل إلى أوفير، وهو على الأظهر محل في الهند كانت تنقل منه الذهب والقردة والطاووس وخشب الصندل، وكان لسليمان من هذه التجارة أرباح عظيمة، فعمل خمسمائة مجنب من الذهب، وجعل جميع آنية شربه وآنية بيت غابة لبنان من ذهب خالص، وعبر الكتاب عن الفضة في أورشليم أنها كانت في أيامه مثل الحجارة.
وأتت ملكة سبأ إلى سليمان لتسمع حكمته التي اشتهرت، والأظهر أنها كانت ملكة سبأ في جنوبي بلاد العرب، وربما امتدت سلطتها إلى بعض الحبشة، وأتت هذه الملكة لسليمان بهدايا ثمينة وعظيمة وأمه غيرها من الملوك، وتسامى سليمان على ملوك الأرض بحكمته وغناه، وكان راتعا وشعبه في بحبوحة الرغد والسلم والترف، فأدى به ذلك إلى الانغماس بالملاذ؛ لأنه أحب نساء غريبات كثيرات مع ابنة فرعون من الموآبيين والعمونيين والأدوميين والفونيقيين والحثيين، وغيرهم من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الاختلاط معهم، فأزاغت نساؤه قلبه ووهن عزمه في المحافظة على سنة الله، وحملته نساؤه على عبادة معبوداتهن، وأقام لها معابد في أورشليم، فتجلى له الرب مرتين مؤنبا له وأثار عليه هدد الأدومي، فكان يسطو على مملكة سليمان ويقلق راحة ساكنيها، ثم رزون بن اليداع الذي كان قائدا في جيش هدد ملك صوبة، ثم ملك دمشق وكان يسطو على مملكة سليمان أيضا وسلط عليه فاتنا من بني إسرائيل، وهو ياربعام بن ناباط من سبط أفرائم، ولما أمر سليمان بقتله فر إلى مصر إلى ملكها شيشاق، الذي كان يتوق إلى الاستيلاء على فلسطين، فرحب بياربعام وعظم مثواه وأمسكه عنده ليستعين به على افتتاح فلسطين، فبقي عنده إلى وفاة سليمان ومن بعدها رجع إلى اليهودية، وشق مملكة إسرائيل؛ لأن الرب لم يشأ أن يشقها في أيام سليمان إجلالا لداود أبيه.
قال الكتاب (ملوك 3 فصل 11): «وكانت أيام ملك سليمان على كل إسرائيل أربعين سنة، وتوفاه الله وعمره ستون سنة.» وقال الكتاب أيضا (ملوك ثالث فصل 4 عدد 32): «وقال سليمان ثلاثة آلاف مثل، وكانت أناشيده ألفا وخمسة أناشيد، وتكلم في الشجر من الأرز على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط، وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك.» ولكن لم يبق مما كتبه سليمان إلا سفر الأمثال، وسفر الجامعة المفتتح بقوله: «كلام الجامعة بن داود ملك أورشليم.» وحسب بعضهم أن سليمان كتب هذا السفر بعد اقترافه الإثم توبة إلى الله، وكان لهم ذلك من الأدلة على خلاصه، وأجمع القدماء على أن سفر نشيد الأنشاد هو لسليمان أيضا وتردد المتأخرون في متابعتهم على ذلك، وعزا بعض القدماء سفر الحكمة أيضا إلى سليمان، ولا يمكن تحقيق هذه النسبة إليه، والمبحث في خلاصه أو هلاكه معضلة لم تحل إلى اليوم، فالأولى ترك الحكم فيها لله. (16) في قسمة مملكة بني إسرائيل
بعد وفاة سليمان ملك ابنه رحبعام، ولم يكن يشبه أباه بشيء من حكمته، وكان الشعب يئنون من الضرائب والأثقال التي فرضها سليمان، وقد مر أن ياربعام بن ناباط كان قد ثار على سليمان، وفر من وجهه إلى مصر، فبعد وفاته استدعى ياربعام ذووه، فأسرع إلى نابلس وحمل الشعب على أن يستدعوا رحبعام إلى هناك ليملكوه باحتفاء، فأرسل خصومه إليه وفدا رئيسه ياربعام يشكون إليه الأحمال، التي أثقلهم أبوه بها، ويلتمسون تخفيفها، فشاور رحبعام الفتيان الذين نشئوا معه، وأجاب الوفد أنه سيزيد على نير أبيه، فانفضوا من أمامه مغضبين، وبدلا من أن يرسل إليهم من يحبهم ليسترضيهم أرسل إليهم أدورام، وكان يثقل عليهم فرجموه بالحجارة فمات، وأسرع الملك بالعود إلى أورشليم وتمرد عليه الأسباط العشرة، وأقاموا ياربعام بن ناباط ملكا عليهم، ولم يبق لرحبعام إلا سبطه بنو يهوذا وسبط بنيامين، فانشقت مملكة بني إسرائيل إلى مملكتين: مملكة يهوذا وبنيامين وعاصمتها أورشليم، ومملكة إسرائيل كما سموها وعاصمتها نابلس. (17) في ملوك يهوذا (1)
رحبعام بن سليمان: أضيف إلى مملكته اللاويون؛ لأنهم لم يشئوا أن يكهنوا على المذابح التي أقامها ياربعام للأوثان، وحصن بيت لحم والخليل وغيرها، وحمل عليه شيشاق ملك مصر فأخذ في طريقه المدن المحصنة، وزحف إلى أورشليم، فانتهب ما في خزائن بيت الرب وخزائن دار الملك ومجان الذهب التي عملها سليمان، لكنه لم يقرض المملكة بل أقر رحبعام على عرشه، وتوفي رحبعام بعد أن ملك 17 سنة. (2)
أبيا: خلف أباه رحبعام في الملك في أورشليم وانتشبت الحرب بينه وبين ياربعام ملك إسرائيل، فحشد أبيا عسكرا كثيفا، وحشد ياربعام أكثر منه فكان النصر لأبيا وقتل في عسكر ياربعام أكثر من نصفه، وأخذ بعض المدن من مملكته فعز بنو يهوذا وذل مملكة إسرائيل، إلا أن أبيا لم يملك إلا ثلاث سنين ومات ودفن في مدينة داود. (3)
وخلفه ابنه آسا فأحسن المسعى، ونفى جميع أقذار الأصنام وحصن مدنا كثيرة في مملكته، وبحكمته رتعت رعيته في رياض الأمن والسلم، وخرج عليه زارح الكوشي بألف ألف مقاتل وثلاثمائة مركبة، فنصر الرب آسا على الكوشيين، فشتت شملهم وما انفك يطاردهم إلى جنوبي غزة، وفي زارح، هذه أقوال أظهرها قولان: الأول للانرمان: أنه أزرح ملك الحبشة الذي اجتاح مصر، وعمد إلى أن يجتاح فلسطين، والثاني لشمبوليون وسميت: أن زارح هو أوزركن ملك مصر من الدولة الثانية والعشرين، وخرج بعشا ملك إسرائيل على آسا، فأخذ آسا ذهبا وفضة من خزائن بيت الرب ودار الملك، وأرسل ذلك إلى ابن هدد ملك دمشق ورغب إليه أن يخرج على أملاك بعشا؛ لينكف عن أملاكه فلبى ابن هدد دعوته، وأرسل جيشا فاستحوذ على بعض أملاك بعشا، فاضطر أن يرجع للذب عن ملكه، وأرسل الرب حناني الرآي مؤنبا آسا لاستعانته بملك دمشق على بعشا، فغضب آسا على الرآي وسجنه، واعتل آسا ومات في السنة الحادية والأربعين لملكه، ودفن في مقبرة حفرها لنفسه. (4)
وخلفه ابنه يوشافاط وعمره خمس وثلاثون سنة، وسلك في طرق داود جده وأرسل معلمين وتسعة من اللاويين وكاهنين يعلمون الشعب، ويحضونه على العمل بسنن الله ومعهم توراة الرب يقرءون بها ويفسرونها للشعب، وقدم له التقادم والهدايا لا رعيته فقط بل الفلسطينيون والعرب أيضا، ولم يعب يوشافاط إلا بمصاهرته أخاب ملك إسرائيل؛ لأنه اتخذ عثليا بنته زوجة لابنه يورام، وكان غرض هذا الملك الصالح من ذلك أن يرد أخاب إلى طريق الرب، فكان عكس ما آمل لما تراه من شر عثليا، وخرج الموآبيون والعمونيون والأدوميون على يوشافاط في آخر سني ملكه، فنصره الرب، وقضى أجل يوشافاط بعد أن ملك خمسا وعشرين سنة ودفن في مدينة داود. (5)
وخلفه ابنه يورام وملك في يهوذا سنة في أيام أبيه وسبع سنين بعده، وكان متزوجا بعثليا بنت أخاب كما مر فسار في طريق بيت أخاب وصنع السوء، ومن الأحداث الهامة في أيامه خروج الأدوميين من سيادة ملك يهوذا، بعد أن كانوا من أيام داود يؤدونهم الجزية والخراج، ومن فظائع هذا الملك أنه قتل إخوته الستة عن آخرهم منقادا إلى ذلك لمشورة امرأته عثليا، وقد أثار الرب عليه الفلسطينيين والعرب، وزحفوا إلى مملكة يهوذا فافتتحوا مدنها وانتهبوا كل ما وجد من المال في بيت المال، ولكنهم لم يثبتوا في اليهودية، بل قفلوا إلى بلادهم، وضرب الرب يورام بداء عضال في أمعائه، وقضى سنتين في آلامه ومات غير مأسوف عليه ولم يدفن في مقبرة الملوك. (6)
وخلفه ابنه أحزيا وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وملك سنة واحدة وكانت أمه عثليا تدبره، فاستسار في طريق بيت أخاب وكانت من سنة ملكه الحرب بين حزائيل ملك دمشق، وبين يورام خاله، وخرج أحزيا معه للقتال ولما انكسرا وأمر الرب بمسح ياهو ملكا على إسرائيل خرج أحزيا للقائه، ولما رأى ياهو يقتل يورام خاله فر أحزيا فأمر ياهو أن يرموه، فجرح واستمر هاربا إلى مجدو (اللجون)، فمات هناك وحملوه فدفنوه في مدينة داود. (7)
عثليا: لما رأت أن ابنها قد مات أهلكت جميع النسل الملكي؛ لتستبد هي في الملك، لكن أخذت يوشباع أخت أحزيا يواش ابن أخيها هو ومرضعا له وأخفته في مخدع، حيث كان ينام الكهنة في جانب الهيكل، وملكت عثليا ست سنين لا تدري أن يواش حي، ولما كانت السنة السابعة استدعى يواداع رئيس الأحبار رؤساء الجنود، وأراهم يواش ابن الملك، واستحلفهم أن يكتموا السر، وأرسل بعض اللاويين يؤهبون الشعب لتمليكه، ويضربون لهم موعدا للاجتماع في أورشليم، ولما اجتمعوا أتى بيواش ومسحه، ووضع التاج على رأسه فصفق كل الشعب، وهتفوا ليحيى الملك، وسمعت عثليا فمزقت ثيابها غيظا وكمدا، فأمر رئيس الأحبار أن يخرجوها خارج الصفوف، فأخرجوها وقتلوها ودخل الشعب بيت البعل الذي في أورشليم فهدموه، وكان يواداع مدبرا للملك إلى أن شب يواش. (8)
ملك يواش وعمره سبع سنين، واستمر على منصة الملك أربعين سنة، وأحسن المسعى كل الأيام التي كان فيها رئيس الأحبار يرشده، وتبدلت حاله بعد موته؛ لأنه كان واهنا ضعيف العزيمة، وأقبل عليه بعض الأشرار يغرونه بعبادة الأصنام فمالأهم، ولم تمض سنة إلا وخرج حزائيل ملك دمشق على مملكة يهوذا، فقتل وضرب وهم أن يفتتح أورشليم، فسولت ليواش جبانته أن يأخذ كل نفيس في خزائن الهيكل ودار الملك، وأن يرسله جزية إلى حزائيل فانصرف عن أورشليم، وأرسل في السنة التالية عسكرا لأخذ الجزية فجيش يواش عسكرا ينيف أضعافا على عسكر حزائيل، فانكسر جيش ملك يهوذا أمام أولئك القلائل الذين دخلوا أورشليم، وقتلوا بعض أكابر يهوذا وأخذوه غنائم كبيرة، فلم يحتمل عبيد يواش هذا وتحالفوا عليه وقتلوه، ولم يدفنوه في مقابر الملوك. (9)
أمصيا بن يواش: ملك في أورشليم وعمره خمس وعشرون سنة، واستمر على منصة الملك تسعا وعشرين سنة، وقتل قاتلي أبيه وعفا عن أولادهم، وقد أزمع أن يخضع الأدوميين لسلطته بعد أن كانوا نبذوا سلطة يهوذا في عهد يورام، فحشد جيشا إلى بلاد أدوم، فقتل أمصيا منهم عشرة آلاف رجل وأسر عشرة آلاف، ثم طرحهم من أعلى صخرة فتحطموا وعاد ظافرا، وأحضر معه تماثيل آلهة الأدوميين وسجد لها فسخط الرب عليه وأرسل إليه نبيا يؤنبه فازدجر النبي وهدده، وأرسل إلى يواش ملك إسرائيل يحرشه للقتال، فصعد عليه ملك إسرائيل فكانت بينهما حرب أفضت إلى مذلة أمصيا وشعبه، وافتتاح يواش أورشليم ونهبها، وأمسى أمصيا خاملا، وتحالف عليه بعض رجاله فهرب إلى لاكيش (أم القيس الآن)، فأرسل المتحالفون رجالا في أثره فقتلوه، وحمل إلى أورشليم فدفن مع آبائه في مدينة داود. (10)
عزريا بن أمصيا: أخذه الشعب بعد مقتل أبيه، وملكوه وعمره ست عشرة سنة، واستمر على منصة الملك اثنتين وخمسين سنة، وحافظ عزريا أولا على سنة الرب، لكنه لم يزل المشارف وحارب الفلسطينيين واستظهر عليهم، وهدم سورجت (ذكرين) وأسوار يبنة وأشدود، ونصره الرب على العرب وسكان معون (معين)، وحصن أورشليم وبنى فيها أبراجا، وعظمت قوته وادعى أن يعمل عمل الكهنة بتقدمة البخور في الهيكل، فمنعه رئيس الكهنة وثمانون كاهنا، واضطر أن يخرج من الهيكل؛ لأن الرب ضربه بالبرص فاعتزل في بيته، وكان ابنه يوثام يدبر الملك إلى أن مات، ودفنوه في حقل مقبرة الملوك لا في مدافنهم. (11)
وخلفه ابنه يوثام ودام ملكه ست عشرة سنة، وأحسن المسعى وأصلح شيئا في بيت الرب ومات ودفن في مدينة داود. (12)
وخلفه ابنه أحاز وعمره عشرون سنة وملك ست عشرة سنة، واتفق على محاربته رصين ملك آرام وفاقح ملك إسرائيل، فجيشا وحصرا أورشليم فلم يقدرا أن يفتحاها ولا أن يقهرا أحاز، ولكن نكلا بشعب يهوذا، وأخذ رصين جما غفيرا أسرى إلى دمشق، وقتل فاقح في يوم واحد مائة وعشرين ألفا من بني يهوذا، وسبى مائتي ألف من النساء والبنين والبنات، ثم أطلق الأسرى لتهديد عوبيد النبي له، فأرسل أحاز إلى تجلت فلاصر ملك آشور يتذلل له ويستنجده، وأخذ ما وجد من الذهب والفضة في بيت الرب ودار الملك، وأرسلها إليه هدية، ولم يصغ لإرشاد إشعيا النبي بالامتناع عن استمداد ملك آشور الذي لبى دعوة أحاز وغشت عساكره سورية، وأخذ بعض مدن فلسطين وصعد إلى دمشق، فأخذها وسبى أهلها وقتل رصين ملكها، هذا ما جاء في الكتاب، وجاءت آثار تجلت فلاصر مصداقا له بأكثر تفصيل، فكان استنجاد أحاز بملك آشور وبالا عليه؛ لأنه اضطر أن يسلم إليه بلاده وأن يخضع لسلطته، ويؤدي إليه الجزية، وينصب مذبحا في هيكل الرب على هيئة مذابح الآراميين، وقدم عليه ضحايا لآلهتهم، فانتقم الله منه بتوفيه، ودفن في مدينة داود لا في مدفن الملوك. (13)
وخلفه ابنه حزقيا وكان عمره خمسا وعشرين سنة، وملك تسعا وعشرين سنة، وفي السادسة لملكه أخذت السامرة وجلا ملك آشور بني إسرائيل إلى بلاده، وانقرضت مملكة إسرائيل، وكان حزقيا مستقيما متشبها بداود جده، وكان أول مهامه وأجلها العناية بأمر الدين، ففتح الهيكل الذي كان مقفلا في أيام ابنه وحطم الأنصاب، وكسر تماثيل الآلهة الفونيقية، بل اتصل إلى أن سحق الحية النحاسية التي كان موسى قد أقامها في البرية؛ لأن بني إسرائيل كانوا يعبدونها عبادة وثنية خلافا لأمر الرب، واحتفى بعيد أول فصح وقع في أيامه، فجمع بني إسرائيل إلى أورشليم فعيدوا للرب سبعة أيام بحسب سنته، ومرض حزقيا فوافاه إشعيا النبي ينذره بالموت، فصلى إلى الرب وبكى، فأوحى الرب إلى إشعيا أن يعود إليه ويبشره بزيادة خمس عشرة سنة على عمره، وبإنقاذه أورشليم من شر ملك آشور، وحقق له ذلك برجوع الظل إلى الوراء عشر درجات، وجاء في سفر الملوك الرابع (فصل 1 عدد 7) أن حزقيا «تمرد على ملك آشور ولم يتعبد له»، فاحتدم سنحريب غيظا على حزقيا، وزحف بجيوشه إلى سورية، وكانت غزوته هذه سنة 701، وحاصر مدن يهوذا المحصنة وأخذها، فأرسل حزقيا يقول له: «قد خطئت فانصرف عني ومهما تضرب علي أنقده إليك.» فضرب عليه ثلاثمائة قنطار فضة وثلاثين قنطار ذهب، فأرسلها حزقيا إليه فلم يرض، بل طلب أن يدخل إلى أورشليم فأبى حزقيا الإجابة، وأرسل سنحريب يتهدده فخشع حزقيا إلى الرب وشجعه إشعيا النبي، فأرسل الرب في تلك الليلة ملاكه فقتل من آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا، فاضطر سنحريب أن يقفل راجعا إلى نينوى، فقتله ابناه وجاءت آثار سنحريب مصداقا لما قاله الكتاب في هذا الشأن.
ومن آثار الملك حزقيا إجراؤه الماء إلى أورشليم في قناة نقرها في الصخر عند حملة سنحريب على أورشليم؛ ليمنع الماء عن الآشوريين ولا يحتاجه أهل أورشليم، وقد كشفت هذه القناة سنة 1880 في بركة شيلوحا، ووجدت خطوط عبرانية بالحروف الفونيقية تثبت ذلك، ثم توفي حزقيا وعظم شعبه الاحتفاء بدفنه في مقبرة ملوك يهوذا سنة 696ق.م. (14)
وخلفه ابنه منسى وعمره اثنتا عشرة سنة، وملك خمسا وخمسين سنة في أورشليم، وقد صنع الشر وعبد أصنام الكنعانيين وغيرهم، وازدرى تهديد إشعيا وغيره من الأنبياء، بل اتفق تقليد اليهود وأقوال كثيرين من الآباء والعلماء على أن منسى أمات إشعيا النبي منشورا بمنشار من خشب، فجلب الرب عليه قواد جيش ملك آشور فأخذوه في الأصداف وأوثقوه بسلسلتين إلى بابل، ولما كان في الضيق التمس وجه الرب، فسمع لتضرعه وردوه إلى ملكه (أخبار الأيام 2 و23)، ويظهر أن منسى بعد عوده إلى ملكه أحسن مسعاه، وأزال التماثيل التي كان قد نصبها لآلهة الأمم، وقدم ذبائح سلامة للرب، وكانت في مدة ملك منسى حملات آسر حدون وآشور نيبال على سورية، وقد جاء ذكره في صحائف آسر حدون وأشار ابنه آشور نيبال إليه، وكان في أيامه قتل يهوديت أليفانا قائد جيش بختنصر، وتوفي منسى ودفن في بستان بيته. (15)
وخلفه ابنه آمون سنة 641، وعمره اثنتان وعشرون سنة وملك سنتين فقط، وكان على شاكلة أبيه قبل توبته فإنه عبد الأصنام، فتحالف عليه عبيده وقتلوه في بيته، ودفن بمدفن أبيه وثار الشعب على قاتليه وفتكوا بهم. (16)
وأقاموا مكانه ابنه يوشيا وعمره ثماني سنين، فملك إحدى وثلاثين سنة وكان ملكا صالحا فسار على طرق داود، ولم يعدل عنها يمنة ولا يسرة، فقد أخذ منذ شب يطهر أورشليم وسائر مملكته من المنحوتات والمسبوكات، وينقض مذابح الأوثان وتماثيلها، وعني بترميم ما تهدم في بيت الرب وعهد بذلك إلى حلقيا عظيم الكهنة، وبينما كان يبحث عن الفضة في بيت الرب وجد سفر توراة الرب بخط موسى (ملوك 3 ف22 وأخبار الأيام 2 ف34)، وقرائن الحال تثبت أن ما وجد حينئذ بخط موسى هو أربعة فصول من الثامن والعشرين إلى الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع؛ لأن هذه الفصول الأربعة التي أمر موسى أن توضع في جانب تابوت العهد ... وهي تشتمل على تهديد الله، ولعنه كل من يخالف سنته وبركاته ووعوده لكل من يعمل بها؛ ولذلك عند تلاوتها على مسمع الملك تأثر كثيرا؛ لأنه كان يجهل التوراة، وكانت نسخ هذه الأسفار ندرت لا انقطعت عند بني إسرائيل، كما زعم فولتير وغيره من الجاحدين، وبعد تلاوة تلك الفصول عاهد الملك وشعبه الرب أن لا يخلفوا وصاياه بل يحفظوا سنته، وطهر يوشيا السامرة أيضا من نجاسة الأصنام، فمضى إلى بيت إيل ونقض المذبح والمعبد اللذين أقامهما ياربعام بن ناباط، وأحرق كل ما هناك وأزال جميع المذابح التي كانت في السامرة وذبح كهنتها عليها، ثم عاد إلى أورشليم وأمر جميع بني إسرائيل بعمل فصح فلم يكن مثله فصحا في أيام القضاة ولا في أيام الملوك.
وصعد فرعون نكو ملك مصر على ملك آشور، فالتقاه يوشيا يريد قطع الطريق عليه قياما بفرض محالفته لملك آشور، وجاء لقتاله في وادي مجدو (اللجون)، فأصابته سهوم أثخنته فحمله عبيده إلى أورشليم، فمات ودفن في مقابر آبائه، ونكو ملك مصر هو نكو الثاني ملك في مصر من سنة 611 إلى سنة 605. (17)
يواحاز بن يوشيا ملكه الشعب بعد موت أبيه، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وصنع الشر لكنه لم يملك إلا ثلاثة أشهر، فالظاهر أن نكو ملك مصر غضب لتمليكه، وهو الأصغر وإيثاره على ألياقيم أخيه وهو الأكبر، وكان ناصحا لأبيه أن لا يعترض ملك مصر فأرسل فريقا من جنوده ، فكتف يواحاز وأخذه إليه وهو في ربلة، ثم أخذه معه أسيرا إلى مصر حيث مات. (18)
وأقام نكو ألياقيم أخاه ملكا في أورشليم، وغير اسمه مسميا إياه يوياقيم، وكان ذلك لسنة 607ق.م، وكان عمر يوياقيم خمسا وعشرين سنة وملك في أورشليم إحدى عشرة سنة وصنع الشر، وكانت باكورة أعماله أنه ضرب ضريبة على الشعب؛ ليفي غرامة فرضها ملك مصر عليهم وأثقل الشعب بضرائب أخرى، وأدخل عليهم نظام التسخير؛ ليقيم أبنية يتفاخر بها واضطهد الأنبياء، ولم ينج إرميا من اضطهاده فإنه أخذ نبواته وألقاها بيده في كانون النار، وعزم أن يقتله وباروك تلميذه ففرا واختبآ وعاود النبي كتابة نبواته، ولما أتى بختنصر ملك بابل إلى سورية المرة الثانية من حملاته على المصريين فتح أورشليم، وأخذ بعض آنية الهيكل وأزمع أن يأخذ الملك يوياقيم أسيرا إلى بابل، فبدا له أن يبقيه في أورشليم خاضعا له، لكنه جلا إلى بابل شبان شرفاء مملكته، وكان منهم دانيال وحننيا وميشائيل وعزريا، وكان ذلك سنة 602ق.م، ثم عاد يوياقيم يحاول التملص من الخضوع لبختنصر بإمداد ملك مصر، فهب إليه بختنصر سنة 599، ولم يبلغ إلى أورشليم إلا أدركت المنية يوياقيم وقال إرميا (فصل 22 عدد 18): «إنه مات غير مأسوف عليه ودفن مهانا.» (19)
يوخانيا: خلف أباه يوياقيم ولم يقو على الدفاع عن أورشليم، بل أرغم أن يسلم نفسه وأسرته وأمواله إلى ملك بابل، فكان ملكه ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وأخذه بختنصر أسيرا إلى بابل وجلا معه عشرة آلاف من رؤساء أورشليم وكبرائها، ونهب جميع كنوز بيت الرب وبيت الملك، وبقي يوخانيا مسجونا في بابل سبعا وثلاثين سنة إلى أن توفي بختنصر. (20)
أقام بختنصر متنيا عم يوياقيم ملكا مكانه وسماه صدقيا، وكان عمره حينئذ إحدى وعشرين سنة وملك إحدى عشرة سنة، وصنع الشر أمام الرب، ولما شغل بختنصر بمحاربة الماديين اغتنم صدقيا وملوك موآب وعمون وأدوم وصور فرصة انشغاله، وحاولوا العود إلى استقلالهم، فأصلح بختنصر شئونه مع الماديين، وهب للانتقام من ملوك سورية وغشيها بعساكره مرة أخرى سنة 590ق .م، وقسم جحافله قسمين، سير أحدهما إلى صور فحاصرها، وافتتحها كما مر في الكلام على الفونيقيين، وسير الثاني إلى أورشليم، ولما رأى صدقيا أن لا قدرة له على مصافتهم في خارج الأسوار دخل المدينة، فحاصرها البابليون شديد الحصار، وكان حفرع ملك مصر قد وعد ملوك سورية أن ينجدهم على بختنصر، فلم يمدهم بشيء يذكر، ودام الحصار على أورشليم ثمانية عشر شهرا وبرح الجوع بأهلها، فثغروا أحد الأسوار وهرب صدقيا ورجال الحرب إلى جهة الأردن، فتتبع الكلدان أثرهم وأدركوا صدقيا في صحراء أريحا، وقد أرفض الجمع عنه، فأخذوه وأولاده إلى ملك بابل في ربلة، فذبح بني صدقيا أمام عيني أبيهم وفقأ عينيه، ثم أوثقه بسلسلة من نحاس وأخذه إلى بابل، وجعله في بيت الحرس إلى مماته، وعاد نابوزردان أمير جيش بختنصر، فأحرق في أورشليم بيت الرب وبيت الملك وبيوت كبرائها، وهدم أسوارها، وانتهب كل آنية الهيكل ولم يتركوا من سكان مملكة يهوذا إلا كرامين وفلاحين، وجعل بختنصر اليهودية ولاية من ولاياته وولى رجلا اسمه جدليا عليها، فقتله بعضهم وخافوا من الكلدانيين، فارتحل جم غفير ممن لبثوا في اليهودية إلى مصر، وأخذوا إرميا النبي معهم مكرها، فأمسى السواد الأعظم من بني إسرائيل في بلاد الكلدان وجماعة في مصر، وبقي الأذلاء في فلسطين، وهكذا انقرضت مملكة يهوذا سنة 589 أو سنة 587، أو سنة 586 على ثلاث روايات، ومدة ملوكها على ما ذكرها الكتاب هي 260 سنة إلى انقراض مملكة إسرائيل و133 سنة إلى الجلاء البابلي، وإذا أضيفت إليها مدة ملك شاول 40 وملك داود 40، وملك سليمان 40 كان مجموع مدة الملوك في إسرائيل من شاول إلى صدقيا 514 سنة. (18) في ملوك بني إسرائيل (1)
ياربعام بن ناباط: هو الذي كان فاتنا على سليمان، ثم عني بشق الأسباط العشرة على سبطي يهوذا وبنيامين فملكوه عليهم كما مر، فجدد بناء شخيم (نابلس) وحصنها بأسوار وبنى فيها قصرا وخاف من ذهاب بني إسرائيل إلى أورشليم، فصنع عجلين من ذهب: وأقام أحدهما في بيت إيل (بيت إين الآن)، والثاني في دان (تل القاضي حذا بانياس)، وأقام كهنة من لفيف الشعب ... ولا يظن أن جميع بني إسرائيل عبدوا العجل حينئذ، بل استمر جم غفير يحج إلى أورشليم، وأنذر الرب ياربعام مرات بما تفضي إليه عبادته للأوثان فأصر على شره، وكان محالفا لملك مصر ويظن أنه هيجه على رحبعام ملك يهوذا، فحمل على أورشليم، ثم حارب ياربعام أبيا بن رحبعام فانتصر أبيا عليه، وبدد شمله كما مر ثم مات ياربعام بعد أن ملك 22 سنة. (2)
وخلف ياربعام ابنه ناداب، ولم يبق في الملك إلا سنتين، وبينما كان محاصرا مدينة جيتون (جيانا الآن في قرب الناصرة) قتله بعشا بن أحيا غيلة. (3)
بعشا بن أحيا: من بني يساكر ملك مكان تاداب بعد أن قتله لم يترك لياربعام ذا نسمة إلا أهلكه، وخرج على آسا ملك يهوذا فحمل آسا بن هدد ملك دمشق على الخروج على بعشا، فأخذ ابن هدد عدة مدن من شمالي مملكة إسرائيل، وأذل بعشا كما مر، ومات بعشا بعد أن ملك في إسرائيل 23 سنة ودفن في ترصة. (4)
أيلة بن بعشا: خلف أباه ولم يدم ملكه في إسرائيل إلا سنتين، فحالف عليه عبده زمري فقتله. (5)
زمري: ملك مكان أيلة بن بعشا بعد أن قتله وما عتم أن قرض ذرية بعشا، ولم يدع منهم ذكرا، وألحق بهم أقرباءهم وأصدقاءهم لكنه لم يملك إلا سبعة أيام؛ لأن الشعب إذ بلغهم ما عمله أقاموا عمري الذي كان قائد الجيش المحاصر جيتون المار ذكرها ملكا عليهم. (6)
عمري: أقامه من كانوا يحاصرون الفلسطينيين بجيتون ملكا، ومضوا معه فحاصروا زمري في ترصة ولما فتحوها دخل زمري قصر الملك فيها فحرقه واحترق به، واستبد عمري في الملك بعد سنتين من موت زمري، واستمر على منصته اثنتي عشرة سنة وابتاع جبلا من رجل اسمه شامر أو سامر، وبنى عليه مدينة سماها السامرة، فصارت عاصمة ملك إسرائيل إلى حين جلاء آشور، وسار عمري في طريق ياربعام، وإذ دلف إلى آسا ملك يهوذا فلم تكن بينهما حرب، وحالف إيتوبعل ملك صور ووقعا على عهدة بينهما ختمت بزواج أخاب بن عمري بإيزابل بنة إيتوبعل، ثم مات عمري ودفن في السامرة. (7)
وخلفه ابنه أخاب وصنع الشر في عيني الرب أكثر من جميع من تقدموه من ملوك بني إسرائيل، فعثا وأفسد مغريا بعبادة عجول الذهب، بل بعبادة بعل وعشتروت معبودي الفونيقيين، وكانت إيزابل امرأته تزين له هذه العبادة، وكانت متوقحة تحكمت به وقادته حيث شاءت، فكانت علة كفره ومصدر بلاياه، وجعلته يقيم لبعل لا أقل من أربعمائة وخمسين كاهنا، ولعشتروت أربعمائة كاهن تنفق عليهم هذه الملكة الجائرة وتضطهد كهنة الرب وأنبياءه، فأقام الرب لمناصبتهم جميعا إيليا النبي، فكان يؤنب أخاب وينذره ويفعل المعجزات إثباتا لإرسال الرب له وانتقاما من أعدائه، ومن آياته انحباس المطر ثلاث سنين، وذكر مينندر كاتب تاريخ صور انحباس المطر في أيام إيتوبعل مدات طويلة مصداقا للكتاب، وتراءى إيليا لأخاب مهددا منذرا بسوء المصير، وطلب من أخاب أن يجمع إليه كل إسرائيل إلى جبل الكرمل فاجتمعوا، فقال لهم النبي: إلى متى تعرجون إلى الجانبين؟ إن كان الرب هو الإله فاتبعوه، وإن كان البعل إياه فإياه اعبدوا ... فهؤلاء أنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلا فليؤت لنا بثورين، فليختاروا لهم ثورا ويجعلوه على الحطب ويضرموا نارا، وأنا أهيئ الثور الآخر ولا أضع نارا، وتدعون أنتم باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب والذي يجيب بنار هو الإله، فاستحسن جميع الشعب كلامه واختار أنبياء البعل ثورا وأعدوه، ودعوا باسم البعل من الغداة إلى الظهر فلم يكن مجيب، وكان إيليا يسخر منهم قائلا: «اصرخوا بأصوات أعلى عله في سفر أو نائم فلم تكن حياة لمن ينادون.» وجعل إيليا مذبحا أحاطه بقناة وأعد عليه الثور، وقال: «املئوا أربع جرار ماء، وصبوا على المذبح وثنوا وثلثوا.» ففعلوا حتى جرى الماء حول المذبح وامتلئت منه القناة، ونادى إيليا باسم الرب فهبطت النار، وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست الماء الذي في القناة، فلما رأى الشعب ذلك خروا على وجوههم، وقالوا: «الرب هو الإله.» فقال إيليا: «اقبضوا على أنبياء البعل.» فقبضوا عليهم جميعا، فأنزلهم إلى نهر قيشون (الذي يصب في شمالي حيفا) وذبحهم بأمر الرب، ثم قال لأخاب: «اصعد فكل واشرب فهو ذا دوي المطر.» فطلعت سحابة صغيرة من البحر وهبت الرياح وجاء مطر عظيم، وقص أخاب على إيزابل كل ما صنعه إيليا فاحتدمت غيظا، وأقسمت أن تلحق إيليا بمن قتلهم فاختبأ أربعين يوما صائما، ثم أمره الرب أن يمسح حزائيل ملكا على آرام وياهو ملكا على إسرائيل وأليشاع نبيا مكانه؛ لينتقم هؤلاء للرب ممن تركوه وعبدوا الأوثان؛ وليكون من أفلت من سيف حزائيل يقتله ياهو، ومن أفلت من كليهما يقتله أليشاع، وهكذا كان كما ترى.
وخرج ابن هدد الثاني ملك دمشق على أخاب، ودنوا من السامرة وراعت أخاب كثرة جيوشه، وأمر ابن هدد بإقامة الحصار على السامرة فلم يفتتحها، وعاد في السنة التالية لمحاربة أخاب، وحلت عساكره في أفيق (وهي المسماة اليوم الفيك أو الفيق في شمالي بحيرة طبرية)، وخرج أخاب للقائه فاستظهر بنو إسرائيل على الآراميين، وقتلوا منهم مائة ألف رجل وفر ابن هدد مذعورا، وخرج إلى أخاب طالبا الأمان فرحب به، وأصعده على مركبته وقطع له عهدا وأطلقه، فالتقاه أحد الأنبياء متنكرا وقال: «كذا قال الرب بما أنك أطلقت رجلا قد أبسلته نفسك تكون بدل نفسه وشعبك بدل شعبه.» فعرف أخاب أنه نبي وعاد إلى الناصرة واجما قلقا، وقد أبانت لنا الآثار الآشورية وجها لتساهل أخاب لابن هدد، وهو خوف كليهما من ملك آشور ومحالفتهما عليه، فإن سلمناصر الثاني غزا سورية ست مرات، وكتب وقائعه على مسلة من صخر أسود في مائة وتسعين سطرا، يتبين منها أن أخاب كان حليفا لابن هدد ملك دمشق في حربه للآشوريين، وذلك مثبت للمعاهدة التي ذكر الكتاب إبرامها، ويتبين منها أيضا أن سلمناصر في السنة السادسة لملكه غزا سورية، وأذل ملوكها الذين كانوا متحالفين عليه، وعدد جنود هؤلاء الملوك الذين يقاومونه فكان في جملتها 1200 مركبة و1200 فارس و20000 رجل من قبل ابن هدد ملك دمشق و2000 مركبة و10000 رجل من قبل أخاب ملك إسرائيل.
ومن شرور أخاب اختلاسه كرم نابوت الإزراعيلي وقتله مرجوما بدسائس إيزابل، فظهر له إيليا النبي، وهدده بأن الكلاب تلحس دمه حيث لحست دم نابوت وهدد إيزابل بالقتل، وأكل الكلاب لحمها، ولما كانت العهدة التي وقع عليها أخاب وملك دمشق قد انحلت بحرب سلمناصر المشار إليها ولم يقم ابن هدد بما شرط على نفسه من أن يتخلى لأخاب عن بعض المدن منها راموت جلعاد (السلط)، فأراد أخاب أن يستحوذ على هذه المدن، وكان يوشافاط ملك يهوذا عنده، فذهبا معا لأخذ السلط وباقي المدن من ملك دمشق، فالتقاهما هذا الملك واستعرت نار الحرب وتنكر أخاب، وتقدم إلى ساحة الحرب فأصابه سهم بين الدرع والورك، فقال لمدير مركبته: «أخرجني من الجيش.» ... فأخرجه واشتد القتال وأخاب واقف بمركبته، ودمه يسيل ومات في المساء وأخذه إلى السامرة وغسلت مركبته، فلحست الكلاب دمه كما تهدده إيليا النبي. (8)
أحزيا بن أخاب: خلف أباه وكان على شاكلته فقد عبد البعل، وقد مرض فأرسل رسلا يسأل بعلزبوب إله عفرون هل يبرأ؟ فالتقى إيليا رسله وقال لهم: «ألعله ليس إله في إسرائيل حتى تسألوا إله عفرون؛ ولذلك أخبروا ملككم أنه موتا يموت.» فعاد الرسل وأخبروه بما قيل فأرسل إلى إيليا قائد خمسين، فأهبط الله نارا من السماء أهلكته مع خمسينه بطلب إيليا، فأرسل الملك قائد خمسين آخر فأنزل إيليا به ما نزل بالقائد الأول، فأرسل الملك قائدا آخر فتذلل لإيليا فسار معه إلى الملك، وقال له ما قاله لرسله ... فمات أحزيا بعد أن ملك سنتين بعضها في أيام أبيه وبعضها بعد موته، ولم يكن له ابن. (9)
يورام بن أخاب: ملك بعد موت أخيه أحزيا وأزال تمثال البعل الذي صنعه أبوه، لكنه أعاد عبادة العجل التي أدخلها ياربعام بن ناباط، فأثار الرب عليه ميشاع ملك موآب، وأنكر عليه أداء الجزية التي كان هو وأسلافه يقدمونها، واستعان يورام بيوشافاط ملك يهوذا، فأعانه وذهبا معا إلى الحرب، فنصرهما الرب فهزموا الموآبيين وقتلوا كثيرين منهم وهدموا مذبحهم، وقطعوا أشجارهم وحاصروا الكرك قصبة ملكهم، ولما يئس ملك موآب اعتقد أن كاموش معبودهم ساخط عليهم، فأصعد بكره محرقة له على أسوار المدينة، فخنق بنو إسرائيل من ذلك حنقا شديدا وانصرفوا عن المدينة، وبعد هذه الحرب انحاز الأدوميون إلى ميشاع ملك الموآبيين، وخرجوا على يوشافاط ملك يهوذا فدمروا مدنا في مملكته انتقاما منه؛ لأنه خرج مع ملك إسرائيل على الموآبيين، وفي سنة 1869 كشف كلرمون كانو الإفرنسي عن صفيحة ميشاع الشهيرة، وهي الآن في متحف اللوفر، وما دون عليها يثبت ما جاء في الكتاب عن هذه الحروب إثباتا علميا قاطعا، وترى ترجتمها في تاريخنا المطول.
وحاصر ابن هدد الثاني يورام ملك إسرائيل بالسامرة، وضيق عليه فكانت مجاعة عظيمة حتى أكلت بعض النساء أولادهن، فمزق يورام ثيابه وجعل على بدنه مسحا، وأراد قتل أليشاع النبي؛ لتيقنه أنه كان قادرا على إزالة هذا الضيق بصلاته ولم يزله، وأرسل رجلا لقتله فعلم أليشاع بذلك وأخبر به الشيوخ الجالسين معه، وقال: «إذا دخل هذا الرجل فأغلقوا الباب واضغطوه فيه.» وأنبأهم أنه في مثل الساعة يباع مكيال السميذ بمثقال ومكيال الشعير كذلك، وأسمع الرب الآراميين أصوات مراكب وخيل وعسكر جرار، فتوهموا أن ملك إسرائيل استأجر عليهم ملوك الحثيين والمصريين، فهربوا مرتاعين وتركوا كل ما يملكون ثمة، فخرج الشعب وانتهبوا كل ما كان في محلة الآراميين، فتمت نبوة أليشاع ومرض ابن هدد ربما لانخذال جيوشه، وأتى أليشاع دمشق وعرف ابن هدد بقدومه، فأرسل إليه مع وزيره حزائيل هدايا فاخرة؛ ليسأله هل يبرأ الملك؟ فقال له أليشاع: «لن يبرأ.» وأعلم حزائيل أنه سيخلفه وينكل ببني إسرائيل، وعند عوده أخذ دثارا من مخمل وغمسه بالماء، وبسطه على وجه سيده فمات، وخلفه حزائيل وعاد إلى الحرب مع يورام، فجرح يورام في هذه الحرب واضطر أن يرجع إلى قصره في يزرعيل، وبقي ياهو رئيس الجيش، فأرسل أليشاع أحد تلاميذه فمسح ياهو ملكا على إسرائيل، وسار إلى السامرة فالتقاه يورام عند حقل نابوت اليزرعيلي، فرماه ياهو بسهم أصابه بين ذراعيه ونفذ من قلبه، فقال ياهو لأحد أعوانه: خذه واطرحه في حقل نابوت، فإن الرب جعل هذا الحمل عليه وقد ملك يورام اثنتي عشرة سنة. (10)
ياهو: بعد أن قتل يورام أتى إلى يزرعيل، وأمر بطرح إيزابل من طاق قصرها وداستها الخيل، وتركت مدة بلا دفن فأكلت الكلاب لحمها كما أنذر إيليا، ثم أمر أهل السامرة أن يقتلوا جميع أبناء أخاب، وكانوا سبعين ابنا فقتلوهم على آخرهم وأرسلوا إليه رءوسهم، ثم قتل هو جميع الباقين من بيت أخاب وعظمائه ومحازيبه وكهنته إتماما لأمر الرب؛ وجزاء لإدخالهم عبادة البعل في إسرائيل، وجمع في هيكل بعل الذي أنشأه أخاب بالسامرة جميع عباده فضربهم جنوده بحد السيف، ولم يفلت منهم أحد، وكسروا تمثال بعل وهدموا هيكله وجعلوه مرحاضا، على أن ياهو ترك عجلي الذهب اللذين أقامهما ياربعام بن ناباط، فعاقبه الله على ذلك بإثارة حزائيل ملك دمشق الحرب عليه، وجاء في الكتاب (ملوك 4 ف10): «وضربهم حزائيل في جميع تخوم إسرائيل.» وأنبأتنا الآثار الآشورية أن ياهو لجأ إلى سلمناصر؛ ليمده على حزائيل ويظهر من آثار هذا الملك أنه حمل على حزائيل، وحاربه في الجبل الشرقي (أنتيلبنان) وبدد جيوشه بعد أن قتل منها ستة عشر ألفا، وحاصر دمشق وقطع أشجارها، وسار إلى حوران ودمر مدنها وأخذ الجزية من صور وصيدا وياهو ملك إسرائيل، وعلى مسلة نمرود المحفوظة في المتحف البريطاني صورة تمثل سلمناصر تقدم له الجزيات، وقد كتب تحت إحداهما: جزية ياهو بن عمري، ومات ياهو بعد أن ملك في السامرة 28 سنة ودفن فيها. (11)
وخلفه ابنه يواحاز: وملك بالسامرة سبع عشرة سنة، وسلك في طرق ياربعام بن ناباط، فغضب الرب على بني إسرائيل، وأرسل عليهم حزائيل ملك دمشق وابنه المعروف بابن هدد الثالث، فأذلاهم حتى لم يبق لملكهم إلا عشرة آلاف راجل وخمسون فارسا وعشر مركبات، فتاب يواحاز إلى الرب فشفق على بني إسرائيل وأخرجهم من ضيق الآراميين إما بانتصار يواحاز عليهم في بعض المواقع، وإما بانتصار ابنه يواش عليهم كما سيأتي، وقد مات يواحاز بعد أن ملك بالسامرة سبع عشرة نسة. (12)
وخلفه ابنه يواش وملك ست عشرة سنة، وسار في طريق ياربعام بعبادة العجول، وكان على الآراميين في أيامه ابن حزائيل المعروف بابن هدد الثالث وكان واهن القوة جبانا، فانتصر يواش عليه واسترد أكثر المدن التي أخذت من مملكة إسرائيل، وكان أعظم انتصاراته في وقعة أفيق (هي أفيك الآن في الطريق بين دمشق وأورشليم)، وقد حارب يواش أمصيا ملك يهوذا فظفر به وأخذه أسيرا، ثم أطلقه ونهب أورشليم كما مر في الكلام على أمصيا، ثم مات يواش ودفن بالسامرة. (13)
وخلفه ابنه ياربعام الثاني، واستمر على منصة الملك إحدى وأربعين سنة، وسلك مسلك ياربعام، على أن الله قيض له نصرا شفقة على بني إسرائيل، فحارب ملك دمشق وظهر عليه حتى رد تخوم مملكة إسرائيل من مدخل حماة إلى البحر الميت، واسترد بلاد العمونيين والموآبيين وأنقذ بني إسرائيل الساكنين في شرقي الأردن من ولاية ملك دمشق، والذي ساعده على ذلك حملة بنيرار ملك آشور على سورية وإذلاله ملك دمشق، وأخذه الجزية من ياربعام ثم محالفته له ونجدة ياربعام له في حصار دمشق، كما يظهر من آثار الملك الآشوري المذكور، ومات ياربعام ودفن في السامرة. (14)
وخلفه ابنه زكريا ولم يدم ملكه إلا ستة أشهر، وحالف عليه رجل اسمه شلوم بن يابيش فقتله أمام الشعب. (15)
وملك شلوم مكان زكريا الذي قتله، لكنه لم يملك إلا شهرا واحدا وخرج عليه منحيم بن جادي فقتله في السامرة. (16)
وملك منحيم بعد مقتل شلوم، ولما عاد إلى ترصة (بلوزا شرقي السامرة) موطنه أوصد أهلها أبوابها بوجهه، فضربها وأجرى بها من القسوة ما ترتعد منه الفرائص، وأنبأنا الكتاب (ملوك 4 ف15): أن تجلت فلاصر المسمى فول أيضا حمل على سورية في أيام منحيم، فقدم له أموالا ضربها على إسرائيل، وآثار تجلت فلاصر مؤيدة مقال الكتاب، فقد عدد في الصحيفة الثالثة من الصحائف الباقية له أسماء الملوك الذين أخذ منهم الجزية ... فكان في جملتهم رصين ملك دمشق ومنحيم ملك السامرة وحيرام ملك صور، وملك منحيم عشر سنين وتوفي. (17)
وخلفه ابنه فقحيا وملك سنتين وحالف عليه فاقح بن رمليا أحد قادة جيشه، ودخل عليه بخمسين رجا فقتله. (18)
وملك فاقح بعد قتل فقحيا عشرين سنة صانعا السوء، واتفق مع رصين ملك دمشق على أخذ مملكة يهوذا وقسمتها بينهما، فلم يقدرا أن يفتحا أورشليم بل نكلا ببني يهوذا كما مر في الكلام على أحاز، وحالف هوشع على فاقح وقتله وفي آثار تجلت فلاصر أنه هو أمر بقتل فاقح. (19)
هوشع بن أيلة ملك بالسامرة تسع سنين بعد قتل فاقح، وجاء في الكتاب (ملوك 4 ف17): أنه صعد عليه سلمناصر ملك آشور، فكان عبدا له يؤدي إليه الجزية، ثم اتفق عليه مع سو ملك مصر فقبض عليه ملك آشور وأرسله مكتوفا إلى السجن، وجاء فحاصر السامرة ثلاث سنين وفتحها وجلا بني إسرائيل إلى آشور، ومن بقي منهم انحازوا إلى إخوانهم في مملكة يهوذا، واستمروا في موطنهم يؤدون الجزية صاغرين، وكان بذلك انقراض مملكة إسرائيل سنة 722ق.م واتفقت على هذا التاريخ آيات الكتاب والآثار الآشورية، ولكن لأهل العلم في تاريخ الآشوريين قولان في فاتح السامرة، فمن قائل: إن سلمناصر فتحها، ومن قائل: إنه مات قبل فتحها فأتم ذلك سرغون الذي أقامه الجنود خليفة له، ولسرغون خطوط ترجح أنه الفاتح، وجلا سرغون من بابل وكوت وغيرهما قوما أسكنهم مكان بني إسرائيل في السامرة، وكان لهم معبودات مختلفة اختلاف موطنهم، فأرسل الرب إليهم أسودا كانت تقتلهم، فأمر ملك آشور أن يرسل إليهم كاهن من كهنة بني إسرائيل؛ ليعلمهم عبادة إله البلاد؛ لئلا تقتلهم الأسد، فأقام هذا الكاهن ببيت إيل وسلمهم توراة موسى مكتوبة بالحروف الكلدانية، فتسلموها منه وهي باقية عندهم يتفاخرون بها، ولا تختلف عن باقي نسخ التوراة إلا في أمور يسيرة، ففي ذلك بينة قاطعة على صحة التوراة ... فكان هؤلاء يعتبرون إله بني إسرائيل ومعبوداتهم، فهؤلاء هم السامريون وقد بقي منهم الآن عدد يسير.
إذا جمعت سنو ملوك يهوذا من رحبعام بن سليمان إلى السنة السادسة من ملك حزقيا التي انقضت فيها مملكة إسرائيل كان مجموعها 260 سنة، وإذا جمعت سنو ملوك إسرائيل من ياربعام بن ناباط إلى موت هوشع الذي انقرضت هذه المملكة في أيامه كان مجموعها 242 سنة، فقال بعضهم في توفيق هذا الخلاف: إن النساخ زادوا الثماني عشرة سنة عند ذكر مدات ولاية ملوك يهوذا، فيلزم حطها، وقال آخرون: إن الملك انقطع في مملكة إسرائيل مرتين: إحداهما بين ملك ياربعام الثاني وملك زكريا مدة نحو إحدى عشرة سنة، والثانية بين ملك فاقح وملك هوشع مدة نحو تسع سنين. (19) جدول من نعرفهم من ملوك الآراميين في دمشق
جاء في الفصل الثامن من سفر الملوك الثاني: ضرب داود هدد عازر بن رحوب ملك صوبة، فانتصر عليه ونجده آراميو دمشق فظفر بهم، ففر دزون أحد قواد جيش هدد عازر وملك في دمشق، وصار فاتنا على سليمان في آخر مدة ملكه، وملك بعده ابنه طبريمون وكان في أيام ياربعام الأول ملك إسرائيل، وخلفه ابنه المسمى ابن هدد الأول، ومدة ملكه من سنة 950 إلى سنة 930 وكان في عهد بعشا ملك إسرائيل، وخلف ابن هدد ملك يعرف اسمه من سنة 930 إلى 910 في عهد عمري ملك إسرائيل.
وخلفه ابن هدد الثاني سنة 910 إلى سنة 886 في أيام أخاب.
حزائيل الأول سنة 886 إلى سنة 857 في أيام ياهو.
ابن هدد الثالث سنة 857 إلى سنة 844 في أيام يواحاز.
حزائيل الثاني سنة 844 إلى سنة 830 في أيام يواش ويوحاز. ابن هدد الرابع سنة 830 إلى سنة 800 في أيام يواش وياربعام 2 (يشك في وجودهما).
مريحا سنة 800 إلى سنة 770 في أيام ياربعام 2.
هدارا سنة 770 إلى سنة 750 في أيام منحيم.
رصين الثاني سنة 750 إلى سنة 732 في أيام فاقح. (20) في حالة بني إسرائيل في السبي
فتح سرغون السامرة وجلا السواد الأعظم من سكان مملكتها إلى بلاد الآشوريين، ثم فتح بختنصر ملك بابل أورشليم ونفى كبراءها، ومعظم رجال مملكتها إلى بلاد الكلدان وفر بعضهم إلى مصر، فكانت إقامة اليهود في هذه البلاد مع ما طبعوا عليه من التقلب والملل في أمر دينهم معثرة كبرى، فترك أكثرهم الرب إلههم ودانوا بما يدين أهل البلاد التي جاءوا إليها، وبقي جمهور منهم يتقي الرب ويتذكر أورشليم والهيكل على أن الله تداركهم بأعظم أنبيائه، فأقام حزقيال ودانيال بين ظهرانيهم يكثران من النصح والتوبيخ والتهديد لهم، وإرميا استمر في أورشليم ورافق من فر منهم إلى مصر، ولم يتقاعد عن أن يحذر المجلوين من ترك الرب والانخداع بمعبودات البابليين، وإشعيا كان قبل الجلاء، لكنه تنبأ عليه وحذر من معاثره، وأكثر الحث على التشبث بعروة إيمانهم الوثقى.
وامتاز دانيال في بلاد السبي بحكمته كما في فصله دعوى سوسنة، وتعبيره حلمي بختنصر ورؤياه بالتنصر ملك بابل، وتقدمه بدولة الفرس، وكشفه عن خديعة كهنة بال، وقتله التنين وإلقاء داريوس له في جب الأسد مكرها بمكيدة حاسديه، وإنقاذ الله له من ضرها، وممن امتازوا في بني السبي حننيا وميشائيل وعزريا، الذين طرحهم بختنصر في أتون محمى بسبعة أضعاف؛ لعدم سجودهم للتمثال الذي صنعه من ذهب، ونصبه في بقعة دورا بإقليم بابل، فنجاهم الله من لهيب النار بملك أرسله لنجاتهم، ومن السبي أيضا طوبيا البار من سبط نفتالي، وخبره وخبر ابنه مبسوطان في السفر المعروف باسمه.
وقد بقي بنو إسرائيل في هذا السبي سبعين سنة بدؤها سنة 598ق.م، إذ أسر بختنصر يوخانيا ملك بني إسرائيل وأخذه إلى بابل، وأخذ معه عشرة آلاف من رؤساء أورشليم وكبرائها إلى سنة 520، إذ تغلب ملوك الفرس على ملوك بابل، وقرضوا دولتهم وملك قورش الفارسي. (21) عود بني إسرائيل من السبي، وما كان لهم إلى أن ملك إسكندر الكبير
جاء في سفر عزرا (فصل 1) أن قورش ملك الفرس كتب منشورا في مملكته كلها قائلا: «إن إله السموات أوصاني بأن أبني له بيتا في أورشليم، فمن كان منكم من شعبه فإلهه يكون معه وليصعد إلى أورشليم ويبني بيت الرب.» ودنيال كان مقربا إلى هذا الملك، وكان قد كتب قبل مولده أن الرب سيقيمه ملكا، ويلهمه رد شعبه إلى أورشليم وبناء الهيكل، فكان قورش قرأ هذا وهم بإتمامه وأمر أن ترد جميع الآنية الذهبية والفضية، التي كان بختنصر قد أخذها من هيكل أورشليم، فدفعت إلى رئيس العائدين من السبي، فعاد زربابل ويشوع بن يوصادق الكاهن، ومعهم اثنان وأربعون ألفا وثلاثمائة وستون ما خلا العبيد والإماء، فأقاموا بأورشليم وما جاورها، وكان جم غفير من إخوانهم استمروا هناك فانضموا إلى العائدين، وكانت باكورة أعمالهم الاهتمام ببناء الهيكل في محله الأول، وطلب السامريون أن يشتركوا معهم في بنائه، فأبى زربابل مشاركتهم فطفقوا يقلقونهم في بنائه، ولما مات قورش شكوهم إلى ابنه كمبيس بأنهم يحضون أورشليم، ويريدون أن يعصوا ولم يدفعوا الجزية، فأمر بتوقيفهم عن البنا وعاد زربابل حاكم اليهود بأورشليم يستعطف دارا إلى الإذن بتكملة بناء الهيكل فأذن به، فرجع معه نحو خمسين ألفا من سبط يهوذا وبنيامين سنة 520، ثم استأنف زربابل البناء سنة 518، فكمل سنة 516ق.م، وعاد بعدئذ عزرا بن سرايا من سبط هارون يصحبه بعض الكهنة وبعض العامة، فكانت لعذرا الكلمة النافذة في أورشليم في إقامة قضاة وحكام بحسب أمر أرتحشستا ملك الفرس له، وكان يحافظ على سنة موسى، ويأمر وينهى بموجبها، وبحسب أمر الملك، ومن أوامره حظره على بني إسرائيل الزواج بأجنبيات.
واستمر عزرا على ذلك إلى أن وفد إلى أورشليم نحميا حاكما من لدن أرتحشستا، وكان نحميا هذا من سبط يهوذا، وقد ولد في بابل وكان يحن إلى أورشليم موطن آبائه، وكان ساقيا لأرتحشستا الذي تزوج بأستير، ولما بلغه سوء حال أورشليم، وأن أسوارها لم تزل مهدمة شكا الأمر إلى الملك، فأرسله حاكما إلى أورشليم سنة 445، وولاه على قومه، وعنى بإقامة أسوار أورشليم فأتمها بوقت وجيز رغم العراقيل التي كان يوجدها له والي السامرة وغيره، ودشن هذه الأسوار باحتفال، وكان ممن استمروا في بابل مردكاي عم أستير من سبط بنيامين التي تزوج بها أحشورش أحد ملوك الفرس ... والأظهر أنه أرتحشستا المعروف بذي اليد الطولى، وقد سمته الترجمة السبعينية أرتحشستا، وخبر أستير مبسوط في السفر المعروف بها، ولم تنبأنا الأسفار المنزلة بشيء من أخبار اليهود في المدة التي من موت نحميا إلى ولاية إسكندر الكبير على اليهودية، وهذه المدة هي زهاء مائة سنة، والمعلوم أنهم كانوا خاضعين لملوك الفرس يدبر شئونهم عظماء كهنتهم، ويظهر أنه كان عندهم بعد موت نحميا ندوة شيوخ مؤلفة من سبعين شيخا، كما كان في أيام موسى، ومنهم قضاة يجلسون في أورشليم يومي الاثنين والخميس للقضاء للشعب. (22) في أنبياء العبرانيين
وكان الأنبياء في العبرانيين كثيرين، فمنهم: آدم إذ أوحى الله إليه أن يكون مخلص من نسل المرأة التي تسحق رأس الحية، ونوح إذ أوحى الله إليه أن المخلص يأتي من نسل سام، وإبراهيم إذ أوحى إليه أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض، ويعقوب إذ تنبأ أن المسيح يأتي من نسل يهوذا ابنه، وموسى إذ تنبأ أن الرب يقيم لبني إسرائيل نبيا مثله من إخوتهم، وداود إذ إن زبوره مفعمة من النبوات على المسيح، وقد عدهم إكليمنضوس الإسكندري خمسة وثلاثين نبيا بعد موسى وخمسة قبله، وجعلهم أبيفانيوس ثلاثة وسبعين نبيا في العهدين القديم والجديد، والأنبياء الذين كتبت نبواتهم في الأسفار ستة عشر منهم: أربعة كبار وهم إشعيا وإرميا وحزقيال ودانيال، واثنا عشر صغار ستأتي أسماؤهم ... وسمي الكبار كبارا مراعاة لطول أسفار نبواتهم والصغار صغارا لوجازة نبواتهم، وهذا جدول يتبين منه زمان كل من الأنبياء وأسماء الملوك الذين تنبئوا في أيامهم:
أسماء الأنبياء
سني نبواتهم تقريبا
الملوك الذين كانوا في أيامهم
عوبديا
889 إلى 884
يورام
يوئيل
878 إلى 838
يواش
يونان
825 إلى 784
ياربعام الثاني
عموس
809 إلى 784
ياربعام الثاني وعوزيا
هوشع
790 إلى 725
ياربعام وعوزيا إلخ
ميخا
758 إلى 710
يواثام وإحاز وحزقيا
إشعيا
759 إلى 699
عوزيا ويواثام وحزقيا ومنسى
نحوم
665 إلى 669
منسى
صفتيا
628 إلى 623
يوشيا
حبقوق
609 إلى 606
يوياكيم
إرميا
625 إلى 588
يوشيا ويوياكيم إلخ
كاتبه باروك
583 إلى 588
صدقيا
حزقيال
595 إلى 573
يوخانيا والجلا
دانيال
604 إلى 534
بختنصر ودارا وقورش
حجاي
520 إلى 534
دارا بن هستاب
زكريا
520 إلى 534
دارا بن هستاب
ملاخيا
433 إلى 423
أرتحشستا ذو اليد الطولى
انتهى.
المقال الثاني
في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
الفصل الأول
في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
(1) في إسكندر الكبير وفتحه سورية
ولد إسكندر لفيلبوس ملك مكدونية في 29 تموز سنة 356ق.م، وأقام أبوه مهذبا ومعلما له أرسطو الفيلسوف، وكان ذكيا حزوما عزوما لا تثنيه القوة عن عزمه، بل يثنيه بسهولة البرهان السديد، وتوفي أبوه سنة 336 وعمر ابنه عشرون سنة، وبعد أن أخضع بعض المخالفين له في بلاده حمل على الفرس في آسيا الصغرى ودان له أكثر ملوكها إلى أن اجتاز معبر سورية من جهة فبليقية، وبلغ إلى إيسوس على خليج إسكندرونة، ووفد إلى هناك دارا ملك الفرس بجيشه الجرار وكان المحل ملائما لإسكندر ، فإن البحر هناك من جهة وجبل داغ من أخرى، وليس بينهما إلا أرض تضيق على جحافل دارا الكثيرة، وتكفي جنود إسكندر القليلة للحركات الحربية، فكانت بينهما موقعة هائلة في 29 تشرين الثاني سنة 333 أو سنة 332ق.م تشتت بها عساكر دارا، وتهافتوا على الفرار في تلك المضايق الوعرة، وهلك منهم خلق كثير خارجا عن ساحة الحرب، وكان عدد القتلى من الفرس في هذه الوقعة نحو مائة ألف رجل، وفر دارا تاركا برفيره وسلاحه وامتطى جوادا نجا به من لحاق فرسان إسكندر له، وكان عدد القتلى من المكدونيين ثلاثمائة راجل ومائة وخمسين فارسا، واستحوذ إسكندر على أخبية دارا وكان فيها أمه وزوجته وبنتاه وابنه، فأبقاهم في حوزته مكرمين.
ثم زحف إسكندر إلى مدن سورية وفونيقي، فلم يلق معارضا ودان له أكثر ولاتها وخرج سكان جبيل إلى لقائه مرحبين به، وكذلك فعل أهل صيدا ولكن عزل واليهم ستراثون الذي كان طائعا لدارا ونصب مكانه عبد وليم من ذرية ملوكهم القدماء، وكانت الحاجة أدت به إلى الاشتغال ببستان في ضواحي المدينة، وأرسل إسكندر برمينيون إلى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي كان قد أرسلها إليها، فاستحوذ عليها برمينيون بخيانة والي هذه المدينة، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل ما يشذ عن العد والوصف.
ثم سار إسكندر بجيشه من صيدا إلى صور، فأرسل أهلها إليه وفودا وهدايا قائلين: إنهم يريدون أن يتخذوه صديقا لا مولى، فقال: إنه يريد أن يقدم ضحية لمعبودهم في مدينتهم، فأنكروا ذلك عليه فعزم على محاربتهم، ولم تكن صعوبة بأخذ ما كان من المدينة في اليابسة ، ولكن كان قسم منها في جزيرة مسورة بأسوار منيعة فأخذ ما كان باليابسة، ولم ير وسيلة لأخذ الجزيرة إلا بأن يصل بينها وبين السارية بسد يمكنه من فتحها فباشر به، وحالت دون ذلك عقبات وخسائر نفوس وأموال لا تقدر إلى أن أكمل السد وحاصر الجزيرة، ودام حصارها سبعة أشهر، فبدئ فيه في شباط، وافتتحت الجزيرة في آب سنة 332ق.م، وعند الفتح صعد إسكندر إلى برج ملاصق للأسوار، وعرف أنه إسكندر فكان هدفا لأسهم جميعهم، وكان هذا من أعظم آيات بسالته، ودنا هو من حامية السور وكان يجندل بعضهم بضربات سيفه، وبعضهم بلكم مجنه إلى أن افتتح الجزيرة بعد أن أبدى الصوريون آيات باهرة بالدفاع، فوجد على الأسوار وحدها ستة آلاف قتيل، وقتل في المدينة خلق لا يحصى، وأنجى الصدونيون الذين كانوا قد أتوا لنجدة إسكندر جماعة من الصوريين؛ لأنهم جالية من صيدا، وتمت بصور نبوة حزقيال في الفصل 6 وإشعيا في الفصل 23، ثم سار إسكندر نحو أورشليم، وروى يوسيفوس في تاريخ اليهود (ك11 ف8) أن بدوع عظيم الأحبار أمر بتزيين شوارع المدينة بالزهور، وخرج للقاء إسكندر سائر الكهنة بملابسهم الحبرية والشعب، وكان على رأس عظيم الأحبار التاج وعصابة من ذهب كتب عليها اسم الله، فتقدم إسكندر وسجد لاسم الجلالة وحيا عظيم الكهنة قبل أن يحييه، فجأر اليهود بالدعاء له وسار الغازي توا إلى الهيكل، وقدم الذبائح كما كان يرشده عظيم الأحبار الذي أطلعه على نبوات دانيال عليه بأنه يقرض مملكة الفرس؛ فطرب لذلك وأطلق لليهود أن يعيشوا بحسب شرائع آبائهم، وعفاهم من دفع الجزية سنة في كل سبع سنين؛ لأنهم لا يستثمرون أراضيهم تلك السنة، وطلب إليه السامريون أن يشرف هيكلهم كما شرف هيكل أورشليم، فسوفهم بالإجابة إلى ما بعد عودته من غزوته إلى مصر، ويؤيد قول يوسيفوس دخول كثيرين من اليهود في جندية إسكندر ورعاية خلفائه الأولين لليهود وسنتهم.
وسار إسكندر من أورشليم إلى غزة، فحاصرها ولم يفتحها إلا بعد شهرين، وقد جرح في مدة الحصار جرحين؛ ولذلك عامل أهلها ولا سيما واليها بقسوة خارجة عن سنة الحرب، ثم زحف إلى مصر وكان أهلها يمقتون الفرس، ويهوون خلع نير طاعتهم فالتقاه جم غفير منهم مجاهرين بالطاعة له والائتمار بأمره، فسار بهم إلى منف عاصمة مصر يومئذ واستسلم إليه واليها من قبل دارا، فكانت مصر غنيمة باردة له، ورأى في ساحل مصر محلا صالحا لبناء مدينة كبرى، فجعل ديفوكرات المهندس الذي اشتهر بتجديد بناء هيكل ديانا في أفسس بعد احتراقه يخطط هذه المدينة، وسماها إسكندرية باسمه واستأتى السكان إليها من كل قطر.
وعاد بجيشه من مصر لملاحقة دارا، والاستيلاء على الجانب الشرقي من مملكة الفرس، ولدن مروره بصور بلغه خبر ثورة السامريين على العامل الذي أقامه بسورية، فضربهم وأبسل كل من اشترك في هذه الثورة، وطرد الباقين من السامرة، وأقام مكانهم جالية مكدونية، ثم سار في سهول البقاع وبعلبك إلى الفرات ودجلة، فعبرها وراسله دارا بالصلح مرتين فلم يصغ له، والتقى الجيشان في أربيل وكان عسكر دارا لا أقل من ستمائة ألف راجل وأربعين ألف فارس، وكان عسكر إسكندر لا يزيد على أربعين ألف راجل ونحو ثمانية آلاف فارس، فتسعرت نار الحرب في الثاني من تشرين الأول سنة 331ق.م، فدارت الدوائر على دارا وتشتت جحافله بعد أن قتل منهم خلق لا يحصى، وفر دارا تاركا سلاحه وخزائنه، فانتهب عسكر إسكندر أربيل وسلمت إليه بابل وشوشن وغيرهما، وسار يتعقب دارا في مسافات شاسعة إلى أن بلغه أن باسس أحد ولاة توركستات قبض على دارا، وغلله وأخذه في طريق بلاده، فهب إسكندر للحاقه فقتل باسس دارا ووجده إسكندر صريعا مخضبا بدمائه، فحنط جثته وسيرها بإجلال إلى والدته؛ لتدفنها على عادة ملوك الفرس، وانقرضت بدارا هذا مملكة الفرس سنة 330ق.م.
ثم حمل إسكندر على الهند وتوغل فيها، وكان من عزمه أن يتصل إلى المحيط الشرقي، ثم يعود فيستولي على قارة إفريقية، لكن جنوده نهكتهم المشاق والجهاد، وأهالتهم العواصف والأمطار مدة سبعين يوما، فأكرهوه على العود إلى بابل فتزوج بابنة دارا وتزوج حاشيته وكثير من جنوده بنساء فارسيات، وفي سنة 323ق.م أتته وفود من جميع أصقاع العالم المعروفة حينئذ، وأكثر من المآرب منهوما بالمآكل والمشارب فأصابته حمى لازمته عشرة أيام وشعر بدنو المنون، فانتزع خاتمه من يده ودفعه إلى برديكاس أحد المقربين إليه، وأمره أن ينقل جثته إلى هيكل عمون في مصر، وسأله أحد كبار أعوانه: «لمن مولاي الملك من بعدك؟» فقال: «لأرشدكم.» وفاضت روحه في 21 نيسان سنة 323ق.م بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة، ولم يتيسر نقل جثته إلى مصر إلا بعد سنتين لاختلاف وقع بين أعوانه ولم يتسن لبتولمايس الذي كان حاكما بمصر أخذ جثته إلى هيكل المشتري عمون، فأقام له هيكلا في الإسكندرية، ودفنه فيه فهكذا يزول مجد العالم. (2) في ولاية لاوميدون على سورية وانتزاع بتولمايس لها
بعد موت إسكندر كثر الخلاف بين حاشيته، والعمال الذين كان قد نصبهم في الأقاليم وأفضى إلى حروب هائلة بينهم، واتفقوا على أن يقيموا على منصة الملك أريداي أخا إسكندر، وابنه الذي ولد له بعد وفاته من امرأته ركسبان الفارسية، وسموه إسكندر أكوس، على أنه لم يكن لكلا الملكين إلا اسم ملك، واقتسم وزراء إسكندر وعماله أقاليم المملكة بينهم، وأصاب لاوميدون سورية، ولما اشتدت الحرب بين بعض هؤلاء الولاة رأى بتولمايس والي مصر أن ضم اليهودية وفونيقي وقبرس إلى مملكته في مصر ضربة لازب، فسير نيكانور إلى سورية بجيش برا، وسار هو بأسطول يدوخ مدنها البحرية، فظهر نيكانور على لاوميدون وأخذه أسيرا، وافتتح بتولمايس المدن الساحلية، وأصبحت سورية طوع يديه، وروى يوسيفوس (في تاريخ اليهود ك12 ف1) أن اليهود قاوموا بتولمايس رعاية للأمانة بحق واليهم لاوميدون، فحاصر بتولمايس أورشليم، فلم يتسن له فتحها إلا في يوم سبت عرف أن اليهود لا يأتون فيه عملا، فأخذ منهم أكثر من مائة ألف أسير إلى مصر، ولما تذكر بسالتهم وأمانتهم لواليهم رفق بهم، واختار منهم لخدمته ثلاثين ألف رجل وأطلق الباقين.
فاستاء ولاة باقي الأقاليم من زيادة بتولمايس سورية على أملاكه بمصر، ففي سنة 314 حشد أنتيكون والي بمفيلية ذقريجية في آسيا الصغرى جيشا كبيرا سار به إلى سورية، واستحاط بتولمايس بتقوية الحامية في مدن سورية، فلقي أنتيكون مر العناء في فتح صور ويافا وغزة، ولم يفتح صور إلا بعد حصارها خمسة عشر شهرا، وجد في اصطناع سفن في جبيل وطرابلس حتى بنى في سنة واحدة أسطولا كبيرا، واستأتى سفنا أخرى من قبرس ورودس المحالفتين له، واضطر أن يعود إلى آسيا الصغرى، وترك على حصار صور ابنه ديمتريوس فضيق على الصوريين فاستسلموا إليه، وطلب الجنود الذين أقامهم بتولمايس بها الأمان؛ ليخرجوا منها بأسلحتهم ومتاعهم فأجابهم ديمتريوس إليه، وسار بجيشه إلى غزة، فكانت وقعة ارتعدت لها الفرائص، وانجلى القتال عن خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير من جيش ديمتريوس وأخذت خيله وماله وأمتعته، ورد عليه بتولمايس خيله وخيامه وأثقاله، وعاد ديمتريوس إلى طرابلس، على أن انكساره لم يوهن عزيمته بل أخذ يحشد جنودا، ويحصن مدنا وسير بتولمايس شيل أحد قادة جيشه؛ ليتتبع آثار ديمتريوس، وأدركه بجهات طرابلس، وانتشبت الحرب بينهما فاستظهر ديمتريوس، وشتت عسكر شيل وأخذه أسيرا مع ستة آلاف من جنوده وغنم أثقاله، وبلغ أنتيكون خبر انتصار ابنه فأسرع إلى سورية، ورأى بتولمايس أن ليس في مقدوره أن يحارب أنتيكون فآثر العود إلى مصر على القتال، وهدم قلاع عكا ويافا والسامرة وغزة، وأصبحت سورية سنة 311 في ولاية أنتيكون، واستمرت قبرس في يد بتولمايس. (3) أخذ قبرس من بتولمايس واسترداده بعض سورية
قد أمر أنتيكون ديمتريوس ابنه أن يسير بأسطول إلى قبرس؛ ليأخذها من بتولمايس فسار إليها، وكانت له حرب شديدة على سلامينا عاصمتها، وكان فيها ميتيلاس أخو بتولمايس، ثم سار بتولمايس نفسه إلى قبرس، فانتصر ديمتريوس عليهما وأكره ميتيلاس أن يستسلم إلى ديمتريوس هو وابن أخيه وجنوده وأهل المدينة، فأطلق ديمتريوس أخا بتولمايس وابنه، وأرسلهما إليه مع أصدقائهما وخدامهما مكافأة لبتولمايس على ما صنعه إلى ديمتريوس بعد حرب غزة برده عليه أصدقاءه وخدامه وخيله وأثقاله، وكان ذلك سنة 306، وسمى حينئذ أنتيكون نفسه ملكا وابنه كذلك، واقتدى به باقي ولاة الأقاليم.
وطمع أنتيكون بأن ينتزع مصر من يد بتلمايس، وكتب إلى ابنه أن يلتقيه من قبرس بجيشه، وجيش هو في سورية جيشا لا يقل عن مائتي ألف، وكان يحسب أن انكسار بتولمايس في قبرس ميسر للظفر به بمصر، فكان غير ما حسب؛ لأنه قد ثارت عواصف أضرت كثيرا بالأسطول الذي أتى به ديمتريوس من قبرس، ودفع عسكر بتولمايس أنتيكون عن الدخول إلى مصر، حتى رأى أنتيكون أنه يستحيل عليه دخول مصر وعازته المؤن، وفشا الوبا في جنوده وكثر فيهم الإباق، فعاد إلى سورية والخجل دثاره والكآبة شعاره، فقوي ساعد بتلمايس وعظم بأسه وشغل ديمتريوس وأبوه أنتيكون بحرب الرودسيين، فانتهز بتولمايس الفرصة وأخذ فونيقي واليهودية وسورية المجوفة، وبقيت صور وصيدا؛ لأن أنتيكون كان قد ترك فيها حامية كبيرة شديدة. (4) في أخذ سلوقس قسما من سورية ووفاته
في سنة 302 تحالف كسندر ملك مكدونية وبتولمايس ملك مصر، ولبسيماك ملك تراسة وسلوقس ملك بابل على أنتيكون وابنه ديمتريوس، فكانت لهم وقعة هائلة في إيبسوس من فريجة كانت الفاصلة؛ لأن أنتيكون وقع صريعا وابنه ديمتريوس انهزم بخمسة آلاف راجل وأربعة آلاف فارس، واقتسم الملوك المتحدة المملكة: فأصاب لبسيماك آسيا الصغرى مضافة إلى تراسة، وأصاب سلوقس شمالي سورية مضافة إلى بابل وما في شرقيها إلى الهند، وأصاب بتولمايس جنوبي سورية من عكا إلى مصر مضافة إلى مصر، وبقي كسندر على مملكته وما يسترده من بلاد اليونان، وسميت مملكة سلوقس مملكة سورية؛ لأنه بنى أنطاكية وأقام بها هو وخلفاؤه وسماها أنطاكية نسبة إلى أبيه أو ابنه أنطيوكس، فكانت عاصمة المشرق أعواما متطاولة في مدة السلوقيين والرومانيين، وبنى سلوقس أيضا سلوقية التي على ضفة دجلة، والتي على ضفة العاصي محل السويدية الآن وبنى أيضا أباميا أو أفاميا على اسم امرأته واللاذقية على اسم أمه لوذيقة، وأما ديمتريوس ابن أنتيكون فبعد أن تغلب عليه الدهر مرات قبل إقبال وإدبار أخذه سلوقس أسيرا سنة 286، وأقامه في مدينة بجوار اللاذقية، فعاش بأسره ثلاث سنين وتوفي سنة 283.
وكانت حرب سنة 281 بين سلوقس ولبسيماك ملك تراسة وآسيا الصغرى، فانتصر سلوقس عليه وقتله وأخذ مملكته وأكسبه هذا الظفر لقب فيكانور (أي: الظافر)، لكنه بعد هذا المجد حالف عليه جيرانوس بن بتولمايس ملك مصر الذي كان فر من وجه أبيه، وقبله سلوقس ناويا أن يجلسه على عرش أبيه، وأصحبه معه في هذه الغزوة، فأبت نفسه الذميمة إلا غمط نعمة المحسن إليه، فقتل سلوقس في مكدونية التي كان قد توجه إليها سنة 280، بعد أن ملك سورية بعد وقعة إيبسوس عشرين سنة. (5) في أنطيوكس الأول والثاني
أنطيوكس الأول هو ابن سلوقس كان أبوه عند مسيره لحرب لبسيماك قد تخلى له عن قسم كبير من مملكته، وبعد مقتله استبد أنطيوكس بالملك، ولقب سوتر: أي المخلص، ومما كان بسورية في أيامه أن صهره زوج أخته ماغاس والي ليبيا استبد في ولايته بعد أن كانت خاضعة لمصر، وحشد جيشا ضرب به إسكندرية واستنجد بحميه أنطيوكس، فأرسل بتولمايس فيلادلفوس ملك مصر جنودا تحتل بعض مدن سورية الخاضعة لأنطيوكس وتنكل ببعضها، فمنع أنطيوكس عن النجدة لصهره وقضى أنطيوكس الأول سنة 261 أو سنة 260.
أما أنطيوكس الثاني فهو ابن أنطيوكس الأول سماه أبوه في حياته ملكا ولقب ثاوس أي: الإله تملقا له، ومما كان في أيامه بسورية أن بتولمايس ملك مصر بنى مدينة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر، وسماها برنيقة وأنشأ كثيرا من السفن وأراد أن يحتكر لمملكته التجارة بالبحر، وكان ذلك للصوريين، فانتشبت حرب لذلك بين أنطيوكس وبتولمايس وطالت مدتها، ووخمت عاقبتها على مملكة سورية؛ لأن اشتغال أنطيوكس بهذه الحرب كان وسيلة لانفصال البرتيين عن مملكة سورية، وإقامتهم أرساس ملكا عليهم، وكذلك عصى تيودت والي بقطريان في تركستان وجعل نفسه ملكا وحذا حذوه غيره من الولاة، حتى لم يبق لأنطيوكس سنة 250 شيء في ما وراء دجلة، فبعث ذلك أنطيوكس على مصالحة بتولمايس، فعقد الصلح بينهما سنة 249 ... وكان من شرائطه أن يطلق أنطيوكس امرأته لاوذيقة ويتزوج ببرنيس بنت بتولمايس، وأن يمنع ابنيه من امرأته الأولى من إرث الملك، ويعهد به إلى البنين الذين تلدهم له برنيس، فطلق أنطيوكس امرأته، وأتى بتولمايس بابنته إلى سلوقية عند مصب العاصي (السويدية)، فزفت برنيس إلى أنطيوكس.
ومات بتولمايس فيلدلفوس بعد عوده من سورية بسنتين أي: سنة 247، ولما بلغ نعيه أنطيوكس طلق ابنته برنيس، واسترد امرأته الأولى لاوذيقة مع أبنائها، وخافت أن يطلقها ثانية ويسترد برنيس فيخسر أبناؤها حق الملك بحكم الشرط مع بتولمايس، فدست سما لأنطيوكس قضى به سنة 246، وأخفت موته وأذاعت باسمه أمرا بأن يخلفه بكره سلوقس، وأرادت إهلاك ضرتها برنيس ففرت إلى برج بدفنة (قريبة من أنطاكية)، فاغتالها من قامتهم لوذيقة لحراستها، وقتلوا ابنها أيضا، وتمت بذلك نبوة دانيال (ف11 عدد 6)، حيث قال: «وبعد انقضاء سنين يتعاهدان (أي: ملك الجنوب وملك الشمال بتولمايس وأنطيوكس)، وتأتي بنت ملك الجنوب إلى ملك الشمال للمسالمة، لكنها لا تملك قوة الذراع ولا يقوم لها نسل.»
ولما ذاع خبر الخفر على برنيس بدفنة رق لمصابها كثيرون، وأرسلوا جيشا لإنقاذها، وسارع أخوها بتولمايس إفرجات بعسكر جرار لإنقاذ أخته وابنها، ولكن قد سبق السيف العزل فتشفى بتولمايس من غيظه بقتله لوذيقة، واستيلائه على سورية وفيليقية، ثم عبر الفرات واستحوذ على مدن ما بين النهرين، واضطر أن يعود إلى مصر فأقام في أنطاكية أحد قادة جيشه يلي ما ملكه إلى جبل طورس، وآخر يلي ما وراءه وعاد إلى مصر موقرا بغنائم. (6) في سلوقس الثاني والثالث
سلوقس الثاني هو ابن أنطيوكس الثاني ملكته أمه بعد إماتتها أباه، ولما عاد بتولمايس إلى مصر جهز سلوقس أسطولا؛ ليسترد إلى طاعته المدن التي أخذها بتولمايس، فثار عاصف شديد غرق سفنه وعسكره ونجا بنفسه مع بعض حاشيته، ثم حشد جيشا بريا وسار به فالتقاه بتولمايس، وأهلك نصف جيشه وعاد إلى أنطاكية مذعورا سنة 244، ورأى أن انضمامه إلى أخيه أنطيوكس يقوي جانبه، فراسله ووعده بأن يوليه أعمال آسيا الصغرى التابعة لسورية إن نجده في الحرب، فقبل أخوه شرطه وأتى إليه مبديا المعاونة لأخيه ومبطنا أخذ مملكته، وبلغ بتولمايس أنهما اتفقا، فصالح سلوقس ووقعا سنة 242 على هدنة بينهما عشر سنين.
واستمر أنطيوكس يحشد الجنود ناويا ثل عرش أخيه، فسار أخوه لكبته وانتشب القتال بينهما قرب أنكورة، فاستظهر أنطيوكس على سلوقس، وشاع أنه قتل وصدق الجنود الذين استأجرهم أنطيوكس الإشاعة، فهموا أن يلحقوا أخاه به ويصنعوا ما طاب لهم، فاضطر أنطيوكس أن يدفع لهم كل ما كان له من المال، وعاد الأخوان إلى النزاع والقتال، وبعد عدة وقائع ظهر سلوقس على أنطيوكس وهزمه، فلجأ إلى أرياراط ملك الكبادوك، وكان أنطيوكس متزوجا بابنته ، فأثقل حماه وصمم على إبعاده، فهرب أنطيوكس إلى مصر لاجئا إلى بتولمايس عدو أسرته، فأودعه السجن، ففر أنطيوكس منه سنة 226ق.م فقتله اللصوص في طريقه.
ولما استراح سلوقس من مزاحمة أخيه أراد أن يسترد الأقاليم، التي أخذها أرساس ملك الفرس من مملكته، فلم ينجح بحملته وأرغم أن يعود إلى سورية لتخميد نار ثورة حدثت عليه، ولما خمدها عاد لمحاربة أرساس، فكانت هذه الحملة شرا من الأولى؛ لأن جنوده كسرت، وهو وقع أسيرا بيد عدوه وبقي في أسره خمس سنين أو ستا، وتوفي سنة 226 أو سنة 235 بكبوة جواده به.
وبعد موت سلوقس الثاني خلفه ابنه سلوقس الثالث، وكان ضعيف الجسم واهن العزيمة ولم تكن له سلطة على الجنود ولا على أعمال المملكة، ولولا تدبير أخايوس ابن خاله لاستحوذ بتولمايس أو غيره على مملكة سورية، وكان أتال ملك برغام قد استولى على آسيا الصغرى كلها، فحشد سلوقس الثالث جيشا سار به يصحبه أخايوس المذكور لقتال أتال، فتحالف عليه تبكاتور وأباتوريوس من عماله، ودسوا له سما قضى به سنة 223ق.م، فثأر أخايوس من قاتليه فأماتهما مع كل من شاركهما في هذه الفعلة الشنعاء، ودافع عن المملكة وأوقف أتال عن التقدم في المملكة، وعرض عليه الجنود وكبراء المملكة تاج الملك، فأباه وسعى بأن يكون الملك لأنطيوكس أخي سلوقس الثالث المتوفى. (7) في أنطيوكس الثالث الملقب بالكبير
هو ابن سلوقس الثاني وأخو سلوقس الثالث، ارتقى إلى منصة الملك سنة 222ق.م، وهم بإصلاح شئون المملكة؛ فولى مولون أحد قواد جيشه على بلاد ماداي وأخاه إسكندر على فارس، وعهد إلى أخايوس بولاية أعمال آسيا الصغرى، فاسترد أخايوس كل ما كان أتال ملك الكبادوك غصبه من مملكة سورية، وأما مولون وإسكندر فجاهرا بالعصيان على الملك، واستبد كل منهما في ما ولاه عليه، فاضطر أن يوجه جيشا إليهما فانتصرا عليه، ثم سار بنفسه سنة 220ق.م، فبدد شمل جنودهما وحملهما على الانتحار، وكان أنطيوكس قد سار أولا بجيشه إلى سورية المجوفة، وانتهى إلى السهول الواقعة بين لبنان الغربي ولبنان الشرقي، فوجد تيودت واليها من قبل بتولمايس قد حصن معابر الجبلين حتى يئس الملك من العبور بين تلك الحصون، فعاد إلى أنطاكية، وبعد أن خمد ثورة العاصيين المذكورين عاد إلى سورية؛ ليسترد ما اختلسه بتولمايس منها، وكان تيودت المذكور قلب ظهر المجن لبتولمايس، ووعد أنطيوكس بأن يسلمه سورية المجوفة، ثم استولى على دمشق بحيلة اصطنعها على واليها، وانتهت أعماله الحربية سنة 219 بحصار دورا (الطنطورا)، التي كان نقولا واليها من قبل بتولمايس قد حصنها حتى قنط أنطيوكس من فتحها، فهادن نقولا أربعة أشهر وأقام تيودت المذكور واليا على كل ما كسبه في هذه الحملة، وأرجع جنوده تقضي فصل الشتاء في سلوقية (السويدية).
وكانت مخابرات في مدة الشتاء بالصلح بين أنطيوكس وبتولمايس، فلم يتفقا عليه وعاد الملكان سنة 218 إلى المحاربة، والتقى الجيشان وأسطولان لهما عند معابر لبنان، وانتشبت الحرب عند نهر الكلب بحرا وبرا، فكانت الحرب سجالا في البحر، واستظهر أنطيوكس في البر على نقولا رئيس جيش بتولمايس، وأكرهه أن يتقهقر إلى صيدا تاركا في ساحة القتال أربعة آلاف رجل بين قتيل وأسير، وتعقب أنطيوكس الجيش المصري بحرا وبرا، فأرسل أسطوله إلى صور؛ لأنه رأى صيدا منيعة، وزحف هو بجيشه إلى الجليل واستولى على مدن كثيرة، ثم جاوز الأردن واستحوذ على البلاد التي وراءه، ودنا فصل الشتاء فعاد إلى السامرة.
وفي ربيع سنة 217ق.م استؤنف القتال بين الملكين، وأخذ بتولمايس بنفسه إمرة جنده، وخيم في جهة غزة والتقاه أنطيوكس إلى هناك، وصف الملكان جيشهما وقام كل منهما أمام صفوفه، فظهر أنطيوكس في ميمنة جيشه على ميسرة جيش بتولمايس، وتوغل في لحاقهم على غير روية، فكسرت ميمنة جيش بتولمايس ميسرة جنده، وأخذت تضرب قلب الجيش من جانبه فكسرته، وأسرع أنطيوكس لنجدة جيشه ولكن فاته إصلاح غلطه؛ لأن عسكره تشتت وقتل منه عشرة آلاف وأسر منه أربعة آلاف، فلم ير أنطيوكس من نفسه القوة على استئناف القتال، فعاد إلى أنطاكية تاركا ما كسبه من البلاد، وأرسل إلى بتولمايس يسأله الصلح، فوقع بينهما أولا على هدنة مدة سنة، وقبل انقضائها وقع على الصلح وكان من شرائطه أن يتخلى أنطيوكس لبتولمايس عن فلسطين وفونيقي وسورية المجوفة.
وفي سنة 216 حمل أنطيوكس على أخايوس الذي استبد في آسيا الصغرى، فانتصر عليه وقتله بحيلة، وكان له حملات في شرقي مملكته اتصل بها إلى الهند، وعاد إلى أنطاكية سنة 205ق.م، فبلغه سنة 204 نعي بتولمايس فيلوباتر (محب أبيه) ملك مصر، فهام في استرداد فلسطين وما تبعها إلى مملكته واحتل فلسطين وسورية المجوفة، واستحوذ على مدنها، واتفق مع فيلبوس ملك مكدونية أن ينتزعا ملك بتولمايس وعقدا عهدة على قتل ابنه بتولمايس أبيفان، الذي كان عمره خمس سنين وقسمة مملكة مصر بينهما، فلجأ رجال دولة مصر إلى الرومانيين طالبين حمايتهم، وعرضوا عليهم الوصاية على الملك القاصر، وتدبير شئون مملكته، فلم يتردد الرومانيون في القبول، وعينوا ثلاثة مفوضين يحملون بلاغا إلى فيلبوس وأنطيوكس لينكفا عن الاعتداء على ملك مصر، وضايق الرومانيون فيلبوس، وانتزعوا أخيرا ممكلته من يده، ونكلوا بأنطيوكس وخلفائه كما سترى، وأرسلوا سنة 199 قائد جيش مصر إلى سورية، فأخذ اليهودية ومدنا كثيرة في غيرها، وأقام حامية في قلعة أورشليم، فجيش أنطيوكس وغشا سورية الجنوبية، والتقى الجيشان في بانياس، فظهر أنطيوكس على الجيش المصري، وشتت شمله وفر سكوباس قائده إلى صيدا فحاصرها أنطيوكس، واضطر هذا القائد أن يقبل شروطا مذللة له ولحكومته، ويعود بمن بقي من جنده إلى الإسكندرية، وسار أنطيوكس من صيدا إلى غزة فناوأه أهلها فقهرهم، وترك حامية؛ لئلا تتعقبه جنود مصر، وعاد فأخضع لسلطته فلسطين كلها وسورية المجوفة، والتقاه اليهود بمفاتيح مدنهم وحصونهم، فجاد عليهم بنعم وامتيازات.
وهم أنطيوكس أن يستحوذ على آسيا الصغرى كلها أيضا، وخشي أن يفترص المصريون غيابه ويسطوا على سورية، فأرسل وفدا إلى مصر يعرض زفاف ابنته فلوبطرة إلى بتولمايس إبيفان متى بلغ العروسان مبلغ الزواج، وأنه في يوم زفافها يتخلى عن سورية الجنوبية مهرا لها، فاستحسن رجال دولة مصر ما عرضه، ووقع الفريقان على معاهدة بهذا المعنى.
وحمل أنطيوكس على آسيا الصغرى سنة 196ق.م، فاستولى فيها على مدن كثيرة حتى إفسس، وكانت حينئذ أزمير وغيرها من المدن اليونانية ناعمة باستقلالها وحريتها، ورأوا من نفوسهم الضعف عن مقاومة أنطيوكس، فلجئوا إلى الرومانيين طالبين أن يحموهم، فلبى الرومانيون دعوتهم، وأرسلوا وفدا إلى أنطيوكس فطلبوا من أنطيوكس أن يرد على ملك مصر كل المدن التي كانت تخصه في آسيا، وأن يترك المدن اليونانية في آسيا على استقلالها، وأن يسترد عساكره التي كانت قد عبرت الدردنل إلى تراسة، فلم يشأ أنطيوكس أولا أن يجاهر الرومانيين بالعداوة، بل سوفهم بالجواب وأخذ يقوي ساعده، فزوج بنته فلوبطرة بملك مصر بحسب المعاهدة المذكورة، وتخلى لها عن فلسطين وسورية المجوفة مهرا لها، على أن ابنته آثرت نفع زوجها على نفع أبيها، فكان هذا الزواج وبالا عليه، وزوج أنطيوكس بنتا أخرى له بأرياراط ملك الكبادوك، وأراد أن يزوج الثالثة بملك برغام، فلم يشأ حرصا على رضى الرومانيين، وعزم على محاربة الرومانيين، وتوافرت المداولات بينه وبينهم إلى سنة 192، وكانت منازعات بين عشائر اليونان في بلادهم فاستدعوا أنطيوكس إليها فلبى دعوتهم، فعالنه الرومانيون بالحرب، وكان عسكره قليلا وزحف أشيل قائد الرومانيين إليه بعسكر جرار، فبدد شمله، وعاد أنطيوكس إلى إفسس، وأمر أسطوله أن يضرب أسطول الرومانيين، فظهر الرومانيون وغرقوا عشرا من سفنه، وأقام الرومانيون على قيادة جيشهم كرنليوس شيبون، وأعمى الله بصيرة أنطيوكس، فأمر جيشه المحتل المدن المجاورة الدردنل أن ينسحب، فعبر الرومانيون إلى آسيا آمنين، وأصلوا نار الحرب على أنطيوكس فذعر وانهزم، وقتل من عسكره نحو من خمسين ألفا وعاد إلى أنطاكية مدحورا.
ثم أرسل أنطيوكس وفدا إلى القائد الروماني يطلب الصلح، فطلب الرومانيون أن يتخلى أنطيوكس عن كل ما وراء جبل طورس من آسيا، ويدفع نفقات الحرب البالغة خمسة عشر ألف وزنة، وهي عبارة عن ثلاثة وثمانين مليونا من الفرنكات يدفع بعضها معجلا، ويجعل الباقي أنجما في اثنتي عشرة سنة، فأرغم أن يقبل وأثبت الديوان الروماني الصلح الذي عقد مع قائد جيشه، وكان ذلك سنة 189ق.م، ومضى أنطيوكس مطوفا في أعمال الشرق يجبو ما يفي به غرامة الحرب، ولما انتهى إلى بلاد العيلاميين قيل له: إن في هيكل المشتري بالوس كنزا عظيما، ودخل الهيكل ليلا فابتز كل ما كان فيه من قديم الدهر، فحنق الشعب وثار عليه فقتله وكل حاشيته سنة 187، وكانت مدة ملكه ستا وثلاثين سنة. (8) في سلوقس الرابع
هو ابن أنطيوكس الثالث رقي إلى منصة الملك بعد مقتل أبيه وسمي فيلوباتر أي: محب أبيه، وكان ذليلا لإذلال الرومانيين مملكته، وإثقالها بغرامة الحرب، ولم يكن في أيامه ما يستحق ذكرا إلا ما ذكره كاتب سفر المكابيين الثاني في الفصل الثالث ... وهو أن أورشليم كانت حينئذ عامرة آمنة، وسنن الله مرعية فيها بعناية أونيا عظيم الكهنة، وكان سلوقس يؤدي من دخله نفقات الذبائح في الهيكل، فاختصم سمعان وكيل الهيكل وأونيا، فمضى سمعان إلى أبولينوس قائد جيش سلوقس، وهو في بقاع سورية ووشى له أن الخزائن في هيكل أورشليم مشحونة بالأموال، فأعلم أبولينوس الملك بذلك، وهو لحاجته إلى المال أرسل هليودورس، وأمره بجلب هذه الأموال، فمضى إلى أورشليم وأعلم أونيا بما أمره الملك، فأجابه أن ذلك المال ودائع للأرامل والأيتام، ولا يجوز هضم حق من ائتمنوا الهيكل، وأصر هليودورس على تنفيذ أمر الملك، فاضطربت أورشليم وتبادر الناس أفواجا إلى الهيكل خاشعين لله؛ لينقذهم من هذه النازلة، وأتى هليودورس بشرطه إلى الهيكل، فصرع الله كل من جسروا على الدخول إليه، وأخذهم الرعب والانحلال، وظهر لهم فرس عليه فارس مخيف فضرب هليودورس بحوافر يديه وتراءى فتيان قويان بهيان ، وقفا على جانبيه يجلدانه جلدا متواصلا حتى أثخناه بالضرب، وسقط مغشيا عليه فحملوه إلى الخارج وهو أبكم لا يبدي حراكا، وخاف أونيا أن يتهم اليهود بما كان لهليودورس، فصلى إلى الله فظهر الفتيان لهليودورس، وقالا: عليك بالشكر لأونيا؛ لأن الرب من عليك بالحياة لصلاته ... فقدم ذبيحة للرب وشكر لأونيا وانصرف بجنده.
أما سلوقس فجزاه الله عن هذه الجريمة بيد من أرسله لسلب هيكله، فإن أنطيوكس أخا سلوقس كان رهينة عند الرومانيين من أيام أبيهما، وأحب سلوقس أن يستقدمه إليه لداع يعلمه الله ، فأرسل ابنه الوحيد المسمى ديمتريوس ليكون بدلا منه برومة، فلما رأى هليودورس المذكور أن وارثي الملك بعيدان عن سلوقس دس له سما مات به سنة 175 بعد أن ملك نحو اثنتي عشرة سنة وملك بعده هليودورس. (9) في أنطيوكس الرابع الملقب إبيفان
هو ابن أنطيوكس الكبير الذي كان رهينة برومة واستنقذه منها أخوه سلوقس، وبلغه منعى أخيه وهو في أثينا، وأن لهليودورس الدعي محازبين، وأن بتولمايس ملك مصر يدعى ملك سورية مدلى إليه بأنه ابن بنت أنطيوكس الكبير، فلجأ إلى أومان ملك برغام وأخيه أتال فعاوناه على طرد هليودورس وارتقائه إلى منصة الملك، ولقب نفسه إبيفان أي: الشريف، وقد غزا مصر أربع غزوات واضطهد اليهود كما سيأتي، وكان بتلمايس إبيفان قد توفي، وخلفه ابنه من فلوبطرة بنت أنطيوكس الكبير وأخت أنطيوكس إبيفان هذا، وكانت أمه تدبر الملك لصغر سنه، ولكن أدركتها المنية سنة 173ق.م، فعهد بتدبير الملك إلى ليناي أحد أشراف مصر وبتربية الملك الصغير إلى أولناي أحد الخصيان، وكان أنطيوكس قد وضع يده على فلسطين وسورية المجوفة، فطالباه أن يردهما على ملك مصر فأبى، وكان هذا باعثا على الحرب، وأرسل أنطيوكس يجدد موالاته للرومانيين؛ كيلا يعارضوه بغرضه وسار بجيشه إلى تخوم مصر، فالتقى جيشه والجيش المصري على مقربة من بالوز (فرما)، وانتشب القتال سنة 171ق.م، فاستظهر أنطيوكس على المصريين، واقتصر حينئذ على تحصين تخوم سورية وعاد إلى صور، ثم حمل ثانية على مصر سنة 170ق.م، وسير جيشه برا وأسطوله بحرا، فأخذ بالوز وتوغل في مصر معاملا أهلها بالحلم، فاستسلموا إليه إلا الإسكندرية، وأتى إليه بتلمايس ابن اخته طائعا أو مأخوذا في الحرب، فأكرم مثواه وأظهر أنه يدبر مملكته مصر بمنزلة وصي عليه، ولما رأى الإسكندريون أن ملكهم بتولمايس فيلوماتر (محب أمه) أمسى أسير خاله أنطيوكس أسقطوه من منصة الملك، ورقوا إليها أخاه سنة 169ق.م، وسموه بتلمايس إفرجات (المحسن)، ولما بلغ ذلك أنطيوكس حمل المرة الثالثة على مصر مظهرا أنه يريد إرجاع ابن أخته إلى مملكته، وسار بجيشه توا إلى الإسكندرية عامدا أن يحاصرها، فوجه بتلمايس إفرجات وأخته فلوبطرة رسلا إلى رومة يستنجدان الندوة والشعب الروماني، فأوفد الرومانيون ثلاثة رجال يبلغون أنطيوكس وبتلمايس أن يتحاشيا الحرب، ومن خالف منهما كان عدوا للرومانيين، وقبل أن يصل موفدو الرومانيين إلى مصر كان أنطيوكس قد صالح المصريين على أن ابن أخته يتولى مصر، ويخلع بتلمايس إفرجات من الملك، واستبقى أنطيوكس بالوز لنفسه؛ لتكون له بمنزلة المفتاح لمصر، فتنبه بذلك بتلمايس فيلوماتر ابن أخته إلى أن خاله أبقى لنفسه هذا المفتاح حتى إذا أجهدته وأخاه الحرب يلتقم مصر، فصالح أخاه إفرجات على أن يتوليا البلاد معا، وانبسط الأمان في مصر كلها.
ولما اتصل بأنطيوكس اتفاق الأخوين استشاط، وحمل الحملة الرابعة على مصر فسير أسطوله إلى قبرس؛ ليحتفظ عليها وسار بجيش عرمرم مجاهرا بالعداوة للأخوين، وزحف بجيشه إلى مصر وانتهى إلى منف واستسلم الأهلون إليه، وأراد حصار الإسكندرية، فخرج إليه يوبيليوس أحد موفدي الرومانيين، وكان أنطيوكس يعرفه فمد يده ليحييه، فأمسك يوبيليوس، وقال له: أريد أن أعلم أصديقا لرومة أحيي أم عدوا؟ وأطلعه على أمر وفادته، فقال أنطيوكس: إنه يفاوض مستشاريه ويجيبه، فخط يوبيليوس بعصاه حوله دائرة على الرمل، وقال: يلزم أن تجيب قبل أن تخرج من هذه الدائرة ... فقال أنطيوكس: إني صانع ما تحب، فمد حينئذ يوبيليوس يده إليه، وحياه ولاطفه وأمره بالخروج من مصر، فخرج بجيشه في اليوم الذي عينه له، ووقع موفدو رومة على عهدة الصلح بين الأخوين الملكين، وفي مرور الوفود على قبرص صرفوا أسطول أنطيوكس عنها. (10) في تزلف اليهود إلى أنطيوكس واضطهاده لهم وموته
إن معاشرة اليهود لأسيادهم اليونان أبعدتهم شيئا فشيئا عن إيمان أجدادهم وعاداتهم الحميدة، ونشأ بينهم حزب جانح إلى الاقتداء باليونان دينا وعملا، وكان مركز هذا الحزب أورشليم، وأقاموا مدرسة وثنية في المدينة المقدسة (مكابين 1 ف1 عدد 12)، وتزلفوا إلى أنطيوكس ترويجا لمطامعهم، وكان من هؤلاء رجل اسمه يشوع فبدله بياسون وهو أخو أونيا رئيس الأحبار، سولت له نفسه أن يأخذ الرياسة من أخيه، فوعد أنطيوكس بمبلغ جسيم من المال، فقلده الرياسة فصرف الشعب إلى عادات الأمم، وأبطل رسوم الشريعة، واستمر ياسون بالحبرية ثلاث سنين وسعى لقتل أخيه وأرسل ياسون منلاوس إلى أنطيوكس يعرض له أمورا، فتزلف إليه وسأله رياسة الحبرية، فولاه إياها ورجع فطرد ياسون، لكنه لم يف الملك ما وعده به فاستخلفه بأخيه ليسيماكس، وهذا سرق الآنية الذهبية من الهيكل، فباع بعضها وأهدى بعضها إلى حاشية الملك، فهاج عليه الجمهور وقتله وشكا أخاه منلاوس، فبرأه أنطيوكس لمال دفعه إلى أحد أعوانه وقتل ثلاثة رجال من رسل اليهود إليه، وعاد ياسون من مقره وهاجم أورشليم بألف رجل، فهرب منلاوس إلى القلعة، وأخذ ياسون يذبح أهل وطنه بلا شفقة، ولكن تقوى عليه الجمهور، فطرده ومات غريبا في مصر، وبلغ أنطيوكس خبر ثورته فزحف إلى أورشليم، فأهلك من أهلها ثمانين ألفا في ثلاثة أيام وباع منهم كثيرين، وانتهب الهيكل وكان ذلك سنة 170ق.م (مكا ف4 عدد 7).
وعند عودته من غزوته الرابعة لمصر أرسل أبولينوس أحد أعوانه إلى مدن اليهودية بعسكر، وأمره أن يذبح كل يافع من اليهود، وأن يبيع النساء والأولاد، ثم أتى أورشليم وتربص إلى يوم السبت، وأهلك كثيرا منهم وانتهب المدينة، وهدم بيوتها وأسوارها وسبى النساء والأولاد وأخذ المواشي، وحصن مدينة داود وجعلها قلعة لجنوده وعمد إلى إكراه اليهود على ترك سنتهم، وعبادة آلهته (مكا 1 ف1 ومكا 2 فصل 5) بقساوة بربرية وأعذبة متنوعة.
وخرج حينئذ من أورشليم كاهن اسمه متتيا بن يوحنا، وسكن في مودين (في جهة اللد)، وكان له خمسة بنين وقدم إليه عمال الملك وكلفوه أن يوقع بالطاعة على أمر الملك، فأبى وأقبل يهودي ليذبح على مذبح الأوثان فقتله على المذبح، وقتل عامل الملك ونادى كل من غار لشريعة الرب، فليخرج ورائي، وهرب هو وبنوه إلى الجبال، واجتمع إليهم جماعة من أهل البأس وانضم إليهم الفارون، وجال متتيا في البلاد برجاله، وهدموا المذابح الوثنية وختنوا كل من وجدوه أغلف، وأذلوا الآثمة ... وعند موت متتيا سنة 167ق.م، جعل ابنه يهوذا المكابي رئيسا لإخوته وقائدا للجيش الذي يتبعهم، وأوصاهم جميعا أن يحافظوهم على سنة الله، ويكافئوا الأمم المعتدين عليها.
ومن فظائع أنطيوكس أمره بقتل إلعازر؛ لأنه لم يأكل لحم الخنزير المحظور أكله بالسنة، ثم قتله الإخوة السبعة، وأمهم المسماة شموني لذلك وقد وردت قصة استشهادهم في سفر المكابيين الثاني (فصل 7)، ويسمى هؤلاء الشهداء مكابين، وفي هذه التسمية خلاف بين العلماء، والأظهر فيها أنها مأخوذة من أربعة حروف م ك ب ي ... تبتدئ بها بالعبرانية أربع كلمات تأويلها «من مثل الرب بين الآلهة.» كانوا يرسمون هذه الحروف على أعلامهم.
وجاء في سفر المكابيين الثاني (فصل 8 عدد 1 وما يليه) أن يهوذا المكابي، ومن معه كانوا يتسللون إلى القرى، ويضمون إليهم من ثبتوا على دين اليهود حتى جمعوا ستة آلاف رجل، وجعلوا يفاجئون المدن والقرى، وينكلون بالمارقين فحشد أبولونيوس والي السامرة من قبل أنطيوكس جيشا، وأتى إليهم فخرج يهوذا المكابي فقتله وخلقا كثيرا من جيشه، وسمع شارون قائد جيش سورية، فأراد أن يأخذ بثأر أبولونيوس، فجهز جيشا على يهوذا فخرج عليه بعدد يسير، ومع ذلك نصره الله على شارون وقتل من جنده ثمانمائة رجل وهزم الباقين.
ولما بلغت أخبار هذه الأحداث إلى أنطيوكس استشاط غضبا، وجمع جيشه عازما أن يبيد اليهود عن آخرهم، لكنه لم يجد في خزائنه مالا لنفقات الحرب، فأمر ليسياس على فريق من الجيوش، وعهد إليه بتدبير المملكة من الفرات إلى مصر، وسار هو بفريق من الجنود إلى ما وراء الفرات ليجبي الأموال، ودعا ليسياس بطليماوس ونكاتور وجرجياس من قادة الجيش، وسيرهم بأربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس؛ لينتقموا من اليهود، فبلغ الجيش إلى عماوس فابتهل يهوذا والشعب إلى الله بالصوم والصلاة، وأقبل يهوذا وعسكره على عسكر الملك، واندفعوا عليهم فهزموهم وقتلوا منهم ثلاثة آلاف رجل، وكان جرجياس انفرد بقسم من الجنود ويريد مباغتة يهوذا، فعاد يهوذا إليه وبدد شمله وقتل منهم كثيرين، وعلم يهوذا أن تيموتاوس وبكسيديس عاملي الملك يحشدان جنودا لقتاله، فانقض عليهما بعسكره، فقتل عشرين ألفا من جنودهما (مكا 2 ف8).
ووفد بعض الجنود الفارين إلى ليسياس، وأخبروه بما جرى فجمع سنة 164ق.م ستين ألف راجل وخمسة آلاف فارس، وبلغوا إلى قرب أورشليم، فالتقاهم يهوذا بعشرة آلاف فقتل من عسكر ليسياس خمسة آلاف رجل، وانهزم الباقون، وعاد ليسياس إلى أنطاكية كئيبا واغتنم يهوذا هذه الفرصة، فطهر أورشليم والهيكل من نجاسة الأمم، وقدموا ذبائح الشكر لله، ثم ضرب يهوذا الأدوميين؛ لأنهم كانوا يضايقون بني إسرائيل فظهر عليهم وأخذ الغنائم من بلادهم، وكذلك ضرب العمونيين وكان تيموتاوس واليهم جمع عسكرا منهم، فبددهم يهوذا وعاد إلى أورشليم ... فورد إليه رسل من السلط يقولون: إن الأمم اجتمعوا على اليهود وضايقوهم، ورسل من الجليل يخبرون أن الأمم خرجوا عليهم من عكا وصور وصيدا ونكلوا بهم، فسار يهوذا وأخوه يوناتان إلى السلط وسير أخاه سمعان إلى الجليل، فانتصر الفريقان على الأعداء ونكلوا بهم وكبتوهم، وعظم اسم يهوذا وإخوته في عيني بني إسرائيل والأمم (مكابيين 1 ف3 و4 و5 ومكابيين 2 فصل 8).
أما أنطيوكس فلما كان يجول في شمالي مملكته سمع بذكر المايس مدينة بفارس، وأن فيها هيكلا حوى كثيرا من الأموال وسجوف الذهب والأسلحة، فأتى إليها وحاول أن ينهب الهيكل، فثار عليه أهلها وقاتلوه فهرب إلى بابل، فأتاه مخبر أن جنوده بددها اليهود وأن ليسياس انهزم من أمامهم، فقال: «لآتين أورشليم وأجعلها مدفنا لليهود.» فضربه الله بداء في أحشائه، وأمر سائق عجلته أن يجد في السير فسقط من مركبته، فترضض ونتن جسده وتساقط لحمه، ونزل عن كبريائه وخشع إلى الله واعدا بأن يجعل أورشليم مدينة حرة، ويساوي اليهود بأهل أثينا، فلم يسمع الله له وقضى عليه سنة 163ق.م (مكا 1 ف6 فصل 9). (11) في أنطيوكس الخامس وما كان في أيامه
هو ابن أنطيوكس إبيفان، رقي بعد وفاة أبيه إلى منصة الملك، ولقب أوباتر أي: الشريف أبا، وكان أبوه لدى احتضاره نصب فيلبوس أحد قادة جيشه مدبرا للملك، ووصيا على ابنه الملك الصغير، فعدل ليسياس عن مشاحنة اليهود إلى تمكين منصبه في تدبير الملك، ووقاية الملك الصغير من منازعة ديمتريوس ابن عمه له فيه، فأمن اليهود وأباحهم مباشرة فروض دينهم وشريعتهم، وأرسل إليهم رسالة من الملك بذلك ، وبقيت بقلبه حزازات من يهوذا المكابي لكسره جنوده، وإلحاق العار به فاستراح اليهود، ويظهر أن ضرب يهوذا العشائر المار ذكرها كان بهذه الفرصة ... وكان فيها أيضا ما جاء ذكره في الفصل الثاني عشر من سفر المكابيين الثاني، ومن ذلك أن أهل يافا دعوا اليهود مواطنيهم أن يركبوا هم ونساؤهم وأولادهم سفنا أعدوها لهم، ووثق اليهود بهم إذ لم تكن عداوة بين الفريقين، ولما أمعنوا في البحر أغرقوهم، فسار يهوذا المكابي ليلا إلى يافا فضربها وفر كثيرون من أهلها إلى السفن فأحرقها وهم فيها، وكذلك فعل بأهل يمنا (يبنة الآن بين يافا وأشدود)، وسار يهوذا ينوي الإيقاع بتيموتاوس عامل الملك؛ لأنه كان علة لهذه الشرور، فضربه في عبر الأردن، وأهلك من جيشه خلقا كثيرا وافتتح عدة مدن في عبر الأردن.
وكان في قلعة أورشليم حامية من قبل الملك، وكانوا يمنعون بني إسرائيل من الدخول إلى الهيكل، ويتعمدون الإضرار بهم في كل فرصة، فحشد يهوذا الشعب وحاصروا الحامية، فخرج بعضهم من القلعة وانضم إليهم بعض المارقين من اليهود، ومضوا يشكون اليهود، فسر ليسياس بهذه الشكوى ليثأر من يهوذا المكابي، وحمل الملك على حشد جيش نحو مائة ألف راجل وعشرين ألف فارس واثنين وثلاثين فيلا وعلى المسير إلى اليهود، فحاصر بيت صور في جنوبي أورشليم فجمع يهوذا المكابي رجالا فاستظهروا على الأعداء أولا وقتلوا منهم جماعة، ولكن رأى يهوذا كثرة جيش الملك فتنحى هناك فحاصر الملك أورشليم أياما إلى أن نفد الزاد، فتفرق أهلها، وكان بالعناية الربانية أن فيلبوس الذي كان أنطيوكس إبيفان قد أقامه مدبرا لابنه، وهزمه ليسياس إلى مصر اغتنم فرصة غياب الملك وليسياس فهب إلى أنطاكية وتبوأ تخت الملك، فأكره الملك على عقد الصلح مع اليهود، وتركهم وما يدينون وصافى المكابي ونصبه حاكما من عكا إلى آخر بلاد اليهود، وأسرع الملك بالعود إلى أنطاكية، فافتتحها وطرد فيلبوس منها وروى يوسيفوس أنه قتله (مكا 1 فصل 6 ومكا 2 فصل 13).
قد مر أن ديمتريوس بن سلوقس الرابع كان أبوه قد أرسله إلى رومة؛ ليكون رهينة بدلا من عمه أنطيوكس ابن أنطيوكس الكبير، وكان له حق الملك لأن سلوقس أباه كان بكر أنطيوكس الكبير، ولما علم أنطيوكس إبيفان طلب من الديوان الروماني إجلاسه على تخت أبيه، فأبوا مؤثرين أن يملك أنطيوكس الخامس وهو صغير ضعيف على أن يملك ديمتريوس وهو شديد البأس، وطلب العود إلى وطنه فأنكروه عليه، فانسل من رومة خفية فسافر مسرعا، وبلغ إلى طرابلس، وشاع أن الرومانيين أرسلوه ليجلس على تخت أبيه، ويسترد ملكه وأنهم مصممون على معاونته، فحل الرعب في قلبي أنطيوكس الخامس وليسياس مدبره وارفض الجمهور عنهما، وانحازوا إلى ديمتريوس، وقبض بعض جنود أنطيوكس على مولاهم ومدبره، وأتوا بهما إلى ديمتريوس فقال: «لا تروني وجههما.» فقتلوهما واستوى ديمتريوس على منصة الملك سنة 162 (يوليب فصل 114 وأبيان في السوريين وسفر المكابيين 6 ف7). (12) في ديمتريوس الملك وحربه مع يهوذا المكابي
لقب ديمتريوس بعد استوائه على العرش سوتر أي: المخلص، وكان ليسياس أشرب أنطيوكس الخامس المقت لمنلاوس المار ذكره فقتله، وأقام مكانه في رياسة أحبار اليهود رجلا كان اسمه يواقيم، فبدله بالكيمس ليكون شبيها بأسماء اليونان، فلما ارتقى ديمتريوس إلى منصة الملك أتى الكيمس وبعض المارقين من اليهود يسعون بيهوذا المكابي وإخوته، ومن يضادهم من الشعب، فأرسل الملك بكيديس بجيش كثيف إلى اليهودية، فأتى إليه بعض مقدمي الشعب يطلبون الأمان، فقبلهم بالترحاب خدعة وحلف لهم أنه لا يريد بهم سوءا، ثم قبض على ستين رجلا وقتلهم بيوم واحد، وذبح غيرهم وسلم البلاد إلى الكيمس، وقفل راجعا وانضم إلى الكيمس بعض الأشرار، فأنزلوا بإخوتهم الصالحين مضار، فلم يتحمل يهوذا فظائعهم وهب إليهم يردعهم عنها، فعاد الكيمس إلى الملك يشكو يهوذا بمعارضة أوامره، فأرسل الملك نيكانور أحد قادة جيشه ومعه عسكر جرار لإبادة اليهود، فتودد نيكانور إلى يهوذا خدعة، فشكاه الكيمس بأنه ممالئ له، فشدد الملك على نيكانور بأن يضرب يهوذا فخرج إليه بجيش والتقيا عند كفر سلامة، فقتل من عسكر نيكانور خمسة آلاف رجل، وفر الباقون إلى مدينة داود، وأتى نيكانور نحو الهيكل فخرج الكهنة وبعض الشيوخ يستعطفونه، فأقسم أنه يحرق الهيكل إذا لم يسلموا إليه يهوذا ورجاله، وانصرف حنقا وخرج من أورشليم ونزل ببيت حورون (بيت أور) فأتى يهوذا والتحم القتال بين الجيشين، فانكسر جيش نيكانور، وكان هو أول القتلى وتشتت جيشه وألقوا سلاحهم هاربين، ونفخ رجال يهوذا بالأبواق فالتقاهم الناس من كل فج، فأبادوهم عن آخرهم وقطعوا رأس نيكانور ويمينه التي مدها نحو الهيكل مهددا بأنه سيخربه ... وكان ذلك في 13 آذار سنة 161ق.م (مكا 1 ف7 ومكا 2 ف14 و15 ويوسيفوس تاريخ اليهود ك12 ف16)، فاعتاد اليهود أن يعيدوا لهذا الانتصار في اليوم المذكور، ولما كان يهوذا يعلم ما للرومانيين من العظمة والصولة، وما يتأتى من قتل نيكاتور قائد ديمتريوس، وقرض جنوده أرسل رجلين من أعيان شعبه إلى رومة يطلب عقد الموالاة مع الرومانيين، فرحب رجال الشورى بموفديه وكتبوا كتابا على صفيحة من نحاس مثبتا الموالاة والمناصرة بين الرومانيين واليهود ... وترى نسخة هذا الكتاب مثبتة في الفصل الثامن من سفر المكابيين الأول.
أما ديمتريوس فوغر صدره على يهوذا، وأرسل بكيديس والكيمس بجيش كبير وأتوا إلى بئروت (البيرى)، ولم يكن مع يهوذا إلا ثلاثة آلاف رجل أبق بعضهم خوفا، ولم يبق معه إلا ثمانمائة رجل صرفوا جهدهم ليصرفوه عن الحرب، فقال: «حاشاي أن أهرب فلنموتن عن إخوتنا.» واصطلت نار الحرب وكان بكيديس في الميمنة فقصده يهوذا ومعه كل ذي قلب جلمودي، فكسر يهوذا الميمنة وأوغل في لحاقها، فانقلبت ميسرة العدو على آثار يهوذا، واشتد القتال فسقط كثيرون من الفريقين ... وفي جملتهم يهوذا البطل الصنديد، فحمله يوناتان وسمعان أخواه ودفناه في قبر آبائه بمودين، فبكاه شعب إسرائيل بكاء مرا، واختاروا يوناتان أخاه قائدا مكانه (مكا 1 ف9).
وجد بكيديس في قتل يوناتان وسمعان أخيه، ففرا إلى تقوع في عبر الأردن، فلحقهما بكيديس والتحم القتال واتصل يوناتان إلى بكيديس ومد يده ليضربه، فانصاع إلى الوراء فأفلت ولكن قتل من جنوده ألف رجل، فعاد بكيديس إلى أورشليم وحصنها وعدة مدن أخرى، وأمر الكيمس الحبر الخئون أن يهدم حائط قدس الأقداس، فضربه الله باعتقال لسانه ومات بعذاب أليم سنة 160ق.م، فعاد بكيديس إلى الملك، ومعه رهائن من اليهود فهدأت أرض يهوذا سنتين، ثم ائتمر بعض المارقين من اليهود، وأرسلوا وفدا إلى بكيديس حمله على العود إلى أورشليم بجيش كثيف، وكتب إلى نصرائه أن يقبضوا على يوناتان فانصرف هو وأخوه سمعان إلى بيت حجلة (عين حجلة قرب أريحا)، وحصنها فقصده بكيديس بعسكره، وحاصر بيت حجلة أياما فاستظهر المكابيون عليه وضايقوه فاستشاط غيظا ممن حملوه على العود إلى أورشليم، وعقد صلحا مع يوناتان وحلف له أنه لن يطلبه بسوء كل أيام حياته ورد إليه الأسرى، وعاد إلى أنطاكية واستولى الأمان في بني إسرائيل وأخذ يوناتان يحاكم الشعب ويستأصل المارقين (مكا 1 ف9).
وعكف ديمتريوس على ملاذه ومعاقرة الخمرة، وما تجر إليه وأنف الاهتمام بمهام المملكة، فكانت عليه مؤامرة دخل بها بتولمايس ملك مصر لخلاف بينه وبين ديمتريوس على قبرس، وأثار ملك برغام وأريارات ملك الكبادوك لمحاربة ديمتريوس لهما، وأوعزا إلى هركليد خازن أنطيوكس إبيفان أن يجد رجلا يدعي أنه ابن أنطيوكس إبيفان، وينازع ديمتريوس الملك، فوجد رجلا اسمه بالا أهلا لما اختير له، وقال بعضهم: إنه كان ابن أنطيوكس إبيفان حقا (سترابون ف13 ويوسيفوس ك13 فصل 2)، وأقر له الملوك الثلاثة المذكورون أنه ابن أنطيوكس ونال من الندوة الرومانية كتابا يخولونه به أن يعود إلى سورية، ويسترد ملكه ووعدوه بالمعاونة له، فرجع إلى سورية وحشد جنودا واستحوذ أولا على عكا، وسمى نفسه إسكندر وانضم إلى رايته كثيرون (بوليب ف33 ف16)، وكان ذلك سنة 153ق.م.
وكان ما مر عناية ربانية باليهود؛ لأن الملك إسكندر لحاجته إلى مناصرين كتب إلى يوناتان مسميا إياه أخاه، وسأله أن يكون له وليا ونصيرا وأقامه رئيس أحبار في أمته، وأرسل إليه أرجوانا وتاجا من ذهب مما لا يلبسه إلا الملوك، واستمرت هذه الرياسة في ذرية المكابيين إلى أيام هيرودس، وعلم ديمتريوس الملك بما أجراه إسكندر ليوناتان، فأراد أن يزيد عليه نعمه ليستميله إليه، فكتب إليه معظما له وعافيا اليهود من كل ضريبة وجزية ومكس، ووهب عكا وما يليها للهيكل وجعل نفقة البناء والترميم في الهيكل، وأسوار أورشليم من خزينة الملك، فلم يثق يوناتان ولا الشعب بهذه الوعود، وآثروا إسكندر على ديمتريوس وتسعرت الحرب بين الملكين مدة ثلاث سنين، وكان الملوك الثلاثة المذكورون ينجدون الملك إسكندر، فظهر على ديمتريوس وقتله بالحرب، واستتب الملك لإسكندر سنة 150ق.م، وكانت مدة ملك ديمتريوس 12 سنة (إسترابون ك16 فصل 2 ويوسيفوس ك13 ف2 ومكا1 ف10). (13) تتمة أخبار الملك إسكندر بالا
إن الملك إسكندر بالا كتب إلى بتلمايس ملك مصر يطلب إليه أن يزوجه بنته فلوبطرة، فأجابه بتلمايس إلى ما طلب وأتى بابنته إلى عكا، فزفها إلى الملك إسكندر، ودعا الملك إسكندر بوناتان إلى العرس، وبالغ في التجلة له ووشى به بعض المارقين من بني إسرائيل، فلم يصغ الملك إليهم بل ألبسه أرجوانا وأجلسه بجانبه وأخرجه إلى وسط المدينة، وجعل منادين ينادون أن لا يتعرض أحد لأمره، وجعله قائدا وشريكا في الملك، وروى يوسيفوس (ك2 من رد مزاعم إبيون) أن أونيا بن أونيا الثالث لجأ إلى بتلمايس فيلوباتر؛ ليأذن ببناء هيكل في مصر كهيكلهم في أورشليم، فأذن به وبأن تكون الرياسة في هذا الهيكل لأونيا المذكور، فقاومه اليهود بأن سنتهم لا تبيح بناء هيكل في غير أورشليم، فحجهم بنبوة إشعيا (ف9 عدد 18) «في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في داخل أرض مصر.»
وعكف الملك إسكندر على ملاذه، وغفل عن مهام المملكة، فكثر الأنين منه وكان ديمتريوس بكر ديمتريوس الأول فارا إلى إكريت، فانتهز هذه الفرصة وأتى إلى قيليقية ولبى قوم دعوته، فاستحوذ على هذه البلاد، فصحا إسكندر من سكر غفلته وسار بجيش لقتال ديمتريوس، وكتب إلى حميه بتلمايس ملك مصر أن ينجده، واستمر يوناتان على إخلاصه بالطاعة للملك إسكندر، وكان ديمتريوس أعاد أبولينوس إلى ولاية سورية، فحمل يوناتان على القتال، فخرج من أورشليم بعشرة آلاف رجل، وتبعه أخوه سمعان، فحاصر يوناتان وفتحها وكانت موقعة بينه وبين أبولينوس انتصر بها يوناتان على جيشه، ففروا إلى أشدود، ودخلوا بيت داغون فأحرقه يوناتان والمدينة وضواحيها، وكان عدد القتلى منهم ثمانية آلاف رجل، فبعث الملك إسكندر إلى يوناتان عروة من ذهب، ووهب له عفرون وتخومها.
أما بتلمايس ملك مصر فسار إلى سورية بجيش كثيف، وسفن كثيرة مظهرا إنجاد صهره، ومبطنا التقام مملكته، ففتحت له مدن سورية أبوابها، فاستحوذ على المدن الساحلية إلى سلوقية (السويدية)، ودخل أنطاكية ووضع على رأسه تاجين تاج آسيا وتاج مصر، وبلغ ذلك إلى إسكندر وهو بقيليقية فخف لقتال حميه بتلمايس، وتسعرت نار الحرب بينهما، فدارت رحاها على الملك إسكندر، وفر إلى أحد أمراء العرب، فقطع رأسه وأرسله إلى بتلمايس، لكن بتلمايس لم يعش بعد ذلك إلا قليلا، وقضى الملكان سنة 146، وعلى رواية أخرى سنة 145ق.م، واستتب الملك لديمتريوس الثاني. (14) في ديمتريوس الثاني وما كان في أيامه
هو ابن ديمتريوس الأول استتب له الملك سنة 145ق.م، لكنه أساء المسعى منذ بدء ملكه؛ لأنه أمر بقتل الحرس الذي كان بتلمايس ملك مصر قد أقامهم في سورية، فحنق منه الجنود المصريون الذين هزموا عدوه الملك إسكندر حتى اتصل هو إلى الملك فغادروه وقفلوا إلى مصر، وأخذ يقتص بالقتل أو التنكيل من كل من خالفه أو خالف أباه، وترك السواد الأعظم من جنوده، ولم يبق عنده إلا جنود أتوا معه من إكريت وبعض الأجانب، فمقته الشعب وعاداه الجنود الذين أعدمهم رزقهم.
ورأى يوناتان استتباب الراحة باليهودية، فحاصر قلعة أورشليم لينقذ شعبه من مضايقة الحامية التي كانت بها، فاستشاط ديمتريوس غضبا عليه، وأسرع إلى عكا وكتب إلى يوناتان أن يكف عن حصار القلعة ويبادر إليه، فأبقى الحصار وشخص إليه بهدايا وتقادم نفيسة فاسترضاه وأقره ديمتريوس على رياسته واختصاصاته، وعفا اليهودية والمدن الملحقة بها من السامرة من الجزية وغيرها من الضرائب، وترى رسالته بذلك مثبتة في سفر المكابيين الأول (ف11)، وعاد ديمتريوس إلى أنطاكية ومعاقرة الخمرة والانكباب على المعاصي.
فانتهز تريفون (الذي كان الملك إسكندر بالا قد أقامه على تدبير المملكة بغيابه)، فرصة مقت الشعب والجنود لديمتريوس، وسار إلى أمير العرب الذي كان عنده أنطيوكس بن إسكندر بالا، فأتى به إلى أنطاكية، وانضوى إليه أعداء ديمتريوس الكثيرون ونادوا به ملكا، فأرغم ديمتريوس أن يفر من أنطيوكس، وأجلسوا أنطيوكس على منصة الملك، فكان السادس بهذا الاسم ولقبوه ثاوس الإله، وكان ذلك سنة 144ق.م، وسترى أن ديمتريوس عاد إلى الملك. (15) في ما كان في أيام أنطيوكس السادس
إن ديمتريوس كان قد أخلف وعوده لليهود، فاتخذ تريفون مدبر أنطيوكس ذلك وسيلة ليستميل يوناتان إلى محازبة الملك، وجعله يكتب إليه أنه أقره في رياسته، وأقامه على اليهودية وملحقاتها وأباح له أن يشرب بآنية من ذهب ويلبس الأرجوان، وأقام سمعان أخاه قائدا للجيش من صور إلى تخوم مصر، وخرج يوناتان إلى عبر الأردن، فجهز عسكرا كبيرا قسمه قسمين قاد هو فريقا وأخوه سمعان فريقا آخر وأدوا الملك خدمات تذكر فتشكر، وجال يوناتان في البلاد إلى دمشق فالتقاه قادة جيش لديمتريوس عند بحيرة طبرية فناوشوه القتال، وأكمن له فريق في الجبل فانهزم الأكثرون من رجال يوناتان فجثا مصليا، ثم استأنف القتال بمن بقي معه فانتصر على أعدائه، ولما رأى ذلك من فروا من رجاله عادوا لمعاونته، وقتلوا منهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل.
وبلغ يوناتان أن قواد ديمتريوس عادوا لقتاله، فالتقاهم إلى أرض حماة وأرسل جواسيس فأخبروه أنهم مزمعون أن يهاجموه ليلا، فأمر جيشه أن يسهروا وسلاحهم بأيديهم، ولما علم الأعداء تيقظهم داخلهم الرعب وفروا وتعقبهم يوناتان إلى أن عبروا العاصي، وأما أخوه سمعان فاستحوذ على يافا إذ كان بها محازبون لديمتريوس وأقام حامية بها وزادا في تحصين أورشليم، والفصل بين القلعة والمدينة، وسير يوناتان إلى رومة رسلا لتقرير الموالاة بين الرومانيين واليهود، فكتب الرومان إلى مناصريهم الرسالة المثبتة في سفر المكابيين الأول (ف15) يعلنون فيها مناصرتهم لليهود، وكتب يوناتان مع رسله المذكورين رسالة إلى أهل إسبرطة (في المورة) تراها في ف12 من سفر المكابيين الأول، ويظهر منها أنه كانت قربى بين اليهود والإسبرطيين اختلف العلماء فيها، فمن قائل: إنه لم تكن قربى بل إخاء ووداد، ومن قائل: إن القربى كانت من قبيل أن الإسبرطيين من ولد إحدى امرأتي إبراهيم وهاجر أو فطورة، أو من ولد امرأة لعيسو اتخذها من اليونان، أو من ولد قدموس الفونيقي، وعن القديس أرتيموس (في تفسير ف23 من نبوة إشعيا) أن كثيرين من اليهود فروا إلى بلاد اليونان لما استحوذ بختنصر على اليهودية وأخرب أورشليم. (16) اغتيال تريفون يوناتان وأنطيوكس السادس
كان تريفون هائما بالملك، ولم يرق أنطيوكس إليه إلا ليحطه يوما عنه ويجلس مكانه، وكان يخشى من يوناتان، ويحب أن يهلكه وسار بعسكر إلى بيسان فالتقاه يوناتان بأربعين ألفا، فلم يجسر أن يمد إليه يدا بل تودد إليه، وأسمعه أن لا حاجة إلى رجاله بل أن يسير معه إلى عكا، فيسلمها إليه وسائر الحصون، فاغتر يوناتان بكلامه وصرف جيشه وبقي معه ثلاثة آلاف ترك ألفين منهم في الجليل، وسار معه إلى عكا بألف رجل، ولما دخلا المدينة أمر تريفون بإغلاق أبوابها، وقبض على يوناتان وأهلك من كانوا معه وزحف تريفون من عكا بجيش كثيف ومعه يوناتان مخفورا، وعلم أن سمعان قام في مكان أخيه، فأرسل إليه رسلا يقول: «إنما قبضنا على يوناتان لمال عليه للملك فأرسل مائتي قنطار فضة وابني يوناتان رهينة؛ لئلا يغدر بنا إذا أطلقناه، فعلم سمعان مكره ولكن خاف من أن يقال: إنه أضر بالشعب؛ لأنه لم يرسل ما طلب تريفون فأرسل المال والولدين، واستمر تريفون يغير على البلاد ويدمرها وسمعان وجيشه يقاومونه، وارتحل تريفون إلى السلطة، وقتل يوناتان ودفنوه هناك سنة 143ق.م، وأرسل سمعان فأخذ رفاته ودفنه في مدافن آبائه في مودين، وناح عليه بنو إسرائيل نوحا عظيما أياما، وأقام سمعان على مدافن إخوته بناء رفيعا، ونصب سبعة أهرام لأبيه وأمه وإخوته وعلى مدفن صنعه لنفسه، وبقيت هذه المدافن إلى أيام يوسيفوس والقديس إيرونيموس، إذ ذكراها في مورين وتسمى اليوم المدية بجانب اللد، وقد كشف عنها العالم كاران، وحقق في مجلد 2 من السامرة صفحة 55 أنها هي هي مدافن المكابيين، وتابعه غيره من العلماء على ذلك.
وأما تريفون فعاد إلى أنطاكية، ولم يبطئ أن اغتال أنطيوكس السادس بحجة أنه مريض مرض الحصاة، فدعا أطباء لإخراج الحصاة، فقتلوه بعمليتهم ولم يكن من يثأر بدمه، وملك مكانه (مكا1 فصل 13 وطيط ليف فصل 13 وأبيان فصل 68)، وكان ذلك سنة 42ق.م. (17) في ما كان في أيام تريفون
كتب سمعان المكابي إلى ديمتريوس وهو في اللاذقية لاهيا بملاذه أن ينجدهم لإزالة الضرائب التي يطلبها تريفون، وأهدى إليه إكليلا وسعفا من ذهب، فكتب ديمتريوس إليه كتابه المثبت في الفصل الثالث عشر من سفر المكابيين الأول به يثبت له ولأمته كل ما كان لهم قبلا من الاختصاص والعفو، فسار سمعان إلى غزة وحاصرها حتى صعد أهلها على الأسوار يسألون الأمان، فأمنهم ودخل المدينة بالابتهاج وضايق من كانوا بقلعة أورشليم حتى مات بعضهم جوعا، واستأمنوا فأمنهم وأخرجهم من القلعة وطهرها، وأقام ابنه يوحنا قائدا على جميع الجيش وجعل يافا مرسى للسفن ووسع تخوم مملكته، وكتب الشيوخ والكهنة والشعب سنة 139ق.م صكا لسمعان أقروا له ولإخوته بالفضل، وأقروه قائدا لأمتهم ورئيسا لأحبارهم، ووقعوا على هذا الصك في صفيحة من نحاس حفظت في خزانة الهيكل، وأفاق ديمتريوس من غفلته وحارب تريدات ملك البرتيين، فانتصر عليه هذا الملك وأخذه أسيرا لكنه أكرم مثواه وزوجه بابنته، ولما علمت فلوبطرة امرأته بأسره تحصنت مع أولادها في السويدية، وترك كثيرون من الجنود تريفون لاعتسافه ولاذوا بفلوبطرة المذكورة، ولما بلغها أن زوجها زفت إليه بنت ملك البرتيين راسلت أنطيوكس صيدات أخا زوجها أن يتزوجها، فأجابها إلى ما طلبت وكتب إلى سمعان المكابي رسالته المثبتة في الفصل 15 من سفر المكابيين يستحثه على مناصرته لطرد تريفون، ويبيحه أن يسك سكة خاصة أيضا، وسمى نفسه ملك سورية وحمل عليها بجيش نحو مائة وعشرين ألفا، وانضم إليها من كانوا عند فلوبطرة، ولما رأى تريفون عجزه عن مناوأة أنطيوكس السابع هذا فر من وجهه، وأحرق بيروت وسار إلى الطنطورة قرب عكا، فحاصره أنطيوكس بها بحرا وبرا، فهرب تريفون إلى طرطوس، ثم إلى حماة موطنه فقبض عليه هناك وقتل سنة 138ق.م. (18) حرب أنطيوكس السابع واليهود وباقي أخباره
لما حاصر أنطيوكس تريفون في الطنطورة أرسل سمعان المكابي لنجدته ألفي رجل منتخبين وفضة وذهبا وآنية، ولكن لما رأى الملك فرار عدوه من وجهه آثر اتباع خطة أكثر أسلافه في مناصبة اليهود، ولم يقبل رجال سمعان ولا هداياه ونقض عهده له، وأرسل إليه أحد حاشيته يطلب رفع يده عن يافا وجازر وقلعة أورشليم، وتأدية خراجها، فلم يجبه سمعان إلى طلبه، فاستشاط الملك غضبا وأقام كنديارس قائدا على جيش سيره لقتال اليهود وأغار الجيش على اليهودية، وكان سمعان قد شاخ فأرسل ابنيه يهوذا ويوحنا بعشرين ألف رجل منتخبين، والتقوا بجيش الملك فكسروه وقتلوا منه جماعة كثيرة، وجرح يهوذا بن سمعان فتعقبهم أخوه يوحنا وفروا إلى بروج في أشدود فأحرقها، وقتل منهم كثيرين، وأقام الملك بطلماوس صهر الكاهن الأعظم قائدا في بقعة أريحا وكان غنيا، فسولت له نفسه أن يستولي على البلاد، ويقتل سمعان وبنيه ومضى سمعان وابناه مقتفيا يهوذا إلى هناك، وأدب لهم بطلماوس وأكمن رجالا وثبوا عليهم وقتلوهم بخيانة فظيعة، وأعلم الخائن أنطيوكس بما عمل وأرسل رجالا ليقتلوا يوحنا بن سمعان أيضا، فقبض يوحنا عليهم وقتلهم عن آخرهم، وروى يوسيفوس ك13 ف5 وأوسابيوس ك2 من تاريخه ف19 أن يوحنا أتى أورشليم، وحشد الرجال على بطلماوس وحاصره في محله ، وكان الخائن أسر أم يوحنا وأخوين له، فأصعدهم إلى أعلى السور متهددا يوحنا بأنه يلقيهم إلى أسفل إن لم يرفع الحصار، فرفعه شفقة على أمه وأخويه، لكن الخائن قتلهم بعد ذلك وفر إلى ملك عمان، وغشى أنطيوكس السابع اليهودية بعسكره، وأخرب ودمر وحاصر أورشليم، لكنه خوفا من الرومانيين صالح يوحنا على شروط لم تكن ثقيلة على اليهود، ويوحنا هذا يلقب هركان، وقد خلف أباه في الرياسة الروحية والولاية على اليهودية.
أما ديمتريوس أخو أنطيوكس، فكان باقيا في أسر متريدان ملك البرتيين وحاول الهرب والعود إلى سورية فلم يستطع، وكان متريدان يطمع بأن يتولى سورية وأخذ يستجيش بحجة أن يرد صهره ديمتريوس إلى سورية، فيتولى هو عليها، وأراد أنطيوكس أن يتدارك ذلك فحشد جيشا لا يقل عن ثمانين ألف رجل، فاستظهر أولا على ملك البرتيين واسترد منه بابل وماداي، وخلعت جميع أعمال المشرق نير الطاعة للبرتيين وخضعت لأنطيوكس ، وربما كان حينئذ ما رواه يوسيفوس (ك13 فصل 16) عن نقولا الدمشقي أن أنطيوكس هذا أقام قوس انتصار على عدوة نهر الكلب ذكرا لانتصاره على أندات قائد جيش البرتيين، واستمر أنطيوكس وجيشه يقضون فصل الشتاء سنة 130ق.م في أعمال المشرق، وتفرقوا في محال كثيرة آمنين، وأثقلوا على الأهلين واستطالوا فتآمروا مع البرتيين ووثبوا عليهم في يوم واحد في كل المحال، فلم يمكنهم أن يجتمعوا فقتلوهم وارتكم الأعداء على أنطيوكس وقتلوه، ومن لم يقتل أخذ أسيرا ولم يفلت إلا قليلون (يوستينوس ك38 فصل 9 و10 وأبيان ف96). (19) عود ديمتريوس الثاني إلى الملك بسورية
إن ملك البرتيين بعد أن انتصر عليه أنطيوكس سرح ديمتريوس إلى سورية، فبلغ أنطاكية واستوى على منصة الملك، وانتهز يوحنا هركان بن سمعان المكابي هذه الفرصة، فمد حدود ولايته ووسع سلطته على أماكن كثيرة في سورية وبلاد العرب، واستبد هو وذريته في الملك على اليهود، وقلبوا المجن لملوك سورية ولم يبق لهم علاقة معهم (يوسيفوس ك13 ف17 وإسترابون ك16)، وقتل التتر ملك البرتيين فنجا ديمتريوس من مناوأته له، لكنه لم ينج من غائلة أعماله السيئة.
إن ديمتريوس كان متزوجا بفلوبطرة ابنة بتلمايس فيلوماتر، وكانت حرب بين أمها وبين زوجها بتلمايس فيكسون، فراسلت صهرها ديمتريوس ووعدته بتاج مصر فلبلى دعوتها، وأسرع بجيشه وحاصر بالوس (فرما) وكان شعبه يمقته فثار عليه أهل أنطاكية وأفاميا وغيرهما، فاضطر أن يعود إلى أنطاكية ولحقته حماته، وكانت ابنتها عادت بعد مقتل أنطيوكس إلى زوجها الأول ديمتريوس، ووصلت أمها إليها وهي في عكا، فجهز زوجها بتلمايس فيسكون جيشا أمر عليه إسكندر زبينا، وجعله يدعي أنه ابن إسكندر بالا ملك سورية وينازع ديمتريوس الملك، فانحاز إليه السواد الأعظم من سكان سورية لمقتهم ملكهم ديمتريوس ... وكان قتال بين جيش زبينا وجيش ديمتريوس في نواحي دمشق، فانكسر عسكر ديمتريوس وانهزم هو إلى عكا، حيث كانت الملكة فأرادت الانتقام منه لزواجه في مدة أسره بابنة ملك البرتيين، فوصدت أبواب عكا عليه، ففر إلى صور وقتل هناك، فأخذت امرأته قسما من الملك وملك زبينا في باقيه (يوستينوس ك38 ف8 و9 وطيطوس ليف ك39)، وكان ذلك سنة 130 إلى سنة 125ق.م. (20) في فلوبطرة امرأة ديمتريوس وزبينا
ملكت فلوبطرة أرملة ديمتريوس بعكا وجنوب المملكة، وملك زبينا في أنطاكية وشمالي المملكة، وكان سلوقس أكبر أبناء ديمتريوس قد أعلن أنه ملك سورية، وحازبه قوم من أهلها على أن أمه كانت هائمة ببقائها على الملك، وخشية أن يثأر ابنها منها بدم أبيه قتلته بيدها طاعنة له بمدية، فاستأصل طمعها الأشعبي بالملك الحنو الوالدي من قلبها، فلم يملك سلوقس إلا سنة واحدة من سنة 125 إلى سنة 124ق.م، وخافت فلوبطرة أن يثور الشعب عليها لعدم وجود ملك يخرج معهم للحرب، فملكت ابنها الصغير سنة 123ق.م، ولكن لم يكن له إلا اسم ملك، وهو لصغر سنه جعل أعنة الأمر والنهي بيدها، وسمي أنطيوكس كريبيوس (الكبير الأنف)، وهو يسمي نفسه في سكته أنطيوكس إبيفان وهو الثامن بهذا الاسم.
ولما بلغ رشده أراد أن يستبد بملكه، فلم تتحمل أمه الطماعة هذا الاستبداد، وعزمت أن تهلك ابنها هذا الثاني كما أهلكت الأول، وتقيم على أريكة الملك آخر لها من أنطيوكس السابع، وهو حدث فتستمر أزمة الملك بيدها، وعاد أنطيوكس الثامن ذات يوم إلى قصره تعبا، فهيأت له كأس شراب دست له بها سما، فسألها أن تشرب هي الكاس حرمة لها؛ لأنها أمه فأبت، فقال: «لا مناص لك لتبرئة ساحتك من شرب هذه الكأس.» ففكرت أنها إن شربت الكأس ماتت مسممة، وإن لم تشربها قتلها ابنها لمكرها فشربتها، وكانت القاضية سنة 120ق.م (طيطوس ليف ك60).
أما زبينا فثار عليه ثلاثة من عماله، واستحوذوا على اللاذقية فحاربهم وأخضعهم وعفا عنهم، ولرغبته في توطيد دعائم ملكه عقد معاهدة مناصرة مع يوحنا هركان أمير اليهود، فرسخ هذا ولايته على أمته، واستحوذ على نيديا وغيرها في شرقي الأردن، وقهر السامريين والأدوميين، وأرسل رسلا إلى رومة يجدد عهد الموالاة بينه وبينهم، فرحب بهم رجال الندوة، ولما كان أنطيوكس السابع قد انتزع من اليهود يافا وغزة وغيرهما حتمت الندوة أن ترد هذه المدن إلى اليهود، وحذروا ملوك سورية من أن يسيروا جنودهم في أرض اليهود.
وكان بتلمايس فيسكون ملك مصر يعتد نفسه ولي نعمة زبينا، فطالبه أن يكون منقادا لأمره، فأبى وعزم فيسكون أن يحطه كما رفعه واتفق مع فلوبطرة قبل موتها، وجهز جيشا عظيما وسيره إلى كريبوس ابنها وزوجه بنته تريفان، فاشتد ساعده وظهر على زبينا، ففر إلى أنطاكية وأراد أن ينتهب هيكل المشتري فيها ليقوم بنفقات الحرب، فثار عليه الأهلون وطردوه من مدينتهم، ثم قبض عليه وقتل سنة 123ق.م. (21) في أنطيوكس كريبوس وأنطيوكس الشيزيكي
قد استراح أنطيوكس كريبوس من مزاحميه في الملك، زبينا، وأمه فلوبطرة التي شربت السم، واستتب له الملك من سنة 120 إلى سنة 114ق.م، وثار عليه أخوه أنطيوكس التاسع المعروف بالشيزيكي نسبة إلى بلدة في آسيا تولى فيها وهو ابن فلوبطرة أيضا من أنطيوكس السابع وكريبوس ابنها من ديمتريوس الثاني، وخشي كريبوس أن ينازعه الملك، فأراد أن يدس له سما وشعر الشيزيكي بذلك، فجمع جيشا لأخذ الملك من أخيه، وتزوج بفلوبطرة التي كان لاتير بن فيسكون ملك مصر قد طلقها، وبدلا من المهر أتته برجال من مصر، فحارب أخاه كريبوس وانتصر كريبوس عليه، وأخذ فلوبطرة أسيرة وفتح أنطاكية، وألحت عليه امرأته تريفان بنت فيسكون ملك مصر أن يقتل فلوبطرة، فلجئت إلى معبد في أنطاكية، وأرسلت تريفان شرذمة من الجند فقتلوا فلوبطرة في الهيكل، ثم جمع الشيزيكي زوجها جيشا آخر وحارب كريبوس أخاه، فظفر به وقبض على تريفان، وأذاقها مر العذاب جزاء لقسوتها على فلوبطرة التي كانت أختها، وفر كريبوس تاركا سورية لأخيه الظافر (يوستينوس ك39 فصل 3 وبلين ك2 ف27).
وفي سنة 111ق.م عاد كريبوس إلى سورية بجيش عظيم، وظهر على أخيه الشيزيكي، ثم اتفقا وقسما مملكة سورية بينهما؛ فكان نصيب الشيزيكي فونيقي وسورية المجوفة إلى دمشق وأقام بها، ونصيب كريبوس باقي المملكة وأقام بأنطاكية، وعزم يوحنا هركان أن يلحق السامرة بولايته وأرسل ابنيه أرسطوبولس وأنتيكون فحاصراها سنة 110ق.م، فاستنجد السامريون بالشيزيكي ملك دمشق، فنجدهم بجيش تولى إمرته بنفسه، فاستظهر عليه الأخوان وانهزم، وعاد ابنا هركان لحصار السامرة سنة 109، فكتب الشيزيكي إلى بتلمايس لاتير ملك مصر، فأرسل إليه ستة آلاف جندي ضمهم ملك دمشق إلى جنده، وأخذ يخرب ويقطع الطريق على أبناء السبيل، ولم يجسر أن يناوي اليهود على السامرة فأخذوها سنة 108ق.م، ودكوها ولم يجدد بناؤها إلا في أيام هيرودس، وأصبح هركان مالكا اليهودية والجليل والسامرة ومدنا أخرى في جوارها، واستفحل أمره وعظمت صولته، لكنه توفي سنة 107ق.م وخلفه ابنه أرسطوبولس وضايق إخوته وأمه ثم ندم على ذلك، وكان شديد أسفه علة لمرض أودى به فلم يتولى إلا سنة واحدة، وخلفه أخوه يوحنا المسمى إسكندر أيضا، فحارب أهل عكا وغزة؛ لأنهم لم يخضعوا لحكومة اليهود، فلجأ أهل عكا إلى بتلمايس لاتير التي كانت أمه فلوبطرة أبعدته عن مصر وأقطعته قبرس، فهب لنجدتهم لكنهم تغيروا عليه فحل بعسكره بحيفا وراسل إسكندر أمه فأتت لنجدته ضد ابنها لاتير؛ لأنها خافت أن يملك ابنها فلسطين، ويتيسر له أن يعود إلى مصر ... ولما عرف ابنها لاتير بقدومها إلى سورية تركها، واعتزل في غزة ثم عاد إلى قبرس، وهي افتتحت عكا وجددت عهدة الموالاة لإسكندر ملك اليهود، ورجعت إلى مصر سنة 101ق.م.
وعلمت بعد عودها إلى مصر أن ابنها لاتير محالف لأنطيوكس الشيزيكي ملك دمشق، وأنه يتأهب ليسترد مملكة مصر، فزوجت أنطيوكس كريبوس بابنتها سيلانة التي كانت قد أبعدتها عن لاتير وأرسلت إليه جيشا ومالا؛ ليقوى على مقاومة أخيه الشيزيكي، فانتشبت الحرب بين الأخوين، واستمرت هذه الحرب بينهما إلى أن اغتال أحد الخونة أنطيوكس كريبوس ملك أنطاكية سنة 97ق.م، وخلفه سلوقس أكبر أبنائه، فحاول عمه أنطيوكس الشيزيكي أن ينتزع المملكة منه، فجيش وخرج عمه عليه، فاشتد القتال وظفر سلوقس بعمه وشتت جمعه، وأخذه أسيرا وقتله سنة 95ق.م، واستتب له الملك بسورية كلها (طيطوس ليف ك70 وإسترابون ك11 ويوسيفوس ك13 ف21). (22) في سلوقس السادس وأنطيوكس العاشر إلى آخر ملوكهم
قد أحرز سلوقس السادس الملك على سورية كلها بعد مقتل عمه الشيزيكي، لكنه لم يستمر عليه؛ لأن ابن عمه فر من أنطاكية عند دخول سلوقس، وأتى إلى أرواد وسمى نفسه ملكا باسم أنطيوكس وهو العاشر بهذا الاسم ويعرف بأوساب، وزحف بجيش جرار إلى سلوقس، واستظهر عليه فانهزم إلى المصيصة بقيليقية وأثقل سكانها بطلب الذخائر والتجند معه، فتألبوا عليه وأحاطوا بالدار التي كان بها، وألقوا عليها النار فاحترق مع كل من كان معه، فجمع أخواه أنطيوكس وفيلبوس رجالا وغشيا المصيصة سنة 92ق.م ففتحاها وأخرباها، فزحف إليهما أنطيوكس أوساب وانتشبت الحرب بينهما عند العاصي فاستظهر عليهما، وغرق أنطيوكس بالعاصي، وكان سمي ملكا فهو الحادي عشر بهذا الاسم، وأما أخوه فيلبوس فنجا وعاد إلى منازعة أوساب الملك، وتزوج أوساب بسيلانة أرملة أنطيوكس كريبوس ليعزز ملكه، وكانت هذه الملكة قد استبقت لنفسها بعض أعمال من المملكة، وكان لها جنود ذوو بأس فتعزز جانب أوساب، على أن بتلمايس لاتير، التي كانت سيلانة امرأته، لم يصبر على هذه الإهانة له، فدعا ديمتريوس رابع أبناء كريبوس وسماه ملكا على دمشق، بينما كان أوساب وفيلبوس بن كريبوس متشاغلين بالحرب، فخلا الجو لديمتريوس في دمشق، ثم ظهر فيلبوس على أوساب وهزمه فلجأ إلى متريدان الثاني ملك البرتيين، وغدا ملك سورية مشطرا بين ديمتريوس في دمشق وفيلبوس بأنطاكية، وهما أخوان ابنا أنطيوكس كريبوس.
أما أوساب فأمده البرتيون بجيش وعاد سنة 89ق.م، فاستحوذ على بعض الأعمال التي كانت له أولا، وكانت له حروب مع فيلبوس، ثم إن أنطيوكس دانيس خامس أبناء كريبوس زحف إلى أخيه ديمتريوس بجيش، فاستولى على دمشق وسمى نفسه ملك سورية المجوفة، وهو الثاني عشر باسم أنطيوكس واستمر على ذلك إلى سنة 86ق.م.
وضاق ذرع السوريين وعيل صبرهم عن اعتساف ملوكهم وحروبهم المتصلة، فصمموا على اختيار ملك أجنبي، وانتخبوا تغران ملك أرمينية وأرسلوا إليه وفدا فلبى دعوتهم، فملك بسورية سنة 83ق.م، واستمر ملكه ثماني عشرة سنة، وطرد تغران أوساب فانهزم إلى قيليقية، وقضى ما بقي من عمره خامل الذكر، وفيلبوس الظاهر أنه قتل في إحدى مواقع الحرب، وسيلانة امرأة أوساب تمكنت من أن تبقي لنفسها عكا، وبعض مدن فونيقي وسورية المجوفة، وكان لها ابنان أنطيوكس وسلوقس، وطمعت بأن تأخذ لنفسها تاج مصر، فأرسلت ولديها سنة 73ق.م إلى رومة، حيث أقاما سنين يزينان للندوة تمليك أمهما أو أحدهما في مصر فخاب مسعاهما؛ لخشية الرومانيين ضم سورية ومصر إلى مملكة واحدة، فيتعسر عليهم الاستيلاء عليهما.
وأقام الرومانيون الحرب على تغران ملك أرمينية، فاستعاد جنوده من سورية لحاجته إليهم فاستوى أنطيوكس بن سيلانة المذكور على عرش سورية سنة 69ق.م، وهو الثالث عشر بهذا الاسم، واستمر يدبر سورية أربع سنين أو خمسا، وانتصر لوكولس قائد جيش الرومانيين على تغران ملك أرمينية، وأخذ أهم مدنه، ثم أكمل بومبايس القائد الروماني الظفر به، وأرغمه أن يدفع غرامة حرب جسيمة وأن يوقع على عهدة سنة 64ق.م يتخلى بها للرومانيين عن سورية والكبادوك وأرمينية، ثم أتى بومبايوس إلى سورية، فالتقاه أنطيوكس الثالث عشر آملا أن يقره على ملك سورية، فأبى بومبايوس إلا أن يلتهم ملكه ويجعله إقليما رومانيا محتجا بأن تغران تخلى له عنه، فانقرضت بأنطيوكس المذكور ولاية خلفاء إسكندر على سورية ... وقد رأيت مما كان للملوك والملكات الأخيرين خاصة من الفظائع التي تنفر منها الضواري كقتل الأم ابنها والابن أمه، وأرسل بومبايوس قائديه سكادورس وكابينيوس، فأخضع الأول سورية المجوفة ودمشق والثاني باقي سورية إلى دجلة، وأتى بومبايوس إلى دمشق ينظم أحوال مصر واليهودية (أبيان في السوريين ويوستينوس ك40 فصل 1 ويلوطرح في ترجمة بومبايوس). (23) في تتمة أحبار ملوك اليهود إلى أخذ الرومانيين سورية
ذكرنا قبلا هؤلاء الملوك في مساق كلامنا على ملوك سورية، وفرغنا في عدد 63 من الكلام بذكر الملك إسكندر ونجدة فلوبطرة ملكة مصر له، وروى يوسيفوس (في ك13 من تاريخ اليهود فصل 21): أن الشعب مقت الملك إسكندر، ولما دخل الهيكل في عيد المظال أخذوا يرشقونه بثمار الليمون على رأسه ويقذفونه بالشتائم، فخرج عليهم بحرسه فقتل منهم ستة آلاف رجل، وأخذ لنفسه حرسا من الأجانب سنة 95، ولما أخمد ثورة اليهود أقبل على محاربة الأجانب، فانتصر على جنود ملك العرب وذلل الموآبيين وغيرهم، وافترض الجزية عليهم وكمن له أعداؤه في مضيق وزحمة قطار من الإبل فلم ينج إلا بشق النفس، وقتل كثيرون من رجاله وجرأ مصابه العرب والموآبيين على محاربته فحاربوه ست سنين، وقتل من الفريقين نحو خمسين ألفا، وفتح مدينة كان العصاة تحصنوا بها، وقبض على ثمانمائة رجل أتى بهم إلى أورشليم فقتلهم سنة 86ق.م، ولدن تشاغل ملوك سورية بالحرب بعضهم مع البعض افتتح مدنا أخرى، وعاد إلى أورشليم وعكف على الملاذ ومعاقرة الخمرة، فأصيب بحمى الربع ولم ينكف عن الحرب، وبينما كان محاصرا مدينة في شرقي الأردن اشتد مرضه، وأشار على الملكة إسكندرة أن تتزلف إلى الفريسيين بعد موته لتحفظ الملك لأبنائها، ومات سنة 79 وأوصى بالملك لامرأته إسكندرة ما حييت، وأن يخلفها بعد وفاتها من تختار من ابنيه هركان وأرسطوبرلس.
وعملت إسكندرة بمشورة زوجها، فمال إليها الفريسيون وعظموا دفنة زوجها، وقامت هي تدبر شئون المملكة، وجعلت ابنها هركان رئيس الأحبار وعهدت بتدبير أهم الأمور إلى الفريسيين، فاستطالوا وتحكموا بها وبمن يخاصمهم، ولجأ هؤلاء إلى الملكة لتنقذهم فأقامتهم في القلاع والحصون، ثم مرضت سنة 70ق.م واحتضرت، فانسل ابنها أرسطوبولس إلى القلاع والحصون التي كان فيها أصدقاء أبيه، فأصبح أكثر جنود المملكة طوع يديه، ولما توفيت أخذ ابنها هركان الملك، وناصره الفريسيون وناصر الجنود أرسطوبولس، فاضطر هركان أن يتخلى لأخيه عن الملك ورياسة الأحبار.
ولم يستقر أرسطوبولس على سرير الملك إلا ونشأ في مملكته قلق أحدثه أنتيباس أبو هيرودس، وكان هذا أدوميا أصلا يهوديا مذهبا كغيره من الأدوميين الذين أجبرهم يوحنا هركان أن يتهودوا، وكان من المقربين إلى هركان بن إسكندر، وبذل قصارى جهده برده إلى الملك، ولجأ إلى الحارث ملك العربية الحجرية، فحارب أرسطوبولس فانتصر هذا على ملك العرب، وكان حينئذ قدوم بومبايوس إلى سورية سنة 640ق.م، فأراد أن ينظر في دعوى هركان وأخيه وأتى كثيرون من اليهود يسألون بومبايوس أن يريحهم من كليهما، ولما كان بومبايوس يريد أن يخضع أولا العرب للرومانيين أجل النظر بدعواهما إلى عوده، وبعد إذلاله العرب استدعى أرسطوبولس ليسرع بالمجيء إليه، فأتى لكنه لم ينكف عن الاستعداد لمقاومة بومبايوس، وشعر بومبايوس بذلك فأمره أن يسلم إليه كل ما أعده للقتال، وبذل أرسطوبولس قصارى جهده ليسترضيه واعدا بالخضوع له، وبدفع مبالغ من المال تفاديا من الحرب، فقبل بومبايوس وأوفد كتيبة من الجند لقبض المال من أورشليم، فوصد أهلها الأبواب بوجهه، فقبض بومبايوس على أرسطوبولس، وغلله وزحف بجيشه على المدينة وفتحها وحاصر الهيكل، فلم يتهيأ له فتحه إلا بعد ثلاثة أشهر، ودخل بومبايوس الهيكل ولم يمس خزينته ليظهر نزاهته، وأسر أرسطوبولس وابنيه إسكندر وأنتيكون وابنته وأخذهم إلى رومة، وأقام هركان أخاه على الملك سنة 63ق.م (يوسيفوس ك14 ف2 لي 8).
المقال الثالث
في تاريخ سورية في أيام الرومانيين
في ما كان بسورية إلى ميلاد المخلص
(1) في ما كان باليهودية بعد استيلاء الرومانيين عليها
قد مر أن بومبايس أقام هركان على ملك اليهود، لكنه لم يستقر على منصة الملك إلا وزعزعها إسكندر بن أرسطوبولس أخيه؛ لأنه فر من طريقه إلى رومة وحشد جيشا سنة 57ق.م، وكان هركان ضعيفا لا يقوى على محاربة ابن أخيه، فلجأ إلى الرومانيين، فانتصر كابينيوس قائد جيشهم على إسكندر، وأتى إلى أورشليم وأقر هركان في رياسة الكهنة، وجعل حكومة اليهود جمهورية، وأقام بعض أعيانهم على تدبير شئونهم وقسمها إلى خمس ولايات، وتتبع آثار إسكندر حتى استسلم إليه، ومع ذلك لم تستتب الراحة؛ لأن أرسطوبولس فر من رومة وعاد إلى اليهودية مع ابنه أنتيكون، وانضم إليهما جم غفير، فأرسل كابينيوس جنوده إليه والتحمت الحرب، فأبدى أرسطوبولس ورجاله آيات البسالة والشهامة، ولكن دارت أخيرا الدوائر عليه فقتل من رجاله خمسة آلاف، وفر ألفان وخرق أرسطوبولس صفوف الأعداء بمن بقي معه، وبلغ إلى ماكرون وهم أن يتحصن فيها فباغته الرومانيون فدافع عن نفسه يومين بشجاعة تزري بشجاعة الأسود ... إلى أن انتصر الجيش الكثيف عليه، فقبضوا عليه وأرسلوه إلى رومة مع ابنه أنتيكون، ورد رجال الندوة أولاد أرسطوبولس إلى اليهودية لوعد كابينيوس لأمهم أن يستردوهم مكافأة لها على تسليمها بعض الحصون إليهم، وكان ذلك سنة 54ق.م.
على أن إسكندر بن أرسطوبولس لم يلزم السكينة بعد عوده، وحشد جيشا في مدة غياب كابينيوس بمصر وقتل كل من وقع بيده من الرومانيين، فعاد كابينيوس واستمال بعض اليهود، ولكن بقي مع إسكندر ثلاثون ألفا صمموا أن يقاتلوا الرومانيين، فقتل منهم عشرة آلاف، وفر إسكندر وجاء كابينيوس إلى أورشليم يدبر أمور اليهود، واستدعت الندوة كابينيوس من اليهودية وأقامت كراسوس على سورية، وأتى أورشليم فانتهب كل ما وجد في الهيكل وحارب من حازبوا أرسطوبولس وابنه إسكندر، وأخذ منهم ثلاثين ألف أسير سنة 53ق.م.
ولما استحوذ قيصر على رومة سنة 49، وفر بمبايوس وأكثر رجال الندوة من وجهه أطلق أرسطوبولس إلى سورية، ولكن قتله محازبو بمبايوس وقتل شيبون إسكندر بن أرسطوبولس بأنطاكية، ولما غزا قيصر مصر سنة 47 مطاردا بومبايوس أنجده أنتيباس أبو هيرودس من قبل هركان بجيش جمعه من العرب واليهود ولبنان، فكان لأنتيباس منزلة عليا عند قيصر، وأتى قيصر بعد ذلك إلى سورية، فأمر أن يستمر هركان على رياسة الكهنة وولايته على اليهود هو وذريته من بعده، وجعل أنتيباس مدبرا لليهودية بإمرة هركان، وأقام أنتيباس ابنه فازئيل واليا في أورشليم وابنه هيرودس واليا في الجليل سنة 44ق.م.
وفي سنة 40ق.م دخل ملك البرتيين إلى سورية، وأرسل فريقا من جنده إلى اليهودية وأقام على منصة الملك أنتيكون بن أرسطوبولس، وطلب قائد البرتيين هركان وفازئيل بن أنتيباس فقبض عليهما وكبلهما بالحديد وفر هيرودس، فدخلت جنود البرتيين أورشليم فانتهبوها وأجلسوا أنتيكون على سرير الملك، وسلموا إليه هركان وفازئيل فانتحر فازئيل في السجن واستبقوا هركان حيا، ولكن صلم أنتيكون أذنيه؛ كيلا يبقى أهلا لرياسة الكهنة وسلمه إلى البرتيين فبقي في بلادهم سجينا إلى أن أطلقوه من السجن، وكان يتردد إلى اليهود المقيمين هنالك فأحبوه ثم استدعاه هيرودس إلى أورشليم، وقتله (يوسيفوس ك14 فصل 10).
أما هيرودس فبعد أن فر عندما دخل البرتيون أورشليم سار إلى رومة، واستمال مرقس أنطونيوس أحد الرجال الثلاثة مدبري الحكومة الرومانية، وطلب تاج ملك اليهودية لأرسطوبولس بن إسكندر؛ لأنه كان خطب اخته المسماة مريمنا فأنعم عليه بأكثر مما طلب، أي: جعله ملكا على اليهودية سنة 39ق.م، فأسرع بالعود إلى اليهودية، فاشتد النزاع بين هيرودس وأنتيكون سنتين وساعد سوسيوس والي سورية هيرودس، فحاصرا أورشليم فأحسن أنتيكون الدفاع مدة ستة أشهر، ولما يئس من الدفاع استسلم إلى سوسيوس متذللا، فغلله وأرسله إلى أنطونيوس إذ كان بأنطاكية، ورشا هيرودس أعوان أنطونيوس بمبلغ جسيم ليسعوا بموته إذ لا يثبت ملكا ما دام أحد من ملوك اليهود حيا، فحكم على أنتيكون بالقتل، ونفذ به هذا القضاء سنة 37ق.م (يوسيفوس ك14 ف25، وبلوطرخ في ترجمة أنطونيوس) ... فانقضى بموت أنتيكون ملك المكابيين الذي ابتدأ بولاية يهوذا المكابي، وانتهى بموت أنتيكون ودام مائة وتسعا وعشرين سنة، وانتقل الملك على بني إسرائيل إلى هيرودس بن أنتيباس الأدومي، فكان ذلك دليلا على دنو مجيء المخلص بحسب نبوة يعقوب أبي الأسباط «لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع في صلبه حتى يأتي شيلوح (أي: المخلص) وتطيعه الشعوب.» (2) في الولاة الرومانيين على سورية إلى مولد المخلص
بعد أن استحوذ بمبايوس على سورية سنة 64ق.م كما مر جعل مرقس فيلبوس سكاودوس واليا على سورية سنة 63ق.م، وقد عثر رنان على صفيحة من رخام في صور كتب عيها تذكارا لسكاودوس المذكور عبارات تملق له، وتاريخ تلك الكتابة سنة 60ق.م على ما رأى رنان المذكور، وأقام سكاودوس بسورية أربع سنين، وخلفه فيها لوشيوس فيلبوس سنة 59، ومن هؤلاء الولاة كابيلينوس ولي سنة 57ق.م، وكانت له حروب مع اليهود مر ذكرها في الفصل السابق، وخلفه سنة 54 مرقس كراسوس الذي انتهب الهيكل، وقتله البرتيون سنة 53، وسنة 49 انحاز أهل سورية إلى محازبة يوليوس قيصر، فأرسل إلى سورية أحد ذوي قرباه اسمه سيستوس قيصر سنة 47، فقتله باسوس أحد محازبي بمبايوس، واستتبت له ولاية سورية سنة 46، فنصب يوليوس قيصر غايوس باتس واليا على سورية سنة 45، فحارب باسوس وأخذ الولاية منه سنة 44، وفي سنة 41 ولى مرقس أنطونيوس بوبليوس سكسا على سورية فانتصر عليه البرتيون سنة 40، واستحوذوا على سورية، واتصلوا إلى أورشليم ولكن طرد بوبليوس باسوس البرتيين من سورية، واستولى عليها سنة 39، إلى أن كان من ولاة سورية مرقس شيشرون بن شيشرون الخطيب الشهير سنة 29، واستمر على هذه الولاية ثلاث سنين، وتعاقب هؤلاء الولاة إلى قورينوس الذي جاء ذكره في بشارة لوقا (فصل 2 عدد 2) بقوله: «وهذه كانت الكتابة الأولى في ولاية قورينوس بسورية.»
إن الذي نص عليه المؤرخون القدماء إنما هو أن قورينوس ولي سورية في السنة السادسة والثلاثين لأغوسطوس، وهي توافق السنة السادسة بعد ميلاد المخلص، وكان للآباء والعلماء الكاثوليكيين مذاهب في توفيق قول لوقا البشير مع أقوال المؤرخين إلى أن جلت الاكتشافات الحديثة غياهب اللبس عن وجه الحقيقة، فقد عثر سنة 1764 على صفيحة في تيفولي قرب رومة، وهي الآن في متحف لاتران، ملخص ما كتب عليها «قورينوس قد ولي وهو في المقام القنصلي من قبل أغوسطوس على أعمال سورية وفونيقي، وحارب عشيرة الهومانيين (في جبل طوروس)، وقتل ملكهم وولي على إقليم آسيا، وهو في مقام نائب قنصل، وولي المرة الثانية على إقليم سورية وفونيقي»، وظهر من ذلك أن قورينوس في المرة الأولى كان واليا بسورية في سنة مولد المخلص كما قال لوقا البشير، ثم عاد المرة الثانية إلى سورية في السنة السادسة للميلاد وهي السادسة والثلاثون لأغوسطوس، كما ذكر المؤرخون القدماء، وقد ذكروا أيضا أن إحصاء النفوس والأملاك حصل ثلاث مرات في تلك المدات. (3) تتمة أخبار هيرودس
مر في عدد 66 أن هيرودس صير ملكا على اليهودية سنة 37ق.م، وحارب أنتيكون بن أرسطوبولس فاستتب الملك ليهرودس، وكان يخشى أن يقيم في رياسة الكهنوت على اليهود رجلا من سلالة ملوكهم فينازعه الملك، فاستأتى من بابل رجلا اسمه حنانيل وأقامه فيها، وشق على إسكندرة حماة هيرودس أن يبعد ابنها أرسطوبولس بن إسكندر عن الرياسة، فلجأت إلى فلوبطرة معشوقة مرقس أنطونيوس، فأمر هيرودس أن ينصب أرسطوبولس في الرياسة، فنصبه مكرها وواجسا من منازعته له وضيق على أمه حماة هيرودس، فعرضت أمرها لفلوبطرة، فأشارت عليها أن تفر بابنها إلى مصر، فجاملها هيرودس ولم يدعها تفر، لكنه قتل أرسطوبولس فاستدعاه مرقس أنطونيوس إلى اللاذقية عازما على عزله، فاسترضاه بدهائه وهداياه وكانت هذه الأحداث سنة 32ق.م.
وكانت في هذه الأثناء الحروب بين أغوسطوس ومرقس أنطونيوس على ملك الرومانيين، وكان أنطونيوس هو الذي ملك هيرودس في اليهودية، وعفا عنه بعد قتله أرسطوبولس وأرسله أنطونيوس لمحاربة العرب، فاستظهر العرب عليه أولا لنجدة فلوبطرة لهم لكنه عاد إلى قتالهم فبرح فيهم وقتل منهم ألوفا، وعاد متفاخرا معتزا، ولكن بلغه بعد ذلك انتصار أغوسطوس على أنطونيوس في وقعة إكسيوم (ببلاد اليونان)، وخاف أن يولي أغوسطوس على اليهودية هركان الذي كان البرتيون قد أسروه، ثم عاد إلى اليهودية، فقتله هيرودس بمكيدة لينجو من ولايته بمكانه وسار إلى أغوسطوس في رودس جازعا، وقبل أن يدخل عليه انتزع التاج عن رأسه، ولم يخاطبه بتذلل بل قال : «أنا كنت مخلصا لأنطونيوس ولو لم أكن متشاغلا بحرب العرب لعاونته في الحرب مع جلالتكم، وإن جعلكم بغضكم له تقتصون مني فلا أتوقف عن الإقرار بحبي له، وإذا أغضضتم النظر عن الماضي وقدرتم إخلاصي له حق قدره أخلصت بالطاعة لأوامركم إخلاصي له، وجعلت نفسي أهلا لخدمتكم وعفوكم.» فأعجب كلامه أغوسطوس، وأمر أن يأتوا إليه بتاجه وجامله، ثم مر أغوسطوس بسورية، فبالغ هيرودس بالاحتفاء به (يوسيفوس ك15 فصل 6 وما يليه).
لم يهنأ هيرودس باستمالة أغوسطوس إليه، بل نكد عيشه قلق آله وسخط مريمنا زوجته وإسكندرة أمها عليه؛ لأنه كان قد وضعهما في حصن عند ذهابه إلى أغوسطوس بمنزلة سجن لهما، وكانت أمه واخته صالومي تبغضان مريمنا، فلم تبقيا على تهمة إلا وأردفاها عليها؛ ليزيدا هيرودس حنقا عليها حتى اتهمتاها بدس السم له، فألحقها هيرودس بأبيها هركان وأخيها أرسطوبولس، وهي تحملت الموت صابرة باسلة، ووجد عليها بعد قتلها وجدا عظيما حتى أوصلته الكآبة إلى نوع من الجنون، وانتهزت إسكندرة أمها هذه الفرصة، واستحوذت على قلعتين في أورشليم ولما بل هيرودس من مرضه أرسل جنودا فقتلوها.
إن هيرودس رغبة في إرضاء أغوسطوس جدد بناء السامرة، وسماها سبسطية وتأويلها السعيدة في اليونانية مرادفة لكلمة أغوسطوس باللاتينية ومعناها السعيد، وبنى مدينة في محل كان يسمى برج ستراتون، وسماها قيصرية نسبة إلى أغوسطوس قيصر وموقعها بين حيفا ويافا ، وأحاط أورشليم بأسوار وأنشأ في خارجها قصرا في المحل الذي انتصر به على أنتيكون ... وروى يوسيفوس (ك15 ف14) أنه نقض هيكل أورشليم الذي بناه زربابل، وأحدث هيكلا جديدا في محله، على أن للعلماء مذاهب متضاربة في هذا الشأن، فاعتمد بعضهم على رواية يوسيفوس وأنكر بعضهم صحتها، ولكل فريق أدلة استوفينا شرحها في تاريخنا عدد 471، ورجحنا مذهب من صدقوا شهادة يوسيفوس.
وكان لهيرودس من امرأته مريمنا التي قتلها ثلاثة بنين: إسكندر وأرسطوبولس وهيرودس، أرسلهم إلى رومة لاقتباس العلوم ... فمات هيرودس أصغرهم ولما عاد الباقيان من رومة عظم اليهود ملتقاهما، فشق ذلك على صالومي أخت هيرودس وعلى كل من تسبب بقتل مريمنا أمهما، وخافوا أن يرتقي الأميران إلى سدة الملك، فيثأران منهما بدمها وعزموا أن يكتادوهما كما اكتادوا والدتهما، وشرعوا يفتنون بين الوالد وولديه حتى قالوا لهيرودس: إن ابنيه صرحا بعزمهما على قتله بدم والدتهما ... فأقلق هذا هيرودس واستدعى إليه ابنه أنتيباتر الذي كان قد أبعده عنه مع أمه؛ ليكون مقاوما لأخويه، فشق على إسكندر وأرسطوبولس إيثار والدهما أخاهما عليهما، وكثرت المقالات بهذه الشأن، فأخذهما هيرودس إلى رومة وشكاهما إلى أغوسطوس بأنهما حاولا قتله، وأراد أغوسطوس أن يسمع الدعوى بنفسه، فأخذ هيرودس يحقق شكواه على ابنيه ويعظمها، وأعينهما تذرف الدموع السخينة، فوقف أخيرا إسكندر يبرئ نفسه وأخاه من شكوى أبيهما بخطبة جمعت بين الاحترام لأغوسطوس، والتذلل لوالدهما مبينا بفصاحة يخر لها سحبان أن الأولى بهما أن يموتا أبرياء من أن يعيشا وعليهما مظنة الاحتيال على إهلاك والدهما، والتفت إلى والده، فقال: «إن بقيت التهم التي تعتمد عليها ثابتة لديك كان الموت خيرا لنا من الحياة ... ونحن نحكم على أنفسنا بالموت؛ كيلا يكون من يشكوك بقتلنا، ومهما عزت الحياة فلا يعز علينا أن نفدي بها شرف من أولانا إياها.» وكان كلام إسكندر شديد الوقع بقلب أغوسطوس، وأيقن براءة الأميرين ودهش من حكمة إسكندر، وسأل هيرودس أن يرضى عن ابنيه ولا يصدق هذه الشكاوى، وأوعز إليهما أن يدنوا من أبيهما ويطلبا العفو، فتقدما إليه ودموعهما تبل الأرض فعانقهما وبكى واغرورقت أعين الحاضرين بالدموع، وعادوا إلى اليهودية سنة 7ق.م.
على أن خصوم الأميرين ما انفكوا عن السعاية بهما لدى والدهما، فكتب إلى أغوسطوس يشكوهما أيضا، فأجابه أن يستدعي قوما من العقلاء والفضلاء ويجمعهم ببيروت ويحاكم ولديه، فاستدعى من أراد ولم يحضر ولديه إلى بيروت، بل أبقاهما في قرية اسمها بلان قريبة من صيدا، وقال للمجتمعين: «إنه لم يستدعهم ليقضوا بل ليصادقوا على تصرفه العادل بحق ابنيه، فيرتدع الأبناء العاقون عن أن يحاولوا قتل آبائهم.» فلما سمع المجتمعون هذا الكلام أيقنوا أن لا أمل بالإصلاح، فأثبتوا له ما خوله إياه أغوسطوس من السلطان أن يتصرف بابنيه كما يحب، فمضى هيرودس حالا من بيروت، وأخذ ابنيه إلى صور وأرسلهما إلى السامرة مع بعض جنده، فقطعوا رأسيهما (يوسيفوس ك16).
وكان هيرودس قد أوصى أن يخلفه في الملك ابنه أنتيباتر، وخاف أنتيباتر أن يغير أبوه وصيته له، فتآمر مع فيرورلس أخي هيرودس أن يميت أباه، وبلغ ذلك إلى هيرودس فكان كصاعقة انقضت عليه، وعزم أن يلحقه بأخويه وأودعه السجن، وتراكمت المصائب والأحزان على هيرودس حتى عدم رشده، وأخذ يوما مدية ليطعن نفسه بها، فانتزعها منه أحد أقاربه وكثر الولوال في القصر فسمعه أنتيباتر وهو بسجنه وطلب من السجان أن يطلقه فأطلقه، ولما علم هيرودس أن أنتيباتر يأمل أن يحيى بعده أمر حرسه أن يقتلوه، فقتلوه قبل موت أبيه بخمسة أيام.
وكان مولد المخلص قبل موت هيرودس، وعرف مولده من المجوس، فأمرهم أن يذهبوا إلى بيت لحم وأن ينبئوه إذا وجدوه ليمضي فيسجد له، وتلك حيلة منه؛ ليعلم محله فيقتله مخافة أن يأخذ الملك منه، ولما لم يعودوا إليه وتأكد ولادته من تقديم أبويه له في الهيكل أرسل جنوده، فقتلوا كل ذكر في بيت لحم من ابن سنتين فما دونها، ونجا يسوع بإرشاد الملك ليوسف أن يهرب به إلى مصر (متى فصل 2 عدد 1)، وقد قضى هذا السفاك غير مأسوف عليه، إذ أصيب بحمى محرقة وتقرح بالأمعاء، وقد ذكر يوسيفوس (ك17 ف8) أعراض مرضه مفصلا، وقد ملك في اليهودية سبعا وثلاثين سنة على ما روى أكثر المؤرخين.
في تاريخ سورية في القرن الأول بعد الميلاد
(1) في مولد المخلص وسنته
لما كان الإنسان عصى ربه وانغمس البشر بأوحال المآثم، وتاهوا في بيداء الضلال ولم تكن خليقة كفؤا لاسترضاء الإله المتسخط عليهم؛ ولهدايتهم إلى سواء السبيل، دعا الله حنوه ورأفته أن يتخذ كلمة الله أي: ابنه أحد أقانيم ذات الإله الواحد الأحد جسدا بشريا، ويصير إنسانا كاملا مستمرا إلها كاملا ... بنوع يفوق المدارك البشرية، ويهدي الناس إلى طريق الحياة ويكفر بنفسه عن آثامهم، ويسترضي الله عنهم ويفتح لهم أبواب السماء التي كانت موصدة في وجوههم، وكان الله قد أوحى بهذا السر العجيب إلى الآباء والأولياء والأنبياء القدماء، حتى كان ينتظره كل من اعتقد الوحي، وقد خص الله بهذا الشرف الباذخ سورية موطننا، فولد في بيت لحم وتربى في الناصرة وتردد في اليهودية والجليل.
وأما في أية سنة ولد المخلص من السنين التي انقضت بعد خلق الإنسان؛ ففي ذلك أقوال كثيرة جدا، تتراوح هذه الأقوال بين 3483 سنة إلى 6984 سنة بعد خلق الإنسان، ومنشأ هذا الاختلاف الواقع في الأعداد الواردة في النص العبراني، وترجمات التوراة وعدم التيقن بكون الأعداد التي نراها الآن هي التي خطتها يد موسى، فجملة المدة التي خلت من خلق الإنسان إلى دعوة إبراهيم على ما في النص العبراني 2023 سنة، لكنها على موجب ترجمة السبعين 3389، وفي السامرية 2324 ... وهذا التباين حاصل من خطأ النساخ في الأعداد التي كانوا يرسمونها بالحروف، والحروف العبرانية تتقارب هيئة كثير منها، ولم يشأ الله أن يعصم النساخ بآيات تتعدد كعديدهم، والكنيسة الكاثوليكية أطلقت لكل من المؤرخين أن يختار ما شاء من هذه الأقوال ولا حرج.
إن التاريخ بسني مولد المخلص الذي يستعمله المسيحيون الآن لم يكن أسلافهم في القرون الأولى يستعملونه، بل كانت كل أمة تؤرخ بسني مملكتهم أو ملوكهم إلى أن رأى ديونيسيوس الصغير أحد كهنة كنيسة رومة في القرن السادس أن الخليق بالمسيحيين أن يؤرخوا بسنة مولد المخلص، وأذاع رأيه سائلا المتابعة له عليه، فاستحسنه بعضهم أولا إلى أن عم استعماله، على أن العلماء رأوا بعد ذلك أن ديونيسيوس لم يصب بتعيين سنة المولد، بل بدأ فيه بعد أربع سنين من المولد على قول بعضهم، وقال غيرهم: بعد خمس سنين أو ست أو أكثر أيضا؛ لأن ديونيسيوس افترض أن المسيح ولد في سنة 754 لبناء رومة، ولكن من المؤكد أن هيرودس توفي سنة 750 لبناء رومة، ولما كان مؤكدا أن هيرودس مات بعد مولد المخلص بسنة أو سنتين، فالمسيح لم يولد سنة 754 لبناء رومة، بل ولد سنة 746 وكان عمره خمس سنين أو ست سنين في السنة التي عينها ديونيسيوس لمولده ... وأكثر العلماء على أن هذا الفرق هو أربع سنين، وسموا تاريخ ديونيسيوس التاريخ العامي، أي: الذي اتبعته العامة خلافا للتاريخ الحقيقي الذي يزيد على العامي أربع سنين أو أكثر، فاتبع المسيحيون الحساب العامي من قبيل أن الخطأ المشهور أولى بالاتباع من الصواب المهجور.
الفصل الأول
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الأول
(1) في بعض آثار الملوك الرومانيين في سورية
إن أغوسطوس قيصر الذي ولد المخلص في السنة 29 أو 28 لملكه، وتوفي سنة 14 بعد الميلاد جعل بيروت من المدن الأولى في ملكه، وخول أهليها حقوق الرومانيين، وولى عليها القائد مرقس فسبيانوس أغريبا وزوجه بابنته جوليا، ودعا المدينة باسمها جوليا فيليكيس (أي: السعيدة)، ويؤيد هذا خط ذكره ودينكتون (عدد 1842 من خطوطه) وجد في دير القلعة، فحواه أن أهل بيروت الجالية الرومانية جوليا أوغسطا فيليكس بيروت أقاموا نصبا لأدريان الملك، وطيباريوس خلف أغوسطوس سنة 14 للميلاد، وفي السنة الخامسة عشرة لملكه ظهر يوحنا المعمدان يبشر ويعمد، وفي السنة 20 لملكه مات المخلص.
ومن آثار الملك كلود الذي رقى منصة الملك سنة 41، وتوفي سنة 54 الهيكل الباقية أطلاله في قلعة فقرا بكسروان، فقد وجد خطان في الحصن المحاذي لهذا الهيكل دالان على أن كهنة هيكل الإله الأعظم أقاموا أثرا تكرمة للملك كلود سنة 355 يونانية، توافق السنة 44 للميلاد (رنان بعثة فونيقي) ... وليس الإله الأعظم إلا أدونيس معبود الجبلين.
وكان في أيام كلود ونيرون حاكم بسورية اسمه كوادراتوس، كما يظهر في خط عثر عليه ودنيكتون ببيروت يؤخذ منه أن البيروتيين أقاموا نصبا لهذا الحاكم الذي دبر سورية في سنة 51 إلى سنة 61.
ومنذ أيام نيرون كانت الحرب على اليهود، واستمرت في أيام غلبه واتون وسبسيان وطيطوس، وسوف نفرد فصلا للكلام في هذه الحرب، ومن آثار دوميسيان أخي طيطوس فتح الطريق المارة بالعاقورة إلى بلاد بعلبك أو إصلاحها، كما ظهر في خط ذكره رنان (في بعثة فونيقي صفحة 340)، وقد عثر عليه في المحل المسمى درجة مار سمعان في الطريق بين العاقورة واليموني. (2) في ولاية أبناء هيرودس في بعض أعمال سورية
قد غير هيرودس وصيته بالخلافة له مرات، وأوصى أخيرا أن يخلفه أبناؤه أرشيلاوس باليهودية والسامرة، وهيرودس أنتيباس بالجليل، وفيلبوس الثاني في اللجا والجولان، وعلق تنفيذ وصيته على ما يشاؤه أغوسطوس الملك؛ ليثبتها أو يعدلها كيف شاء وورث أبناؤه الخلاف مع الخلافة، وبعد أن انقضت أيام الحداد جمع أرشيلاوس الشعب، وخطب فيهم واعدا أن يرفع المظالم التي أحدثها والده، فلم يكتف الشعب بالوعد، بل سأله الحط من الخراج، ونسخ الضرائب المفروضة على البيع والشراء، وتبديل رئيس الأحبار إلى غير ذلك، فسوفهم بإجرائه وتألبوا عليه فساق جنوده إليهم، فقتل يومئذ من اليهود ثلاثة آلاف رجل.
ثم مضى أرشيلاوس وإخوته إلى رومة، وكان يخاصم أحدهم الآخر حتى لم ير أغوسطوس أحدا منهم أهلا للولاية، وكان هرج وشغب بعد غيابهم باليهودية وحرب مع العمال الرومانيين آلت إلى زيادة إذلال اليهود، وأثبت أغوسطوس وصية هيرودس على أنه لم يسمع لأرشيلاوس أن يسمى ملكا، بل واليا ورئيسا على اليهودية والسامرة وأدوم، وأعنت أهل سورية واعتسف، فشكوه إلى أغوسطوس فلم يستطع أن يبرئ ساحته، فنفاه إلى فيان بإفرنسة ومات في منفاه بعد أن ولى عشر سنين أو تسعا.
وقد أثبت أغوسطوس وصية هيرودس لابنيه هيرودس أنتيباس وفيلبوس الثاني أيضا، فكان هيرودس هذا واليا في الجليل وفيلبوس واليا في الجيدور واللجا وحوران، واستمرا على ذلك زمانا طويلا، فنرى لوقا البشير (ف3 عدد 1) ذكرهما عند ذكره ظهور يوحنا المعمدان للتبشير بقوله: «في سنة خمس عشرة من ملك طيباريوس قيصر في ولاية بيلاطوس البنطي على اليهودية وهيرودس رئيس الربع على الجليل، وفيلبوس أخوه رئيس الربع على إيطوريا وكورة أنطرخون.» وهيرودس هذا بنى مدينة طيبارية إجلالا لطيباريوس قيصر، وتزوج بابنة الحارث ملك العرب، ثم طلقها نحو سنة 33 للميلاد، وتزوج بهيرودية امرأة أخيه فيلبوس وهو حي، وكان يوحنا المعمدان يقيم عليه النكير، فألقاه في السجن وقطع رأسه إجابة لسؤال ابنة هيرودية، وحارب الحارث هيرودس؛ ليأخذ بثأر ابنته التي طلقها فانتصر جنود الحارث على عسكر هيرودس وشتتوا شملهم.
وأما فيلبوس أخو هيرودس أنتيباس والي الجيدوو واللجا وحوران، فتوفي سنة 31 للميلاد، ولم يكن له ولد إلا صالومي التي رقصت أمام هيرودس، وطلبت رأس يوحنا وكان أغريبا بن أرسطوبولس بن هيرودس الكبير تربى برومة، وكان الملك غايوس يعرفه ويحبه، فسماه خلفا لفيلبوس سنة 39 في ولاية الجيدور وحوران، وألحق بها ولاية الأبلية وسماه ملكا، فأخذت الغيرة هيرودية أخت أغريبا وامرأة هيرودس أنتيباس، فسارت مع زوجها إلى رومة أملا أن يسمى زوجها أيضا ملكا كأخيها، على أن أغريبا كتب إلى العاهل أن صهره هيرودس ممالئ للبرتيين، وأن في خزائنه أسلحة كثيرة، فسئل هيرودس عن الأسلحة، فلم ينكر فعزله العاهل عن ولايته ونفاه إلى ليون، وآثرت هيرودية النفي مع زوجها، ومات هيرودس بمنفاه (يوسيفوس ك18 ف9) لا يعلم بأية سنة.
وبعد عزله ألحق الملك ولايته على الجليل وعبر الأردن بمملكة أغريبا سنة 40، ثم اغتيل غايوس وخلفه كلود وأغريبا برومة، فألحق كلود اليهودية بمملكته حتى أصبحت فسيحة الأرجاء، وأربت على مملكة جده هيرودس، ومن أعماله السيئة قبضه على يعقوب الرسول ابن زبدي، وقتله بالسيف سنة 44 (وسمي في أعمال الرسل ف12 عدد 1 هيرودس)، وقبض على بطرس الرسول وسجنه، فنجاه ملك الرب بمعجزة وأتحف بيروت بإنشائه فيها ملعبا ومشهدا وحمامات وإيوانات جميلة، وكان حنقا في آخر عمره على الصوريين، فتذللوا إليه وصالحهم وخطب فيهم، وكان الشعب يصيح أن صوته صوت إله لا صوت إنسان، وسكت على ذلك بدلا من أن يؤنب القائلين، فضربه ملك الرب فحمل إلى قصره يكابد مر العذاب خمسة أيام، وأسلم الروح (أعمال الرسل ف2 عدد 20 ويوسيفوس ك19 ف1)، ومن آثاره خط عثر عليه ودنيكتون في قنوات بحوران (خط 2329) يؤخذ منه أن أغريبا أذاع منشورا يؤنب فيه أهل حوران على عيشتهم الهمجية ويحثهم على الحضارة.
وبعد وفاة أغريبا الأول خلفه ابنه أغريبا الثاني، وكان قد ولد في رومية وبقي فيها إلى وفاة والده، فوعده الملك كلود بالخلافة له، ثم أرسل كسبيوس فاروس ليلي ولاية أبيه نيابة عنه، وجعل أغريبا سنة 50 ملكا على كلشيد وهي عنجر في لبنان الشرقي، وقلده حراسة هيكل أورشليم وخزينته والسلطان على تسمية رؤساء الكهنة، كما كان عمه هيرودس الكبير، وفي سنة 52 أقامه كلود على الربع الذي كان لفيلبوس وهو الجولان والجيدور واللجا، ثم ضم إليه ولاية الإبلية وغيرها من المدن، وقد صحب الجنود الرومانيين في حملتين على البرتيين وأرمينية، ولما ثار اليهود سنة 66 على الرومانيين أتى إلى أورشليم يخمد جذوة ثورتهم، فحنقوا عليه وهرول من المدينة، ثم ضم جنوده إلى جيش الرومانيين عند القتال، وبعد أخذهم أورشليم وسعوا تخوم مملكته، وكان خبيرا بسنن اليهود وأسفارهم كما يظهر من قول بولس الرسول (أعمال الرسل ف26 عدد 2): «إني أحسب نفسي سعيدا أيها الملك أغريبا؛ لأنني أحتج اليوم أمامك ... ولا سيما وأنت خبير بكل ما لليهود من سنن ومسائل.» وكان اليهود يئنون منه لممالأته الرومانيين وتودده إلى ولاتهم، وقد ترك آثار أبنية في بيروت وطيبارية، وعن يوسيفوس (ك20 فصل 11): أنه زاد في أبنية بانياس وجملها وسماها نيرونية إجلالا لنيرون، وبنى في بيروت ملعبا عظيما، وكان يصنع كل سنة ملاعب للشعب فيه، ويوزع برا وزيتا على أهليها، ونقل إليها قسما كبيرا من كل ما كان نفيسا ونادرا في غيرها من مدن ملكه؛ فمقته أهل تلك المدن لنزعه منها ما يزين به مدينة أجنبية عن مملكته، ومن أعماله أنه قلد رياسة الكهنوت حنان بن حنان، الذي كان في عهد المخلص، فجمع حنان مجمعا أشخص فيه يعقوب بن حلفي وغيره وشكاهم بمخالفة السنة، وقضى عليهم بالرجم، فأسخط هذا التجني أولي التقوى في أورشليم، وأرسلوا إلى أغريبا سرا فعزله أغريبا من رياسة الكهنوت، وبعد أن دمر الرومانيون أورشليم واليهودية اعتزل أغريبا مع أخته برنيكة في رومة، حيث قضى في آخر القرن الأول. (3) في ليسانياس
كان من ولاة سورية في القرن الأول للميلاد ليسانياس الذي ذكره لوقا البشير (ف3) أنه كان رئيس الربع على الإبلية، وروى يوسيفوس أنه كان ابن ليسانياس الشيخ والي الإبلية الذي حملت فلوبطرة ملكة مصر مرقس أنطونيوس على قتله سنة 34ق.م، وأخذت بعض أملاكه ، وبعد انتحارها خلفه ابنه زينودر حاكما في الجيدور واللجا وحوران، ولكن أغوسطوس أعطى هيرودس هذه الأعمال، وبقي لزينودر عنجر والإبلية وبعلبك، ثم خلف زينودر ليسانياس الثاني، وقد وجد بوكوك الجوالة الإنكليزي سنة 1737 صفيحة في أخربة الإبلية نفسها كتب عليها ما يؤخذ منه أنه كان في أيام طيباريوس حاكم يسمى ليسانياس رئيس الربع في الإبلية، وهذا يتبين منه افتراء ستروس على لوقا الإنجيلي لقوله: إن ليسانياس كان رئيس الربع في الإبلية عند ظهور يوحنا المعمدان للتبشير، وقال ستروس: إن ليسانياس قتل قبل الميلاد بثلاثين سنة، فهذه هفوة بستين سنة، فلم يميز ستروس بين ليسانياس الأول والثاني.
وأما الإبلية فقد توفرت قبلا الأقوال، وتضاربت في موقعها، وأما الآن فلم يبق من ريب في أنها كانت في موضع سوق وادي بردا، وتحقق ذلك من خطوط كثيرة وجدت في هذا المحل تبين أن هناك كانت الإبلية (طالع معجم الكتاب لفيكورو في كلمة إبيلا). (4) في ولاية اليهود بعد أرشيلاوس
بعد أن نفي أغوسطوس أرشيلاوس بن هيرودس عن ولاية اليهودية والسامرة وأدوم جعلها إقليما رومانيا، وأرسل لتدبير شئونها كوبونيوس بصفة نائب عن الملك، وخلفه ماديوس دمبيفيوس ثم استدعاه أغوسطوس، ونصب مكانه إينوس ردفوس، وبعد وفاة أغوسطوس أرسل طيباريوس سنة 15 للميلاد إلى اليهودية، فالريوس كراتوس، فاستمر إلى سنة 25م، فولى طيباريوس بيلاطوس البنطي، وفي عهده تم سر الفداء بموت المخلص مصلوبا، ومن أخبار بيلاطوس أنه أرسل جنودا إلى أورشليم وعلى أعلامهم صورة العاهل، فاستاء اليهود لحظر سنتهم الصور، وطلبوا إليه رفعها، فلم يصغ إليهم وأمر جنوده بالقبض عليهم وهددهم بالقتل، فانطرحوا على الأرض كاشفين أعناقهم، فعجب من تثبتهم بدينهم وأمر بأخذ تلك الأعلام إلى قيصرية ... ومنها أنه أراد أن يأخذ مالا من خزينة الهيكل؛ ليجر الماء إلى أورشليم فقاومه اليهود، وأفضى ذلك إلى قتل كثيرين، ومنها أيضا ما ذكره لوقا (ف13) عن قتله الجليليين، وخلطه دماءهم بذبائحهم؛ لأنهم شايعوا مبتدعا علم أنه لا يحل لليهود أداء الجزية لقيصر.
وروى كثيرون من الآباء والعلماء أن بيلاطوس كتب رسالة إلى طيباريوس ملكه يخبره بما صنعه المسيح من الآيات الباهرة، وبصلب اليهود له وقيامته، وذكر هذه الرسالة ترتوليانوس والقديس يوستينوس من القدماء، وكلامهما مؤذن بأن تلك الرسالة كانت أيديهم تتداولها، واشتبه بعض العلماء بصحة رسالة بيلاطوس، هذه وأحسن ما يقال بهذا الشأن هو ما كتبه العلامة منسى في حواشيه على تاريخ نطاليس إسكندر، وهو لا مراء في أن بيلاطوس كتب تقريرا إلى طيباريوس منبئا بما صنعه المسيح، وما صنعه به اليهود بحسب عادة ولاة الرومانيين أن يكتبوا لملوكهم ... ولكن هل بقيت هذه الرسالة إلى الآن، فهذا لا يمكن تأكيده، وهبها باقية فلا يمكن القطع بأنها هي التي كتبتها يد بيلاطوس، واستمر بيلاطوس يدبر اليهودية عشر سنين فدعي إلى رومة، والتقليد القديم أنه نفي إلى فيان بإفرنسة، وانتحر هناك ليأسه.
وبعد نفي بيلاطوس أقام ديتالوس والي سورية مرشلوس على اليهودية وأثبته غايوس، لكن نصب بعد ذلك أغريبا الأول كما مر، ولما توفي سنة 44م لم يشأ أن ينصب ابنه في مكانه لصغر سنه، فولى على اليهودية نيابة عنه كسبيوس فاروس؛ لأنه كان صديقا لآل أغريبا، وبقي فاروس على هذه الولاية سنتين، وخلفه بها سنة 46م طيباريوس إسكندر من الإسكندرية، وقتل يعقوب وسمعان ابني يهوذا الجليلي لحملهم اليهود على ثورة على الرومانيين، وقام بالولاية سنتين أيضا، وخلفه فيها كومانوس سنة 48، وخلفه كلود فيلكس وكان واليا على الجليل فألحقت اليهودية بولايته سنة 52، وكثر الهرج في أيامه، وتسبب باغتيال يوناتان عظيم الأحبار وهو الذي شكى إليه بولس الرسول، فأوثقه قائد الألف وأرسله إليه وهو بقيصرية، وكان يريد أن يسمع كلامه متواترا (أعمال الرسل ف23 و24)، ثم استدعى نيرون فيلكس إلى رومة سنة 60، وأرسل مكانه فستوس، وهو الذي شكا اليهود بولس الرسول بحضرته، وسمع له أولا وحده ثم بحضرة أغريبا، واستغاث الرسول بمحكمة قيصر (أعمال الرسل ف25 و26)، ومات فستوس سنة 61، فأقام نيرون مكان البين وكان معتسفا جائرا يتجر بحقوق العباد وأثقل اليهود بضرائب، وتزلف إليه الأغنياء بتقادمهم، وسر به المشاغبون؛ لأن تصرفه أفسح مجالا لثورتهم فدعاه نيرون إلى رومة سنة 64، وخلفه سنة 65 جسيون فلورس، فأنسى اليهود بجوره مظالم أسلافه، وابتدأت في أيامه الحروب بين اليهود والرومانيين (يوسيفوس ك2 في الحرب فصل 34)، وأما ولاة سورية فكانوا يقيمون بأنطاكية وكان قورينوس في أيام المولد وبعده خلفاؤه إلى لوشيدس غاليوس، الذي أمره نيرون بحرب اليهود، ولم نر كبير فائدة في ذكر أسماء جميعهم. (5) في حروب اليهود والرومانيين
إن هذه الحروب ابتدأت في 8 تشرين الثاني سنة 66 إلى 8 أيلول سنة 70، وقد كتب يوسيفوس تاريخها في سبعة كتب، وأنهينا نحن الكلام في تاريخها في المجلد الثالث من صفحة 337 إلى صفحة 375، وابتدأت في أيام نيرون، وأرسل فسبسيان والتقاه ابنه طيطوس من الإسكندرية فدوخ فسبسيان الجليل، وكان يوسيفوس المؤرخ من قادة اليهود، فأرغم أن يستسلم إلى فسبسيان وكان يريد أن يرسله إلى نيرون، فتنبأ يوسيفوس له بأن يخلف نيرون وابنه طيطوس يخلفه، فاستبقاه عنده وأعزه، ثم قدم فسبسيان إلى اليهودية وبلغه حينئذ خلع الندوة لنيرون الملك، ولم ينكف عن أعماله الحربية متقدما نحو أورشليم، ولما كان الجنود في إسبانيا أقاموا غلبا ملكا فقتله أوتون أحد المقربين إليه، وأقام الجنود بجرمانيا فتيلوس ملكا فانتصر على أوتون، وقتل أوتون نفسه، فأقام فسبسيان جنوده ملكا سنة 69 وأتى حينئذ إلى بيروت، فأطلق الحرية ليوسيفوس وكسر أغلاله، وحاصر ابنه طيطوس أورشليم وشد عليها الحصار، فحصلت بها مجاعة مريعة أكل بها بعض النساء أولادهن، وبقي الحصار على أورشليم نحو ستة أشهر وافتتحها طيطوس في 10 من آب سنة 70، ونقض الهيكل برمته إلا أسسه وبعض العضائد في الحائط الغربي، وأحرق كل ما كان في المدينة بيد الرومانيين، فاجتمع المشاغبون في المدينة العليا وهي صهيون، فحاصرهم طيطوس وضيق عليهم وخارت قواهم من الجوع والجهاد، وتسلق الرومانيون على الجدران فبسلوا كل من وجدوا، وفي 8 أيلول من تلك السنة أحرقوا صهيون ودكوا أسوارها.
قال يوسيفوس (ك6 في الحرب فصل 45): إن عدد القتلى في هذا الحصار كان مليونا ومائة ألف من النفوس أكثرهم من خارج المدينة كانوا أتوا إليها للجهاد والعيد، وأرى في قوله مبالغة على عادته ... وقال: إن عدد الأسرى سبعة وتسعون ألفا سلمهم طيطوس إلى فرنطون أحد حاشيته، فأمات بعضهم وأبقى من كانوا منهم شبانا أقوياء ليكونوا شهودا على الظفر، وأرسل بعضهم للأشغال الشاقة وباع من كانوا منهم دون السابعة عشرة بأبخس الأثمان، وأرسل طيطوس منهم إلى بعض المدن اليهودية وسورية؛ ليستخدمهم في المشاهد وتبددت أمتهم وتمت بخراب أورشليم والهيكل نبوات المخلص والأنبياء، وهذا جزاء الأمة التي غمطت نعمة ربها وصلبت مخلصها. (6) في بعض مشاهير الكتاب السوريين في هذا القرن الأول
من هؤلاء المشاهير نقولا الدمشقي ولد بدمشق سنة 74ق.م، واستمر حيا في صدر القرن الأول بعد الميلاد، وكتب باليونانية روايات ومآسي ومقالات فلسفية وترجمتي هيرودس الكبير وأغوسطس قيصر، وتاريخا عاما في مائة وأربعة وأربعين كتابا، ولم تبق الأيام من تآليفه إلا فقرا أذاعها كواري ببريس سنة 1804 في ثلاثة مجلدات عنوانها فقر التاريخ اليونانية، وكشف له أخيرا عن فقر من ترجمة قيصر ترجمها ديدوت إلى الإفرنسية، وطبعت سنة 1749 وسنة 1862.
ومنهم يوسيفوس الذي استشهدنا كثيرا بأقواله، وهو ابن ماتيا من النسل الكهنوتي، ويتصل نسبه بفرع من المكابيين وقد كتب ترجمة نفسه، وهي معلقة بصدر تأليفه الموسوم بحرب اليهود مع الرومانيين، وقد ولد سنة 37 للميلاد واقتبس العلوم وكان من شيعة الفرنسيين وزار رومة سنة 63، ونال حظوة كبرى لدى بوبية امرأة نيرون، وسنة 67 نصبه مجمع اليهود واليا على الجليل، فحارب الرومانيين وحاصروه في مدينة يوتاباط (جفت)، فأرغم أن يستسلم إليهم، وأعزه فسبسيان وطيطوس ابنه وصحبه إلى رومة وقد توفي نحو سنة 100 للميلاد، وقد كتب تاريخ أمته في عشرين كتابا وشهد في الثاني عشر منها فصل 4 شهادة صريحة للمسيح أنه رجل - إن ساغ أن سميته رجلا - عمل المعجزات وتبعه كثيرون، فشكاه بعض وجهاء أمتنا حسدا لبيلاطون وصلبه، وقد قام في اليوم الثالث وظهر حيا كما تنبأ، وله تاريخ حرب اليهود مع الرومانيين في سبعة كتب دونها أولا بالسريانية لغة أمته حينئذ، ثم ترجمها إلى اليونانية كما قال عن نفسه في ترجمته ومطاعن إبيون بأمته في كتابين، وأفرد كتابا لمدح الشهداء المكابيين السبعة، وترجمت مؤلفاته إلى عدة لغات وطبعت مرارا.
ومنهم يوستوس الطبراني (من طيبارية) وهو يهودي مذهبا كتب كتابا في تاريخ حرب اليهود سنة 73 أثبت به أن يوسيفوس حمل أهل الجليل على الثورة على الرومانيين، فخطأه يوسيفوس وأنبه على تحامله عليه، وأثبت أنه كان هو من رؤساء الثورة وشكاه إلى فسبسيان، ولو لم يشفع به إغريبا لقتله فسبسيان، ومع ذلك ألقي في السجن مرتين فعفا عنه إغريبا واتخذه كاتبا له، ولم ينشر تاريخه إلا في أيام دوميطيان، ولا يعلم هل بقي برمته أو بقيت فقر منه.
ومنهم فيلون اليهودي وكان من النسل الكهنوتي، وولد بالإسكندرية سنة 30 قبل الميلاد وتعمق بفلسفة اليونان على مذهب أفلاطون، وقد أرسله اليهود الإسكندريون إلى غايوس الملك لتخميد غضبه على اليهود لامتناعهم من وضع تمثاله في الهيكل، فكتب تاريخ وفادته، وله عدة تآليف في اللاهوت على مذهب العبرانيين وفي التاريخ والفلسفة، وقد ترجمت تآليفه إلى اللاتينية وطبعت بلندرة سنة 1742 وباريس سنة 1867.
وقال إسترابون (ك16): إنه لم يبق حينئذ في صور وصيدا فونيقيون يضربون في الآفاق للتجارة، بل كان كثيرون من أصحاب علم الهيئة والرياضيات، ومن الخطباء والفلاسفة، وأنه نشأ في صيدا في أيامه كثير من الفلاسفة منهم يواتيوس تلميذه وديودت أبوه، ونشأ بصور إنتباتر وقبله أبولون الذي نظم جدول الفلاسفة الزينونيين.
الفصل الثاني
في تاريخ سورية الديني في القرن الأول
(1) في الرب المخلص له المجد
هو ابن الله الأزلي الذي اتخذ جسدا من مريم العذراء دون مباشرة رجل، وصار إنسانا معلما الحق وطريق الخلاص، ومات عن الناس مكفرا عن آثامهم وصعد بالجسد إلى السماء فاتحا لهم بابها الذي كان مغلقا لمعاصيهم، وقد ذكر نسبه بالجسد متى الإنجيلي نازلا من إبراهيم إلى يوسف رجل مريم، وذكره لوقا صاعدا من يوسف إلى آدم، وقد ذكرنا سنة ميلاده في عدد 69 وأبنا ما فيها من الخلاف، وكذلك اختلف في سنة ابتدائه بالتبشير وموته، فذهب بعض العلماء أنه بدأ في كرازته في آخر سنة 25 من التاريخ العامي، ومات سنة 29 بناء أنه ولد قبل التاريخ العامي بأربع سنين، وبناء على التقليد أنه عاش ثلاثا وثلاثين سنة، ولكن ذهب الأكثرون ومذهبهم الأظهر هو أنه أخذ يبشر سنة 29 ومات سنة 33 من التاريخ العامي، وهذا يقضي عليهم أن يقولوا: إنه مات وعمره ست وثلاثون أو ثمان وثلاثون سنة ... وبعض أشهر متابعة لقولهم: إنه ولد سنة 749 أو سنة 747 لرومة أعني قبل التاريخ العامي بأربع أو ست سنين، وممن قالوا بهذا المذهب نطاليس إسكندر (في تاريخ القرن الأول مقالة 2)، ومما أيده به برهانان: الأول أنه جاء في التاريخ الإسكندري أن المؤلفين الوثنيين خصوا السنة 19 لطيباريوس بذكرهم أنه حدث بها كسوف خارق العادة لم يحدث مثله قبلا، فكان الظلام في الساعة السادسة من النهار شديدا حتى ظهرت الكواكب، وكان زلزال قوي في جهة بيتنيا، ولما كان السنة 19 لطيباريوس توافق السنة 33 للتاريخ العامي كانت النتيجة صريحة بأن المخلص مات سنة 33، وفي بدء السابعة والثلاثين من عمره ... وهذا مطابق لقول لوقا: إن المسيح بدأ في كرازته في السنة 15 لطيباريوس.
والثاني أن الإنجيليين صرحوا بأن المخلص مات في الخامس عشر من بدر نيسان يوم الجمعة، والحال أنه من جميع السنين الواقع الخلاف في أيها مات المسيح؟ أي: من سنة 31 إلى سنة 35 للتاريخ العامي لا توجد سنة كانت فيها الرابع عشر من نيسان يوم الخميس والخامس عشر يوم الجمعة، إلا سنة 33 من هذا التاريخ، إذ كان فيها الرابع عشر أي: الفصح يوم الخميس واكتمال بدرها يوم الجمعة في 15 منه، فتعين أن تكون هي التي مات المسيح فيها، وهي السابعة والثلاثون أو التاسعة والثلاثون من عمره وميلاده.
وقد أثبتنا في تاريخنا أن المخلص تكلم وبشر بلغة اليهود حينئذ، وهي اللغة السريانية التي كانت لغتهم بعد السبي البابلي وسميت عبرانية نسبة إليهم، ومن شاء الإسهاب في ذلك فليطالع عدد 498 في المجلد الثالث من تاريخنا صفحة 398 إلى صفحة 408. (2) في العذراء مريم عليها السلام
هي بنت يواكيم وحنة من سبط يهوذا، ومن نسل داود، فهي بالنسبة إلى حنة أمها بنت ناتان إلى سليمان بن داود، وبالنسبة إلى أبيها يواكيم المسمى هالي أيضا، هي بنت هالي بنت مطات إلى ناتان بن داود، وحبل بها ببشارة الملك وعصمها الله من لحاق الخطية الأصلية فولدت بريئة من دنسها، وجعل البابا بيوس التاسع هذه العقيدة من عقائد الإيمان سنة 1853، وقد نذرت عفتها متبتلة إلى الله، واستمرت بتولا قبل الميلاد وفي حينه وبعده، وقد دعتها الأسفار المقدسة تارة خطيبة وتارة زوجة ليوسف، وقال عامة المفسرين: إنها كانت زوجة له، وقال بعض الحدثاء: إنها كانت مخطوبة ولم يعقد زواج بينهما إلا بعد أن قال الملك ليوسف: لا تخف من أن تأخذ مريم خطيبتك، وعلى كل الأقوال أن يوسف كان زوجها؛ ليكون حارسا بتوليتها إلا ليعيش معها كرجل مع امرأته، ولم يعرفها حتى ولا بعد أن ولدت ابنها البكر والوحيد، ومن سماهم الكتاب إخوته إنما هم أنسباؤه الأدنون أبناء حلفي أخي يوسف، وكانت مريم ملازمة يسوع إلى أن ظهر للتبشير وصحبته في بعض أسفاره لذلك كحضورها بعرس قانا ورافقته إلى الجلجلة، ووقفت حذا صليبه بشجاعة سامية، وظهر لها بعد قيامته قبل أنصاره، وكانت مع الرسل حين صعوده، وحين انتظارهم حلول الروح القدس عليهم، وأقامت بعد ذلك في بيت يوحنا الإنجيلي، وقد فاضت روحها القدوسة على الراجح نحو سنة 52 ... قال القديس يوحنا الدمشقي (في خطبة 2 في رقاد العذراء): إن الرسل لدن موت العذراء كانوا متفرقين في الآفاق، فأتوا بمعجزة إلى أورشليم، وبعد أن فاضت روحها دفنوا جسمها المبارك في الجسمانية، وأبطأ توما ولما حضر أحب أن يتبارك بجسمها الطاهر ففتحوا المدفن فلم يجدوه، فتيقنوا أن الله أقامها، ولكن قال القديس إبيفان (في بدعة 78): إنه لا يستطيع أن يقول: إنها ماتت أو استمرت غير ميتة وأنها دفنت أو لم تدفن، وأنه لا يمتري في أنها إذا كانت ماتت، فموتها كان سعادة، ورفع بعض الأساقفة في المجمع الفاتيكاني عريضة لبيوس التاسع؛ ليجعل انتقال العذراء من عقائد الإيمان، وفي المجمع الإفسسي رسالة يتبين منها أن بعض الناس في القرن الخامس كانوا يعتقدون أن العذراء ماتت ودفنت في إفسس، وكذلك في رؤيا للعابدة كاترينا أماريك، لكننا نرى من كتبوا في القرن الخامس نفسه ينصون على أنها توفيت في أورشليم، ودفنت بالجسمانية، والله أعلم. (3) في الرسل
الأول:
هو بطرس بن يونا وأخو أندراوس الرسول: ولد ببيت صيدا وكان اسمه أولا سمعان، فسماه المخلص عند دعوته كيفا، وهي كلمة سريانية معناها الصخرة أو الصفاء، وأعزه وقدمه على جميع الرسل، وجعله رئيسا لهم وللكنيسة جمعاء وكصخرة لا تقوى عليها أبواب الجحيم، وسلمه مقاليد ملكوت السماء حتى كل ما حله في الأرض يكون محلولا في السماء، وكل ما ربطه في الأرض يكون مربوطا في السماء، وسلمه بعد موته رعاية خرافه ونعاجه ليرعاها، وصلى من أجله لئلا ينقص إيمانه وأمره أن يثبت إخوته، وبعد صعود المخلص إلى السماء أخذ بتدبير الكنيسة، ونصر عند حلول الروح القدس عليه وعلى التلاميذ نحو ثلاثة آلاف نفس، وبعد أيام خمسة آلاف نفس، وطاف مبشرا وأقام كرسي رياسته أولا في أنطاكية في سنة 35 أو سنة 36 إلى سنة 42، ثم ترك أنطاكية مستخلفا فيها أوديوس ومضى إلى رومة يقيم كرسيه في عاصمة المملكة، كما تقتضي رسالته العامة، وعاد إلى أورشليم سنة 44، فسجنه أغريبا ونجاه ملك الرب من السجن بكسره السلاسل التي كان مقيدا فيها، وكتب رسالته الأولى العامة من رومة سنة 50، وسنة 51 طرده كلود من رومة، فأتى إلى أورشليم فعقد مجمع الرسل بأورشليم ثم عاد إلى رومة سنة 65 بعد تطوافه للتبشير، وكتب رسالته الثانية إلى المؤمنين الذين تنصروا على يده، وأسقط سيمون الساحر من الجو فاستاء منه الوثنيون، ووشوا به إلى نيرون الملك فسجنه ثم علقه على الصليب منكسا في 29 حزيران سنة 67م.
الثاني:
بولس الرسول: وهو شاول من سبط بنيامين، ولد بترسيس وأصل أهله من الجش بالجليل، ولم يكن من عداد الرسل الذين اختارهم المسيح بحياته، بل دعاه بعد صعوده إذ ضربه ملك الرب وهو منطلق إلى دمشق؛ ليضطهد المسيحيين فأعماه وأرسله إلى حنانيا فأعاد إليه بصره وعمده، وأخذ في التبشير بدمشق وبلاد العرب ، ثم أتى إلى أورشليم وخرج مبشرا اليهود والأمم في سورية وآسيا الصغرى وبلاد اليونان وإيطاليا وإفرنسة وإسبانيا متحملا من المشاق والحبوس والجلد، والأعذبة ما ذكره في رسائله، ولا سيما في رسالته الثانية إلى القرنتيين (فصل 11)، وما ذكره في أعمال الرسل، وكتب إلى المؤمنين أربع عشرة رسالة باليونانية إلا رسالته إلى العبرانيين، فكتبها بلغتهم السريانية وقد سجنه نيرون برومة، ثم خلى سبيله سنة 62 أو سنة 63، فمضى إلى إسبانيا وغيرها مبشرا، ثم عاد إلى روما فقبض عليه مع بطرس الرسول، وقطع رأسه 29 حزيران سنة 67 في اليوم الذي صلب فيه بطرس الرسول.
الثالث:
يوحنا: وهو ابن زبدي وصالومي وأخو يعقوب الكبير، ولد ببيت صيدا وسماه المخلص مع أخيه بوانرجس أي: ابني الرعد؛ لشدة غيرتهما وعظمة إيمانهما، والأظهر أنه عاش متبتلا إلى الله، وكان المخلص يحبه حتى سمى نفسه التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وقد رافق المخلص إلى الجلجلة حيث قال له: يا يوحنا هذه أمك، ولأمه: يا امرأة هذا ابنك ... وقد رافق بطرس الرسول في بعض أسفاره للتبشير، وقد بشر في آسيا، وأقام مدة طويلة بإفسس وما جاورها واستمر فيها من سنة 66 إلى أن اقتيد إلى رومة سنة 95، وألقي في مرجل زيت يغلي فلم تمسه مضرة، ثم نفي إلى جزيرة بطموس، وهناك كتب كتاب رؤياه وعاد إلى إفسس سنة 97، فكتب إنجيله وجل ما تعمد فيه إثبات لاهوت المسيح، وعاش مديدا وتوفي بإفسس سنة 100 للتاريخ العامي، وله ثلاث رسائل أيضا كتبها في آخر عمره.
الرابع:
متى الرسول: ولد في الجليل، وكان عشارا يجبي العشر وسماه باقي الإنجيليين لاوي، وسمى نفسه متى، واختلف في محل تبشيره، فعن القديس إيرونيموس وغيره أنه بشر، ونال إكليل الشهادة ببلاد فارس، وعن سقراط وغيره أنه بشر في الحبشة، وقال بعضهم: إنه مات حتف أنفه، وبعضهم أن أحد ملوك الحبشة أرسل جنودا قتلوه وهو يقدس، وكتب إنجيله بالسريانية بطلب الرسل والمؤمنين قبل تفرق الرسل للتبشير، وترجم إلى اليونانية مذ القرن الأول.
الخامس:
يعقوب بن حلفي: ويوصف بالصغير تمييزا له عن يعقوب بن زبدي أخي يوحنا الرسول، ويسمى أخا الرب؛ لأنه كان نسيبا للمسيح من جهة أبيه حلفي أو من جهة أمه مريم، وصير أسقفا على أورشليم لكنه لم يباشر أسقفيته عليها إلا بعد براح بطرس والرسل لها، ويظهر أنه أقام على هذه الأسقفية نحوا من ثلاثين سنة إلى أن أشخصه إغريبا بشكوى ابن حنان رئيس الكهنة له بمخالفة السنة، وقضي عليه بالرجم وأصعدوه على إحدى شرفات الهيكل، فما انفك يصرخ بأن المسيح إله جالس عن يمين الله فطرحوه من شرفة الهيكل، ولم يمت بل جثا مصليا عن أعدائه، وأخذوا يرجمونه وتقدم قصار فضربه بهراوة على رأسه، ففاضت روحه سنة 62 أو سنة 63، ودفن في جانب الهيكل في محل شهادته، وله رسالة يظهر أنه كتبها سنة 63.
السادس:
أندراوس الرسول: وهو ابن يونا وأخو بطرس، وتتلمذ أولا ليوحنا المعمدان ودعاه يسوع إلى اتباعه قبل أخيه بطرس، وقد بشر ببلاد التتر بعد أن اجتاز مبشرا الجاليات اليونانية على البحر المتوسط إلى الدردنل، وبشر أخيرا في بلاد اليونان، ونال إكليل الشهادة مصلوبا بمدينة بتراس في إخائيا سنة 62.
السابع:
يعقوب الكبير بن زبدي: أخو يوحنا دعاهما المخلص، إذ كانا يصلحان شباكهما، وبعد صعود المخلص بشر اليهود في فلسطين وسورية، ثم اليهود في إسبانيا، وعاد إلى أورشليم فقبض عليه إغريبا المسمى هيرودس، وقطع رأسه في أورشليم سنة 42، أو سنة 44 (أعمال الرسل ف12).
الثامن:
فيلبوس الرسول: ولد في بيت صيدا ودعاه المخلص، فاتبعه ثم وجد نتانائيل واقتاده إلى المسيح (يوحنا فصل 1 عدد 43)، وبشر بفريجية وآسيا الصغرى، وقال بعضهم: إنه علق على صليب ورجم بمدينة هيرابولي، وقال غيرهم: إنه مات حتف أنفه بفريجية، ويظن أن ذلك كان سنة 80.
التاسع:
برتلماوس الرسول: كان من الجليل كباقي الرسل، وظن كثيرون أنه نتانائيل الذي اقتاده فيلبوس إلى يسوع، ومن أدلتهم على ذلك أن الإنجيليين الذين ذكروا برتلماوس لم يذكروا نتانائيل، ويوحنا الذي ذكره لم يذكر برتلماوس، واعتمد شعوب المشرق هذا القول، وروى كثيرون من علماء السريان وغيرهم أنه بشر بالهند، وأخذ معه إلى هناك إنجيل متى، وقال غيرهم: إنه بشر بالعربية السعيدة وفارس، والأرجح أنه مات في مدينة باتوبلي على بحر الخزر، وأنه مات مسلوخا معلقا على الصليب سنة 71.
العاشر:
توما الرسول: من الجليل أيضا بشر البرتيين والماديين وغيرهم، وروى ابن العبري أنه بشر أيضا بالهند، وأنه قضى هناك شهيدا بمدينة اسمها كلامينا سنة 75، وهناك نصارى يسمون نصارى القديس توما وأثبت السمعاني هذا القول بأدلة كثيرة (طالع مجلد 3 في المكتبة الشرقية صفحة 25 إلى 27).
الحادي عشر:
سمعان القانوني الرسول: الأظهر أنه ولد بقانا الجليل، واختلف في مكان تبشيره وموته، فذهب بعضهم أنه بمصر والقيروان وغيرهما من أعمال إفريقيا وبجزر بريطانيا وقضى مصلوبا، وذهب آخرون أنه بشر في ما بين النهرين، ومات شهيدا ببلاد فارس سنة 64.
الثاني عشر:
يهوذا الرسول: ويسمى تادي ولابي كان ابن حلفي وأخا يعقوب الصغير، وذهب القديس يولينوس (قصيدة 26) أنه بشر في الصعيد، وروى القديس إيرونيموس (في تفسير ف10 متى) أنه أرسل بعد صعود المخلص إلى أبجر ملك الرها، والأظهر أن تادي الذي أرسل إلى أبجر لم يكن من الرسل الاثني عشر، بل من الاثنين والسبعين مبشرا (السمعاني في المكتبة الشرقية مجلد 1 صفحة 319)، وذهب بعض من علماء اليونان والسريان أن يهوذا بشر بالرها، وما بين النهرين وأرمينية وفارس، ومات بفارس مرشوقا بالسهام سنة 64 وله رسالة عامة ذات فصل واحد.
الثالث عشر:
ماتيا: كان أولا من مصاف تلاميذ المخلص، واختاره الرسل بدلا من يهوذا الإسخريوطي، وبشر على رأي بعضهم في اليهودية، ثم سار إلى تدمر وطاف ما بين النهرين والعربية الجنوبية، وعاد إلى اليهودية، ثم قضى مرجوما ببيروت، وقال آخرون: إنه استشهد ببلاد فارس، وروى غيرهم أنه رجم وقطع رأسه بأورشليم سنة 62. (4) في التلاميذ والمبشرين
جاءت كلمة تلميذ في العهد الجديد بمعنى المؤمن بالمسيح، وبمعنى الرسول ويراد بها خاصة المبشرون الاثنان والسبعون الذين أرسلهم المخلص اثنين اثنين إلى كل مدينة أزمع أن يدخلها، ولم يكن في القرن الرابع جدول أكيد لأسمائهم، ولكن يمكن أن يحصى بين مصافهم ماتيا المار ذكره والشمامسة السبعة، وحننيا الذي عمد بولس وغيرهم، وعد بعضهم مرقس في جملتهم ولوقا الإنجيليين، وخالفهم آخرون ولا سيما في لوقا.
أما مرقس الإنجيلي فمذهب الجمهور أنه يوحنا مرقس الذي ورد ذكره مرات في أعمال الرسل، وكان كاتبا وترجمانا لبطرس الرسول، وصحب بولس الرسول مدة، ثم افترق عنه بأنطاكية ولزم بطرس وانطلق معه إلى رومة، وهنا كتب إنجيله بتلقين بطرس له في إحدى السنين التي بين الخامسة والأربعين والخمسين، وذهب بعضهم أنه كتبه باللاتينية؛ لأنه كان في رومة، والأظهر أنه كتبه باليونانية؛ لأنه كتبه ليمضي به إلى الإسكندرية التي أرسله إليها، ونجح بتبشيره ونما عدد المؤمنين بالقطر المصري وكثر فيهم النساك والزهاد؛ حتى سمي مرقس رئيس المتنسكين، وعنهم أخذت الطريقة الرهبانية، وأقام المدارس المسيحية في الإسكندرية، ونبغ فيها كثير من العلماء والأحبار، وحنق الوثنيون عليه لنسخه عبادة آلهتهم فوثبوا عليه نهار الأحد في 25 نيسان سنة 68، وأجروا عليه أعذبة متنوعة إلى أن فاضت روحه.
وأما لوقا فولد بأنطاكية وكان صبيا، ولم يكن يهوديا على الأصح، بل وثنيا آمن بالمسيح على يد بولس الرسول، ثم صحبه للتبشير مدة ثم انفرد عنه، وذهب القديس إبيفان (بدعة 51) أنه بشر بدلماسيا وإفرنسة وإيطالية ومكدونية، وذهب متفرست أنه بشر بمصر وليبيا والصعيد عدا تبشيره مع بولس الرسول ... وفي محل وفاته ونوعها اختلاف روايات بين أنها كانت في إخائيا أو تاب أو المورة وكلها في بلاد اليونان، وبين أنه مات مصلوبا أو حتف أنفه سنة 90 على ما في سنكساري طائفتنا، وله من العمر ثمانون سنة، وكتب الإنجيل المعزو إليه وكتاب أعمال الرسل باليونانية ، وقد فرغ من تدوين هذا الكتاب سنة 62 أو 63، أما الإنجيل فكتبه قبل ذلك وعبارته اليونانية أفصح مما كتب بهذه اللغة من أسفار العهد الجديد.
ومن المبشرين تادي الموفد إلى أبجر ملك الرها روى أوسابيوس (ك1 من تاريخه ف13) أن أبجر ملك الرها كان مصابا بمرض أعيى الأساة، وسمع بآيات المسيح فأرسل إليه رجلا اسمه حنانيا مصحوبا برسالة يسأله فيها أن يأتي فيبرئه، فأجابه المخلص أنه سيرسل إليه أحد تلاميذه فيشفيه، وأن توما الرسول أرسل بعد صعود المخلص تادي أحد السبعين إلى الرها، فوعظ أبجر ملكها فآمن بالمسيح هو وقومه وشفي من مرضه، وقال أوسابيوس: أنه أخذ عن سجلات الرها نسخة رسالة أبجر إلى المسيح، ونسخة جواب المسيح إليه، وقد وجد حديثا في مكتبة الأمة ببريس ترجمة أرمينية لتعليم تادي تشتمل على الرسالتين، فأذيعت هذه الترجمة ببريس سنة 1867، والترجمة الأرمينية أخذت عن الأصل السرياني، ومنه نسخة في المتحف البريطاني طبعت بلندرة سنة 1864 خلية من الرسالتين لسقوط الأوراق الأولى من تلك النسخة، ولكن وجد الكتاب كاملا في المكتبة الملكية ببطرس برج مكتوبا بالأحرف السترانكلية في القرن السادس، وللعلماء في ذلك مباحث طويلة أصحها أن رسالة أبجر إلى المسيح لا مرية في صحتها، وأما رسالة المسيح إلى أبجر، فالصحيح أنها كانت بلاغا شفاهيا بلسان موفد الأبجر سطره مسجلو الرها، كما لقنهم إياه الموفد المذكور، وهذا قول علامتنا السمعاني (مجلد 1 من المكتبة الشرقية صفحة 554): «إن أقوال العلماء المتضاربة يمكن توفيقها بقولنا: إن المخلص لم يكتب الرسالة إلى أبجر، بل تلقاها من فمه الأقدس ودونها المسجلون في سجلات الملك، ولم تحسب بين الكتب المنزلة؛ لأن كاتبها لم يكن ملهما، وأما رسالة أبجر إلى المخلص فأنا موقن بأنه ليس من دليل يخالف صحتها ... وعلماء السريان مجمعون على أن أبجر أرسل رسولا إلى المخلص، وأيد ذلك كثيرون من اليونان واللاتين.» وأما تادي فبعد أن أبرأ أبجر من مرضه وآمن هو وشعبه بالمسيح، مضى هو وتلميذاه أجى ومادي إلى المشرق يبشرون بالمسيح، ثم عادوا إلى الرها، وكان أبجر قد توفي وخلفه ابنه فقتل تادي هذا رأي ابن العبري في تاريخه، وعن السمعاني في المكتبة الشرقية (مج2 صفحة 611) أن تادي بعد رجوعه من التبشير توفي في حياة أبجر في سنة 12، بعد صعود المخلص وعن بعضهم في سنة 20 بعد الصعود.
ومن المبشرين الاثنين والسبعين سمعان خليفة يعقوب الرسول في أسقفية أورشليم، فقد أنبأنا أوسابيوس (ك3 من تاريخه ف11) أن الرسل والتلاميذ اجتمعوا بعد استشهاد يعقوب الرسول ليختاروا خلفا له، فأجمعوا على اختيار سمعان بن حلفي أخي يوسف، على ما روى هجيسبوس، وكان في جملة التلاميذ الاثنين والسبعين، واعتزل مع المؤمنين في عبر الأردن إبان الحرب بين اليهود والرومانيين، ثم وشي به إلى والي فلسطين فأذاقه مر العذاب وأخيرا صلبه فجاد بروحه سنة 107م. (5) في بعض الأساقفة بسورية في القرن الأول
حنانيا الذي نصر بولس الرسول كان أسقفا على الأصح بدمشق، ومات شهيدا فيها وخلفه أغناطيوس تلميذه على ما روى كثيرون.
كوارتوس أسقف بيروت، جاء في كتاب نشره البولانديون في ترجمتي الرسولين بطرس وبولس أن بطرس بعد أن أخرجه الملك من السجن سار إلى بيروت، وأقام فيها أحد رفقائه أسقفا، وقال مؤلف الكتاب المعزو إلى دوروتاوس وإيبوليطوس إن هذا الأسقف كان اسمه كوارتوس، وهو من الاثنين والسبعين وذكره الرسول في رسالته إلى الرومانيين (ف16 عدد 23) بقوله: «يسلم عليكم كوارتوس الأخ.»
وروى لاكويان في المشرق المسيحي (مجلد 3 صفحة 821) أن بطرس الرسول اجتاز بأطرابلس وهو ماض إلى أنطاكية، فأقام فيها أسقفا واثني عشر كاهنا، وكان اسم هذا الأسقف ماروتس، وكان زكي أول أسقف على قيصرية فلسطين اختاره بطرس، ثم خلفه توافيلوس من أنطاكية، ثم كرنيليوس ذكره مؤلف الكتاب سورية المقدسة، وقال: إن لوقيوس كان أول أسقف على اللاذقية وذكره الرسول في رسالته إلى الرومانيين (ف16 عدد 21)، وذكر لاكويان في المشرق المسيحي دوسيتاوس أول أسقف على السويدية، وكان تريتاس معلم الناموس أسقفا على اللد وفيليمن تلميذ بولس أسقفا على غزة، وقيل: إن الرسول أقامه أسقفا على كولوسايس.
الفصل الثالث
في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثاني
(1) في بعض أحداث بسورية في أيام ترايان
إن ترايان خلف نرفا سنة 98، وكانت بعض مدن سورية قد بقي لها نوع من الاستقلال منها دمشق وبصرى بحوران وعمان وحجر (بترا) ببلاد العرب التي كانت عاصمة النبطيين، وكانت سلطتهم تمتد إلى دمشق، وكانت هذه البلاد مستوعرة يكثر بها السلب وقطع الطرق، فأرسل ترايان كرنيلوس بلما قائد جيشه سنة 105، فأمنها وجعلها إقليما رومانيا وجعل بصرى مقرا لفيلق من الجنود، فرقى أهل البلاد في مدارج الحضارة وزينوا مدنهم بآثار تدهش أطلالها الجوالة الآن.
وبعد أن قهر طيطوس اليهود هاجر جم غفير منهم إلى شرقي الأردن، الذي كان يليه حينئذ ملوك النبطيين وولاة دمشق وبعلبك وتدمر، حيث كشف دي فوكواي خطوطا آرامية دالة على ذلك، وهاجر قوم من العرب الحميريين، فأقاموا بحوران والبلقاء ورغبوا في الحراثة والتجارة، فعمرت هذه البلاد وأيسر أهلها ... وعثر ودنيكتون على خطوط يونانية مؤذنة بأن كرنيلوس بلما المذكور جر الماء إلى الكرك، وإلى السويدية بحوران.
وروى أوسابيوس (ك2 من تاريخه ف2) أن اليهود هاجوا بقبرس ومصر والقيروان، وقتلوا ألوفا من اليونان والوثنيين وارتكبوا فظائع وقسوة بربرية، فلم يتحمل ترايان هذه الفظائع، فأثخن قادة جيشه والقبرسيون باليهود في جزيرتهم وقتلوا كل من وقع بيدهم منها، وحظروا على كل يهودي الدخول إلى الجزيرة، وقتل الإسكندريون كل من وجد في مدينتهم من اليهود، وأرسل ترايان مرسيوس بجيش إلى مصر فأهلك منهم جما غفيرا، وقتل كثيرون من النصارى أيضا، قتلهم إما اليهود لبغضهم لهم وإما الوثنيون؛ لأنهم لم يميزوهم عن اليهود، وكان في سنة 115 زلزال أخرب أكثر أبنية أنطاكية وهلك تحت الردم خلق كثير، وكاد ترايان نفسه يهلك معهم لأنه كان يومئذ بأنطاكية. (2) بعض ما كان بسورية في أيام أدريان
خلف أدريان ترايان سنة 117، وأقام في المشرق من سنة 122 إلى سنة 125 وعاد إليه أيضا سنة 129، ونظم فيه أمورا كثيرة وله فيه آثار وافرة، منها وأهمها شروعه في بناء هيكل الشمس ببعلبك، وقد أكمله خلفاؤه أنطونينوس بيوس وسبتيموس ساويروس، فأحدث هؤلاء الملوك ببعلبك الهياكل والأروقة، وأما الصخور الضخمة والأسس فالأولى أن تنسب إلى الآراميين والفونيقيين، ولا شك في أنه كان هناك معبد لإله مصري قبل أيام الرومانيين، وقد مضى أدريان إلى تدمر سنة 130، وعثر دي فوكواي وودنيكتون هناك على خطوط دالة على ذلك وصحبه فرقة من الجنود العملة، وروى كثيرون من الجوالة أن في الطريق من دمشق إلى تدمر، ومن تدمر إلى الفرات أطلال اثنين وأربعين حصنا يبعد كل منها عن الآخر مسافة ثلاث ساعات، ويترجح أن أدريان أنشأها ولا يبعد أنه أحدث شيئا في أبنية تدمر التي جعل أهلها جالية رومانية، ووجد في بعض الآثار أن هذه المدينة تسمى أرديانيل نسبة إليه، وعثر ودنيسون على خط قرب باب مدينة جبيل مؤذن بأن أدريان أصلح هذا الباب، وقال رنان (بعثة فونيقي صفحة 214): إن أدريان جدد بناء هذه المدينة؛ ولذلك لم يجد من آثارها الكنعانية إلا بعض المدافن، ووجد في دمشق سكة كتب عليها: «إلى الإله أدريان» تملقا له، وقد عني بتمهيد الطريق المؤدية من دمشق إلى بترا ورصف جنوده محلات كثيرة منها تشاهد آثارها حتى الآن في صحراء موآب، وجعل بصرى عاصمة حوران محطة لتجارة كبيرة تأتي إلى دمشق بتمر الحجار وطيوب اليمن، وتجلب للعربية الحبوب والزبيب من وادي الأردن والسلع من آسيا.
وكانت فرقة من الفيلق العاشر حالة بأورشليم أشغلها أدريان بتمهيد أخربة الهيكل، وبنى هناك هيكلا للمشتري وأسكن جالية رومانية في مدينة صهيون، وسمى أورشليم إليا كابيتولينا نسبة إليه؛ لأن اسمه إليوس والي هيكل المشتري برومة، وقيل: إن أدريان حظر على اليهود أن يختنوا أولادهم، فهاجوا وماجوا وحملوا السلاح وقام بينهم رجل اسمه بركوكبا حسبوه المسيح المنتظر، وقالوا: هذا هو الكوكب الذي يشرق من يعقوب، واعتدوا حتى على الجنود الرومانيين، فلم يحفل الرومانيون بثورتهم أولا فتمادوا بشرهم فهب إليهم أولا والي اليهودية، فقتل منهم كثيرين، ثم أرسل أدريان عليهم يوليوس ساويروس فلم يقتحمهم دفعة واحدة، بل أخذ يضرب محلا فمحلا ويضيق عليهم فدمر نحو تسعمائة قرية، وقتل منهم نحو خمسمائة ألف حتى استعظموا مصابهم هذا على مصابهم في حصار طيطوس، وأخذوا منهم كثيرا من الأسرى باعوهم بأبخس الأثمان، وأرسلوا إلى رومة كثيرين فكانوا طعاما للأسود، وكان بركوكبا من جملة القتلى، وحظروا عليهم الدخول إلى أورشليم إلا يوما في السنة؛ لينوحوا على خراب أورشليم، واستمروا على ذلك إلى أيام القديس إيرونيموس، ولا يرخص لهم بذلك ما لم يدفعوا مبلغا من المال، ويظهر أن هذه الأحداث كانت سنة 132.
ومن الغريب كثرة نقش اسم الملك أدريان على صخور بلبنان من صنين إلى جبة بشري، حتى عدد رنان منها ثمانين خطا، وله في هذه الخطوط رأيان: الأول أن أدريان وضع نظاما لقطع الأشجار في غابات هذه البلاد، فكتب اسمه في أماكن كثيرة حفظا لنظامه، والثاني أنه أقام بسورية سنين متطاولة، وكان مولعا بزيارة المعابد فيحتمل أنه طاف هذه الأماكن لزيارة هياكل مقامة فيها، ونقش اسمه في القرب إليها، وفي أيامه شرع الربيون يكتبون كتابهم المعروف بالتلمود، وأول من أخذ في كتابته علماء مدرستهم في طيبارية، ويسمى التلمود الأورشليمي ولهم تلمود آخر يسمى البابلي كتبه بعض الربيين المهاجرين إلى بابل لما أنزل بهم أدريان الملك. (3) في بعض ما كان بسورية في أيام أنطونيوس بيوس ومرقس أورليوس
لم تكن أحداث هامة في أيام أنطونيوس بيوس الذي خلف أدريان سنة 138، بل رتعت المملكة في رياض السلم والراحة، وسن لها رسوما ضمها إلى الناموس الروماني، وكف الاضطهاد عن المسيحيين وكان أكثر رفقا بهم، ويظهر أن ذلك نتيجة المحاماة التي رفعها إليه وإلى أبنائه والندوة والشعب الرومانيين القديس يوستينوس، الذي كان من نابلس وقد برع في الفلسفة، وتضلع في مذاهبها قبل أن يتنصر، وله في هذه المحاماة أقوال عسجدية وعبارات درية لخصت شيئا منها في تاريخ سورية (مج3 صفحة 577)، وأدركت الوفاة أنطونيوس بيوس سنة 161.
وخلفه مرقس أورليوس الذي كان أنطونيوس قد تبناه، وأشرك في الملك لوشيوس فاروس أخاه بالتبني، لكنه لم يتخذ لنفسه إلا اسم نائب الملك، ومن الأحداث بسورية في أيامهما حملة البرتيين عليها، وقهرهم جنود الرومانيين فيها، فأرسل مرقس أورليوس جيشا كثيفا إليها أمر عليه أخاه وشريكه فاروس، فاسترد الجيش الروماني المدن والأعمال التي كان البرتيون قد استحوذوا عليها، وكان من قادة هذا الجيش رجل اسمه إفيديوس كاسيوس سوري أصلا، وكان أبوه واليا بمصر على عهد أدريان وأنطونينوس، وحصلت ثورة بمصر فأمره مرقس أورليوس أن يدخل إليها، فدخل وخمد الثورة وأنفاس الثائرين، وزينت له نفسه أن يجدد ما عمله فسبسيان، وأشاع أن مرقس أورليوس مات ، فنادى به جنوده ملكا، فأعلنت الندوة أن كاسيوس عدو للمملكة وضبطت أملاكه، فارتاع بعض جنوده، وقلبوا له ظهر المجن وانتهز بعض أعدائه هذه الفرصة، فقطعوا رأسه وأرسلوه إلى الملك، فأسف لخسارة المملكة بموته قائدا باسلا ولفوات الفرصة له أن يبدي حلمه بعفوه عنه، ورد إلى أولاده نصف أملاكه، وقضى أن لا ينصب وال على بلد ولد فيها، فكانت سنة من سنتهم القديمة.
وزار مرقس أورليوس المشرق وأتى إلى أنطاكية، وجل ما عاقب به أهلها منعهم عن دخول المشاهد والاحتفاء بالأعياد مدة، وزار إسكندرية وكان يتردد فيها بثوب فيلسوف منادما الفلاسفة، وعلى صخور نهر الكلب خط كتب فيه ما ملخصه: «للقيصر مرقس أورليوس؛ لأنه مهد الجبال المشرفة على النهر ليكوس (نهر الكلب)، ووسع الطرق بعناية الفيلق الثالث الإفرنسي»، وعثر ودنيكتون على عدة خطوط بحوران نقشها كاسيوس المذكور إجلالا لمرقس أورليوس قبل ثورته وعصيانه على هذا الملك، وقال ودنيكتون: «يظهر أن السوريين كانوا يحبون كاسيوس؛ لأنهم لم يحطموا اسمه كما محوا اسم غيره من الولاة.» وتوفي مرقس أورليوس سنة 180. (4) بعض ما كان بسورية على عهد سبتيموس ساويروس
بعد وفاة مرقس أورليوس خلفه ابنه كومود سنة 180، ولم نطلع على ما كان بسورية في أيامه، وقد عثر ودنيكتون في السويدة بحوران على خط يوناني (2308) مؤذن بإقامة والي العربية ذكرا للملك كومود بمعرض جلبه الماء إلى السويدة، وضواحيها في السنة 8 لكومود وهي سنة 187، وبعد موت كومود سنة 193 رقي إلى منصة الملك برتينكوس، ولم يملك إلا شهرا وقتله قواد الجيش، وقام بعده يوليانوس ساويروس ونيجر على أن الذي استتب له الملك سنة 193 إنما هو سبتيموس ساويروس، وكان متزوجا بامرأة من سورية اسمها جولية دمنة، وقد كشفت لنا الآثار عن كثير من أخباره، وكان التاريخ قد ضن علينا بها، فقد وجدت صفيحة على مقربة من بيروت كتب عليها ما ملخصه: «لسلامة الملك القيصر سبتيموس ساويروس ومرقس أنطونينوس ابنه وجولية دمنة أمه وسائر أهل بيته» (ودنيكتون 1843)، وكشف عن خط آخر في جنوبي بيروت دال على المحطة الأولى من بيروت إلى صيدا كتب فيه: «جدد الملك سبتيموس ساويروس وابنه الطرق الجندية بعناية فيديوس روفس والي سورية فونيقي» (1844).
وقسم ساويروس سورية قسمين: الأول إلى الشمال وفيه سورية الكومجانية والمجوفة إلى السهول التي على ضفتي العاصي وما بين اللكام ولبنان، والثاني إلى الجنوب والشرق وفيه سورية الفونيقية والشطوط البحرية، وشرقي لبنان إلى وسط البرية ومنه بعلبك ودمشق وحمص وتدمر، وكان أهل أنطاكية مالئوا أعداءه فعاقبهم بصرامة، ثم عاد إليها وأقام بها مدة وجامل أهلها وبنى فيها حمامات عظيمة وعني بإصلاح الطرق بين المدن البحرية، فقد وجد في الطريق من صور إلى صيدا أربع صفائح دالة على الأميال، ومؤرخة في سنة 198، وكان جنود نيجر أحرقوا صور فجدد ساويروس بناءها وأسكن فيها بعض المتقاعدين، وجعلها جالية رومانية، وكان لبيروت هذا الحق من قبل، وكانت بها في أيامه مدرسة كبرى لتعليم الشرع الروماني، واشتهر بها حينئذ بابنيان وأولبيان وغيرهما من مشاهير الفقهاء، وقد جاهر أهل بيروت أولا بالعداوة لساويروس لكنهم تزلفوا إليه دون إبطاء، وأحبوه كما يتبين من النصب الذي أقاموه نذرا لسلامته وسلامة ابنه وامرأته وقد مر ذكره، وعثر ودنيكتون على خط بدير القلعة (1858) مؤداه أن الجالية الرومانية البيروتية أقامت من مالها تمثالا للملك سبتيموس ساويروس.
وكان ترايان وأدريان أدخلا الحضارة بحوران واللجا، فشخص ساويروس بنفسه إليهما، ووجدت فيها آثار دالة على قيام رؤساء عشرات سبتيميين فيهما، وعلى استعمال سكان بعض مدنها لغة الرومانيين ومقاييسهم وحسابهم، وعلى استتباب الراحة والأمن فيهما، وتجد آثار سبتيموس ساويروس ظاهرة في تدمر، ووجد دي فوكواي وودنيكتون مخافر للجنود على الطريق من بصرى إلى تدمر، وكان في هذه المدينة مجالس مختلطة كما في مصر الآن، وذلك دال على أنه كان بها جماعات من البرتيين والأرمن والرومانيين واليهود، وكان لأسرة أذينة بتدمر المحل الأول في الوجاهة، وأحد أفرادها المسمى حيران عاون ساويروس كثيرا حتى أنعم عليه أن يسمى باسمه سبتيموس ... روى ذلك دي فوكواي في الخطوط السامية خط 28، ومسكوكات سبتيموس في هذه البلاد كثيرة، وهو الذي أنشأ هيكل المشتري ببعلبك، ووضع نظاما لفلسطين عند تجوله فيها، وعاد اليهود والسامريون في أيامه إلى منازعتهم المعتادة، فأمر الجنود بضربهم وقتل كثيرين منهم. (5) في بعض فوائد في تاريخ سورية مأخوذة عن آثارها
يؤخذ عن آثار تدمر:
أولا:
أن اللغة التي كان عامة السوريين يتكلمون بها في القرن الأول، وما يليه هي اللغة الآرامية السريانية، إذ قال دي فوكواي في الخطوط السامية: إن اللغة التي كان شعوب سورية يتكلمون بها كانت اللغة الآرامية إلا ما ندر، وجميع الخطوط التي عثرنا عليها في تدمر وحوران وبلاد النبطيين كتبت بهذا الفرع من اللغة السريانية.
ثانيا:
أن قبائل من العرب بني سبأ ظعنوا في القرون الأولى إلى سورية، فإن الخطوط التي كشف دي فوكواي عنها في الصفا وجنوبي دمشق وشرقيها كانت حميرية، وقد نسخ مائتين وستين خطا عن صخور جبل الصفا، وأثبتت أن قبائل هؤلاء العرب قد انقسموا إلى فصيلتين: أقامت إحداهما مملكة الحيرة في ما بين النهرين، وأقامت الأخرى بسورية وعرفت بالتنوخيين، وولاهم الرومانيون على بعض الأعمال، وفي أواخر القرن الثالث أتت فصيلة من بني إزد، وسموا بني غسان نسبة إلى ماء نزلوا عليه وولاهم الرومانيون على البلاد التي في عبر الأردن إلى ظهور الإسلام، وقد تنصروا وعنوا بتقديم العلم والصناعة، ومن آثارهم عدة أديار ومعابد.
ثالثا:
أن أهل هذه البلاد كانوا يؤرخون سنينهم بتاريخ السلوقيين الذي يبتدئ سنة 311ق.م، فجميع الخطوط التي وجدت في تدمر وحوران وأنطاكية وغيرها تراها مؤرخة بهذا التاريخ اليوناني.
رابعا:
أنه كان لتدمر في تلك الأيام تجارة واسعة منبسطة إلى جهات كثيرة بين المشرق والمغرب، وكان لهم طريقان الأولى شمالية مؤدية إلى سلوقية وبلاد البرتيين ، والثانية جنوبية تمتد في بلاد العرب، وقال بلين (في التاريخ الطبيعي ك22): «إن مال تجارتهم مع رومة وحدها لم يكن يقل عن مائة مليون دينار.»
خامسا:
كان من عادة التدمريين الموسرين أن يقيموا أعمدة لزينة مدنهم، ويستدل على ذلك بعدة خطوط ذكرها دي فوكواي في كتابه المذكور.
سادسا:
أنبأتنا آثار تدمر أيضا بأسرة أذينة التي ملكت في هذه المدينة، وانبسط ملكها إلى مصر أيضا في أيام أذينة الثاني وزوجته زبيدة أو زينب مفصلة أفراد هذه الأسرة، والمتحصل من الآثار أن أذينة جدهم الأول كان في القرن الثاني نصور، ثم وهبلات وحيران الذي عاون سبتيموس ساويروس في حربه مع البرتيين، فجعله عاملا على بعض البلاد، ثم ابنه سبتيموس أذينة الأول ثم أذينة الثاني الذي كانت امرأته زبيدة أو زينب الشهيرة، التي ملكت مع ابنيها وهبلات وإتيندر، وانبسط حكمهم واستحوذوا على مصر سنة 267 كما سيجيء.
سابعا:
يترجح وجود مسيحيين في تدمر في القرن الثاني، فقد وجد خطوط فيها إشارة الصليب التي كانت علامة للمسيحيين؛ ولا سيما لأنه وجد مكتوبا معها فليكن اسمه مباركا إلى الأبد. (6) في الملوك النبطيين
أخذ دي فوكوي عن الخطوط التي وجدت في حوران وما يليها أن هذه البلاد كان يليها ملوك من النبطيين في القرن الأول قبل الميلاد، وفي القرن الأول ومبادي الثاني بعده، وأول هؤلاء الملوك هو حارثة أو الحارث وحكم من سنة 95 إلى سنة 50ق.م، وكان مركز ولايته دمشق وقبض بمبايوس عليه في مدينة حجر في العربية، وقام بعده ملك آخر كان معاصرا لهيرودوس الكبير، وكانت بينهما حروب طويلة، وخلفه ملك اسمه أوباداس أو عوباد ودام ملكه من سنة 33 إلى سنة 7ق.م، وخلف عوباد ابنه الحارث ودام ملكه من سنة 7ق.م إلى سنة 40 بعده، وكان حما هيرودس أنتيباس رئيس الربع في الجليل؛ وحاربه لأنه طلق ابنته وتزوج بهيرودية امرأة فيلبوس أخيه، وخلف الحارث هذا ابنه ملكوس الثاني من سنة 40 إلى سنة 57 بعد المسيح، ودام على كرسي الملك لا أقل من ثلاث وثلاثين سنة، وأنجد فسبسيان في حربه مع اليهود سنة 67، وخلفه ابنه دابل من سنة 57 إلى سنة 105، وكانت أمه وصية عليه واسمها صقلية، ثم اشترك في الملك مع امرأته المسماة جميلة، ودام حكمه لا أقل من خمس وعشرين سنة، ولعله كان الملك الأخير من النبطيين الذي ذل أمام كرنيليوس بالما قائد جيش ترايان الذي أخضع العربية سنة 105، وكان هؤلاء النبطيون يكتبون ويتكلمون باللغة الآرامية. (7) في بعض المشاهير الدنيويين بسورية في القرن الثاني
من هؤلاء المشاهير بولودر:
ولد في دمشق سنة 61، وكان مهندسا شهيرا، وهو الذي بنى لترايان جسرا على نهر الدانوب، وهو الذي أقام له في رومة العمود المعروف باسمه وغيره من الآثار التي لها المحل الأول في غريب الصناعة، ثم قتله الملك أدريان سنة 130.
ومنهم إميل بابينيان:
وكان من بيروت وأستاذا في مدرسة الفقه فيها، وهو أشهر الفقهاء الرومانيين، وكان سبتيموس الملك من رفقائه في المدرسة، ويروى أنه كان نسيبا للملكة جولية دمنة بنت كاهن حمص؛ ولذلك أعزه هذا الملك وقربه إليه، وعند موته أوصاه بابنيه كركلا وجيتا، فقتل كركلا أخاه وكلف بابينيان أن يخطب بتبرئة ساحته من القتل، فقال له: إن اقتراف معصية القتل لأسهل من التبرئة منها، واتهام البريء بعد قتله لهو قتل آخر، فسخط عليه كركلا وقطع رأسه، وله تآليف عديدة منها سبعة وثلاثون كتابا في المباحث، وتسعة عشر كتابا في الأجوبة، وعده واضعو الشرائع في أيام توادوسيوس في جملة الفقهاء الخمسة، الذين تنزل أقوالهم منزلة شريعة، وإذا تعارضت أقوالهم فالعمل بقوله، ولم تصل إلينا كتبه كاملة، ولكن وجد منها 591 فقرة في شرائع يوستنيانوس.
ومنهم أولبيان:
وذهب بعضهم أن مولده بيروت وغيرهم صور في القرن الثاني، وتوفي في القرن الثالث سنة 228، وكان معاونا لبابينيان، ويظهر أن الملك أليوكبل نفاه سنة 222، ثم استرده إسكندر ساويروس وأقامه في منصب فحص الدعاوى، ثم عضوا في ديوان مشورة الملك ثم رئيسا على الحرس مع إيلائه القضاء، واستمر في هذا المنصب إلى أن قتله الحرس سنة 228، وله تآليف وأهمها تفسيره بعض الشرائع، وتوصف تآليفه بالبتات والوضوح، وفي شرائع يوستنيانوس 2462 فقرة منها، وبقي من تآليفه كتابه الموسوم بالكتاب المفرد في القواعد طبع سنة 1549.
ومنهم يوليوس بولس:
وهو من الفقهاء الرومانيين، وذهب بعضهم أن منشأه صور وغيرهم بادوا في إيطاليا، وقد أربى على جميع الفقهاء الرومانيين بكثرة تآليفه حتى عد له منها ثمانون كتابا، ومنها في شرائع يوستنيانوس 2080 فقرة.
ومنهم مكسيموس الصوري:
وهو فيلسوف أفلاطوني ولد بصور في القرن الثاني، وله 41 مقالة في المباحث الفلسفية والأدبية، ونفسه فيها جلي عذب وترجمت إلى الإفرنسية، وطبعت سنة 1802، وذكر أوسابيوس في الكرونيكون أنه كان في هذا القرن فيلسوف آخر اسمه تورس لم نعثر على شيء من ترجمته، وكان أيضا في هذا القرن تريفون اليهودي، وكان أشهر اليهود في عصره وكان أيضا لوسيان السيمساطي، وسماه بعضهم فولتير عصره؛ لأنه كتب كتبا يندد فيها بعادات الناس وأوهام معاصريه، ويتهكم على مدارس الفلاسفة وعلى الأديان، وكان في هذا العصر على الأرجح فيلون الجبيلي الشهير، وقد أذاع كتابا في تاريخ الفونيقيين قائلا: إنه ترجمة لكتاب وضعه سنكونياتون البيورتي، وبقي لنا منه شيء في كتاب أوسابيوس في الاستعداد الإنجيلي.
الفصل الرابع
في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني
(1) في بطاركة أنطاكية وأساقفة أورشليم بهذا القرن
بعد أوديوس الذي استخلفه القديس بطرس بأنطاكية قام بها القديس أغناطيوس، وتوفي شهيدا سنة 107 أو سنة 110، وخلفه هرون ثم كرنيليوس ثم أورس ثم توافيلوس سنة 171، وله تآليف منها ثلاثة كتب في رسوم الإيمان وكتاب في رد بدعة هرموجانوس، وله كتب أخرى في شرح مبادئ الإيمان، ذكرها القديس إيرونيموس في جدوله في المؤلفين البيعيين، وخلفه مكسيمنوس أو مكسيموس ثم سرابيون سنة 199، وله تآليف ذكرها القديس إيرونيموس أخصها رسائل ردا على أبولينار.
وأما في أورشليم فقام من الأساقفة بعد القديس سمعان الشهيد المار ذكره يهوذا الملقب البار، ورد كثيرين من اليهود والأمم ورقد بالرب سنة 113، وقام بعده أحد عشر أسقفا كانوا من أهل الختان ويهوذا الأخير منهم بقي حيا إلى سنة 148، وخلفه مرقس من الأمم ثم كسيانوس إلى أغابيطوس الذي توفي سنة 187، وذكر أوسابيوس في الكرونيكون ثمانية أساقفة بعده إلى نرسيس الذي استمر في الأسقفية إلى سنة 212، وقال: إن أسماء هؤلاء الأساقفة كانت محفوظة في خزائن كنيسة أورشليم ولم يذكر إلا أسماءهم. (2) في المشاهير الدينيين بالقرن الثاني
منهم القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، ولد بنابلس سنة 103 وثنيا وتضلع بالفلسفة على مذهب أفلاطون، ثم تنصر وأكب على مطالعة الأسفار المقدسة وسار إلى رومة، وأنشأ مدرسة للفلسفة المسيحية ورفع حينئذ عريضة للملك أنطونينوس بيوس وأبنائه ورجال الندوة يدافع بها عن المسيحيين، ويبين ما يعاملون به النصارى من القسوة لمجرد كونهم مسيحيين، ثم أتى إلى إفسس والتقى بتريفون اليهودي، وكان بينهما الجدال المثبت في تأليف هذا القديس وأبكم تريفون بصحة مجيء المسيح، ثم عاد إلى رومة وجادل كراشان الفيلسوف بحضرة شهود كثيرين، فأفحمه ورفع حينئذ إلى الملك مرقس أورليوس والندوة محاماته الثالثة فقبض عليه والي رومة، ومعه غيره من المسيحيين، فجلدهم أولا ثم قطع رءوسهم سنة 185، وفي رواية أخرى سنة 168، وله تأليف يرد به مزاعم الأمم وتأليف آخر سماه التفنيد لجميع البدع وكتاب في ملكوت الله وآخر في النفس البشرية.
ومنهم تاسيان وكان تلميذا للقديس يوستينوس وفيلسوفا أفلاطونيا، ولد بسورية سنة 130 وثنيا ثم تنصر، وكتب كتابا وسمه بخطاب لليونان، لكنه بعد موت القديس يوستينوس توحل ببدعة القنوعين الذين كانوا يمنعون من شرب الخمر وعقد الزواج، وروى نطاليس إسكندر أنه كتب عدة كتب لم يبق منها إلا كتابه في رد مزاعم الأمم، وهو معلق على تأليف القديس يوستينوس في المجلد الأول في مكتبة الآباء اليونانيين، وله كتاب في توفيق الأناجيل عثر على ترجمته العربية العلامة السمعاني في المشرق، فأتى بها إلى مكتبة الوتيكان.
ومنهم هجيسيوس أصله يهودي، فتنصر وذكره أوسابيوس (ك4 من تاريخه ف8)، وقال: إنه كتب في إنذار الرسل خمسة كتب، وأنه استشهد بأقواله مرات والظاهر من كلامه أنه بقي حيا في أيام الملك أدريان الذي ملك من سنة 117 إلى سنة 138، ويأسف كثيرا على فقدان كتبه التي يظن أنه جمع فيها كل ما كان في الكنيسة منذ إنذار الرسل إلى أيامه . (3) في الشهداء بسورية في هذا القرن
ذكرنا من هؤلاء الشهداء القديس أغناطيوس بطريرك أنطاكية والقديس سمعان أسقف أورشليم والقديس يوستينوس، وجاء في الكتاب الموسوم بسورية المقدسة أن فيلون شماس كنيسة ترسيس وأغابيتوس شماس كنيسة أنطاكية وشي بهما أنهما اتبعا القديس أغناطيوس إلى رومة، وأحضرا ذخائره إلى أنطاكية، فأشخصهما والي أنطاكية وأجرى عليهما أعذبة مبرحة، فنالا إكليل الشهادة سنة 109 في أيام ترايان الملك، وكذلك أجرى على فوقا البطريق الأنطاكي فإنه وشي به أنه يشجع المؤمنين على تحمل الاضطهاد، فعذبه الوالي فنال إكليل الشهادة سنة 114، وجاء في الكتاب المذكور أيضا أن القديس لاونسيوس نال إكليل الشهادة بأطرابلس مع أيباسيوس وتريبوتس وتوادورس في أيام أدريان الملك.
وقد استشهد في أباميا القديسان غايوس وإسكندر في أيام الملك أنطونينوس بيوس، وحاز إكليل الشهادة بدمشق القديس بولس وتاتا امرأته مع أربعة من أنسبائها وحازته ببعلبك القديسة أودكسيا ... ذكرها توادوريطوس، وقال: إنها كانت امرأة شريفة قبلت الإيمان ونصرها تيودوس أسقف بعلبك، وكان استشهادها في آخر سني الملك ترايان، وليس هؤلاء كل الشهداء بسورية في القرن الثاني بل من عرفناهم.
الفصل الخامس
في تاريخ سورية الدنيوي فى القرن الثالث
(1) في ما كان بسورية في أيام كركلا ومكرين
إن الملك سبتيمون ساويروس المذكور استمر على منصة الملك إلى سنة 211، وكان له ابنان كركلا وجيتا فخلفاه، ولكن كركلا بن جولية دمنة كاهن حمص قتل أخاه جيتا في حضن أمه، ولم نعثر على شيء كان بسورية في أيام كركلا إلا تكميله أبنية أبيه في بعلبك، فهو الذي أنشأ فيها الرواق والعرصة أيام هيكل المشتري، وإلا بعض خطوط عثر عليها ودنيكتون بحوران مؤذنة بإقامة آثار إجلالا لكركلا وأخيه، وبعضها لكركلا وحده، وخط عثر عليه رنان في فتقا تكرمة لهما، ثم قتل مكرين رئيس الحرس كركلا سنة 217 وخلفه في الملك.
وشخص مكرين إلى المشرق لحرب الفرس والأرمن، ولما توفيت جولية دمنة امرأة سبتيموس وأم كركلا نفى إلى حمص أختها ميزا بنت كاهن حمص وبنتيها سومياس أم الملك أليوكبل الآتي ذكره، ومما أم إسكندر ساويرس، وكانت هؤلاء النسوة ذكيات ماكرات وعلى جانب كبير من الثروة، وكان اتصال نسبهن بالأسرة الملكية معاونا لهن على الفوز برغائبهن وأقمن في جوار هيكل الشمس بحمص، وأرسل مكرين بوغادته فرقة من الجنود تقيم حذا هذا الهيكل ومفاتيحه بيد ميزا وابنتيها، وكان لسومياس ابن اسمه إفتيوس باسيانس فأقمنه كاهنا في هيكل حمص، وكان جميل الصورة ويتشح بالبرفير وكانت العامة تسميه أليوكبل أي: إله الجبل أو الإله الجابل أي: الخالق، وكان الجنود المخيمون هناك يجلون الحبر الشاب ويعجبون به، ففي ذات ليلة أتى أليوكبل إلى معسكر حمص ومن ورائه مركبات تقل أكياسا من الذهب، فنادى الجنود به ملكا سنة 218، وكان أولبيوس أحد الحرس الملكي قريبا من حمص، فأسرع إلى المعسكر وحاول فتح أبوابه فدحره الجنود، وأشرفوا من على الأسوار يرون أرفاقهم أكياس الذهب والملك الجديد مسمين له ابن كركلا، فقلب هؤلاء الجنود ظهر المجن لقائدهم أولبيوس، وانضموا إلى عسكر أليوكبل وقطعوا رأس القائد، وأرسلوه إلى مكرين وكانت فرقة من الجند بأباميا، فانضمت إلى عسكر أليوكبل، وزحف مكرين بعسكره إلى حمص والتقاه جيش أليوكبل وتقدمت ميزا وسومياس وأليوكبل في طلائع جيشهم ليزيدوه شجاعة، فتولى الرعب مكرين وخانه بعض جنوده فانهزم، واستسلم عسكره إلى أليوكبل فأصبح كاهن هيكل الشمس بحمص عاهلا للرومانيين في 8 حزيران سنة 218.
وسار أليوكبل من حمص وأخذ معه الحجر الأسود الذي كان يعبد فيها كغيره من الحجارة في مدن أخرى في المشرق، ودخل أليوكبل رومة متشحا بثوب من البرفير معلما بالذهب وبجيده عقد من جواهر كريمة، ووجهه مخضب على عادة الشرقيين ومن ورائه ميزا وبنتاها، وأقام برومة ندوة من النساء وجعل أمه رئيسة عليها وأما مما خالته، فكانت معتزلة مهتمة بتربية ابنها إسكندر ساويروس وكان الرومانيون يشمئزون من فظائع أليوكبل، ويأنفون من تقديم الحجر الأسود على آلهتهم، وكان الملك يبني له كل سنة هيلكا في ضواحي رومية ينقله إليه باحتفاء، وكان يؤذن لكل أصحاب مذهب بأن يباشروا فروض مذهبهم في هياكلهم يهودا كانوا أم غيرهم.
وحملته ميزا جدته أن يسمي إسكندر ابن خالته بمقام قيصر ويتخذه معاونا، وكان إسكندر ذكيا لين العريكة طلق الوجه عذوما، فمال الجمهور إليه وسخط عليه أليوكبل حسدا، وأشاع يوما خبر موته فهاج الجنود، وطلبوا أن يروه فاضطر أليوكبل أن يسير مع إسكندر لتخميد ثورة الجنود فعلا الهتاف، واتصل الحشد إلى العراك فقتل الجنود وزراء أليوكبل وأمه سومياس وأصدقاءه، واختفى أليوكبل بمرحاض، فقتل هناك وطرحت جثته في نهر التيبر وألحقوا به الحجر الأسود، وكان ذلك في 11 آذار سنة 222 ونادى الجيش باسم ابن خالته إسكندر ملكا. (2) في ما كان بسورية في أيام إسكندر ساويروس وفيلبوس العربي
إن إسكندر ساويروس ولد بسورية، ويقال: بعرقا سنة 209، ونرى السوريين دبروا شئون المملكة الرومانية في ذلك العصر نيفا وأربعين سنة، وكل ضليع بالتاريخ يعلم ما كان لجولية دمنة ابنة كاهن حمص، وعقيلة سبتيمون ساويروس من السلطة النافذة عند هذا الملك، وما كان لها من الاجتماعات بالفلاسفة وأعيان المملكة، وكان بابينيان البيروتي وأولبيان الصوري ويوليوس الصوري أيضا رؤساء الحرس عند هذا الملك، وكان لهذا المنصب المقام الأول بعد الملك إذ كانت له الرياسة على أخص الجنود والقضاء في جميع الدعاوى، وبعد وفاة سبتيموس ساويروس وخلافة ابنيه كان لأمهما جولية دولية دمنة النفوذ الكبير في تدبير المملكة، وبقي بعض رؤساء الحرس على ما كانوا عليه، وإن نفى أليوكبل بعضهم فقد استرجعهم إسكندر ساويروس دون إبطاء، وفي أيام أليوكبل كان تدبير الملك بيد جدته ميزا وأمه سومياس وخالته مما، ولما استوى إسكندر ساويروس على منصة الملك كانت أمه تدبر المملكة؛ لأنه كان صغيرا، يعاونها في ذلك أولبيان الصوري، واستمرت على ذلك إلى وفاة ابنها سنة 235، فالمدة من ملك سبتيموس ساويروس سنة 193 إلى وفاة إسكندر ساويروس سنة 235 هي 42 سنة.
وكانت ميزا جدة الملك مشهورة بالحكمة وأصالة الرأي وأمه معروفة بعلو المدارك وحسن الأدب، وكان بينها وبين أوريجانس الشهير مراسلات (أوسابيوس ك6 ف21)، فصرفتا الملكتان قصارى الجهد في العود إلى الاستقامة وضبط الأحكام، وانتخبتا من رجال الندوة ستة عشر رجلا ديوان مشورة للملك، وجعلت أمه أولبيان الصوري بمنزلة نائب له، فأصلح كثيرا من الشرائع وعدل بعضها، وكان هذا الملك من أقل الملوك تشبثا بالوثنية وكأنه مسيحي، وكتب على باب قصره ما ورد بالإنجيل «لا تصنع بغيرك ما لا تريد أن يصنعه الناس بك»، ووضع صورتي المسيح وإبراهيم بين صور آلهة الوثنيين، وأتى إلى سورية لمحاربة الفرس الساسانيين، فكانت معه أمه مما ... والظاهر من خطبته في الندوة أنه انتصر عليهم، وأخذ منهم ثلاثمائة فيل وقتل مائتي فيل وأتى إلى رومة بثمانية عشر فيلا وقتل عشرة آلاف رجل وأسر كثيرين، وحالف عليه مكسيموس أحد قواد جيشه وهو في متس وفتك الجنود به وبأمه في 19 آذار سنة 235، ونادوا بمكسيموس ملكا بعد قتل إسكندر ساويروس إلى أن استولى على منصة الملك فيلبوس العربي سنة 244، وسمي مرقس يوليوس فيلبوس، وكان قد ولد ببصرى من بلاد حوران وروى ودنيكتون أنه ولد في اللجا، ويظن أن هذا الملك كان مسيحيا، وروى أوسابيوس في الكرونيكون أنه أول من صار مسيحيا من الملوك الرومانيين، وقتله داشيوس سنة 249، وقتل داشيوس في الحرب مع الغطط، وقام بعده غلوس ثم فالريان. (3) في ما كان بسورية في أيام فالريان
إن فالريان أتى إلى أنطاكية، وسار بجيشه إلى الرها لمحاربة الفرس الذين كانوا يحاصرونها، فانتصر عليه سابور ملك الفرس، فطلب الصلح فأبى سابور إلا أن يتشافها، فاغتر فالريان ووافاه بقليل من الجند فقبض عليه فرسان سابور في طريقه وأشخصوه أسيرا إلى سابور، وفي رواية أخرى أنه أسر في وقعة وبقي في أسره ذليلا ست سنين ثم أماته سابور، وبعد أسر فالريان غشى سابور بجيشه سورية فافتتح أنطاكية، ودانت له سائر الأعمال، ثم انصرف إلى آسيا الصغرى فجمع مرقيان نائب فالريان وباليستا رئيس حرسه بقايا الجيش الروماني، وتحصنوا بسيمساط، وكان التدمريون يرغبون في موالاة سابور لرواج تجارتهم، فأرسلوا إليه عند افتتاحه سورية وفودا وهدايا طالبين موالاته، فأجابهم أنه لا يريد موالاة بل خضوعا مطلقا لسلطته، وكان أميرهم حينئذ سبتيموس أذينة فهيج قومه، واستدعى شيوخ العرب لمناوأة سابور فلبوا دعوته، وكان بتدمر جالية رومانية ضمها إلى جيشه، وزحف به إلى معسكر الفرس من الجنوب وكان باليستا يضايقهم من جهة الشمال، فوجس سابور وسار بجيشه نحو الفرات، فقطع الطريق عليه جيش روماني كان بالرها، فأرغم الفرس أن يبتاعوا ممرهم بالفرات بكل ما غنموه من سورية، وضم أذينة باليستا إليه فاتقعوا مع الفرس بقطيسفون وأخذوا خزائن سابور، وسبوا بعض حرمه وأسروا كثيرين من ولاة الفرس، لكنهم لم يستطيعوا إنقاذ فالريان مع أسره.
وعاد أذينة من هذه الحرب فائزا غانما فسماه قومه والعرب ملكا، وسماه غاليان بن فالريان غازيا رئيس الجيش الملكي في تلك الأنحاء، وكان ذلك سنة 262، وبعد أن أقام أذينة بخدمات للرومانيين أقر له العاهل الروماني بلقب أغوسطوس على ما روى بعضهم، ولكن روى دي فوكوي وغيره سندا إلى بعض خطوط أن العاهل الروماني سمى ملك تدمر إمبراطورا أي: غازيا. (4) في زينب ملكة تدمر ومحاربة أورليان لها
إن زينب التي تسميها العامة زبيدة كانت تدعي اتصال نسبها بالبطالسة ملوك مصر، وأنها من سلالة فلوبطرة الشهيرة وهي بنت أمير عربي يسمى زينبوليوس، ويقال: إنها كانت بديعة الجمال ذات عفة وكانت تفقه لغات كثيرة حتى اللاتينية، وروى بعضهم أنها ألفت تاريخا لإسكندر الكبير والمشرق، وكانت مولعة بمطالعة كتب أوميروس، وكانت تباحث لنجين الفيلسوف في الفلسفة وبولس السيمساطي بطريرك أنطاكية في اللاهوت، وتزوجت بأذينة ملك تدمر المار ذكره وصحبته في محاربته للفرس، وحاولت أن تتولى مصر من دونه، ولما قتل زوجها سمت ابنها وهيلات ملكا وابنيها الآخرين قيصرين، وكانت تدير المملكة مسماة ملكة أغوسطا، وأرسلت جيشا استحوذ على الإسكندرية وبعض أعمال مصر، ورغب أهل آسيا الصغرى الانضواء إلا أهل بيتينيا.
وفي سنة 272 سار أورليان إلى أنطاكية بجيش كثيف وكانت زينب هناك مع فريق من فرسانها، وتسعرت نار الوغا، فافتتح الرومانيون أنطاكية، وتقهقر التدمريون إلى قنسرين فنظم أورليان شئون أنطاكية وجد في لحاق زينب، فأزاح عسكرها من موقفه فساروا إلى حمص، وألبت زينب هناك سبعين ألفا، وأقامتهم في حصون وأمامهم صحراء يتسع المجال فيها للفرسان، وتأججت نار الحرب وحمل أورليان على قلب جيش التدمريين، فزحزحه من مواقفه لكنه خسر خسائر كبيرة ولم يستطع لحاق الأعداء، وعقدت زينب لجنة مشورتها، فارتأوا أن ينصرفوا إلى تدمر واهمين أن الجيش الروماني لا يستطيع الوصول إليهم، فخاب ظنهم، وسار الرومانيون يتتبعون خطاهم إلى تدمر وأقاموا عليها الحصار، وكتب أورليان إلى زينب ينذرها بالاستسلام إليه، فأجابته أن الحرب قاضية بيني وبينك وهددته بالفرس والعرب.
وشد الحصار أورليان على تدمر والتضييق على أهلها، وكانت زينب تتوقع إنجاد الفرس والعرب فلم يكن منجد، ورأت أن الأقوات غير كافية لقومها مدة طويلة، فركبت الهجين مجدة في سيرها إلى بلاد فارس لتستحث حكومتها على إنجادها، فأدركها الفرسان الرومانيون عند الفرات، فقبضوا عليها ووقع البلبال بين رجالها بتدمر وأخيرا تركوا سلاحهم وفتحوا أبواب المدينة، فدخلها أورليان وعامل أهلها بالحلم والرقة واكتفى بأن يأخذ خزينة زينب وحاكم زينب بحمص، فقصر القضاة الجناية على حاشيتها فقتلهم أورليان، واستبقى زينب وأرسلها إلى رومة وكان ذلك سنة 273، وأقامت زينب في تيفولي على مقربة من رومة حيث توفيت ... ويعزى إلى هذه الملكة كثير من الآثار بسورية، ولا يظهر أن مدة ملكها الوجيزة كانت كافية لإنشاء هذه الآثار، ويظهر أن التدمريين ثاروا بعد سفر أورليان على حامية الرومانيين وقتلوهم، وأقاموا رجلا اسمه أنطيوكس ملكا عليهم، فأرسل أورليان عليهم جيشا أو عاد بنفسه إليهم، فانتقم منهم بقتل كثيرين دون شفقة. (5) في ملوك بني غسان في دمشق وعبر الأردن
قد مر في عدد 84 أن بني غسان ظعنوا من العربية إلى سورية في القرن الثاني أو الثالث، وهم فصيلة من بني أزد يصلون نسبهم بكهلان بن سبأ بن قحطان بن عامر، نزلوا على ماء في الشام يسمى غسان فنسبوا إليه، وكان رئيسهم جفنة والأوس، وكان قبلهم بسورية عرب يقال لهم: الضجاعمة أخرجوهم عن ديارهم وصاروا موضعهم، وسمى قومهم روساءهم ملوكا، وكانوا عمالا للرومانيين بدمشق والجولان والبلقاء، وكان جفنة أول ملك عليهم، وقال أبو الفداء: إنه بنى بالشام عدة قرى وقصور وحصون، وإنه خلفه ابنه عمر، وبنى بالشام عدة أديار إذ كانوا نصارى منها دير أيوب ودير هند، وتسلسل ملوكهم حتى عدهم ابن خلدون اثنين وثلاثين ملكا، وكثر فيهم اسم الحارث والمنذر، ولا يمكن تعيين سني ملكهم إلى أن كان منهم في صدر الإسلام ملك يسمى جبلة بن الأيهم، وقد أسلم لما افتتح المسلمون الشام ، وهاجر إلى المدينة وأحسن عمر بن الخطاب ملتقاه ونزله ... فوطئ رجل إزاره فانحل عند التطواف بالبيت فغضب جبله ولطم الرجل فهشم أنفه، فشكاه الرجل إلى عمر فقال له: دعه يلطمك كما لطمته، فقال جبلة: أيقاد في دينكم للسوقة من الملوك؟ فقال عمر: أجل وهما في الحق سواء ... فصبر إلى الليل وخرج بغلمانه وسار حتى القسطنطينية، وبقي فيها حتى مات سنة 20 للهجرة وانقرض به ملوك غسان. (6) في بعض مشاهير سورية الدنيويين
منهم برفير:
ولد بصور سنة 233، ودرس الفصاحة بأثينا والفلسفة برومة على بلوتين الفيلسوف المصري، وصحبه من سنة 263 إلى سنة 270 التي توفي بلوتين فيها، وبعد وفاته صار برفير مدرسا للفصاحة والفلسفة برومة، وأثنى العلماء عليه حتى دعاه القديس أغوسطينوس أعلم الفلاسفة، وأدركته المنية سنة 305، وتآليفه كثيرة أتلفت الأيام بعضها وبلغ إلينا منها كتاب في ترجمة بلوتين أستاذه، وترجمة بيتاغورس حاوية تاريخا فلسفيا ومقالة في القناعة والإمساك عن أكل اللحم، ورسالة إلى أنيبون الكاهن المصري، وله كتاب مقدمات على مقالات أرسطو، فهذه التآليف مترجمة إلى الإفرنسية ومطبوعة، وأما كتبه المفقودة فأشهرها كتاب خطبه في رد مزاعم المسيحيين، وهذا الكتاب قد رده كثيرون من الآباء القديسين منهم القديسون متنوديوس أسقف صور، وأغوسطينوس، وإيرونيموس، وكيرلس الأورشليمي وغيرهم، وكان برفير كأستاذه بلوتين يسلم بنوع من الثالوث مقرا بأن فيه ثلاثة أقانيم، أون وهو الله نفسه، وتوس وهو فهمه وحكمته، وبسوكي وهو روحه، ويقول: إن أول هذه الأقانيم أكملها، والأقنومين الأخيرين منبثقان منه.
ومنهم لنجين:
ذكر المؤرخون أنه سوري وأنه كان في القرن الثالث، ولم يذكروا مكان مولده ولا سنته، وقد درس الفلسفة على بلوتين في الإسكندرية وفتح مدرسة بأثينا يدرس الفلسفة فيها، وكان برفير من تلامذته، وسمعت زينب ملكة تدمر بأخباره فاستقدمته إليها، وأقامته أولا أستاذا في بلاطها ثم استوزرته، ثم قتله أورليان لدى فتحه تدمر، فتحمل العذاب صابرا غير وجل، وألف كتبا كثيرة لم يتوصل إلينا منها إلا مقالة في أسلوب الكلام السامي من أحسن ما ألف في انتقاد الكلام، ممن ترجموها إلى الإفرنسية العالم بوجولا سنة 1853.
ومنهم يوليوس:
ويوصف بالإفريقي، والأرجح أن أصله من إفريقيا، ولكنه ولد ونشأ في فلسطين بقرية عمواص، وهو غير يوليوس الإفريقي المؤرخ، وله خمسة كتب في التاريخ ضمنها ذكر الأحداث التي كانت من خلق الإنسان إلى مجيء المسيح، ثم خلاصة تاريخ كل ما كان من مولد المخلص إلى أيام مكرين ملك الرومانيين، وكتب رسالة إلى أوريجانوس في تاريخ سنوسة ورسالة يوفق بها بين نسبي المسيح اللذين ذكرهما متى ولوقا، وكان من العمدة التي أرسلها أهل عمواص إلى الملك أليوكبل، فوكل إليه تجديد مدينتهم التي كانت قد احترقت وسماها الرومانيون نيكوبولي أي: مدينة النصر، وكان في عهد الملكين أليوكبل وإسكندر ساويروس، والأولى أن يعد بين المشاهير الدينيين، وإن كان وصف عبد يشوع الصوباوي له بأسقف غير صحيح.
الفصل السادس
في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث
(1) في بطاركية أنطاكية وأساقفة أورشليم
قد استوفينا في تاريخ سورية ذكر كل من اتصل إليه علمنا من بطاركة أنطاكية وأورشليم، وأما في هذا الجزء فنقتصر على ذكر من اشتهر منهم، فممن اشتهروا من بطاركة أنطاكية في القرن الثالث بابيلا الشهير، فإنه مات مغللا بالقيود، فقد منع والي أنطاكية عن الدخول إلى الكنيسة، فحنق لذلك وقتل كثيرين من المسيحيين، وألحق أسقفهم بهم سنة 251 وخلفه فابيوس، وروى أوسابيوس أن كرنيليوس الحبر الروماني أنفذ إليه رسالة في شأن من يجحدون الإيمان إبان الاضطهاد ... وكان من هؤلاء البطاركة في هذا القرن بولس السيمساطي المبتدع ارتقى إلى البطريركية نحو سنة 262، وكان همه مصروفا إلى الغنى والانهماك بالملاذ، وكانت له حظوة كبرى عند زينب ملكة تدمر حتى عهدت إليه بجباية الخراج في ولاية أنطاكية، واتصل إلى ابتداع بدعة زعم فيها أن ابن الله لم يكن من الأزل، بل حل فيه كلمة الله وحكمته عندما ولد، فاجتمع كثيرون من أساقفة أنطاكية لإفحامه وبعد أن أكثروا في البحث معه، وبقي مكابرا نبذوا ضلاله وأذاعوا أنه مخالف للإيمان، ثم عقد مجمع آخر بأنطاكية، وإذ لم يبرح مصرا على غيه حطوه عن مقامه ، وخلعوه من البطريركية وأقاموا مكانه دمنوس، فاستعصى بولس في دار البطريركية معتمدا على حماية زينب له فلجأ الأساقفة إلى الملك أورليان، فحكم أن تكون الدار لمن يحكم بها حبر رومة وأساقفة إيطاليا، فكان ذلك شهادة من ملك وثني لرياسة أحبار رومة.
وقد اشتهر من أساقفة أورشليم (لم يكن الكرسي الأورشليمي في القرون الأولى بطريركيا) إسكندر خليفة نرسيس، وروى عنه أوسابيوس (ك6 من تاريخه ف20) أنه جمع مكتبة بأورشليم أدخل إليها كثيرا من كتب العلماء، وأنه هو أخذ عنها مادة غزيرة لتآليفه، وأنه كان يتردد إلى أوريجانس؛ ليستمع كلامه وأنه اقتيد إلى محكمة الوالي فجاهر بالإيمان بالمسيح فألقي بالسجن بقيصرية، حيث قضى حبا بالإيمان نحو سنة 250 وخلفه مازابان، ثم خلف هيميناوس مازابان واشتهر بفضائله، وروى لاكويان أنه شهد المجمعين اللذين عقدا بأنطاكية كبتا لبولس السيمساطي، ويظهر أنه استمر على كرسي أورشليم من سنة 266 إلى سنة 298م. (2) في المشاهير من أساقفة سورية في القرن الثالث
تيرانيوس أسقف صور عده أوسابيوس من جملة الشهداء الذين قاسوا أعذبة مبرحة في أيام ديوكلتيان وأخيرا طرحوه بالبحر، ومن أساقفة صور أيضا متوديوس وألف كتابا في تفسير سفر التكوين ومقالة في الحرية، وله قصائد نحو عشرة آلاف بيت يرد بها مزاعم برفير الصوري، وبقي من تآليفه مقالة موسومة بعيد العذارى.
ومنهم أناطوليوس أسقف اللاذقية قال فيه أوسابيوس (ك7 ف32) كان له بلا مراء المحل الأول بين علماء عصرنا في الفلسفة والرياضيات والطبيعيات وغيرها، وقال: قد بقي لنا من تآليفه مقالة في الفصح، ويوم تعييده والمطابقة بين الحسابين القمري والشمسي وعشرة كتب في الحساب والهندسة، فضلا عما له من الآثار في العلوم المقدسة، ولم يبق منها إلى أيامنا إلا مقالته في الفصح، وصار أسقفا على اللاذقية سنة 280.
وكان منهم زينوبيوس أسقف صيدا نال إكليل الشهادة في أيام ديوكلتيان، وسلوانس أسقف حمص، ونال إكليل الشهادة في أيام مكسيمينيان مطروحا للوحوش، وسلوانس أسقف غزة وقد عذبه والي فلسطين أعذبة مبرحة طويلة، وأيبوليطرس أسقف بصرى بحوران، وله تآليف كثيرة منها كتاب في الفصح وضع فيه ضوابط ليوم عيده، وكتاب في الأيام الستة التي خلق الله العالم فيها، وكتاب في رد مزاعم مركيون، وكتاب في تفسير نشيد الأنشاد، وبعض فصول في نبوة حزقيال، وكتاب في تفنيد جميع البدع إلى أيامه وغيرها، ونال إكليل الشهادة سنة 235، وكان من أساقفة بصرى أيضا بريل وألف كتبا تشهد بحذقه، وطول باعه لكنه ابتدع تعليما حديثا مخالفا للإيمان الكاثوليكي، وهو أن المسيح ابتدأ يكون إلها بعد ولادته من العذراء؛ لأن الأب كان حالا فيه حلوله في الأنبيا، فقصده أوريجانس وبين له متلطفا فساد تعليمه، وفند مذهبه بالحجج القاطعة، فارعوى عن غيه معترفا بالإيمان القويم، وعقد مجمع لذلك ببصرى سنة 247 أو سنة 249. (3) في المشاهير بسورية غير الأساقفة
أشهرهم أوريجانس ولد بالإسكندرية، لكنه توطن بسورية وتوفي بصور وانكب على العلم مذ صبوته، وكان أستاذه إكليمنضوس الإسكندري، وخلف أستاذه في تدبير شئون مدرسة الإسكندرية، وكان هائما بحب الدين ونيل إكليل الشهادة حتى اتصلت أمه يوما ما إلى انتزاع ثيابه عنه؛ كيلا يمضي فيشترك مع أبيه في العذاب من أجل الإيمان، وكان شديد الحرص على عفته حتى خصى نفسه؛ لئلا يرشقه حساده بنبال طعنهم مفسرا بالمعنى الحقيقي قول المخلص: «خصيان خصوا نفوسهم.» وهو بالمعنى المجازي، ولم ير نفسه في مأمن من غيظ الوثنيين في الإسكندرية، فهاجر إلى فلسطين فقبله إسكندر أسقف أورشليم مرحبا به وقدره أسقف قيصرية حق قدره، فرقاه إلى درجة الكهنوت، فاعترض على ترقيته ديمتريوس بطريرك الإسكندرية محتجا بخصاء نفسه، وقد ذكر في رسائله وخطبه أنه عانى أعذبة أليمة مبرحة في اضطهاد داكيوس، وروى إبيفان (في بدعة 64) أنه نجا من العذاب بتقديمه بخورا للأصنام، وأنكر بعض المحققين صحة هذا الخبر، وقالوا: إن هذه الحكاية مدخلة على كلام إبيفان ، وقد اختلف الآباء والعلماء في صحة ليان أوريجانس، فحكم بعضهم عليه بضلال وبرأ ساحته منه غيرهم، والذي عليه المعول أن بعض كتبه تضمنت أغلاطا مخالفة للإيمان أخصها أن النفوس خلقت قبل الأجساد، وأن الشياطين والهالكين سوف ينتفعون من آلام المخلص ثانية لأجلهم، وأن عذاب الهالكين وسعادة الطوباويين ليسا بخالدين، فهذه الأغلاط قد حرمها الأحبار الأعظمون والمجامع، وأما شخصه فلم يحرم ولم تحكم الكنيسة حكما باتا أهالك هو أم خالص؟ لأنه كان يخضع ما يكتبه لحكم الكنيسة.
وأما ما كتبه نادرة عصره هذا فكثير نذكر بعضه، فقد نشر الأسفار المقدسة أولا من أربع ترجمات السبعينية، وترجمات إكويلا وسيماخوس وتيودوسيون، وأذاع نسخة أخرى زاد فيها على الأولى ترجمة وجدت ببلاد اليونان، وأخرى بمحل آخر، ثم زاد على النسخة الثانية ترجمة وجدت بأريحا، وأضاف في أولها النص العبراني، وفسر أكثر الأسفار المقدسة، وله كتاب في المبادئ وكتابان في القيامة وعشرة كتب في موضوعات مختلفة سماها اللفيف، وثمانية كتب في رد مزاعم شلسيوس الفيلسوف، ورسائل لا تعد وأعمال مجمع بصرى وجداله مع بريل المار ذكره وغيرها، وتعزى إليه كتب أخرى لم يتفق المؤرخون على صحة نسبتها إليه، وقد توفي سنة 255 وعمره سبعون سنة.
ومنهم بمفيل الشهيد ولد ببيروت، وانكب على العلوم فيها وصار واليا عليها ثم ترك كل ذلك وتفرغ لدرس الأسفار المقدسة، ثم مضى إلى الإسكندرية ويقال: إنه خلف أوريجانس في تدبير مدرستها، ثم سار إلى قيصرية فلسطين وأنشأ فيها مدرسة، وصرح أوسابيوس بأنه كان حينئذ كاهنا، وكان خطيبا مصقعا وفيلسوفا حقا بسيرته وعلومه وأعماله، وأفرد أوسابيوس ثلاثة كتب برمتها للكلام في علومه وفضائله واستشهاده، وأنشأ بقيصرية أيضا مكتبة اشتملت على ثلاثين ألف كتاب، وقد قبض عليه والي فلسطين مع اثني عشر رجلا، وسجنهم مدة طويلة وأجرى عليهم أعذبة متنوعة، ورآهم مبتهجين بما يقاسون فأشخصهم إليه، وقال لهم: «أما تطيعون أمر الملك بعد هذا العقاب؟» فأجابوا: «الموت أولى بنا.» فأمر بقتلهم وعلقوا بمفيل على خشبة، وأضرموا النار عليه فبش وهش واستغاث بيسوع، وأسلم روحه القدوسة سنة 309، وله من التآليف كتاب في تفسير أعمال الرسل، وكتاب في المدافعة عن أوريجانس ألفه بالاشتراك مع أوسابيوس.
ومنهم دوروتاوس وكان كاهنا بأنطاكية علامة أتقن اللغة العبرانية ومهر بها، وكان من أشراف أنطاكية وأقامه الملك قهرمانا على أملاكه بصور ، فقضى هناك شهيدا وسماه بعضهم صوريا ... هذا رأي بارونيوس في حواشيه على السنكسار الروماني وتعقبه بعضهم.
ومنهم مالكيون وكان كاهنا بارعا وخطيبا مصقعا بأنطاكية، واشتهر بجداله مع بولس السيمساطي وإفحامه بضلاله، ويعيد له الروم في 28 من تشرين الأول.
ويحصى من عداد هؤلاء المشاهير كثيرون من الشهداء السوريين نالوا أكاليل الشهادة في مدن سورية منهم في طرابلس لونفيان ومتروبيوس وبولس، وغيرهم في أيام ديوكلتيان، وفي أباميا القديسان إسكندر وغايوس في أيام أنطونينوس، ثم مكسيموس في أيام ديوكلتيان، وفي دمشق سابينوس ويوليانوس مع غيرهم على عهد داكيوس، وفي بيروت القديسة مرشيانا في عهد ديوكلتيان ... وخلف لنا أوسابيوس القيصري كتابا في شهداء فلسطين يشتمل على ثلاثة عشر فصلا، وكل فصل على ذكر عدة شهداء، نقتصر على هذا طلبا للإيجاز.
الفصل السابع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع
(1) في ما كان بسورية في أيام الملك قسطنطين
إن قسطنطين الملك بعد أن ظهر على مزاحميه بالملك بآية سموية تنصر، واستتب له الملك أذاع أمرين: الأول سنة 312 والثاني سنة 314، أباح بهما الكاثوليكيين مباشرة فروض دينهم، وإقامة الكنائس لهم واسترداد ما كانت ضبطته لهم الحكومة من كنائس وعقار ورجوع المنفيين منهم، وبنى بأورشليم بطلب والدته الملكة هيلانة كنيسة بديعة على قبر المخلص، وأخرى على مغارة المولد في بيت لحم وأخرى في جبل الزيتون، ونقض كثيرا من معابد الأصنام منها هيكل الزهرة في أفقا الذي كان ماخورا للعواهر، فجعله معبدا للعذراء الطاهرة، وكذلك صنع ببعلبك وجعل البيزنطية عاصمة المملكة في المشرق، وباسمه تسمت قسطنطينية، وكتب إلى أوسابيوس القيصري أن يستنسخ له خمسين نسخة من الأسفار المقدسة، وأن يعني بضبطها فأتم أوسابيوس ذلك كما قال (في ك4 من ترجمة قسطنطين ف29)، ومن الآثار التي وجدت في سورية، وعليها اسم قسطنطين عمود من الحجر المحبب وجد على الرأس الذي عند نهر الكلب دالا على الميل التاسع من بيروت، كتب عليه أنه أقيم تكرمة لقسطنطين وأبنائه (ذكره ودنيكتون خط 1847 ورنان في بعثة فونيقي صفحة 341). (2) في ما كان بسورية في أيام يوليانوس الجاحد
إن يوليانوس أخذ الملك سنة 361، وكان مسيحيا إلا أن معاشرته للأساقفة الأريوسيين أضلته أولا ضلالهم، ثم جاهر بكفره وانحيازه إلى الوثنية؛ ولذلك لقب بالجاحد، وقد زار أنطاكية سنة 362، فاستقبله الوثنيون بمنزلة إله وزار جميع معابد الوثنيين، قال رنان (في بعثة فونيقي صفحة 287): «نعلم أن قسطنطين أبطل عبادة أدونيس في أفقا بنقضه هيكل الزهرة، ونقله سكان أفقا إلى بعلبك، ونرى هذا الهيكل مجددا بعد ذلك فيظهر أن يوليانوس أمر بتجديده، وكذلك في هيكل المشنقة الذي روى أوسابيوس أن قسطنطين نقضه، ثم جدد في أيام يوليانوس، وأنبأنا زوزيموس الذي كان في القرن الخامس أن الوثنيين كانوا يجتمعون بأفقا في أيامه، وهذا يؤيد أن يوليانوس جدده، على أن الهيكلين نقضا مرة أخرى في أيام الملك أركاديوس.»
عزم يوليانوس أن يجدد هيكل أورشليم؛ ليثبت بطلان نبوة المسيح أنه لا يبقى فيه حجر على حجر إلا وينقض ونبوات الأنبياء أن يبقى خرابا إلى الأبد، فكتب إلى اليهود يحضهم على استئناف بناء هيكلهم بأورشليم، واستدعى بعضهم إليه فقال: إنه لدى بحثه في أسفارهم تبين له أن مدة سبيهم قد انقضت وأنه يلزمهم تجديد الهيكل، وأرسل العملة من كل صوب إلى أورشليم، وأمر خازنه أن يعد المال اللازم لذلك، فتسارع اليهود من كل فج إلى أورشليم وكانوا يعاونون بمالهم وأيديهم على تجهيز ما يلزم للبناء، وكانت نساؤهم يبعن حليهن ويدفعن ثمنه للنفقة، وأخذ العملة ينقضون أسس البناء القديم فأتموا نبوة المسيح بأنه لا يبقى حجر على حجر، ولما أراد البناءون وضع الأساس انبعثت لهبات نار التهمت الفعلة، وكل ما كانوا قد أعدوه من الأخشاب، وحاولوا مرات أن يأخذوا في العمل وصدهم شبوب النار عن الدنو من المحل، فغادروه خجلين، روى ذلك كثيرون من الآباء والعلماء، بل رواه إميان مرسلان (ك23 ف1)، وهو مؤرخ وثني كان خادما ليوليانوس ومقربا إليه، بل أقر به يوليانوس نفسه، فقال في الفقرات الباقية من تآليفه (صفحة 295): «إن أنبياء اليهود قد تهددونا بمثل هذه النوازل (احتراق هيكل أبولون في دفنة)، ولكن ما يقولون في هيكلهم الذي انقض ثلاث مرات، ولم يبن حتى الآن ... وقد أردت أن أجدد بناءه فمنعت؛ ولذلك لم يبن حتى الآن.» وقد أصيب يوليانوس في حربه مع الفرس في 27 تموز سنة 363 بسهم حطم يده وأصمى كبده، وروى تاوادوريطوس (3 من تاريخه ف20) أنه ملأ راحته من دمه، وطرحه إلى الجو قائلا: «انتصرت يا جليلي.» يريد المسيح.
لم نعثر من أخبار سورية على ما يستحق أن يدون في أيام يوفيان خليفة يوليانوس سوى أن أحد عماله أحرق كنيسة بيروت، فعزم يوفيان أن يقطع رأسه، ولكن شفع به بعض المقربين فاقتصر الملك على أن يغرمه نفقة تجديد بناء الكنيسة من ماله، وكذلك لم نعثر على شيء ننظمه في سلك هذا التاريخ في أيام خلفاء يوفيان إلى تاودوسيوس. (3) في ما كان بسورية في أيام تاودوسيوس
رقي تاودوسيوس إلى أريكة الملك سنة 378 وكان كاثوليكيا شديد المدافعة عن الإيمان القويم، وقد عني بعقد المجمع القسطنطيني الأول سنة 381، وحرمت فيه بدعة مكدونيوس الذي أنكر لاهوت الروح القدس، وكان الوثنيون قد هاجوا على المسيحيين في الإسكندرية فقتلوا منهم كثيرين، فأمر تاودوسيوس بنقض هياكل الإسكندرية، وأتبع بها باقي هياكل الوثنيين بمصر، ثم عمم أمره إلى سوريا فأبى الوثنيون بغزة الطاعة للأمر، فاجتزأ الوالي أن يقفل معابدهم، وأما في دمشق فحول هيكل الوثنيين إلى كنيسة، وكذلك هيكل الشمس الشهير ببعلبك بعد أن ذب عنه الوثنيون بالقنا والقواضب، وهاج أهل أباميا واستدعوا رجالا من الجليل وصمموا على المدافعة عن هيكلهم، فلم ينجحوا فدمرت هياكلهم إلا هيكل المشتري؛ فإن بناءه كان متينا وحجارته ضخمة فلم ينجح الجنود بنقضه إلى أن أتى رجل لا يعرف صناعة البناء، فتكفل بهدمه بنفقة يسيرة، وأخذ يحفر في جانب ثلاثة عواميد فوجد أن في أسسها قطعا من خشب الزيتون ، فأضرم النار عليها فاحترقت ولم يبق للأعمدة ما ترسخ عليه فتداعت وسقطت وجذبت معها باقي البناء، وكان هناك هيكل آخر يسمى أولون استحوذ الجنود عليه، فخرج الوثنيون منه ووجدوا القديس مرسل أسقف المدينة بعيدا عن ساحة الحرب، فألقوه في نار لقي ربه بلظاها.
وفي سنة 387 أراد تاودوسيوس أن يحتفل لمضي السنة العاشرة لملكه، والرابعة لإشراك ابنه أركاديوس في الملك، فاضطره الأمر إلى فرض ضريبة، ولما بلغ أمره إلى أنطاكية هاج أهلها وماجوا، وانتشروا في المدينة يصيحون بالخراب وانضم إليهم من كان من الأجانب في المدينة، وحطموا تماثيل الملك والملكة وأبنائهما، وكفى الجنود في تشتيت شملهم تصويب بعض الأسهم إليهم، وفر كثيرون منهم وأدركوا سوء عاقبة صنيعهم، وغصت الشوارع بالرجال والنساء والأطفال الهاربين من رجال الحكومة، وجلس القضاة يحكمون بالعذاب والسجن على كل من قبض الجنود عليه، فجازوا أخص المجرمين بما جنت أيديهم وعاد إلى المدينة من أقصاهم عنها ردعهم، وكان فم الذهب يومئذ كاهنا وكانت أيام الصوم فألقى عشرين خطبة تزري بخطب فصحاء أثينا ورومة، وأراد أهل أنطاكية أن يرسلوا إلى الملك وفودا ليشفعوا بهم، فلجئوا إلى أفلابيانوس بطريركهم فلم تقعده شيخوخته ولا مشاق السفر عن تلبية دعوتهم وسار مسرعا إلى القسطنطينية، وكان الملك قد أمر لأول وهلة بدك المدينة وجعلها مدافن لأهلها، ثم أمر أن يتوجه بعض حاشيته للفحص عن المجرمين وعقابهم بما يستحقون، فأتموا ما أمروا به وحكموا على كثيرين بالقتل من الوجهاء والأغنياء، فشفع بهم كثيرون من الأساقفة والكهنة الذين كانوا وقتئذ بأنطاكية سائلين تأجيل نفوذ الحكم إلى ما بعد مراجعة الملك، وفي هذه الأثناء قابل أفلابيانوس الملك، وتلا بحضرته خطبة هي آية بالفصاحة والبلاغة، ومثال للكلام السامي، ذكرنا ملخصها في تاريخنا الكبير، فوقع كلامه أشد وقع على قلب الملك حتى ذرفت عيناه الدموع، وقال: «أي عجب أن نغفر للناس ونحن بشر مثلهم، ومخلص العالم صلب من أجلنا، ونحن إليه آثمون وصلى من أجل صالبيه، عد يا أبي مسرعا إلى شعبك، وأمن أهل أنطاكية فقد عفوت عنهم .» (4) في بعض المشاهير الدنيويين بسورية في القرن الرابع
أشهرهم في هذا القرن ليبانيوس ولد بأنطاكية سنة 314، ودرس العلوم في أثينا ثم علمها في القسطنطينية ونيكومدية (أسميد) وأنطاكية، ومن تلامذته القديس باسيليوس والقديس يوحنا فم الذهب، وكان صديقا للملك يوليانوس الجاحد، ولم يك على شيء من الغلو في مذهبه الوثني، وقد أدركه المنون بأنطاكية سنة 390، وله من التآليف خطب طبعت في التنبورك سنة 1791 ورسائل طبعت لمبسيك سنة 1711، وفقرات نشرها أنجلوس ماي، ومنهم إميان مرشلينوس ولد بأنطاكية أيضا سنة 330، ودخل الجندية وتقلب في مناصبها وحارب بجرمانيا وإفرنسة، وصحب الملك يوليانوس الجاحد في غزوته للفرس، ثم ترك الجندية وأقام برومة مكبا على كتابة تاريخ الملوك الرومانيين باللاتينية من نرفا سنة 96 إلى أيام والنس سنة 378 ينطوي على واحد وثلاثين سفرا منها ثلاثة عشر سفرا أبادتها الأيام، وبقي منها ما هو أهمها، تكلم فيه على الأحداث التي كانت في عصره من سنة 353 إلى سنة 378، وكلامه يعتمد عليه؛ لأنه شاهد عيان له وقد لزم حدود الاعتدال في كلامه على الدين المسيحي والوثنية منزها عن الغلو والتطرف، وطبع تآليفه مرات وترجم إلى الإفرنسية، وطبع سنة 1848 وقد ندر العلماء الدنيويون في هذا القرن بسورية وغيرها، وكثر العلماء الدينيون.
الفصل الثامن
في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع
(1) في من اشتهر من بطاركة أنطاكية في هذا القرن
من هؤلاء أوسطاتيوس كان أسقفا على حلب، ثم صير بطريركا على أنطاكية وله كتب كثيرة يرد بها ضلال الأريوسيين، وله كتاب في النفس وآخر في رد مزاعم أوريجانوس، وساعد كثيرا في المجمع النيقوي على نبذ غوايات أريوس، فتصدى الأريوسيون لمناصبته، وعقد بعض الأساقفة الملتطخين بهذه البدعة مجمعا عليه بأنطاكية، وأتوا بامرأة جميلة فشكوه بأنها علقت منه وولدت ابنا، وإذ لم تكن بينة ولم يقم دليل على الشكوى قضى الأساقفة الجائرون أن تحلف الشاكية يمينا فحلفت، وتمنع الأساقفة الكاثوليكيون من الحكم عليه خلافا للقوانين، فرفع الأساقفة الأريوسيون الدعوى إلى الملك، وزينوا له أن نفي إسطاتيوس لازم لمجانبة الانقسام بين الأساقفة، فنفاه الملك إلى تراسة ...
وكان قلق كبير في أنطاكية بسبب نفيه، ولقي ربه في منفاه على الأظهر، واختلف في سنة منفاه ووفاته، وقام بعده عدة بطاركة أريوسيين إلى أن اتفق الحزبان الكاثوليكي والأريوسي على اختيار القديس ملاتيوس، وكان أسقفا على سبسطية بأرمينية ولما جاهر بمعتقده الكاثوليكي تصدى لمناصبته الأريوسيون، وما انفكوا حتى نفوه إلى أرمينية وأقاموا بطريركا أريوسيا فاضطر الكاثوليكيون أن ينفصلوا عن الأريوسيين، ويجانبوا الاجتماع معهم في الكنيسة، ولما استولى على منصة الملك يوليانوس الجاحد سنة 361، ورخص للأساقفة المنفيين بالعود إلى كراسيهم عاد ملاتيوس من منفاه، ولم يتبعه إلا محازبوه وكانوا يقيمون الصلاة وحدهم، وسعى الأريوسيون بملاتيوس لدى الملك والنس فنفاه ثانية إلى أرمينية سنة 370، ورجع إلى كرسيه في أيام غراسيان سنة 378، ومضى سنة 381 إلى القسطنطينية؛ ليشهد المجمع الذي عقد فيها، فتوفاه الله هناك وابنه القديس غريغوريوس النيصيصي، ونقل ذووه جثته إلى أنطاكية، فدفنت في جانب بابيلا الشهيد. (2) في من اشتهر من الأساقفة بأورشليم وسائر مدن سورية بهذا القرن
اشتهر من أساقفة أورشليم بهذا القرن كيرلس الأورشليمي، ولد بأورشليم سنة 315 ورقي إلى أسقفيتها سنة 351 على الراجح، وقد ناصب الأريوسيين وزيف ضلالهم فنفوه ثلاث مرات وعاد من منفاه ظافرا موقرا، وكان من ألد خصومه أكاسيوس أسقف قيصرية فلسطين، وكان التقدم حينئذ في فلسطين لرؤساء أساقفة قيصرية قبل جعل كرسي أورشليم بطريركيا، وكان بأورشليم لما حاول يوليانوس الجاحد أن يجدد بناء الهيكل بأورشليم، وقد أدركته المنية سنة 386 أو سنة 387، وأخص تآليفه كتبه في التعاليم منقسمة إلى 23 تعليما مشتملة على شروح مشبعة في عقائد الإيمان والتقليدات القديمة.
أوسابيوس أسقف قيصرية فلسطين
ولد سنة 270 وعشق العلوم وكان صديقا حميما للقديس بمفيل الشهير الذي أتقن العلوم ببيروت، وأكب على الاشتغال بالعلوم ولا سيما التاريخ حتى سمي أبا التاريخ الديني وكان عزيزا لدى الملك قسطنطين الكبير، وكتب ترجمته في أربعة كتب، وقد شهد المجمع النيقوي سنة 325، وهو إنشاء قانون الإيمان الذي وضعه هذا المجمع بعد تنقيح آبائه له، ومن نقائصه ممالأته الأساقفة الأريوسيين على عزل أوسطاتيوس بطريرك أنطاكية ، وإغراؤه الملك قسطنطين بنفي القديس أتناسيوس وإعادة أريوس من منفاه، وكان من أعلم علماء عصره، وتوفاه الله سنة 383 ... وله كثير من التآليف التاريخية والدينية والعلمية منها تاريخه الديني في عشرة كتب، وترجمة قسطنطين الملك في أربعة كتب أضاف إليها كتابا ضمنه نصائح إلى المؤمنين، عزاها إلى هذا الملك ومقالة في مدحه ذات ثمانية عشر فصلا، وله كتاب موسوم بالاستعداد الإنجيلي جمع فيه ما كان برهانا على مجيء المخلص، ونشر إنجيله، وكتاب يعرف بالكرونيكون أي: تاريخ السنين بدأ فيه من خلق العالم إلى سنة 330 للميلاد، وله مقالة في استشهاد القديس بمفيل ورفقائه، وكتاب في شهداء فلسطين كتبه أولا بالسريانية لغة قومه، ثم ترجمه موجزا إلى اليونانية، وله تأليف مدافعة عن أوريجانوس كتبه مع القديس بمفيل المذكور، وقسمه إلى ستة كتب، وله عدة كتب في جغرافية اليهود ومواقع الأماكن العبرانية، وأسمائها إلى غير ذلك مما كتبه هذا النادرة.
أوسابيوس أسقف حمص
أصله من الرها وأتقن العلوم وصير أسقفا على حمص، وثار الشعب عليه ففر إلى اللاذقية ثم أعيد إلى حمص، وتوفي سنة 360، وروى نطاليس ولكويان والقديس إيرونيموس أنه كان أريوسيا في عقيدته، ولكن له تآليف كثيرة منها رده على اليهود والوثنيين، وعشرة أسفار في تفسير رسالة بولس إلى الغلاطيين ومقالات في تفسير الأناجيل، وكتاب مباحث في العهد القديم.
القديس إبيفان أسقف سلمينا بقبرس
ولد بقرية في ناحية بيت جبرين بفلسطين، وتربى في أديار النساك، وأقام طويلا بمصر بين النساك وكان عالما باليونانية والعبرانية والسريانية والمصرية واللاتينية، وانتخبه القبرسيون أسقفا بجزيرتهم فتضوعت الأرجاء بشذا فضيلته وفضله، وعلمه وأنفق في سبيل المبرات كل ما كان يملكه وصنع الله على يده آيات، وكان بينه وبين يوحنا أسقف أورشليم جدال موضوعه أوريجانوس ... فإبيفان كان يندد بتعليمه ويوحنا يدافع عنه، وعقد إبيفان مجمعا في قبرس حرم به تلاوة كتب أوريجانوس، وكتب رسائل بذلك إلى الأساقفة، وفي جملتهم إلى يوحنا فم الذهب البطريرك القسطنطيني، وعقد فم الذهب مجمعا في القسطنطينية، ودعا إليه إبيفان فحضره ولم يشأ إبيفان أن يتعاطى مع فم الذهب إن لم يحرم كتب أوريجانوس، وباشر بعض الحبريات في بطريركيته دون إذنه، فعتبه فم الذهب وأنبه فبرح إبيفان القسطنطينية وعاد إلى قبرس، وتوفي في آخر سنة 402، وله تآليف كثيرة منها كتاب في البدع إلى أيامه وتفنيدها، وكتاب موسوم بالمرساة عنونه بذلك؛ لأن غرضه منه توطيد النفس في تعليم الإيمان، وكتاب في الموازين والمكاييل وكتاب في خطب ومقالات، وله رسالة إلى يوحنا أسقف أورشليم في جداله المذكور.
يوحنا فم الذهب
ولد بأنطاكية نحو سنة 347، ومات أبوه وهو حدث فربته أمه خير تربية، ودرس الفصاحة والخطابة على ليبانيوس الأنطاكي المار ذكره، ثم عكف على درس الشريعة فنبغ، ولم تكن العلوم العالمية تلذ له فتفرغ لدرس الأسفار المقدسة والعلوم البيعية، ثم اعتزل العالم منفردا في أحد جبال سورية وهناك كتب كتابه في سيرة النساك، وعاد إلى أنطاكية سنة 381، فرقاه القديس ملاتيوس بطريركها إلى درجة الكهنوت سنة 385، وعهد إليه أن يخطب في الكنائس، فطارت شهرة فصاحته وألقى حينئذ كثيرا من خطبه، وكتب كثيرا من مقالاته البليغة، ولما توفي نقطار بطريرك القسطنطينية أجمع الملك أركاديوس والمنتخبون على انتخابه، فاستدعاه الملك ورقي إلى كرسي القسطنطينية سنة 398، وطفق يجاهد في إتمام فروض مقامه غير مراع في ذلك كبيرا أو غنيا أو صاحب سلطة، وكان يقرع أصحاب الخصال الذميمة أيا كانوا؛ فكثر مبغضوه ومخالفوه، وقطع كثيرين من شركة الكنيسة لأسباب متنوعة، فتآمروا عليه واستعانوا بالملكة أودكسية وهي مستاءة من خطب فم الذهب في ذم النساء وبهرجهن وإسرافهن، وقد شبهها بإحدى خطبه بإيزابل فاستاء الملك أيضا، ودعا بعض الأساقفة وأمر بنفي فم الذهب، على أنه لم يبق منفيا إلا يوما واحدا؛ لأن الشعب أكثر في الهياج، وحدث في الليل زلزال قوض كثيرا من أبنية المدينة، وغرفة الملك نفسها فارتاعت الملكة، وسألته أن يستدعي فم الذهب للحال، فبالغ الشعب بالاحتفاء بعوده وسأل هو الملك أن يستدعي أساقفة أكثر من الأولين للحكم بدعواه، فحكموا ببراءة ساحته وأن لا عبرة لشيء مما جرى قبلا ...
وكان من بعد ذلك أن أقيم تمثال لأودكسية الملكة على باب الندوة، وبجانب كنيسة أجيا صوفيا، وجاوز الشعب حدود الأدب بالرقص والغناء والملاهي، وشكا فم الذهب من ذلك بخطبة ندد بها بالعاملين والآمرين فحنقت أودكسية، ولم يجبن فم الذهب بل ألقى خطبة أخرى قال فيها: عادت هيرودية ترقص حنقة متطلبة رأس يوحنا، وجمع الملك كثيرا من الأساقفة وأكثرهم من خصوم فم الذهب، فحملوا الملك الضعيف على إبعاده من كرسيه، فأمر بإبعاده وحال دون ذلك مقاومة الشعب العنيفة، ومحالفة اثنين وأربعين أسقفا، إلى أن انسل البطريرك خفية وسار مع مفوض الملك إلى نيقية، ثم إلى أرمينية ثم إلى شواطئ البحر الأسود، حيث توفي سنة 407، ونقلت جثته في أيام الملك تاودوسيوس بن أركاديوس إلى القسطنطينية ووضعت مع ذخائر الرسل، وانتصر له الحبر الروماني بعد وفاته كما انتصر له بحياته آمرا أن يذكر بالتكريم، وأن يرد الأساقفة المنفيين بسبب دعواه.
وأما تآليفه فكثيرة منها مقالات وافرة العدد في العقائد الدينية، وكتب في تفسير أكثر الأسفار المقدسة، وكتاب في الكهنوت وآخر في سيرة النساك، وخطب ومواعظ في مواضيع كثيرة ورسائل إلى كثيرين منها رسالة إلى القديس مارون ونافور للقداس بالسريانية، وله ستة كتب في الرد على اليهود إلى غير ذلك.
وكان في سورية أساقفة آخرون كثيرون مشهورون بعضهم كاثوليكي، وبعضهم أريوسي، أضربنا عن ذكرهم رغبة في الإيجاز وليطالع من شاء عدد 581 في المجلد الرابع من تاريخ سورية. (3) في بعض من اشتهر من القديسين بسورية في هذا القرن
القديس جيورجيوس
ذهب بعضهم أنه ولد باللد في جهة حيفا، وذهب غيرهم أنه ولد بالكبادوك وبعد وفاة والده مضت به أمه إلى فلسطين، وكان أبوه من رؤساء الجند في أيام ديوكلتيان، وخلف أباه في منصبه، وبعثت مجاهرته بالدين المسيحي ديوكلتيان إلى أن ينزل به أعذبة أليمة كثيرة، وأمر أخيرا بقطع رأسه، ويصوره المصورون فارسا ضاربا تنينا برمح لينجي بنتا، فذلك رمز إلى مناصبته الوثنيين ومدافعة عن المسيحيين، وعبادته منتشرة في المشرق والمغرب عند النصارى والمسلمين الذين يسمونه الخضر.
القديسان سرجيوس وبكخوس
الراجح أن سرجيوس كان من رصافة بين تدمر والفرات، وبكخوس من بربليس بسورية الشمالية، وكانا من فرسان الجيش الروماني في أيام الملك مكسيمينيان، وجاهرا بمعتقدهما فتملقهما أولا ثم هددهما، ثم أرسلهما إلى والي المشرق فعذبهما، ومات بكخوس بنثر لحمانه بالجلد، وسرجيوس بقطع رأسه سنة 306، وعبادتهما منتشرة في المشرق منذ القرن الرابع، كما يظهر من الكنائس المنشأة على اسمهما.
القديس إيلاريون
ولد بقرية في قرب غزة وكان والداه وثنيين، فتنصر وسمع بأخبار القديس أنطونيوس، فأمه إلى البرية وأقام عنده مدة مندهشا بفضائله، وعاد إلى وطنه فوجد والديه قد توفيا فوزع ما خصه من تركتهما على الفقراء، واعتزل في برية غزة مثابرا على الصلاة والنسك والتقشفات، وأجرى الله على يده آيات كثيرة، وكانت بينه وبين القديس أنطونيوس مراسلات وهو مؤسس الرهبانية في سورية، وأنشأ أديارا كثيرة، ولما اشتهر فضله فر إلى صقلية ثم إلى رومة، فلم يخف فضله وفضيلته وأجرى الله على يده آيات ففر أخيرا إلى قبرس حيث رقد بالرب سنة 372.
القديس ملخس
دون القديس إيرونيموس ترجمة ملخس فقال: «أتيت سورية وأقمت مدة في قرية في جهات أنطاكية، فوجدت ملخس شيخا وامرأته كذلك وقص علي خبر حياته، فقال: «ولدت بنصيبين وحيدا لوالدي وأرادا تزويجي، ففررت إلى دير في قنسرين وأقمت بين الرهبان، ثم هاجني الشوق إلى العود إلى وطني لأعزي أمي بفقد والدي، فسافرت من حلب نحو الرها، فأخذت أسيرا وكنت أنا وامرأة في نصيب مولى واحد، فخدمته بأمانة وأراد تزويجي بالمرأة وتمنعت من ذلك، فامتضى سيفه ليقتلني فتنحيت وتركني والمرأة، فقلت لنفسي: لا مناص لك من الهلاك أو الظفر ... وأخذت مدية أطعن بها جسدي، وقلت للمرأة: دونك شهيدا لا زوجا، فوقعت على قدمي قاسمة على حفظ العفاف، وقالت: يعرفك مولانا زوجي ويعرفك المسيح أخي، فعشت معها طويلا وما نظرت جسمها ولا مست جسدي، وسئمت نفسي الأسر، وجد بي الوجد إلى العيشة في الأديار فوافقتني المرأة إلى الفرار، فرجعت معها إلى الدير الذي كنت به أولا، وعاشت المرأة بين العابدات».» واختتم إيرونيموس كلامه بقوله «هذا ما قصه علي ملخس الشيخ، وأنا حدث أقصه الآن وأنا شيخ ليكون مثالا للعفاف.» وكنيستنا المارونية تعيد لذكر ملخس في 21 تشرين الأول. (4) أخص الكنائس التي أنشئت بسورية في القرن الرابع (1)
كنيسة القيامة في أورشليم: بناها الملك قسطنطين الكبير، بعد أن وجدت أمه هناك خشبة الصليب الكريم بدئ في بنائها سنة 326 ونجز في سنة 335. (2)
كنيسة صعود المخلص في جبل الزيتون: بنيت باهتمام الملكة هيلانة أم الملك قسطنطين، وأمر ابنها بعد كنيسة القيامة. (3)
كنيسة مغارة المولد في بيت لحم: بنيت بأمر الملك قسطنطين، بدئ في بنائها سنة 327 ونجز في سنة 333. (4)
كنيسة صور: بناها القديس بولينوس أسقف صور على أنقاض كنيسة قديمة كانت هناك، فدمرت سنة 303 بأمر الملك ديوكلتيان، وبعد أن أمن قسطنطين الملك جددت هذه الكنيسة. (5)
كنيسة أنطاكية: شرع في بنائها الملك قسطنطين سنة 331، وسموها الذهبية لكثرة ما فيها من الذهب، ولم ينجز بناؤها إلا في أيام ابنه قسطنس سنة 341. (6)
كنيسة بعلبك: بناها قسطنطين أيضا إذ كان الوثنيون يجتمعون في هيكل بعلبك، ويتمرغون بوحول الفواحش تكرمة للزهرة معبودهم، فنهى قسطنطين عن اجتماعهم هناك، وأقام فيها أسقفا وكهنة. (7)
كنيسة أفقا: بناها قسطنطين أيضا بعد أن نقض هيكل الفساد الذي كان هناك. (8)
كنيسة ممرا: في جانب بلوطة ممرا حيث ظهر الله لإبراهيم، ووعده بتكثير نسله بناها قسطنطين أيضا ... ذكر كل هذه الكنائس أوسابيوس في ترجمة قسطنطين.
ولما أمر الملك تاودوسيوس بدك معابد الأصنام بسورية تحولت معابد كثيرة إلى كنائس.
الفصل التاسع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس
(1) في ما كان بسورية في أيام أركاديوس وابنه تاودوسيوس الثاني
قل ما عثرنا في الكتب التي لدينا على أخبار أحداث هامة في القرن الخامس، فأركاديوس خلف أباه تاودوسيوس الأول سنة 395، وتوفي سنة 408، وخلفه ابنه تاودوسيوس الثاني وسن عدة شرائع مؤيدة للدين والآداب، ويظن أنه في أيامه كان حرب المنذر بن ماء السماء مع آل غسان ملوك الشام، فماء السماء ويسميها الإفرنج ماوية هي بنت عوف من ملوك الحيرة ... لقبت ماء السماء لجمالها ، حملت على مدن فونيقي وفلسطين، ونكلت بأهلها، واتصلت إلى تخوم مصر في نحو أواخر القرن الرابع وطلب الرومانيون هدنة منها، فأنكرتها عليهم إلا أن يعنوا بإقامة ناسك اسمه موسى أسقفا على أمتها؛ لأنها كانت نصرانية فعنوا بذلك ورقي موسى إلى الأسقفية، ومضى إلى الحيرة يدبر شعب ماء السماء، وكان لها ابن يسمى المنذر ملك بعدها، وكانت بينه وبين الحارث أحد ملوك غسان حروب، وإحداها تحسب من أيام العرب المشهورة يقال لها: يوم عين أباغ فقتل المنذر في هذا اليوم وانهزم ملوك الحيرة، وتبعهم آل غسان وأكثروا فيهم القتل.
وأما الحارث ملك غسان فهو الحارث بن الأيهم أخو النعمان، أو هو جبلة بن النعمان ... والقولان لأبي الفداء الذي وصف الحارث بأنه الذي طلب أدراع امرئ القيس من السموأل، إشارة إلى القصة المشهورة أن امرأ القيس ملك كندة لما قتل بنو أسد أباه، واستنجد ببكر وتغلب، وتطلبه المنذر بن ماء السماء، فخاف منه وقصد السموأل عاديا اليهودي وأودعه أدراعه وكانت مائة درع، ومات امرؤ القيس فطالب الحارث السموأل بالأدراع فتمنع من تسليمها إليه، وكان الحارث أسر ابن السموأل فهدده بأن يقتل ابنه إن لم يسلمه الأدراع وقتله أمامه ولم يسلمها، فيضرب المثل به بالوفاء والأمانة، وكانت بين آل غسان وملوك الحيرة حروب أخرى في هذا القرن منها الحرب المعروفة بيوم مرج حليمة (أبو الفداء ك1 صفحة 84). (2) في الحرب بين الأسود من ملوك الحيرة وآل غسان ملوك الشام
خلف الملك تاودسيوس الثاني بولشاريا أخته سنة 450، واختارت مرقيان قائد الجيش زوجا لها على شرط أن يصون عذرتها، ثم لقت ربها سنة 453، واستمر مرقيان يدبر الملك بعدها بكل قداسة وتوفي سنة 457، وجعلته الكنيسة وبلوشاريا في مصاف القديسين، وخلف لاون مرقيان إلى أن توفي سنة 474، وفي أيامه أو أيام خليفته زينون كانت حرب الأسود مع ملوك غسان، فالأسود هو ابن المنذر بن النعمان من ملوك اللخميين في الحيرة بقرب الكوفة، ... وقد ذكر هذه الحرب كثيرون من المؤرخين العرب وقالوا: إن الأسود انتصر على غسان وأسر عدة من أمرائهم وأراد أن يعفو عنهم، وكان له ابن عم يقال له: أبو أذينة قتل آل غسان أخاه فقال أبو أذينة قصيدته المشهورة يغري الأسود بقتلهم:
ما كل يوم ينال المرء ما طلبا
ولا يسوغه المقدار ما وهبا
وأنصف الناس في كل المواطن من
سقى المعادين بالكأس الذي شربا
ومما قاله المؤرخون العرب أن النعمان بن امرئ القيس الثاني من هؤلاء اللخميين الذي ملك في هذا القرن غزا الشام مرارا كثيرة، وأكثر المصائب في أهلها وسبى وغنم أموالا، وهو الذي نهض بثأر رجل من بني غسان يقال له: الضيزن وأخذ ديته مائة ألف دنيار ممن كانوا في زمانه من ملوك الرومان، وهذا الملك هو الذي بنى الخورنق والسدير القصرين المشهورين في الحيرة ... ولم يكن سطو هذه القبائل على سورية إلا على سبيل غزوة، وأخذ غنيمة واستشفاء بأخذ ثأر، ولم يكونوا يملكون البلاد بل كانوا ينكلون بأهلها ويأخذون الغنائم، ويقفلون إلى بلادهم.
وأما على تخت القسطنطينية فبعد زينون جلس باسيليك، ثم لاونس ثم أنسطاس ولم يكن من أعمال هؤلاء الملوك إلا تدخلهم في أمور الدين على غير هدى واضطهادهم الكاثوليكيين، ولم يكن لأنسطاس ما يذكر في جانب مصلحة المملكة إلا رد عماله في سورية وفلسطين العرب عن سطوهم على هذه البلاد، واسترجاع قادة جيشه بعض مدن ما بين النهرين وأرمينية من يد الفرس، وأضر بالمملكة والكنيسة ونفسه. (3) في بعض المشاهير بالعلم بسورية في القرن الخامس
سوزومانس المؤرخ
قال عن نفسه: إنه ولد في قرية من قرى غزة، وأن جده آمن بالمسيح بواسطة القديس إيلاريون وقد انكب على درس الشريعة بمدرسة بيروت الشهيرة، ثم سار إلى قسطنطينية، تعاطى محاماة الدعاوى ولم يكن شغله كثيرا؛ لأنه ألف تاريخه أثناء إقامته في هذه المدينة، وهذا التاريخ في تسعة كتب نفسه فيها متوسط بين السامي والسافل يبتدئ بتاريخ سنة 314، وينتهي بتاريخ 439، وله كتابان آخران في التاريخ لم يبلغا إلينا، وكان معاصرا لسقراط المؤرخ ... وكانا معا بالقسطنطينية وبين كلامهما مشابهات، ويظهر أن سوزومانس انتحل بعض ما كتبه سقراط؛ لأنه كان بعده وإن في عصر واحد.
إيناي الغزي
ولد بغزة وكان فيلسوفا تابعا مذهب أفلاطون اشتهر في القرن الخامس، وتوفي سنة 521 وكان مسيحيا وتلميذا لبروقلس الفيلسوف الشهير، ونعلم من تآليف إيناي سبعة وعشرين رسالة نشرها مانوق في جملة الرسائل اليونانية، التي عني بطبعها سنة 1469، وله محاورة في خلود النفس وقيامة الأجساد، وألفها لما رأى الشهداء الذين أذاقهم البندالة مر العذاب بإفريقية، وطبعت بزوريك سنة 1559، ونشر شرح لها ببريس سنة 1859.
مارينس
ولد بسورية في هذا القرن الخامس، وأخذ العلوم عن بروقلس في أثينا ثم خلفه في منصة التعليم سنة 485، ولم تبق لنا الأيام من تآليفه إلا ترجمة بروقلس أستاذه نشرها فبريشيوس مع ترجمتها إلى اللاتينية مذيلة بحواش سنة 1700 في همبورغ، وطبعت بلبسيك سنة 1814.
الدمشقي
ولد بدمشق وكان فيلسوفا على مذهب الفلاسفة الذين لم يقيدوا أنفسهم بمذهب أسلافهم، وكان تلميذا لمارينس المار ذكره، فكان يعلم بأثينا لما أمر يوستينيانوس بإقفال مدارس الوثنيين سنة 529، ففر إلى كسرى ملك الفرس مع غيره من الفلاسفة، فلم ينالوا الحرية التي كانوا يتطلبونها، ولما عقد كسرى الصلح مع يوستينيانوس سنة 533 نال لهم منه الرخصة بأن يعودوا إلى أوطانهم، ومن تآليف الدمشقي تاريخ لعمدة الفلاسفة أصحاب مذهبه أوصل إلينا فوتيوس فقرا منه، ثم مقالة في المبادي والأصول نشر كوب القسم الأول منها في فرنكفورت سنة 1826 باليونانية، وللعالم روال الإفرنسي مقالة في الدمشقي هذا نشرها سنة 1861، وكان في هذا القرن هرون بن أشير الربي من فلسطين ممن استنبطوا وضع النقط والحركات في اللغة العبرانية، وروى أغاثيا محامي الدعاوى في تاريخه (ك2 عدد 30) أنه كان في هذا القرن وأوائل السادس هرميا وديوجان الفونيقيان وإيسودورس الغزي، وشبههم بأزهار في عصره ولم نعثر لهم على ترجمة.
الفصل العاشر
في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس
(1) في بعض بطاركة أنطاكية في هذا القرن
منهم برفيريوس:
خلف أفلابيانوس المار ذكره، وكان مخالفا لفم الذهب ووقع على الحكم عليه بالنفي، فكان ذلك سببا لانفصال كثيرين بسورية عن الشركة معه، ولمعاملته كثيرين منهم بالقسوة سندا إلى شريعة سنها آل البلاط الملكي بأن من خالف البطاركة، الذين حكموا على فم الذهب يطرد من الكنيسة، وتوفي برفيريوس سنة 413.
ومنهم تاودتوس:
وله مقالة يفند بها زعم الأبوليناريين، وقال ابن العبري (في تاريخ بطاركة أنطاكية): إنه في أيامه نشر الفتية السبعة الذين كانوا قد لجئوا إلى مغارة في جهة إفسس، وأمر داكيوس بسد بابها ثم بعثوا بعد مائة وثمان وثمانين سنة، وهذه القصة رواها كثيرون غير ابن العبري، ولكن خالفهم فيها بارونيوس في حواشيه على السنكساري الروماني في 22 تموز ونطاليس إسكندر وغيرهما ... والأظهر أن رفاتهم وجدت في تلك الأيام لا أنهم بعثوا، وتوفي تاودوتوس سنة 428.
ومنهم يوحنا الأول:
وكان مشايعا نسطور في المجمع الإفسسي مخالفا للقديس كيرلس البطريرك الإسكندري، ولما حصحص له الحق وحرم نسطور ارعوى إلى الصواب، وصالح القديس كيرلس وتوفي يوحنا سنة 441.
وخلف يوحنا المذكور دمنس ابن أخته وشكى في مجمع إفسس المعروف باللصي بأنه يقول بطبعين بالمخلص، وتأول كلامه بأنه يقول بأقنومين أيضا، فعزله هذا المجمع، وانفرد في أديار فلسطين معتزلا مخالطة الناس.
وخلفه مكسيميوس سنة 449، وكان في المجمع الخلكيدوني سنة 451، وكان جدال بينه وبين يوفينال بطريرك أورشليم إذ كانت كنيسة أورشليم صيرت بطريركية، وكان يوفينال يرغب في أن يضم فونيقي الثانية والعربية إلى بطريركيته، وكان مكسيميوس يطلب بقاءها لبطريركية أنطاكية، فحكم له بأن يكتفي يوفينال بأعمال فلسطين اليهودية والسامرة والجليل.
ومنهم مرتيريوس:
الذي اعتزل الكرسي البطريركي نحو سنة 470 للقلق الذي أثاره بطرس القصار، فاغتصب بطرس المذكور هذا الكرسي، ولقب القصار؛ لأن مهنته كانت قصر الثياب بمعنى غسلها وكان مختل العقيدة فنفاه الملك، وعقد مجمع فحطه عن مقام الأسقفية لكنه اغتصب البطريركية ثانية سنة 476 في أيام باسيليوس الملك، ولما تغلب عليه زينون الملك نفى القصار إلى بنطوس على أنه رخص بعوده المرة الثالثة إلى كرسي أنطاكية، فأكثر من الاضطهاد للكاثوليكيين ومن المقاومة لرسوم المجمع الخلكيدوني ... فعقد البابا فاليكس مجمعا برومة طعن القصار بالحرم، وحطه عن البطريركية سنة 485 وأخمد الله أنفاسه سنة 488. (2) بعض بطاركة أورشليم في القرن الخامس
عد الكرسي الأورشليمي في هذا القرن بطريركيا ومن بطاركته يوفينال، والظاهر أنه رقي إلى البطريركية سنة 418، وشهد المجمع الإفسسي سنة 431، وتابع القديس كيرلس الإسكندري على حرم نسطور وحطه، وتطلب من هذا المجمع مد تخوم بطريركيته إلى بعض مدن فونيقي والعربية، فلم يجاره أساقفة المجمع على سؤله كما مر، وتراه استأنف طلبه في المجمع الخلكيدوني المنعقد سنة 451، وشهد أيضا سنة 449 مجمع إفسس الموصوف باللصي، وتصحب لأوطاخي ووقع على الحكم بعزل أفلابيانوس البطريرك القسطنطيني وغيره من الأساقفة الكاثوليكيين، لكنه استغفر عن سوء تصرفه هذا في المجمع الخلكيدوني سنة 451، وجاهر بالإيمان القويم، فقبل في المجمع بعد أن كان منع كغيره من الأساقفة الذين شايعوا ديوسقوروس في المجمع اللصي، ومنهم أوسطاطيوس أسقف بيروت وتوفي يوفينال سنة 458.
وخلف أنسطاس يوفينال وتوفي سنة 478، وخلفه مرتيريوس وكان ناسكا في الصعيد، ثم في برية أريحا، وبعد أن كان قد كتب إلى بطرس البطريرك الإسكندري جاهلا ضلاله قد نابذه لما علم مناصبته للمجمع الخلكيدوني، وتوفي مرتيريوس سنة 486، فخلفه سالوستيوس إلى أن توفي سنة 494 وخلفه إيليا الأول، وكان رفيقا لمرتيريوس في نسكهما في الصعيد وبرية أريحا، ونفاه الملك إنسطاس إلى أيلة على شاطئ البحر الأحمر سنة 513، وتوفي سنة 518. (3) في بعض أساقفة سورية في القرن الخامس
توادوريطوس أسقف قورش
ولد بأنطاكية سنة 487 وعاش في أحد الأديار قبل أن يصير أسقفا، ولم يقبل الأسقفية إلا مكرها واستمر فيها خمسا وعشرين سنة، أنشأ مآوي عمومية وبنى جسرين، وأقام حمامات عامة وجلب الماء إلى المدينة ورد إلى الإيمان سكان عدة قرى كانوا مغوين بضلال بعض المبدعين، واضطهد وطرد مرات من أسقفيته، كل ذلك رواه عن نفسه في ترجمته، ورقي إلى الأسقفية سنة 420، وشهد المجمع الإفسسي سنة 431، وكان أولا من المقاومين للقديس كيرلس الإسكندري، ثم عاد إلى الوفاق معه وحطه ديوسقورس في المجمع اللصي بإفسس عن مقامه الأسقفي، ورده إليه المجمع الخلكيدوني سنة 451، وتوفي سنة 458، وحرم المجمع الخامس المسكوني سنة 553 ما كتبه في تخطئة القديس كيرلس والمدافعة عن نسطور ولم يحرمه هو، ولولا مقاومته للقديس كيرلس لما كان أقل توقيرا من باسيليوس وفم الذهب وغريغوريوس، وأما تآليفه فأخصها تاريخ بيعي ضمنه في خمسة كتب ابتدأ فيه من سنة 326 إلى سنة 439، ثم تاريخ سماه دينيا أو تقويا جمع فيه تراجم خمسين ناسكا منهم القديس مارون، ثم تفسير لرسائل القديس بولس ونبوات الأنبياء الصغار الاثني عشر ونبوة إشعيا، ومنها كتابه في انتقاد حروم القديس كيرلس الإسكندري نسطور، وليته لم يكن، وكتاب خطأ به أوريجانوس وكتاب آخر في التجسد، وكتاب في تفسير نبوة دانيال، وخمسة كتب في تجسيد الكلمة يندد بها بعض مقاومي نسطور، وكتاب رد على الفلاسفة قاوم به الملك يوليانوس الجاحد، وله نحو مائة وستين رسالة، ومقالات شتى.
توادور أسقف المصيصة
ولد بأنطاكية في منتصف القرن الرابع، وكان من أقران فم الذهب في اقتباس العلوم ومعلما لنسطور وتوادوريطوس المار ذكره، وقاوم أولا تباع أبولينار شديد المقاومة فرقي إلى أسقفية المصيصة في كيليكية سنة 394 على الأصح، ولكنه تهور بضلالي بلاجيوس ونسطور، ويسميه النساطرة أباهم، وقد كتب مؤلفاته باليونانية، وترجمت من تلك الأيام إلى السريانية، وعني بترجمتها إيهيبا أسقف الرها وهي منطوية في واحد وأربعين مجلدا أكثرها في تفسير الأسفار المقدسة، وله كتاب في الكهنوت وكتابان في الروح القدس وكتاب في التجسد، وكتابان في رد مذهب الفرس إلى غيرها، وله أيضا نافور في رتبة القداس وأدركته الوفاة سنة 429.
قورش وإخسنيا أسقفي منبج
أما قورش فأصله يوناني رقي إلى أسقفية منبج، واستمر فيها إلى نحو سنة 485 ولما توفي أقام بطرس القصار البطريرك الأنطاكي خلفا له إخسنيا، ويسمى فيلكسينوس وكان قورش نسطوريا وإخسنيا أوطاخيا، ولقورش من التآليف مقالة في تقسيم الأديان والبدع وله خطب كثيرة، وأما إخسنيا فرقي إلى الأسقفية سنة 485 وكان مجدا في مقاومة المجمع الخلكيدوني ومناصبة من يذعنون لمراسيمه، واضطهد الكاثوليكيين في أيام ساويروس البطريرك، فنفاه الملك يوستينوس مع ساويروس البطريرك إلى مدينة في تراسة، ثم نقل إلى كنكورا وهناك توفي مفطسا بالدخان نحو سنة 520، ويعتده اليعاقبة شهيدا، وأما تآليفه فهي تفاسيره لبعض الأسفار المقدسة وترجمة الأناجيل من اليونانية إلى السريانية في منبج سنة 508، واليعاقبة يستعملون هذه الترجمة التي هذبها توما الحرقلي، وله أيضا نافور للقداس ورتبة منح سر المعمودية يستعملها اليعاقبة، وله أيضا ثلاث مقالات في الثالوث والتجسد، وعشر مقالات في أن أحد أقانيم الثالوث الأقدس ولد وتألم إلى غيرها.
وقد ذكرنا في تاريخنا المطول كثيرين من أساقفة سوريا من أكثر مدنها من صفحة 333 من المجلد الرابع إلى صفحة 349 منه، فمن شاء الاطلاع على تراجمهم فليراجعها هناك. (4) في بعض القديسين الذين كانوا في القرن الخامس
القديس سمعان العمودي
ولد في قرية سيسان من بلاد قورش ومات والده ثم عمة له جعلته وارثا لثروتها، فترك العقار لإخوته وباع الأثاث والملابس ووزعها على الفقراء والأديار، وعكف على التقشفات في دير تولادا وأقام في قلاية حرجة عشر سنين، ثم أقام على أعمدة قصيرة ثم على عمود رفيع علوه أربعين ذراعا واستمر في ذلك سبعا وأربعين سنة، وضع الله على يده آيات كثيرة في حياته وبعد وفاته ... منها أن بعض أهالي لبنان أتوا يسألونه أن يقيهم بعض الضواري، التي كانت تفترس بعضهم، فأرشدهم أن يغادروا الوثنية ويتنصروا ويقيموا حول كل قرية من قراهم أربعة صلبان فنجوا من تلك الضواري، وقد روى السمعاني أن هذه القرى كانت في قمة لبنان الشمالية، وأن رسم هذه الصلبان كان في حصرون وبشري وأهدن وقيطو، وكانت وفاته سنة 459 وعمره نحو سبعين سنة، واحتفل المؤمنون بجنازته غاية الاحتفال.
القديس إسحق الكبير
كان كاهنا في أنطاكية في منتصف القرن الخامس، وقد تتلمذ لزينوبيوس تلميذ القديس إفرام، وتوفي سنة 460، وله تآليف كثيرة وأخصها تفنيد لمزاعم النساطرة والأوطاخيين، على أن كتبه هذه قلما بقي منها لإغفال النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة نسخها؛ لأنها مفندة لضلالهم، وأما من مؤلفاته الأدبية والروحية، فبقي منها مائة وأربع قصائد أو خطب ذكرها السمعاني في المجلد الأول من المكتبة الشرقية من صفحة 214 إلى صفحة 229.
القديس مارون الناسك وتلاميذه
روى ترجمته توادوريطوس أسقف قورش في كتابه في النساك فصل 16، فقال: إنه عزم أن يصرف حياته في البرية لا يأوي منزلا، فتسلق إلى قمة جبل قورش فكرس لله معبدا للوثنيين، وكان يجهد نفسه في الأعمال اليدوية التي اعتادها النساك، ومن عليه الله الجواد بموهبة شفاء الأمراض، فأتى إليه الزائرون من كل فج فكان يشفيهم من أدوائهم الجسدية والروحية، وصار له تلاميذ كثيرون ورقاه أسقفه إلى درجة الكهنوت، وكان صديقا للقديس يوحنا فم الذهب تدلنا على ذلك رسالة فم الذهب إليه، وهي السادسة والثلاثون من رسائله، وقد توفاه الله سنة 410 على الأرجح ... وكان بين مجاوريه نزاع على دفن جثته، وتغلب أهل حماة على غيرهم فاختطفوا جثته الكنز النفيس كما سماها توادوريطوس، وبنوا على اسمه هيكلا عظيما، وأخذ المؤمنون بعد وفاته يعيدون لذكره بحفلات عامة كما روى توادوريطوس أيضا.
وأما تلاميذ القديس مارون الذين ذكرهم توادوريطوس، فهم يعقوب الناسك ووصفه توادوريطوس بالكبير وليميناوس ويوحنا الذي انفرد في الجبل بشمالي قورش خمسا وعشرين سنة، وبردات ويسميه السريان برهدد، ومن تلميذاته مارانا وكور الحلبيتان، ودومنينا التي ذكر توادوريطوس أنها اقتدت بالقديس مارون في نسكها.
الفصل الحادي عشر
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس
(1) في ما كان بسوريا أيام الملك يوستينوس
خلف يوستينوس إنسطاس الملك سنة 518، ومن أعماله طرده ساويروس من بطريركية أنطاكية وإخسنيا من أسقفية منبج، وبعنايته أدخل في شملاية القداس ذكر المجامع الأربعة المسكونية النيقوي والقسطنطيني والإفسسي والخلكيدوني سنة 519، وفي أيامه خربت أنطاكية بالزلازل والحريق، وقد خربت هذه المدينة بالزلازل مرات أخصها سنة 115 ونحو سنة 459، وهذا الزلزال كان سنة 526، فأقلب أكثر أبنيتها وطمر تحت أنقاضها كثيرين من بنيها، ومنهم إفراسيوس بطريركها، ووقع حريق في كنيسة القديس إسطفانس وانتشر في وقت وجيز في محال كثيرة وأتلف كثيرا من البيوت.
ولما كانت النار مشتعلة في أكثر مواقد المدينة لإعداد طعام الغداء أحاثها الزلزال فشبت في البيوت، ومد الهواء لهيبها فالتهمت بيوتا أخرى، واجتمعت البليتان الزلزال من أسفل والنار من أعلى، واستمر هذا الزلزال على شدته ستة أيام وخربت به دفنة والسويدية أيضا، وبالغ يوستينوس في ما أنفقه لتدارك هذه النازلة. (2) في ما كان بسورية في أيام يوستنيانس الملك
خلف يوستنيانس يوستينوس عمه سنة 527 وكان ملكا عادلا ورعا حليما، وأنشأ كثيرا من الكنائس والأديار وجدد دير القديس مارون على العاصي الذي كان الملك إنسطاس قد نقضه ، وقتل رهبانه، ومن أشهر أعماله وأهمها جمعه كتب الشريعة والقوانين التي كان الملوك قد سنوها قبله مختارا لذلك رجالا فقهاء، منهم اثنان من علماء مدرسة بيروت، وأهم الأحداث في أيامه حملة كسرى ملك الفرس على سورية سنة 540، فحاصر الرصافة على عدوة الفرات وسرجيوبلي، ثم اجتاز في جانب منبج ولم يحاصرها؛ لأنها كانت حصينة وبلغ إلى حلب فغرم أهلها بما شاء من المال، وأرسل يطلب من أهل أنطاكية ألف ليرة ذهبا؛ ليعفو عنها، وأحب الأهالي دفع المبلغ ولم يشأه أعوان الملك، فخيم على عدوة العاصي وأمر فريقا من جيشه بضرب المدينة من جهة النهر، وسار بفريق آخر إلى أعلى المدينة فافتتحها وغصت الشوارع بالفارين منهم، ووثبت عصبة من الشبان على عساكر كسرى فظهرت عليهم، فأرسل الملك نجدة لجيوشه المتقهقرين فقتلوا أولئك الشبان الأبطال، وانتهب الجنود كل ما وجدوا في المدينة وأمر كسرى بحرقها، ثم صالح يوستنيانوس على أن يدفع له تلك السنة خمسة آلاف ليرة ذهبا، وفي كل سنة بعدها خمسمائة ليرة، ثم زار كسرى بعض مدن سورية أي: السويدية ولم يمسها بضرر ثم دفنه وأباميا (قلعة المضيق) وطلب من أهلها عشرة آلاف ليرة فضة، وأخذ من قنسرين مائتي ليرة ذهبا وافتدى أهل الرها الأسرى الذين كان قد أسرهم من أنطاكية.
ومما كان في أيامه أيضا ثورة السامريين، فإن الملك يوستنيانوس أصدر منشورا أمر به الوثنيين، وأولي البدع أن يرعووا عن ضلالهم ويدينوا بالدين المسيحي الصحيح، فامتثل كثيرون أمره، على أن السامريين جاهروا بالعصاة وسموا رجلا اسمه يوليانس ملكا، وكان عددهم نحوا من خمسة آلاف رجل، ووثبوا على باسان وأحرقوا كنائسها واستحوذوا على نابلس وقتلوا أسقفها وكهنتها وكثيرين من أهلها، فجمع توادوريطوس أمير الجيش في فلسطين وجنوده، وزحف بهم إلى نابلس فظفر بيوليانس وشتت شمله، وقطع رأسه وأرسله إلى الملك مع تاجه وأهلك من السامريين خلقا كثيرا، وفر الباقون إلى الجبال فتتبع أعوان الملك آثارهم فقتلوا منهم كثيرين وأمر يوستنيانس أن لا يبني السامريون فيما بعد مجامع، وأن يحظر عليهم نيل شيء من المناصب.
وكان في أيام هذا الملك أيضا زلزال خربت به بيروت وأطرابلس وصور وصيدا وصرفند وجبيل وطرطوس وغيرها سنة 553، ثم كان زلزال آخر سنة 556 خربت به مدن أخرى بسورية، وسقط في البترون من الرأس المعروف بوجه الحجر قسم كبير في البحر تكون منه مرفأ ترسي به السفن، وتواترت بعد ذلك الزلازل في سورية، وذكر أغاثيا في تاريخه (ك2 عدد 15) خراب بيروت في هذه الزلازل، فقال: «وبيروت تلك المدينة الجميلة قد شوه الزلزال جمالها، وسقطت فيها تلك الأبنية الباذخة البديعة الصناعة، وهلك فيها كثيرون من سكانها والغرباء المتقاطرين إليها، وجم غفير من الشبان الشرفاء والفقهاء الذين يؤمونها لتعلم شرائع الرومانيين، وانتقل معلمو الشريعة إلى صيدا لقربها منها ريثما يتجدد بناء بيروت، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه من قبل بل إلى ما يشبهه.» (3) في ما كان بسورية في أيام يوستينوس الثاني
لم يكن ليوستنيانس ابن فخلفه يوستينوس الثاني ابن أخته سنة 565، والذي نعلمه من أعماله اهتمامه بتوطيد السلم في الكنيسة، واستدعاؤه الأساقفة المنفيين من منفاهم، وإصداره منشورا إلى جميع المسيحيين يحضهم به على الاتحاد بالكنيسة الكاثوليكية، ويصرح بمعتقده القويم ومخالفته للمبدعين، ثم عقده عهدة تجارية مع خان التتر في جملة موادها الاتجار بالحرير الذي كان حينئذ قليلا في المملكة الرومانية، فاستاء كسرى ملك الفرس، وأرسل يطالبه بما كان يوستنيانوس قد تعهد بدفعه في كل سنة، فأنكر ذلك عليه يوستينوس، فاجتاز ملك الفرس الفرات بمائة ألف من الجنود وفرق جنوده في الأعمال التي على عدوة الفرات حتى بلغوا أنطاكية، ولكنهم توهموا أن أسوارها حصينة وأهلها أشداء، فانصرفوا عنها إلى أباميا (قلعة المضيق) ففتحوها وأحرقوها، وأسروا كثيرين من أهليها، وعاد كسرى يحاصر دارا قصبة الرومانيين في ما بين النهرين فافتتحها، وساءت هذه الأخبار الملك يوستينوس حتى اعتراه نوع من البله، فقبضت صوفيا الملكة على أزمة سياسة المملكة وشرت من كسرى الهدنة سنة واحدة بخمسة وأربعين ألف دينار ذهبا، وجعلت الملك يختار معاونا فاختار طيبار، فأطال مدة الهدنة إلى ثلاث سنين بالغ فيها بلم شعث المملكة والاستعداد للحرب التي انتصر بها على الفرس، وشتت شمل كسرى وغنم خزائنه حتى اضطر كسرى أن يذل ليوستينوس طالبا الصلح، واعتزل يوستينوس الملك وسلم أزمته إلى طيبار سنة 578، ولم نعثر على أخبار أحداث بسورية في أيامه، بل نعلم أنه حارب الفرس في أيام هرمدزا بن كسرى المذكور، وشتت شمله موريق قائد جيش طيبار، ولما كان طيبار مريضا سمى موريق قيصر، وخطب له ابنته سنة 582 ولما شعر بدنو المنون تنزل له عن الملك في تلك السنة، ولم نعثر في أيام موريق أيضا على أخبار أحداث كانت في أيامه ... وكانت لموريق أيضا حروب مع الفرس، وثار جنوده عليه وفي مقدمتهم فوقا فتنكر موريق وألقى نفسه في سفينة مع امرأته وأولاده، ولما علم الشعب فرار موريق أقروا لفوقا بالملك فقتل موريق وأسرته سنة 602. (4) في من نعرفهم من المشاهير الدنيويين بسورية في هذا القرن
عرفنا من هؤلاء دوروتاوس أحد معلمي الشريعة في بيروت كان من جملة العلماء الذين استدعاهم الملك يوستنيانس؛ لتنقيح الشرائع وضمها إلى مؤلف واحد، وقد اختاره يوستنيانس لوضع كتاب في القواعد والضوابط الأولى لهذا العلم تيسيرا لتعلمه فأتمه مع غيره من العلماء، وهو المسمى كتاب المراسيم، وكان مع دوروتاوس عالم آخر من معلمي الشريعة في بيروت عاونه في تأليف كتاب الديجستي في الشريعة مع غيرهما من العلماء.
أفاغريوس
هو مؤرخ شهير ولد بحماة سنة 536، وأقام مدة في أنطاكية يتعاطى محاماة الدعاوى، ثم انطلق إلى القسطنطينية وكان مكرما لدن الملكين طيبار وموريق ورقياه إلى مناصب رفيعة لم تشغله عن خدمة العلم، ونفع الناس به فقد ألف تاريخا دنيويا ابتدأ فيه من حيث انتهى توادوريطوس وسقراط أي: من سنة 431 وانتهى به إلى سنة 594، وترجم تاريخه من اليونانية إلى اللاتينية وترجمه إلى الإفرنسية العالم كوزان، وترى تاريخه في جملة مكتبة الآباء التي طبعها مين.
وروى أغاثيا (ك2 عدد 30) من تاريخه أنه كان في أيامه بسورية من العلماء هرميا وديوجان الفونيقيان وديسيدورس الغزي، ووصفهم بأنهم كانوا في أزهار أيامه أي : في القرن السادس، وذكر أيضا أورانيوس الصوري وقال: إنه أتى إلى القسطنطينية يتعاطى صنعة الطب، وأنه كان يدعي أنه فيلسوف أفلاطوني.
الفصل الثاني عشر
في تاريخ سورية الديني في القرن السادس
(1) في من اشتهر من بطاركة أنطاكية في هذا القرن
من هؤلاء ساويروس وكان مغويا بغواية أوطيخا، ولد في بلاد فارس وثنيا ودرس العلوم في بيروت، وتنصر في أطرابلس نصره أسقف كاثوليكي وانضوى إلى دير قريب من غزة، ثم مضى إلى مصر فشائع بطرس الألثغ البطريرك الإسكندري مناصبا تيموتاوس البطريرك الكاثوليكي، ثم أتى في مقدمة جمهور من الرهبان إلى القسطنطينية مهيجا بين القوم لمخالفة رسوم المجمع الخلكيدوني، واتصل إلى عزل مكدونيوس البطريرك القسطنطيني، وإقامة تيموتاوس بطريركا عاونه لدى الملك إنسطاس على طرد أفلابيانس بطريرك أنطاكية من كرسيه، وترقية ساويروس إلى هذا الكرسي سنة 512، وفي يوم ارتقائه حرم المجمع الخلكيدوني ورسالة القديس لاون البابا، وظل يدبر مهام هذه البطريركية بالعنف والاعتساف والاضطهاد للكاثوليكيين خمس سنين، وبعض أشهر إلى أن عاجلت المنية إنسطاس الملك، وخلفه الملك يوستينوس الصالح سنة 517، فأمر بعقد مجمع في القسطنطينية أيد مراسيم المجمع الخلكيدوني وحرم ساويروس، وأمر الملك بالقبض عليه وقطع لسانه ففر من أنطاكية إلى الإسكندرية، ثم أتى إلى القسطنطينية وطرد منها بأمر البابا أغابيتوس الثاني، فعاد إلى مصر بزي راهب إلى أن قضى أجله سنة 542 على الأظهر ... والذي نعرفه من تآليفه كتاب كبير ردا على مزاعم بعض الأراطقة، وله مائتان وخمس وتسعون قصيدة في الأوزان الثمانية، وذكر له السمعاني بعض كتب ورسائل وابن العبري كتابا عنونه محب الحق شرح فيه مباحث الطبيعتين في المسيح واليعاقبة يبتدئون به سلسلة بطاركتهم.
وخلفه عند الكاثوليكيين بولس سنة 519، وقد جد في المحاماة عن رسوم المجمع الخلكيدوني، ودبر البطركية ثلاث سنين واعتزلها، فخلفه إفراسيوس من أورشليم وتوفي تحت أنقاض داره بالزلزال الذي أصاب أنطاكية، وخلفه إفرام الأمدي سنة 527، وكان واليا في أنطاكية لما دمرتها الزلازل، وما أبداه من الغيرة على المصابين حمل على انتخابه بطريركا، وتوفاه الله سنة 545، وخلفه دمنوس واستمر في البطريركية إلى سنة 565 حين قام بعده إنسطاس، وكان راهبا من أديار فلسطين وقاوم الملك يوستنيانس في متابعته بدعة من زعموا أن جسد المسيح لم يكن محلا للفساد، فأمر هذا الملك بنفيه، ولكن عاجلته المنية سنة 565، فلم ينفذ حكمه ولكن جدد الأمر بعزله الملك يوستينوس الثاني سنة 569، وارتقى إلى البطركية غريغوريوس وكان شهيرا بصناعة الشعر، وورعا فاضلا رحوما وتوفي سنة 584 فعاد إنسطاس إلى البطريركية إلى أن توفاه الله سنة 598، وقام بعده إنسطاس الثاني وناصب اليهود الذين هاجوا على النصارى في أنطاكية، فقبضوا عليه وجروه في المدينة حتى لقي ربه سنة 610. (2) في بطاركة أورشليم في القرن السادس
كان منهم في أوائل هذا القرن يوحنا بن مرقيان، وشرط عليه الوالي أن يشترك مع ساويروس بطريرك أنطاكية، فأبى وبلغ ذلك الملك إنسطاس فاستشاط غيظا، وأمر بإلقاء البطريرك في السجن، فخرج منه بحيلة واجتمع مع جم غفير من الرهبان والمؤمنين في الكنيسة، وحرموا ساويروس وكل من لا يخضع لرسوم المجمع الخلكيدوني، وأظهروا من الثبات ما راع الوالي وجعل إنسطاس يصمت عنه، وتوفي يوحنا سنة 524، وخلفه بطرس وعقد مجمعا سنة 536 حرم به أنتيموس البطريرك القسطنطيني وسايروس البطريرك الأنطاكي وتوفي سنة 544، فخلفه مكاريوس، ولكن عزله الملك يوستنيانس ورقي بعد عزله أوسطوكيوس، ثم عزل سنة 563 ولا يعلم سبب عزله ولا حين وفاته، وعاد مكاريوس حينئذ إلى بطريركية أورشليم إلى أن لقي ربه سنة 574، وخلفه يوحنا الرابع واستمر على الكرسي البطريركي إلى سنة 594، وخلفه عموس فدبر مهامها إلى سنة 600.
عرفنا كثيرين من الأساقفة في هذا القرن في أكثر مدن سورية، وذكرناهم في المجلد الرابع من تاريخنا من صفحة 476 إلى صفحة 482، وضربنا عن ذكرهم هنا رغبة في الإيجاز. (3) في بعض المشاهير الدينيين السوريين في هذا القرن
يوحنا من أباميا
ولد هذا في أباميا على العاصي وأخذ السيرة الرهبانية في أحد الأديار، التي كانت كثيرة هناك فعاش بالورع والتقشف، وألف ثلاثة كتب في التدبير الروحي وأميال النفس والكمال، وحرم بطريرك النساطرة تلاوة كتبه؛ لأنها تضادهم ويظهر أنه كتب بالسريانية لا اليونانية، وذكر له السمعاني (مجلد 2 من المكتبة الشرقية صفحة 431) عنوان سبع خطب، وعنوان عشرين فصلا خمس رسائل في التثليث والتجسد والتوبة والإيمان، وكان له تلميذ اسمه يعقوب له من التآليف تفسيرات لبشارة متى ورسائل بولس الرسول ونبوة إرميا النبي.
بروكوب الغزي
ولد بغزة بفلسطين في أواخر القرن الخامس، وعكف على درس العلوم الدينية واشتهر بها في أيام الملك يوستينوس الأول، وكان ضليعا في معرفة الأسفار المقدسة مجملا بالخلال الحميدة والفضائل، وقد رد بصلاته كثيرين إلى السراط المستقيم، والمشهور من تآليفه تفسيره أسفار التكوين والخروج والأحبار والعدد، وتثنية الاشتراع وسفر يشوع بن نون، وسفر القضاة وأسفار الملوك والأيام وأمثال سليمان، ونشيد الأنشاد ونبوة إشعيا وله خطب في موضوعات شتى.
يوحنا الأنطاكي
ولد بأنطاكية في مبادي القرن السادس، وعكف على درس العلوم والفنون، ومارس أولا صناعة محامي الدعاوى ثم انصب على درس العلوم الدينية، ورقي إلى درجة الكهنوت وأرسله بطريركه الأنطاكي إلى القسطنطينية وكيلا له في مهامه، وألف حينئذ مجموعة للقوانين البيعية مثبتة في التأليف الموسوم بمكتبة الناموس القانوني، ورتبه على المواد مسميا أبوابه عنوانات، وأضاف إلى كل عنوان ما يتطبق عليه من شرائع يوستنيانس ولما عزل أفتيثيوس البطريرك القسطنطيني، أقيم بطريركا عليها سنة 564، ودبر كنيستها ثلاث عشرة سنة وخرمته المنية سنة 577.
يوحنا الرحوم
ولد في حماة وأكرهه والداه على الزواج، فتزوج ورزق أولادا أراحه الله منهم ومن امرأته، فعكف على السيرة الروحية والعلم وتناهى في فضيلة الرحمة حتى لقب بالرحوم، ورقي إلى درجة الكهنوت نحو سنة 560، فتفاضل بأعمال الرحمة الروحية والجسدية، وتضوعت الأرجاء بذكر فضائله وصدقاته حتى انتخب في مصر بطريركا على الإسكندرية، فأبى وحاول الفرار والتملص من هذا العبء الثقيل، لكنه ألجئ أن يذعن، فرقي إلى بطريركية الإسكندرية نحو سنة 606، فاقتلع أشواك البدع والرزائل من كرم الرب ... حتى يقال: إنه دخل الإسكندرية وفيها سبع كنائس وغادرها، وفيها سبعون كنيسة ومعبدا، وكان يسمي الفقراء أسياده؛ لأنهم ينولونه الملكوت السماوي وليس لسيد غيرهم أن ينوله ذلك، وفاضت روحه القدوسة سنة 619، أو سنة 616 وتعيد له الكنيسة اللاتينية، وكنيستنا المارونية في 12 تشرين الثاني كأحد القديسين العظام.
يوحنا السلمي
ولد في فلسطين نحو سنة 525، واعتزل العالم ناسكا في برية سيناء تسعا وخمسين سنة، ورقد بالرب سنة 605، وألف كتبا روحية أخصها الكتاب الذي عنونه سلم الفضائل، وهو عجيب في معانيه حتى نسب إليه فيسمى يوحنا السلمي، وقد ترجم إلى لغات كثيرة.
تلامذة القديس مارون الناسك
بعد أن رقد القديس مارون بالرب كثر رهبانه، وتوافرت أديارهم في سورية وكانوا ملجأ للمؤمنين من إغواء المبدعين لهم، وكماة يدافعون عن الإيمان القويم، فنراهم رفعوا إلى البابا هرمزدا (الذي تبوأ السدة الرسولية من سنة 514 إلى سنة 523) عريضة مع يوحنا وسرجيوس من إخوتهم أثبتها لاباي في مجموعة المجامع، والدويهي في تاريخ الموارنة، يشكون بها إليه ما يقاسونه من الاضطهاد لمدافعتهم عن الإيمان الكاثوليكي، وجملة الموقعين على هذه العريضة مائتان وعشرة رهبان، فأجابهم البابا هرمزدا على ذلك سنة 518 يشجعهم على تحمل الاضطهاد، والتفاني في المدافعة عن الإيمان الصحيح، ثم رفعوا عريضة إلى يوحنا بطريرك القسطنطينية، فعقد مجمعا حرم فيه ساويروس عدوهم وبطرس أسقف أباميا، ولهم أيضا رسائل معلقة في ذيل المجمع الخامس المسكوني يتبين منها ما كان لهم من الحمية، والغيرة على الإيمان الكاثوليكي، ونرى في تواقيع هذا المجمع «توادورس القس برحمة الله رئيس الدير القديس مارون»، فغيرة رهبان القديس مارون هذه جعلت أولي البدع يقيمونهم هدفا لنبال غرضهم واضطهادهم، فقد ذكروا في رسالتهم إلى البابا هرمزدا أنهم بينما كانوا ذاهبين إلى دير القديس سمعان أكمن لهم في الطريق بعض الأشرار، ووثبوا عليهم، وقتلوا منهم ثلاثمائة وخمسين راهبا، وأثخنوا الجراح في كثيرين منهم، وأبسلوا في جانب المذبح من لجئوا إليه وأحرقوا أديارهم ونهبوها، والكنيسة اللاتينية والكنيسة المارونية تعيدان لهؤلاء الشهداء في 31 تموز.
على أن هذا الاضطهاد والفتك برهبان القديس مارون لم ينقص من حميتهم وغيرتهم، بل ازدادوا فيما بعد عددا وبسالة، حتى نرى ابن العبري يشكو من اعتدائهم على جماعته اليعاقبة، واسترداد بعض الكنائس منهم، وقد بين لنا الأثر الذي أشهره الأب نو الإفرنسي عن المتحف البريطاني أنهم عقدوا جدالا في أنطاكية في أواخر هذا القرن السادس مع اليعاقبة وأفحموهم، وكتبوا لهم رسالة ضربوا لهم موعدا للجواب عليها مدة خمسة أيام؛ ليجيبوا عليها أو ليرعووا عن ضلالهم ويعتنقوا الإيمان القويم، ونشر الأب المذكور جواب اليعاقبة على هذه الرسالة، حيث يسمونهم أغصان كرمة المجمع الخلكيدوني وجرثومة البابا لاون، ويشكون من سيطرتهم على اليعقوبيين وإنزال المضار بهم.
الفصل الثالث عشر
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
(1) في ما كان بسورية في أيام فوقا الملك
مر أن فوقا قتل موريق وأخذ ملكه سنة 602، وكان في أيامه أن الفرس استحوذوا على كل ما وراء الفرات من أملاك الرومانيين، وأخذوا يشنون الغارات على أملاكهم في سورية حتى فلسطين، وكان الأهلون يفرون من وجههم، فيتراكمون في القلاع والحصون فلا يحاصرهم جنود الفرس، بل ينتهبون المنازل في المدن والقرى، ويحرقون الغلات ويأسرون من وقع في يدهم، وحيث لم تكن حرب كانت الرعية فريسة لجور الحكام والقضاة وسطو الأشرار واللصوص، وكان الشعب في أنحاء المملكة كلها يأنون من جور فوقا، فجاهر اليهود في أنطاكية بالعصيان على الحكومة، وبدلا من أن يناصبوا رجالها وثبوا على المسيحيين، وقبضوا على إنسطاس بطريرك أنطاكية، فقتلوه وجروا جثته في شوارع المدينة، ودخلوا منازل بعض الأعيان فأماتوهم وحرقوا بيوتهم، فأصدر فوقا أمرا بأن يعمد اليهود ولو مكرهين، وأرسل أحد عماله إلى أورشليم فجمع اليهود وأطلعهم على أمر الملك، فلم يذعنوا له فعمدهم مكرهين، فاندفعوا إلى شغب ومعارك في أورشليم وأنطاكية وإسكندرية، فقتل فوقا منهم كثيرين، ولم تطفأ جذوة الثورة، بل انتشر لظاها حتى اتصل إلى العاصمة وأهان بعضهم الملك فيها، لكنهم لقيوا منه الأمرين وأشربهم أمر الحين إلى أن ثار على فوقا بعض أعوانه وقتله هرقل، وأخذ الملك وتوجه سرجيوس البطريرك القسطنطيني سنة 610. (2) في ما كان بسورية في أيام هرقل
زحف الفرس سنة 611، وانتهبوا وخربوا أباميا وكل ما كان منها إلى أنطاكية، واعترض مسيرهم بعض الجنود، فبدد الفرس شملهم، وتملكوا أنطاكية وكل ما يليها من المدن حتى بلغوا دمشق، ونهبوها وأسروا كثيرين، ولم يستفق هرقل من غفلته وثار اليهود في صور، وأرسلوا بني ملتهم بقبرس ودمشق وأورشليم؛ ليحملوا السلاح ويخرجوا على الحكومة وافتضح ائتمارهم ونالهم شر الجزاء.
وفي سنة 615 حمل الفرس على فلسطين، فغشوا الجليل وضفتي الأردن إلى بحيرة لوط، فدمروا وأحرقوا ونهبوا وقتلوا بعض الرهبان والنساك، ودخلوا أورشليم وقبضوا على كثيرين من الرجال والنساء والأطفال، فاشترى اليهود بعض هؤلاء الأسرى وذبحوهم، وكان أثمن ما سلب الفرس من أورشليم خشبة الصليب المقدس، فأخذوها إلى فارس وأخذوا البطريرك زكريا أسيرا، وحرقوا كنيسة القبر المقدس وغيرها من الكنائس، وفي سنة 616 أو سنة 617 زحف الفرس إلى مصر، فأخذوا الإسكندرية وتوغلوا في البلاد إلى الحبشة وحمل جيش آخر منهم على آسيا الصغرى، واتصل إلى البسفور.
قد استفاق أخيرا هرقل من رقاد غفلته، وفي سنة 622 عزم على محاربة الفرس، فمضى أولا إلى أرمينيا وظهر على الفرس في مواقع كثيرة، ثم سار إلى بلاد فارس، وتوغل فيها وفتك بجيش كبير بها واستمر يغالبهم في بلادهم وجوارها ست سنين، وفي سنة 626 قسم كسرى رجال حربه إلى ثلاثة جيوش: أرسل أحدها يحاصر القسطنطينية، والثاني إلى أرمينيا فانتصر عليه توادوروس أخو الملك هرقل وبدد شمله وأبقى الثالث عنده، فزحف هرقل من نينوى إلى قسطفون ففر كسرى أمامه، وعرض عليه في سنة 628 الصلح فأباه، وسلط الله شيرويه ابن كسرى عليه، فقتل أباه وراسل شيرويه بن كسرى هرقل بالصلاح على أن يرد إليه جميع النصارى الذين كانوا أسرى في بلاده، وفي جملتهم زكريا بطريرك أورشليم، وخشبة الصليب المقدس، فانعقد الصلح بينهما على ذلك سنة 628 وعاد هرقل ظافرا غانما إلى القسطنطينية وأتى سنة 629 إلى أورشليم؛ ليشكر الله على ما قيض له من النصر ويرد ذخيرة خشبة الصليب إلى محلها، وكانت قد بقيت في صوانها كما أخذت وتفحص البطريرك وكهنته ختومها، فإذا هي سالمة لم تفض، وطرد هرقل اليهود من أورشليم وأمر أن يستمروا بعيدين عنها ثلاثة أميال، وفي أيام هرقل كان فتح المسلمين لسورية، وسنتكلم عن ذلك في المقال التالي.
المقال الرابع
في تاريخ سورية في أيام الخلفاء
الفصل الأول
تتمة تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع
(1) في فتح العرب المسلمين سورية
في سنة 633 أخذ العرب المسلمون يشنون الغارة على سورية، وكان الخليفة حينئذ أبا بكر الصديق، فبعث جيشا أمر عليه أسامة، وأغار على ناحية البلقاء فسبى، وغنم فتهايج العرب برؤية هذه الغنائم لفتح سورية، وتألب جم غفير منهم، وأمر أبو بكر أبا عبيدة عليهم، وأمده بخالد بن الوليد وبعث عمرا ابن العاص إلى فلسطين، ولما علم هرقل ملك الروم بذلك أتى إلى دمشق، وبعث سرجيوس والي قيصرية بخمسة آلاف جندي ليوقف العرب عن المسير، فسحقوا جنوده القلائل وأخذوه أسيرا وحاصروا اليرموك، وكان عسكر المسلمين نحو أربعين ألفا وجيش هناك هرقل نحو مائتي ألف، وبعد وقائع شهيرة استظهر المسلمون وتبدد عسكر الروم، وأتى الغزاة فحاصروا دمشق، فجمع هرقل كل الحامية التي كانت في مدن سورية، وأمر على هذا الجيش أخاه توادورس فبدد شمله الغزاة المسلمون، وشددوا الحصار على دمشق وقوادهم أبو عبيدة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، فخرج أهل دمشق وبذلوا الصلح لأبي عبيدة، وفتحوا له الباب فأمنهم، ولكن دخل خالد بن الوليد من جهة أخرى عنوة والتقيا في وسط المدينة، فخير أبو عبيدة أهل المدينة أن يبقوا فيها مسلمين، أو أن يؤدوا الجزية صاغرين أو يرتحلوا عنها في مدة ثلاثة أيام، فارتحل بعضهم وأقام بعضهم ...
وكان فتح دمشق سنة 635 في خلافة عمر بن الخطاب، ومضى أبو عبيدة بجيشه إلى حمص فاستسلم أهلها إليه وأدوه الجزية، وكذلك فعل أهل حماة وقنسرين وبعلبك، وكان الغزاة يعاملون الأهلين بالرفق واللين حتى خلع أهل بعض الأعمال ولاتهم، واستسلموا إلى الظافرين، ومضى جيش المسلمين إلى أورشليم سنة 626 فحاصروها ودام الحصار نحوا من أربعة أشهر، ولما لم ير الأهلون من منجد عولوا على التسليم، وشرطوا أن يكون على يد الخليفة عمر بن الخطاب فأتى متواضعا مستصغرا، وكان بطريرك أورشليم حينئذ صفرونيوس اللبناني، فأحبه الخليفة وأبرم معه شرائط الصلح التي كانت مثالا لكل صلح جرى بعده، ودخل الخليفة بعد التوقيع على شرائط الصلح إلى المدينة وطاف في الكنائس وبجانبه البطريرك صفرونيوس، وحان وقت الصلاة في كنيسة القبر المقدس، فخرج منها الخليفة وصلى خارجا، فسأله البطريرك لم لم يصل في الكنيسة؟ فأجابه: «لئلا يأتي المسلمون بعدي ويقولون: هنا صلى عمر ويأخذون كنيستكم.» واختار محل هيكل سليمان وبنى فيه جامعا للمسلمين، وهو المعروف بالجامع الأقصى.
وقسم عمر سورية إلى قسمين، فولى أبا عبيدة على كل البلاد التي بين حوران وحلب، وأمره بتكملة الفتح، وولى يزيد على فلسطين وشواطئ البحر ... وأعد عمرا ابن العاص لغزوة مصر بعد فتح سورية فاستحوذ جنوده على السامرة ونابلس واللد ويافا، وسائر مدن فلسطين، ثم جمع يزيد وأبو عبيدة جنودهم، ومضوا لحصار حلب فخرجت حاميتها فهزمهم العرب، فراسل الأهلون يزيد وأبا عبيدة واستسلموا إليهما، فقتل الوالي كثيرا من الأهلين، وعزم أن يحارب المسلمين، فوفد حينئذ خالد بن الوليد فهاجم المدينة، وافتتحها وحصر الوالي والحامية في قلعة حلب، فاستمروا يدافعون أربعة أشهر، فأسلم الوالي وكثيرون من الجنود، ثم أخذوا قلعة عزاز وزحفوا إلى أنطاكية فخرج واليها للقائهم وتسعرت نار الحرب، فظهر جيش المسلمين عليه وقتلوا من جنوده كثيرين وتشتت الباقون واستحوذ المسلمون على المدينة، ولم يبق من مدن سورية الحصينة إلا قيصرية فلسطين، فسار إليه عمرو بن العاص بجيش كثيف، وكان قسطنطين بن هرقل بأسطول في مرفئها وأحب أن يقابل أمير جيش المسلمين، فأجابه عمرو إلى ذلك وقال له: «لكم وسيلتان للنجاة: إما أن تسلموا وإما أن تخضعوا وتؤدوا الجزية.» فقالوا: «نحن في غنى عنهما.» فأجابهم: «الحرب إذا فاصلة.» وحمي وطيسها، فذعر الروم وانسل قسطنطين إلى سفنه وأقلع بها إلى القسطنطينية.
وسار أبو عبيدة إلى اللاذقية ففتحها عنوة، وفتح جبلة وطرطوس، وسار يزيد بن أبي سفيان ففتح صيدا وبيروت وجبيل وعرقا فتحا يسيرا، وجلا كثيرا من أهلها، على أن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر فقصدهم معاوية ففتحها ورمها وشحنها بالمقاتلة، وعلى هذا النحو استحوذ الخلفاء على أكثر مدن سورية من سنة 633 إلى سنة 638، وعلى قول بعضهم إلى سنة 642، ولم نر في تواريخهم أنهم استحوذوا على لبنان أو حاربوا فيه ... فالظاهر أن صعوبة مسالكه وقلة النفع من أرضه أو التجارة فيه أوقفتهم عن الاستحواذ عليه، وروى السمعاني في مكتبة الناموس أنهم ولوا عليه بعد الفتح واليا مسيحيا. (2) في خلاصة ما كان بسورية في أيام الخلفاء الراشدين إلى خلافة معاوية
إن الخلفاء الرشدين هم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، ففي أيام أبي بكر الصديق الذي توفي سنة 635، وعمر بن الخطاب كان فتح المدن المار ذكرها، وفي آخر خلافة عمر ولى على الشام معاوية بن أبي سفيان، فوجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وبنى مرجها على أميال منها حصنا سماه حصن سفيان، فكتب أهل طرابلس إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم، أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة فهربوا بها، وكان مقتل عمر بن الخطاب سنة 645 قتله رجل اسمه فيروز وكنيته أبو لؤلؤة.
وبويع عثمان بن عفان في الخلافة بعد عمر بن الخطاب، فضم ولاية سورية كلها إلى معاوية والي دمشق، فافتتح معاوية قبرس سنة 50 أو ما بعدها إلى سنة 54، ثم فتح جزيرة أرواد وأخرب مدينتها ... ومما كان في أيامه الاعتماد على نسخة من القرآن كانت مودعة عند حفصة زوجة النبي، وحرق باقي المصاحف التي بأيدي الناس، وفي سنة 656 تألب جماعة على عثمان وحصروه في داره فقتلوه وكان المصحف بيده.
وقام بالخلافة بعد عثمان علي بن أبي طالب ابن عم النبي وصهره زوج ابنته فاطمة، ومما كان بسورية في أيامه أن اتفق عمرو بن العاص ومعاوية والي سورية على قتال علي بن أبي طالب، والتقى جيشهما بجيش علي في محل يسمى صفين في أطراف سوريا قريبا من الفرات سنة 658، وطالت المراسلات بين علي ومعاوية، فلم ينتظر الأمر بينهما فكانت بينهما وقعات كثيرة حتى قيل: إنها تسعون وقعة، وأن عدة القتلى من أهل سورية خمسة وأربعون ألفا، ومن أهل العراق الذين كانوا مع علي خمسة وعشرون ألفا، إلى أن رفع أصحاب معاوية المصاحف على الرماح وقالوا لأعدائهم: «هذا كتاب الله بيننا وبينكم.» فألح أصحاب علي عليه أن ينصبوا حكما ما بين الفريقين يفصل الخلاف بما في كتاب الله، واختار علي أبا موسى الأشعري، واختار معاوية عمرا ابن العاص، فاجتمع الحكمان وقررا أن يخلعا عليا ومعاوية معا، وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين، ثم أقبلا على الناس وقد اجتمعوا فكلف عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري أن يبدأ في الكلام، فقال: «اتفقنا أن نخلع عليا ومعاوية ونولي هذه الأمة من أحبوا.» ثم قام مكانه عمرو بن العاص فقال: «إن أبا موسى قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية.» فقال له أبو موسى: «ما لك لا وفقك الله غدرت وفجرت.» وفر إلى مكة حياء من الناس، وانصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية، فسلموا عليه بالخلافة، ومن ذلك الوقت أخذ أمر علي بالضعف وأمر معاوية في القوة، وكانت بينهما حروب انتهت سنة 661 بمقتل علي بن أبي طالب بمؤامرة ثلاثة رجال من الخوارج.
ومن بعد مقتل علي بايع أصحابه ابنه الحسن بالخلافة، وقالوا: «إن أبا بكر لما رأى الرسول محتضرا أرسل إليه عليا يقول: لمن الخلافة من بعدك يا رسول الله؟ فقال: للسائل»، فقال أصحاب علي: «إنما السائل من سأل فعلا وهو علي»، وأثبتوا خلافته وأنكروا صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وأن الخليفة بعد موت علي هو ابنه الحسن ثم ابنه الحسين، وسمي هؤلاء الشيعيين ويسمون الآن المتاولة؛ لأنهم توالوا عليا وأهل بيته، وكانت أخص منازلهم في العراق وفارس، وانفصلوا عن معاوية الذي بويع بالخلافة بعد مقتل علي في سورية ومصر وإفريقيا وبلاد العرب وغيرها. (3) في ما كان بسورية في خلافة معاوية
معاوية هو ابن صخر بن حرب بن أمية استعمله عمر بن الخطاب على دمشق، ثم ولاه عثمان على سائر أعمال سورية ثم بويع بالخلافة بعد مقتل علي كما مر، وبه ابتدأت سلسلة خلفاء بني أمية في سورية وعددهم أربعة عشر خليفة ومدة خلافتهم نحو من تسعين سنة، وأهم الأحداث في أيام معاوية تسليم الحسن بن علي الأمر إليه، بعد أن بايعه أصحاب أبيه بالخلافة؛ لأنه رأى رجاله غير كفو لمناوأة معاوية، وفي سنة 669 أرسل جيشا كثيفا مع سفيان بن عوف فحاصر القسطنطينية، وعن ابن خلدون أن هذه الحملة كانت سنة 671، ثم نجده معاوية بعسكر أمر عليه ابنه يزيد فلم يظفروا بفتح القسطنطينية بل عادوا إلى سورية، وكان في أيامه سطو المردة على سواحل سورية من اليهودية إلى جهات أنطاكية، فصالح معاوية ملك الروم على شرط أن يمنع سطو هؤلاء المردة ... وسوف نذكر أمر هؤلاء في الكلام على عبد الملك بن مروان، وتوفي معاوية سنة 675. (4) في ما كان بسورية في أيام يزيد بن معاوية وابنه معاوية الثاني
بويع يزيد بالخلافة لما مات أبوه، وتردد الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير في الإقرار بالخلافة له، وكاتب أهل الكوفة الحسين بن علي بالمسير إليهم ليبايعوه، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل نيابة عنه فبايع الحسين نحو ثلاثين ألفا، وحاصروا عبيد الله الوالي بالكوفة في قصره فانتصر عليهم هذا الوالي وقبض على مسلم المذكور وقتله، وسار الحسين إلى الكوفة ولم يكن معه إلا اثنان وثلاثون فارسا وأربعون رجلا، فقتله عبيد الله وأما عبد الله بن الزبير فاستمر في مكة ممتنعا عن الدخول في طاعة يزيد، فجهز يزيد جيشا أمر عليه مسلما ابن عقبه فقاتل أهل المدينة، وسار إلى مكة فداهمته المنية، فأقام على الجيش مقامه الحصين بن نمير وبقي محاصرا ابن الزبير حتى بلغهم نعي يزيد بن معاوية، فارتحل الحصين راجعا إلى الشام، وكانت وفاة يزيد سنة 684.
وبعد وفاته بويع ابنه معاوية الثاني بالخلافة، ولكن لم تكن مدة خلافته إلا ثلاثة أشهر، وبايع أهل مكة عبد الله بن الزبير، وكان مروان بن الحكم من بني أمية بالمدينة وتوجه إلى الشام، فبايعه الناس بالخلافة، وتابع أهل البصرى والعراق والحجاز واليمن ابن الزبير، وتابعه سرا الضحاك بن قيس والنعمان بن بشير الأنصاري في حمص، فصارت الناس بسورية فرقتين اليمنية مع مروان والقيسية مع الضحاك بن قيس، والتقى الفريقان بمرج راهط في غوطة دمشق واقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الكرة على الضحاك والقيسية، وقتل الضحاك وانهزم محازبوه وأصحابه، فدانت أعمال سورية كلها لمروان، ثم مضى إلى مصر وبايعه أهلها، وبعث ابن الزبير أخاه مصعبا في جيش، فأرسل إليه مروان عمرا ابن سعيد فمنعه عن الدخول إلى سورية، فانهزم بجيشه واستقر مروان بدمشق، واستتب له الأمر في سورية ومصر، وبقي ابن الزبير في العراق والحجاز واليمين، وكان ذلك سنة 685، ولكن لم تكن خلافة مروان إلا تسعة أشهر، وتوفي سنة 685 نفسها. (5) في ما كان بسورية في أيام عبد الملك بن مروان
بويع عبد الملك بالخلافة سنة 685 بعد موت أبيه، وهو أول من ضرب الدنانير والدراهم في سكة الإسلام، وكتب عليها آي القرآن وضرب بمدينة كذا والتاريخ، ومن أهم الأحداث في أيامه عزمه أن يستريح من ابن الزبير الخليفة في مكة، وأن يستبد بالخلافة على الأمة كلها، فتجهز سنة 691 وسار إلى العراق، وكان فيها مصعب بن الزبير أخو الخليفة في مكة فاقتتل الجمعان، وتخلى أهل العراق عن مصعب الذي قاتل حتى قتل هو وولده واستوثق ملك العراقين لعبد الملك، ثم جهز سنة 692 جيشا أمر عليه الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال عبد الله بن الزبير في مكة، فكانت وقعات بين الفريقين حتى حصر الحجاج بن الزبير بمكة، ودام الحصار سبعة أشهر حتى قتل ابن الزبير سنة 693، وبعد مقتله بويع لعبد الملك بالحجاز واليمن، واجتمع الناس على طاعته.
وروى توافان المؤرخ الرومي ما تابعه عليه شدرانس وزنرلس، وإنسطاس المكتبي وبولس الشماس وغيرهم، وهو أنه كان في أيام معاوية شعب يسمونه المردة تمردوا على العرب، وتوافرت غزواتهم حول لبنان حتى ضبطوا كل ما كان من الجليل إلى أنطاكية، فاضطر معاوية أن يرسل وفدا إلى قسطنطين اللحياني ملك الروم يطلب الصلح على شريطة أن ملك الروم يمنع المردة عن غزواتهم، ويدفع العرب له كل سنة مبلغا من المال وعددا من الخيل الجياد، فأبرم الصلح إلى ثلاثين سنة، وذكر المؤرخون المذكورون أن المردة المذكورين استمروا على سطوهم، وغزواتهم إلى أيام الخليفة عبد الملك ويوستنيانس الثاني ابن قسطنطين المذكور، فأرسل عبد الملك رسلا إلى يوستنيانس في تجديد الصلح، فاتفقا على كبت المردة، ويدفع العرب إلى الروم في مقابلة ذلك مبالغ من المال وخيلا جيادا وعبيدا، وأرسل يوستنيانس قائدا من قواده، فأبعد اثني عشر ألفا من هؤلاء المردة، وأقامهم في بمفيليا فهذا ما رواه المؤرخون المذكورون.
وقرائن الحال والتقليد العام في طائفتنا الذي أثبته علماؤنا، ولا سيما العلامتان البطريرك الدويهي ويوسف سمعان السمعاني أن ليس هؤلاء المردة إلا الموارنة، الذين كانوا منبثين في تلك الأيام في جبل لبنان، وبعض فلسطين وفي سهول حمص وحماة إلى جبل اللكام وأنطاكية، ووافق علمانا على ذلك كثير من مشاهير المؤلفين الغربيين كبارونيوس ونطاليس إسكندر وغيرهم، بل أيد ذلك ابن العبري العالم الشهير اليعقوبي المخالف للموارنة، وذكره بعض مؤرخي العرب أنفسهم، منهم البلاذري الذي ذكر الصلحين اللذين عقدا بين معاوية وقسطنطين وبين عبد الملك ويوستنيانس ... على أنه سمى هؤلاء المردة جراجمة نسبة إلى جرجومة في جبل اللكام لاشتراك الجراجمة أي: أهل جبل اللكام مع الموارنة في هذه الغزوات؛ لأنهم كانوا على مذهب الموارنة، بل إن القديس يوحنا مارون أول بطريرك على الموارنة كان من سروم في جبل اللكام، وكان له ابن أخت يسمى الأمير إبراهيم، وفي تقليداتنا الموثوق بها أنه جمع جيشا من جبل اللكام، وسار به للمدافعة عن خاله الذي كان مطران البترون، ثم صير بطريركا على الطائفة سنة 685، وعليه فالظاهر بلا تكلف أن الموارنة الذين كانوا في جبل لبنان، ومن كان منهم في جبل اللكام وفي سهول حمص وحماة هم الذين كانوا يبدون الغزوات المذكورة بالاتفاق، حتى ألجئوا الخليفتين معاوية وعبد الملك بن مروان أن يرسلا رسلا إلى ملك الروم يطلبون الصلح، والاتفاق معه على كبت هؤلاء المردة؛ لأنهم كانوا يعتبرونهم أنصارا لملك الروم؛ ولا سيما لأن الخلفاء لم يكونوا استحوذوا على لبنان كما مر، وكانوا يعتبرون سكانه ومناصريهم بمنزلة جنود أو مناصرين لملك الروم.
قد خالف بعض العلماء في أيامنا، وقبلها أيضا ما أثبته علماؤنا وتقليداتنا، وأوردوا لمرعاهم تخمينات غير ثابتة ولم يتفقوا فيها، فجعل بعضهم هؤلاء المردة من الفرس أو جنودا لملك الروم إلى غير ذلك من تخميناتهم، التي لم يتفقوا على شيء منها ولا أيدوها ببرهان راهن، وقد رددت دعواهم هذه بأربع مقالات نشرت ثنتان منها في مجلة المشرق والثنتان الأخريان في غيرها، مبينا ببينات ساطعة، وأدلة دامغة على أن هؤلاء المردة لا يمكن أن يكونوا إلا الموارنة الذين ولا نكير أنهم كانوا منبثين في تلك الأيام بلبنان وحمص وحماة، وجبل اللكام إلى أنطاكية، ومن هذه الأدلة أنه لو كان المردة جنودا لأحد ملوك الروم لردوهم بعد جلائهم لهم من لبنان إلى أهلهم أو إلى معسكراتهم، ولا حاجة أن يقيموهم في عمل مخصوص وهو بمفيليا من آسيا الصغرى، ويفرضوا لهم نظاما مخصوصا وينصبون لهم ولاة وقضاة مخصوصين، كما روى السمعاني في المجلد الرابع من مكتبة الناموس (صفحة 620) اعتمادا على ما كتبه قسطنطين السابع بن لاون الحكيم، الذي كان في القرن العاشر في كتابه الموسوم بتدبير الملك (فصل 50 صفحة 137)، ومن الأدلة التي أوردتها أن كل من خالفوا رأي الموارنة هذا ما أمكنهم ولن يمكنهم إثبات وجود شعب أتى أو كان في لبنان، وما ذكر من مواطن المردة غير الموارنة.
وتوفي عبد الملك سنة 706 أو سنة 707. (6) في بعض المشاهير في القرن السابع
قلما عرفنا من المشاهير في هذا القرن، فممن عرفناهم منهم جرير الشاعر المشهور، وكان ابن عم الخليفة عبد الملك بن مروان كما يظهر من قوله:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إلي قطينا
وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاة، وهو أشعر من الفرزدق عند أكثر أهل العلم، وأجمعت العلماء على أنه ليس في شعراء هذا العصر مثل ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل، فالأولان مسلمان والأخطل مسيحي.
أما الفرزدق فهو همام بن غالب، ويتصل نسبه بمرة التميمة وكان كثير التعظيم لقبر أبيه، فما استجار به أحد إلا نهض معه، وساعده على بلوغ غرضه، وكانت زوجته النوار المشهورة وله معها أخبار ونوادر يطول شرحها، وقد طلقها فندم على ذلك وله فيها شعره المشهور:
ندمت ندامة الكسعي لما
غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها
كآدم حين أخرجه الضرار
وتوفي جرير والفرزدق في الربع الأول من القرن الثامن.
وأما الأخطل فاسمه غياث بن غوث، وهو مسيحي كما يتبين من قوله:
ولست بصائم رمضان طوعا
ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بقائم أبدا أنادي
كمثل الغير حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا
وأسجد عند منبلج الصباح
وله قصائد كثيرة في مدح الخلفاء الأمويين، وقد طبع الأب أنطون صالحاني اليسوعي ديوانه في بيروت سنة 1891.
وكان في هذا القرن كثير من الشعراء النصارى منهم: زهير بن أبي سلمى المزني والنابغة الزبياني وعنترة العبسي، وقد جمع الأب لويس شيخو اليسوعي تراجمهم وغيرهم من شعراء النصارى في كتاب عنونه شعراء النصرانية، وكان منهم الأسود بن جعفر وسلامة بن الجندل، وقوس بن حجل وعلقمة الفحل وذو الإصبع العدواني إلى غيرهم.
الفصل الثاني
في تاريخ سورية الديني في القرن السابع
(1) في بطاركة أنطاكية في هذا القرن
بعد وفاة إنسطاس الثاني نحو سنة 610 خلا كرسي أنطاكية من بطريرك مدة نحو ثلاثين سنة، ونحو سنة 640 أقيم مكدونيوس بطريركا على أنطاكية، وكان من أصحاب المشيئة الواحدة في المسيح، ويظهر أنه بقي حيا إلى سنة 655، وكانت إقامته في القسطنطينية، وخلفه مكاريوس وأقام في القسطنطينية أيضا، وكان حيا سنة 680 أو سنة 681 اللتين كان فيهما المجمع السادس الذي حرمه لإصراره على بدعة المشيئة الواحدة، وأرسله الملك إلى رومية، ومات فيها مصرا على ضلاله وأقام هذا المجمع توافان بطريركا على أنطاكية، ودبر كرسيها إلى سنة 685.
والصحيح أن كرسي أنطاكية لم يقم عليه بطريرك من الروم، أو الملكية بعد موت توافان إلى سنة 743 على ما روى توافان في تاريخ السنة الثانية لقسطنطين الزبلي، وهي سنة 743 وتوافيلكتوس في تاريخه: «نعم ورد اسم جيورجيوس في التواقيع الملحقة بأعمال مجمع قصر الملك الذي عقد في القسطنطينية سنة 691»، ولكن حقق لاكويان أن توقيع جيورجيوس زيد من يد كاتب آخر على هذه التواقيع.
والذي خلف توافان في كرسي أنطاكية إنما هو القديس يوحنا مارون الذي كان يوحنا الفيلادلفي نائب الحبر الروماني في بطريركيتي أنطاكية وأورشليم قد أقامه أسقفا على البترون؛ ليحفظ رعيته من عدوى بدعة المشيئة الواحدة، فأساقفة السريان الموارنة اختاروه بعد وفاة توافان سنة 585 بطريركا على أنطاكية خاصا بهم؛ ليبعدوا شعبهم عن البدعة المذكورة التي كانت قد فشت في بطريركية أنطاكية كما أثبت البابا بناديكتوس الرابع عشر في خطبته بكرادلة الكنيسة الرومانية في 13 تموز سنة 1744، ومن هذا القديس ابتدأت سلسلة بطاركة الموارنة الأنطاكيين، وهي ثابتة بنعمة الله إلى الآن وتوفي هذا البطريرك سنة 1707.
أما مؤلفاته فهي أولا: نافور القداس المشهور باسمه، ثانيا: كتاب إيضاح الإيمان أنفذه إلى اللبنانيين من دير القديس مارون على العاصي موردا فيه شهادة من نحو من ثلاثين أب في إثبات عقائد الإيمان الكاثوليكي، ثالثا: كتابه في رد مزاعم اليعاقبة والنساطرة، رابعا: رسالته في التريصاجيون أي: التقديسات الثلاثة مثبتا فيه أنه لا يزاد عليها: «يا من صلبت لأجلنا ارحمنا.» إلا متى كانت موجهة إلى الأقنوم الثاني ابن الله الذي تجسد من أجلنا، خامسا: كتابه في الكهنوت مقسوما إلى أربعين فصلا، وقد أثبتنا نسبة صحة هذا الكتاب إليه في تاريخنا المطول، وفي كتابنا الموسوم بروح الردود، سادسا: كتابه في شرح رتبة القداس وقد أثبتنا نسبته إليه في الكتابين المذكورين، وأما هل كتب شيئا في بدعة المشيئة الواحدة، فظن السمعاني أنه لم يكتب شيئا لأسباب ذكرها العلامة المذكور، ولكن أثبت البطريرك يوسف إسطفان ببراهين قاطعة أنه كتب كتابا ضد هذه البدعة، وإن لم يصل إلينا، ورد على ظن السمعاني ورجحنا في تاريخه رأي العلامة البطريرك يوسف إسطفان. (2) في بطاركة أورشليم في القرن السابع
توفي عموص البطريرك الأورشليمي، فخلفه إسحق مدة ثماني سنين وقام بعده زكريا، وأخذه كسرى ملك الفرس مع خشبة الصليب المقدس إلى فارس، ثم عاد من منفاه سنة 629، وخلفه موديست الذي كان يدير البطريركية مدة نفيه سنة 631 وتوفي سنة 633، فخلفه سفرونيوس سنة 634، وهو الذي كان في أورشليم عند فتح المسلمين لها وهو الذي أشار على سكانها أن يستسلموا على يد الخليفة عمر بن الخطاب، وتوفي سفرونيوس نحو سنة 644، وخلا كرسي أورشليم من بعده سنين متطاولة، وأناب الحبر الروماني في تدبير أمورها يوحنا أسقف فيلادلفيا (وهي عمان)، ثم عمم ولايته إلى بطريركية أنطاكية أيضا، والظاهر أنه لم يقم بعد سفرونيوس بطريرك على أورشليم إلا في مبادي القرن الثامن. (3) في بعض المشاهير بسورية في هذا القرن
توما الحرقلي أسقف مرعش
كان من قرية حرقل في فلسطين على الأصح، وقد تهذب في أحد الأديار ثم صير أسقفا على مرعش وكان يعقوبيا، وعني في ترجمة الأناجيل وغيرها من الأسفار المقدسة من اللغة اليونانية إلى اللغة السريانية بعد أن كان إخسنيا أسقف منبج قد وضع مثل هذه الترجمة قبل نحو مائة سنة، وترجمة الحرقلي هذه مشهورة عند اليعاقبة، ويستعملونها في كتب قداساتهم وصلواتهم الفرضية مع أن جميع السريان عدا اليعاقبة يستعملون النسخة السريانية المعروفة بالبسيطة المذاعة في الكنيسة السريانية منذ أيام الرسل، وله أيضا نافور للقداس ذكره الدويهي في فصل 7 من مؤلفي التواقير من كتابه المنائر العشر.
يوحنا أسقف بصرى بحوران
كان أسقفا على العرب المتنصرين في حيرة النعمان، وتوفي سنة 650، وألف نافورا ترجمه رينودوسيوس في مجلد ثان من كتابه في اللوزجيات، ويظهر منه أنه يعقوبي ويظهر أنه كتب شيئا في تفسير الأسفار المقدسة.
يوحنا أسقف فيلادلفية
كان أسقفا على فيلادلفية (وهي ربة عمون القديمة وعمان الآن) أقامه القديس مرتينوس الأول البابا نائبا له في المشرق، ولا سيما بطريركيتا أنطاكية وأورشليم، إذ كان بطاركة أنطاكية من أولي البدعة، وكان كرسي أورشليم خاليا من بطريرك؛ ليقيم فيها كهنة وشمامسة ، ويقبل من أراد أن يرعوي من أصحاب البدع، وكتب إلى غيره من الأساقفة ليكونوا معاونين له في مهامه، فأقام يوحنا المذكور سنين متطاولة يجاهد في هاتين البطريركيتين بمناصبة البدع، وتشجيع المؤمنين وإقامة الأساقفة والكهنة، ومن جملة من رقاهم إلى الأسقفية القديس يوحنا مارون إلى أسقفية البترون نحو سنة 675 ... وفي رواية أنه أخذه إلى رومة، فأقامه البابا سرجيوس الذي كان سوريا بطريركا على أنطاكية، ولا نعلم متى توفي يوحنا الفيلادلفي، وقلما عرفنا من الأساقفة غير هؤلاء في هذا القرن، فإن الاضطرابات السياسية التي كانت حينئذ في سورية بسبب فتح الخلفاء لها أوقفت اجتماعات الأساقفة، وكتاباتهم الهامة التي تؤخذ عنها أسماؤهم وأخبارهم.
الفصل الثالث
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن
(1) في باقي الخلفاء الأمويين في دمشق
بعد وفاة عبد الملك بن مروان خلفه الوليد ابنه سنة 706، ومن جملة أعماله في سورية بناؤه جامع دمشق المعروف بالجامع الأموي، وأكمل أخوه سليمان عمارة هذا الجامع، والوليد هو الذي بنى أيضا قبة الصخرة في بيت المقدس، وتوفي سنة 96ه وسنة 715م، وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك في السنة المذكورة ورد المظالم، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز وزيرا له، وسير أخاه مسلمة إلى القسطنطينية ليفتحها فلم يتوفق بذلك من قبل شدة البرد والعواصف، وقطع الميرة عنه فعاد خائبا إلى سورية وتوفي سليمان سنة 718.
فخلفه عمر بن عبد العزيز، أوصى إليه سليمان بالخلافة لما اشتهر مرضه، وكان ابن عمه ووزيره كما مر، فبويع بالخلافة سنة 718 المذكورة، ومن بواكير أعماله إبطاله سب علي بن أبي طالب على المنابر، وكان عفيفا زاهدا ناسكا وتوفي سنة 720.
وخلفه يزيد بن عبد الملك في السنة المذكورة، واستسار أولا بسيرة عمر بن عبد العزيز سالفه، لكنه أقبل بعد ذلك على لذاته بإغراء بعض الجهلة الدمشقيين، وتوفي سنة 724، فبويع بعد وفاته بالخلافة لهشام بن عبد الملك وكان عادلا حليما ورعا، وفي أيامه غزا مسلمة أخوه إلى آسيا الصغرى حتى القسطنطينية فغنم وعاد، ومن أعماله أنه سمح للمسيحيين في أنطاكية أن يقيموا لهم بطريركا بعد أن كانت خلت أربعين سنة من بطريرك، وكان له صديق راهب اسمه إسطفانوس أمر أن ينتخبوه بطريركا فانتخبوه وتوفي سنة 743.
وخلفه الوليد بن يزيد بن عبد الملك في سنة 743 المذكورة، وقالوا عنه: إنه عكف على شرب الخمر وسماع الغناء واستخف بالدين، وضيق على أهل هشام وأصحابه، لكنه لم يخل من المبرات؛ لأنه أجرى على زمني أهل الشام وعميانهم الأرزاق وكساهم والتمس بعضهم له عذرا فيما قيل عنه وبرءوا ساحته، وثارت الرعية عليه وبايعوا يزيد بن الوليد الأول فقاتل قتالا شديدا، ثم انهزم عنه أصحابه ودخل قصره فحاصروه به وقتلوه سنة 745.
وخلفه يزيد بن الوليد الأول سنة 745 المذكورة، وكان محمود السيرة وخالفه أهل حمص وهجموا على دار أخيه العباس بها، ونهبوا ما بها وسلبوا حرمه فأرسل إليهم عسكرا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أهل حمص واستولى عليها، وثار أهل فلسطين على عامله، فأخرجوه من بلادهم وخرجوا لقتال الخليفة، فأرسل عليهم جيشا ولما اقترب الجيش منهم تفرقوا وخضعت فلسطين له، وتوفي في سنة 745 نفسها إذ كانت خلافته بعض أشهر فقط.
وبعد وفاة يزيد بويع بالخلافة لإبراهيم بن الوليد الأول، وفي سنة 746 سار مروان بن محمد بن مروان أمير الجزيرة إلى دمشق لخلع إبراهيم من الخلافة، وبايعه في طريقه أهل قنسرين وحمص ولما دنا مروان من دمشق بعث إبراهيم الجنود لقتاله، فانهزم عسكر إبراهيم ووقع فيهم القتل والأسر واختفى إبراهيم، وقيل: إنه جاء إلى مروان وخلع نفسه من الأمر وسلمه إليه، وبايعه طائعا وكان ذلك سنة 746 المذكورة، وأخذ الخلافة بعده في السنة المذكورة مروان المار ذكره، وهو أخو خلفاء بني أمية، ومن الأحداث في أيامه أن أهل حمص عصوه فسار إليهم وأحدق بمدينتهم، ففتحوا له الأبواب وأظهروا الطاعة، ثم وقع بينهم قتال فقتل من أهل حمص خلقا كثيرا، وهدم بعض أسوارها وصلب جماعة من أهلها، ثم سار عليه أهل غوطة دمشق وولوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وحصروا دمشق فأرسل إليهم مروان عشرة آلاف، فانهزموا ونهبهم العسكر وأحرقوا المزة وقرى غيرها، ثم ثار عليه سليمان بن هشام فخلعه من منصبه، فاجتمع إلى سليمان سبعون ألفا من أهل الشام، وعسكروا بقنسرين، فسار مروان إليهم فانهزم سليمان بن هشام وعسكره، وقتل منهم مروان نحو ثلاثين ألفا ووصل سليمان إلى حمص، فاجتمع إليه أهلها فهزمهم مروان ثانية وهرب سليمان إلى تدمر، فاستسلم أهل حمص إلى مروان.
وفي أيام مروان ظهرت دعوة بني العباس، وهم ينتسبون إلى العباس بن عبد المطلب عم النبي، ودعوا الناس إلى مبايعتهم بالخلافة أولا سرا ثم جهروا بالعصاوة سنة 748، وكان منهم رجل يسمى إبراهيم بن محمد وكان مقامه بالشراة في قرية يقال لها: الحميمة في جهة الشوبك وكان يدبر هذه الثورة، فكتب أحد عمال مروان إليه هذه الأبيات:
أرى تحت الرماد وميض نار
وأوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟
فأمر مروان عامله بالبلقاء فسار إلى إبراهيم، وشد وثاقه وبعث به إليه فألقاه في الحبس حتى مات، وقيل: مسمما، ثم ظهر بنو العباس سنة 750 فسلم الناس على أبي العباس السفاح بالخلافة، فدخل دار الإمارة بالكوفة، وكان مروان بحران لما بلغته هذه الأخبار، واشتد القتال بين جيشه وجيش أبي العباس السفاح فتمت الهزيمة على عسكر مروان، وفر مروان هاربا بالموصل، فسبه أهلها حتى أتى حران فدنا منها عسكر السفاح، فانهزم إلى حمص ثم إلى دمشق ثم فر منها إلى فلسطين، فلحقه عبد الله عم السفاح وفتح دمشق، ثم سار منها إلى فلسطين بأثر مروان فانهزم منه حتى دخل نيل مصر، فأدركه صالح أخو عبد الله المذكور في كنيسة بوقير، فطعنه رجل برمح فقتله واحتز رجل رأسه وأرسله إلى السفاح، ثم قتل العباسيون من بني أمية جماعة، وتشتت الباقون واختلفوا في البلاد وهرب بعضهم إلى الأندلس، فأنشئوا دولة الأمويين فيها سنة 757، وأول خلفائهم هناك عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، واستبد العباسيون في الخلافة خلفا لبني أمية. (2) في أبي العباس السفاح وما كان في أيامه بسورية
هو أول الخلفاء العباسيين، بويع بالخلافة بالكوفة سنة 750، وكان سريعا إلى سفك الدماء، فلقب بالسفاح، وولى على سورية عمه عبد الله بن علي وعلى مصر أبا عمر عبد الملك، وخلع حبيب بن مرة، وأهل البثنية وحوران طاعته، وكان حبيب المذكور من قواد مروان، فسار إليه عبد الله والي دمشق وقاتله دفعات ثم صالحه، وأمنه لخروج أبو الورد بن الكوثر عن طاعته، وكان أبو الورد المذكور استمد أهل قنسرين، وكاتبوا أهل حمص وتدمر فقدم منهم ألوف، فوجه عبد الله أخاه عبد الصمد لقتالهم فقتل كثيرون من الفريقين، وانهزم عبد الصمد إلى أخيه فاقتتل الفريقان ثانية قتالا شديدا بمرج الأخرم، فانهزم أصحاب أبي الورد وثبت هو في نحو خمسمائة رجل حتى قتلوا جميعا، فأمن عبد الله أهل قنسرين، ودخلوا في طاعته وانصرف راجعا إلى أهل دمشق فدانوا له ولم يقاتلوه، وكانت للسفاح حروب وأحداث أخرى خارجة عن دائرة غرضنا في تاريخ سورية، فنضرب عن ذكرها، وأدركته المنية بمدينة الأنبار سنة 755. (3) في أبي جعفر المنصور
هو أخو السفاح وقد عهد إليه بالخلافة، ومن بعده إلى ابن أخيه عيسى، وكان أبو جعفر في الحج عند وفاة السفاح، وكان عبد الله بن علي والي سورية خرج في الجنود إلى أطراف ولايته، فبلغه خبر وفاة عمه السفاح فجمع الجنود، وقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعاهم إلى مبايعة نفسه وسار حتى نزل حران، فأرسل أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني لقتال عبد الله الذي بلغ إلى نصيبين، فكتب إليه أبو مسلم: «إني لم أؤمر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام.» فخاف من مع عبد الله من أهل الشام من قتاله، فقال لهم عبد الله: «والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم.» وأبوا المسير إلا إلى الشام ... فاضطر عبد الله أن يسير معهم، وتبعه أبو مسلم فاقتتلوا خمسة أشهر، وكان الفوز في أكثرها لعبد الله، ولكن ظهر أبو مسلم في آخر الحرب عليه، فانهزم مع أخيه عبد الصمد، وكتب المنصور إلى أبي مسلم بالولاية على مصر والشام، فلم يحب أبو مسلم ذلك وتوجه إلى خراسان فطلبه المنصور، فاعتذر عن الحضور وأخيرا حضر إلى المنصور فقتله، وكان من أكبر دعاة بني العباس.
وفي سنة 763 ابتدأ المنصور في بناء بغداد؛ لأنها متوسطة بين البصرة والكوفة والموصل، وكانت وفاته سنة 775. (4) في المهدي وابنيه الهادي والرشيد
أما المهدي فهو ابن أبي جعفر المنصور بويع بالخلافة بعد موت أبيه سنة 775، ومن الأحداث في أيامه أنه جاء إلى حلب يصحبه ابنه الرشيد، وبلغه أن في تلك الناحية زنادقة فجمعهم وقتلهم، وأرسل ابنه هرون الرشيد إلى بلاد الروم، ففتح فتوحات وعاد سالما منصورا ثم أرسله ثانية، فسار حتى بلغ خليج القسطنطينية، وروى ابن العبري في تاريخ الدول أن إيرينا والدة الملك قسطنطين السادس افتدت مملكة ابنها بسبعين ألف دينار كل سنة، وفي سنة 785 توفي المهدي وقيل: مسموما.
وخلفه ابنه الهادي وبويع بالخلافة يوم وفاة والده، وقل ما كان من الأحداث في أيامه؛ لأنه توفي سنة 787م، وخلفه أخوه هرون الرشيد تلك السنة، ومن بواكير خلافته تجديد بناء مدينة ترسيس وتحصينها، ومن الأحداث بسورية في أيامه أنه سنة 893 كانت فتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، وقتل اليمانية من المضرية ستمائة رجل، فاستنجد المضرية بني قضاعة وسليحا فلم ينجدوهم، واستنجدوا بني قيس فنجدوهم، وساروا معهم إلى أرض البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة رجل، وكثر القتال بينهم فعزل هرون الرشيد عبد الصمد بن علي عن دمشق وولى عليها إبراهيم بن صالح، فدام القتال نحو سنتين إلى أن سار جعفر بن يحيى البرمكي إلى دمشق، فسكن هذه الفتنة سنة 796م.
ومن أعمال الرشيد المشهورة إيقاعه بالبرامكة، فإنه كان قد استوزر جعفر بن يحيى البرمكي، وعظم منزلته فاستطال وبغى وخالف متبوعه، فأرسل فقتله في الأنبار وأتبع به أباه وولده، وأخذ كل ما كان للبرامكة من مال ومتاع وضياع، وكان ذلك سنة 803.
وكانت للرشيد حرب مع نيقوفور ملك الروم حتى بلغ الرشيد إلى ضواحي القسطنطينية، فطلب نيقوفور الصلح وتعهد بأن يدفع جزية سنوية، لكنه أخلف وعده فعاد إليه الرشيد، وانتهب ودمر مواضع كثيرة بآسيا الصغرى وبلغ إلى البوسفور، فتذلل نيقوفور له ووثق وعوده باليمين، فعاد الرشيد متفاخرا لكن نيقوفور ألب بعد ذلك جيشا وسار إلى فريجية، فالتقاه الرشيد وقاتله وجرح نيقوفور وتشتت شمل جيشه بعد أن قتل منه أربعون ألفا، فافترض الرشيد عليه غرامة ثلاثين ألف دينار كل سنة ... ووالى الرشيد كرلوس الكبير (شرلمان)، وأرسل إليه ساعة كانت وقتئذ في أعين أهل المغرب من المدهشات، وقيل: إنه أرسل إليه مفاتيح كنيسة القبر المقدس بأورشليم، وكان الرشيد محبا للعلم والعلماء وعني بترجمة كثير من كتب العلماء من السريانية واليونانية إلى العربية، وتوفي سنة 193ه وهي سنة 809م. (5) في مشاهير العلم الدنيويين في القرن الثامن
كان من هؤلاء في هذا القرن مكحول الشامي، والراجح أن أصله من كابل بأفغان سبي منها، فعتق وأقام بدمشق، ولم يكن في زمانه أبصر منه بالفتيا، وهو أستاذ الإمام الأوزاعي الآتي ذكره وتوفي سنة 737م.
الإمام الأوزاعي
هو أبو عمر بن محمد الأوزاعي، لم يكن بالشام في أيامه أعلم منه، وكان يسكن بيروت وولد ببعلبك نحو سنة 710، ونشأ بالبقاع ونقلته أمه إلى بيروت وتوفي سنة 774، ودفن في قرية على باب بيروت يقال لها: حنتوش وربما هي في المحل المعروف الآن بالمقام المعزو إليه.
ديك الجن
هو أبو محمد عبد السلام بن رغبان، أصله من سليمية وولد بحمص، وهو من شعراء الدولة العباسية ولد سنة 776 وتوفي سنة 851، وله مراث في الحسين وشعر في غاية الجودة ... وكان في هذا القرن من العلماء النصارى توافيلس الرهاوي اشتهر في أيام المهدي، وكان من المقربين إليه، وروى ترجمته ابن العبري في تاريخ الدول، وقال: إنه كان على مذهب الموارنة الذين في جبل لبنان، وله كتاب تاريخ حسن ونقل كتابي أوميروس الشاعر على فتح مدينة إيليون من اليونانية إلى السريانية بغاية ما يكون من الفصاحة، وذكر العلامة السمعاني في المكتبة الشرقية مجلد 1 صفحة 64: أنه توفي سنة 785، وأنه هو الذي جعل الحركات السريانية الخمس على شبه الحركات اليونانية لضبط الألفاظ اليونانية في ترجمته لكتب أوميروس، وكان في هذا العصر الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بعض الشعراء أسماءهم في بيت وهو:
فخذهم عبيد الله عروة قاسم
سعيد سليمان أبو بكر خارجه
ومن هؤلاء انتشر علم الفقه والفتية، وتجد ترجمة كل منهم في المجلد الخامس صفحة 244 إلى صفحة 246 من تاريخنا، وكان فيه أيضا أئمة الفقه أصحاب المذاهب الأربعة: وهم الإمام أبو حنيفة النعمان والإمام أبو عبد الله مالك ثم الإمام الشافعي، ثم أحمد بن حنبل، وكان من أئمة النحو في هذا القرن الخليل الذي استنبط علم العروض، وتوفي نحو سنة 790، وسيبويه النحوي الشهير توفي نحو سنة 800 والكسائي، وقد توفي سنة 805 والأخفش وتوفي سنة 835.
الفصل الرابع
في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن
(1) في من اشتهر من بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
إن بطريركية أنطاكية استمرت فارغة من بطريرك للروم نحو خمسين سنة إلى أن أقيم لها بطريرك راهب اسمه إسطفان سنة 742 في ولاية هشام خليفة العرب، وكان فيها يوحنا مارون بطريركا على الموارنة وتوفي سنة 707، وخلفه غيره من البطاركة على الموارنة المذكورين في سلسلة بطاركتهم، وخلف إسطفان من بطاركة الروم توافيلكتوس، وتوفي سنة 750، وخلفه توادورس الأول من بلاد الموآبيين وتوفي نحو سنة 787، وخلفه توادوريطوس ويظهر أنه توفي سنة 812، وأما أورشليم فبعد أن فرغ كرسيها من بطريرك بعد موت بطريركها صفرونيوس نحو سنة 635 أقيم عليها يوحنا الخامس سنة 705، فدبر هذه البطريركية نحو ثلاثين سنة، ولم نجد له خليفة إلا توادروس الذي ارتقى إلى البطريركية سنة 752، ويظهر من رسالة كتبها إلى البابا بولس الأول سنة 767 أنه استمر حيا إلى تلك السنة، ولا يعلم كم سنة عاش بعد ذلك ... ويظهر من بعض الآثار أنه خلفه بطريرك يسمى إليا كان حيا سنة 787 التي عقد فيها المجمع النيقوي الثاني، والأظهر أن وفاته كانت سنة 797، وخلفه بطريرك اسمه جيورجيوس ويظهر أنه توفي سنة 807. (2) في بعض أساقفة سورية في هذا القرن
عرفنا من هؤلاء الأساقفة في هذا القرن أتناسيوس مطران بيروت، والراجح أنه هو الذي كتب خبر الآية الشهيرة التي صنعها الله في بيروت سنة 763، ويحتفل لذكرها في السنكسار الروماني في 9 من شهر آب، وقد تلي خبرها في المجمع النيقوي، وهو كان اليهود كثيرين في بيروت، واستأجر أحد المسيحيين دارا على مقربة من مجمعهم، وكانت في غرفته صورة المصلوب غفل عن أخذها عند انتقاله من هذه الدار التي استأجرها رجل يهودي، وضافه رجل من أمته، فطفق يجدف على المسيح، وأخبر رؤساء المجمع بما رأى، فاجتمعوا في البيت وأنزلوا الصورة من محلها، وقالوا: «هلم نصنع بها ما صنع أجدادنا بالمصور بها.» فبصقوا في وجهها ولطموها وثقبوا يديها ورجليها بالمسامير، وضربوا رأسها بقصبة وطعنوا جنبها بحربة، فجرى منها دم وماء، وقالوا: «زعم النصارى أنه صنع آيات كثيرة.» فهلم نأخذ شيئا من هذا الدم والماء، ونستدعي المرضى والأعلاء وندهنهم به، فأدنوا إناء من محل الطعنة، فملئوه وكان أول من دهنوهم مخلعا من مولده فقفز يعدو، وأتوا بعميان فأبصروا للحال وبأعلاء فبرئوا لساعتهم، فاستولت الدهشة على الجميع، ومضى كثير من اليهود إلى الأسقف، ومعهم الصورة وقصوا عليه خبر ما صنعوا والآيات التي رأوها، وسألوه أن ينصرهم فنصرهم، وحول مجمعهم كنيسة على اسم المخلص، ويظن أنه كان موقعها على مقربة من الجامع المعروف الآن بجامع السراي، حيث أقام الآباء الفرنسيسيون في منتصف القرن الثالث عشر بجانبها، وهو ديرهم القديم المعروف في هذه المدينة.
وكان من أساقفة سورية أيضا بولس أسقف صيدا، وتعزى إليه تآليف كثيرة، منها محاماته عن الدين المسيحي ذكرها السمعاني بين كتب المكتبة الوتيكانية في مكتبته الشرقية صفحة 511 من المجلد الثاني، ومنها مقالة في مجيء المسيح فند بها مزاعم اليهود، ورسالة أنفذها إلى أحد المسلمين في صيدا، ومقالة في البدع وكتاب ممارسة الفضائل وخطبة في الإيمان القويم إلى غيرها.
وكان منهم أيضا بطرس الثاني أسقف دمشق في أيام القديس يوحنا الدمشقي، وهو الذي اقترح على هذا القديس أن يكتب كتابه الموسوم بالرأي القويم، وكان في اللاذقية يوحنا تلميذ القديس يوحنا الدمشقي، وقد أملا عليه كتابه في المبادئ الأولى لإدراك علم اللاهوت، ومنهم أيضا توادورس أبو قارة، والمعلوم أنه كان تلميذا ليوحنا الدمشقي، ثم رقي إلى أسقفية حران بفلسطين سنة 770 على الأظهر، وله مؤلفات منها كتاب في رد مزاعم اليهود وأصحاب البدع ومقالة في التجسد. (3) في بعض المشاهير بسورية في هذا القرن
أعظم هؤلاء المشاهير القديس يوحنا الدمشقي، ولد بدمشق سنة 676، وكان اسم أبيه منصورا وكان مرفوع المقام عند الخلفاء الأمويين، ورأى ذات يوم بين الأسرى راهبا إيطاليا اسمه قزما سأل الخليفة العفو عنه، واتخذه أستاذا ليوحنا ابنه، فأخذ العلوم عنه وبرع بها، وكان يرافقه في دروسه شاب يتيم من أورشليم اسمه قزما أيضا، ضوى بعد الفروغ من دروسه إلى دير القديس سابا في نواحي أورشليم، ثم دعاه الله ليكون أسقفا على مايوما في جهة غزة، وأما يوحنا فأقامه الخليفة بعد وفاة أبيه رئيسا للجنة مشورته، وأعزه لكنه آثر الزهد والانفراد عن العالم، ولحق برفيقه قزما إلى دير القديس سابا وقضى حياته متورعا متهجدا منكبا على تأليف كتبه الآتي ذكرها حتى قر له كل من عرفه أنه زينة عصره وفريد مصره، وفي جملة ما عني به تهذيبه الألحان البيعية، ووضعه لها ضوابط عاونه على ذلك قزما رفيقه، فأخذتها عنه كنيسة الملكية وبعض كنائس السريان، وأجهد نفسه في مقاومة بدعة منكري إكرام الصور، وقيل في بعض ترجماته العربية: إن الخليفة تغير عليه لرسالة مزورة رفعت إليه فزلم يده، فخشع إلى صورة العذراء فأعادتها له سالمة، ولم يذكر هو في تأليفه هذه الآية الباهرة فلا يوثق بصحتها، وكان الدمشقي بين الآباء الشرقيين كما كان القديس توما الإكويني بين الآباء الغربيين في إسناد الفلسفة المسيحية إلى مذاهب بعض الفلاسفة القدماء، وتوفاه الله سنة 756 على الأصح.
وأما مؤلفاته فكثيرة منها سبع مقالات لاهوتية، وكتاب موسوم بينبوع العلم يشتمل على ثلاثة أسفار الأول في المنطق والمبادئ الفلسفية، والثاني في المبتدعين ذكر فيه نحو مائة مبتدع، والثالث في شرح الإيمان القويم ومنها كتاب في تفنيد بدعة محاربي الصور، وكتاب في الرأي القويم كتبه باسم بطرس رئيس أساقفة دمشق، وكتاب في رد مزاعم اليعاقبة، ومحاورة بين مسيحي ومانوي لرد مزاعم المانويين ومحاورة بين مسلم ومسيحي ... وله مقالات كثيرة، ومن أبدع كتبه كتابه في الموازنات المقدسة حيث يورد كل عقيدة من عقائد الإيمان، وكل فضيلة ويثبتها بكل ما جاء مؤيدا لها في الأسفار المقدسة وأقوال الآباء والعلماء، وله خطب كثيرة أيضا وله ست قصائد شعرية في مدح بعض الآباء والقديسين ورسالة إلى البابا قسطنطين، وفقرات في تفسير بشارة متى.
أندراوس أسقف إكريت
ولد بدمشق وربما كان رفيقا للدمشقي في تعليمه، وأقام في بعض الأديار بأورشليم؛ ولذلك يسمى الأورشليمي ثم مضى إلى القسطنطينية، واشتهر بورعه وفصاحته فرقي إلى أسقفية إكريت، وجنح أولا إلى بدعة المشيئة الواحدة، ثم أقلع عنها وله خطب كثيرة منها تقريظ للقديس جيورجيوس الشهير.
وكان في هذا القرن أيضا من العلماء السوريين بطرس ولاونتيوس الدمشقيان، وإسطفانوس كاهن كنيسة أورشليم، وإنسطاس رئيس دير القديس أوتيميوس بفلسطين صاحب الرد على اليهود، الذي ترجمه قوريان إلى اللاتينية.
الفصل الخامس
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع
(1) في الخلفاء العباسيين في القرن التاسع
ذكرنا أن هرون الرشيد توفي سنة 809، فخلفه ابنه الأمين وأبطل سنة 811 اسم المأمون أخيه في الخطبة، وكان أبوهما قد عهد بالخلافة إلى الأمين ومن بعده للمأمون، فكانت حرب بين الأخوين أفضت إلى قتل الأمين سنة 814، واستبداد المأمون بالخلافة، وفي سنة 817 جعل عليا ابن موسى بن جعفر من ولد علي بن أبي طالب ولي عهد المسلمين والخليفة، فصعب ذلك على بني العباس، وخلعوه من الخلافة وبايع أهل بغداد بالخلافة لإبراهيم بن المهدي، ولكن مات علي المذكور فخلع أهل بغداد إبراهيم ودعوا بالخلافة للمأمون، واستمر عليها إلى سنة 833.
وبعد وفاته بويع بالخلافة لأخيه المعتصم وتشعب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون واستحضره المعتصم، فبايع عمه وأسكت الجند وحارب المعتصم توافيل ملك الروم وتوفي سنة 842، وهو أول من أضاف اسم الله إلى اسمه فسمي المعتصم بالله، وخلفه أخوه ابنه الواثق بالله تلك السنة، وفي أيامه استولى المسلمون على جزيرة صقلية وتوفي سنة 847، وخلفه أخوه المتوكل على الله، ومن أعماله هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، ومات مقتولا سنة 862، وخلفه ابنه المنتصر بالله، وكان قد عامل على قتل أبيه فلم يملك إلا ستة أشهر، وتوفي سنة 863، ومن بعد وفاته اتفق كبراء الدولة على تولية المستعين بن المعتصم، فكثر الشغب في أيامه وحصره المشاغبون في قصره بسامراء فهرب إلى بغداد، وأقام الشاغبون المعتز بن المتوكل على الله، فسير جنودا لحرب المستعين وكان بين الفريقين قتال شديد، فأكره كبراء الدولة المستعين على خلع نفسه، ففعل سنة 867، وخطب للمعتز ببغداد، وولى أحمد بن طولون على مصر وسورية، فعصاه واستبد بولايتهما سنة 870، واتفق بعض الجنود على خلع المعتز فقبضوا عليه، وعذبوه حتى مات سنة 870، وخلفه المهتدي بالله وهو ابن الواثق بالله، ولم يبق في الخلافة إلا أحد عشر شهرا ونصفا وقتل سنة 871، فاختار كبراء الدولة المعتمد على الله بن المتوكل على الله، فاستمر على الخلافة إلى سنة 893، ومن بعد وفاته بويع بالخلافة للمعتضد بالله ابن أخيه الموفق وتوفي سنة 902. (2) في أخص الأحداث التي كانت بسورية في القرن التاسع
في سنة 810 اختلف أهل حمص على عاملهم إسحق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين، واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرسي فقاتل أهل حمص حتى سألوا الأمان فأمنهم، وفي سنة 829 ولى المأمون أخاه المعتصم على سورية ومصر وأكثر المأمون الترداد إلى دمشق، وفي سنة 839 غزا توافيل ملك الروم سورية فأخذ سيمساط ونهبها، وصنع كذلك بزبطرة فهب المعتصم لمقاومته وحاصر عمورية مدينة بغلاطية، ففتحها عنوة وأحرق دورها، وكانت أعمر مدينة في المشرق، وخرج في أيام المعتصم رجل بفلسطين اسمه أبو حرب المبرقع اليماني سنة 842، وقتل جنديا سطا على حرمه وهرب وألبس وجهه برقعا، وقصد بعض جبال الأردن ... وكان يظهر في النهار متبرقعا وأظهر الزهد والورع، وكان يعيب الخليفة فاستجابه قوم من فلاحي تلك الناحية، وكان يزعم أنه من بني أمية ثم ضوى إليه جماعة من رؤساء اليمانية، ودرى المعتصم بأمره، فأرسل إليه ألف رجل مع رجاء الحضاري، فلم يرد أن يواقعه لكثرة ما رأى عنده من الرجال، ومات المعتصم فعاد رجاء إلى قتال المبرقع في أيام الواثق فقاتله، وشتت شمله وأخذه أسيرا.
وفي سنة 842 ثار القيسية بدمشق في بدء خلافة الواثق، وعاثوا وأفسدوا وحصروا عاملهم بدمشق، فأرسل الواثق إليهم عسكرا مع رجاء المذكور وقاتلهم بمرج راهط، فقتل من القيسية نحو ألف وخمسمائة رجل وانهزم الباقون.
وفي سنة 859 سار المتوكل إلى دمشق، وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، ثم استوبأ دمشق فرجع إلى سامراء.
وفي سنة 852 وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافقي، فأخرجوه وقتلوا من أصحابه، فوكل المتوكل مكانه محمد الأنباري فعسف بهم فوثبوا به، فأمده المتوكل بجند فظفر بهم وقتل منهم جماعة وأخرج النصارى من المدينة، وهدم كنائسهم وأدخل إحداها بجامع كانت تجاوره.
وأهم ما كان بسورية في هذا القرن تولية أحمد بن طولون على سورية ومصر واستبداده بولايتهما، ففي سنة 867 ولى المعتز عيسى بن الشيخ بن السليك من ولد جساس بن مرة على الرملة، واستغرض شقيا كان بالعراق، فتغلب على دمشق وأعمالها وقطع ما كان يحمل من سورية إلى الخليفة، ثم ولى المعتز أحمد بن طولون على مصر سنة 869، ومات ماجور والي دمشق سنة 878، فسار ابن طولون من مصر فملك دمشق ثم حمص ثم حماة ثم حلب، وسار إلى أنطاكية فحارب سيما الطويل واليها فقتله ودخل أنطاكية عنوة واستبد بولاية مصر وسورية، وأمر المعتمد على الله بلعن أحمد بن طولون على المنابر، فأمر ابن طولون بلعنه كذلك في جميع أعمال ولايته، ومع ذلك كتب المعتمد إلى ابن طولون يشكو إليه حاله من أخيه الموفق الذي كان متحكما به، فأشار عليه ابن طولون أن يأتي إليه إلى مصر، فينتصر له على أخيه، وهم المعتمد بالمسير إلى مصر فمنعه منه بعض ذويه.
وسنة 884 توفي أحمد بن طولون وهو الذي بنى قلعة يافا، والجامع المعروف به بمصر وخلفه خمارويه ابنه فقام بملكه أحسن قيام، وانتقض عليه أهل دمشق، فردهم إلى طاعته، ولكن سار إسحق بن كنداج والي الموصل ومحمد بن أبي الساج والي الأنبار بإمداد الخليفة، واستحوذا على أنطاكية وحلب وحمص، ثم على دمشق بخيانة عاملها، فسير خمارويه الجيوش من مصر إلى سورية، فاستردوا دمشق وساروا إلى شيزر حيث كان أعداؤهم، وهجم الشتاء فتفرقوا في المنازل بشيزر وأتى عسكر العراق نجدة لأعدائهم، فكبسوهم في المنازل وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسار أمير جيش العراق فملك دمشق سنة 885، وخرج خمارويه بعساكره من مصر، وقدم المعتضد أمير جيش العراق إلى الرملة، وكان قتال شديد بين الجيشين أفضى إلى انهزام المعتضد إلى دمشق، فلم يفتح له أهلها أبوابها فسار حتى ترسيس، وانبسطت ولاية خمارويه من مصر إلى ترسيس ثم إلى الجزيرة والموصل بسبب عداوة وقعت بين واليهما ووالي الأنبار المذكورين وإنجاد خمارويه لوالي الأنبار حتى استولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيهما، ثم انتقض هذا الوالي سنة 889 على خمارويه فسار إليه خمارويه بعساكره، فكان بينهما قتال في جهة دمشق دحر به ابن أبي الساج الوالي المذكور، فانهزم إلى حمص ثم إلى حلب ثم إلى الرقة وخمارويه في أثره إلى الموصل، ثم عاد إلى دمشق، ولما بويع المعتضد بالخلافة راسله خمارويه بأن يزوج ابنه على بنته قطر الندى ... فقال المعتضد: «أنا أتزوجها.» فزفها إليه، وفي سنة 896 قتل خمارويه بدمشق قتله بعض خدامه، وبايع قواد جيش خمارويه ابنه المسمى جيشا، وكان صبيا فقتله بعض جنده وأقعدوا أخاه هرون في الولاية سنة 897، وظهر القرامطة في الكوفة وسار بعضهم إلى دمشق، وجمع جموعا من العرب، وحاصروا دمشق فصالحهم أهلها على مال، وأخذوا حمص وحماة والمعرة وسلمية وبعلبك وقتلوا كثيرين، وأرسل المكتفي جيشا سنة 905، فانتصر على القرامطة واستولى على دمشق وسار إلى مصر، ففارق هرون بن خمارويه كثيرون من قواده، ولحقوا بعسكر الخليفة فخرج هرون بمن بقي معه، فكانت وقعات بينه وبين عسكر الخليفة، ثم وقعت خصومة بين عسكر هرون فركب ليخمد الفتنة، فقتله بعض المغاربة وقام بالأمر بعده ابن عمه شيبان، ولم يستطع مناصبة عسكر الخليفة وفر ليلا فاستولى محمد بن سليمان قائد جيش الخليفة على مصر، وقبض على بني طولون، وحملهم إلى بغداد وكتب إلى المكتفي بالفتح، وهكذا انقرضت دولة بني طولون من سورية ومصر. (3) في المشاهير بسورية في القرن التاسع
في أبي تمام
هو حبيب بن أوس بن الحارث، وينسب إلى طي وهو نصراني ولد سنة 809 بجاسم قرية من قرى الجيدور من أعمال دمشق، ونشأ بمصر وكان فصيحا حلو الكلام، قال الصولي في حقه: «كان واحد عصره في ديباجة فضله، وفصاحة شعره وحسن أسلوبه.» وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله، وله مجموع آخر سماه فحول الشعراء جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين، وكتاب الاختيارات من شعر الشعراء، ومدح الخلفاء، وأخذ جوائزهم وجاب البلاد، قال العلماء: «خرج من قبيلة طي ثلاثة كل واحد مجيد في بابه: حاتم طي في جوده وداود الطائي في زهده، وأبو تمام في شعره.» وتوفي أبو تمام في الموصل نحو سنة 847.
البحتري
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي الشاعر المشهور، ولد بمنبج (في ولاية حلب) نحو سنة 820، ونشأ وتخرج بها ثم خرج إلى العراق، ومدح جماعة من الخلفاء وخلقا كثيرا من الأكابر والروساء، وله أشعار كثيرة يذكر فيها حلب وضواحيها، وكان يقال لشعره: سلاسل الذهب، وجمع أبو بكر الصولي شعره، ورتبه على حروف المعجم، وجمعه أيضا علي بن حمزة الأصبهاني، ورتبه على الأنواع، وتوفي البحتري بمنبج أو حلب سنة 898 والبحتري نسبة إلى بحتر أحد أجداده.
قيس الماروني
ذكره المسعودي في كتابه التنبيه والإشراف، فقال: «ولبعض متبعي مارون من المارونيين، ويعرف بقيس الماروني كتاب حسن في التاريخ وابتداء الخليقة والأنبياء والكتب والمدن والأمم وملوك الروم وغيرهم وأخبارهم.» وانتهى بتصنيفه إلى المكتفي، والمعلوم أن المكتفي توفي سنة 908، وعليه فيكون قيس هذا عاش في آخر القرن التاسع وأوائل العاشر، وقد عثر الأب نو المستشرق الإفرنسي على كتيب سرياني في المتحف البريطاني تحت عدد 17216، وطبعه ببريس سنة 1899 واسما إياه بفقر من تاريخ سرياني ماروني، وقد ظن الأب نو أن تلك الفقر مقاطيع من كتاب قيس الماروني، وقد أطال العلامة نلدك (في المجلة الأسيادية الألمانية) الكلام في هذه الفقر وبين عظم أهميتها، وعزاها إلى كاتب ماروني، والذي يظهر لنا أن المقاطيع التي رواها نلدك والكتيب الذي نشره الأب نو هي جزء من تاريخ قيس الماروني الذي ذكره المسعودي لا كله.
وكان في القرن التاسع من المشاهير غير السوريين محمد بن المستنير المعروف بقطرب النحوي البصري وتوفي سنة 822، ويحيى بن عبد الله الكوفي المعروف بالفراء أعلم الكوفيين بالنحو واللغة، وتوفي سنة 823، والأصمعي البصري وتوفي سنة 833 وأبو نواس الشاعر المشهور، وتوفي سنة 814 والمازني البصري إمام عصره في النحو والآداب، وتوفي سنة 864، وحنين بن إسحق الطبيب العبادي النصراني النسطوري ... وله كتب كثيرة منها كتاب في خلاصة فلسفة أرسطو عدا عما ترجمه من اليونانية إلى السريانية والعربية، وتوفي سنة 876 إلى غير هؤلاء من المشاهير.
الفصل السادس
في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
من بعد البطريرك توادوريطس المار ذكره في تاريخ القرن الثامن قام على الكرسي الأنطاكي أيوب، واستمر فيه إلى سنة 842 وخلفه كريستوف وبقي إلى سنة 847، وخلفه نيقولاوس وقد نفي فلم يقم بطريرك مكانه إلى سنة 869، حين أقيم توادوسبوس، واستمر على البطريركية إلى سنة 891، وخلفه أوسطاتيوس وتوفي سنة 903.
وأما في أورشليم فبعد وفاة جيورجيوس سنة 808 اختير توما، فدبر الكرسي الأورشليمي تدبيرا صالحا إلى سنة 829، وخلفه باسيليوس، ويظهر أنه استمر بطريركا إلى سنة 843، وخلفه سرجيوس وتوفي على الراجح سنة 858، وخلفه سلمون أو سليمان وربما كانت وفاته سنة 864، وخلفه توادوسيوس، ويظهر أنه توفي سنة 879 وخلفه إيليا تلك السنة وبقي يدبر البطريركية إلى سنة 907 ومن شاء أكثر تفصيل في تاريخ هؤلاء البطاركة فليطالع تاريخنا الكبير. (2) في من عرفناهم من أساقفة سورية في هذا القرن
إن تواريخ هذه القرون الوسطى في المشرق سقيمة لكثرة الاضطرابات فيه، فندر ما عرفناه عن أساقفة سورية وعلمائها، وجل من عرفناهم أغابيوس نقل من كرسي سلوقية إلى كرسي حلب في أيام الملك باسيليوس نحو سنة 865، ثم توما أسقف بيروت جعله فوتيوس في المجمع الذي عقده سنة 879 نائبا عن بطريرك أنطاكية، ثم قال: إنه نقل بعد ذلك إلى أسقفية صور، وذكر فوتيوس أيضا أسقفا لصور اسمه فوتيوس عازيا إليه كتابا في المجامع، وذكر المنسنيور شابو في الفصول التي نشرها في مجلة المشرق المسيحي نقلا عن كتاب قديم سرياني يعزا إلى ميخائيل الكبير بطريرك اليعاقبة أسماء كثيرين من أساقفة اليعاقبة في حلب وحمص وبعلبك، ودمشق من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، ولكن ليس هناك إلا أسماؤهم مجردة فضربنا عن ذكرهم.
وأهم من نعرفهم من هؤلاء ديوانيسيوس بطريرك اليعاقبة، فهذا اتخذ السيرة الرهبانية في دير قنسرين، ثم انتقل إلى دير القديس يعقوب في كيشوم بين حلب والرها، ولما اجتمع أساقفة اليعاقبة؛ لينتخبوا بطريركا خلفا لقوريتس بطريركهم سنة 817 وقع انتخابهم عليه، وقد ألف تاريخا ابتدأ فيه من خلق العالم إلى آخر أيامه، وله نسختان تتداولهما أيدي السريان: إحداهما مطولة سلك بها مسلك أوسابيوس القيصري في تاريخه، والثانية موجزة حذا فيها حذو أوسابيوس المذكور في الكرونيكون، فيذكر السنين ويدون ما كان فيها بإيجاز، وقد كتب هذ الكتاب قبل أن يصير بطريركا ومن آرائه في هذا الكتاب أن مولد المخلص كان سنة 5200 لخلق آدم، وقد خطأه السمعاني في مسائل كثيرة من تاريخه، وتاريخه المطول ينتهي في سنة 844.
الفصل السابع
في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
(1) في الخلفاء العباسيين الذين تولوا سورية في هذا القرن
ذكرنا أن المعتضد بالله توفي في سنة 902، فبويع ابنه بالخلافة ولقب بالمكتفي بالله، وقهر القرامطة كما مر في عدد 140، وتوفي سنة 908 بعد أن عهد بالأمر إلى أخيه جعفر، ولقب بالمقتدر بالله وكان عمره ثلاث عشرة سنة، فاجتمع القضاة والقواد والوزير فخلعوه سنة 909، وبايعوا عبد الله بن المعتز ولقب بالمرتضي بالله، فكانت حرب بين مريدي المقتدر ومريدي المرتضي انهزم بها المرتضي وحبس وتوفي بالحبس، وعاد المقتدر إلى الخلافة وفي أيامه نشأت دولة العلويين نسبة إلى علي بن أبي طالب، والفاطميين نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت الرسول زوجة علي، وأول خليفة منهم كان اسمه عبيد الله ولقب بالمهدي، وفي سنة 926 خلع القواد والجنود المقتدر، واعتقلوه وبايعوا أخاه محمد بن المعتضد ولقبوه القاهر بالله، ثم حضر فريق من العسكر ووثبوا على القاهرة، فهرب واختفى وحملوا المقتدر على رقباهم وأدخلوه دار الخلافة، واستمر على الولاية إلى سنة 933 حين قتل في حرب مع مونس الخادم الذي كان قد استولى على الموصل.
وبعد مقتل المقتدر عاد القاهر إلى الولاية وقتل مونس الخادم وغيره، فثار عليه بعض القواد وابن مقلة الذي كان قد عزله من الوزارة، وأحدقوا بداره وحبسوه ثم سملوا عينيه سنة 935، وأخرجوا أحمد بن المقتدر من الحبس، وبايعوه بالخلافة ولقبوه بالراضي بالله، وتغلب في أيامه عمال الأطراف عليها ولم يبق للخليفة إلا بغداد وأعمالها إلى أن توفي الراضي سنة 941، وأمست الخلافة بعده لتدبير أمور الدين غالبا، واتفق أكابر الدولة فبايعوا إبراهيم بن المقتدر، واختار لقب المتقي لله، وقبض عليه توردن الذي كان قد جعله أمير الأمراء، وسمل عينيه سنة 944 وأقاموا مكانه عبد الله بن المكتفي ولقب المستكفي بالله، ثم كاد عليه معز الدولة بن بويه أمير الأمراء، فاعتقله وبويع الفضل بن المقتدر بالله سنة 446 وسمي المطيع لله، ولكن لم يبق بيده غير ما أقطعه له معز الدولة مما يقوم ببعض حاجاته، وطالت خلافته إلى سنة 974، فاعتراه فالج فخلع نفسه من الخلافة وسلمها إلى ولده عبد الكريم ولقب الطائع لله، وفي سنة 990 كانت وحشة بينه وبين أخيه أفضت إلى خلعه سنة 992 وتولية أخيه أحمد الذي سمي القادر بالله، واستمر على سرير الخلافة إلى سنة 1032. (2) فيما نعرفه من الأحداث بسورية في أيام هؤلاء الخلفاء
في سنة 904 أرسل المكتفي جيشه على القرامطة المار ذكرهم، فهزمهم في وقعة في نواحي حماة وقتل منهم خلقا كثيرا، وأمسك رئيسهم فقتله المكتفي وطيف برأسه في أسواق بغداد، وفي سنة 905 جهز المكتفي جيشا، فاستولى على دمشق فهزم هارون بن خمارويه بن طولون وقتله بمصر، وأمسك أسرته بني طولون وأرسلهم إلى بغداد كما مر، وفي سنة 906 غزا الروم إلى جهات حلب، وقتلوا كثيرين من أهلها ودخل الروم المدينة وأحرقوا جامعها، وأخذوا من بقي فيها.
وفي سنة 927 ولى المقتدر الإخشيد على مدينة الرملة بفلسطين، وفي سنة 931 ولاه على دمشق، ولما أخذ الراضي بالله الخلافة ضم إليه ولاية مصر والبلاد السورية سنة 936، فسار الإخشيد من دمشق إلى مصر واستقر بها، واستبد بولايتهما كباقي ولاة الأقاليم، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، واستعمل الإخشيد بدرا ابن عبد الله الإخشيدي على دمشق وكان ابن رائق أمير الأمراء يحكم بحران والرها وقنسرين والعواصم، فحدثته نفسه بأن يملك الشام فسار إلى حمص، فملكها وهزم بدرا منها، ثم سار إلى الرملة ومنها إلى عريش مصر يريد أن يملك مصر أيضا، فلقيه الإخشيد فانهزم إلى دمشق، وبعث الإخشيد أخاه أبا نصر في أثره فالتقى الجيشان بالقرب من الناصرة، فكان النصر لابن رائق وقتل أخا الإخشيد فكفنه ابن رائق وأرسله مع ابنه إلى أخيه معتذرا، فاصطلحا على أن تكون للإخشيد مصر إلى الرملة وما وراها من سورية إلى ابن رائق، ويعطيه الإخشيد عن الرملة كل سنة مائة وأربعين دينارا، وكتب الخليفة المتقي بالله إلى ابن رائق يستدعيه إليه، فسار واستخلف بسورية أبا الحسين بن مقاتل، ولما قتل ابن رائق بخدمة المتقي سار الإخشيد من مصر إلى دمشق، وكان واليها محمد بن يزداد من جهة ابن رائق، فاستأمن إلى الإخشيد فأمره على دمشق ثم نقله إلى مصر.
ولما عاد الإخشيد إلى مصر سنة 945 سار سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان إلى حلب، وكان واليها يأنس المؤنسي فأخذها منه، وسار من حلب إلى حمص فاستولى عليها، ثم سار إلى دمشق فحصرها ثم رحل عنها؛ لأن الإخشيد قصده والتقيا بقنسرين فلم يظفر أحدهما بالآخر، ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، ولما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب، وفي سنة 947 مات الإخشيد بدمشق وولي الأمر بعده ابنه أبو القسم محمود وكان صغيرا، فكان الأمر بيد كافور الخادم الأسود من خدم الإخشيد، وعاد إلى مصر فسار سيف الدولة إلى دمشق فملكها وأقام بها، وأراد أن يمتلك غوطة دمشق فكاتب أهلها كافور يستدعونه إليهم، فأتى وأخرجوا سيف الدولة عنهم، فاستقر بحلب وولى كافور على دمشق بدرا الإخشيدي، فأقام سنة ثم وليها أبو المظفر بن طنج .
وكان لسيف الدولة غزوات في بلاد الروم من سنة 950 إلى سنة 963، حين سار الدمستق (معناه الخادم لقب لقادة الروم) بجيش من الروم، ووصل إلى قرب حلب قبل أن يعلم به سيف الدولة، فلم يتيسر له أن يجمع عسكرا وخرج في من كان معه وقاتل الدمستق، فانهزم سيف الدولة وقتل أكثر أصحابه، ودخل الدمستق داره التي كانت في خارج حلب وحاصر المدينة، فلم يقو على أخذها، إلى أن وقعت فتنة بين الحامية ورجال حلب، فتيسر لعسكر الروم الدخول إليها، فقتلوا وسبوا وغنموا ما لا يوصف، وأحرقوا كثيرا من دور المدينة، واستمروا بحلب تسعة أيام وارتحلوا عنها نحو بلادهم.
والمعروف من كتب المؤرخين النصارى أن الدمستق المذكور هو لاون قائد جيش لرومانس الثاني ملك الروم الذي كان هو وأخوه نيقوفور فوقا يجدان في إصلاح شئون مملكتهم، فاسترد نيقوفور جزيرة إكريت من المسلمين، وحاربهم لاون في حلب، ولما توفي الملك رومانس نادى الجنود بنيقوفور ملكا، وتزوج بالملكة توافانة ولم يشأ أن يسمي نفسه ملكا، بل وصيا على ابني الملك القاصرين باسيليوس وقسطنطين، وسمى أباه قيصر والسمسق قائدا لجيش المشرق، وسار هو وأخوه لاون المار ذكره إلى المشرق فأخذ طرسوس والمصيصة، وعاد نيقوفور سنة 965 إلى سورية ففتح أنطاكية، وذلت له حلب وأطرابلس ودمشق وعرقا وأخرب حمص، فاجتمع المسلمون بأنطاكية فحاصرها وترك خفرا عليها وعاد إلى العاصمة، ففتح قواده أنطاكية، وعاد سنة 968 فدخل أرمينية وخرب في بلاد المسلمين، فكادت عليه امرأته توفانة، واتفقت مع سمسق فقتله في بلاطه واستبد بالملك.
فالسمسق تسلم الملك معلنا أنه شريك الملكين باسيليوس وقسطنطين، ووصيا عليهما لصغر سنهما، وهم أن يعيد مملكة الروم إلى رونقها في المشرق، فجهز جيشا كثيفا وأمر عليه دمستقا فأخذ مدنا كثيرة في الجزيرة والعراق، وفي سنة 974 سار بنفسه في مقدمة جيشه، فمكن سلطته في المدن المذكورة وأخذ أباميا وحمص وبعلبك ، وزحف إلى دمشق فدخل واليها في طاعته وفرض عليه جزية سنوية، واجتاز لبنان إلى المدن البحرية، وحاصر أطرابلس فأصابه مرض أرغمه أن يسير نحو أنطاكية ، فأغلق أهلها الأبواب بوجهه فسار إلى جبل أوليمبس، فأدركته المنية سنة 976 وروى بعضهم أنه بلغ القسطنطينية ومات فيها.
أما سيف الدولة أمير حلب فتوفي سنة 971، فتولى حلب ابنه سعد الدولة وكنيته أبو المعالي وحصلت وحشة بينه وبين أبي فراس والي حمص، وطلبه أبو المعالي، فانهزم إلى صور فلحقه العسكر إليها فقتله وكان خال أبي المعالي، ثم إن فرعويه أحد قواد عسكر أبي المعالي أخرج مولاه من حلب، فسار أبو المعالي إلى عند والدته بميا فرقين في الجزيرة، وقصد جيش الروم حلب فتحصن فرعويه بالقلعة، فملك الروم المدينة وحاصروا القلعة، ثم صالحوا فرعويه على مال يحمله إليهم كل سنة وكان هذا المال على حلب، وما تبعها من البلاد إلى حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأباميا وشيزر وما بينها، وكان لفرعويه مولى يسمى بكجور، وقد جعله نائبه فاستفحل أمره حتى قبض على فرعويه وحبسه بقلعة حلب واستولى على المدينة، فكاتب أهلها أبا المعالي فعاد إليهم وولى بكجور حمص، واستقر أبو المعالي بحلب. (3) في الخلفاء الفاطميين بسورية وما كان بها في أيامهم
أصل دولة الفاطميين عبيد الله المتصل نسبه بالحسين بن علي بن أبي طالب فر من مصر، فدعا له في المغرب شيعي اسمه عبد الله إلى أن ولي بلاد المغرب، وسمي المهدي سنة 910، وفي سنة 914 تولى على الإسكندرية والفيوم، فأرسل إليه الخليفة المقتدر عسكرا فجلاهم عن مصر، وفي سنة 915 جهز المهدي جيشا كثيفا مع ابنه القاسم إلى مصر فاستحوذ على الإسكندرية، ثم سار حتى دخل الجزيرة وملك إشمونين وكثيرا من الصعيد، وكانت حرب بحرية بين مراكب المغرب، ومراكب المقتدر على رشيد وكانت الهزيمة على مراكب المهدي، واستولى بعد ذلك على صقلية، وبعد وفاة المهدي قام بالملك بعده ابنه القاسم وخلف القاسم ابنه المنصور، وخلف المنصور ابنه المعز لدين الله واستحوذ على مصر سنة 969، وطرد منها الإخشيديين المار ذكرهم وأقيمت الدعوة له في الجوامع، وسير جوهرا غلام أبيه مع جعفر بن فلاج إلى سورية بجيش كثيف، فكانت حروب بينهم وبين الحسن بن طنبح والي الرملة من قبل الخليفة العباسي، وكان الظفر لعسكر المعز وأسروا الوالي وغيره من القواد، واستولوا على تلك البلاد وساروا إلى طبرية، فأقام أهلها الدعوة للمعز، وساروا إلى دمشق فقاتلهم أهلها فظفرت عساكر المعز بهم وملكوا دمشق، وأقاموا الخطبة للمعز وقطعت الخطبة العباسية سنة 970، وخطب المعز في حمص وحلب أيضا، وفي سنة 971 وصل القرامطة إلى دمشق فكبسوا عسكر المعز، وقتلوا جعفر بن فلاج أحد قواده خارج دمشق، وملكوا دمشق وأمنوا أهلها، وساروا إلى الرملة، فملكوها وقصدوا مصر وجرى بينهم وبين عسكر المعز قتال انتصر فيه القرامطة، ثم انكسروا وعادوا إلى سورية.
وفي سنة 972 انتقل المعز من المغرب إلى مصر، وصحب معه أهله وخزائنه ولقيه أهلها وأعيانهم فأكرمهم، وفي سنة 974 عاد القرامطة إلى مصر فهزمتهم عساكر المعز وأرسل المعز في أثرهم عشرة آلاف فارس، فاعتزلوا إلى بلاد المغرب، وأرسل المعز القائد ظالم بن موهوب العقيلي إلى دمشق فدخلها، ولكن كانت فتن بينه وبين الدمشقيين دامت إلى سنة 975، وفي سنة 976 استولى على دمشق أختكين من موالي معز الدولة بن بويه، وانهزم من العراق فسار إلى حمص ثم إلى دمشق، فاتفق أهلها معه على العامل الذي من قبل المعز، وأخرجوه من المدينة وقطعوا الخطبة للمعز، فعزم المعز على المسير من مصر إلى دمشق لقتال أختكين، فمات سنة 976، وخلفه ابنه العزيز فجهز عسكرا إلى دمشق وحصر أختكين فيها، فدعا أختكين القرامطة لنجدته فانهزم عسكر العزيز، فسار أختكين والقرامطة في أثرهم إلى صيدا فحاصروها وفتحوها ونهبوها، وقصدوا طبرية وفعلوا بها ما فعلوا بصيدا، واجتمع إلى أختكين خلق كثير، ولحقوا عسكر العزيز إلى الرملة ففر منها إلى عسقلان، وضايقوه بالحصار وكاد يهلك جوعا، فطلب قائده جوهر الأمان من أختكين، وبذل له أموالا فرحل عنهم وعاد عسكر العزيز إلى مصر، فخرج العزيز بنفسه ووصل إلى الرملة فالتقاه أختكين والقرامطة، وكان بينهم قتال شديد انتهى بأسر أختكين وتشتيت القرامطة، فعاد العزيز إلى مصر ومعه أختكين مكرما، وبقي في مصر إلى أن مات.
وفي سنة 979 هرب أبو تغلب صاحب الموصل من وجه أخيه عضد الدولة بن حمدان إلى دمشق، وكان قسام أحد أصحاب أختكين قد تغلب عليها، وكان يخطب للعزيز، فقاتل قسام أبا تغلب ومنعه من الدخول إلى دمشق، فسار إلى طبرية ثم إلى الرملة، وكان هناك قائد من قواد العزيز فقاتل أبا تغلب وأخذه أسيرا، ثم قطع رأسه وأرسله إلى العزيز، وفي سنة 983 سير العزيز جيشا مع بكتكين إلى سورية، وكان مفرح بن الجراح قد تولى فلسطين، فجرى بينهم قتال شديد، فانهزم ابن الجراح وجماعته، وكثر القتل والنهب فيهم وسار بكتكين إلى دمشق فقاتله قسام المذكور، فقهره وملك دمشق، وأمسك قساما وأرسله إلى العزيز واستقر بكتكين بدمشق وزالت الفتن.
وفي سنة 984 كاتب بكجور والي حمص السابق ذكره العزيز يسأله أن يوليه دمشق، فأجابه إلى ذلك واستدعى بكتكين منها، وأساء بكجور المسعى فأرسل العزيز سنة 989 عسكرا مع القائد منير الخادم؛ ليعزل بكجور عن دمشق ويتولاها، فخرج بكجور إليه وقاتله عند داريا فظهر منير عليه، وطلب بكجور الأمان فأمنه واستقر منير في ولاية دمشق، وأحسن السيرة في أهلها، وأما بكجور فعاد إلى قتال أبي المعالي والي حلب، فأخذه أبو المعالي أسيرا وقتله مع أولاده، وتوفي العزيز سنة 997، وخلفه ابنه المنصور ولقب الحاكم بأمر الله، ونرجئ الكلام عليه إلى تاريخ القرن الحادي عشر. (4) في بعض مشاهير العلم بسورية في القرن العاشر
القاضي التنوخي وابنه المحسن
هو أبو القاسم علي بن محمد التنوخي ولد بأنطاكية سنة 892، وقدم إلى بغداد وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وتقلد قضاء البصرة والأهواز، وعاد إلى حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان فأكرم مثواه وأحسن قراه، وله أشعار حسنة كثيرة مجموعة بديوان، وتوفي بالبصرة سنة 957، وأما ابنه المحسن فله كتاب الفرج بعد الشدة وله ديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وكتاب سواد المحاضرة وكتاب المستجاد من فعلات الأجواد، ولد سنة 940 وتوفي سنة 995.
سليمان الطبراني
ويكنى بأبي القاسم ولد بطبرية سنة 880، وتوفي سنة 997 وله مؤلفات منها المعاجم الثلاثة الكبير والأوسط والصغير وهي أشهر كتبه.
حامد بن محمد الأنطاكي
يكنى بأبي الرقعمق ولد بأنطاكية، وتوفي على ما ظن ابن خلكان بمصر سنة 1009، وهو شاعر قال في حقه الثعالبي في اليتيمة: هو أحد الشعراء المحسنين وهو بالشام كابن حجاج بالعراق.
محمد أبو الفرج الوأوأ الدمشقي
هو شاعر مطبوع منسجم الألفاظ عذب العبارة حسن الاستعارة بنى الحريري مقامة على قوله:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
وتوفي نحو سنة 999م.
وكان في هذا القرن بغير سورية الطبري صاحب التاريخ المشهور ابتدأ فيه من أول الزمان إلى سنة 915، وصاحب التفسير البديع إلى غيره من المؤلفات، وتوفي سنة 923، ثم أبو بكر الرازي إمام عصره في علم الطب وله كتاب الحاوي في مقدار ثلاثين مجلدا إلى غيره من الكتب، وقد ترجمت بعض مؤلفاته إلى اللاتينية وتوفي سنة 924، ثم أبو نصر الفارابي شارح كتب أرسطو وصاحب التآليف الفلسفية وغيرها، وهو فيلسوف المسلمين وعده بعضهم الثاني وأرسطو الأول، وتوفي بدمشق سنة 959، ثم المسعودي المؤرخ المشهور وله كتب كثيرة، منها مروج الذهب ومعادن الجوهر، وذخائر العلوم وكتاب التنبيه والإشراف إلى غيرها، وتوفي سنة 958، ثم العبادي الطبيب النصراني، ومعرب كتب الحكمة من اليونانية إلى العربية، وقد عرب من كتب الفلسفة أكثر مما عربه من كتب الطب، وتوفي سنة 912، وكان في هذا القرن ابن نباتة الخطيب الشهير وبديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات المشهورة، وابن سهل النحوي وابن دريد إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، وأبو الطيب المتنبي الشاعر المشهور والجرجاني الأزهري إلى غيرهم.
الفصل الثامن
في تاريخ سورية الديني في القرن العاشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
قام على كرسي أنطاكية بعد سمعان المار ذكره إيليا، واستمر على الراجح ثماني وعشرين سنة وكان عالما وله بعض تصانيف وتوفي سنة 931، ولم يقم بعده بطريرك مدة أربع سنين إلى أن خلفه توادوسيوس الثاني سنة 936، وكان حيا سنة 937 ولم نعلم متى توفي، وفي جدول هؤلاء البطاركة المحفوظ في الواتيكان أسماء توادوريطوس الثاني وأغابيوس الأول، دون ذكر شيء من تاريخهما، والمعلوم أنه يوم أخذ نيقوفور فوقا أنطاكية سنة 969 لم يكن فيها بطريرك؛ لأن البطريرك كان قد قتل، ولبثت أنطاكية بعد مقتله مترملة مدة ما فاعتنى هذا الملك بترقية إسطراتيوس إلى كرسيها، ولما استتب الملك ليوحنا سمسق، وافتتح جيشه أنطاكية سنة 974، ولا بطريرك فيها اهتم بأن يقام توادور بطريركا، وكان ناسكا ورعا، وفي الصلوات المعروفة بالأرثوذكسيات التي يتلوها الروم في كنائسهم أنه ليستحق الذكر المؤبد كريستوفر وتوادور وخلفاؤهما العشرة، أي: كريستوفر وتوادور وأغابيوس ويوحنا ونيقولاوس وإيليا وتوادور الآخر وباسيليوس وبطرس وتوادوسيوس ونيقوفر ويوحنا الآخر، وفي الجداول لهؤلاء البطاركة ما يخالف ذلك، ولا يمكن تحقيق عددهم أيضا فبالأولى عدم معرفة سني ترقيتهم أو وفاتهم.
ومثل هذا الخلاف والاضطراب في تاريخ بطاركة أورشليم في هذا القرن، فبعد وفاة إيليا بطريركها سنة 907 خلفه سرجيوس، ويقال: إنه استمر في البطريركية أربع سنين، وخلفه لاونتيوس أو لاون سنة 911، ويقال: إنه استمر إلى سنة 928، وخلفه إنسطاس، وقيل: نيقولاوس ثم خريستوفر ولا يعلم في أي سنة توفي ... وجاء بعده ذكر أغاتون ويوحنا السادس، ويوحنا السابع، وجاء في تاريخ شدرانس (مجلد 2) أن يوحنا البطريرك طعن عليه بأنه أغرى نيقوفر فوقا بأن يحمل على سورية، فكان جزاءه الحريق وحرق كنيسة القيامة، وكان ذلك سنة 969، وربما كان هذا يوحنا البطريرك الأورشليمي الذي وضع ترجمة القديس يوحنا الدمشقي من العربية إلى اليونانية، كما يظهر من مقدمات المجلد الأول من مؤلفات الدمشقي من طبعة مين، وجاء في جداول بطاركة أورشليم بعد يوحنا أسماء خريستوفر، وتوما الثاني ويوسف الثاني، وبعد هؤلاء إسكندر وأغابيوس، ولا نرى اسميهما في جداول بطاركة أورشليم، بل نجد اسم إرميا في تاريخ ابن العميد أن العزيز بالله العباسي صيره بطريركا على أورشليم، ويروى أن الحاكم بأمر الله الذي أخذ الخلافة سنة 996 سمل عينيه ونفاه إلى بابل، وأشار غوليلموس الصوري (ك1 من تاريخ الحرب فصل 4) إلى شيء من ذلك، ويظهر أن هذا البطريرك توفي في أوائل القرن الحادي عشر. (2) في إيليا أسقف دمشق وغيره من العلماء في القرن العاشر
إن إيليا الملقب الجوهري كان أسقفا على النساطرة في أورشليم، فصيره بطريركهم يوحنا متريبوليطا عليهم بدمشق سنة 893، واستمر إلى سنة 905، وله كتاب في القوانين البيعية قسمه إلى قسمين: تكلم في الأول منهما على قوانين الغربيين، وفي الثاني منهما على قوانين الشرقيين أي: القوانين التي فرضها بطاركتهم النساطرة أو المجامع التي عقدوها، وله مقالة ألفها وهو أسقف بأورشليم زعم فيها أن فرق السريان الثلاثة أي: النساطرة والملكية واليعاقبة هم متفقون في عقائد الإيمان الجوهرية، وإن اختلفوا في التعبير عنها ... وفسر جحود النساطرة تسمية العذراء والدة الله بمعنى أن اسم الله يعم الأقانيم الثلاثة، فإن سميناها والدة الله أدخلنا الولادة على الأب والابن وروح القدس، وأن باقي الفرق بتسميتها أم الله لا ينكرون ناسوت المسيح، ولا يوجبون الولادة على الأب وروح القدس.
وكان في هذا القرن سعيد بن البطريق بطريرك الملكية بإسكندرية، ولد بالقسطاس بمصر سنة 887، وكان أبوه بطريقا وسمى نفسه إفتيثيوس باليونانية وتأويله سعيد، وارتقى إلى البطريركية سنة 932 وأدركته المنية سنة 939 أو سنة 940، وقد كتب كتابا في الطب؛ لأنه كان طبيبا، وكتابا في محاورة مسيحي ومبتدع، وكتابا في تاريخ صقلية، وأشهر كتبه كتابه في التاريخ من خلق الإنسان إلى أيامه بالإيجاز، وقد ترجمه سلدانوس إلى اللاتينية وعلق عليه فاتحة قال فيها ما ملخصه: «وقد وجدت في تاريخه أمورا كثيرة تتعلق بالتاريخ الكنسي والدنيوي توجب النقد والنظر، ولم أجد لها أثرا في كتب المؤلفين اليونان أو اللاتينيين أو اليهود العرب، ولم أر من ذكره من علماء أوروبا القدماء إلا غوليلموس الصوري، إذ قال في مقدمة تاريخه: إن الماريكس ملك أورشليم دفع إليه بعض كتب في جملتها تاريخ سعيد بن البطريق بالعربية، واقترح عليه أن يكتب تاريخا فاعتمد فيه على شهادة الرجل المحترم سعيد بن البطريق البطريركي الإسكندري، وقد انتقد كثيرون من العلماء بعد ذلك تاريخ ابن البطريق، وأبانوا فيه أغلاطا فاضحة، وقد رددنا نحن أقواله على الموارنة في كثير من كتبنا ومقالاتنا.»
الفصل التاسع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الحادي عشر
(1) في الخلفاء الفاطميين الذين تولوا سورية بهذا القرن وما كان في أيامهم
وقد تغلب على سورية من أواسط القرن العاشر الخلفاء الفاطميون، وانحسرت ولاية الخلفاء العباسيين واقتصرت على الخلافة الدينية، فبعد وفاة العزيز بالله المار ذكره خلفه ابنه المنصور الملقب الحاكم بأمر الله سنة 997، وكان عمره إحدى عشرة سنة فقام بتدبير الملك أرجوان خادم أبيه، ولما شب الحاكم قتل أرجوان المذكور واستبد بملكه، وفي سنة 1003 استعمل على دمشق أبا محمد الأسود.
وفي سنة 1012 ملك صالح بن مرداس حلب، وذلك أن ولاية حلب كانت مدة لبني حمدان وكان منهم سيف الدولة ممدوح المتنبي، ثم ابنه سعد الدولة المكنى أبا المعالي المار ذكرهما، وخلف أبا المعالي ابنه المكنى أبا الفضائل، وقام بتدبير ملكه لؤلؤ أحد موالي أبيه، ثم أخذ نصر بن لؤلؤ حلب من مولاه أبي الفضائل وخطب فيها للحاكم بأمر الله، وكانت وحشة بين نصر المذكور وصالح بن مرداس الكلابي أدت بينهما إلى حرب، فسلم الحاكم بأمر الله حلب إلى نواب من قبله، وبقيت على ذلك إلى بعد مقتله حين ولي على حلب ابن تعبان، فقصده صالح بن مرداس المذكور، فولاه الحلبيون مدينتهم لاستيائهم من المصريين وملك معها من بعلبك إلى عانة، فكان أصلا لدولة بني مرداس بحلب؛ ولكي لا نبسط الكلام فيهم في تاريخ السنين جمعناه هنا كلفا بزيادة الوضوح، كما فعل أبو الفداء في تاريخه الذي نلخص كلامه:
إن صالح بن مرداس ولي حلب سنين متطاولة، وفي سنة 1030 جهز الضاهر الفاطمي جيشا لقتال ابن مرداس وحسان أمير بني طي والي الرملة، فاتفق صالح وحسان على قتال الجيش المصري، وكان بين الفريقين قتال هلك به صالح وابنه الأصغر، ونجا ولده نصر فسار إلى حلب وملك فيها مكان أبيه، ولقب شبل الدولة، وفي سنة 1039 جهز المستنصر بالله الفاطمي العساكر لقتال شبل الدولة، فالتقوا عند حماة، فقتل شبل الدولة، وملك الدزبري قائد هذا الجيش حلب والشام، وعظم أمره وتوفي سنة 1044.
وكان لصالح بن مرداس ولد يكنى أبا علوان، ويلقب معز الدولة، فبعد وفاة الدزبري ملك حلب، وبقي على ملكها إلى سنة 1049، وأرسل إليه المصريون جيشهم فهزمهم مرات، ثم نزل لهم عن حلب فأرسلوا إليها رجلا يقال له: الحسن بن ملهم ولقبوه مكين الدولة، وسار معز الدولة إلى مصر وكان لشبل الدولة الذي قتله الدزبري ابن اسمه محمود اتفق معه أهل حلب، وحصروا ابن ملهم سنة 1061، فأرسل المصريون عسكرا لنجدة ابن ملهم ففر محمود من حلب، وقبض ابن ملهم على جماعة من الحلبيين وأخذ أموالهم، وسار العسكر في أثر محمود فعاد عليهم وهزمهم، وحاصر حلب فملك المدينة والقلعة واستقر محمود مالكا فيها، فجهز المصريون عسكرا أمروا عليه معز الدولة لقتال ابن أخيه محمود، فهزمه وعاد معز الدولة إلى ملك حلب سنة 1062.
ثم توفي معز الدولة سنة 1063 وأوصى بملك حلب لأخيه عطية، فتسلمه فجمع محمود عسكرا وهزم عطية من حلب واستمر محمود مالكا في حلب إلى أن مات سنة 1076، وخلفه ابنه نصر فقتله التركمان سنة 1077، وملك بعده أخوه سابق بن محمود واستمر مالكا إلى سنة 1080، حين أخذ حلب منه شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل (عن أبي الفداء جزء 2 صفحة 147).
ولنعد إلى الكلام في الحاكم بأمر الله، فنقول: كانت سيرته في أموره وأحكامه من أعجب السير وأغربها، وأعماله متناقضة يأمر بشيء ثم ينهى عنه يجود على رجل بمال ثم يقطع رأسه، يولي حاكما ثم يقتله، وهدم كنيسة القيامة بأورشليم، ثم أعاد بناءها وأمر المسيحيين أن يلبسوا السواد شعار العباسيين احتقارا لهم، قال القرماني قال ابن الجزري: «ادعى الحاكم بالربوبية، وكان قوم إذا رأوه قالوا: «يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت».» وصنف له بعض الباطنية كتابا ذكر فيه أن روح آدم انتقلت إلى الحاكم، وقرئ هذا الكتاب بجامع القاهرة، فقصد الناس قتل مصنفه، فسيره الحاكم إلى جبال الشام، فنزل بوادي التيم وناحية بانياس فاستمال قلوب الناس وأباح لهم الخمر ... وأقام عندهم يدعوهم فأضل منهم خلقا كثيرا، وفي وادي التيم ونواحي الشوف إلى يومنا هذا قوم يدعون الدروز، يعتقدون خروج الحاكم ولهم كتب يتدارسونها في ما بينهم ويعتقدون أن لا بد أن يعود الحاكم ويمهد الأرض، وقال الجعفري: «قدم إلى مصر رجل يقال له: محمد بن إسماعيل الدرزي من دعاة الطائفة الباطنية، ودخل في خدمة الحاكم ووافقه على دعواه بالربوبية، وكتب كتابا يقول فيه: إن نفس آدم جازت إلى علي ومنه إلى أسلاف الحاكم حتى انتهت إلى الحاكم، وهو خالق الكون، وقرئ كتابه في أحد الجوامع، فهجم الناس عليه؛ ليقتلوه ففر منهم فأرسله الحاكم إلى بر الشام فنزل بوادي التيم، ونادى بإلهية الحاكم وانقاد الأمراء التنوخيون لدعوة الدرزي.» وكان عند الحاكم رجل آخر اسمه حمزة وهو عجمي ادعى إثبات إلهية الحاكم، ويقال: إن الدروز يكرمون حمزة ويلعنون الدرزي، وأصبحت كتب الدروز كثيرة بين أيدي الناس لكنها غامضة، ورمزية لا يمكن القطع بالمعنى المقصود بها.
وفي سنة 1021 خرج الحاكم يطوف ليلا على عادته، فقتل وكان قد أحرق بعض مصر، ونهب بعضها ونكل بأهلها، وأوحش أخته المسماة سيدة الملك وتهددها بالقتل، فكادت عليه وقتلته بواسطة ابن دواس أحد قادته وأقامت مكانه ابنه عليا، وقتلت ابن دواس قاتل أخيها.
إن عليا ابن الحاكم الذي بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه سمي الظاهر لإعزاز دين الله، ودبرت عمته سيدة الملك شئون المملكة لصغره أربع سنين، ثم توفيت، ومما كان في أيامه بسورية أن رومانس الثالث ملك الروم جهز أسطولا سنة 1028، وسيره إلى أنطاكية التي كانت حينئذ بيد الروم؛ ليسطو على شواطئ سورية فأتلف المسلمون كثيرين من عساكر الأسطول، ومن حامية مدن سورية التي كان نيقوفر ويوحنا سمسق قد أخذاها من يدهم، فسار رومانس بنفسه لقتال المسلمين، فأراعت حملته الأمراء ولاة سورية، وأرسل أمير حلب من بني مرداس إليه وفدا طالبا الصفح عما مضى، وواعدا أن يبقي الجزية السنوية المضروبة على إمارته، فأبى الملك قبول ما وعده أمير حلب، وتوغل بسورية إلى مسيرة يومين فالتقته جيوش من العرب كانت مشتتة بالسهول، وأحاطوا بجيشه وقتلوا منه كثيرين وهزموا الباقين، فارتاع الملك وعظمت شجاعة المسلمين، وكادوا يأسرون الملك فسار بمن بقي من جيشه إلى أنطاكية، وعاد منها كئيبا خجلا إلى القسطنطينية، وأبقى بعض عساكره بأنطاكية فكان لقادته بعض النصر، واستردوا بعض المدن التي كانت قد أخذت منهم وفي جملتها أفامية المسماة أباميا في جهة حماة، وتعرف الآن بقلعة المضيق وتوفي الظاهر لإعزاز دين الله سنة 1037.
وخلفه ابنه أبو تميم سعد ولقب المستنصر بالله، وكان بدمشق الدزبري واسمه أقوش تكين، وصلحت البلاد على يده لعدله، وكان وزير المستنصر يبغضه فأثار الجند بدمشق عليه، فخرج إلى بعلبك سنة 1042 فمنعه عاملها من الدخول إليها، فسار إلى حماة فمنع أيضا وقوتل، فاستدعى بعض أوليائه من كفر طاب فنجدوه وسار إلى حلب فدخلها وتوفي بها، وفسد بعده أمر الشام وطمع العرب بنواحيه فولى الوزير على دمشق الحسين بن حمدان، وملك حسان بن مفرج فلسطين وزحف معز الدولة بن صالح بن مرداس إلى حلب، فملك المدينة كما مر آنفا، وفي سنة 1064 كانت بسورية زلازل خرب بها كثير من البلاد، وانهدمت أسوار طرابلس، وفي هذه السنة ولى المستنصر أمير الجيش بدرا على دمشق، وثار عليه الجند ففارقها، وفي سنة 1069 كانت فتنة بين المغاربة والمشارقة بدمشق واحترق الجامع الأموي، وعجز الناس عن إطفاء النار فدثرت محاسنه، وفي سنة 1070 سار بدر أمير الجيش إلى مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن عقيل وحاصرها، فأرسل القاضي إلى مقدم الأتراك بدمشق يستنجده، فسار في اثني عشر ألف فارس فحصر صيدا فرحل بدر عن صور إلى أن رجع الأتراك عن صيدا، فعاود حصارها فلم ينل منها مأربا. (2) في بعض ملوك دولة السلجوقيين وما كان في أيامهم بسورية
ظهرت في هذا العصر الدولة السلجوقية، وبعد أن استتب الملك لألب أرسلان أحد ملوكها في خراسان والعراق وغيرهما أخذ ينازع الخليفة الفاطمي سورية، وفي سنة 1071 نزل ألب أرسلان على حلب فبذل له صاحبها محمود بن مرداس الطاعة دون أن يطأ بساطه، فلم يرض ألب أرسلان ذلك وحاصر المدينة ، فخرج محمود ليلا ودخل على السلطان فأقره في ملك حلب، ثم قصد يوسف الخوارزمي أحد أمراء ملكشاه بن ألب أرسلان الرملة ففتحها ثم فتح القدس، وحصر دمشق وضيق على أهلها فلم يقو على فتحها، وقتل السلطان ألب أرسلان سنة 1073، وخلفه ابنه ملكشاه وعاد الأمير يوسف المذكور سنة 1075 إلى دمشق، وحاصرها وفيها وال من قبل المستنصر، فلم يقو على فتحها وعاد إليها في السنة التالية، فسلمها أهلها إليه بالأمان، وخطب فيها للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي، وتغلب على أكثر سورية لملكشاه السلجوقي ابن ألب أرسلان، وسار من سورية إلى مصر وحاصرها، وضيق على أهلها ولم يبق إلا أن يملكها، ولكن قوي بعد ذلك المصريون عليه وهزموه، وقيل: عاد بلا قتال إلى دمشق فرأى أهلها استمروا على الانقياد إليه، لكنه رأى أهل بيت المقدس قبحوا على أصحابه، وحصروهم في محراب داود، فقاتلهم وفتح المدينة عنوة ونهبها، وقتل من أهلها حتى من التجئوا إلى المسجد الأقصى، وكف عمن كانوا عند الصخرة، وأرسل بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر عسكرا لطرد الخوارزمي من دمشق، وكان السلطان ملكشاه أقطع أخاه تتش سورية، وما يفتحه فسار إلى حلب وحاصرها، فأرسل الخوارزمي يستمده على عسكر مصر، فسار تتش إلى دمشق فرحل عنها عسكر المصريين والتقاه الخوارزمي، فقبض عليه تتش وقتله وملك دمشق مكانه سنة 1079 أو سنة 1080.
ويظهر أن ملك السلجوقية لسورية لم يكن حينئذ ثابتا، فإن مسلم بن قريش الملقب شرف الدولة صاحب الموصل حاصر حلب سنة 1080، فسلمها أهله إليه، فأرسل ملكشاه إليه العساكر سنة 1085، وهزمه من الموصل فعاد إلى حلب وسار سليمان بن قطامش السلجوقي صاحب قونية إلى سورية، فملك أنطاكية وكانت بيد ملوك الروم من سنة 970، إذ فتحها نيقوفر فوقا وأرسل يبشر السلطان ملكشاه بفتح أنطاكية، وطلب شرف الدولة صاحب حلب من سليمان فاتح أنطاكية أن يحمل إليه ما كان يحمله إليه والي أنطاكية من الروم فأنكره عليه سليمان، فنهب شرف الدولة بلاد أنطاكية ونهب سليمان بلاد حلب، فانتشبت حرب بينهما انهزم فيها شرف الدولة والي حلب وقتلن فولى الحلبيون أخاه إبراهيم أمرهم، فحاصر سليمان حلب ولم يبلغ منها مأربا وما برح يحاول أخذها، فاستدعى بعض الحلبيين تتش صاحب دمشق أخا السلطان ملكشاه، فسار إليهم فتسعرت نار الحرب بينه وبين سليمان ابن عمه المذكور، فانهزم عسكر سليمان وقتل هو، فأرسل تتش جثته ملفوفة بإزار إلى حلب ليسلمها أهلها إليه، فطاولوه إلى أن يرد مرسوم السلطان في أمرها، فحاصرها تتش وملكها، ولما بلغه خبر وصول جيش أخيه السلطان ملكشاه إلى حلب رحل عنها، وتوجه إلى دمشق فتسلم السلطان حلب، ودخل الأمير نصر بن منقذ الكناني صاحب شيزر في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب وأباميا، فأجابه السلطان إلى ما رغب وأضرب عن أن يملك هذه البلاد عنوة، وأقر الأمير نصر المذكور على شيزر وسلم حلب إلى قسيم الدولة أقسنقر.
وفي سنة 1089 جمع أقسنقر والي حلب عساكره، فضيق على الأمير نصر صاحب شيزر المذكور ثم صالح الأمير وعاد إلى حلب، وفي سنة 1090 عمرت مأذنة جامع حلب وفيها خرجت عساكر مصر إلى الشام فحصروا مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل وتوفي القاضي المذكور وخلفه أولاده، فلم يقووا على مقاومة العسكر المصري، فسلموا المدينة إليه ثم سلمت إليه صيدا وافتتحوا عكا عنوة، وقصدوا جبيل فملكوها وأقاموا عمالا في هذه المدن، وعادوا إلى مصر.
وفي سنة 1092 أمر السلطان ملكشاه أقسنقر والي حلب أن يساعد أخاه تتش والي دمشق على انتزاع ما بقي بسورية في يد الخليفة الفاطمي، فنزلا على حمص فملكاها وسار تتش إلى عرقا ففتحها، ثم ملك أباميا وسار إلى طرابلس فامتنعت عليه، وفي سنة 1093 توفي السلطان ملكشاه ثم توفي المستنصر الخليفة الفاطمي سنة 1095.
ففي سنة 1094 عزم تتش والي دمشق أن يطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، ووافقه أقسنقر والي حلب وخطب له باغي سيان والي أنطاكية، وافتتح تتش الموصل وبغداد وديار بكر، وسار إلى أذربيجان وكان فيه بركيارق ابن أخيه، وخانه أقسنقر والي حلب فعاد تتش إلى سورية، وأخذ يجمع العساكر ويعد العدد وخاف أقسنقر والي حلب فطفق يحشد الجنود وأمده بركيارق، فالتقى الفريقان على مقربة من حلب، فأخذ أقسنقر أسيرا ثم قتله تتش وملك حلب ، وتوغل في البلاد إلى أذربيجان وهمذان، وخطب له ببغداد المستظهر بالله الخليفة العباسي، وهرب ابن أخيه بركيارق إلى أصفهان، ثم جمع العساكر وعاد إلى محاربة عمه تتش فظهر عليه وقتله.
وكان لتتش ابنان رضوان ودقاق، فنودي برضوان ملكا بحلب، وكان بدمشق سادتكين خادم تتش فاستدعى دقاق بن تتش وسلمه دمشق، فقتل دقاق خادم أبيه والمحسن إليه، واستبد بولاية دمشق سنة 1098، وسار إليه أخوه رضوان ليأخذ دمشق منه، فلم ينل منها مأربا وسار إلى القدس فلم يتيسر له فتحها فعاد إلى حلب، وقصده أخوه دقاق فالتقى الأخوان على قنسرين فانهزم دقاق وعسكره، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق، وفي سنة 1099 كان وصول عساكر الإفرنج إلى سورية، كما سترى في تاريخ القرن الثاني عشر. (3) في بعض المشاهير السوريين في القرن الحادي عشر
أبو العلاء المعري
هو أحمد بن عبد الله أبي قضاعة التنوخي، وكنيته أبو العلاء، ولد بالمعرة سنة 974، وكان أعمى لكنه كان علامة عصره، وله التصانيف الكثيرة المشهورة، وله من النظم لزوم ما لا يلزم في خمسة أجزاء طبع منها جزءان بمصر من عهد قريب، وله كتاب سماه الزند وشرحه بنفسه، وسمي الشرح ضو السقط، وتأليف آخر سماه الأيك والغصون، وهو المعروف بالهمزة والردف في أجزاء كثيرة، وشرح ديوان المتنبي واختصر ديوان أبي تمام وشرحه، وشرح ديوان البحتري، وكثر الطلبة عنده من الآفاق وكاتبه العلماء والوزراء، وعزا بعضهم إليه فسادا في عقيدته لبعض أشعاره المجونية، وبرأ بعضهم ساحته من الكفر وتوفي سنة 1058.
عبد المحسن الصوري
هو أبو محمد عبد المحسن بن غلبون الصوري الشاعر المشهور شعره بديع الألفاظ حسن المعاني وله ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان، وقد توفي سنة 1029.
العسقلاني
هو الشيخ أبو علي الحسن بن عبد الصمد العسقلاني صاحب الخطب المشهورة والرسائل المحبرة، وكان من فرسان النثر وله فيه اليد الطولى وله نظم جيد، وقيل: إنه توفي مقتولا بسجن في القاهرة سنة 1090.
ابن حيوس الدمشقي
هو أبو الفتيان محمد بن سلطا ... بن حيوس الملقب مصطفى الدولة الشاعر المشهور، وكان يدعى بالأمير؛ لأن أباه كان من أمراء المغرب وهو أحد الشعراء الشاميين المحسنين وفحولهم المجيدين، له ديوان شعر كبير وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب وله فيهم القصائد الأنيقة، وحصلت له منهم نعمة ضخمة، فبنى دارا بحلب وقد ولد بدمشق سنة 1002، وتوفي سنة 1081 وهو غير ابن حيوس الشاعر المغربي.
ابن الخياط الدمشقي
هو أبو عبد الله بن محمد التغلبي المعروف بابن الخياط، ولد بدمشق سنة 1059 وتوفي 1124، وهو شاعر مجيد وكاتب مبرز وكان تلميذا لابن حيوس، وكان في هذا القرن في غير سورية الرئيس ابن سينا فيلسوف المسلمين الشهير، وأول من تعمق بدرس كتب أرسطو وعرف الناس بها، وله كتب كثيرة في الفلسفة والرياضيات وفي الطب خاصة حتى بلغ بعضهم تآليفه إلى مائة مؤلف، وولد ببلخ وانتقل منها إلى بخارة وتوفي سنة 1038، ثم الثعالبي النيسابوري صاحب اليتيمة وغيرها من التآليف النفيسة وتوفي سنة 1038، ثم أبو إسحق الشيرازي صاحب التصانيف المفيدة منها المهذب والتنبيه واللمع، وشرحها في الفقه والنكث في الخلاف والمعونة والتلخيص في الجدل، وله شعر حسن ولد سنة 1003 وتوفي سنة 1084 وغيرهم.
الفصل العاشر
في تاريخ سورية الديني في القرن الحادي عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
إن إيليا المذكور في تاريخ القرن السالف خلفه على الراجح جيورجيوس على ما روى السمعاني في ما كتبه إلى طابعي تراجم القديسين، وجيورجيوس خلفه بطرس سنة 1053 كما روى لكويان، وعمل بالعادة القديمة بأن كتب إلى البابا لاون التاسع، وإلى بطاركة المشرق، وكتب ميخائيل شيرولاريوس البطريرك القسطنطيني إلى هذا البطريرك منددا بطقوس اللاتينيين وعاداتهم، فأجابه مدافعا عن هذه الطقوس ومنزها نفسه عن كل انشقاق عن الكنيسة الرومانية، وخلف توادوسيوس بطرس المذكور، وقام بعد توادوسيوس إميليانس في أيام الملك ميخائيل السابع الذي استوى على منصة الملك سنة 1067، ولما أتى إسحق ألكسيس أخو الملك ألكسيس كومنانوس سنة 1081 قبله البطريرك في بستانه في ظاهر المدينة، فنهاه الأمير عن الدخول إليها وأرسله إلى اللاذقية، وأمره أن يمضي إلى القسطنطينية وقام بعده نيقوفور، قال زوناراس: إنه كان سنة 1089.
ورقي إلى الكرسي الأنطاكي بعد نيقوفور يوحنا الرابع، وكان في أنطاكية لما بلغت إليها جيوش الإفرنج سنة 1098، ولما فتحوها ولم يكن يألف عادات اللاتينيين مضى إلى قسطنطينية، فلم يقم اللاتينيون له خلفا مدة حياته؛ لئلا يكون أسقفان على كرسي واحد، ويظهر أنه بقي حيا إلى سنة 1103، وهذا هو البطريرك الذي جرت مكاتبات بينه وبين توما أسقف كفرطاب في شأن الاعتقاد بمشيئتين وطبيعتين في المسيح، فجمع البطريرك أقوال الآباء والمجامع المثبتة أن في المسيح مشيئتين وفعلين، فادعى توما أن يرد كلامه بكتاب قسمه إلى عشر مقالات، وهذا الكتاب مشهور وكان هذا الجدال سنة 1400 لإسكندر الموافقة سنة 1089م.
وأما بطاركة أورشليم فكان منهم بعد إرميا الذي سمل الحاكم بأمر الله عينيه توافيلس، الذي شرع في تجديد كنيسة القبر المقدس بعد تدمير الحاكم بأمر الله لها، ولم يكمله بل أكمله نيقوفور خليفته، وقال دوزيتاس في جداول بطاركة أورشليم إن الكرسي الأورشليمي ظل فارغا من بطريرك إحدى عشرة سنة، وأن نيقوفور المذكور خلف توافيلس، وكان في سنة 1024 بطريرك في أورشليم يسمى أرسانيوس، ولا يعلم في أية سنة توفي، وكان بعده يوردانس في سنة 1033، وجاء في كتب بعضهم أن صفرونيوس الثاني كان سنة 1059، وجاء في الجداول اللاتينية أن أوتيميوس خلف صفرونيوس الثاني وسمعان خلف أوتيميوس، وفي أيام سمعان أتى بطرس السائح الإفرنسي سنة 1094 إلى أورشليم، ففاوضه البطريرك مليا في أمر استنقاذ أمراء المغرب الأرض المقدسة، ولما بلغه وصول عساكر الإفرنج إلى أنطاكية سنة 1098 انتقل إلى قبرس، وأرسل هدايا إلى الإفرنج، لكنه توفي سنة 1099 بعد افتتاحهم أورشليم، فأقاموا بطريركا لاتينيا واستمر أهل البلاد يقيمون بطاركة منهم. (2) في بعض من عرفناهم من أساقفة سورية في القرن الحادي عشر
من هؤلاء سرجيوس أسقف دمشق اعتزل الأسقفية، وسار إلى رومة فقضى ما بقي من حياته في السيرة الرهبانية، وكان في أيام البابا بيوس التاسع الذي استوى على منصة الرياسة من سنة 1033 إلى سنة 1048، وذكر لكويان في المشرق المسيحي سابا أسقف صور، وقال: إنه انتخب بطريركا على أورشليم، ولكنه لم يذكر سابا في عداد بطاركة أورشليم في هذا القرن، وكان في هذا القرن أيضا على الأظهر سامونا أسقف غزة، واشتهر سنة 1072 وله مناظرة مع رجل مسلم اسمه أحمد في وجود جسد المسيح في القربان الأقدس حقيقة، وهذه المناظرة شهيرة ومثبتة في التأليف الموسوم بالدفاع عن اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية دائما بسر الأوخارستيا (مج1 ك3 فصل 26)، وقد لخصناها في تاريخنا الكبير (مجلد 5 صفحة 561).
وكان منهم أيضا المطران داود الماروني، وقد ترجم من السريانية إلى العربية كتابا كان أحد آباء الطائفة المارونية قد ألفه وعني المطران داود بترجمته سنة 1059، وهذا الكتاب يسمى تارة كتاب القوانين، وتارة كتاب الهدى أو الهداية وقد أخذ العلامة السمعاني نسخة منه من المشرق، فوضعه في المكتبة الواتيكانية في عدد 76 من الكتب العربية، وهو يشتمل على ثلاثة وخمسين عنوانا، وقد عبث بهذا الكتاب توما أسقف كفرطاب المار ذكره، فزاد عليه ما يظهر منه أن الموارنة يقولون بمشيئة واحدة في المسيح توسلا لغرضه أن يطغي الموارنة بهذا الضلال ... مع أنه في نسخ هذا الكتاب السالمة من التحريف ما يخالف ذلك صراحة.
ونلحق بذكر هؤلاء الأساقفة ذكر القس عبد الله بن الطيب المكنى أبا الفرج، فهذا ذهب العلامة الدويهي أنه كان مارونيا أصلا وتغرب إلى بلاد العراق، فصار نسطوريا، وذهب إلى أن في المسيح مشيئة واحدة، ولكن خالف السمعاني الدويهي في رأيه أنه كان مارونيا متابعا ابن العبري في تاريخه السرياني أنه كان عراقيا ونسطوريا وكاتبا لإيليا الأول بطريرك النساطرة، ومهما يكن من الخلاف في أصله فهو عالم مشهور، وله تآليف كثيرة، منها تفسيره للعهدين القديم والحديث في العربية، وكتاب عنوانه فردوس النصارى اشتمل على مباحث موجزة في العهدين، وتفسيران للأناجيل أحدهما بالمعنى الحرفي والثاني بالمعنى المجازي، ثم مجموعة للقوانين الشرقية والغربية ومقالة في التوبة، ومقالات في الإرث، وكتاب في شرف الصوم والصدقة والصلاة، ومقالة يندد بها بمن يسمون العذراء والدة الله ومقالة في التثليث، وله أيضا تفسير كتب أرسطو، وقد توفي سنة 1043، وله تلميذ يسمى ابن بطلان وهو طبيب نصراني بغدادي، وخرج عن بغداد وأقام بحلب مدة، ثم سار إلى مصر، وجرت منافرة بينه وبين ابن رضوان الفيلسوف المصري، فسار إلى أنطاكية وانقطع عن العالم في بعض الأديرة، وترهب ثم توفي سنة 1053، والمشهور من تصانيفه كتاب تقويم الصحة، وكتاب دعوة الأطباء ورسالة في اشتراء الرقيق، وتنديد بابن رضوان المذكور في رسالة ذات سبعة فصول، وذكره السمعاني (في مجلد 3 من المكتبة الشرقية صفحة 546)، وقال: إنه كان يعقوبيا لا ملكيا كما وهم رينودوسيوس.
الفصل الحادي عشر
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
في ما كان من الأحداث في هذا القرن (1) في حصار الإفرنج أنطاكية وفتحهم لها
إن جل تاريخ سوريا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر إنما هو أخبار حملات الإفرنج المعروفين بالصليبيين على سورية، ومغالبات المسلمين لهم على ملكها وانتزاعها من أيديهم، فإنهم في آخر القرن الحادي عشر تألبوا من كثير من ممالك أوروبا، وزحفوا إلى سورية فكان وصولهم أولا إلى أنطاكية سنة 1097، فحاصروها مدة ثمانية أشهر وافتتحوها في آخر حزيران سنة 1098، وكان واليها باغي سنان من قبل الملوك السلجوقيين وأحسن الدفاع عنها، ولكنه فر منها لما دخلها الإفرنج وسقط مغشيا عليه في ظاهرها، وتركه أصحابه واجتاز به رجل أرمني، فقطع رأسه وأخذه إلى الإفرنج، وكانوا قبل فتحهم لها تراكمت النوائب عليهم من قلة الزاد، وفشاء الوباء بينهم وكثرة الأمطار وشدة البرد، وبعد أن استحوذوا على المدينة حشد أميرا حلب ودمشق وغيرهما من الأمراء عشرين ألف فارس، فخرجت إليهم نخبة من جنود الإفرنج، فهزموهم وقتلوا منهم نحو ألفي رجل.
وعكف الإفرنج بعد ذلك على الطرب والقصف، وأقاموا مراقص فجمع كربوغا صاحب الموصل عسكره، وسار فحل بمرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تتش صاحب دمشق المار ذكره، وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهم من الأمراء، وحاصروا أنطاكية فعظم خوف الإفرنج، ولم تكن لهم أزودة وطلبوا من كربوغا الأمان، فلم ينالوه وأساء كربوغا السيرة في من معه، فخبثت نيتهم عليه وأضمروا له الغدر، فخرج الإفرنج واقتتلوا مع المسلمين ، فولى هؤلاء هاربين دون أن يضرب أحدهم بسيف ولا طعن برمح أو رمى بسهم، وانهزم كربوغا معهم، فظن الإفرنج ذلك مكيدة فلم يتتبعوا آثارهم بل قتلوا كثيرين ممن أدركوهم، وغنموا ما كان لديهم من الأقوات والسلاح، ولم يكن الإفرنج ملكوا القلعة، بل كان فيها حامية من المسلمين لما رأوا ما حل بعسكر كربوغا استسلموا إلى الإفرنج، وتنصر بعضهم وذهب بعضهم يروون ما رأوا من سطوة الإفرنج وصولتهم، فملك الرعب قلوب السوريين، ووجد الإفرنج حينئذ في أنطاكية الحربة التي طعن بها جنب المسيح وهو على الصليب، وتؤيد ذلك بآيات صنعها الله بواسطة الحربة أتينا على تفصيلها في تاريخنا المطول (مجلد 6 صفحة 23). (2) في مسير الإفرنج من أنطاكية إلى أورشليم
بعد أن استحوذ الإفرنج على أنطاكية فتحوا المعرة وحمص وشيزر، وسار غودفروا رئيسهم بالجيش من أنطاكية في أوائل آذار سنة 1099، فاجتازوا باللاذقية وجبلة وطرسوس فدانت لهم وخيموا حول عرقا وحاصروها، فأقبل عليهم وفد من قبل الخليفة الفاطمي بمصر يبلغهم أن عساكره استحوذت على أورشليم وفلسطين، ولا يستطيع أن يفتح أبواب أورشليم إلا لحجاج أعازل لا سلاح لهم، فرفعوا الحصار عن عرقا، وأسرعوا بالمسير إلى أورشليم فاجتازوا بجانب أطرابلس، وأراد واليها أن يعترض مرورهم فهزموه وأصحابه، وأقبل إليهم جمع من النصارى سكان لبنان وهدوهم إلى ثلاث طرق يسيرون بها إلى أورشليم إحداها على ساحل البحر، والثانية في وسط البلاد والثالثة بسورية المجوفة، فآثروا طريق الساحل لقربها من إسطول بيزا وجنوا الذي كان يمدهم في مسيرهم، فمروا بالبترون وجبيل، وكان نصارى لبنان يقدمون لهم الأزودة وكان الحبسى يخرجون من محابسهم، ويأتون إليهم داعين لهم، وعند مرورهم ببيروت وصيدا وصور قدم لهم المسلمون ما يحتاجون إليه؛ كيلا يسطوا عليهم، ولما انتهوا إلى عكا خرج إليهم واليها واعدا، ومقسما أنه يسلم إليهم المدينة متى فتحوا أورشليم فجاوزوها، وساروا إلى قيصرية فلسطين، وأقاموا بها أربعة أيام لعيد النصرة ، واستحوذوا على اللد والرملة في طريقهم.
ولما عرف المسلمون بدنوهم من أورشليم هاجوا، واجتمعوا من عدوتي الأردن ونابلس إلى أورشليم ونكلوا بطريقهم بالنصارى، ونهبوا الكنائس، وبلغ الإفرنج إلى بيت المقدس وكان قبلا لتتش والي سورية ملكه من يد الفاطميين أصحاب مصر، فاسترده الفاطميون منه واستنابوا فيه رجلا يعرف بافتخار الدولة، فحاصره الإفرنج نحو أربعين يوما وملكوا المدينة، ولبثوا أسبوعا يقتلون فيها المسلمين واعتصم جماعة منهم بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيام فبذل لهم الإفرنج الأمان، فخرجوا ليلا إلى عسقلان وأقاموا بها، وقتل الإفرنج خلقا كثيرا من المسلمين في الجامع الأقصى، وانتهبوا ما كان بالصخرة والجامع الأقصى من قناديل الذهب والفضة إلى غير ذلك من الغنائم، وكان ذلك سنة 1099، ووقع الخلف بين السلاطين السلجوقية، فتمكن الإفرنج من البلاد واختاروا ملكا لأورشليم غودفروا دوك لوران، فكان أول ملك من الإفرنج عليهم. (3) في ما كان في أيام غودفروا إلى وفاته
لما بلغ الخليفة الفاطمي بمصر ما أجراه الإفرنج على أهل القدس أرسل الأفضل أمير الجيوش إلى عسقلان، فأرسل يهدد الإفرنج، فأعادوا الرسول بالجواب وساروا في أثره فالتقاهم المصريون ولم يكونوا متأهبين للقتال، فهزمهم الإفرنج وقتلوا جماعة منهم، واستتر جماعة بشجر الجميز فأحرق الإفرنج بعض الشجر، فهلك من فيه وعاد الأفضل قائدهم إلى مصر، وضايق الإفرنج عسقلان فبذل لهم أهلها قطيعة من المال فعادوا إلى القدس.
وأرسل غودفروا تنكراد إلى الجليل، فاستحوذ على طبرية وعدة مدن على ضفتي الأردن ونصب حاكما فيها، وقدم بودوين كنت الرها أخو الملك غودفروا وبيومند أمير أنطاكية لزيارة أورشليم، ومعهما جم غفير فاغتنم غودفروا فرصة وجود الأمراء اللاتينيين بأورشليم ليسن نظاما لتدبير مملكته الحديثة، وجمع رجالا علماء وأتقياء لوضع هذا النظام على منهاج سنن الإفرنج، ومن هذا النظام أن يكون الملك في أورشليم واحدا يتصل إليه الملك بالإرث، ولو كان الوارث أنثى، وإن لم يكن وارث فلعلية الإكليروس ورؤساء أصحاب الإقطاعات أن يختاروا ملكا.
وكان غودفروا يأتي متواترا لنجدة تنكراد في حروبه مع أمراء الجليل، واتصل أحيانا بحملاته إلى ما وراء لبنان حتى دمشق وغزا حوران وعاد ظافرا، ولكن اعتراه مرض عند عوده من إحدى حملاته لازمه ثلاثة أسابيع ، فقضى مزودا بالأسرار المقدسة في 17 تموز سنة 1100 ودفن في كنيسة القبر المقدس. (4) في الملك بودين أخي غودفروا وبعض الأحداث في أيامه
بعد وفاة غودفروا اختار رؤساء الجنود والشعب بودوين أخاه ملكا على أورشليم، وكان أميرا في الرها فتخلى عن إمارتها لابن عمه بودوين دي بورج، وعند مسيره إلى أورشليم اعترض له في طريقه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، والتقى الفريقان في معبر نهر الكلب، فانتصر بودوين عليهم، وخرج للقائه الشعب والإكليروس من أورشليم، وأدخلوه كنيسة القيامة باحتفاء عظيم.
ولم يلبث في أورشليم إلا أسبوعا وألب فرسانه ونخبة جنوده وسار نحو الخليل والبحر الميت، حتى انتهى إلى البرية، ولم يجد معارضا فعاد إلى أورشليم عاكفا على تدبير شئون ممكلته حتى كان يصرف كل يوم ساعات في فصل دعاوى مسوديه، ولم يكن ذلك يعوقه عن حملاته على بلاد المسلمين، وفتح أرسوف وقيصرية فلسطين، وحارب المصريين في سهول حيفا فانتصر عليهم نصرا مبينا، وبين كان مرافقا بعض الحجاج إلى يافا خرج عليه بعض أعدائه من عسقلان، وأصلوا عليه نار الحرب وليس معه إلا مائتا فارس وقليل من الرجالة فاقتحم القتال، وكان أعداؤه نحو عشرين ألفا، فأرغم أن يهرب إلى الرملة ولم يكن بها في مأمن، فهداه رجل مسلم إلى طريق خفي نجا به، وكان هذا الرجل زوج امرأة وجدها بودوين مطلوقة، فلطف بها وأقام لها جارية تخدمها وتسير معها بعد ولادتها إلى زوجها، فأراد هذا الرجل مكافأته عن صنعه إلى امرأته.
وعاد بودوين بسفينة إلى يافا وضوى إليه عسكر شديد، فهاجم أعداءه وبدد شملهم، وفي سنة 1104 استعان بودوين بالزائرين الذين أتوا من بنيزا وجنوا فافتتح عكا، فراع هذا الفتح المسلمين في دمشق وعسقلان ومصر، وظهر أسطول مصري تجاه يافا وزحف جيش من عسقلان إلى صحارى الرملة فهب الإفرنج لمناوأتهم، وخرج بودوين من يافا فأوقد نار الوغى عليهم، فقتل أمير عسقلان وخلق كثير، وغنم الإفرنج كثيرا من خيلهم وجمالهم ومالهم وعادوا إلى يافا، فيئس أصحاب الأسطول المصري من الفوز، وأقلعوا فسار بهم عاصف فغرق بعض سفنهم.
وقد حصر الإفرنج أطرابلس مرات من سنة 1102 إلى سنة 1110، حين سار برتران بن ديموند كنت سان جيل إلى المشرق ومعه سبعون سفينة من جنوا، فهاجم أولا جبيل فملكها ثم سار لحصار أطرابلس وأتى بودوين الملك يعاونه وضايقوا المدينة، فلم ينجدها أحد فاستسلم أهلها إلى الإفرنج بشرط أن يكونوا أحرارا، فمن شاء الخروج خرج بما يمكنه حمله، ومن شاء البقاء لزمه دفع الجزية، فأمست أطرابلس وعرقا وطرطوس وجبلة عملا من أعمال الإفرنج، وتولاه برتران بن ديموند كنت سان جيل خاضعا لملك أورشليم، وبعد ذلك جمع بودوين عساكره حول بيروت وحاصرها شهرين، فاستسلم أهلها إليه، وكان سيكور ابن ملك نورنج حضر إلى أورشليم بعشرة آلاف رجل من مملكته، فسار أسطول سيكور إلى صيدا، واحتاطها بودوين وكنت أطرابلس ستة أسابيع، فسلم أهلها مفاتيح مدينتهم إلى بودوين بشرط أن يخرج منها من أراد بما يمكنه حمله، فخرج منهم خمسة آلاف واستمر الباقون خاضعين لملك أورشليم.
وفي سنة 1112 جهز السلطان محمد السلجوقي جيشا لقتال الإفرنج، فحصروا قلعة تل باشر من أعمال حلب ولم يبلغوا منها غرضا، فرحلوا عنها إلى حلب، فأغلق صاحبها الملك رضوان أبوابها، ولم يشأ أن يجتمع بهم فرحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق فاطلع على خبث نيتهم في حقه، وخاف أن يأخذوا منه دمشق، فهادن الإفرنج سرا فتفرقت عساكر المسلمين وبقي بعضهم في المعرفة، فطمع بهم الإفرنج فرحل المسلمون إلى شيزر، فتبعهم الإفرنج إليها ورأوا قوة المسلمين، فعادوا إلى أفاميا (قلعة المضيق)، وفي سنة 1114 اجتمع بعض الأمراء المسلمين، ومعهم طفتكين صاحب دمشق والتقوا في سلمية، وساروا جميعا إلى الأردن ودخلوا بلاد الإفرنج، فالتحم القتال عند طبرية فانهزم الإفرنج، وكثر القتل فيهم وأسر ملكهم بودين وأخذ سلاحه، ولكن لم يعرف فأطلق، ثم نجد عسكر أطرابلس وأنطاكية الإفرنج، فقويت نفوسهم وعاودوا الحرب وأحدق بهم المسلمون من كل جهة، فصعدوا على جبل في غربي طبرية، فاعتصموا به ستة وعشرين يوما، فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الإفرنج بين عكا والقدس، وقتلوا من ظفروا به من النصارى ثم عاد الأمراء المسلمون عن القتال.
ودار في خلد الملك بودوين أن يحمل على مصر، فحمل عليها سنة 1118 ووصل إلى الفرما ظافرا غانما، ولكنه أصيب بمرض وحملوه بمحفة إلى العريش وهناك توفي مزودا الأسرار المقدسة، ونقلوا جثته إلى القدس فدفن في 26 آذار سنة 1118. (5) في بودوين الثاني وبعض ما كان في أيامه
بعد وفاة بودوين الأول اختار إكليروس أورشليم وشعبها بودوين دي بورج كنت الرها من أنسباء الملك المتوفى وأقام بكنتية الرها عوضا عنه جوسلان دي كورتناي، ولم تنته حفلات إقامة الملك إلا تألبت جموع من المسلمين من فارس والجزيرة وسورية، وزحفوا إلى عدوة العاصي بإمرة إيلغازي بن ارتق والي ماردين، فكانت وقعة سنة 1120 بأرض حلب انهزم فيها الفرنج، وقتل منهم جماعة كثيرة وأسر كثيرون، ولم يكن بودوين في هذه الوقعة بل وصل إلى أنطاكية بعدها، فحمل ثانية على أعدائهم فهزم إيلغازي والي ماردين ودبيس قائد العرب، وأمن بودوين أنطاكية وأعمالها وعاد إلى أورشليم.
وكان إيلغازي المذكور أقام ابنه سليمان واليا بحلب، ففي سنة 1122 عصى أباه بمكيدة من ابن قرناص الحموي، فهجم إيلغازي على حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه، وسمل عينيه وهرب ابنه إلى طفتكين بدمشق، فاستناب أبوه على حلب ابن أخيه واسمه سليمان أيضا، وفي السنة المذكورة كبس بلك ابن أخي إيلغازي جوسلين كنت الرها؛ ليستفك الأسرى فاستفزه كرم أخلاقه على اقتحام المخاطر، فوقع أسيرا بيد بلك المذكور وصار شريكا لمن عني بتخليصهم، فحملت النخوة خمسين رجلا من أرمينية على إنقاذ الملك وجوسلان، فدخلوا القلعة التي كانا بها وقتلوا الحامية التي كانت بها، ولكن أحاط المسلمون بالقلعة، وتمكن جوسلان أن يفر منها ومن الرها لينقذ الملك الأسير الذي كان قد نقل إلى قلعة حران، واغتنم المصريون فرصة أسر الملك، فأرسلوا جيشا إلى صحراء عسقلان قاصدين أن يزيحوا الإفرنج عن فلسطين، فخرج النصارى من أورشليم فبددوا شملهم، وأما الملك بودوين فافتدى نفسه بمال وخلى سبيله، فجمع عسكرا وزحف به إلى حلب وضايقها حتى أوشك أهلها أن يستسلموا إليه، ولكن نجدهم أمير الموصل، فاضطر بودوين أن يرفع الحصار، ويعود إلى أورشليم وانتشر عسكر المسلمين في إمارة أنطاكية، فهب راجعا في نخبة من فرسانه فهزمهم من أملاك الإفرنج، وهجم عليها طغتكين من دمشق فقاتله بودوين وأرغمه على أن ينكص إلى دمشق.
وبقيت صور كل هذه المدة في حوزة الخلفاء الفاطميين بمصر، فهم الإفرنج بأخذها فسلم الخليفة أمرها إلى طغتكين صاحب دمشق، وحاصرها الإفرنج ومعهم دوك البندقية، فلم يقو طغتكين على مناصبتهم بل سلمها إليهم على شريطة أن يخرج الجند والأهلون منها بما يقدرون على حمله من أموالهم، فتسلمها الإفرنج سنة 1125، وتوفي بودوين في 21 آب سنة 1130 وقيل: سنة 1131 ودفن في كنيسة القيامة، وكان تقيا ورعا وهماما. (6) في الملك فولك دي إنجو وبعض ما كان في أيامه
بعد دفن بودوين الثاني اختار الرؤساء والأعيان فولك دي إنجو، وكان متزوجا بابنة بودوين الثاني، وتوجه البطريرك الأورشليمي في 14 أيلول سنة 1132، ومما كان في أيامه أن أقسنقر البرسقي صاحب الموصل كان قد تولى حلب، فقتله الباطنية في الموصل، وكان قد أقام ابنه مسعودا واليا بحلب، وبعد مقتل أبيه سار إلى الموصل وملك فيها واستخلف على حلب أميرا اسمه قيماز، ثم استخلف بعده رجلا اسمه قتلغ فخلعه أهل حلب، وولوا عليهم سليمان بن عبد الجبار، ولما سمع باختلاف أهل حلب سار جوسلان إليهم فصانعوه بمال ورحل عنهم، ومات مسعود بن البرسقي أمير الموصل، فولى السلطان محمود السلجوقي عماد الدين زنكي على الموصل وما يليها، فأرسل عسكرا إلى حلب فأطاعه أهلها فأصلح بين قتلغ وسليمان بن عبد الجبار، ولم يول أحدهما على حلب بل سار بنفسه إليها وملك منبج في طريقه، ورتب أمور حلب وسمل عيني قتلغ فمات، ومما كان في دمشق في أيام فولك أنه بعد موت طغتكين أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان خلفه ابنه تاج الملوك نوري، فتغلب عليه وعلى المملكة الإسماعيلية، ووزيره طاهر بن سعد حتى صار الحكم لهم، وكاتب الوزير الإفرنج بأنه يسلم إليهم دمشق إذا سلموا إليه صور، وعلم الأمير تاج الملوك بذلك فقتل وزيره، وأمر بقتل الإسماعيلية الذين بدمشق فقتل منهم ستة آلاف، ووصل الإفرنج في الميعاد وحصروا دمشق، فلم يظفروا بمأرب فرحلوا عنها، وخرج تاج الملوك في أثرهم فقتل جماعة منهم.
وكان عماد الدين زنكي قد استنجد صاحب دمشق على الإفرنج، فأرسل إليه ابنه سوفج الذي كان نائبا عنه بحماة، فغدر زنكي به واعتقله وجماعة من عسكره بحلب، وسار زنكي إلى حماة فملكها وسار منها إلى حمص وحاصرها، وكان قد غدر بصاحبها وقبض عليه وأمره أن يأمر عسكره بتسليم حمص إليه فلم يمتثلوا أمره، ولما يئس زنكي من فتح حمص عاد إلى الموصل، واستصحب معه سوفج ابن صاحب دمشق وبعض أمرائها، وفي سنة 1131 عاد زنكي من الموصل وقصد حصن الأثارب القريب من حلب، فاتقع مع الإفرنج فهزمهم وقتل منهم وأسر وخرب الحصن المذكور وبقي خرابا إلى الآن، وفي سنة 1133 توفي تاج الملوك صاحب دمشق وعهد بالملك بعده إلى ابنه شمس الملوك إسماعيل، وأوصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد، فكان خلاف بين الأخوين، وسنة 1134 سار إسماعيل إلى بانياس فملكها على غفلة من الإفرنج وقتل منهم، وأسر ثم سار إلى حماة وهي لعماد الدين زنكي فملكها عنوة، ثم سار إلى شيزر وهي لبني منقذ فنهب بلدها وحاصر القلعة وصانعه صاحبها بمال، فعاد إلى دمشق وقتل أخاه سوفج المذكور فعظم ذلك على الناس فنفروا منه.
وفي سنة 1135 أخذ شمس الملوك حصن الشقيف في وادي التيم من ابن الضحاك، فعظم ذلك على الإفرنج؛ لأنهم كانوا راضين عن ابن الضحاك فقصدوا حوران، فأغار شمس الملوك على بلادهم من جهة طبرية فوقعت الهدنة بينهم وبين الإفرنج، وفي سنة 1136 قتل شمس الملوك غيلة فملك بعده بدمشق أخوه شهاب الدين محمود، وفي سنة 1137 تسلم مدينة حمص وأعطى أصحابها أولاد الأمير قير خان بن قراجا تدمر عوضا عنها، فأغار عسكر عماد الدين زنكي المقيم بحلب على بلاد حمص، ونازل زنكي حمص سنة 1138 فلم ينل منها مأربا فانصرف إلى بعرين، وهي بيد الإفرنج وضيق عليها فقاتله الإفرنج، ثم انهزموا واعتصم بعضهم بحصن فحصره زنكي إلى أن طلب الإفرنج الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن وأخذ منهم خمسين ألف دينار وفتح حينئذ المعرة، وأخذها من الإفرنج، وفي سنة 1139 سار زنكي إلى حماة ومنها إلى بقاع بعلبك فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق وعاد إلى حمص وحصرها ثانية، ثم رحل عنها إلى سلمية ثم عاد إلى حمص فتسلمها، وأرسل فخطب أم شهاب الدين صاحب دمشق طمعا بأن يتولى دمشق، ولما خاب أمله في ذلك أعرض عنها.
وكان الملك يوحنا كمنانوس قد حمل على سورية سنة 1138، ففتح ترسيس وأدنة وما جاورهما وخيم على أبواب أنطاكية، فارتاع ريموند صاحبها واستنجد ملك أورشليم، فلم يستطع أن ينجده، فسلم ريموند أنطاكية إلى ملك الروم وأقر بسيادته ووعده الملك أن يلحق بإمارة أنطاكية كل ما يأخذه من المسلمين، وسار الملك إلى حلب وحاصرها أياما ثم خاف حصول مجاعة في عسكره، فرفع الحصار عن حلب واكتفى بأخذ بعض القرى المجاورة لها، ورحل إلى شيزر فاعتصم المسلمون بأسوارها يدافعون عن بلدهم، فلم يقو الروم على فتحها واستحوذوا على بعض ضواحيها، وقدم له أهل شيزر تقادم نفيسة فرحل عنهم إلى أنطاكية، وسأل أميرها أن يقيم بها حامية من قبله، فثار سكان المدينة وحملوا سلاحهم، وقتلوا بعض حاشية الملك، فوارى مقصده وطيب قلوب الثائرين، وعاد إلى القسطنطينية وفي قلبه حزازات من أهل أنطاكية.
وعاد ملك الروم إلى سورية سنة 1142، واستأنف طلبه من أمير أنطاكية أن يقيم حامية من قبله فأبى ريموند الإجابة، فأوعز الملك إلى جنوده فنهبوا بلاد أنطاكية وقطعوا أشجارها، وأتلفوا مزارعها فزاد كره الناس له وأراد أن يزور أورشليم فخشي فولك ملكها الخديعة له، وأجاب ملك الروم أنه يتعذر عليه أن يقيم بأزودة جيش الملك، فإن شاء أن يحضر بقليل من عسكره قبله بالتجلة والاحتفاء، فأدرك ملك الروم سبب رفض قبوله في أورشليم ، وقفل إلى كيليكية فمات بها سنة 1143، ثم توفي فلك ملك أورشليم سنة 1144. (7) في بودوين الثالث وبعض ما كان في أيامه
بعد وفاة فولك انتخب ابنه بودوين الثالث، ولم يكن له من العمر حينئذ إلا ثلاث عشرة سنة، ومما كان في أيامه أخذ عماد الدين زنكي أمير الموصل وحلب الرها وسروج وغيرها من يد الإفرنج سنة 1145، وكان حاكمها وقتئذ جوسلين الثاني، ولما قتل زنكي سنة 1147 استردها جوسلين، ولكن أرغمه نور الدين بن زنكي على تركها، وقبض على جوسلين وسجنه بحلب حيث توفي سنة 1149، وفي سنة 1145 كانت حملة الإفرنج الثانية على سورية ودعا إليها القديس برنردوس الشهير، وكان برأس المتجندين لويس السابع ملك إفرنسة وكونوراد ملك ألمانيا، فأذاقهم الروم والأتراك الأمرين في طريقهم من القسطنطينية إلى أورشليم حتى أبادوا السواد الأعظم من عسكر ألمانيا، وخلقا كثيرا من عسكر إفرنسة، وبعد وصول الملكين إلى أورشليم تقرر العزم على محاصرة دمشق، فسارت عساكر الإفرنج إليها وحصرتها سنة 1149، وحاكمها حينئذ مجير الدين أبق بن محمد بن نوري بن طغتكين المار ذكره، وصبر المسلمون على القتال لكنهم انهزموا إلى المدينة واتصل ملك الألمان إلى أن حل بالميدان الأخضر، وأيقن سكان دمشق بعجزهم عن الدفاع، ولكن وقع الخلاف بين الإفرنج على من يتولى دمشق، وورد الخبر بأن أميري الموصل وحلب قادمان لنجدة دمشق، فرحل الإفرنج عن دمشق إلى فلسطين، وعاد ملك ألمانيا إليها خجلا آسفا ثم عاد ملك إفرنسة أيضا إلى بلاده دون أن يصنع شيئا يذكر، وملك الإفرنج بعدئذ مدينة عسقلان التي كانت قد استمرت تحت ولاية الخلفاء الفاطميين، وكان ذلك سنة 1154.
وفي سنة 1155 أخذ نور الدين محمود بن زنكي دمشق من صاحبها مجير الدين المذكور، وأعطاه عوضا إقطاعا في جملته حمص، ولما سار إلى حمص أعطاه بدلها بالس فلم يرضها وأقام ببغداد، وفي سنة 1158 كانت زلازل بسورية خربت بها حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفامية وحمص، وحصن الأكراد وعرقا واللاذقية وأطرابلس وأنطاكية، وفي سنة 1162 سار بودوين الثالث إلى جهات أنطاكية فأصابته حمى شديدة، فحملوه إلى أطرابلس ثم إلى بيروت فتوفي بها في 13 شباط، فحملوا جثته إلى أورشليم ودفنوها في مدفن أسلافه. (8) في أموري الأول وبعض ما كان في أيامه
بعد وفاة بودوين الثالث اختير للملك أخوه أموري، ويسمى الماريك أيضا وتوج في 18 شباط سنة 1162، ومن الأحداث في أيامه أن نور الدين بن زنكي قصد أطرابلس سنة 1164، ونزل في البقيعة وكبسه الإفرنج فانهزم إلى بحيرة حمص، وكان شاور وزير العاضد لدين الله الخليفة الفاطمي قد هرب إلى حمص، فاستنجد نور الدين ليعود إلى وزارته فأرسله نور الدين إلى مصر، وأصحبه بشيركوه أحد أمراء عسكره ومعه عسكر من سورية، فقتلوا ضرغام الذي كان قد تغلب على الوزارة بمصر، وأعادوا شاور إلى الوزارة، ثم غدر شاور بنور الدين وأخلف وعده بأن يبذل له ثلث أموال مصر، فأرجع نور الدين شيركوه إلى مصر واستحوذ على بلبليس والمديرية الشرقية، فاستنجد شاور بملك الإفرنج فنجده وحاصر عسكره بلبليس فحاصر نور الدين حارم بسورية، وأخذها وقتل وأسر من الإفرنج، وكان في جملة الأسرى صاحب أنطاكية، وصاحب أطرابلس من الإفرنج فاضطر الإفرنج إلى مصالحة شيركوه، وعاد هو والإفرنج من مصر إلى سورية، وفتح نور الدين بانياس وحصن المنيطرة وغيرهما من أملاك الإفرنج، وجهز عسكرا إلى مصر أمر عليه شيركوه، وكان معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فانتصر شيركوه على المصريين والإفرنج، وأخذ بعض أعمال مصر وملك الإسكندرية وجعل فيها صلاح الدين ابن أخيه المذكور، فحاصره المصريون فيها ثم صالحوه على ترك الإسكندرية وعود عساكر سورية إليها، واتفق الإفرنج والمصريون على أن تكون شحنة من الإفرنج بالقاهرة، ويكون لهم من دخل مصر مائة ألف دينار كل سنة، وفتح نور الدين صافيتا سنة 1168.
وفي سنة 1169 أعاد نور الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لاستغاثة الخليفة الفاطمي به لطرد الإفرنج من مصر، ولما قرب شيركوه من مصر ارتحل الإفرنج عنها، وقتل صلاح الدين شاور الوزير؛ لأنه أحس بسوء نيته في حق عمه شيركوه وأرسل رأسه إلى العاضد؛ لأنه كان متغيرا عليه فخلع العاضد على شيركوه وجعله وزيرا مكان شاور، لكنه لم يعش في الوزارة إلا شهرين ومات، فجعل العاضد صلاح الدين مكانه ، فطلب أباه وأهله إلى مصر وأعطاهم إقطاعات بها، وتمكن بالبلاد وضعف أمر العاضد، وفي سنة 1172 أمر نور الدين أن يقطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ويخطب للعباسيين، ففعل صلاح الدين كما أمر، ثم توفي العاضد فاستحوذ صلاح الدين على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه فانقرضت بالعاضد دولة الفاطميين ... وكان ابتداء خلافتهم سنة 909 وانقرضت سنة 1172، فمدة خلافتهم 263 سنة.
وأظهر صلاح الدين أنه يلي مصر من قبل نور الدين، ولكن توحش نور الدين منه، وفي سنة 1173 سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وفيها الإفرنج، وسار نور الدين من دمشق إلى الرقيم بقرب الكرك، وخاف صلاح الدين من الاجتماع به، فعاد إلى مصر معتذرا بمرض أبيه، وعلم نور الدين مقصده فعاد إلى دمشق ليجهز حملة إلى مصر فتوفي، وخلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، وتوفي أموري ملك الإفرنج في 11 تموز سنة 1173.
المقال الخامس
في تاريخ سورية في أيام صلاح الدين وخلفائه والمماليك البحرية والجراكسة
الفصل الأول
تتمة في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
(1) في أخذ صلاح الدين سورية
الأظهر أن شيركوه وأيوب أبا صلاح الدين ابني شاذي أصلهما من الأكراد، وخدما في الشحنة السلجوقية ببغداد، وأعطاهما عماد الدين زنكي إقطاعات جليلة، ولما ملك زنكي بعلبك جعل أيوب مستحفظا لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلم القلعة إليهم وأعطوه إقطاعا كبيرا، وبقي من أكبر أمراء عسكر دمشق، وأما شيركوه أخوه فبقي في عسكر نور الدين، فأرسله مع ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر كما مر.
ولما كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صغيرا مقيما بدمشق، كان كثير من الأمراء في حاشيته يتنازعون تدبير المملكة، فأرسل شمس الدين بن الداية المقيم بحلب يستدعي الملك الصالح إلى حلب؛ ليكون مقامه بها فسار إليها ومعه سعد الدين كمشتكين مدبرا لملكه، ولما تمكن كمشتكين بحلب قتل ابن الداية وبعض أعيان حلب، واستبد بتدبير الملك فخافه ابن المقدم الذي كان يدبر الملك بدمشق، واستدعى صلاح الدين إلى دمشق، فسار إليها وخرج إلى لقائه كل من كان فيها من العسكر، ونزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي، وسلم إليه القلعة ريحان مستحفظها من قبل الملك الصالح، وبعد أن قرر أمور دمشق، واستخلف فيها أخاه الملقب سيف الإسلام طغتكين سار إلى حمص، فملكها وترك حول قلعتها من يحافظ عليها ورحل إلى حماة فملكها، ثم سار إلى حلب وفيها الملك الصالح المذكور فحاصرها، وقاتله أهل حلب فنزل الإفرنج على حمص فترك صلاح الدين حصار حلب، وعاد إلى حمص فهزم الإفرنج عنها وسار إلى بعلبك وملكها، وأرسل الملك الصالح يستنجد ابن عمه سيف الدين صاحب الموصل، فجهز جيشا انضم إلى عسكر حلب وقصدوا صلاح الدين، فراسلهم بأن يبذل لهم حمص وحماة وتبقى بيده دمشق، فيكون فيها نائبا للملك الصالح فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا إلى قتاله في جهة حماة، فانتصر عليهم وغنم أموالهم وتبعهم حتى حصرهم بحلب، وقطع خطبة الملك الصالح وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة بمصر وسورية، فصالحوه على أن يكون له ما بيده من سورية وللملك الصالح ما بقي بيده، فأجابهم إلى ذلك ورحل عن حلب سنة 1175.
وفي سنة 1176 كانت وقعة بين صلاح الدين وسيف الدولة صاحب الموصل ابن عم الملك الصالح، فظهر صلاح الدين وانهزم سيف الدولة ومحازبوه، وأخذ صلاح الدين بزاعة ومنبج وإعزاز وعاد إلى حصار حلب، واستقر الصلح بينه وبين الملك الصالح وسيف الدولة صاحب الموصل وغيرهما، وتحالفوا على أن يكونوا عونا على الناكث، وأعطاهم صلاح الدين إعزاز، وقصد بلاد الإسماعيلية فنهبها وأحرقها وحاصر قلعة مصياف، ثم صالح الإسماعيلية وعاد إلى مصر بعد أن استقر له ملك سورية.
أما الإفرنج فقام فيهم بعد موت أموري ملكهم ابنه وسمي بودوين الرابع، ولم يكن عمره حينئذ إلا ثلاث عشرة سنة، وكان يدبر الملك ريموند كنت أطرابلس فغزا في هذه الأثناء الأعمال التي وراء لبنان، واتصلوا إلى داريا على مقربة من دمشق، ثم دخلوا بقاع العزيز ثانية وبلغوا إلى بعلبك، ولما عاد صلاح الدين إلى مصر غزوا بعض الأعمال في ناحية أنطاكية، فاغتنم صلاح الدين هذه الفرصة فسار إلى عسقلان، فنهب وتفرق عسكره في الإغارات، وكان بينه وبين الإفرنج قتال شديد كانت نتيجته انهزام صلاح الدين، وقتل كثيرين من جيشه وأسر بعضهم فتقوى الإفرنج، فحصروا حماة ونائبها شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين، وكادوا يملكونها، ولكن جد المسلمون في القتال، فرحل الإفرنج إلى حارم وحصروها، فأرسل الملك الصالح صاحب حلب إليهم مالا فصالحوه، ورحلوا عن حارم.
وفي سنة 1179 سير صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما واستقر كل منهما ببلده، وفي سنة 1180 عاد صلاح الدين إلى سورية وفتح حصنا للإفرنج قريبا من بانياس، ودكه إلى الأرض، وفي سنة 1182 توفي الملك الصالح بن نور الدين بحلب، وأوصى بملك حلب إلى ابن عز الدين مسعود صاحب الموصل، وبعد أن استقر بها كاتبه أخوه عماد الدين صاحب سنجار أن يعطيه حلب، ويأخذ سنجار واتفقا على ذلك.
وفي سنة 1183 عاد صلاح الدين مرة أخرى إلى سورية، وسار من دمشق إلى قرب طبرية وشن الإغارة على بلاد الإفرنج مثل بانياس وجنين والغور فغنم وقتل، فخرج عليه الإفرنج فقاتلهم صلاح الدين وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم صاحب الرملة ونابلس وصاحب جبيل وصاحب طبرية، وغيرهم من كبار فرسانهم ونجا ملكهم، وكان صلاح الدين قد أمر الأسطول المصري أن يأتي، فيضرب بيروت ووافاهم إليها فحاصرها عدة أيام، لكنه خاف اجتماع الإفرنج عليه فعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الجزيرة فأخذ حران وحصن كيفا والرها والرقة ونصيبين، وحاصر الموصل وملك سنجار، وعاد إلى سورية فاستولى على تل خالد من أعمال حلب وحاصر عيتاب وملكها، وسار إلى حلب فسلمها صاحبها إليه على شرط أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور وغيرها ... فاستلم صلاح الدين حلب، واستلم حارم أيضا واستخلف بحلب ولده الملك الظاهر غازي، وعاد إلى دمشق غانما ظافرا، فدانت له مصر وبلاد العرب والجزيرة وأكثر أعمال سورية، ولم يبق من يخالفه إلا الإفرنج محصورين في وسط أملاكه وله أسطول في شواطئ مصر. (2) وقعة حطين بين الإفرنج وصلاح الدين
ابتلي بودوين الرابع ملك الإفرنج بالبرص، وأمسى أعمى لا يستطيع حراكا، فاختار كوي لوسنيان كنت يافا مدبرا للملك، ثم خلفه وتخلى عن الملك لابن أخته، وسماه بودوين الخامس، ولكن لم يكن عمره إلا خمس سنين، وعين ريموند كنت طرابلس مدبرا للملك وتوفي بودوين الرابع سنة 1185، ثم توفي بودوين الخامس سنة 1186، فاختار البطريرك وبعض الأعيان بأورشليم سيبيلا امرأة لوسنيان المذكور بنت أموري الملك ملكة، وهي أشركت في الملك معها زوجها لوسنيان المذكور، وخالف ذلك كنت طرابلس وغيره من الأعيان واختاروا همفروا زوج إيزابل ابنة أموري الثانية ملكا فأبى، فأغضى المخالفون مكرهين على تمليك لوسنيان وامرأته، فهذه كانت حالة الإفرنج وصلاح الدين واقف لهم بالمرصاد، ومضى ريموند كنت أطرابلس فأقام في طبرية التي كانت لامرأته، وهادن صلاح الدين واتفق معه.
وفي سنة 1187 خالف البرنس صاحب الكرك الهدنة وسطا على قافلة من المسلمين، وأسرهم وطلب صلاح الدين إطلاقهم بحكم الهدنة فأبى، فجمع صلاح الدين سنة 1188 عسكره وسار بفريق منها إلى الكرك وضايقها، وسير ابنه الملك الأفضل بالفريق الآخر إلى جهات عكا، فنهبوا وغنموا كثيرا، ونزل صلاح الدين على طبرية وفتح المدينة، واجتمع الإفرنج فالتقى الجمعان في حطين واشتد بينهم القتال، وأحدق المسلمون بالإفرنج وأبادوهم قتلا وأسرا، وكان من جملة الأسرى الملك لوسنيان صاحب الكرك، وصاحب جبيل وغيرهم، وقتل صلاح الدين بنفسه صاحب الكرك الذي كان سببا لهذه الحرب، وأمر بقتل الفرسان الذين أسروا فقتلوا.
ثم أخذ صلاح الدين قلعة طبرية، وسار إلى عكا وخرج أهلها وطلبوا الأمان، فأمنهم وخيرهم بين الإقامة والرحيل، فاختاروا الرحيل وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وغنم المسلمون ما بقي منها، ودخل عكا وسير عسكره فرقا إلى الناصرة وقيصرية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف وغيرها، فملكتها العساكر وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأرسل ابن أخيه تقي الدين على تينين ؛ ليقطع الميرة عنها وعن صور، وسير حسام الدين بن لاجين إلى نابلس فدخلها، وحصر قلعتها واستنزل من بها بالأمان، ثم سار صلاح الدين إلى تينين وضايقها حتى طلب أهلها الأمان، فأمنهم وسار إلى صيدا فتسلمها دون ممانع وكذلك صرفند، وبلغ إلى بيروت فقاتله أهلها قتالا شديدا لكنهم أرغموا أخيرا أن يطلبوا الأمان فأمنهم ودخل المدينة، وأما جبيل فكان صاحبها في جملة الأسرى، فأحضره صلاح الدين مقيدا فسلم قلعتها، وأطلق الأسرى المسلمين فأطلقه صلاح الدين.
وكان صلاح الدين بعد قهره الإفرنج بحطين قد أرسل يبشر أخاه العادل بمصر، ويأمره بالمسير إلى بلاد الإفرنج فتسارع إلى فلسطين، فأخذ مجدل بابا ويافا، وأجرى على أهلها شديد القسوة، وسار صلاح الدين إلى عسقلان وحاصرها مع أخيه العادل، فامتنع أهلها وصبروا على الدفاع، وكان ملك الإفرنج الأسير معه، فقال له: «إن سلمت إلي هذه المدينة أطلقتك.» فأمر الملك الإفرنج بتسليمها فعصوا أمره، ولكن أكرهوا أخيرا على طلب الأمان، فأمنهم صلاح الدين وسيرهم جميعا إلى بيت المقدس. (3) فتح صلاح الدين بيت المقدس
بعد أن فتح صلاح الدين عسقلان ملك الرملة وغزة والخليل، ثم سار إلى بيت المقدس، وكان فيه صاحب الرملة، ومن نجا من فرسانهم في وقعة حطين، وقد جمعوا وحشدوا وحصنوا المدينة، ولما انتهى صلاح الدين إلى القدس بقي خمسة أيام يطوف حول المدينة؛ ليرى من أين يقاتلها وعمد إلى جهة الشمال، ونصب المنجنيقات وأخذ في الرمي واشتد القتال، وكان فرسان الإفرنج يخرجون كل يوم فيقاتلون في ظاهر البلد إلى أن حمل المسلمون حملة رجل واحد، فأزالوا الإفرنج من مواقفهم وجاوزوا الخندق، والتصقوا إلى السور وأخذوا في نقبه والمنجنيقات تواصل الرمي لتكشف الإفرنج عن الأسوار، فتشاور الإفرنج وأم رأيهم على طلب الأمان، فامتنع صلاح الدين من الإجابة، وحضر صاحب الرملة إليه فاستعطفه، فلم يعطف واسترحمه فلم يرحم، فقال له: «فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا ونبيد مواشينا، ونخرب الصخرة والمسجد الأقصى، ونقتل من عندنا من أسرى المسلمين، ونخرج عليكم مقاتلين قتال من يحمي دمه ، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كراما.» ولما سمع صلاح الدين هذا الكلام استشار أصحابه ، وأجاب إلى بذل الأمان للإفرنج على هذه الطريقة بما أمكن نقله من أموالهم، وأما النصارى غير الإفرنج فطلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من الإقامة في مساكنهم، ويأخذ الجزية منهم فأجابهم إلى ذلك.
وظهر صلاح الدين بهذه النازلة كرم أخلاقه، وإشفاقه على الفقراء والمصابين، ورد على أمهات أولادهن وعلى زوجات بعولهن الذين كانوا أسرى، وترك كثيرين دون أخذ الفداء المتفق عليه، وأبقى الكنائس ولا سيما كنيسة القبر المقدس مقتديا بعمر بن الخطاب، وسمح للنصارى أن يحجوا إلى بيت المقدس بشرط أن يأتوا بلا سلاح. (4) فتح صلاح الدين صور وغيرها
كان الإفرنج قد اجتمعوا بصور وقدم إليها كنراد بن المركيز دي مونتي فراتا، وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان من شياطين الإنس حسن التدبير، وله شجاعة عظيمة، وقد حصن المدينة وقوى قلوب الأهلين، وخيم بجانبها صلاح الدين وعساكره سنة 1189 وحاول فتحها بمعظم الجهد، فلم ينل منها مأربا، فرحل عنها إلى عكا وسار منها إلى قلعة كوكب المطلة على الأردن، فحصرها ورأى الوصول إليها متعذرا، فسار إلى دمشق وترك عليها من يستديم حصارها، وحصار قلعتي صفد والكرك، وضايقوا هذه القلاع حتى طلب من كان بها الأمان وخرجوا منها.
وفي سنة 1189 غزا صلاح الدين في شمالي سورية، ونزل على بحيرة قدس في غربي حمص، وجمع العساكر وسار حتى نزل تحت حصن الأكراد، وأخذ كتيبة من الفرسان وأغار على صافيتا والعريمة ويحمور حتى وصل إلى قرب طرابلس؛ ليعرف من أين يأتي البلاد، وأتاه قاضي جبلة واستدعاه ليسلم جبلة إليه، فسار معه ونزل بطرطوس فأخلى الإفرنج المدينة واعتصموا بحصنين، فخرب المسلمون دورهم ودكوا أحد الحصنين ورموا حجارته في البحر، وترك صلاح الدين الحصن الآخر مخفورا، ورحل إلى مرقية وقد أخلاها أهلها، وساروا إلى المرقب وفيها حصن منيع، وكان صاحب صقلية سير ستين سفينة إلى طرابلس أتت ووقفت في البحر تحت المرقب ... وكان هناك مضيق فصف صلاح الدين الطارقيات والجفتيات على طول المضيق حتى عبره عسكره، وسار إلى اللاذقية فترك الإفرنج المدينة، واحتموا بحصنين على الجبل فحصرهما المسلمون، ونقبوا الأسوار، فطلب الإفرنج الأمان فأمنهم صلاح الدين وقصد قلعة صهيون وتجلد من فيها بالقتال، ولكن أرغموا على طلب الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، وقدروا على نفوسهم قطيعة فقبلها وتسلم القلعة فزادها تحصينا، وسار عنها إلى قلعة بكاس فرأى الإفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الثغر فحاصرها أياما، ولم يمدهم أمير أنطاكية فسلموا القلعة إلى صلاح الدين، فرحل إلى قلعة برزية فتسلمها بعد عناء شديد، وسار إلى قلعة درب ساك وقلعة بفراس، وأكره من كان بهما على طلب الأمان وعزم على حصر أنطاكية، فأرسل ليمند أميرها يطلب هدنة، وبدل إطلاق كل أسير مسلم عنده فارتضى صلاح الدين لإراحة عساكره، وهادنه ثمانية أشهر وسار إلى حلب ثم عاد إلى دمشق. (5) في حصار الإفرنج عكا وفتحها وما كان إلى وفاة صلاح الدين
بعد أن ملك صلاح الدين بيت المقدس سير الإفرنج وفودا كثيرين إلى المغرب، فتألبت حملة ثالثة لإنقاذ الأرض المقدسة بإمرة ريشار الملقب بقلب الأسد ملك إنكلترا وفيلبوس أغوسطوس ملك إفرنسة، وسافر حينئذ أيضا فريدريك ملك ألمانيا الملقب برباروسا (أي: ذو اللحية الحمراء) بطريق القسطنطينية وآسيا الصغرى ومعه نحو مائة ألف، لكنهم تجشموا مصاعب وحروبا كثيرة وتوفي هذا الملك في كيليكيا، ولم يبلغ من عسكره إلى فلسطين إلا نحو خمسة آلاف رجل، وأما ملكا إفرنسة وإنكلترا فسافرا من جنوا ومرسيليا وبلغا فلسطين سنة 1191، وكان الإفرنج المقيمون بسورية قد حاصروا عكا سنة 1190، وسار إليها صلاح الدين فقاتل الإفرنج المخيمين حولها وأدخل عسكرا نجدة للمسلمين الذين فيها، وكانت وقعات بين الفريقين لم تكن فاصلة ... وعاد السلطان صلاح الدين سنة 1191 لقتال الإفرنج على عكا، واستمر القتال عليها وكان ملكا إفرنسة وإنكلترا قد بلغا إلى فلسطين، وأحاطت عساكر الإفرنج المدينة فارتاع المسلمون ولم يتمكن صلاح الدين من إنجادهم، وأصابه مرض أعجزه أن يشهد الحرب معهم، فطلبوا الأمان من الإفرنج، فأجابوهم إليه على شرط أن يطلق صلاح الدين الأسرى النصارى، ويطلق الإفرنج الأسرى المسلمين، وأن يدفع المسلمون إلى الإفرنج مائتي ألف دينار، ويردوا عليهم خشبة الصليب التي كانوا قد أخذوها منهم في وقعة حطين، وانقضى زمان ولم ينجز صلاح الدين وعده فهدده الإفرنج بقتل المسلمين الذين في حوزتهم وأخذوا ألفين وسبعمائة أسير، وقتلوهم قرب محلة صلاح الدين، وخشي صلاح الدين عاقبة استئناف الحرب فخلى سبيل ألفي أسير من الإفرنج، ودفع إليهم مائتي ألف دينار ورد عليهم خشبة الصليب، واستلموا عكا، ومرض ملك إفرنسة فعاد إلى مملكته تاركا من جنوده عشرة آلاف مقاتل بفلسطين، وبقي ريشار ملك إنكلترا وحده على إمرة الإفرنج بسورية، وأعطى لوسنيان ملك الإفرنج قبرس التي كان قد أخذها من ملك الروم بمروره عليها وسماه ملك قبرس.
وبعد أن أخذ الإفرنج عكا ساروا نحو يافا، فضايقهم المسلمون في سيرهم، ولكنهم أخذوا قيصرية وأرسوف وبلغوا إلى يافا فوجدوا المسلمين قد أخلوها فملكوها هم، وسار صلاح الدين إلى عسقلان فخربها ودك أسوارها؛ لئلا يأخذها الإفرنج وخرب حصن الرملة، ومضى إلى القدس وأخذ في تحصينها وتجديد ما رث منها، وفي سنة 1193 سار الإفرنج نحو عسقلان فاستلموها وشرعوا في عمارتها وقصدوا القدس وصلاح الدين فيها، لكنهم علموا أن لا قدرة لهم على إزاحته منها فعادوا عنها نحو عكا وأظهروا عزمهم على فتح بيروت، فأرسل صلاح الدين ابنه الأفضل ليعارضهم فلم يفارقوا عكا، وسار صلاح الدين إلى يافا فدخلها عسكره، وعاد الملك ريشار بحرا إليها فطرد المسلمين من يافا، وحارب صلاح الدين في ظاهرها، فظهر عليه ورده عنها إلى الرملة.
وبلغ الملك ريشار أن أخاه يوحنا يسعى بأن يأخذ ملكه، وسئمت نفوس المسلمين والإفرنج الحرب، فعقدت هدنة سنة 1193 بين صلاح الدين والملك ريشار، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الإفرنج يافا وقيصرية وأرسوف وعكا وحيفا، وأعمال هذه المدن وأن تكون عسقلان خرابا، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الإفرنج دخول صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون الرملة مناصفة ... وعاد السلطان إلى القدس وزاد وقف المدرسة الصالحية التي كانت كنيسة على اسم القديسة حنة، ثم جعلها المسلمون مدرسة ثم جعلها الإفرنج كنيسة وردها صلاح الدين مدرسة، وأما الملك ريشار فقبل عوده إلى مملكته أقام هنري كنت شمبانيا ملكا للإفرنج، فتزوج إيزابل بنت الملك أموري التي كانت مزوجة بالمركيس كنراد والي صور، وكان صلاح الدين قد دس له من قتله. (6) في وفاة صلاح الدين وما كان بسورية إلى آخر هذا القرن
كان في عزم صلاح الدين بعد مهادنته الإفرنج أن يغزو في آسيا الصغرى، ويتصل إلى القسطنطينية ويتطرق إلى الإفرنج ببلادهم، ولكن أصابته حمى ولم تنجع به أدواء الأطباء وتوفي سنة 1194 ودفن في قلعة دمشق، ثم عمل له الملك الأفضل ابنه تربة قبالة الجامع الأموي، ونقل رفاته إليها سنة 1197، وكان له من البنون سبعة عشر ابنا وبنتا واحدة، فملك أكبر أولاده وهو الأفضل نور الدين بدمشق وولده العزيز عماد الدين عثمان بمصر، وولده الظاهر غياث الدين غازي بحلب، وكان الملك الأفضل هو المعهود إليه بالسلطة، وفي سنة 1195 استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز صاحب مصر، والأفضل صاحب دمشق، وسار العزيز بعسكر فحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأصلح بينهما عمهما العادل وأخوهما الظاهر صاحب حلب، وعاد العزيز إلى مصر، ثم قصد دمشق ثانية سنة 1196 فاضطرب عليه بعض عسكره واضطر أن يعود إلى مصر، فتبعه الملك الأفضل وعمه الملك العادل، وقصد الملك الأفضل الاستيلاء على مصر، فمنعه عمه العادل عنها وسعى بالصلاح بين الأخوين، فعاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر.
وفي سنة 1197 اضطربت الأمور على الملك الأفضل بدمشق، فاتفق العزيز صاحب مصر والعادل على أن يأخذا دمشق منه ويسلمها العزيز إلى العادل؛ لتكون الخطبة والسكة للعزيز في كل البلاد كما كانت لأبيه صلاح الدين، فخرجا إلى دمشق وتسلماها، وسلمها العزيز إلى العادل وأعطى الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها.
وفي سنة 1199 استولى الإفرنج على بيروت، وهجم الملك العادل على يافا، فملكها وحاصر الإفرنج بتبنين فرحلهم العادل عنها، وكانت هدنة بين الفريقين إلى ثلاث سنوات، وفي سنة 1200 توفي الملك العزيز بمصر، وخلفه ابنه الملك المنصور محمد وكان صغيرا، فاتفق الأمراء على استدعاء الملك الأفضل من صرخد فسار حثيثا، فصير أمير الأمراء عند الملك ابن أخيه فسار بالعساكر من مصر لاسترداد دمشق من عمه، فكان بينهما قتال شديد، وأتى الملك الظاهر صاحب حلب لنجدة أخيه الأفضل، وضايقا المدينة وقلت الأقوات، وحصل بين الأخوين الأفضل والظاهر خلاف أدى إلى ترك حصار دمشق.
وأما الإفرنج فمات ملكهم هنري دوك شمبانيا، وتزوجت أرملته إيزابل بنت الملك أموري زيجة ثالثة بأموري دي لوسنيان أخي ملك قبرس، وكلل ملكا سنة 1197. (7) في بعض المشاهير في هذا القرن
كان في هذا القرن محمد بن الخضري المعري، وكان شاعرا مجيدا حسن المعاني رشيق الألفاظ وله رسالة لقبها تحفة الندمان أتى بها بكل معنى غريب، وتوفي بعد سنة 1107، وكان فيه أيضا إبراهيم الغزي وهو شاعر مشهور له ديوان شعر اختاره بنفسه، وله قصيدة مشهورة لناصر الدين بن علاء وزير كرمان، وتوفي سنة 1131، وكان أيضا ابن منير الأطرابلسي ولد بأطرابلس، وقدم دمشق وسكنها وكان كثير الهجاء، وسجنه بوري بن أتابك صاحب دمشق وعزم على قطع لسانه، فشفع بعضهم فيه فنفاه وأقام بحلب، وكان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات ومهاجاة، وتوفي بحلب سنة 1154 ويقال: توفي بدمشق سنة 1153.
ومنهم ابن عساكر الدمشقي كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، وجمع من الحديث ما لم يتفق لغيره، وأشهر مصنفاته تاريخ لدمشق في ثمانين مجلدا أتى فيه بالعجائب، واستعظمه العلماء، وله شعر لا بأس فيه وتوفي بدمشق سنة 1176، ومنهم أيضا ابن الذكي الدمشقي الفقيه الشافعي وله النظم الجيد، والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق سنة 1193، وكانت له منزلة عالية عند صلاح الدين وتوفي سنة 1202.
ومن هؤلاء المشاهير ابن القيسراني الخالدي الحلبي، وكان من الشعراء المجيدين، وكان هو وابن منير الأطرابلسي شاعري سورية في ذلك العصر، وجرت بينهما وقائع ونوادر وملح، وتوفي ابن القيسراني سنة 1154 بدمشق، وله كتاب في الكلمات المتشابهة لفظا طبع بلندن سنة 1865، ومنهم تقية ابنة الصوري وكانت فاضلة، ولها شعر جيد ورووا أنها نظمت قصيدة في مدح الملك المظفر ابن أخي السلطان صلاح الدين، وكانت القصيدة خمرية ولما وقف الملك المظفر عليها، قال: «الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمان صباها.» فنظمت قصيدة أخرى حربية وأرسلت تقول له: «علمي بهذا كعلمي بذاك.» تبرئة لساحتها، وتوفيت سنة 1144، ومنهم ابن المقدسي المشهور في علم النحو واللغة، وله على كتاب الصحاح للجوهري حواش استدرك بها على صاحب الصحاح في مواضع كثيرة، وله حواش على درة الغواص في أوهام الخواص للحريري، وتوفي سنة 1187، ومنهم أسامة بن منقذ أحد أمراء بني منقذ أصحاب شيزر، وله تصانيف عديدة في فنون الأدب وديوان شعر في جزأين، وتوفي سنة 1189.
وكان في غير سورية بهذا القرن أبو حامد الغزالي، وله في الفقه الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة والمستصفى، ثم إحياء علوم الدين والمنحول والمنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1112، ثم الطغرائي صاحب لامية العجم، وتوفي سنة 1120، وأبو محمد الحريري صاحب المقامات المشهورة، وله أيضا درة الغواص في أوهام الخواص وملحة الأعراب في النحو وشرحها، وتوفي سنة 1123، ثم الفتح بن خاقان صاحب كتاب قلائد العقيان، ومطمح الأنفس ومسرى التأنس في ملح أهل الأندلس، وتوفي سنة 1141، ثم الزمخشري الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، وله في كل ذلك مصنفات مشهورة وتوفي سنة 1144، والإدريسي صاحب كتاب الجغرافية الذي طبع بالعربية سنة 1617 برومة، وترجمه إبراهيم الحاقلي الماروني إلى اللاتينية، ولد سنة 1100 بإفريقيا بمدينة سينا، ولم نعثر على سنة وفاته، وابن رشد مترجم كتب أرسطو، وله كتاب سماه الكليات في الطب، وبقي العلماء في أوروبا زمانا طويلا لا يعرفون كتب أرسطو إلا بترجمتها اللاتينية عن كتب ابن رشد العربية، وله رسالة تهافت المتهافتين ردا على كتاب الغزالي الموسوم بتهافت الفلاسفة، وشرح على أرجوزة ابن سينا في الطب وتوفي سنة 1198.
الفصل الثاني
في تاريخ سورية الديني في القرن الثاني عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في القرن الثاني عشر
أما في أنطاكية فبعد وفاة يوحنا الرابع الذي مر ذكره في تاريخ القرن الحادي عشر لا يعلم بتوكيد من خلفه، وجاء في جدول في الفاتيكان أن توادوسيوس خلف يوحنا المذكور، وأن يوحنا الخامس خلف توادوسيوس لكن هذا الجدول لا يعول عليه لاحتوائه على أغلاط ظاهرة، وبعد أن ملك الإفرنج أنطاكية أقاموا عليها بطاركة منهم، واستمر الروم يقيمون عليها بطاركة منهم لكنهم يسكنون بالقسطنطينية، ويعرف من هؤلاء أتناسيوس إذ ورد ذكره في مجمع عقد بالقسطنطينية سنة 1166، وقام بعد أتناسيوس سمعان الثاني ورد اسمه في رسالة كتبها إليه جيورجيوس متريبوليط كورشيرا، وأثبتها بارونيوس في تاريخ سنة 1178، ثم في سنة 1186 انتخب توادورس بلسامون الشهير، لكنه أقام دائما في القسطنطينية ونراه يشكو في أحد كتبه من أن اللاتينيين لا يدعون الروم يضعون أرجلهم في أنطاكية أو أورشليم أو طرسوس.
وقد انتقد بارونيوس كتاب بلسامون مبينا ما فيه من المطاعن بالكنيسة الرومانية، ومن الأغلاط التاريخية والتحريف للقوانين، وتوفي بلسامون سنة 1214 وقيل: سنة 1203، وكان من بطاركة أنطاكية الموارنة في هذا القرن البطريرك يوسف الجرجسي، وكان بعده البطريرك بطرس سنة 1121 ثم البطريرك غريغوريوس الحالاتي، وأرسل وفدا إلى البابا الثاني سنة 1130، ثم يعقوب من رامات، وله أثر في سنة 1141، ثم خلفه يوحنا السابع من لحفد سنة 1151، واستمر إلى سنة 1173، ووجد بعدئذ بطريرك أو بطريركان نجهل اسمهما إلى أن صير إرميا العمشيتي بطريركا سنة 1183 سندا إلى خط كتبته يده، وحضر المجمع اللاتراني سنة 1215 وتوفي بعد ذلك.
وأما بطاركة أورشليم ففي تاريخهم في هذا القرن غموض وتشويش، فلا يعلم علما أكيدا من خلف سمعان الذي توفي سنة 1199، فقيل: أغابيوس وخلفه سابا، ثم خلف أوخاريوس سابا وأنه كان سنة 1146، ولكن قال لاكويان: إنه أوخاريوس الذي ذكره دوزيتاوس البطريرك الأورشليمي ربما تصحف عليه باسم فلكاروس البطريرك اللاتيني على أورشليم، ثم ذكر دوزيتاوس يعقوب وأرسانيوس ويوحنا السابع ونيكوفر الثاني الذي شهد المجمع الذي عقد في القسطنطينية سنة 1166، وصير بعد نيكوفر أتناسيوس ولما فتح صلاح الدين أورشليم، ورحل منها هرقل البطريرك اللاتيني إلى عكا سار أتناسيوس إلى أورشليم، وقد كتب إليه جيورجيوس متريبوليط كورشيرا رسالة أثبتها بارونيوس في تاريخ سنة 1188، وخلف لاونتيوس أتناسيوس المذكور، وخلف دوزيتاوس لاونتيوس، ونقل دوزيتاوس سنة 1193 إلى بطريركية القسطنطينية، ولكن لم يرضه الشعب وسخر منه، فاضطر أن يترك القسطنطينية ويعود إلى أورشليم، وطرد مرقس الذي كان قد أقيم بطريركا على أورشليم، ولا يعلم ما كان لمرقس بعد ذلك ولا متى توفي دوزيتاوس. (2) في بعض من أساقفة سورية في هذا القرن
توما أسقف كفر طاب
كان أسقفا يعقوبيا على كفر طاب من أعمال حلب اختلف مع رؤساء ملته، وحالف أتباع بدعة المشيئة الواحدة، وكتب كتابا سماه المقالات العشر ضمنه تعليمه بالبدعة المذكورة، وأرسله إلى يوحنا البطريرك الأنطاكي وادعى أنه ماروني ليخدع الموارنة بهذا الضلال؛ لأنه سار إلى لبنان سنة 1104 أو سنة 1105، وأقام بجبة يانوح أربع سنين، وأتى إلى جبة بشري، فأقام بها ونشر كتابه المذكور وكتب رسالة إلى أرسانيوس مطران العاقورة قال فيها: «إن القديس مارون وقدماء الموارنة كانوا يعتقدون المشيئة الواحدة.» فأجابه المطران أرسانيوس ناقضا زعمه ومبينا ضلاله، وقاومه أيضا يوسف الجرجسي بطريرك الموارنة وقتئذ فنبذ الموارنة ضلاله، ولم ينخدع به إلا خوري قرية فرشع ببلاد جبيل، ونفر قليل فعاد بخفي حنين نادبا سوء منقلبه وضياع تعبه، وكان قد عني لتغرير الموارنة بتحريف بعض كتبهم ككتاب إيضاح الإيمان للقديس يوحنا مارون، وكتاب الهدى للمطران داود الماروني مدخلا عليهما ما يوافق ضلاله لجهة الاعتقاد بمشيئة واحدة في المسيح، ولم نعثر على ما كان من أمره بعد عوده من لبنان سنة 1110، أو سنة 1111 ولا متى كانت وفاته.
غوليلموس أسقف صور
يظهر من كلام بعض المحققين أن غوليلموس هذا كان سوريا أصلا، ولد بأورشليم سنة 1127 وتخرج بالعلوم في المغرب، ولما عاد إلى أورشليم سنة 1162 أحبه أموري ملك أورشليم، وعني بأن أقيم رئيس شمامسة في صور سنة 1167، وعهد إليه بتربية ابنه بودوين الرابع وأوفده مرات إلى القسطنطينية ورومة، وسعى بعقد معاهدة بينه وبين عمنوئيل ملك الروم سنة 1168، ثم صير أسقفا لاتينيا على صور سنة 1174، ولما انتخب هرقل لبطريركية أورشليم اللاتينية سنة 1180 أبى غوليلموس أن يخضع لسلطته معترضا على انتخابه فحرمه البطريرك، فاستغاث غوليلموس بالحبر الروماني وسار إلى رومة، فمات هنالك بغتة وقيل: مسموما، وأشهر مؤلفات غوليلموس تاريخه الشهير في اثنين وعشرين كتابا، وقال في مقدمته إن أموري ملك أورشليم اقترحه عليه، وأنه دفع عليه بعض الكتب العربية، وأنه اعتمد منها على أقوال الرجل المحترم سعيد بن البطريق البطريرك الملكي الإسكندري، ومما انتحله عنه تهمته الشهيرة للموارنة بأن القديس مارون زعيمهم ابتدع بدعة المشيئة الواحدة في المسيح، وقد فند كثير من العلماء الأعلام هذه التهمة، وتابعتهم على ذلك في كثير من كتبي ومقالاتي، ويقال: إن لغوليلموس تاريخا للعرب أضاعته الأيام.
وكان في هذا القرن ديوانيسيوس بن صليبا أسقف أمد وهو يعقوبي، وله مؤلفات منها شرح على رتبة القداس انتحل به بعض كلام القديس يوحنا مارون في كتابه شرح هذه الرتبة أيضا، وله أيضا مؤلف في تفسير العهدين، وكتب في اللاهوت وفي الرد على البدع، وفي الميرون والدرجات المقدسة، ومقالة في سر الاعتراف والتوبة وثلاثة نوافير للقداس وغيرها، وتوفي على الراجح سنة 1192، وكان أيضا ميخائيل بطريرك اليعاقبة الموصوف بالكبير، ومن مؤلفاته نافور للقداس ومقالة في الاستعداد إلى تناول القربان الأقدس، وفي لزوم التوبة والاعتراف، وعده ابن العبري في جملة المؤلفين في القوانين البيعية، وله كتاب في الرتب الحبرية، ويعزى إليه كتاب قديم وجد بالرها متضمنا جداول بطاركة اليعاقبة والأساقفة الذين رقاهم، كل منهم من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر، ترجمه إلى الإفرنسية المونسنيور شابو، ونشره في المجلة الموسومة بالمشرق المسيحي وتوفي سنة 1200.
الفصل الثالث
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثالث عشر
في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن (1) في استقلال الملك العادل بالسلطة
ذكرنا في عدد 169 ولاية الملك العادل بدمشق، ومسير ابن أخيه الملك الأفضل من مصر إلى دمشق لاستردادها من العادل، ورجوعه عنها لخلاف وقع بينه وبين أخيه الملك الظاهر صاحب حلب، ثم سار العادل في أثر الأفضل إلى مصر، وكان بينهما قتال أدى إلى انهزام الأفضل إلى القاهرة ، وإلى تسليمه القاهرة للعادل وتعويض الأفضل عنها بميافرقين وسميساط، وأخلف العادل وعده له فسار الأفضل إلى صرخد، حيث كان قبلا وأقام العادل بمصر على أنه أمير الأمراء للملك المنصور بن العزيز، وبعد مدة انتزع الملك من المنصور، واستبد به وصالح الملك الظاهر صاحب حلب، وصاحب حماة وانبسط ملكه بسورية.
وفي سنة 1202 خرج الملك الظاهر صاحب حلب وحصر منبج وملكها، ثم ملك قلعة نجم وسار إلى المعرة وأقطع بلادها واستولى على كفر طاب وحاصر حماة، فجرح بسهم في رجله فصالح صاحبها الملك المنصور، ورحل إلى دمشق فنازلها وبها الملك المعظم ابن العادل، وعاونه أخوه الملك الأفضل وبعض الأمراء، واتفق الأفضل والظاهر أن تسلم دمشق بعد أخذها إلى الأفضل، ثم إذا أخذا مصر من الملك العادل ينتقل الأفضل إليها، ويترك دمشق للظاهر، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين لدمشق، فخرج بالعساكر إلى نابلس ولم يجسر على قتالهما، ولكن تغير الظاهر وأراد أن تسلم إليه دمشق أولا، فتراخى الأفضل وتخلى الأمراء عن القتال لأجل الظاهر، وصالحوا العادل، فرحل الظاهر عن دمشق فقدم العادل إليها وملكها، وسار منها إلى حماة فدان له صاحبها الملك المنصور، وقصد العادل حصار حلب على ابن أخيه الظاهر، فراسله الظاهر وهاداه واصطلحا، وأخذت من الملك الظاهر قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل مع سروج وسميساط، ورجع العادل إلى دمشق وأقام بها، وانبسطت سلطته على مصر وسورية وغيرهما، وخطب له على منابرهما وضربت السكة فيهما باسمه.
وفي سنة 1208 أرسل الخليفة الناصر الخلع للملك العادل، وسماه شاهنشاه ملك الملوك، واهتم العادل ببناء قلعة دمشق، وألزم كل واحد من الملوك أهل بيته أن يبني برجا من أبراجها، وفي سنة 1210 سار العادل من دمشق وعبر الفرات، وحاصر سنجار وطال الحصار، ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح الذي كان بينهما، وخامرت عساكر العادل عليه، فاستولى على نصيبين وعاد إلى دمشق، وفي سنة 1217 توفي الملك الظاهر صاحب حلب بن صلاح الدين، وأوصى أن يكون الملك بعده لولده الصغير الملك العزيز، ومن بعده لولده الكبير الملك الصالح ، ثم توفي الملك العادل سنة 1219 بفلسطين. (2) في ما كان من الحرب بين الملك العادل والإفرنج
في سنة 1202 كانت حملة الإفرنج الرابعة لاستنقاذ الأرض المقدسة، وكانت هذه الحملة بإمرة بودوين التاسع كنت فلاندرا وبونيفاشيوس مركيز فونتا فواتا بإيطاليا وهنري وندولر دوك البندقية، وانضوى بعض رجال هذه الحملة إلى أمير أنطاكية، فالتقاهم الملك المنصور صاحب حماة، وكتب الملك العادل إلى صاحب بعلبك، وصاحب حمص أن ينجداه، واتقع هؤلاء مع الإفرنج ببعرين وقعتين انكسر فيهما الإفرنج، وقتل منهم جماعة كثيرة وأسر بعضهم، وفي سنة 1204 كانت الهدنة بين الملك المنصور المذكور والإفرنج في شمالي سورية، ولكن خرج بعضهم بفلسطين، ونهبوا كثيرا من بلاد المسلمين بنواحي الأردن، فسار الملك العادل من دمشق وجمع العساكر، وحل بها على الطور بالقرب من عكا، وفي سنة 1205 كانت بين الفريقين هدنة وسلم العادل يافا والناصرة وغيرهما إلى الإفرنج، وأغار الإفرنج على حماة، وأسروا بعض المسلمين، ثم هادنوا الملك المنصور صاحب حماة.
وفي سنة 1207 رجع الملك العادل من مصر إلى سورية، فحاصر عكا فصالحه الإفرنج على إطلاق جماعة من الأسرى، وحاصر الإفرنج حمص، فسار الملك العادل من دمشق ونزل على بحيرة قدس، فانكفأ الإفرنج عن حمص وأتت العساكر من المشرق والجزيرة إلى العادل، فدخل بلاد طرابلس، وحاصر القليعات وأخذها صلحا ونهب وأحرق وسبى، وعاث في بلاد أطرابلس، وعاد إلى بحيرة قدس.
وفي سنة 1217 كانت حملة الإفرنج الخامسة، وكان أكبر رؤسائهم أندراوس ملك المجر وصحبهم عند مرورهم بقبرس لوسنيان ملكها، وكان أموري الثاني ملك أورشليم قد توفي سنة 1205، واختير للملك بأورشليم يوحنا دي بريان سنة 1209، فانضم إلى أصحاب الحملة الذين اجتمعوا بعكا، وكان الملك العادل بمصر فعاد إلى سورية، وبلغ إلى اللد، فقصده الفرنج سنة 1218، فسار إلى نابلس فسبقه الإفرنج إليها فنزل على بيسان فتقدم الإفرنج إليه، وكان عسكره قليلا، فرحل نحو دمشق ليجمع العساكر، فنهب الإفرنج بيسان وكل البلاد إلى بانياس، ورجعوا إلى مرج عكا، ثم جاء إلى صور وقصدوا بلد الشقيف ونهبوا صيدا، وعادوا إلى عكا وقصدوا قلعة الطور وحاصروها مدة، وعادوا إلى عكا، فأتى الملك المعظم ابن العادل، فدك القلعة إلى الأرض وبعدئذ توفي الملك العادل سنة 1219 كما مر.
وفي السنة المذكورة سار الإفرنج إلى دمياط، وحاصروها وملكوها بشق النفس وتوغلوا في مصر، لكنهم اضطروا إلى عقد صلح بينهم وبين الملك الكامل ابن الملك العادل، ومن شرائطه تخليهم عن دمياط فتخلوا عنها سنة 1222. (3) تخلي الملك الكامل عن القدس لفريدريك الثاني ملك ألمانيا
بعد أن استرد المسلمون دمياط من الإفرنج سار يوحنا دي بريان ملك أورشليم إلى المغرب مستصرخا مستنجدا، فعرض البابا أنوريوس الثالث على فريدريك الثاني عاهل ألمانيا أن يتزوج بابنة ملك أورشليم ووريثته، ويسمى ملك أورشليم، فقبل العاهل ما عرض البابا، وأخذ بإعداد حملة لإنقاذ الأرض المقدسة وتزوج بابنة ملك أورشليم برومة، لكنه أخذ يؤجل سفره إلى سورية من وقت إلى آخر، واتصل إلى مخاصمة البابا واستمال أشراف رومة إلى الثورة عليه، واضطر البابا أن يحرمه، وعرف في المشرق أن عاهل ألمانيا قادم إلى سورية فراسله الملك الكامل وحالفه، ووعده بأن يسلم إليه أورشليم متى أتى إلى سورية، فسر فريدريك بذلك وسافر إلى المشرق، ولما وصل إلى عكا وعرف البطريرك والإكليروس ورؤساء الفرسان أنه محروم من البابا، وأن ليس معه من الجند من يقوم بوجه أعدائهم ازدروه، وخرج العاهل من عكا، وأرسل إلى الملك الكامل يطالبه بوعده أن يسلم القدس إليه فتردد في الإجابة، وتواترت الرسائل بينهما إلى أن عقدا هدنة بينهما إلى عشر سنين من شرائطها: أن الملك الكامل يتخلى لعاهل ألمانيا عن المقدس وبيت لحم، وجميع القرى الواقعة بين يافا وأورشليم، ويبقى جامع عمر للمسلمين، وأن النصارى لا يجددون بناء أسوار أورشليم، وإذا اعتدى مسلم على مسلم، فيسمع دعواهما قاضي المذهب، وأن العاهل لا يعاون إفرنجيا ولا مسلما على أحد من المسلمين، بل عليه أن يمنع كل تعد على أرض الملك الكامل وأن يصد عساكره ومرؤسيه عن مثل ذلك، ولم تدخل إمرية أنطاكية وكنتية أطرابلس والكرك في هذه الهدنة، بل يلتزم العاهل أن يمتنع عن كل مساعدة لحكام هذه الأعمال، ووقع على المعاهدة في 20 شباط سنة 1229.
فلم يرتض النصارى ولا المسلمون من هذه المعاهدة، ولم يمكث العاهل بأورشليم بعدها سوى يومين، وكتب إلى البابا يبشره بأخذه أورشليم وإعادة ملك النصارى إليها، وكتب بطريرك أورشليم منشورا يشكو به من سوء تصرف العاهل، وبعد خروجه من أورشليم دخل المسلمون إليها، وبقيت القرى المجاورة للمدينة بيد المسلمين، ولم يكن التخلي عن القدس إلا لشخص العاهل ... وهو تعهد بأنه لا يحارب المسلمين، بل يمنع كل حرب تثار عليهم، ولما عاد العاهل إلى عكا ازدراه البطريرك والإكليروس ورؤساء الفرسان، فانتقم منهم بمنع الأقوات عن المدينة وإهانة الفرسان، وضرب بعض الرهبان وسار من عكا إلى قبرس، ودعا الملك ومدبري المملكة إلى مأدبة وقبض عليهم، وأخذ الملك أسيرا ليوطد ملكه للجزيرة بحجة أن ملكها خاضع لملك أورشليم، وبعد وصول العاهل إلى مملكته راسل البابا بالصلح.
وفي سنة 1230 حلف يمينا احتفالية بأنه يخضع للحبر الروماني، فحله من الحرم ورد عليه ما كان قد أخذه من مملكته. (4) بعض الأحداث بسورية إلى وفاة الملك الكامل
في سنة 1223 كان الملك المعظم ابن الملك العادل، وأخو الملك الكامل مالكا بدمشق، وقصد أن يأخذ حماة من الملك الناصر صاحبها، فكان بينهما قتال وارتحل المعظم إلى سلمية، فاستولى على حواصلها وولى عليها وفعل كذلك بالمعرة، فاتفق أخواه الملك الكامل والملك الأشرف على ردعه عن الناصر ملك حماة، فارتدع وبقيت سلمية والمعرة للملك الناصر، وفي سنة 1228 توفي الملك المعظم وولي دمشق بعده ابنه داود، ويلقب الملك الناصر، وفي سنة 1229 أرسل الملك الكامل يطلب من ابن أخيه الملك الناصر حصن الشوبك، فلم يجب إلى طلبه.
فسار الملك الكامل وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد ابن أخيه، فلجأ الناصر إلى عمه الملك الأشرف فأمنه على بلاده، واتفق مع أخيه الكامل على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر، وتعويضه عنها بحران والرها والرقة، وأن تستقر دمشق للملك الأشرف، فتحصن الناصر بدمشق وحصره عمه الأشرف بها، وعاونه الملك الكامل على الحصار حتى استولى الكامل على دمشق، وعوض الناصر صاحبها بالكرك والبلقا، والصلت والأغوار والشوبك، وتسلم الأشرف دمشق وسلم الكامل حران والرها والرقة، ومن بعد أخذ دمشق نازل الكامل حماة، وسلمها إلى الملك المظفر أخي الملك الناصر الذي كان واليها، وانتزع سلمية من يده وسلمها إلى شيركوه صاحب حمص، وأمر أن يعطى الملك الناصر بعرين، وفي سنة 1230 استولى الملك الأشرف صاحب دمشق على بعلبك، وعوض صاحبها الملك الأمجد من الأيوبيين الزبداني وقصير دمشق، وفي سنة 1233 استولى الملك العزيز صاحب حلب على شيزر، وفي سنة 1237 توفي الملك العزيز وتقرر في الملك بعده ابنه الملك الناصر يوسف، وكانت وحشة بين الملك الكامل وأخيه الملك الأشرف صاحب دمشق، وكان أكثر ولاة سورية مع الأشرف ولكن توفي الأشرف سنة 1238، وخلفه أخوه الصالح إسماعيل فقصده الكامل وحاصر المدينة، وأكره الصالح أن يسلمها وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافا إلى بصرى التي كانت للصالح، ثم توفي الملك الكامل سنة 1238 المذكورة، وخلفه ابنه الملك العادل، وبقي في مصر وأقام نائبا له بدمشق الملك الجواد يونس حفيد الملك العادل الأول. (5) في ما كان بين الملوك الأيوبيين بعد وفاة الكامل
لما بلغ الحلبيين خبر موت الكامل قصدوا أن يأخذوا حماة من الملك المظفر وحاصروها، وأراد الملك العادل بن الكامل أن يعزل نائبه في دمشق، وهو الملك الجواد المار ذكره، فسلم دمشق إلى الملك الصالح أيوب، وكاتبه المصريون ليملكوه بمصر، فخرج من دمشق وخالفه بعض الملوك الذين بسورية، وكان الصالح أخا العادل، ولما خرج لقتال أخيه ثار جماعة من المماليك، وبمقدمتهم أيبك الأسمر وأحاطوا بالعادل وجعلوه في خيمة وعليه من يحفظه، وملكوا أخاه الصالح أيوب بمصر، وفي سنة 1241 قبض على أيبك الأسمر وغيره من المماليك وأودعهم السجن، وفي سنة 1242 اتفق الصالح إسماعيل صاحب دمشق مع بعض الأمراء بسورية على مناوأة الصالح أيوب صاحب مصر، وفي سنة 1244 سلم إسماعيل المذكور وصاحب الكرك عسقلان وطبرية والقدس إلى الإفرنج؛ ليعضدوهما على أيوب صاحب مصر، فاستدعى هو سنة 1245 الخوارزمية لنجدته، ووصلوا إلى غزة ووافتهم العساكر المصرية، وأرسل إسماعيل عساكره إلى عكا وخرج معهم الفرنج، والتقى الفريقان بظاهر غزة واتقعا، فانهزم عسكر دمشق والإفرنج، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقا كثيرا، واستولى صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، وسار عسكر مصر والخوارزمية إلى دمشق وحاصروها، فتسلموها سنة 1246 وأعطى إسماعيل بعلبك، ثم خرج الخوارزمية من طاعة صاحب مصر، وانقلبوا إلى معاضدة إسماعيل وعادوا فحاصروا دمشق على المصريين، واتفق الحلبيون وصاحب حمص مع الصالح صاحب مصر على الخوارزمية المحاصرين لدمشق، وكانت بينهم وقعة سنة 1247 انهزم بها الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت بها شملهم، وأما إسماعيل الذي أخذت منه دمشق فاستجار بصاحب حلب، وطلبه صاحب مصر فلم يسلمه صاحب حلب وأخذت بعلبك من أولاده.
وفي سنة 1248 استرد صاحب مصر عسقلان وطبرية من يد الإفرنج بعد محاصرتهما مدة، وكانوا قد تسلموهما سنة 1244، وفي سنة 1249 أرسل الناصر صاحب حلب عسكرا، فحاصر الملك الأشرف بحمص فسلمها إليه معتاضا عنها بتل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر، فشق ذلك على الصالح صاحب مصر، فسار إلى دمشق وأرسل عسكرا حاصر حمص إلى أن سعى الخليفة بالصلح بين الصالح والحلبيين على أن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجابه الصالح إلى ذلك وعاد إلى مصر. (6) في الخوارزمية وغزواتهم بسورية
الخوارزمية ينتسبون إلى خوارزم في البلاد الشرقية وأصلهم من التتر، فأخرجهم التتر من بلادهم فتوطنوا الجزيرة، وفي سنة 1241 ساروا إلى قرب حلب فالتقاهم الحلبيون، لكنهم انهزموا من وجههم هزيمة قبيحة، وقتل الخوارزمية منهم خلقا كثيرا وأسروا منهم جماعة، ودخلوا حلب وارتكبوا فواحش، ثم ساروا إلى منبج وفتكوا بأهلها ثم أغاروا ثانية على الجبول وتل إعزاز وسرحين والمعرة، فالتقاهم الملك المنصور صاحب حمص ومعه عسكر دمشق، واجتمع معه الحلبيون وقصدوا الخوارزمية وهم على شيزر فرحلوا عنها إلى حماة، ثم ساروا إلى سلمية ثم إلى الرصافة، ولحقهم عسكر حلب وهجم عليهم العرب فرموا ما كان معهم من المكاسب، وتركوا الأسرى وقطعوا الفرات، وتبعهم الحلبيون واتقعوا معهم قرب الرها فانهزم الخوارزمية وركب الحلبيون أقفيتهم يقتلون منهم، ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم واستولى عسكر حلب على الرقة والرها وسروج وغيرها.
وسنة 1243 تجدد القتال بين عسكر حلب، ومعهم صاحب حمص والخوارزمية ومعهم الملك المظفر صاحب ميافرقين فانهزم الخوارزمية أقبح هزيمة، وفي سنة 1245 دعا صاحب مصر الخوارزمية إلى غزة، فانتصروا مع عسكره على عسكر دمشق والإفرنج ثم خرجوا عن طاعة صاحب مصر، ونجدوا الملك الصالح إسماعيل في حصار دمشق فردهم الحلبيون عنها، ثم شتتوا شملهم سنة 1247 كما مر، وكانوا قد أتوا أورشليم وهرب سكانها ومن بقي منهم هرع إلى كنيسة القبر المقدس، فدخل الخوارزمية إليهم وقتلوا وقطعوا رءوس الكهنة، وأخربوا القبر وأزالوا الرخام الذي كان بالكنيسة، وهدموا مدافن ملوك الإفرنج ودنسوا جبل صهيون وكنيسة وادي يوشافاط، وساروا إلى بيت لحم وفعلوا الفظائع بكنيستها ... فحينئذ اتفق الإفرنج مع ملك دمشق وحمص، وحاربوا الخوارزمية فانكسر المسلمون أولا وصبر النصارى على القتال، وكان عددهم قليلا فقتل منهم كثير ثم حاصر الخوارزمية يافا، وكانوا قد أخذوا كوتيا دي بريان واليها أسيرا، فعلقوه على صليب تجاه أسوارها وهددوه بالقتل إن قاومهم أهل مدينته، فأخذ يصرخ بأعلى صوته إلى قومه: «دافعوا إلى النفس الأخير هذا هو المفروض عليكم وعلي.» فلم يقو الخوارزمية على فتح المدينة وأرسلوا كوتيا إلى القاهرة، فوثب عليه حشد أماتوه بالضرب. (7) في حملة الإفرنج السابعة على سورية بإمرة لويس التاسع
لما بلغ إلى المغرب خبر ما صنعه الخوارزمية بأورشليم، واستيلاء سلطان مصر عليها بعد أن كان صاحب دمشق تخلى عنها للإفرنج عقد إلبا إينوشنسيوس الرابع مجمعا عاما بليون سنة 1245، كان في جملة مراسيمه استئناف الحملة لإمداد الإفرنج بسورية، وأخص من تجندوا بهذه الحملة القديس لويس التاسع ملك إفرنسة، فسار من إفرنسة في 25 آب سنة 1248، وصرف فصل الشتاء بقبرس، ثم سار إلى مصر توا فبلغ بجيشه إلى دمياط في 4 حزيران سنة 1249، وملك المدينة المذكورة عنوة، وانهزم المسلمون منها وتقدم الإفرنج من دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين وقعة عظيمة قتل فيها جماعة من كبار المسلمين وكبار الإفرنج، فقطع المسلمون عليهم خط الاتصال مع دمياط، فعازتهم الأقوات فرحلوا راجعين إلى دمياط، فركب المسلمون أكتافهم واحتاطوهم، وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا وانحاز الملك لويس بنفر قليل إلى قرية تسمى المنية، وأدركه المسلمون، فدافع عنه من كانوا معه حتى انقرضوا، وأخذ الملك أسيرا وقبض على أخويه وأقاموهم في المنصورة.
ثم راسل المصريون الملك لويس بأنهم يطلقونه على شريطة أن يسلم إليهم دمياط، ويبذل لهم خمسمائة ألف دينار، ورأى هو أن دمياط لا يمكن أن تمتنع على المسلمين، فعقد الصلح بينه وبينهم على ذلك وسلم دمياط إليهم، وسار من دمياط إلى عكا في 14 أيار سنة 1250، فالتقاه النصارى باحتفاء عظيم وصرف عنايته إلى تحصين المدن والقلاع التي كانت بيد الإفرنج، وكانت منازعات بين ملك مصر وملك دمشق والأمراء المسلمين، فكان كل من الفريقين يراسل الملك لويس؛ ليتفق معه ... وعقدت بينه وبين أمراء مصر معاهدة كان من شروطها: أن المصريين يخلون سبيل الأسرى والنصارى وأولاد النصارى الذين كانوا قد أسلموا، ويتخلون للإفرنج عن أورشليم وسائر مدن فلسطين ما عدا غزة وبعض القلاع، ولا يحاربون أورشليم مدة خمس عشرة سنة، وأن الفريقين المتعاقدين يجمعان العساكر ويحاربان معا، وكل ما يغنمانه يقسم مناصفة بين الإفرنج وأمراء المصريين، وعزم المصريون أن يسيروا إلى غزة ثم إلى يافا، وعرف ملك دمشق بهذه المعاهدة فأرسل عسكرا نحو عشرين ألفا، فخيموا بين غزة وقلعة الداروم ليمنعوا الاتصال بين الإفرنج والمصريين، فلم يحضر مفوضون من قبل المصريين للتوقيع على المعاهدة، وإن أتموا بعض شروطها كإطلاق الأسرى، واستمروا يتباطئون عن التوقيع إلى أن أرسل الخليفة العباسي من بغداد من سعى بالصلح بين سلطان الشام، وأمراء مصر فاصطلحوا واتفقوا على محاربة الإفرنج.
وسار الناصر صاحب دمشق بعسكر حتى بلغ أسوار عكا، وتهدد أن يقطع الأشجار ويعطل الحقول، ولما لم تكن طاقة للإفرنج حينئذ على المحاربة دفعوا له خمسين ألف دينار فانصرف عنهم، ووثب جماعة من التركمان على صيدا، فقتلوا من فيها من النصارى ودكوا ما بني من أسوارها، فسار الملك لويس إلى صيدا، وجهز عسكرا أرسله في أثره التركمان إلى بانياس، فانهزم المسلمون منها وملكها الإفرنج، لكنهم لم يقدروا أن يحفظوها فنهبوها وعادوا إلى صيدا.
وقد روى بعض علمائنا وكثيرون من علماء الإفرنج أنه لما كان الملك لويس بعكا أرسل إليه الموارنة هدايا مع الأمير سمعان، وجماعة من رجالهم، فرحب بهم الملك القديس وأرسل معهم رسالة إلى البطريرك والأساقفة يصرح بها باتخاذه الموارنة تحت حمايته، وأرسل إليه الشيخ الجليل المراد به رئيس الإسماعيلية أو النصيرية وفدا ورسالة يزدلف بها له، فأجابه الملك على رسالته، وأرسل إليه كاهنا عالما يرشدهم إلى الإيمان بالمسيح، وقال بعضهم إنهم تظاهروا حينئذ بالنصرانية، وكانوا يمارسون بعض فروضها كتعييدهم بعض الأعياد السيدية التي روي أنهم يمارسونها حتى الآن.
وفي سنة 1253 بلغ الملك لويس خبر وفاة أمه ومدبرة ملكه بلانش دي كستيد، فاضطر أن يعود إلى مملكته، وعاد في 24 نيسان من سنة 1254 تاركا بعكا بعض فرسانه، وواعدا بتواصل عنايته بالأرض المقدسة. (8) تتمة أخبار الملوك الأيوبيين إلى انقراض دولتهم
لما افتتح الملك لويس دمياط كان الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل، أخي صلاح الدين مريضا وتوفي سنة 1249، ولم يكن بقي له ولد غير الملك المعظم توران شاه صاحب حصن كيفا فخلفه، ووصل إلى المنصورة عند القتال عليها بين الإفرنج والمسلمين، وأغضب مماليك أبيه وامرأته، واعتمد على بطانته الذين أتوا معه من حصن كيفا، فوثب المماليك عليه وقتلوه، وأول من ضربه ركن الدين بيبرس البندقداري الذي صار سلطانا في ما بعد، واجتمع الأمراء فأقاموا شجر الدر زوجة الملك الصالح في المملكة، وخطبوا لها على المنابر وضربت السكة باسمها، وأرسلوا رسلا إلى الأمراء بدمشق في موافقتهم على ذلك، فلم يجيبوهم إليه بل كاتبوا الملك الناصر صاحب حلب، فسار إليهم وملك بدمشق مع حلب، ولما علم المماليك بذلك في مصر رأوا أنه إذا استمر أمر الملك في امرأة تفسد الأمور فخلعوا شجر الدر، وأقاموا عز الدين أيبك ملكا ولقب الملك المعز ... ثم اجتمع الأمراء واتفقوا على أن لا بد من إقامة شخص من بني أيوب في السلطنة، واختاروا الملك الأشرف موسى بن يوسف صاحب اليمن، وأجلسوه في دست السلطنة.
وسار الملك الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب من دمشق قاصدا مصر، وصحبه كثيرون من الأمراء الأيوبيين، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسية واتقعوا، وكان العسكر المصري في إمرة عز الدين أيبك المذكور، فحمل على الناصر فهرب نحو الشام ثم هزم عسكره، وأخذ قائده أسيرا وضرب عنقه وأسر جماعة من الأمراء الأيوبيين، وخلع الملك الأشرف وقطع الخطبة له، فكان آخر الأيوبيين بمصر سنة 1255، وتزوج أيبك المذكور بشجر الدر، واصطلح مع صاحب دمشق على أن يكون التخم بينهما عريش مصر، وفي سنة 1258 قتل المعز أيبك، قتلته شجر الدر زوجته غيرة من خطبته غيرها، فنصب المماليك مكانه ابنه عليا ولقبوه بالمنصور وقتلوا شجر الدر التي قتلت المعز.
وأما الناصر صاحب دمشق وحلب فكانت خصومة بينه وبين صاحب الكرك الذي ضوى إليه بعض المماليك البحرية، فسار الناصر إليهم وحاصر الكرك، فأرسل صاحبها إليه بالصلح، فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجابه إلى شرطه، ولما علم بيبرس البندقداري أميرهم هرب في جماعة منهم إلى الناصر، وفي هذه الأثناء قدمت عساكر التتر إلى سورية، فملكوها وفر الناصر إلى مصر ثم إلى تيه العرب وسارت عساكر مصر إلى سورية، وقاتلوا التتر فانهزموا وقتل أميرهم النائب عن هولاكو، وكان الناصر قد حضر عند هولاكو مستسلما إليه، فأبقاه عنده ولما بلغه خبر انكسار عسكره قتل الناصر وبعض الأمراء بني أيوب، ولم يبق منهم بسورية إلا المنصور بن المظفر صاحب حماة، فانقرض ملك الأيوبيين بسورية سنة 1263 كما انقرض بمصر سنة 1255، فكان ملكهم بسورية ومصر نحو تسعين سنة، وخلفهم دولة المماليك البحرية ويسمون المماليك الترك. (9) في إغارات التتر على سورية
منشأ التتر تركستان الصينية وتركستان الروسية، وفي أوائل القرن الثالث عشر ملكوا بلاد فارس، وكان أول ملوكهم فيها جنكزخان الشهير الذي انبسط ملكه إلى الصين وروسية الجنوبية والعراق والجزيرة، وعند موته قسم ملكه بين أولاده الأربعة، وكان الخامس من ملوك التتر اسمه هولاكو، ففي سنة 1260 استولى على الجزيرة، وأرسل ولده سموط إلى سورية وبلغ إلى ظاهر حلب، وكان فيها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائبا عن ابن أخيه الملك الناصر، فقاتل التتر في ظاهر حلب فانهزم الحلبيون إلى مدينتهم، ورحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان، ثم عادوا إلى حلب وأحاطوها ودخلوا إليها وأعملوا السيوف فيها.
وجعل هولاكو النائب بحلب عماد الدين القزويني، وأتى إليه الملك الأشرف صاحب حمص فأعادها إليه، وكان الملك الناصر صاحب حلب قد أخذها منه، وجاء أكابر حماة ومعهم مفاتيح مدينتهم سلموها إلى هولاكو، وكان الملك المنصور صاحب حماة قد توجه إلى الملك الناصر بدمشق، وعاد هولاكو إلى المشرق لدواع اقتضت عوده، وأمر بخراب أسوار حلب وقلعتها فخربت، وأمر صاحب حمص أن يخرب سور قلعة حماة، فخربه ولم يخرب أسوار المدينة لقرب الإفرنج إليها، وأناب هولاكو على جيشه كتبغا فسار إلى دمشق، وملكها بالأمان وعصته قلعتها فحاصرها إلى أن سلمت إليه، وأخذوا بعلبك وعجلون.
واجتمعت العساكر من مصر وعرف أهل دمشق خروجها، فأوقعوا بالنصارى وخربوا كنيسة مريم الكبرى، وسار قطز الملك المظفر (الذي كان قد قتل المنصور عليا وأخذ الملك) بجيش المسلمين لقتال التتر، وجمع كتبغا عسكر التتر، وتقارب العسكران في الغور واقتتلا، فانهزم التتر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل كتبغا قائدهم، وفر من بقي إلى رءوس الجبال، وتبعهم المسلمون فأفنوهم، وأتم قطز سيره إلى دمشق فابتهج المسلمون بقدومه وجهز قطز العسكر إلى حلب لحفظها، وجعل أقوش البرلي أميرا بالسواحل وغزة، وفوض نيابة السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي، ونيابة حلب إلى الملك السعيد صاحب الموصل، وعاد الملك المظفر قطز من دمشق إلى مصر فقتله في طريقه ركن الدين بيبرس البندقداري، وأخذ السلطنة وجمع علم الدين سنجر المذكور الناس، وحلفهم لنفسه بالسلطنة، ولقب نفسه الملك المجاهد وخطب له وضربت السكة باسمه، وعرف التتر بما كان فعادوا إلى سورية، وأتوا حلب فهرب نائبها وقتل التتر كثيرين من أهلها، وتقدم التتر إلى حماة ففر صاحبها إلى حمص، وكان هناك قتال شديد بين التتر والمسلمين فانهزم التتر، وتبعهم المسلمون يقتلون منهم ويأسرون كيف شاءوا وكان ذلك سنة 1261، وعاد التتر مرة أخرى إلى سورية سيأتي ذكرها. (10) في بعض الأحداث في أيام الملك الظاهر
الملك الظاهر هو بيبرس البندقداري الذي قتل قطز سنة 1260، واستبد بالسلطنة، وكان قطز قد استناب بدمشق علم الدين سنجر الحلبي، فاستقل بدمشق سنة 1261، وجهز الملك الظاهر عسكرا أرسله إليه فاقتتل الطرفان في ظاهر دمشق، فولى الحلبي وأصحابه منهزمين إلى جهة بعلبك، فتبعه العسكر المصري وقبض عليه واعتقله وحمل إلى مصر، واستقرت دمشق في ملك الظاهر، وتبعها في ذلك حمص وحماة وحلب، واستبد شمس الدين أقوش البرلي في حلب، فأرسل إليه الظاهر من طرده وكان التتر قد قتلوا الخليفة المستعصم العباسي، وفي سنة 1261 قدم إلى مصر جماعة من العرب، ومعهم شخص اسمه أحمد شهدوا أنه عم المستعصم، وأثبت القاضي نسبه فبايعه الظاهر والأعيان بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، وتوجه به الظاهر إلى دمشق، وأرسله إلى بغداد طامعا أن يستولي عليها، وقبل أن يصل بغداد وصلت إليه التتر وقتلوه، فاستقدم الظاهر من حلب رجلا من العباسيين، وبويع له بالخلافة ولقب الحاكم بأمر الله، واستمر هؤلاء الخلفاء بمصر على الخلافة الدينية ولا ولاية لهم إلى سنة 1517 التي فيها تخلى الخليفة الأخير منهم عن الخلافة إلى السلطان سليم الأول العثماني، فكان من العباسيين بمصر 15 خليفة وبالعراق 37 خليفة.
وفي سنة 1263 سار الظاهر إلى الشام وقبض على الملك المغيث صاحب الكرك وأرسله إلى مصر، وكان آخر العهد به ورتب أمور الكرك، وعاد إلى مصر، وفي سنة 1265 عاد إلى سورية لقتال الإفرنج، ونازل قيصرية فلسطين وفتحها وهدمها، ثم فتح أرسوف وعاد إلى مصر، ثم رجع سنة 1266 وجهز عسكرا إلى ساحل طرابلس ففتحوا القليعات وحلب وعرقا ونزل هو على صفد وضايقها، وفتحها بالأمان، وفي سنة 1268 قدم أيضا إلى سورية، وفتح يافا وأخذها من الإفرنج ثم سار إلى أنطاكية ونازلها، فملكها عنوة وقتل عسكره أهلها وسبوا ذراريهم وغنموا أموالهم، وقال كثيرون من المؤرخين: إن عدد القتلى من النصارى بلغ إلى سبعة عشر ألف وعدد الأسرى مائة ألف ، وكان فتحها في أول أيار سنة 1268 وكان الإفرنج قد فتحوها سنة 1098، فمدة ملكهم لها مائة وسبعون سنة.
وفي سنة 1270 أغار على عكا فرأى أن لا مطمع له فيها، فرحل عنها وجهز عسكرا إلى بلاد الإسماعيلية، فتسلموا حصن مصياف، وفي سنة 1271 نازل حصن الأكراد وهو للإفرنج، فملكه بالأمان ثم سار إلى حصن عكار وملكه وتسلم قلعة القليعات، وفي سنة 1270 عاد القديس لويس التاسع ملك إفرنسة إلى المشرق، وسار أولا إلى تونس فتوفي بها، وكان إدوار بن إنريكوس الثالث ملك إنكلترا قد لحق به، فأتى إلى فلسطين فأعاد الإفرنج خط الاتصال بين مدنهم الذي كان المسلمون قد قطعوه، وملكوا الناصرة التي كان الظاهر أحرق كنيستها، وأرسل أمير يافا إلى الأمير إدوار المذكور رجلا إسماعيليا بهيئة رسول، فطعن الأمير بمدية في ذراعه ثم في جبهته فأخذ الأمير المدية منه فطعنه في بطنه، ولم يشأ أن يبقى بسورية بعد برئه فعقد هدنة مع الظاهر إلى مدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، وعاد إلى بلاده سنة 1271 وتوفي الظاهر سنة 1278 بدمشق ودفن قرب الجامع الأموي. (11) في خلافة ولدي الملك الظاهر وما كان في أيام قلاون الصالحي
بعد اشتهار خبر وفاة الملك الظاهر خلفه ابنه سنة 1278، ولقب الملك السعيد وأساء إلى بعض الأمراء، فعملوا على خلعه وحاصروه بقلعة الجبل بالقاهرة سنة 1280، وخامر عليه من كانوا معه فطاوعهم على الانخلاع وأقاموا مكانه أخاه بدر الدين، ولقبوه الملك العادل وكان عمره إذ ذاك سبع سنين، وصار الأمير سيف الدين قلاون الصالحي أمير الأمراء، وأرسل شمس الدين سنقر الأشقر ليكون نائب السلطنة بدمشق فسار وتولاها، لكن الأمراء انقلبوا على الملك العادل فخعلوه، وأجلسوا الأمير قلاون الصالحي على منصة الملك، وسموه الملك المنصور، فأبى سنقر الأشقر نائب دمشق الطاعة له واستبد بملك سورية، وسمي الملك الكامل، فجهز عليه قلاون عسكرا وخرج إليهم سنقر إلى ظاهر دمشق فهزموه، فسار إلى الرحبة ثم إلى صهيون فاستولى عليها وعلى الشفر وبكاس وشيزر وأباميا وعكار، وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد ، فسار قلاون من مصر إلى سورية سنة 1282، وأرسل عسكرا إلى أملاك سنقر، فترددت الرسل بين السلطان قلاون وسنقر، فصالحه السلطان ليقوى على التتر.
وفي سنة 1282 المذكورة حشد أبغا ابن ملك التتر الجيوش، وبلغوا إلى حمص فالتقاهم الملك المنصور من دمشق، ووافاه سنقر المذكور وصاحب حماة، فاقتتل الفريقان في ظاهر حمص، وكانت الدائرة على التتر فولوا مدبرين، وتبعهم المسلمون يقتلون منهم ويأسرون، واستقر ملك سورية للملك المنصور قلاون.
وفي سنة 1283 سارت بعض العساكر الإسلامية، فحاصرت قرية أهدن وملكوها بعد أربعين يوما، وخربوا القلعة التي كانت في وسطها والحصن الذي على رأس الجبل، وفتحوا بقوفا ودكوها وقتلوا أهل حصرون وكفر سارون، وهرب أهل الحدت إلى مغارة فيها صهريج، فقتلوا من أدركوه ودمروا القرية وأماتوا من لجئوا إلى مغارة حوقا بجر ماء نبع مار سمعان بشري إليها، ثم رجع هؤلاء الغزاة ولم يقيموا بجبة بشري، وفي سنة 1285 توفي الملك المنصور صاحب حماة، وهو من الأيوبيين فولى قلاون عليها ابنه الملك المظفر، وفي سنة 1286 نازل السلطان قلاون حصن المرقب، وكان بيد الإفرنج فأخذه بالأمان وخرج الإفرنج منه بما أمكنهم حمله، وفي سنة 1288 أخذ قلعة صهيون من سنقر الأشقر المذكور.
وفي سنة 1289 نازل أطرابلس بالعساكر المصرية والشامية، واشتد القتال وطال إلى أن دخلها عنوة فهرب أهلها إلى المينا، فنجا أقلهم بالمراكب وقتل أكثر سكانها، وأمر السلطان فهدمت المدينة ودكت إلى الأرض، وهرب كثيرون من الإفرنج إلى جزيرة قريبة من هناك، فعبر المسلمون بخيلهم سابحة فقتلوا جميع من فيها من الرجال، وغنموا من كان بها من النساء والصغار، وكانت أطرابلس بيد بيومند السابع أمير أنطاكية، وكنت أطرابلس وكان صغيرا تدبر أمه شئون الولاية تحت مناظرة أسقف طرسوس، وكان بين أهل المدينة بعد موت بيومند السادس اختلافات، فساعد ذلك على أخذ المسلمين مدينتهم بعد أن بقيت بيد الإفرنج نحو مائة وخمس وثمانين سنة، وبعد أخذ أطرابلس أخذ السلطان يتجهز لفتح عكا، وخرج سنة 1290 من مصر بالعساكر المتوافرة فأصابه داء أودى به. (12) في ما كان بسورية في أيام الأشرف بن قلاون «فتح عكا وغيرها»
بعد وفاة الملك المنصور قلاون الصالحي خلفه ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، وسار في سنة 1290 المذكورة بالعساكر المصرية إلى عكا، ودعى إليها العساكر الشامية، وحاصرها حصارا شديدا وعظم عليها القتال، ولم يغلق الإفرنج أكثر أبوابها بل كانوا يقاتلون عليها، ودام الحصار عدة أسابيع وكان عسكر المسلمين نحو أربعين ألف فارس، ومائتي ألف رجل من مصر انضم إليهم نحو من مائتي ألف آخرين من سورية، ولم يكن رجال الحرب في عكا في أول الأمر أكثر من عشرين ألفا، وفي 18 من أيار سنة 1291 دخل المسلمون المدينة، واستمرت الحرب في داخلها حتى قتل فيها جم غفير، وفر بعض الأهلين بالمراكب التي كانت قليلة حينئذ، فنجا بها قليلون، وكان البطريرك نيقولاوس الأورشليمي حينئذ بعكا، وكان يؤثر الموت مع شعبه فأنزلوه مكرها إلى قارب يوصله إلى المركب، فأخذ الراعي الصالح معه كثيرين حتى أثقلوا القارب، فغرق بهم جميعا، وأمر السلطان بهدم كل القلاع والحصون والدور والكنائس المشهورة، فدكت وأمست عكا قاعا صفصفا وكوم أنقاض.
فأخذ المسلمون عكا ووقع الرعب في قلوب الإفرنج، فهرب أهل صور أولا إلى طرسوس، ثم إلى قبرس، وأرسل السلطان سنجر الشجاعي نائب السلطنة بدمشق، فأخذ صيدا ثم انتقل إلى بيروت ونزل بقلعتها، وأمر الإفرنج أن ينقلوا أولادهم ونساءهم إليها، وظنوه مشفقا عليهم فقبض على الرجال وقيدهم وألقاهم في الخندق، وهدم أسوار المدينة وقلعتها، وجهز من بقي من أهلها إلى دمشق ثم إلى مصر، ولما وصلوا إليها خيرهم السلطان بين العود إلى بيروت أو التوجه إلى قبرس، وأصبحت بهذه الفتوحات جميع البلاد الساحلية للمسلمين، وأتم الملك الأشرف طرد الإفرنج من سورية، ومن سلم منهم وهو أقلهم هرب إلى قبرس ثم إلى المغرب أو اختبأ عند النصارى بلبنان، فكانت مدة مقام الإفرنج بسورية من فتحهم أنطاكية سنة 1098 إلى طردهم من عكا سنة 1291 مائة وثلاث وتسعين سنة شمسية، وأقام السلطان الأشرف من زاوية أطرابلس إلى صيدا بعض عشائر التركمان والمسلمين تحوطا من عود الإفرنج؛ لتكون هذه العشائر فاصلة بينهم وبين النصارى الوطنيين، واستمرت بقية من هذه العشائر في المواضع المذكورة إلى الآن.
وفي سنة 1292 عاد الأشرف من مصر إلى سورية وتوصل إلى حلب، وسار إلى قلعة الروم على الفرات وفتحها عنوة وقتل أهلها ونهبها، واستناب بدمشق عز الدين أيبك الحموي وعزل منها سنجر الشجاعي، وعزل قراسنقر المنصوري عن نيابة حلب، وولى مكانه سيف الدين بلبان، وفي سنة 1294 كان مقتل السلطان الأشرف، قتله بيدرا نائب السلطنة، ولاجين الذي كان السلطان قد عزله عن نيابة دمشق، وقراسنقر الذي عزله عن نيابة حلب، واتفق القاتلون على سلطنة بيدرا، فاجتمع مماليك السلطان المقتول فقتلوا بيدرا وبددوا أصحابه، وأقاموا في السلطنة الملك الناصر أخا الملك الأشرف. (13) تتمة الأحداث بسورية إلى آخر هذا القرن
إن الأمراء أقاموا عند الملك الناصر كتبغا المنصوري نائبا للسلطنة، ففي سنة 1295 حجر كتبغا على السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة، وحجب الناس عنه واستحلفهم له، وجلس على سرير السلطنة ولقب نفسه بالملك العادل، وفي سنة 1296 سار إلى سورية وقدم دمشق، ثم حمص وتوجه إلى جوسية على طريق بعلبك، وكان قد اشتراها وعمرها وعزله عز الدين عن نيابة دمشق وولى موضعه سيف الدين غرلو مملوكه، وفي سنة 1297 خرج الملك العادل من دمشق عائدا إلى مصر، ووصل إلى نهر العوجا فوثب عليه لاجين أحد قتلة الأشرف المار ذكره فقتل مملوكين له، وفر العادل إلى دمشق ولم يجد من يدافع عنه، فخلع نفسه من السلطنة، فأعطاه لاجين صرخد فسار إليها، واجتمع الأمراء المحازبون للاجين فأقاموه ملكا ولقبوه الملك المنصور، وجعل نائبا بدمشق سيف الدين قبجق بوضع غرلو المذكور، وفي سنة 1299 وثب على الملك المنصور جماعة من المماليك الصبيان الذين اصطفاهم لنفسه فقتلوه، وأقام الأمراء مكانه الملك الناصر الذي كان كتبغا قد خلعه، وفوض نيابة دمشق إلى جمال الدين الأخرم، وفي سنة 1299 توفي الملك المظهر صاحب حماة من الأيوبيين وهو عم والد أبي أفغدا المؤرخ، وانقطعت الحكومة منهم بوفاته؛ لأن الناصر نصب قراسنقر المذكور قبلا في مكانه، ولكن رجعت إليهم بنصب أبي الفداء كما سترى.
وفي سنة 1300 حمل التتر مرة أخرى على سورية بإمرة قازان بن أرغون ملك التتر، ووصلوا إلى حلب فدخلوها ثم أتوا إلى حماة، وسارت العساكر الإسلامية صحبة الملك الناصر، والتقى العسكران في شرقي حمص، فانكسر المسلمون وتشتت شملهم، وتبعهم التتر، واستولوا على دمشق واتصلوا إلى القدس وغزة والكرك، ودعا داع قازان إلى أن يعود إلى بلاده، فعاد ولما بلغ الملك الناصر عوده جهز عسكرا إلى سورية، فخاف التتر وارتحلوا إلى بلادهم، ودخل عسكر مصر إلى دمشق، ورتب أمراؤه أمورها فجعلوا جلال الدين أقوش الأخرم نائبا بدمشق وقراسنقر نائبا بحلب، وكان قازان المذكور يعتد النصارى أخلص حلفائه وأكثرهم أمانة لملكه، وكان علم الصليب يسير بجانب علمه الملكي، وقد أرسل وفودا ورسائل إلى الحبر الروماني وملوك أوروبا يطلب المحالفة معهم، ويعد أن يسلمهم الأرض المقدسة فلم يتيسر الأمر حينئذ. (14) في المشاهير السوريين في القرن الثالث عشر
ابن الساعاتي:
هو دمشقي الأصل ويلقب بهاء الدين، وكان شاعرا مبرزا في حلبة المتأخرين، وله ديوان شعر في مجلدين أجاد فيه كل الإجادة، وديوان آخر لطيف سماه مقطعات النيل، وتوفي سنة 1207.
الشيخ علي الطرابلسي:
ذكر المطران إسطفان عواد كتابا له في المكتبة الماديشية بفيرانسا عنوانه زينة الحكيم، فرغ من تأليفه سنة 1219 يشتمل على أربع مقالات: الأولى في المعادن وتهيئتها لاستعمال الطبيب، والثانية في ماهية الحجر الذي يسمونه حجر الفلسفة وكيفية تركيبه، والثالثة في السيميا وتفسير أسرارها وهي صناعة استعملها العرب؛ ليعرفوا أمزجة الأجسام زاعمين أنهم يعرفون المستقبلات معرفة أكيدة بواسطة تركيب بعض الحروف وقلب الأسماء، والرابعة في استعمال العقاقير الحيوانية على مذهب جالينوس.
ياقوت الحموي:
أصله رومي أسر من بلاده صغيرا، وابتاعه ببغداد رجل حموي، واستعمله في تجارته ثم أعتقه واشتغل بنسخ الكتب بالأجرة، ثم عكف على التصنيف والتأليف، فله إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء في أربعة مجلدات، ذكر فيه كثيرين من النحاة واللغويين والنسابين والمؤرخين وغيرهم، وكتاب في أخبار الشعراء القدماء والمتأخرين، وكتاب معجم البلدان، ومعجم الشعراء ومعجم الأدباء وكتاب المشترك، وكتاب المبدأ والمآل في التاريخ، وكتاب أخبار المتنبي إلى غيرها، وتوفي ياقوت الحموي بحلب سنة 1229.
بهاء الدين بن شداد:
قاضي حلب الفقيه الشافعي خدم صلاح الدين الأيوبي، وولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس، وبعد وفاة صلاح الدين خدم الملك الظاهر صاحب حلب، فولاه قضاءها، وعمرت في أيامه مدارس كثيرة، ولم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وتوفي سنة 1235، وله من المؤلفات ملجأ الحكام عند إتيان الأحكام، وكتاب دلائل الأحكام في مجلدين، والموجز الباهر في الفقه وسيرة صلاح الدين الأيوبي وغيرها.
عبد المحسن التنوخي الحلبي:
توفي سنة 1246، وعني بالأدب وجمع كتابا في الأخبار والنوادر في عشرين مجلدا، وله ديوان شعر وديوان ترسل وكتاب مفتاح الأفراح في امتداح الراح.
ابن أبي أصيبعة:
ولد بدمشق وكان من أصدقاء ابن البيطار، وتوفي سنة 1269 وله مؤلف سماه عيون الأنباء في طبقات الأطباء ذكر فيه مشاهير الأطباء والطبيعيين من كل الأمم، وطبع بالقاهرة سنة 1300.
علاء الدين الدمشقي:
توفي سنة 1269 وله كتاب عنوانه شرح الأصول العامة في صناعة الطب قسمه إلى أربعة أقسام: الأول في أصول الطب النظري والعملي والثاني في إعداد المآكل والأدوية البسيطة والمركبة، والثالث في أمراض كل من الأعضاء الخاصة وعللها، والرابع في الأمراض التي تصيب جزءا من الجسد وعللها وأعراضها.
محمد بن مالك:
ولد بالأندلس سنة 1204 وصرف عمره بدمشق وحلب في إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية، وأربى على المتقدمين وكان في النحو والتصريف بحرا لا تشق لججه، وكان عجيبا بحفظه أشعار العرب وباطلاعه على الحديث، وله من التآليف ألفيته المشهورة التي شرحها كثيرون منهم ابن الناظم وابن عقيل والأشموني، وهذه الشروح طبعت مرات بل طبعت الألفية ببريس سنة 1833 ولبسيك سنة 1851، وله أيضا كتاب الفوائد في النحو وسبك المنظوم وفك المختوم، وكتاب الكافية الشافية ثلاثة آلاف بيت وشرحها، والخلاصة ومختصر الشافية وإكمال الأعلام بمثلث الكلام وفعل وافعل والمقدمة الأسدية باسم ولده الأسد، وعدة اللافظ وعمدة الحافظ والنظم الأوجز في ما يهمز والاعتضاد بالظاء والضاد إلى غيرها.
وعاصر هؤلاء في غير سورية فخر الدين الرازي صاحب التآليف الكثيرة منها تفسير القرآن، وله في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول، وكتاب البيان والبرهان على أهل الزيغ والطغيان، وكتاب إرشاد الأنظار إلى لطائف الأسرار، وله في الفقه والمحصول والمعالم وفي الحكمة الملخص، وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة، وله في الطب شرح الكليات لقانون ابن سينا إلى غير ذلك، وكان له مع هذه العلوم شتى من النظم، وتوفي الرازي سنة 1209 وكان من أبناء الأثير مجد الدين وله جامع الأصول في أحاديث الرسول، وكتاب النهاية في غريب الحديث في خمسة مجلدات وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في تفسير القرآن إلى كثير غيرها، وتوفي سنة 1210، ومن أبناء الأثير عز الدين صاحب التاريخ المشهور المعروف بالكامل، وله أيضا كتاب أخبار الصحابة في ستة مجلدات إلى غير ذلك وتوفي سنة 1233، ومنهم ضياء الدين ومن تآليفه المثل السائر في آداب الكاتب والشاعر، والوشي المرقوم في حل المنظوم وإلى غير ذلك، وتوفي سنة 1240.
ومن المشاهير في هذا القرن عثمان بن الحاجب وله الكافية في النحو والشافية في التصريف، وللكافية عدة شروح وله مؤلف في أصول الفقه، وتوفي سنة 1249 وابن البيطار واشتهر بعلم النبات وله عدة مصنفات في الطب منها المغني ومداواة الأعضاء وله في النبات كتاب المفردات المشهور وتوفي بدمشق سنة 1248، ومنهم عمر بن الفارض صاحب الديوان المشهور الذي طبع مرارا مع شروحه وتوفي سنة 1235، ومنهم ابن خلكان صاحب وفيات الأعيان المشهور وله مؤلفات غيره وتوفي سنة 1282 بدمشق، ومنهم البيضاوي وله في تفسير القرآن أنوار التنزيل، وأسرار التأويل وفي التوحيد طوالع الأنوار وهو فلسفي ديني، وله كتاب سماه نظام التواريخ، وتوفي بتبريز سنة 1287.
الفصل الرابع
في تاريخ سورية الديني في القرن الثالث عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
إن توادوروس بلسامون بطريرك أنطاكية توفي سنة 1214، وتاريخ خلفائه في هذا القرن أيضا سقيم وغامض، والذي ذكره لكويان والسمعاني في جداول هؤلاء البطاركة إنما هو أنه كان بعد بلسامون يواكيم الأول، ثم هياروتوس ثم سمعان الثالث ثم داود، ثم ارتقى إلى كرسي أنطاكية بعد هؤلاء أوتيميوس الأول، ثم توادوسيوس الخامس ثم أرسانيوس ثم كيرللس الثاني ثم ديوانيسيوس الأول، ثم كيرلس الثالث ثم ديوانيسيوس الثاني ثم صفرونيوس ... ومما يبعث على العجب أن مؤلف الجدول الواتيكاني لم يذكر هؤلاء البطاركة الثمانية الأخيرين مع أن علماء يركن إلى درايتهم حققوا تعاقبهم على الكرسي الأنطاكي، ومن هؤلاء العلماء نيكوفور كاليستوس لا نعلم تفصيلا متى قام هؤلاء البطاركة ولا متى توفوا، وكان بطاركة أنطاكية على الموارنة في هذا القرن دانيال من شامات، وخلفه سمعان وكان بطريركا سنة 1245، بل ربما كان هو البطريرك الذي كتب إليه البابا إسكندر الرابع رسالة يوصيه بالإفرنج بعد طردهم من أنطاكية، وخلفه يعقوب وكان سنة 1277، وخلفه دانيال الثاني من حدشيت، وكان في سنة 1281، ثم خلفه لوقا من بنهران سنة 1283، وخلفه في سنة 1290 جبرائيل من حجولا ومات شهيدا في أطرابلس سنة 1297، وخلفه سمعان واستمر على البطريركية إلى سنة 1339.
أما كرسي أورشليم فيظهر أنه بعد وفاة توافان في أوائل القرن الثالث عشر لم يقم عليه بطريرك إلا في نحو سنة 1260، إذ قام عليه غريغوريوس الثاني في أيام الملك ميخائيل باليولوغوس الذي ملك سنة 1260، وله كتاب رد به زعم رأي يوحنا بكخوس الذي كان يدافع عن تعليم الكنيسة الغربية واللاتين، وبعد وفاة غريغوريوس صير باسيليوس الثالث وقتل في إحدى مواقع الحرب بين المسلمين والإفرنج، فصير بعده تادي الفرمي وله كتاب في الرد على اليهود كتبه سنة 1298، وهذا الكتاب محفوظ في المكتبة الملكية ببريس.
وكان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بطاركة على أنطاكية وأورشليم من اللاتين لم يسع هذا الموجز الكلام فيهم. (2) في المشاهير الدينيين في القرن الثالث عشر
أشهر المشاهير بالمشرق في هذا القرن غريغوريوس بن العبري المعروف بأبي الفرج، ولد بملطية ببلاد الأرمن سنة 1227، ورحل به أبوه إلى أنطاكية سنة 1234، وبرع باللغات السريانية والعربية واليونانية، وعكف على دراسة الطب عند أبيه الذي كان طبيبا، ثم استأذن أباه بهجر العالم، وانقطع إلى النسك بمغارة جبل أنطاكية فأقام على ذلك سنة، ثم خرج إلى أطرابلس فدرس العلوم الأدبية والرياضية على رجل اسمه يعقوب من علماء النساطرة، وتعارف هناك بصليبا بن يعقوب من ملته، ثم استقدمهما أغناتيوس سابا بطريرك اليعاقبة، فرقاهما إلى الأسقفية، صليبا على عكا، وابن العبري على جوباس، ثم نقله إلى أسقفية لاقابين من أعمال ملطية، واستمر في هذه الأسقفية خمس سنوات، ومات البطريرك أغناطيوس سابا سنة 1251، فكان خلاف في الملة اليعقوبية إلى سنة 1263، وكان لهم بطريركان ديوانيسيوس عنجور ويوحنا بن المعدني، فأرسل ديوانيسيوس ابن العبري إلى حلب وأقام فيها ابن المعدني متى الجومي، فلجأ ابن العبري إلى الحكومة فاستبد بمطرانية حلب، ولما قام أغناتيوس الثالث بطريركا على اليعاقبة رقي ابن العبري سنة 1264 إلى مقام مفريان بمعنى الأسقف العام، أو كبير الأساقفة إلى أن توفي سنة 1286.
وعدد أخوه برصوما مؤلفاته، فكانت واحدا وثلاثين مؤلفا وقال السمعاني: إنه فات برصوما أن يذكر لأخيه ثلاثة كتب، ومن هذه الكتب كتابه كنز الأسرار مشتملا على تفسير الأسرار المقدسة، وكتابه منارة الأقداس في اللاهوت، وكتاب الأشعة في اللاهوت أيضا، وكتابه الهدايات جمع فيه القوانين البيعية، وكتابه في الآداب وتهذيب الأخلاق، وكتابه في التاريخ بدأ فيه من خلق العالم إلى أيامه مقسوما إلى ثلاثة أقسام: الأول في تاريخ الآباء والملوك من الكلدان والفراعنة واليونان والرومان، ثم خلفاء المسلمين إلى أيامه، وهذا القسم ترجمه المؤلف نفسه إلى العربية، وسماه مختصر تاريخ الدول وزاد عليه زيادة هامة واختصره، والقسم الثاني في تاريخ بطاركة أنطاكية واليعاقبة، والثالث في تاريخ الجثالقة والمفريانات، وله في الفلسفة كتابه الموسوم بزبدة الحكمة وكتاب في النفس البشرية، وله ترجمة كتابين في الفلسفة: أحدهما لابن سينا والثاني لأثير الدين الأبهري، وله في الرياضيات حل كتاب إقليدس، وفي الفلك كتاب ارتفاع العقل، وله في اللغة السريانية كتاب الصمحي أي: كتاب الأشعة أو اللمع وكتاب مقتطف عنه في نحو هذه اللغة منظوم بالشعر، وله قصيدة تزيد على ستمائة بيت جمع بها الألفاظ السريانية المتشابهة، وله ديوان شعر بالسريانية طبع برومة سنة 1877 إلى غير ذلك من مؤلفات هذا النابغة النادرة.
وكان في هذا القرن بمصر أبو إسحق بن العسال، وهو يعقوبي المذهب اشتهر بعلمه شهرة كبرى حتى كناه النصارى أبا الفضائل، وله كتاب جمع فيه قوانين الكنيسة، وكتاب آخر في تفسير الأسفار المقدسة عنونه مجموع أسس الدين ورد فيه على الوثنيين واليهود، وزيف أقوال الفلاسفة غير المسيحيين، وأثبت بأدلة جلية سري التثليث والتجسد وسائر أسرار الدين المسيحي، وتوفي بعد سنة 1239.
الفصل الخامس
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع عشر
في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن (1) في تتمة ما كان من الأحداث في أيام الملك الناصر
في سنة 1302 توفي كتبغا نائب السلطان بحماة ونصب السلطان مكانه سيف الدين قبجق، وكان الحق لأبي الفداء صاحب التاريخ المشهور؛ لأنه من البيت الأيوبي، وقد أخذ بعد ذلك هذا المنصب، ومذ سنة 1292 وكان الأمير بيدرا قائد عساكر السلطنة بمصر قد توجه إلى جبال كسروان، وصحبته كثير من الأمراء فتغلب أهل تلك الجبال على العساكر وقتلوا كثيرين منهم، روى ذلك المقريزي في تاريخ الممالك، وصالح بن يحيى في تاريخ بيروت.
وفي سنة 1302 جمع جمال الدين أقوش الأخرم نائب دمشق بعض العمال والعساكر، وساروا لمقاتلة الجرديين وأهل كسروان فالتقى مقدمو الجبال الجيش، فهزموه وقتلوا كثيرين وغنموا غنائم كثيرة، وقتل في هذه الموقعة بعض الأمراء التنوخيين أصحاب بيروت وغزا الجرديون بلادهم، وأحرقوا بعض قراها ... ذكر ذلك صالح بن يحيى المذكور وابن الجوزي، ثم قال صالح المذكور ومما نقلناه عن النويري والصلاح الكتبي في فتوح كسروان في سنة 705ه/1305م: توجهت العساكر الشامية إلى جبال كسروان وإبادة أهلها، وهي النوبة الثانية في أيام الملك الناصر، فإن أهل كسروان كانت شوكتهم قد اشتدت، وتطاولوا على أذى العسكر عند انهزامه من التتر، وأغض السلطان عنهم، وأظهروا الخروج عن الطاعة واعتزلوا بجبالهم المنيعة ووثقوا بجموعهم الكثيرة، ففي سنة 1304 جهز جمال الدين آقش (يسمى آقوش أيضا) الأخرم، وتوجه بعده تقي الدين قراقوش وأنذرهم بالرجوع إلى الطاعة، فأبوا فأمر حينئذ بتجريد العساكر إليهم من ممالك سورية، وتوجه آقش الأخرم نائب السلطنة فيها بسائر الجيوش، وجمع جمعا كبيرا من الرجالة نحو خمسين ألفا وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين، وتوجه نائب أطرابلس من جهة هذه المدينة ، فدخل كسروان من أصعب مسالكه واجتمعت على أهله العساكر، فوطئت أرضا لم يكن سكانها يظنون أحدا يطأها وقطعت كرومهم، وأخربت بيوتهم وقتل منهم خلق كثير وتفرقوا في البلاد، واستخدم نائب أطرابلس جماعة منهم وأقطع بعضهم أملاكا، وعن ابن سباط أن العساكر بلغت أولا إلى الجرد التي بجبال بيروت (أحد أعمال الشوف)، فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل، والتقت الجموع عند عين صوفر، فكان قتال شديد دارت به الدائرة على الأمراء، فهربوا بحريمهم وأولادهم ونحو ثلاثمائة نفس، واحتموا في غار يعرف بمغارة نيبية فوق إنطلياص، فدافعوا عن أنفسهم حتى لم يقدر الجيش أن ينال منهم، وبذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا، فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سدا من الحجر والكلس، وهالوا تلا من التراب عليه، وأقاموا حارسا عليهم مدة أربعين يوما حتى هلكوا جميعا، ثم أحاطت العساكر بجبال كسروان كما روى النويري والصلاح الكتبي، فقتلت أهلها وأخربت بيوتهم ودكت معابدهم وانهزم أكثرهم، ثم توجه بعض مأموري الحكومة لأجل عمارة الجبل بتأمين السكان الذين لم يستطيعوا الفرار، وإسكان عشائر من المسلمين في السواحل، وأمر الملك الناصر تركمان الكورة أن ينزلوا في ساحل كسروان، وهم آل عساف الآتي ذكرهم.
ولا شك في أن أهل كسروان كانوا حينئذ من الموارنة، وأن سكان الجرد كان أكثرهم وقتئذ من الدروز، ويظهر أن الفريقين كانوا إذ ذاك متفقين ويؤيده هرب الدروز من عين صوفر إلى نيبية التي كانت حينئذ من كسروان، إذ كان تخمه الجنوبي نهر الجمعاني كما يظهر أنه بقيت بقية من الموارنة بكسروان وبعد مدة أخذوا يتقاطرون إلى السكنى فيه.
وفي سنة 1305 أيضا سار جمال الدين آقوش الأخرم بعد فتحه كسروان إلى جبال الظنيين الواقعة بين أطرابلس ودمشق، وكان أهلها عصاة مارقين فظفرت العساكر بهم، وقتلوا وأسروا جميع من بها من النصيرية والظنيين وغيرهم من المارقين.
وفي سنة 1308 استبد سلار نائب السلطنة وبيبرس الجاشنكير بالأمور، ولم يتركا للسلطان الناصر إلا الاسم، فسئمت نفسه هذا التطاول وأتى الكرك مظهرا أنه ماض إلى الحجاز وهو يريد المقام بالكرك، ولما علم الأمراء بذلك اتفقوا على أن يخعلوه وجعلوا بيبرس المذكور سلطانا، وتلقب الملك بالمظفر، وفي سنة 1309 سار بعض الأمراء من مصر إلى حلب، واتفقوا مع نائبها قراسنقر المنصور على خلع الملك المظفر وإعادة الملك الناصر، ووصل إليه بعض المماليك من مصر واستدعاه عسكر دمشق وكاتبه الحلبيون، فسار من الكرك إلى دمشق ودخلها وانهزم آقوش الآخرم نائبها، وقدم إليه النواب من حلب وحماة وصفد فسار بهم إلى مصر، وهرب الملك المظفر إلى الصعيد فقبض عليه الناصر، واسترد منه ما أخذه من الأموال والخيول واعتقله وكان آخر العهد به.
وفي سنة 1310 ولى الناصر أبا الفداء بحماة فرجعت إلى بيتهم الأيوبي، وفيها سير السلطان عسكرا إلى حلب فقبضوا على أستدمر نائبها؛ لريبة السلطان بأمانته، وأرسل إلى مصر، ونصب مكانه قراسنقر نائب دمشق وجعل مكانه آقوش نائب الكرك، واتفق قراسنقر مع مهنا أمير العرب، وأراد أن يستبد بحلب فخالفه أمراء حلب وأرسل إليه السلطان عسكرا، فانهزم إلى مهنا حليفه، وفي سنة 1312 حاول آقوش الأخرم المذكور أن يحدث شقاقا وانضم بعض الدمشقيين إليه، فلم يوافقه أحد من العسكر فهرب إلى قراسنقر عند العرب، وأرادا كبس العسكر فلم يوافقهما أحد وسار عسكر إليهما فهربا إلى ملك التتر.
وفي سنة 1320 أنعم السلطان على أبي الفداء بلقب سلطان، فاستعظمه واستصغر نفسه فندبه السلطان إلى ذلك، وأرسل إليه شعار السلطنة وتوفي أبو الفداء سنة 1331 فولى السلطان ابنه الملك الأفضل محمد، وتوفي السلطان سنة 1340 وخلفه ابنه المنصور وعزل الأفضل عن حماة، وولى مكانه طغرومرد، انقرضت إيالة بني أيوب من حماة بموت الأفضل سنة 1341، وفي سنة 1339 وقعت نار بدمشق في شرقي الجامع الأموي، فاحترق سوق اللبادين والوراقين ثم وقعت مرة أخرى، فأهلكت مالا وخلقا كثيرا واتهم النصارى بذلك فجرى القبض على روسائهم وطوفوهم على الجمال، وسمروا أربعة عشر شخصا منهم، وبلغ ذلك مسامع السلطان فأرسل نائب السلطنة بصفد على تنكز نائب السلطنة بدمشق، وأخذه إلى القاهرة ثم اعتقل بالإسكندرية وتوفي بالسجن، ثم توفي الملك الناصر سنة 1340. (2) في ما كان في أيام أبناء الناصر
بعد وفاة الناصر تعاقب أبناؤه على سرير الملك، وكان الأمراء يقلقون المملكة فبويع أولا ابنه أبو بكر ولقب الملك المنصور، وأقبل على لذاته فخلعه الأمراء وملكوا أخاه كجك ولقبوه الملك الأشرف، واستبد قوصون كبير الأمراء بتدبير الملك فامتعض من ذلك الأمراء بسورية، واعتزموا على إقامة أخيه أحمد وكان واليا بالكرك، وثار الأمراء بمصر على قوصون فنهبوا بيوته وخربوها وقبضوا عليه، ومات في السجن بالإسكندرية، وبايعوا أحمد ولقبوه الملك الناصر، ثم استوحش الأمراء منه ووجس منهم فارتحل إلى الكرك، فاجتمع الأمراء بمصر وخلعوه وبايعوا لأخيه إسماعيل، ولقبوه الملك الصالح، وأرسل العساكر إلى أخيه الناصر فقتلوه سنة 1344، واستبد الصالح بالملك ولكنه توفي سنة 1245، فبويع أخوه زين الدين شعبان ولقب بالملك الكامل، وأرهف في الاستبداد على أهل دولته فرارا من حجرهم عليه، فانتقض عليه الأمراء بمصر والشام وجرد عسكرا إلى الشام، واعتقل أخويه حاجي وحسين بالقلعة فثار عليه الأمراء بمصر فاقتتلوا وانهزم الكامل إلى القلعة، فدخلها الأمراء بعده فاعتقلوه وأخرجوا أخاه حاجي من معتقله وبايعوه ولقبوه الملك المظفر، لكنه استبد فتواعد الأمراء للوثوب عليه، فاستدعاهم إلى القصر وقبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف واعتقل جميعهم، وقتل بعضهم وبعث بعضهم إلى الشام فقتلوا في الطريق، وولى مكانهم خمسة عشر أميرا، وأرسل أحد خواصه إلى دمشق فأغرى الناس لقتل اليحياوي أحد هؤلاء الأمراء، فقتل وسكنت الفتنة، ولكن استجدت في مصر فهب المظفر لمناوأة خصومه، فخانه بعض من كان معه فقتلوه سنة 1347.
وأقام الأمراء بعده أخاه حسن ولقبوه الناصر بلقب أبيه، فشرع يستبد على عادة إخوته واستوحش منه أهل دولته، فكبسوه في القلعة واعتقلوه وبايعوا أخاه حسينا، ولقبوه الملك الصالح وثار عليه بعض الأمراء بدمشق، فسار السلطان إليها وأخمد الفتنة، ولكن ثار عليه بعض الأمراء فخلعوه وأعادوا أخاه الناصر الذي كان معتقلا إلى الملك، ولكن ثار عليه بيبقا (ويسمى يلبغا) الذي كان قد أكثر من الإحسان إليه، وجعله نائب السلطنة بدمشق ثم نائبا للسلطنة، فكبس السلطان في خيامه خارجا من داره وتقبض عليه، وكان آخر العهد به، وانتهى به ملك أبناء الناصر سنة 1360.
ومما كان بسورية في أيام هؤلاء السلاطين أن كان سنة 1348 طاعون شديد الوطأة حتى صلي بدمشق على 263 ميتا في يوم واحد، وفي سنة 1355 قصدت بعض مراكب الإفرنج صيدا، وقتلوا جماعة من أهلها وأسروا جماعة وقتل منهم خلق، واجتمعت عليهم العساكر من دمشق وصفد، وأخيرا دفعوا إلى الإفرنج على كل أسير خمسمائة درهم. (3) في ما كان بسورية في أيام باقي الملوك من دولة هؤلاء المماليك
بعد وفاة الملك الناصر نصب بيبقا نائب السلطنة محمد بن المظفر، ولقبه الملك المنصور، وقام بتدبير دولته وانتقض عليه أستدمر نائب دمشق، واستولى على قلعتها فسار إليه بيبقا مع السلطان والعساكر، فاعتصم المخالفون بالقلعة إلى أن أنزلوا بالأمان، وبعث بيبقا بهم إلى الإسكندرية وجعل الأمير عليا المارداني نائبا بدمشق وقطلوبغا الأحمدي نائبا بحلب، وبدا لبيبقا استرابة في الملك المنصور، فخلعه سنة 1362، وأقام مكانه شعبان بن الناصر ولقبه الملك الأشرف وكان عمره عشر سنين، وعزل المارداني من دمشق وولى مكانه منكلي بغا، نقله من حلب إلى دمشق، فولى مكانه عشقتمر المارداني، وفي سنة 1365 غزا بطرس لوسنيان ملك قبرس الإسكندرية بمعاونة جمهورية البندقية وفرسان رودس، فملكوا الإسكندرية ونهبوها وخافوا مهاجمة عسكر مصر لهم فأحرقوا المدينة، وارتحلوا عنها واستحوذوا بعد مدة على أطرابلس وأحرقوها، وكذلك صنعوا بطرطوس واللاذقية، ولم يكن نفع من هذه الحملة سوى إثارة حنق المسلمين على النصارى، وهادن الملك الأشرف الإفرنج على إطلاق الأسرى من الفريقين، وعلى إعطاء ملك قبرس النصف من دخل المكوس بصور وبيروت وأورشليم، وعلى إباحة الإفرنج الحج إلى القدس، وتجديد كنيسة القبر المقدس، وكنيسة بيت لحم والناصرة، لكن الأشرف أخلف وعده بعد مدة يسيرة.
وطال استبداد بيبقا مدبر السلطنة، وثقلت وطأته على الأمراء فتشاوروا في نكبته ونما الخبر إليه، فخلع الأشرف ونصب أخاه توك ولقبه الملك المنصور فاجتمعت العساكر على الأشرف، وهاجموا الخونة فانفض أصحاب بيبقا عنه فولى منهزما، ثم استحضر فقطع بعضهم رأسه وانتقض الأمراء مرات على الأشرف، فقهرهم واستبد بملكه وأذعن الناس لطاعته، لكنه خرج إلى الحج سنة 1374 فانتقض عليه بعض مماليكه، واضطر إلى العود إلى القاهرة فثار عليه بعض الأمراء، فأرغم على الفرار والاختباء في بيت استخرجوه منه وقتلوه خنقا سنة 1376.
وبعد مقتل الأشرف بايع الأمراء ابنه عليا ولقبوه الملك المنصور، وقام بالدولة قرطاي الطازي فقبض عليه أيبك البدري الغزي وسيره إلى صفد، واستبد أيبك بالدولة ثم انتقض طشتمر بدمشق ووافقه بعض الأمراء، فسار أيبك مع السلطان والعساكر إلى الشام، فثار الأمراء في مقدمة الجيش على أخيه فرجع إليه منهزما، فعاد أيبك إلى القلعة بالقاهرة فخرج عليه جماعة من الأمراء، فتوارى ثم قبض عليه وأرسل إلى الإسكندرية، وأقام الأمراء بيبقا الناطري مكانه ولم يخلصوا له الطاعة، وكثر تغلبهم إلى أن قام بالدولة الأمير برقوق وتوفي السلطان المنصور سنة 1381، فاتفق برقوق والأمراء على نصب أخيه الأمير حاج، ولقبوه الملك الصالح وجمع برقوق سنة 1383 الخاصة والعامة من الجند والقضاة والعلماء، فأجمعوا على مبايعة برقوق وعزل السلطان الصالح، وأرسلوا أميرين أخذا السيف من يده وأحضراه إلى برقوق، ولبس شعار السلطنة وخلعة الخلافة، ولقب الملك الظاهر فكان الصالح آخر ملوك دولة المماليك البحرية، وابتدأ ملكهم بمصر سنة 1255 وبمصر وسورية معا سنة 1262، وانقرضت دولتهم سنة 1382 بخلع الملك الصالح وتمليك برقوق أول ملوك دولة المماليك الجراكسة؛ لأن أصلهم من الجركس. (4) في الملك الظاهر برقوق وما كان في أيامه
برقوق مملوك من الجركس ملكه بيبقا المذكور، وتراقى بالمناصب إلى أن قام بالدولة في أيام السلطان المنصور، ثم استبد بالملك كما مر وفي أول ملكه أي: سنة 1382 حضر أسطول من جنوا إلى صيدا فأخذوها وجاءوا إلى بيروت، ونزل جماعة منهم إلى المدينة، فقاومهم المسلمون وقتلوا منهم كثيرين وقتل وجرح بعض المسلمين وانصرف الإفرنج، وكان بين الملك الظاهر وبين الأمراء منازعات وتقلبات لا محل لتفصيلها في هذا الموجز فنلخص شيئا منها أن بيبقا الناصري كان السلطان قد ولاه على حلب، ثم سخط عليه وأرسله إلى الحبس بالإسكندرية، ثم أفرج عنه فسار إلى حلب وهم بالانتقاض على السلطان، واجتمع بعض الأمراء إليه واعصوصبوا وخلعوا الطاعة، ونهضوا بجموعهم إلى دمشق، وأرسل السلطان عسكرا لردعهم فانتصروا عليه ودخلوا دمشق، ثم ساروا إلى مصر، واستأمن أكثر الأمراء إلى الناصري فدس السلطان إلى الناصري بالصلح، فأشار عليه أن يتوارى بشخصه مخافة أن يصيبه أحد بسوء، فخرج السلطان متنكرا ودعا الأمراء أمير حاج بن الأشرف، فأعادوه إلى التخت ولقبوه الملك المنصور، وأبعدوا الناصر إلى الكرك، وشعر بأن بعض الأمراء يريد اغتياله، فأرسل رجاله في الكرك، فضوى إليهم جماعة من أهلها وقتلوا البريدي الذي كان بقلعتها وملكها برقوق، وتسارع إليه مماليكه من كل جهة فسار من الكرك إلى دمشق، فأرسل جنتمر نائبها العساكر لدفاعه فكانت وقعة انهزم به الدمشقيون، وقتل الكثيرون منهم واتبعهم برقوق إلى دمشق وحاصرها ونجده كمشتيقا نائب حلب، وبلغ الخبر إلى منطاش مدبر مملكة الملك المنصور بمصر، فجمع العساكر وأخرج الملك والخليفة والقضاة والعلماء، وساروا نحو دمشق فالتقاهم الظاهر واتقعوا، فقبض الظاهر برقوق على الملك المنصور والخليفة والقضاة، وهزم منطاش وجموعه وحمل المنصور على التبري من الملك، وشهد عليه الخليفة والقضاة بالخلع وعاد الملك الظاهر إلى عرشه، وسار إلى مصر فدخل القاهرة سنة 1390 وقلده الخليفة الملك.
أما منطاش فاستمر بسورية عازما على الانتقاض وأرسل إيمازتمر نائبا إلى حلب، فحاصر كمشتيقا نائبها من قبل السلطان، وأرسل عسكرا إلى أطرابلس فحاصروها وملكوها، وشرع منطاش يفتك بالمنتمين إلى السلطان فأرسل إليه السلطان عسكرا من مصر، فهرب من دمشق ولحق بيعبر أمير العرب آل فضل، وبلغ خبر فراره إلى إيمازتمر الذي كان قد أرسله لحصار حلب، فلحق به وأخذ مماليك السلطان أطرابلس من قشتمر الأشرفي الذي كان منطاش قد ولاه عليها، وكان السلطان قد ولى ابن الجوباني على دمشق، فسار بعسكر إلى يعبر أمير العرب يطلب إخراج منطاش من أحيائهم فأبوا، فكانت بين الفريقين حرب شديدة انهزم بها العرب، ولكن انفرد ابن الجوباني عن عسكره فأسره العرب وقتله أميرهم، وسار منطاش ويعبر فحاصرا حلب وفيها كمشيقا الحموي نائب السلطان ، فراسله يعبر بالطاعة والسلطان فأجابه السلطان إلى ذلك ودرى منطاش، فارتحل ولحق بالتركمان بمرعش، وسار إلى عنتاب فملكها وقتل جماعة من أهلها، وجاءت العساكر من حلب وحماة وصفد، فهرب إلى بلاد الروم واستمر شريدا إلى سنة 1391، ثم قصد دمشق فانهزم من وجهه نائب حماة، فدخلها منطاش وسار منها إلى حمص ثم إلى بعلبك، وخرج إليه الناصري والي دمشق في العساكر على طريق الزبداني، فسار هو بطريق آخر وبلغ دمشق، فعاد إليه الناصري واقتتل الفريقان مدة شهرين، فسار السلطان من مصر بالعساكر فهرب منطاش من دمشق، ووفد إلى السلطان آل مهنا وآل عيسى من العرب مجاهرين بالطاعة له، وسار السلطان إلى حلب فأتاه الخبر أن منطاش مر ببلاد ماردين وقاتلته بعض العساكر هناك، فلجأ إلى أحد أمراء التركمان يسمى سالم، فقبض عليه وأرسل السلطان يطلبه ففر إلى سنجار ثم عاد إلى يعبر أمير العرب، وأقام في أحيائهم وتزوج بنتا منهم وعبر الفرات إلى نواحي حلب، وأوقعت به العساكر وأسروا جماعة من أصحابه، ونكلوا بالعرب حتى أجبروهم أن يقبضوا على منطاش، ويسلموه إلى نائب حلب، وأرسل السلطان أميرا من القاهرة، فأخذ رأس منطاش وطاف به في ممالك الشام وعلق على باب القلعة بالقاهرة سنة 1393.
وفي السنة المذكورة فر أحمد بن أديس صاحب بغداد إلى الملك الظاهر مستنجدا له على تيمور لنك التتري، الذي كان قد ملك أكثر البلاد الشمالية، فأجابه السلطان إلى ذلك وسار بعسكره إلى سورية وأقام عساكره على تخومها، وبدا لتيمور لنك أن يقصد الهند فقصدها، وشغل بتدويخها مدة فعاد السلطان إلى مصر ولا نعلم من أخباره الهامة بعد ذلك إلا ورود رسالة تيمور لنك إليه سنة 1398، وبها يهدده وجواب الظاهر إليه مزدريا به، والرسالة وجوابها مشهوران، وقد توفي الملك الظاهر في أثناء ذلك سنة 1398، وخلفه ابنه عبد العزيز ولقب الملك المنصور لكنه خلع بعيد ذلك وبويع أخوه زين الدين فرج، ولقبوه الملك الناصر، وفي سنة 1400 بلغ تيمور لنك إلى حلب، ونرجئ الكلام في حملته إلى تاريخ القرن الخامس عشر . (5) في المشاهير السوريين في القرن الرابع عشر
ابن منظور:
هو محمد بن علي الأنصاري الرويفعي ولد سنة 1231 وتوفي سنة 1311 ولي نظر أطرابلس وله النظم والنثر، وأعظم مؤلفاته لسان العرب وهو من أشهر المعجمات العربية طبع ببولاق سنة 1308ه، وله كتاب نشاد الأزهار في الليل والنهار تكلم فيه على الليل والنهار، والاعتباق والاصطباح إلخ، ومنهم فخر الدين الحموي قاضي حلب توفي سنة 1330، وله شرح على كتاب الحاوي في الفقه في ستة مجلدات، ثم شمس الدين الدمشقي، توفي سنة 1328 له كتاب سماه نخبة الدهر في عجائب البر والبحر طبع ببطرسبرج سنة 1866.
الملك المؤيد إسماعيل أبو الفداء:
هو ابن الملك الأفضل صاحب حماة من البيت الأيوبي، ولي حماة سنة 1320، وتوفي سنة 1331، وكان ضليعا بالعلوم كالطلب والفقه والفلسفة والتاريخ والجغرافية وله شعر حسن، وله من التآليف تاريخه المشهور، وقد طبع بالقسطنطينية في أربعة أجزاء سنة 1286ه، وتقويم البلدان في الجغرافية، وقد طبع ببريس سنة 1837، ووصف جغرافية مصر وقد طبع في غوتنغن سنة 1776، وكتاب الموازين إلى غيرها.
هبة الله الحموي:
توفي سنة 1337، ومن مصنفاته في التفسير كتاب البستان في تفسير القرآن مجلدان، وكتاب روضات جنات المحبين اثنا عشر مجلدا، وفي الحديث كتاب المجتبى مختصر جامع الأصول، وكتاب الوفا في أحاديث المصطفى، وكتاب المجرد من السند، وكتاب المنضد شرح المجرد في أربعة مجلدات، وشرح الحاوي المسمى إظهار الفتاوي من أعوار الحاوي، وتيسير الفتاوي في تحرير الحاوي وهما أشهر تصانيفه، وشرح نظم الحاوي أربعة مجلدات وكتاب المغني مختصر التنبيه، وكتاب تمييز التعجيز إلى غير ذلك.
ابن الوردي زين الدين المعري:
درس على هبة الله المذكور، وتوفي سنة 1384 ومن مصنفاته البهجة الوردية في نظم الحاوي، وكتاب فوائد فقهية منظومة وشرح ألفية ابن مالك، وضوء الدرة على ألفية ابن معطي، وقصيدة اللباب في علم الإعراب وشرحها، واختصار ملحة الإعراب نظما، وكتاب مذكرة الغريب نظما وشرحها، وكتاب المسائل الذهبية في المسائل الملقية وكتاب أبكار الأفكار، وتتمة تاريخ أبي الفداء إلى غيرها، وله كثير من الشعر الجيد ... ويرجح أن هو ابن الوردي صاحب الكتاب المسمى خريدة العجائب وفريدة الغرائب في الجغرافية، الذي طبع بأسوج سنة 1824 مع ترجمة لاتينية.
صلاح الدين الكتبي الحلبي:
توفي سنة 1362 وهو صاحب فوات الوفيات، وهو تتمة لكتاب وفيات الأعيان لابن خلكان جمع فيه 572 ترجمة ممن فات ابن خلكان ذكرهم أو كانوا بعده، وذكر له صاحب الكشف كتابا سماه عيون التواريخ في ستة مجلدات.
صلاح الدين الصفدي:
توفي بدمشق سنة 1363، وله كتاب الوافي بالوفيات جمع فيه تراجم الأعيان من الصحابة والتابعين والملوك والأمراء والعمال والعلماء، وله أيضا كتاب دمعة الباكي ولوعة الشاكي.
وعاصر هؤلاء في غير سورية محمود الشيرازي توفي سنة 1310، وله عدة مصنفات منها الإدراك في الهيئة وتحفة السامي في الهيئة أيضا، وشرح مختصر ابن الحاجب في الفقه.
ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب:
توفي سنة 1333، وله تاريخ في ثلاثين مجلدا، والصنهاجي صاحب الأجرومية مدخل النحو، وقد شرحه كثير من العلماء منهم خالد بن عبد الله الأزهري، وتوفي سنة 1323، وأثير الدين أبو حيان النحوي توفي سنة 1344، وله مصنفات جليلة، منها تفسير القرآن العظيم وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من السنة العرب، ومختصرات في النحو وله نظم.
ومنهم صفي الدين الحلي المتوفى سنة 1349:
وله تسع وعشرون قصيدة سماها در النحور في مدائح الملك المنصور، وبديعيته مشهورة وطبع ديوانه بدمشق سنة 1300ه، وابن هشام الأنصاري المتوفى سنة 1359، وله كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وعليه عدة شروح وحواش، وله أيضا شذور الذهب في معرفة كلام العرب في النحو وقطر الندا وبل الصدا مع شرح له عليه في النحو أيضا، وشرح معلقة كعب بن زهير بانت سعاد، وشرح ألفية ابن مالك، وسماه أوضح المسالك في الفية ابن مالك، ومنهم ابن عقيل المتوفى سنة 1367، وأشهر مصنفاته شرح ألفية ابن مالك، وقد طبع مرارا وعليه شروح، وابن بطوطة المتوفى سنة 1377، وله الرحلة المعروفة بتحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وطبعت مرات وترجمت إلى عدة لغات، والسعد الشفتزان المتوفى سنة 1390، وله شرح على الإيصاخوجي بالمنطق وكتاب تهذيب المنطق والكلام، وكتاب سماه النعم السوابغ في شرح الكلم النوابغ في اللغة، وكتاب في التصريف وتلخيص المفتاح الذي لمحمود القزويني في المعاني والبيان.
الفصل السادس
في تاريخ سورية الديني في القرن الرابع عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
إن تاريخ هؤلاء البطاركة في هذا القرن أيضا سقيم وغامض، أما في أنطاكية فذكر السمعاني في جدول بطاركتها أنه كان على كرسيها في أوائل هذا القرن يوحنا السادس، ومرقس الأول، ثم قام أغناتيوس الثاني، وكان في أيامه شقاق البالاميين عند الروم، وحرم هذا البطريرك إيسدورس محدثه سنة 1344، وعقد حينئذ مجمع التأم فيه اثنان وعشرون أسقفا، ورأسه البطريرك القسطنطيني وهذا البطريرك، فنبذوا ضلال هؤلاء الملحدين فتحاملوا على هذا البطريرك، وأودعوه السجن وأذاقوه مر العذاب حتى توفي، وفي الجدول الواتيكاني أن بخوميوس الأول خلف أغناتيوس، ثم حط عن كرسيه وانتخب ميخائيل الأول سنة 1370، ثم توفي فعاد بخوميوس إلى كرسيه ثانية ولم يمكث طويلا، وروى بعضهم أن خليفته مرقس الثاني توفي سنة 1378، والذي في جدول السمعاني أن أغناتيوس الثاني خلفه ميخائيل الأول، ثم مرقس الثاني ثم بخوميوس ثم فيلبوس ثم ميخائيل الثاني الذي كان في أيام تيمور لنك في مبادي القرن الخامس عشر، وكان بطاركة أنطاكية على الموارنة في هذا القرن سمعان المار ذكره، وتوفي سنة 1339 وخلفه يوحنا التاسع ثم داود المسمى يوحنا أيضا، ويظهر من آثار أنه استمر على كرسيه إلى سنة 1397 بل إلى سنة 1402.
وأما في أورشليم فكان بعد تاوي الفرمي السابق ذكره صفرونيوس الثاني على ما روى نيكوفور كاليستوس (فصل 39)، وقال: إن خلفه أتناسيوس أسقف قيصرية فيلبوس، فغصب جبرائيل برولا هذا الكرسي ثم عزل أو اعتزل عنه، وعاد أتناسيوس إليه، وبعد وفاة أتناسيوس انتخب العاذر فعزله يوحنا البطريرك القسطنطيني، ونصب مكانه جراسيموس الذي كان قد حضر إلى القسطنطينية للشكوى على أتناسيوس، فشكى الأورشليميون جراسيموس إلى سلطان مصر، فعزله وسار ليبرر نفسه بمصر فمات في طريقه، وعاد العازر إلى كرسيه بأورشليم ، وكتب البابا أدريانوس الخامس رسالة سنة 1367 إلى العازر هذا وإلى بطريركي قسطنطينية وأنطاكية يستحثهم بها على الاتحاد بالكنيسة الرومانية، ويظهر منها أن هذا البطريرك كان يرغب في الاتحاد بالكنيسة الرومانية، وقام بعد العازر صفرونيوس الرابع وكان بعد صفرونيوس دوروتاوس الأول، وخلفه ابنه وسمي توافيلوس، وكان في أيام الملك عمانوئيل الثاني بالالوغوس الذي استولى على منصة الملك سنة 1392، وفي أيام ابنه يوحنا السابع الذي شاركه في الملك سنة 1399. (2) في بعض المشاهير الدينيين في القرن الرابع عشر
كان من هؤلاء المشاهير محبوب بن قسطنطين مطران منبج اليعقوبي، وله تاريخ عام ابتدأ فيه من سنة تجسد المخلص، وأوصله إلى القرن الرابع عشر وضمنه ما جاء في تاريخ اليعاقبة المشهور، وزاد عليه أولا تاريخ أعمال الملوك الرومانيين من أغوسطوس قيصر إلى سنة 1283، ثانيا تاريخ الملل الشرقية أي: الملكية والنساطرة والموارنة وسماهم هراطقة لمخالفتهم بدعته اليعقوبية، ثالثا تاريخ سبعة مجامع بحسب معتقد اليعاقبة، رابعا مختصر تاريخ المسلمين العرب والفرس والإفريقيين والآسيويين والسوريين من سنة 622 إلى سنة 1312، وهذا التاريخ لا يعرف له نسخة إلا التي في المكتبة الماديشية بفيرانسا.
وكان في هذا القرن عبد يشوع مطران نصيبين النسطوري، وكان طائر الشهرة بقلمه حائزا على مرتبة بين قومه وسائر السريان، رقاه يهب الله بطريرك النساطرة إلى مطريبوليطية نصيبين سنة 1290، وكانت وفاته سنة 1318 وهو غير عبد يشوع الذي جحد بدعة نسطور، وسار إلى رومة وصار بطريركا على الكلدان الكاثوليكيين في القرن السادس عشر، ولعبد يشوع الذي نكتب ترجمته مصنفات كثيرة جليلة ذكرها لنفسه في آخر قصيدته في المؤلفين الآتي ذكرها، منها تفسير الأسفار المقدسة في العهدين، والكتاب الجامع في التدبير العجيب أي: في تجسد المخلص وأعماله، ومنها ديوان سماه فردوس عدن، وينطوي على خمسين قصيدة سريانية ضمنها كثيرا من أنواع البديع، كما يقرأ طردا وعكسا وما التزم في قوافيه لزوم ما لا يلزم إلى غير ذلك من البديع اللفظي، وله كتاب يتضمن مختصر القوانين، وكتاب في أعمال الشاه أي: الملك مروان في خراسان كتبه بالعربية، وكتاب الدرة في حقيقة الإيمان وكتاب في أسرار البيعة، وكتاب في فلسفة اليونان وآخر في دحض البدع وله قصائد أخرى كثيرة أعظمها قصيدته التي عدد فيها أسماء المؤلفين ومؤلفاتهم مبتدئا من موسى والأنبياء إلى أيامه، ولا سيما المؤلفون النساطرة، وقد شرح هذه القصيدة كثيرون منهم إبراهيم الحاقلي الماروني، ثم العلامة السمعاني الذي جعل المجلد الثالث من مكتبته الشرقية شرحا لهذه القصيدة، ولعبد يشوع أيضا رسائل كثيرة في موضوعات متنوعة.
الفصل السابع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الخامس عشر
في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن (1) في حملة تيمور لنك على سورية
تيمور لنك غاز من التتر يتصل نسبه من جهة النساء بجنكزخان أول ملوك المغول، وتأويل تيمور بالتركية الحديد، ولنك الأعرج، فهذا كان خاضعا لأحد خانات التتر إلى أن سمى نفسه خانا سنة 1370، وأخضع لسلطته ما جاوره من البلاد وملك خراسان وأصفهان، واجتاح بلاد فارس والعراقين والجزيرة، وقصد الهند أيضا سنة 1397، ثم سار إلى سوريا سنة 1400، فكتب الملك الناصر بن برقوق إلى نواب السلطنة بسورية أن يجمعوا العساكر إلى حلب.
وبلغ تيمور لنك إلى عينتاب وحاصرها ففر نائبها إلى حلب، وكتب تيمور منشورا إلى النواب ليذعنوا لسلطانه ويخطبوا باسمه، ويرتدعوا عن القتال فلم يجيبوه وحصنوا حلب فرحل تيمور بعساكره إليها، وألحم الفريقان الحرب فكانت سجالا في اليوم الأول، وفي الغد انكسر الحلبيون وولوا الأدبار فتبعهم أصحاب تيمور يثخنون فيهم حتى ازدحموا في الأبواب، وداس بعضهم بعضا وتشتت الباقون ودخلت عساكر تيمور المدينة، فقتلوا كل من وجدوا غير مشفقين على رضيع أو شيخ أو امرأة، واعتصم النواب بالقلعة فحاصرها تيمور حتى استأمنوا إليه، وقبض على نواب دمشق وصفد وغزة وغللهم بالقيود، وخلع على تمرداش نائب حلب؛ لأنه سعى بتسليم القلعة ونهب المدينة وقصد دمشق ولم يبلغ المعرة حتى جفل أهل دمشق وتشتتوا، وأرسل تيمور ابنيه إلى حماة فطاعهما أهلها وأقاما فيها نائبا من قبل أبيهما، وبعد أن رحلا عن المدينة قتل الأهلون النائب، فرجع الأميران إليها فقتلا ونهبا وأحرقا أكثر البيوت، وملكوا القلعة وأهلكوا من كان فيها، ولما بلغ تيمور إلى حمص خرج إليه أحد وجهائها، وقدم له تقادم فاخرة فعفا عن المدينة، ثم نزل على بعلبك فدان له أهلها ومع ذلك أمر بنهبها والتنكيل بأهلها وبلغ إلى دمشق، وكان الملك الناصر قد سبقه إليها بعساكره، فحل تيمور بداريا وكانت مناوشات بين الجيشين، ودخل الخلاف بين عساكر السلطان فعاد بعضهم إلى مصر، وخاف هو فاعتزل ليلا عائدا إلى مصر بطريق بقاع العزيز، فاحتاط تيمور المدينة بعساكره فملكها وقتل أعيانها وسبى نساءها، وأحرق الجامع الأموي وكان فيه جم غفير من النساء والأطفال، فهلكوا جميعا وأخرب المساجد والمدارس ودك القلعة، وارتكب جنوده الفظائع، وأسر كثيرين من وجهائها وعذبهم، وقبل أن يخرج من دمشق جاء الجراد، فأتلف النبات والشجر وحصلت مجاعة وغلاء فاحش وجاء الوباء ثالثة الأثاقي، وسار تيمور عن دمشق إلى جهة ماردين وبغداد، فملكها سنة 1401 وحارب بايزيد السلطان العثماني فأسره سنة 1402، ثم أرسل هدايا نفيسة إلى الملك الناصر وخرج معتذرا عما كان منه بسورية، ووقع الصلح بينهما سنة 1404 وحمل تيمور على السلطان العثماني، فهلك في الطريق سنة 1405 وأفرد شهاب الدين أحمد الدمشقي المعروف بابن عرب شاه كتابا لتاريخ تيمور سماه عجائب المقدور في أخبار تيمور طبع بمصر سنة 1305. (2) في باقي ما كان بسورية في أيام الملكين الناصر والمؤيد
بعد أن ارتحل تيمور عن سورية اهتم الملك الناصر بتجديد ما دمر فيها، وفي سنة 1405 كانت فتنة بين الأمراء بمصر، فخاف هذا الملك على نفسه واختفى فولى القضاة والأمراء أخاه، وسموه الملك المنصور ثم ظهر الملك الناصر، وعاد إلى عرش ملكه وقبض على أخيه المذكور وحبسه بالإسكندرية، وفي السنة المذكورة وثب يعبر أمير العرب على دمشق، فالتقاه نائبها والتحم القتال فانهزم النائب، واستولى يعبر على دمشق فخرج إليه الملك الناصر فأزاحه عن دمشق والبلاد الشامية، وجدد بناء الجامع الأموي، وفي سنة 1409 كان طاعون شديد الوطأة، واتفق فيها الأمير شيخ ونائب الشام وغيرهما على العصيان فخرج إليهم الناصر، ووصل بعساكره إلى اللجون بقرب الناصرة ... فكان قتال بينهم وبين العصاة، فظهروا على الناصر وانهزم إلى دمشق فحاصروه بقلعتها إلى أن طلب الأمان فأمنوه، وقبضوا عليه وسجنوه وأقاموا دعوى عليه بالقتل وحكموا عليه بالإعدام، فقتلوه سنة 1412 وأسندوا السلطة إلى الخليفة العباسي المستعين بالله، فكان خليفة وسلطانا، ثم أحب الجراكسة أن لا تخرج السلطنة منهم، فأقاموا سلطانا الأمير شيخ المذكور وسموه الملك المؤيد.
وكان الأمير شيخ من مماليك الملك الظاهر برقوق، وتراقى المراتب، وبعد استقراره بالسلطنة قبض على جماعة من الأمراء، وأرسلهم إلى السجن بالإسكندرية فاستقامت الأمور، وفي سنة 1413 ثار عليه نوروز الحافظي الذي كان شريكه في العصيان، وأخذ يخطب باسم الخليفة العباسي ووضع يده على البلاد الشامية من غزة إلى الفرات، فسار إليه الملك المؤيد بالعساكر المصرية سنة 1414، فحاصره في دمشق وأرغمه أن يسلم نفسه إليه، فقطع رأسه وأرسله إلى القاهرة، فعلق على باب زويلة ثلاثة أيام، ونصب المؤيد قيناي المحمدي نائبا بدمشق والأمير إينال نائبا بحلب والأمير سودون بأطرابلس والأمير جاني بك بحماة وعاد إلى مصر.
وبعد عوده جاهر النواب المذكورون بالعصيان، فعاد عليهم بالعساكر وحاربهم وانتصر عليهم، وقتل نائب دمشق ونائب حلب وولى غيرهم، ورجع إلى مصر فخامر النواب عليه وأظهروا العصيان، فسار إليهم فهربوا من وجهه إلى قرا يوسف أمير التركمان، فأقام الملك نوابا غيرهم ممن وثق بهم فصفا له الزمان، وفي سنة 1421 مرض المؤيد وأدركته الوفاة. (3) في أحداث أخرى بسورية إلى أيام الملك العزيز
بعد وفاة الملك المؤيد أقام مماليكه ابنه، وسموه الملك المظفر وأجلسوه على سرير الملك، وهو في حجر المرضعة، وجاءت الأخبار بأن جقمق الأرغوني نائب دمشق قد خرج عن الطاعة، ومثله يشبك المؤيدي نائب حلب وغيرهما، وكان الأتابكي الطنبغا بالشام، فجمع العربان وعسكره وزحف بهم إلى دمشق، فانكسر نائبها وانهزم إلى حلب، فملك الأتابكي دمشق، والتف العربان عليه فجعل الأمراء بمصر ططر أتابكي العسكر، فأخذ السلطان بمحفة ومعه أمه ومرضعته فحضر الطنبغا إلى الملك، وبرقبته منديل فقبل الأرض أمامه فقبض ططر عليه، وسجنه بقلعة دمشق، ثم قبض على جقمق وسجنه أيضا ، ثم أمر بخنقهما فخنقا ليلا وقتل جماعة من النواب، وسجن كثيرين من مماليك المؤيد فصفا الوقت لططر، وكثر المستقربون إليه فأقامهم في المناصب وقويت شوكته حتى سولت له نفسه أن يخلع الملك المظفر، فخلعه وبايعه الخليفة المعتضد بالله والقضاة الأربعة سنة 1421، ولقب الملك الظاهر وخطب باسمه على المنابر بدمشق ثم عاد إلى مصر، ومعه الملك المظفر فأرسله إلى السجن بالإسكندرية مع المرضعة ... ويقال: إن أم الملك المظفر دست له سما لما خلع ابنها فاعتل وتوفي سنة 1421 أيضا فلم يملك إلا ثلاثة أشهر وأياما.
وبعد وفاة الظاهر بويع ابنه بالسلطنة ولقب الملك الصالح، وكان عمره حينئذ إحدى عشرة سنة، وكان يدبر المملكة أتابك العساكر جاني بك الصوفي، فاستوحش لذلك باقي الأمراء، فقبض عليه الأمير برسباي وأرسله إلى السجن بالإسكندرية، وتولى الحل والعقد وتعصب له جماعة من الأمراء، فخعلوا الملك الصالح ونادوا باسم برسباي ملكا ولقبوه الملك الأشرف، وفي سنة 1425 جهز عسكرا لقتال ملك قبرس فبلغوا أولا إلى الماغوصة ثم الملاحة، فكان قتال شديد دارت فيه الدائرة على ملك قبرس، فنهبت عساكر الأشرف المدن وأسروا نحو سبعمائة رجل، وملكوا حصن لمسون وأسروا الملك نفسه وأتوا به إلى مصر ... وأمر السلطان بسجنه، ثم اتفق معه على أن ملك قبرس يدفع له مائتي ألف دينار مائة وهو بمصر، ومائة بعد عوده إلى قبرس، فأفرج الأشرف عنه وعاد إلى ملكه وأمر الأشرف أن تعلق خودته على باب المدرسة الأشرفية التي كان قد بناها، وبقيت معلقة ذكرا للأشرف، وفي سنة 1432 خرج الأشرف إلى سورية لقتال قرا ملك أمير التركمان، وبلغ إلى حلب وقصد آمد وحاصرها إلى أن وقع الصلح بينهما، وحلف قرا ملك أن لا يعتدي على أملاك السلطان فعاد السلطان إلى مصر، وقيل: إن الأشرف ظفر وقتئذ بعدوه وقتله، واستأصل أمواله وتوفي الأشرف سنة 1437. (4) في ما كان بسورية في أيام العزيز إلى أيام الملك الناصر
كان الأشرف قبل وفاته قد عهد بالملك إلى ابنه يوسف، فبويع بالسلطنة يوم وفاته ولقب الملك العزيز، وكان الأتابكي جقمق يدبر الملك، فدبت عقارب الفتنة بينه وبين الأمراء الأشرفية، وتعصب له بعض الأمراء فانتشب القتال ، وانكسر الأمراء الأشرفية، وتبددوا فخلع جقمق ومحازبوه الملك العزيز، وأخذ جقمق الملك وسمى الملك الظاهر واختفى الملك العزيز، ثم قبض عليه وأرسل إلى السجن بالإسكندرية، وفي سنة 1439 عصى إينال الجكمي نائب دمشق على الملك الظاهر، وتابعه نائب حلب فأرسل إليهما العساكر، فانتصرت عليهما وقطعت دابرهما، وفي سنة 1445 توفي الأمير عز الدين صدقة التنوخي من أمراء غرب بيروت، وكان قد تولى الدرك في ساحل سورية من أطرابلس إلى صفد، وكان بينه وبين الأمراء أولاد الحمرة الذين أتوا من البقاع، وتوطنوا بيروت عداوة، وتوفي الملك الظاهر جقمق سنة 1453.
وكان قد عهد بالملك إلى ابنه عثمان، فجلس على سرير السلطنة بعد وفاته وسمي الملك المنصور، ولكن لم يدعه إينال العلائي أتابك العساكر يملك إلا ثلاثة وأربعين يوما، وخلعه وأرسله إلى السجن بالإسكندرية، وأخذ هو الملك وسمي الملك الأشرف وجلع أقبردي الظاهري نائبا، وقرر جلبان نائب دمشق على نيابته، ولما توفي سنة 1455 نصب مكانه قاني باي الحمزاوي نائب حلب قبلا، وقبض على يشبك النوروزي نائب أطرابلس، وسجنه بقلعة المرقب ونصب مكانه إينال اليشبكي، وفي سنة 1458 توفي قاني باي نائب دمشق المذكور، فنصب مكانه جانم الأشرفي، وفي سنة 1460 توفي الملك الأشرف المذكور، وكان قد عهد بالملك إلى ابنه أحمد، فخلفه به بعد وفاته، وسمي الملك المؤيد، ومالت إليه النفوس، ولكن وقع الخلاف بين الأمراء فكانت حرب بينهم، ووثب عليه مماليك أبيه أنفسهم فانهزم إلى القلعة، فخلعوه وبايعوا بالسلطنة خشقدم الأتابكي وسموه الملك الظاهر، وأرسل الملك المؤيد سالفه وأخاه إلى السجن بالإسكندرية ... وخشقدم أصله مملوك رومي اشتراه الملك المؤيد شيخ، وأعتقه وبعد أن تسلطن كان جانم نائب دمشق المذكور قد قصد مصر بطلب بعض الأمراء له؛ ليصيروه سلطانا فأرجعه الملك الظاهر إلى نيابته، وأمر نائب قلعة دمشق أن يقبض عليه فهرب بعياله فنصب مكانه تنم المؤيدي.
وفي سنة 1467 ظهر خارجي اسمه شاه سوار، وقصد سورية فأرسل الملك الظاهر إلى الأمير برديك نائب حلب بأن يخرج إليه، فجمع النواب وزحفوا إليه بعساكرهم فانتصر شاه سوار عليهم، فجهز الظاهر عسكرا آخر أمر عليه خمسة أمراء، فانتصر أيضا وأخذ بعض أعمال حلب، وما برح ملوك مصر يرسلون إليه العساكر حتى حصرته العساكر بقلعة سنة 1472، فاستسلم هو وإخوته وبعض ذويه فأحضروهم إلى القاهرة، وأمر السلطان بشنقهم فشنقوا وفي سنة 1467 توفي الملك الظاهر.
وبعد وفاته وقع الاتفاق على تمليك بلباي المؤيدي، وسمي الملك الظاهر أيضا، وقبض على بعض الأمراء وأرسلهم إلى السجن بالإسكندرية، فساروا عليه وخلعوه، وأرسلوه إلى السجن بالإسكندرية سنة 1467 فلم يتم شهرين من ملكه، وأقاموا مكانه تمر بغا الظاهري وسمي الملك الظاهر أيضا، واستوحش منه المماليك الخشقدمية فقبضوا عليه وعلى جماعة من أمرائه وسجنوهم، وكان برأس هؤلاء المماليك الأمير خير الدين بك راجيا أن يصير سلطانا، فأسرع الأتابكي قيتباي واتفق مع بعض المماليك على خير بك، وعلى خلع الملك الظاهر تمر بغا وتوجهوا إلى القلعة، فقبض قيتباي على خير بك وبعض جماعته، وأرسل السلطان مكرما إلى ثغر دمياط وبايع الخليفة والقضاة قيتباي، وسمي الملك الأشرف.
وفي سنة 1468 نصب قانصوه اليحياوي نائبا بأطرابلس عوضا عن إينال الأشقر، الذي نصبه نائبا بحلب وكان فيها برديك اليجمقدار فنقله إلى نيابة دمشق، وتوفي سنة 1470، فنصب مكانه الأمير برقوق الناصري، ووردت الأخبار بأن حسن الطويل ملك العراقين قاصد أن يستحوذ على بلاد حلب، فجهز السلطان عسكرا لكبته وساروا إلى حلب سنة 1472، فأرسل حسن الطويل يطلب من أسروا أو سجنوا من جماعته بحلب، ويعد بإطلاق من عنده من الأسرى، فلم يجب الأمير يشبك قائد العسكر السلطاني إلى ذلك، وأرسل فريقا من جيشه لقتال عسكر حسن الطويل في البيرة فرحلهم عنها، وفي سنة 1474 أرسل حسن الطويل سفيرا إلى الملك الأشرف برسالة يعتذر بها عما كان منه، ويطلب العفو فأكرم الأشرف سفيره وأظهر العفو، وفي 1479 نقل الأشرف قانصوه اليحياوي من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، ونقل أزدمر من نيابة أطرابلس إلى نيابة حلب، وفي سنة 1480 أرسل الأمير يشبك الداودار إلى حلب لكبت سيف أمير العرب آل الفضل الذي كان قد أبدى العصاوة، ففر سيف إلى الرها فتبعه يشبك والنواب، وحاصروا الرها فخرج عليهم حاكمها من قبل ابن حسن الطويل، فشتت شملهم وأسر الأمير يشبك ثم قتله، وأسر نائبي دمشق وحلب، وقتل كثيرين من أصحابهم، فعين السلطان الأتابكي أزبك نائبا بحلب، وفوض إليه أمر البلاد الدمشقية والحلبية، وفي سنة 1485 وما بعدها كانت حروب بين عساكر السلطان بايزيد العثماني، وعساكر سلطان مصر في جهات حلب، وكان النصر فيها تارة للسلطان العثماني وتارة لسلطان مصر وسورية، وفي سنة 1490 وقع الصلح بين السلطانين وأطلق الأسرى من الفريقين، وتوفي الملك الأشرف سنة 1495. (5) في ما كان بسورية إلى آخر القرن الخامس عشر
بعد وفاة الملك الأشرف بويع ابنه محمد بالملك، وسمي الملك الناصر، وفي سنة 1496 قتل عساف الحبشي نائب صيدا وبيروت، وكان ذا شهرة طائرة، وجعل الملك الناصر قانصوه خمسمائة أتابكي العسكر، وكبير الأمراء، فقتل بعض الأمراء غيلة وركب في أحزابه، ودعا الخليفة والقضاة الأربعة فخلعوا الناصر، وبايعوا قانصوه خمسمائة بالسلطنة، وأرسل بعض أمرائه للقبض على الناصر، فتعصب له جماعة من المماليك، ومنعوا الأمراء من دخول القلعة، وانتشب القتال يومين، وجرح قانصوه خمسمائة وأغمي عليه، وحمله بعض غلمانه وكان النصر للملك الناصر، وحاول قانصوه بعد ذلك أن يأخذ بثأره فازداد خذلانا.
وفي سنة 1496 توفي قانصوه اليحياوي نائب دمشق المذكور فنصب الناصر مكانه كرتباي الأحمر، وفي سنة 1497 جعل جان بلاط بن يشبك نائبا بحلب، وكان أقبردي الدوادار أظهر العصيان وحاربه العسكر، فانهزم إلى دمشق وحاصرها نحو شهرين ونهب الضياع التي حولها، وأخرب كثيرا منها ولم ينل من المدينة مأربا، وسار نحو حلب وحاصر بطريقه حماة، وأخذ منها أموالا كثيرة، وكان إينال نائب حلب حينئذ من عصبته، فأراد أن يسلمه المدينة فرجمه أهلها وطردوه منها وحصنوها، ففر أقبردي وعسكره وإينال إلى علي دولات بن شاه سوار المار ذكره، وتبعهم كرتباي الأحمر نائب دمشق إلى عينتاب فكانت بين الفريقين موقعة قتل فيها إينال نائب حلب وجماعته، وانهزم أقبردي إلى جبل الصوف ، وفي سنة 1498 خرج بعض المماليك على الناصر في طريقه، وقتلوه وابني عمه، ونسب قتله إلى طومان باي.
وبعد مقتل الناصر اختلف الأمراء في من يخلفه، ثم اتفقوا على قانصوه الأشرفي خال الملك الناصر، وبايعه الخليفة والقضاة الأربعة وسمي الملك الظاهر، وفي السنة المذكورة توفي كرتباي الأحمر نائب دمشق، فنقل الملك الظاهر جان بلاط نائب حلب إلى نيابة دمشق، ونصب مكانه بحلب قصروة بن إينال وعاد حينئذ أقبردي المذكور إلى حلب، وحاصرها أشد الحصار وأحرق ما حولها من القرى، فجهز الظاهر عسكرا أمر عليه تاني بك الجمالي وطال مقام العسكر بحلب، فأرسل نائب حلب لينال أقبردي الصلح، ولما توثق أقبردي دخل إلى حلب، فالتقاه نائبها والعسكر وراسلوا الملك الظاهر بذلك، فأرسل خلعا فاخرة لأقبردي، وقلده نيابة أطرابلس لكنه توفي قبل أن يحضر إليها، ثم نقل الظاهر قصروة من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، ونقل جان بلاط نائبها إلى الأتابكية بمصر ونصب دولات باي بن أركماس في نيابة حلب، وبلبناي المؤيدي في نيابة أطرابلس.
وفي سنة 1499 عصى فضربه نائب دمشق وتولى على أطرابلس، وقبض على نائبها وسجنه، فجهز الملك الظاهر جيشا لكبت قصروة، وكان طومان باي ممالئا له وأوتي حينئذ وأقام بالجزيرة لا يريد الدخول إلى القاهرة، وحلف له الملك أن لا يهينه ولا يقبض عليه، فلم يثق طومان بذلك فتحقق الملك الثورة عليه، وأخذ يحصن القلعة، واتفق طومان باي مع الأتابكي جان بلاط، وحاصروا الملك بالقلعة، واستعرت الحرب يومين وانتصر العصاة، واختفى الملك الظاهر، واتفق الثائرون على تمليك جان بلاط الأتابكي، فخلعوا الملك الظاهر وبايعوه وسمي الملك الأشرف.
وأرسل يستدعي قصروة نائب دمشق؛ ليجعله أتابكا للعسكر آملا أن يرده إلى الطاعة عن عصيانه، فأبى إلا الإصرار على خروجه، وجعل الأشرف طومان باي في الوزارة حتى صار صاحب الحل والعقد، وتولى قصروة على غزة وأعمالها والقدس وغيرها، فجهز الملك الأشرف عسكرا لكبته وأمر عليه طومان باي يظنه ناصحا له، وهو أكبر البغاة عليه، فإنه اتفق مع قصروة العاصي وأحضرا قضاة دمشق، وكتبوا صورة محضر في خلع الملك الأشرف، وبايعوا مكانه بالسلطنة طومان باي وسموه الملك العادل، وأخذ يدبر المملكة فنصب قصروة أتابك العساكر بمصر، ودولات نائب حلب نائبا بدمشق، وجعل في نيابة حلب أركماس بن ولي الدين، وبرد بك الطويل في نيابة أطرابلس، وخطب باسم طومان على منابر دمشق، أما الملك الأشرف فلما بلغته هذه الأخبار استعد للحرب، وحلف الأمراء على المصحف بحضرة الخليفة والقضاة على الإخلاص بالطاعة له، وخرج سنة 1500 طومان وقصروة من دمشق، ومعهما لفيف من العساكر وعربان نابلس وبلغوا إلى غزة، ودخل العادل طومان باي إلى القاهرة من باب الفتوح، وارتفعت له الأصوات بالدعاء، ونادى بالأمان، وتسعرت نار الحرب بين الفريقين، واستمرت ثلاثة أيام، ولما ضاق الأمر على الملك الأشرف دخل دار الحريم، واختفى ودخل الملك العادل القلعة، وقبضوا على الأشرف وغللوه وأرسلوه إلى السجن بالإسكندرية.
واستدعوا الخليفة فبايعه بالسلطنة، وشهد على ذلك القضاة الأربعة وقرر قصروة بالأتابكة، وأضمر الغدر به، وبلغه أنه معامل عليه، فأرسل إليه بعض أعوانه فقبضوا عليه ثم خنقوه، وكان الملك العادل باغيا عليه فجزاه الله على بغيه بإثارة العسكر عليه، وقل من دافع عنه فاضطر أن يختفي ثم قبض عليه وقطع رأسه، وكانت مدة سلطنته ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وقام بعده قانصوه الغوري ونرجئ الكلام فيه إلى تاريخ القرن السادس عشر. (6) في بعض المشاهير السوريين في القرن الخامس عشر
ابن حبيب الحلبي:
توفي سنة 1405، له كتاب مختصر المنار في أصول الفقه وشرحه أبو الثناء أحمد السيواسي في كتابه سماه زبدة الأسرار في شرح مختصر المنار، والمنار كتاب في الفقه لعبد الله بن أحمد النسفي المتوفى سنة 1310.
ابن الشحنة الحلبي:
اسم لعالمين الأول توفي سنة 1412، وله كتاب روض المناظر في علم الأوائل والأواخر اختصره من تاريخ أبي الفداء، وطبع كتابه ببولاق سنة 1290ه، والثاني كان من حلب أيضا وتوفي سنة 1485ه وله من التآليف تاريخ مدينة حلب سماه الدر المنتخب في تاريخ حلب، وله في الفقه كتاب سماه لسان الحكام طبع على هامش كتاب الحكام ببولاق سنة 1300ه، وبالقاهرة سنة 1310ه.
ومنهم ابن حجة الحموي:
توفي سنة 1433، ومن أشهر مؤلفاته كتاب خزانة الأدب، وغاية الأرب طبع مرات، وكتاب ثمرات الأوراق في المحاضرات، وله بديعية مشهورة وغير ذلك، ثم علي بن خليل الأطرابلسي المتوفى سنة 1440 له كتاب عنوانه معين الحكام في ما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ثم ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 1448، ومن مصنفاته نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر وتقريب التهذيب في أسماء رجال الحديث، والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة مرتبا على أحرف المعجم، والإصابة في تمييز أسماء الصحابة في عدة مجلدات وشرح البخاري وغيرها كثير، ثم شهاب الدين بن عرب شاه الدمشقي، ولد بدمشق سنة 1388، ولما غزا تيمور لنك سورية أخذه أسيرا إلى سمرقند وتفقه بها في العلوم، وأتقن الفارسية والتركية وتوفي سنة 1450، وأشهر مصنفاته تاريخ تيمور لنك سماه عجائب المقدور في أخبار تيمور طبع مرات، وله أيضا فاكهة الخلفاء وفاكهة الظرفاء على أسلوب كتاب كليلة ودمنة، طبع بالقاهرة سنة 1303ه، ثم محمد بن قرقماس الناصري توفي سنة 1477، وكان ناظما ناثرا وله عدة مصنفات، منها كتابه زهر الربيع في شواهد البديع، وله معارضة مقامات الحريري.
وممن عاصر هؤلاء خارجا عن سورية ابن خلدون الإشبيلي صاحب التاريخ المشهور، توفي سنة 1405 وتاريخه المذكور في سبعة مجلدات أولها مقدمة في فلسفة التاريخ من أحسن التآليف لغة ومعنى، والمجلدات الستة الباقية أسهب بها الكلام في تاريخ العرب، وأوجز في غيرهم وطبع تاريخه مرات، ثم محمد الدميري وهو عالم مصري توفي سنة 1405، وأشهر تصانيفه حياة الحيوان الكبرى مرتبة على أحرف المعجم، وتكلم في آخره بإيجاز في تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والملوك الأيوبيين وطبع كتابه مرات.
ثم محمد الجرجاني المتوفى سنة 1413، وله كتاب سماه التصريفات في مصطلح العلوم كالفقه والكلام والنحو، وله كتاب الكبرى والصغرى في المنطق وشرح الفرائض الواجبة، ثم ابن العائم الذي توفي سنة 1412 ومن مصنفاته اللمع في علم الحساب، وله في الحساب أيضا المعونة والوسيلة ثم مرشد الطالب لأسنى المطالب، ونزهة الأحباب في تصريف الحساب، ثم ابن الملقن المتوفى سنة 1401 ومن تصانيفه شرح البخاري وشرح العمدة وشرحان على المنهاج وعلى التنبيه، وشرح الأشباه والنظائر وكتاب في قضاة مصر وطبقات الشافعية، ثم محمد الفيروزأبادي المتوفى سنة 1417، وأشهر مصنفاته المعجم الذي سماه القاموس المحيط، ثم تقي الدين المقريزي المتوفى نحو سنة 1436 وله مصنفات كثيرة منها المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، والسلوك في معرفة الملوك وتاريخ الأقباط واتساع الأسماع في ستة مجلدات، والخبر عن البشر وكتاب تاريخ مقفى في تراجم أهل مصر والواردين إليها، ومجموع الفوائد ومنبع العوائد إلى كثير غيرها.
ثم محمد العبسي المتوفى سنة 1451 وله شروح على البخاري ومعاني الآثار والهداية لبرهان الدين، ومجمع البحرين والكنز وطبقات الحنفية، وله كتاب عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان في تسعة عشر مجلدا، وكتاب درر البحار في الفروع، ونظم في أربعة آلاف بيت، ثم تقي الدين الشمني المتوفى سنة 1467 ومن مصنفاته حاشيته على مغني اللبيب لابن هشام، وحاشيته على الشفا في تعريف حقوق المصطفى للإمام عياض وشرح للنقاية في الفقه، وهو مختصر الوقاية للإمام بن مسعود، وشرح نظم النخبة وأرفق المسالك لتأدية المناسك، وهما كتابان لأبيه كمال الدين محمد التميمي.
الفصل الثامن
في تاريخ سورية الديني في القرن الخامس عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
يظهر من جدول السمعاني لبطاركة أنطاكية أن ميخائيل الثاني، الذي كان في أيام تيمور لنك خلفه بخوميوس ثم مرقس ثم يواكيم، ولا نعلم غير ذلك من تاريخ هؤلاء البطاركة الذين كانوا في الثلث الأول من هذا القرن، ونعلم أن دوروتاوس الأول كان في أيام المجمع الفلورنسي الذي عقد سنة 1433، واستمر إلى سنة 1443، وناب عنه في هذا المجمع إيسيدوروس مطران روسيا، ويظهر أنه كان في أنطاكية سنة 1460 بطريرك كاثوليكي سمي دوروتاوس أرسل موسى رئيس شمامسة كنيسته إلى البابا بيوس الثاني مقرا برياسته، وبما رسم في المجمع الفلورنسي كما يظهر من كتاب أعمال هذا البابا ... وفي الجدول الواتيكاني أن دوروتاوس الأول المذكور خلفه مرقس أسقف صيدنايا، وسمي ميخائيل، وقام بعده توادوروس الخامس ثم ميخائيل الرابع، ثم دوروتاوس الثاني ثم ميخائيل الخامس ثم دوروتاوس الثالث، ولا يعلم في أية سنة كانت ترقية هؤلاء البطاركة، ولا في أية سنة كانت وفاتهم.
وكان على أنطاكية من بطاركة الموارنة داود، وتوفي سنة 1404، وخلفه يوحنا الجاجي وهو الذي نقل الكرسي البطريركي إلى قنوبين، وتوفي سنة 1445 وخلفه البطريرك يعقوب بن عيد الحدتي وتوفي سنة 1468 وخلفه البطريرك بطرس الحدتي أخو البطريرك يعقوب المذكور، وتوفي سنة 1492 وخلفه ابن أخيه البطريرك سمعان الحدتي، واستمر على البطريركية إلى سنة 1524، وأما في أورشليم فبعد وفاة توافيلوس المار ذكره خلفه توافان سنة 1430، ثم يواكيم وكان بطريركا حين انعقاد المجمع الفلورنسي، وخلفه توافان الثالث ثم إبراهيم ثم يعقوب الثالث ثم مرقس الثالث ... ولا ذكر في كتب الروم لهؤلاء البطاركة الثلاثة ربما لاتحادهم بالكنيسة الرومانية، مع أنهم كانوا في القرن الخامس عشر سندا إلى شهادة مؤرخين كانوا في هذا العصر وأحدهم إبراهيم كان كاثوليكيا حقا، وتوفي سنة 1468 وخليفته يعقوب كان عالما بالأسفار المقدسة وجدد بناء كنيسة القبر المقدس، وتوفي سنة 1482 ومرقس كان يوقع اسمه «مرقس الكاثوليكي برحمة الله مطران بيت لحم وبطريرك أورشليم وسورية والعربية وعبر الأردن»، وخلفه غريغوريوس الثالث ودبر كنيسة أورشليم ستا وثلاثين سنة. (2) بعض المشاهير الدينيين في القرن الخامس عشر
من هؤلاء نوح البقوفاوي بطريرك اليعاقبة، ولد نوح هذا ببقوفا إحدى قرى شمالي لبنان سنة 1451، وتبع غواية اليعاقبة فصيروه أسقفا على حمص لتدبير سائر اليعاقبة المتوطنين بفونيقي، وفي سنة 1490 جعله بطريركهم مفريانا في المشرق ثم توفي هذا البطريرك، فخلفه نوح في بطريركيته سنة 1494 ومن تآليفه كتاب اشتمل على ثمان وستين قصيدة سريانية منها ثلاث في لبنان وثمان في رهبان لبنان، وله ثلاث مقالات عربية الأولى في معتقد اليعاقبة، والثانية خطبة في إيمان السريان، وهي تقريظ لليعاقبة، والثالثة في بشارة العذراء عنونها «ميمر قاله نوح في الموصل سنة 1494 من أجل معاندين مريم والدة الله، ولا يعملون عيد البشارة المجيد»، وله أيضا تاريخ موجز ضمنه أخبار ما كان من الأحداث في المشرق، ولا سيما في الجزيرة (ما بين النهرين ) إلى أيامه أي: إلى سنة 1496، ويظهر أنه توفي بعد سنة 1508.
ومنهم المطران جبرائيل اللحفدي المعروف بابن القلاعي، ولد بلحفد إحدى قرى لبنان في أواسط القرن الخامس عشر وضوى إلى رهبانية القديس فرنسيس سنة 1471، فأرسله رؤساؤه إلى رومة لاقتباس العلوم وعاد منها سنة 1493، وأقام بلبنان مناضلا بخطبه ورسائله المقدم عبد المنعم مقدم بشري، ومرشدا العامة إلى التشبث بالإيمان القويم، وألف في سنة 1494 كتابا يحقق فيه اتحاد الملة المارونية من أقدم الأيام بالكنيسة الرومانية، وسماه مارون الطوباوي ورفعه إلى البطريرك سمعان الحدتي وأساقفته، ثم رقاه البطريرك المذكور إلى أسقفية الأفقسية بقبرس، وما برح مرشدا معلما عاكفا على تأليف الكتب والرسائل ... فله كتاب في القوانين البيعية، وكتاب مواعظ وكتاب في الاعترافات وكتاب في رياسة الأحبار الرومانيين وأخبارهم، وكتاب في الملوك الرومانيين، وكتاب في علم ما وراء الطبيعة، وآخر في الإيمان القويم وأسرار حياة المسيح، وجمع البرات المنفذة من الأحبار الرومانيين إلى بطاركة الموارنة من إينوشنسيوس الثالث إلى لاون العاشر، وكتب نحوا من خمسمائة رسالة ونظم قصائد كثيرة، وإن كانت منحطة لغة فهي كثيرة الفائدة وتوفي سنة 1516.
الفصل التاسع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السادس عشر
في ما كان بسورية من الأحداث إلى فتح السلطان سليم الأول لها (1) في ما كان بسورية في أيام الملكين قانصوه الغوري وطومان باي
قد مر أن الملك العادل طومان باي قد ثار العسكر عليه وقتلوه، وبايعوا قانصوه الغوري، وسمي الملك الأشرف، وكان فطنا كثير الدهاء، قتل أو نفى أكثر أكابر الأمراء فاستراح منهم، وفي سنة 1502 تولى نيابة حلب سيباي، ونيابة دمشق قانصوه المحمدي، وخرج إلى البقاع فانهزم من وجهه ناصر الدين بن خش مقدم البقاع، وكانت بينهما مناوشات، ووقعت فتنة بين أهل دمشق ونائبها، فأحرق الشاغور ونكل بهم، وفي سنة 1503 جاء سيل دام سبعة وعشرين يوما، فكانت منه مضار لا تقدر خاصة من قبل طغيان العاصي، ونهر بردى وأنهر لبنان وقلب حينئذ جسر نهر الكلب القديم.
وفي سنة 1516 بلغ الملك الأشرف قانصوه الغوري أن السلطان سليم الأول العثماني عازم على أن يلحق سورية ومصر بمملكته، فخرج من مصر وسار إلى دمشق ومعه الخليفة ونواب القضاة الأربعة، ثم وصل إلى حمص وحماة وحلب والتف إليه نواب سورية سيباي نائب دمشق، وخاير بك بلبان نائب حلب وتمراز الأشرفي نائب طرابلس وجان بردي الغزالي نائب حماة ويوسف نائب صفد ودولات باي نائب غزة، وبعد وصول الأشرف إلى حلب وافاه وفد من قبل السلطان سليم أظهر أن السلطان سليم يطلب الصلح، وأن الوفد مفوض بإجرائه كما يحب الملك الأشرف، وكان ذلك خدعة حربية لتخميد همة الغوري في الاستعداد للحرب، فخلع الغوري على وفد السلطان، وأرسل إليه أميرا يفاوضه بأمر الصلح، فقبض عليه السلطان سليم، وأمر عساكره أن تسير نحو حلب، فوصلوا إلى عنتاب وملكوا قلعة ملطية وغيرها، فخرج الغوري من حلب وسير أمامه النواب والعساكر، وبلغوا إلى مرج دابق، فأقبلت إليهم جيوش السلطان سليم، واصطلت نار الحرب فقاتلت العساكر المصرية والسورية قتالا شديدا، وزحزحوا أولا عساكر السلطان عن مواقفهم، وشاع بين المماليك أن الغوري أحب أن يحرص على بعضهم، ويعرض بعضهم للخطر ففترت عزيمة هؤلاء في القتال، وقتل سيباي نائب دمشق فانهزم فريق كبير من العسكر في الميمنة، وانهزم خاير بك نائب حلب من الميسرة فانكسرت، وظهر أن خاير بك مخامر على الغوري، وأصبح الملك الأشرف واقفا تحت السنجق في نفر قليل ينادي هذا وقت المروة، وليس من يسمع له فتقدم أحد الأمراء إلى السنجق، فطواه وأخفاه وسأل الأشرف أن ينجو بنفسه ويسرع بالعود إلى حلب، فعاجله فالج شل شفته وأرخى منكبه، وركب فرسه فمشى خطوتين وانقلب إلى الأرض، فمات من شدة قهره، ووثب عسكر السلطان سليم على من بقي فقتلوا من أدركوه وشتتوا الباقين، وكان من جملة القتلى عدة من النواب، ودخل السلطان سليم حلب، فملكها دون معارض، وأتى إليه الخليفة المتوكل على الله، فخلع عليه وأكرمه، ودعا خاير بك نائب حلب قبلا، فخلع عليه وصار من أمرائه، وبعد أن دبر أمور حلب توجه إلى حماة وحمص، فملكها وطلب أهل دمشق الأمان منه، فأمنهم وسار نحو مصر وعدل إلى زيارة القدس والخليل بنفر قليل، وهكذا استحوذ على سورية وأقام بها عمالا من خواصه.
وأما في مصر فاجتمع الأمراء يتشاورون في من يلي أمرهم، وقر رأيهم على طومان باي وكان مدبر الملك في غياب الغوري، فتمنع أولا فحلفوا له على أنهم لا يخامرون عليه ولا يغدرون به، فأذعن وبايعوه الملك بحضرة والد الخليفة بالوكالة عن ابنه والقضاة الأربعة، وسمي الملك الأشرف أيضا، وروى بعضهم أن جان بردي الغزالي نائب حماة كان ممن خامروا على الغوري، وانحاز إلى السلطان، وروى غيرهم أنه عاد إلى مصر وجعله طومان باي نائب دمشق، وتوجه قبل الجميع ليوقف سير السلطان إلى مصر، والتقى عساكر السلطان بالقرب من بيسان واقتتلوا قتالا شديدا، فانكسر الغزالي وقتل خلق كثير من عسكره ... وزحف السلطان سليم بجحافله وبلغوا الريدانية، فكانت هناك وقعة هائلة تشتت بها المصريون، وثبت الأشرف طومان باي بنفر قليل إلى أن خاف القبض عليه، فولى واختفى ودخلت جماعة من العثمانيين مستلين سيوفهم، وأحرقوا بعض الدور ونهبوا بعضها، وتبعهم الخليفة ووزراء السلطان ونادوا بالأمان، وفي افتتاح سنة 1517 وفد السلطان إلى القاهرة، وأمر بالانكفاف عن النهب وأشخصوا أمامه من قبضوا عليهم من الجراكسة، فأمر بقطع أعناقهم، ووثب بعد ذلك طومان باي على محلة السلطان، واحتاطها بالعسكر فدام القتال الليل كله إلى الصباح ثم اليوم التالي، فطرد العثمانيون المصريين من بعض المحال، ولما رأى طومان باي أن انتصاره ممتنع هرب إلى الصعيد، ثم انثنى بعسكر التف إليه يطلب القتال، فأرسل له السلطان منشور الأمان فلم يقبله، فنهض إليه السلطان إلى بر الجيزة، فكانت موقعة أخرى هائلة دارت بها الدوائر على طومان باي، فانهزم ونزل على صديق له فأحدق به العربان، وأعلموا السلطان بأمره فأرسل جماعة قبضوا عليه وغللوه، وبقي أياما عنده ثم أمر بشنقه، وانقرضت به دولة الجراكسة بعدأن دامت مائة وإحدى وعشرين سنة قمرية، وأصبحت سورية ومصر من ذلك اليوم إلى الآن في قبضة سلاطيننا العثمانيين العظام.
المقال السادس
في تاريخ سورية في أيام السلاطين العثمانيين العظام
في السلاطين العثمانيين في القرن السادس عشر وما كان في أيامهم من الأحداث
بسورية
(1) في السلطان سليم الأول وما كان في أيامه بسورية
العثمانيون فصيلة من الأتراك ينتسبون إلى عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه سلطان ماهان الذي ارتحل بعشيرته نحو المغرب سنة 1251، وكان أرطغرل ينجد علاء الدين السلجوقي سلطان قونية، فولاه على عدة أعمال إقطاعا له فزادها بأخذه قره حصار وغيرها من ملك الروم، وتوفي سنة 1288، فخلفه ابنه عثمان، ولما قتل التتر علاء الدين السلجوقي استقل عثمان بما كان بيده، وحارب الروم ووسع تخوم مملكته، وتوفي عثمان سنة 1326 وخلفه ابنه أدرخان وخلف هذا ابنه مراد الأول ثم جلس على العرش بايزيد الأول إلى السلطان محمد الثاني، الذي فتح القسطنطينية سنة 1453 وإلى السلطان سليم الأول الذي أخذ سورية ومصر كما مر.
وبعد أن دبر السلطان سليم مهام مصر وأقام بها خالد بك الذي خان طومان باي، وتخلى له الخليفة المتوكل على الله عن الخلافة الدينية سار إلى سورية ونصب جان بردي الغزالي نائبا للسلطنة بدمشق، وأضاف إليها القدس وغزة وصفد والكرك وأقام عمالا لحلب وحمص وأطرابلس والمدن البحرية، وكتب إلى أمراء لبنان يؤمنهم ويدعوهم إليه، فحضر الأمير فخر الدين بن الأمير يونس معن فولاه على الشوف، والأمير جمال الدين اليمني، وولاه على الغرب والأمير عساف التركي، وولاه على كسروان وبلاد جبيل، وأما أمراء الغرب التنوخية، فلم يحضروا خشية من السلطان؛ لأنهم كانوا من محازبي المماليك، وأوصى السلطان من ولاهم بأن يجهدوا نفوسهم في تعمير البلاد، ونجاح أهلها ... ونرى لبنان ذلك الحين ازداد عمرانا فأتاه بعض شيعية من بلاد بعلبك، وتوطنوا بعض قرى كسروان وجبيل وبعض الدروز من الجرد، وسكنوا المتن الشمالي وبعض النصارى من جهات أطرابلس إلى كسروان، وارتحل الشيخ حبيش من يانوح إلى غزير، وجعل الأمير عساف مقره في غزير وكان يسكن قبلا في عينطورا ويمضي الصيف بعين شقيف، وتوفي الأمير عساف سنة 1518، وخلفه في ولاية كسروان ابنه الأمير حسن فغدر به وبأخيه حسين أخوهما الأمير قيتبة وقتلهما، وتولى كسروان وقبض على يوسف وسليمان ابني الشيخ حبيش ونفاهما إلى مصر؛ لأنهما كانا يخدمان أخويه، وأما السلطان سليم فبعد أن دبر مهام دمشق سار إلى حلب، فرتب أمورها وعاد إلى القسطنطينية ثم توفي سنة 1520. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطان سليمان الأول
بعد وفاة السلطان سليم الأول خلفه السلطان سليمان الأول ابنه سنة 1520، ولما وصل خبر ارتقائه إلى دمشق سولت للغزالي واليها نفسه أن يجاهر بالخروج عن الطاعة، واستولى على قلعة دمشق وأرسل أحد أتباعه؛ ليحتل بيروت وجد في استمالة خاير بك عامل مصر إلى الخروج معه، فلم يجبه بل أرسل إلى السلطان كتاب الغزالي إليه فجهز السلطان فرحات باشا بجيش كاف لكبت الغزالي، فسار وانتهى إلى حلب فوجد الغزالي محاصرا لها، فارتحل الغزالي عنها إلى دمشق وتحصن بها فتأثره فرحات باشا وحاصره بدمشق، فخرج الغزالي لقتاله فهزمه فرحات باشا، وفر متنكرا لكن خانه بعض أصحابه وسلمه إلى فرحات باشا، فقطع رأسه وأرسله إلى السلطان.
وفي سنة 1523 توفي الأمير قيتبية ابن الأمير عساف بغزير، وخلفه الأمير منصور ابن أخيه وانبسطت ولايته إلى عكار، وكانت ولاية أطرابلس لنائب من قبل السلطان، والتزمها محمد أغا بن شعيب من أهل عرقا، وأجر الأمير منصور بلاد جبيل والبترون وجبة بشري والكورة والزاوية والضنية، ورد الأمير منصور الشيخين يوسف وسليمان ابني حبيش، اللذين كان عمه قيتبية قد نفاهما، ونصب الشيخ هاشم العجمي عاملا في بلاد جبيل، وجعل ابن عمه عبد المنعم قيما على أملاكه، وفي سنة 1528 وقعت نفرة بين بني شعيب من عرقا وبني سيفا أمراء عكار، وارتحل بنو سيفا من عكار إلى الباروك لائذين بحمى الأمير فخر الدين معن الذي أخذ يناصرهم، وأرسل بثلاثمائة رجل فكبسوا بني شعيب في عرقا، وقتلوا أكثرهم وتولوا بلاد عكار، فخنق محمد أغا بن شعيب حاكم أطرابلس على الأمير منصور، وادعى عليه بمال فأرسل إليه الأمير منصور عبد النعم وابني حبيش المذكورين ومعهم نحو خمسمائة رجل كمنوا عند حارة الحصارنة بأطرابلس ، وطلبوا إجراء الحساب مع ابن شعيب بحضرة القاضي، ولما حضر وثب عليه مفوضو الأمير منصور فقتلوه، وألحقوا به ابنه وأخذوا تقريرا من القاضي بتبرئة ساحتهم من القتل.
وفي سنة 1532 قصد عبد الساتر الكردي حاكم البترون أن يعصي الأمير منصور، فأرسل الأمير أربعين رجلا قتلوه وألحقوا به أباه، ونصب مكانه يوسف بن شكيبان الحصاراتي وصرفه في بلاد البترون، ويظهر أنه كان مارونيا ثم قتل الأمير منصور حاكم جبيل لخيانة أبداها، ونصب مكانه أبناء الحسامي.
وفي سنة 1533 كانت منازعة بين مالك شيخ العاقورة من اليمنية وهاشم العجمي عامل بلاد جبيل المذكور من القيسية، فكبس مالك جبة المنيطرة وأحرقها فاتفق أهلها مع القيسية الذين كانوا في العاقورة، وكمنوا لمالك في طريق الجرد وقتلوه، فرفع حنش وحرفوش أخواه الشكوى إلى نائب دمشق، فكتب إلى الأمير منصور أن يقبض على القاتلين ويرسلهم إليه، فأمر الأمير عبد المنعم المذكور أن يقتل ابن عمه هاشم، ففر هاشم وتتبعه عبد المنعم مع أخوي مالك ولجأ هاشم إلى الأمراء الحرافشة، فنهب عبد المنعم لاسا وأحرقها مع غيرها من قرى المنيطرة، وخاف القيسية الذين بالعاقورة وهربوا إلى نواحي أطرابلس فنهب عبد المنعم بيوتهم وأحرقها، وخلت العاقورة من السكان واستوحش الأمير منصور من عبد المنعم، ودرى هو بذلك فراسل الحرافشة بقتل هاشم وتعهد لهم بقتل الأمير منصور وتسليمهم ولايته، فقتل الحرافشة هاشم فوق الكرك ببلاد بعلبك، وطرحوا جثته في بئر يسمى اليوم بئر هاشم، وأما عبد المنعم فأخذ يكيد على أبناء حبيش توسلا لغرضه إهلاك الأمير منصور فأخبر أبناء حبيش الأمير بدخيلته، فأباحهم اغتياله فوثبوا عليه في داره وقتلوه مع بعض أنسبائه فطاب قلب الأمير، فأقام أبناء حبيش على تدبير شئون حكومته.
وكان من سكان العاقورة الشيخ أيوب وأخوه فضول ابنا الشماس توما، ولما ارتحل أهل العاقورة اليمنية منهم إلى دمشق والقيسية إلى أطرابلس سكناهما عند دير مار إذنه كرسي أسقف العاقورة، ثم أخذا أمرا من نائب دمشق بتعمير قريتهما وإرجاع سكانها إليها، فعمرت بعد خرابها سبع سنين وأخذ فضول المشيخة عليها ... وكان لأيوب ابن اسمه هاشم هو أصل المشائخ بني الهاشم على الأصح، وفي سنة 1541 ائتمر المقدم ميخائيل المتكلم على زوق ميكائيل وأولاد حنش أمراء فتقا على قتل الأمير منصور، وساروا إلى غزير فرحب بهم وبسط لهم سماطا ليتغذوا وأمر رجاله فقتلوهم. (3) في ما كان بسورية في أيام السلطانين سليم الثاني ومراد الثالث
توفي السلطان سليمان الأول سنة 1564، وخلفه ابنه السلطان سليم الثاني، وأهم الأحداث بسورية في أيامه فتحه قبرس، ففي سنة 1570 جهز أسطولا كبيرا وعسكرا كثيفا لأخذ هذه الجزيرة من البنادقة، فأخذوا الملاحة أولا ثم حاصروا الأفقسية ودام الحصار نحو ستة أشهر، ثم حاصروا الماغوصة ودام الحصار نحو سنة ولم تفتح إلا في 6 آب سنة 1571، فسلم أهلها وسائر سكان الجزيرة، وكان من قتلوا بهذه الحرب نحو خمسين ألفا، ومن أسروا مائة وثمانين ألفا، وقتل من الموارنة نحو ثلاثين ألفا، وبقيت هذه الجزيرة خاضعة للدولة العلية واحتلها الإنكليز سنة 1878.
وفي أيام السلطان سليم هذا انبسطت ولاية الأمير منصور عساف من نهر الكلب إلى حمص وحماة بمقتضى براءة سلطانية، وكان ينصب العمال في هذه النواحي وأنشأ له دارا ببيروت وأخرى بجبيل وسراي بغزير وبنى بجانبها جامعا ومئذنة وحماما وجنة فسيحة، وأجرى الماء إلى غزير من نبع المغارة وتوفي السلطان سليم سنة 1574.
وخلفه ابنه السلطان مراد تلك السنة، وكان في أيامه سنة 1576 زلزال عظيم في جزيرة قبرس استمر ساعتين، وخربت به أبنية كثيرة، وحدث سنة 1579 طاعون مات به كثيرون، وقحط حتى بيع شنبل القمح في جهات أطرابلس بمائة وخمسين قرشا، وفي هذه السنة شكا البعض الأمير عساف إلى الباب العالي بقتله ابن شعيب حاكم أطرابلس وأمراء فتقا وعبد الساتر كما مر، فأمر السلطان أن يكون والي أطرابلس باشا؛ لكسر شوكة بني عساف، وولى عليها يوسف باشا ابن سيفا التركماني، فاضطهد أتباع الأمير منصور فهرب الشدياق خاطر الحصروني مقدم جبة بشري إلى بعلبك، والمقدم مقلد إلى ناحية الشوف فمات هناك ... لكن يوسف باشا استدعى المقدم خاطر وأمنه ورده إلى ولايته وأشرك معه فيها الشدياق باخوس بن صادر الحدشيتي، وتوفي الأمير منصور سنة 1580 وخلفه ابنه محمد في ولاية غزير.
وفي سنة 1584 نهب بعض الأردياء مال الخزينة السلطانية من حامليه في جون عكار، فصدر الأمر إلى جعفر باشا والي أطرابلس أن يجمع العسكر من حمص إلى صيدا، ويصادر يوسف باشا بن سيفا الذي كان قد عزل عن أطرابلس وأقام بعكار، فنهب العسكر قرى عكار وأحرق كثيرا منها، وشكا جعفر باشا الأمير محمد عساف والي غزير وأمراء بلاد الدروز بأنهم هم الذين نهبوا الخزينة، فصدر الأمر إلى إبراهيم باشا والي مصر أن يجمع العساكر من مصر والشام، فجمعها وقطع طريق الساحل وطريق البقاع على الدروز، فحضر إليه بعض أمراء غرب بيروت، والأمير محمد عساف واستسلموا إليه، وهرب الأمير قرقماس معن واختبأ بمغارة في ناحية جزين، فأصابه مرض مات به ... ولما بلغ إبراهيم باشا انهزام قرقماس سار في عسكره إلى عين صوفر ودعا إليه عقال الدروز، فحضروا وقتل منهم خمسمائة رجل ثم سار إلى أطرابلس، ثم إلى الأستانة ومعه الأمراء الذين استسلموا إليه فأكرمهم السلطان، وقرر كل منهم في بلاده فعادوا إلى وطنهم شاكرين، وقدم الأمير محمد عساف الشيخ أبا قانصوه محمد بن حمادة، ووهبه دارا في غزير وكان للأمير قرقماس معن ولدان فخر الدين ويونس أرسلتهما والدتهما بعد موت أبيهما إلى الشيخ أبي صقر إبراهيم بن الشيخ سركيس الخازن الذي ارتحل من جاج إلى كسروان سنة 1545، فخباهما عنده ولما صفا كأس السياسة رجعا إلى خالهما الأمير سيف الدين التنوخي بأعبيه، ووليا بعد ذلك بلاد الشوف كما كان أبوهما.
وفي سنة 1590 خرج الأمير محمد عساف لمقاتلة يوسف باشا سيفا بعكار، فجمع يوسف باشا عسكره وكمن للأمير محمد بين البترون وعقبة المسيلحة، فقتله وبدد عسكره، ولم يكن للأمير محمد ولد فانقرضت به حكومة بني عساف الذين كانوا حكاما بكسروان، وسكنوا غزير منذ سنة 1306، واستولى يوسف باشا على أملاكهم وأموالهم، وتزوج أرملة الأمير محمد وقبض على سليمان ومنصور حبيش مدبري حكومته وقتلهما وأقام مكانهما أبناء حمادة، فانتقلوا مع يوسف باشا إلى أطرابلس ووجس هو منهم، فألقى الفتنة بينهم وبين المستريحية الذين كانوا بجبة المنيطرة، فقتل قانصوه حمادة أناسا منهم في أطرابلس، وفي كفر حلدا وصعد بعسكر إلى المنيطرة يريد إهلاك جميعهم، فقتل وحملته جماعته إلى كفتين ودفنوه بها وتوفي السلطان مراد الثالث سنة 1594. (4) في ما كان بسورية في أيام السلطان محمد الثالث
بعد وفاة السلطان مراد الثالث خلفه ابنه السلطان محمد الثالث، ومما كان في أيامه بسورية وقعة نهر الكلب بين الأمير فخر الدين بن معن ويوسف باشا ابن سيفا سنة 1598 بسبب الولاية على كسروان، ودارت الدوائر فيها على يوسف باشا وقتل ابن أخيه الأمير علي وتشتت عسكره، فتولى فخر الدين بيروت وكسروان، ولكن لم يستمر على ولايتهما إلا سنة واحدة وتركها ليوسف باشا، وعاد إلى ولايته بالشوف.
وفشا في هذا القرن استعمال التبغ في سورية ومصر، وفي سنة 1602 كبس الأمير موسى بن الحرفوش مع جماعته جبة بشري، فنهبوا البيوت والماشية وكان أهل الجبة بالساحل، فجمع يوسف باشا بن سيفا جنوده، وأهل الناحية نحو خمسة آلاف رجل، وكبس مدينة بعلبك فهرب أهلها فنهبوا أموالهم وقتلوا من أدركوه منهم، وتحصن بعض الحرافشة بالقلعة مع كثير من الأهلين، فحاصرها يوسف باشا خمسين يوما، ثم فتحها ونادى بالأمان بعد أن كان أحرق قرية الحدث في بلاد بعلبك، وتوفي السلطان محمد الثالث سنة 1603. (5) في بعض المشاهير السوريين في القرن السادس عشر
محمد بن قاسم الغزي:
ولد ونشأ بغزة وتوفي سنة 1512، وله شرح على المختصر بالتقريب وهو كتاب لأحمد الأصفهاني بالفقه، وسمى شرحه الفتح القريب المجيب في شرح التقريب، وله حاشية على كتاب عقائد النسفي، وهو الشيخ نجم الدين أبو عفص عمر.
برهان الدين المقدسي:
توفي سنة 1516 وله شرح على كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب لابن هشام النحوي.
عائشة الباعونية الدمشقية:
أصلها من قرية باعون في قضاء عجلون توفيت سنة 1516، ولها من التآليف الفتح المبين في مدح الأمين، وهي بديعية بديعة وشرحتها هي نفسها، وقد طبعت مع شرحها على هامش خزانة الأدب بالقاهرة سنة 1304، ولها منظومة بمولد النبي طبعت بدمشق.
زين الدين عمر الحلبي :
توفي سنة 1529 وله كتاب تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان، وهو مختصر كتاب آخر له سماه مورد الظمآن، وله كتب أخرى منها سفينة نوح وسلوة وعرف الند في المنتخب من مؤلفات بني فهد، وفتح المنان في تخميس راية الشيخ علوان.
محمد بن يوسف الدمشقي:
ولد بدمشق وارتحل إلى مصر، وتوفي سنة 1535 وأشهر كتبه الآيات العظيمة الباهرة في معراج سيد الدنيا والآخرة، ويعرف بسيرة النبي الشامية، وعنه أخذ برهان الدين الحلبي كتابه إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون المعروف بالسيرة الحلبية، وله أيضا عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان.
الشيخ بدر الدين محمد الغزي:
مفتي دمشق توفي على الأظهر سنة 1576، وله كتاب جواهر الذخائر في شرح الكبائر والصغائر، وهو قصيدة رائية شرحها الشيخ رضي الدين المقدسي الحنفي، ولبدر الدين أيضا شرح شواهد كتاب تلخيص المفتاح في المعاني والبيان إلى غير ذلك.
إبراهيم الحلبي:
ولد بحلب وتوفي سنة 1549، وأشهر مؤلفاته ملتقى الأبحر في الفقه وشرحه شيخ زاده، وسمى شرحه مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، وله شروح أخرى كثيرة، ولإبراهيم كتب أخرى منها مصابيح أرباب الرياسة، ومفاتيح أبواب السياسة وتلخيص التاترخانية في الفقه.
شمس الدين محمد الحلبي:
توفي سنة 1563 وله ديوان يعرف بديوان ابن الحنبلي وحاشية على حاشية شمس الدين بن هلال الحلبي في شرح كتاب التصريف للزنجاني، وحاشية أخرى سماها مستوجبة التشريف بتوضيح شرح التصريف، وله منظومة في المعمى ووضع لها شرحا سماه غمز العين إلى كنز العمين، وله حاشية على السراجية وهي كتاب في الفرائض لسراج الدين السجاوندي، وشرح على القصيدة الميمية لأبي العود العمادي، ومما اشتهر من مؤلفاته در الحبب في تاريخ أعيان حلب.
شمس الدين محمد الغزي:
توفي سنة 1595 ومن أشهر تآليفه تنوير الأبصار، وجامع البحار في الفقه وشرحه في مجلدين وسماه منح الغفار في تنوير الأبصار، وعني جماعة من العلماء بشرح هذا الكتاب منهم علاء الدين مفتي دمشق، وسمى كتابه در المختار في شرح تنوير الأبصار، ووضع له ابن عابدين حاشية سماها رد المحتار على الدر المختار ، طبعت في خمسة أجزاء بالقاهرة سنة 1272 ووضع الطحطاوي حاشية أيضا على الدر المختار طبعت ببولاق سنة 1254 إلى غيرهم.
داود الأنطاكي الضرير:
توفي سنة 1596 وله كتاب عظيم في الطب سماه تذكرة أولي الألباب في الجامع العجب العجاب، طبعت بالقاهرة في ثلاثة أجزاء سنة 1294ه، وبهامشها كتاب آخر له سماه النزهة المبهجة في تشميذ الأذهان وتعديل الأمزجة، وله كتب أخرى في الطب.
وعاصر هؤلاء العلماء في غير سورية جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 1505، وهو من أركان الإسلام، وله مؤلفات كثيرة في علوم وفنون وافرة منها كتاب حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة طبع بالقاهرة سنة 1299ه، ولب الألباب في تحرير الأنساب طبع بليدن سنة 1840م، ومنها تاريخ الخلفاء طبع بمصر سنة 1305ه، ومفحمات الأقران في مبهمات القرآن، والإتقان في علوم القرآن إلى كثير غير ذلك.
ومنهم محمد بن إياس المتوفى سنة 1523ه وأشهر مؤلفاته بدائع الزهور في وقائع الدهور، وهو تاريخ لمصر في مدة دولة المماليك، ومنهم ابن نجيم المصري سنة 1562، وأشهر مؤلفاته الأشباه والنظائر وعليه حواش وشروح كثيرة، وعبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة 1565 ومن تآليفه مواقع الأنوار في طبقات السادة الأخيار إلى غيره، وأحمد الهيتمي المتوفى سنة 1565 ومن مؤلفاته الخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان، وشرح مختصر الفقه لعبد الله الحضري، وكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر طبع بالقاهرة سنة 1310ه، ومنهم أبو السعود العمادي المتوفى سنة 1574 ومن أشهر مؤلفاته إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم في تفسير القرآن، وعليه تعليقات كثيرة.
الفصل الأول
في تاريخ سورية الديني في القرن السادس عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
ذكر لكويان بعد دوروتاوس الثالث السابق ذكره يواكيم الرابع ثم ميخائيل السادس ثم مكاريوس الثاني، ثم يواكيم الخامس ثم ميخائيل السابع ثم يواكيم السادس، واستشهد لكويان بالجدول الذي وضعه السمعاني، فكانا متفقي الرواية إلا أن السمعاني لم يذكر مكاريوس الثاني الذي ذكره لكويان، ولكويان أغفل ذكر يواكيم السابع، وقد ذكره السمعاني، ويحتمل أن السمعاني أهمل ذكر مكاريوس ؛ لأن الدمشقيين انتخبوه بطريركا في حياة ميخائيل السادس، فلم يكن بطريركا شرعيا، وفي سنة 1582 طرد نائب دمشق البطريرك ميخائيل السابع من كرسيه وعمره ثمانون سنة، فسار إلى القسطنطينية يشكو متظلما ويظهر أنه بقي هناك إلى سنة 1585 ... وجاء في الجدول الواتيكاني أن يواكيم السادس الذي غصب كرسي ميخائيل السابع كان أسقفا على حمص، وفي جدول السمعاني أنه يسمى ابن زيادة وهو الذي شهد المجمع الذي عقده بطريرك القسطنطينية سنة 1593 لتأييد حقوقه البطريركية على رئيس أساقفة موسكو، وبعد وفاة يواكيم هذا خلفه دوروتاوس الرابع واستمر في البطريركية إلى سنة 1610.
وكان على كرسي أنطاكية من بطاركة الموارنة في هذا القرن البطريرك موسى العكاري خلف البطريرك سمعان الحدتي المار ذكره سنة 1524، واستمر بطريركا نحو ثلاث وأربعين سنة، وتوفي سنة 1567 وخلفه البطريرك ميخائيل الرزي، وعقد مجمعا طائفيا سنة 1580 وتوفي سنة 1581، وخلفه أخوه البطريرك سركيس الرزي وعقد مجمعا آخر طائفيا سنة 1596 وتوفي تلك السنة وخلفه البطريرك يوسف الرزي ابن أخيه، وتوفي سنة 1608.
وأما في أورشليم فبعد وفاة غريغوريوس الثالث خلفه دوروتاوس الثاني، واستمر على البطريركية ثلاثا وأربعين سنة وخلفه جرمانوس، وجاء ذكره في رسالة كتبها يواصاف الثاني البطريرك القسطنطيني سنة 1565 إلى توادوسيوس مدبر كنيسة القسطنطينية، ويظهر أنه بقي حيا إلى سنة 1572 حين استقال من هذه البطريركية، فانتخب خلفا له صفرونيوس الخامس، وكان من المورة وشهد المجمع الذي عقده البطريرك القسطنطيني سنة 1593، وأخذ بتجديد كنيسة القبر المقدس سنة 1602، واستقال من البطريركية سنة 1608.
الفصل الثاني
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع عشر
في السلاطين الذين تولوها في هذا القرن وما كان في أيامهم (1) في ما كان بسورية في أيام السلطان أحمد الأول
بعد وفاة السلطان محمد خان الثالث خلفه ابنه أحمد خان الأول سنة 1603، ومما كان في أيامه بسورية خروج علي باشا جان بولاد الذي أصله من الأكراد، وتأويل اسمه ذو النفس التي من بولاد (فولاذ) لشدة بأسه، فهذا كانت حرب شديدة بينه وبين يوسف باشا ابن سيفا، فاستحوذ على حلب وأراد الاستقلال بولايتها، فعاجله مراد باشا المعروف بقبوجي باشا الصدر الأعظم بالعساكر السلطانية، فبلغ إلى حلب سنة 1607، فخرج جان بولاد من حلب لملتقى العساكر، فانذعر جان بولاد وتشتت عسكره، فعاد إلى حلب وحصن قلعتها، فتتبع مراد باشا أثره وحاصر المدينة وافتتحها وأقام المنجنيقات على القلعة، وراسل الحامية التي فيها واعدا إياهم بخلع ومناصب، فاستسلموا إليه وسلموه القلعة فقتلهم عن آخرهم، ونادى بقتل كل من كان من تبعة جان بولاد فقتل منهم كثيرون، وانهزم الباقون وتشتتوا، وأسرت عيال جان بولاد وجواريه ووالده وفر هو إلى القسطنطينية، فعفا السلطان عنه ونصبه واليا في إحدى ولايات المغرب، ولجأ بعض آله إلى الأمير فخر الدين المعني والي الشوف، وينسب إليه آل جنبلاط.
وكان في أيام هذا السلطان أيضا الأمير فخر الدين المعني، فمعن جد هذه الأسرة هو من رؤساء العشائر التي أسكنها سلاطين المسلمين بسورية لمقاومة الإفرنج، وحل معن وعشيرته بالشوف، وكانوا مسلمين على الأصح، واتفقوا مع التنوخيين حكام الغرب بلبنان، ومع الأمراء الشهابيين الذين احتلوا وادي التيم، وكانت بين هاتين الأسرتين مصاهرة وقام فيهم أمير يسمى يوسف تولى الشوف، وخلفه الأمير فخر الدين ابن أخيه عثمان، وكان في وقعة مرج دابق بين الغوري والسلطان سليم الأول بمعية الغزالي نائب دمشق، ويعرف بفخر الدين الأول وتوفي سنة 1544، وخلفه ابنه الأمير قرقماس وتوفي سنة 1584 في مغارة تيرون تحت جزين فارا من وجه إبراهيم باشا، وله ولدان صغيران يونس وفخر الدين خبأتهما أمهما عند الشيخ إبراهيم الخازن ببلونة كما مر، ثم أخذا إقطاع والدهما بالشوف ... وفخر الدين هذا يوصف بالثاني والشهير، وفي سنة 1605 كانت له وقعة أخرى بجونية مع يوسف باشا سيفا والي أطرابلس وغزير وكان الظفر فيها للأمير فخر الدين، وانهزم يوسف باشا فأقام فخر الدين الشيخ يوسف بن الأسلماني حاكما من قبله في غزير، وفي سنة 1606 حارب أحمد باشا حافظ دمشق الأمير يونس الحرفوش، ثم الأمير أحمد الشهابي واستمد الأميران فخر الدين علي الحافظ، وأمدهما فاضطر الحافظ أن ينكف عن حربهما.
وكان الأمير فخر الدين حليفا لجان بولاد المار ذكره ، ولما قهره مراد باشا أظهر حنقه على فخر الدين، فأرسل إليه ابنه عليا واستعطف بخاطره بدفعه ثلاثمائة ألف قرش فعفا الوزير عنه وأنعم على ابنه بولاية صيدا وبيروت وغزير، وفي سنة 1609 كانت فتنة بين المسلمين سكان قرية مجدل معوش، واتفق الفريقان المتخاصمان على بيع القرية والخروج منها، فاشتراها الأمير علي بن فخر الدين باثني عشر ألف قرش، وأسكن النصارى فيها، ثم حضر يوحنا مخلوف بطريرك الموارنة، وأقام بها مدة وبنى فيها دارا وكنيسة، وفي سنة 1611 توفي مراد باشا وخلفه في منصب الصدارة نصوح باشا، فأرسل إليه فخر الدين خمسة وعشرين ألف قرش وخيلا جيادا، فلم يبد نصوح باشا البشاشة المعتادة لرسوله وإن قبل الهدية، ثم حضر إلى حلب فأرسل إليه فخر الدين خمسة وعشرين ألف قرش أخرى وخمسين ألف قرش خدمة للسلطان، ومع ذلك لم يصف خاطر الصدر الأعظم وكان آخذا عليه إنجاده للأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب علي حافظ دمشق، وإرساله إليه الهدية أقل مما أرسله إلى مراد باشا.
وتوجه حافظ دمشق إلى حلب سنة 1612، فأوعز صدر الصدر الأعظم على فخر الدين وعاد إلى دمشق، فعزل الأمير حمدان بن قانصوه عن ولاية عجلون، والشيخ عمرا شيخ العرب المفارجة عن ولاية حوران، فنجد الأمير فخر الدين المعزولين حتى لم يتمكن حافظ دمشق من تنفيذ أمره، فرفع عريضة إلى الباب العالي يشكو بها الأمير فخر الدين بأنه غزا حوران وأنه محاصر دمشق، فجهز السلطان عسكرا بقيادة نصوح باشا الصدر الأعظم، ولما دخل الوزير دمشق استسلم الأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب المذكوران، ولم يركن فخر الدين أن يستسلم إلى الوزير، ولم يشأ أن يحارب عسكر السلطان، وقصد أن يعتزل بالبرية فبلغه أن الأمير أحمد شهاب قطع عليه طريق جسر المجامع، ولما وصل إليه الأمير علي بن فخر الدين صده الأمير أحمد وقتل كثيرين من رجاله، فجمع فخر الدين رؤساء حزبه في الدامور، واستنهضهم للقتال فرأى عزيمتهم باردة فعزم على السفر إلى أوروبا، وحصن قلعة شقيف أرنون وقلعة بانياس، ومغارة نيحا ، وجعل فيها ما يكفي من المؤن والعدد وسلمها إلى بعض رجاله، وسلم ابنه الأمير عليا إلى الشيخ عمرو الذي كان قد استرجع ولاية حوران، وأوصى ذويه أن يكونوا يدا واحدة ولا يغتروا بعهود أو مواعيد، وسار إلى إيطاليا إلى أمير توسكانا ومعه بعض حاشيته وواحدة من نسائه، وسار أخوه الأمير يونس من بعقلين فاستقر بدير القمر فصارت مركزا لهم.
أما أحمد باشا حافظ دمشق فولى حسين باشا بن سيفا على بيروت، والشيخ مظفر رئيس اليمنية على الشوف، وابن البستنجي على صيدا، وزحف هو بعسكر على الشوف، وحاصر قلعة شقيف أرنون وقلعة بانياس، ولما لم ير له مطمعا في فتحها سرح عساكره إلى قرى البلاد تنهب وتحرق، فطلب الأمير يونس الأمان من حافظ دمشق وجرى القرار أن يدفع له الأمير يونس مائة ألف قرش كفلها بعض وجوه البلاد، فعاد الحافظ إلى دمشق ومعه الكفلاء، ثم أرسل المبلغ إليه إلا عشرين ألف قرش كانت مرسلة بيد أحمد بن العكس، ففر بها فعاد الحافظ إلى البقاع ثم دخل دير القمر بعسكره عنوة، وحرق منازل المعنيين وشتت رجالهم، وتحصن الأمير يونس مع أربعمائة رجل من وجوه الشوف بقلعة بانياس، وأرسل الحافظ فريقا من عسكره ليغزو وادي بسرة فحاربهم أهل الشوف، وقتلوا منهم ستمائة رجل، فجهز الحافظ ثمانية آلاف رجل وأرسلهم إليهم، فانتصر الشوفيون عليهم وأباح الحافظ عسكره أن ينهبوا قرى الشوف ويحرقوها ... فورد الخبر أن نصوح باشا الصدر الأعظم قتل فخاف الحافظ، وعاد إلى دمشق.
وفي سنة 1613 عزل السلطان أحمد باشا الحافظ عن منصبه في دمشق، وولى مكانه محمد باشا جركس، فأمن الفارين وأمر بعودهم إلى أوطانهم، وأرسل فرمان العفو ومنديل الأمان إلى الأمير فخر الدين، وولى الأمير عليا ابن فخر الدين على صفد وعمه الأمير يونس على صيدا وبيروت وما يليهما، وأمر حسين باشا ابن سيفا أن يرفع يده عن بلاد كسروان وبيروت، ولا يحامي الشيخ مظفر حاكم الشوف ولا الأمير محمد بن جمال الدين في الشويفات، ولا المقدمين بيت الصواف بالشبانية، فلم يمتثل حسين باشا الأمر بل اتفق مع الأمير شلهوب الحرفوش، وأمراء رأس نحاش وسرحوا ألفي مقاتل لمقاومة المعنيين، فجمع الأمير يونس والأمير علي ابن أخيه ثلاثة آلاف رجل، والتقى الفريقان عند عين الناعمة، وطرد المعنيون رجال حسين باشا إلى قرب الشويفات، وقتلوا منهم مائتي رجل، وجرت في ذلك اليوم مقاتلات في قرى كثيرة من الشوف بين القيسية واليمنية، فكان الفوز في كلها للقيسية الذين هم من حزب آل معن، وحمل الأمير يونس في اليوم التالي على بيروت، فاستسلم أهلها إليه فأمنهم ثم أباح عسكره أن ينهبوا قرى الغرب والجرد والمتن؛ لأن أهلها نهبوا قرى الشوف في أيام الحافظ، وحرق رجال الأمير يونس حينئذ دار الأمير محمد بالشويفات، ودار المقدمين بيت الصواف بالشبانية، وأخذ الأمير حسين عياله وعيال أخيه من غزير إلى عكار، فولى الأمير يونس الشيخ أبا نادر الخازن ومملوكه ذا الفقار على كسروان، ونصب عمالا في باقي البلاد وفر الشيخ مظفر الذي كان واليا بالشوف إلى الضنية، ثم توطن شدرا بعكار.
وسنة 1616 قتل والي حلب حسن باشا سيفا أخا حسين باشا المار ذكره، وعزل أحمد باشا الجوخ دار والي دمشق الأمير عليا ابن فخر الدين من ولاية صفد، وولى عليها حسين اليازجي، وشق ذلك على الأمير علي فكانت وقعة بينه وبين اليازجي قتل فيها اليازجي، وتشتت رجاله واسترضى الأمير علي والي دمشق فصدر أمر الباب العالي له بولاية صفد وصيدا وبيروت، وفي سنة 1617 عاد الأمير فخر الدين إلى لبنان بعد تغيبه خمس سنين، وفيها توفي السلطان أحمد خان الأول. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطانين مصطفى الأول وعثمان الثاني
إن السلطان أحمد الأول عهد قبل وفاته بالملك إلى أخيه مصطفى؛ لأن ابنه كان صغيرا لكنه لم يستمر على عرش الملك هذه الدفعة إلا ثلاثة أشهر، وعزله أصحاب المطامع ونصبوا مكانه السلطان عثمان الثاني ابن أحمد الأول، فبقي على العرش مدة خمس سنين ثم خلعه الإنكشارية، وأعادوا السلطان مصطفى خان المذكور إلى الملك، وفي سنة 1618 تولى عمر باشا الكاتبجي أطرابلس، وبقيت ملحقاتها بيد يوسف باشا سيفا، فاستنجد عمر باشا الأمير فخر الدين على يوسف باشا، فجمع الأمير عساكره وزحف إلى يوسف باشا فاعتصم بحصن عكار وحاصرته العساكر فيه، فاستنجد نائب دمشق ونائب حلب فجمعا العساكر، وبلغا إلى حماة وكاتبا عمر باشا والأمير فخر الدين؛ ليرفعا الحصار عن يوسف باشا فلم يرفعاه حتى دفع إليهما مائة ألف قرش، ودون صكا آخر للأمير فخر الدين بمائة ألف قرش أخرى، وعاد الأمير فخر الدين فحاصر قلعة جبيل وهي بولاية آل عساف، ثم أمن من كانوا بها وأمر بهدمها، وولى على بلاد جبيل الشيخ أبا نادر الخازن وفتح قلعة أسمر جبيل ولم يهدمها، وولى على بلاد البترون المقدم يوسف بن الشاعر، ثم ورد أمر من الباب العالي بتقرير يوسف باشا سيفا في ولاية أطرابلس لكن لم يبق عليها إلا مدة وجيزة.
وفي سنة 1619 أقام والي دمشق على ولاية أطرابلس حسين باشا الجلالي، وجعل مصطفى أغا كتخدى الأمير فخر الدين على جبلة واللاذقية، وأمره أن يهدم القلاع التي كانت بيد يوسف باشا سيفا، وأن يضبط أملاكه التي هناك فأرسل يوسف باشا ابنه الأمير حسن إلى فخر الدين؛ ليستعطف رضاه عنه فلقيه فخر الدين بالترحاب، وعقد الأمير علي بن فخر الدين على ابنة الأمير حسن المذكور، وللأمير بلك بن يوسف باشا على بنت الأمير علي المذكور، ووجه يوسف باشا بعض أعوانه إلى الأستانة فنال الأمر بعزل حسين باشا الجلالي عن ولاية أطرابلس، وإعادة يوسف باشا إليها، وفي سنة 1620 أرسل حسين باشا الصدر الأعظم أمرا إلى الأمير فخر الدين بأن يستحصل من يوسف باشا ما يطلب للخزينة منه، فسار فخر الدين إلى أطرابلس ولما بلغ إلى البحصاص في خارجها انتقل يوسف باشا إلى جبلة، وأرسل ابنه الأمير حسنا إلى فخر الدين فباعه جميع مختلفات آل عساف ببيروت، ومزرعة أنطلياس ودار غزير ... وبعد أن تسلم صك البيع أرسل إلى يوسف باشا يطالبه بما عليه للخزينة، فأجبر يوسف باشا أن يدفع واستنجد بسليمان باشا والي دمشق وبعرب حمص والبقيعة، فحاصر فخر الدين أطرابلس وفتحها، ولكن لم يقو على فتح قلعتها، وخرج فخر الدين إلى النهر البارد والتقى الفريقان، فكانت موقعة هلك بها خلق كثير منهما، ثم ورد أمر سام للأمير فخر الدين أن ينكف عن مطالبته ليوسف باشا، فعاد فخر الدين إلى بلاده.
وفي سنة 1621 أحيلت ولاية أطرابلس إلى عمر باشا الكتمانجي، وورد أمر للأمير فخر الدين أن يساعده إذا قاومه يوسف باشا سيفا، وبلغ ذلك إلى يوسف باشا فتنحى عن أطرابلس وسار إلى عكار، وأرسل فخر الدين فطرد أتباع يوسف باشا من جبة بشري، وولى عليها الشيخ أبا صافي الخازن، وسلمت ولاية عجلون إلى الأمير حسين بن فخر الدين، ثم كررت الأوامر بضبط أملاك يوسف باشا وبيعها، وإيراد ثمنها إلى الخزينة السلطانية بعد وفاء الدين الذي عليه، وولى عمر باشا أحمد بك على حماة، وجعفر أفندي على جبلة، وفخر الدين على جبيل والبترون وجبة بشري والضنية وعكار ... فجمع فخر الدين رجاله، وسار إلى أطرابلس وخرج إلى لقائه عمر باشا واليها وأعيانها، ثم عزل محمد باشا عن منصب الصدارة ورقى إليه قرا حسين باشا، فأصدر الأمر بإعادة يوسف باشا سيفا إلى ولاية أطرابلس، فاضطر عمر باشا واليها أن يعود مع فخر الدين إلى بيروت ومنها إلى الأستانة.
وفي سنة 1622 عزل والي دمشق جماعة فخر الدين عن نابلس وعجلون بدسيسة من الأمير يونس الحرفوش، فنهض فخر الدين إلى قب إلياس وطلب الأمير حسين بن يونس الحرفوش، ولما حضر إليه ادعى أنه اشترى دار قب إلياس وأرض تل نمرا وغيرهما في البقاع، وقد غصب هو وأبوه هذه الأملاك، فأنكر الأمير حسين ذلك وفر إلى بعلبك ثم سار هو وأبوه إلى الزبداني، ونهب رجال فخر الدين قرى البقاع، وضبطوا ماشيتها وهدموا دار قب إلياس، وتوجه الأمير يونس إلى دمشق، ودفع إلى واليها ألف ذهب زيادة من مال صفد وعجلون، فولاه صفد وولى على عجلون الأمير بشير قانصوه، فكتب فخر الدين إلى الأمير علي الشهابي وإلى حسن الطويل، فأحرقا بعض قرى عجلون ، ثم سار الأمير فخر الدين بعسكر لغزو بلاد الأمير أحمد طربية والأمير بشير قانصوه، فنهب رجاله المواشي والأثاث واقتتلوا مع العرب في تلك الجهة، فقتل كثيرون من الفريقين ثم نال فخر الدين أمرا من الباب العالي بتقرير ولاية صفد على ابنه الأمير علي، وتوجه إليها فهرب الأمير يونس الحرفوش، ورتب فخر الدين أمورها، وعند عودته قتل رجاله ثلاثين رجلا من أتباع الأمير يونس، وأحرقوا الكرك وسرعين وغيرهما.
وفي سنة 1623 وقعت نفرة بين مصطفى باشا والي دمشق والأمير فخر الدين، فسار الوزير من دمشق في عشرة آلاف مقاتل، وضوى إليه الأمير يونس الحرفوش وآل سيفا، فالتقاهم الأمير فخر الدين ومعه الأميران علي وأحمد شهاب والتحم القتال عند نبع عنجر، وكان الظفر لفخر الدين، وتشتت عسكر الوزير ولم يبق حوله إلا عشرة رجال، ووصل إليه الأمير فخر الدين فترجل عن جواده، وقبل ذيله وأكرم رجاله وأركبه جواده، وأرسل معه بعض حاشيته إلى قلب إلياس وسار الأمير في أثره، فدخل عليه معتذرا له عما كان فاعتذر الباشا له أيضا بأن الأمير يونس الحرفوش حمله على ذلك، وخلع على الأمير وقرر عليه وعلى جماعته سناجق عجلون وصفد ونابلس، وبقاع العزيز، وسارا معا إلى بعلبك، ففر الأمير يونس الحرفوش إلى معرة النعمان، وغنم رجال الأمير غلال آل حرفوش، وكانت وافرة، وبقي رجال الأمير يونس معتصمين بالقلعة، وحصرهم بها رجال فخر الدين وشاع أن والي حلب قبض على الأمير يونس، فقطع رجاله الرجاء منه وسلموا قلعة بعلبك إلى فخر الدين.
ثم غزا فخر الدين بلاد عجلون ونابلس وسار إلى نهر العوجاء، فكبس العرب ابنه الأمير علي والأميرين محمد وأحمد الشهابيين، إذ كانوا آتين إليه وقتلوا من رجالهم نحو ستة وخمسين رجلا وحاصر أهل بلاد حارثة رجال فخر الدين في قلعة جنين، وأخرجوهم منها وكثرت تعدياتهم على بلاد فخر الدين، فجمع رجاله وسار لقتال الأمير بشير قانصوه والعرب بني طربية وكثرت المراسلات بينهم وأخيرا دخل الأمير بشير المذكور في طاعة فخر الدين، فأقامه نائبا لابنه الأمير حسين في تدبير بلاد عجلون كما كان أولا، واتفق مع العرب المذكورين. (3) في ما كان بسورية في أيام السلطان مراد خان الرابع
في سنة 1623 خلع الإنكشارية السلطان مصطفى من عرش السلطنة، وأجلسوا عليه السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد الأول، وكان صغيرا عند تسنمه منصة الملك، ومما كان في أيامه وفاة يوسف باشا سيفا سنة 1624، وتولى أطرابلس بعده ابنه الأمير قاسم الذي كان حاكما جبلة، واستمر ابنه محمود حاكما في حصن الأكراد، وابنه الأمير بلك في عكار، ثم حشد الأمير فخر الدين جيشا سار به إلى بعلبك ثم جبة بشري، ونزل منها إلى أطرابلس ... واستمر جماعته ينهبون ويسلبون مدة أربعين يوما حتى وصل إليها وزير حلب ومصطفى باشا من قبل الصدر الأعظم واليا عليها، فجار وظلم وولى على عكار الأمير سليمان بن سيفا فهرب أولاد عمه ويوسف باشا إلى الحصن.
وفي سنة 1625 أقرت الدولة فخر الدين على ولاية بعلبك، فهرب الأمير حسين ابن الأمير يونس الحرفوش إلى حلب، وأخذ يسعى عند واليها بالأمير فخر الدين، فأمسكه الوالي في قلعة حلب لتحقيق وشايته، وكان حينئذ أن مصطفى باشا والي أطرابلس استنجد فخر الدين على آل سيفا، فحشد الأمير عسكرا ضخما، وزحف به من بيروت إلى البقاع والهرمل، وكان الأمير سليمان بن سيفا معتصما بحصن صافيتا، فلما بلغه خبر قدوم فخر الدين أطلق رجاله وهرب إلى سلمية؛ ليعتضد بالأمير مدلج رئيس قبيلة من العرب، فقبض مدلج عليه وألقاه بالفرات، وسلم آل سيفا إلى فخر الدين قلعة الحصن وقلعة المرقب، فرضي عنهم وأقنع صاحب أطرابلس بأن لا يسطو عليهم.
وفي سنة 1626 قدمت الشكوى على الأمير فخر الدين، فسار خليل باشا الصدر الأعظم إلى حلب قاصدا محاربته، فأرسل إليه هدايا ووعده بتسليم قلاع الحصن وصافيتا وشميسة والمرقب إليه، فارتضى الوزير بذلك وقتل الأمير حسين يونس الحرفوش الذي كان ممسكا بقلعة حلب.
وفي سنة 1627 تولى فخر الدين محافظة إيالة أطرابلس، فأنشأ قناة القاع وعمر القليعات في عكار ونصب في مغراقها أربعة عشر ألف نصبة توت، وفي سنة 1630 زحف إلى بعلبك قاصدا الاستيلاء على قلعة تدمر فأخذها من والي دمشق، وفي سنة 1631 كانت وقعة بين الأمير علي بن فخر الدين والأمير أحمد قانصوه وغيره في صفد، وظفر بهم الأمير علي وسألوه الصلح فصالحهم، وفي سنة 1632 بنى فخر الدين ببيروت البرج الكشاف وخان الوحوش والجنينات.
وفي سنة 1633 كثرت الشكاوى على الأمير فخر الدين، فأمر السلطان مراد كجك أحمد والي دمشق أن يجرد جيشا عليه، فخرج من دمشق بعسكر ضخم وحل في صحراء خان حاصبيا، وأغار على بلاد وادي التيم إقطاع الأمراء الشهابيين، فنهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأتى الأمير علي بن فخر الدين من صفد، وباغت العساكر ليلا، فاختلط الجيشان وقام الأميران قاسم وحسين الشهابيان لنجدة الأمير علي، فتشتت عسكر والي دمشق وتتبع الأميران الشهابيان آثارهم مسافة ساعتين، ولما رجعا وجدا الأمير عليا قتيلا وبجانبه عصبة من غلمانه وأصحابه، ولم يعلم من قتله، ولما بلغ ذلك فخر الدين وجد على ابنه جدا، وبلغ السلطان خبر تشتيت عسكر والي دمشق، فأمر بإهلاك آل معن جميعا وأرسل الأسطول السلطاني إلى بيروت بقيادة جعفر باشا، وضوى إليهم آل سيفا وآل علم الدين وأتى والي دمشق إلى صيدا، فانفض آل معن من وجه هذه الجيوش، ففر الأمير حسين بن فخر الدين مع مدبره الشيخ أبو نوفل الخازن إلى قلعة المرقب، والأمير ملحم بن الأمير يونس أخي فخر الدين إلى عجلون إلى الأمراء آل طربية، وانهزم فخر الدين إلى قلعة شقيف تيرون قرب نيحا، وتحصن بها مع مدبره الشيخ أبي نادر الخازن، وبقي الأمير يونس أخوه بدير القمر، فوجه جعفر باشا رئيس الأسطول عسكرا إلى قلعة المرقب فقبض على الأمير حسين، وسيره إلى الصدر الأعظم الذي كان بحلب، وطلب والي دمشق الأمير يونس أن يحضر إليه آمنا، فحضر فضرب عنقه، ونهض من صيدا فنهب قرى الشوف وقتل بعض سكانها، وولى عليها الأمير عليا ابن علم الدين اليمني، وتوجه فحاصر قلعة تيرون حيث فخر الدين، وأفسد الماء المنحدر إليها، فانهزم فخر الدين منها ليلا بحاشيته إلى المغارة التي تحت جزين ، فلحقه والي دمشق إليها واستحوذ عليها وقبض على فخر الدين وأولاده ومدبره الشيخ أبي نادر الخازن، وأطلق الحريم وأخذ من قبض عليهم إلى دمشق، وأرسل يطلب الأمير ملحم من الأمراء آل طربية، فسلموه إلى إبراهيم أغا مدبر الوزير، ولما صلوا به إلى خان الشيخ فر، واختبأ تحت معبر الماء القريب من هناك فخرجوا في طلبه، فلم يهتدوا إليه، ثم نهض من مخبأه وسار إلى قرية عرنة في جبل الشيخ، واختبأ عند رجل من حزبهم، وأما الأمير فخر الدين وأولاده فأشخصوه إلى الأستانة، وأما الشيخ أبو نادر الخازن، فكفله الأمير علي علم الدين وأخرجه من دمشق وابنه الشيخ أبو نوفل نادر، فهرب من حلب وعاد إلى لبنان.
ولما مثل الأمير فخر الدين بحضرة السلطان لامه على أمور كثيرة، فاحتج عن نفسه بأنه ما جمع رجالا إلا بأمر الوزراء والنواب، ولا قتل إلا العصاة والقلاع التي أخذها منهم سلمها إلى رجال الدولة، فطيب السلطان خاطره.
وقبض الأمير علي علم الدين على أصحاب المناصب المعنيين وقتلهم وسلب أموالهم، ودعا الأمراء التنوخيين بأعبية إلى الغداء فغدر بهم، وقتل منهم الأمراء يحيى ومحمود وناصر الدين وسيف الدين، ودهم أبناءهم الصغار في البرج وقتلهم، فانقرضت بهؤلاء سلالة أمراء الغرب التنوخيين ولم يتحمل الأمير ملحم يونس معن هذا الجور، وراسال القيسيين أصحابه، فاجتمع عليه جمع منهم فنهض من عرنه حيث كان مختبئا إلى الشوف، وضوى إليهم أصحابهم من كل جهة، وساروا لقتال الأمير علي علم الدين، والتقى الفريقان في المقيرط فوق مجدل معوش ودارت الدوائر على اليمنية، وارفض جمع الأمير علي علم الدين وقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل، وكان مدبر والي دمشق معهم فقتل، واشتد ساعد الأمير ملحم معن، وهرب الأمير علي إلى أطرابلس وسار منها إلى دمشق مستجيرا بواليها كجك أحمد، فأجاره وأصحابه بخمسمائة مقاتل فالتقاهم الأمير ملحم إلى قب إلياس واتقعوا، فاضطر الأمير ملحم أن يرجع إلى الشوف بعد أن خسر نحو أربعمائة رجل، وحينئذ جدد والي دمشق الشكوى على آل معن وقال: إن أحدهم الأمير ملحم ابن أخي الأمير فخر الدين جمع الرجال، وقتل مدبر ولاية دمشق وفتك بالعسكر، وقصد أن يحاصر دمشق، فحنق السلطان مراد خان وأمر بقتل الأمير فخر الدين وأبنائه الأمراء منصور وحيدر وبلك الذين كانوا معه بالأستانة فقتلوا، ولم يبق منهم إلا الأمير حسين الذي كان الصدر الأعظم قد أحضره من حلب إلى الأستانة، وإلا الأمير ملحم المذكور، وولى السلطان آل سيفا على إيالة أطرابلس واليمنية آل علم الدين على الشوف، وفي أيام فخر الدين اعتز النصارى وبنوا الكنائس، وقدم إلى سورية المرسلون الأوروبيون، وكان أكثر عسكره من النصارى، ومدبرو حكومته، وأخص خدامه من الموارنة.
وفي سنة 1634 تولى إيالة أطرابلس قاسم باشا ابن يوسف باشا سيفا، ثم اعتزل وأقام أعيان أطرابلس مكانه ابن أخته الأمير علي محمد سيفا، ونهض لمحاربة الأمير عساف بن يوسف باشا سيفا، فانهزم الأمير علي إلى بيروت لائذا بالأمير علي علم الدين السابق ذكره، فجمع هذا عسكرا سار به ومعه الأمير علي سيفا فاستولى على بلاد جبيل وجبة المنيطرة، فهب الأمير عساف ومعه المشائخ الحمادية لمناصبتهم فأحرق جبة المنيطرة، وقتل بعض أصحابهم وسار الأمير علي سيفا ومعه زين الدين الصواف إلى قرية إيعال بالزاوية، فكبسهما الأمير عساف فانتصرا عليه وقتلا من أتباعه، وعاد الأمير علي إلى ولاية أطرابلس، وضم إليها بلاد جبيل والبترون.
وفي سنة 1635 تولى إيالة أطرابلس مصطفى باشا النيشانجي، وعهد بولاية جبيل والبترون والضنية إلى الأمير علي سيفا سالفه، ونصب على جبة بشري الشيخ أبا كرم يعقوب الحدتي والشيخ أبا جبرائيل يوسف الأهدني، ولما أمر مصطفى باشا أن يتوجه مع العساكر السلطانية لمحاربة شاه العجم جعل وكيله بأطرابلس الأمير عساف سيفا المذكور، فشق ذلك على الأمير علي فكبس قرية أميون ونهبها، وجمع الأمير عساف عسكرا فاتقعا في عرقا، فانهزم الأمير إلى الشوف واستولى الأمير عساف على بلاد جبيل، واستنجد الأمير علي بالأمير علي علم الدين، فنجده برجال وعاد لقتال الأمير عساف ودهمه في قرية عناز بالحصن، فانتصر عليه الأمير عساف وقتل جماعة وافرة من رجاله.
وفي سنة 1636 قصد أحمد الشامي أغا الإنكشارية بالشام قتال الأمير علي علم الدين لعدم أدائه المال السلطاني، ووافقه حاكم صفد ومتسلم بيروت والمقدم مراد اللمعي، والأمير عساف سيفا المذكور، فانهزم الأمير علي علم الدين ورحل معه اليمنية من المتن والجرد والعرقوب والشحار والشويفات بعيالهم، وتوجهوا نحو كسروان فانهزم القيسية فنهب اليمنية بكفيا، وقوي عليهم القيسية في مرحاتا، ثم تواقعوا بالمروج فانهزم اليمنية إلى عكار، وضوى إليهم رجال الأمير علي سيفا بعرقا وقصدوا أطرابلس، وخرج عليهم أهلها إلى النهر البارد فظهر اليمنية عليهم ولحقوهم في جون عكار يقتلون وينهبون، ثم توسط طرموش البدوي الصلح بين الأميرين عساف وعلي سيفا، فاصطلحا في قرية المني قرب أطرابلس وعاد الأميران مع الأمير علي علم الدين إلى بيروت، ولما رأى الأمير ملحم معن انحطاط قوة اليمنية جمع الرجال وهزم الأمير علي علم الدين من الشوف واستحوذ عليه.
وفي السنة المذكورة ولى مصطفى باشا والي أطرابلس الأمير عساف سيفا على عكار، والشيخين عليا وأحمد حمادة على جبيل والبترون وجمع الأمراء الحرافشة العرب والسكمان، وقصدوا استرداد ولايتهم على بعلبك فأرسل عليهم والي دمشق عسكرا، فقتل كثيرين منهم ومن رجالهم، وأرسل الباب العالي واليا على أطرابلس، وأراد مصطفى باشا واليها أن يعارضه، وبعث مدبره وبعض حاشيته فجمعوا آل سيفا وآل حمادة في بقرزلا فلم يذعن آل سيفا لرأيه في المعارضة، ومخالفة الدولة وقتلوا المدبر والحاشية والشيخ أحمد حمادة، ولما بلغ ذلك مصطفى باشا انهزم ليلا من أطرابلس، فدخلها الوالي الجديد ومعه الأميران عساف وعلي سيفا ... وكانت وقعة في أرض أهمج بين المشائخ الحمادية المتولين جبيل والبترون، والأمير إسماعيل الكردي من أمراء رأس نحاش ومحمد بن يوسف أغا، فانتصر هذان الأخيران على الحمادية وتولى محمد بن يوسف أغا على هذه البلاد مكانهم.
وفي سنة 1637 اتفق الأمير عساف سيفا مع الأمير ملحم يونس معن على محاربة الأمير علي سيفا، والأمير علي علم الدين والتقى الفريقان في عكار فطرد الأمير عساف الأمير عليا حتى جبل الكلبينية ، ونصب حينئذ شاهين باشا واليا على أطرابلس، فعاد الأمير ملحم معن إلى الشوف، والأمير عساف سيفا إلى البقيعة، ورفعت الشكوى إلى شاهين باشا بأن آل سيفا خربوا البلاد فدعا الأمير عساف، فأرسله إلى قلعة الحصن، وفي اليوم الثاني شنقه وقتل أتباعه، ولم ينج منهم إلا القليل واستخدم الأمير إسماعيل الكردي، والشيخ علي حمادة في القبض على آل سيفا فقبضوا على بعضهم، واستنزفوا أموالهم وفر الأمير علي سيفا إلى الأمير علي علم الدين، وتشتت آل سيفا من إيالة أطرابلس.
وفي سنة 1638 قدم السلطان مراد خان إلى حلب، فخاف الأمير علي علم الدين ولجأ إلى المتاولة ببلاد بشارة، فجمع الأمير ملحم معن معسكرا ودهم الأمير عليا في قرية أنصار، وقتل كثيرين من جماعته ففر الأمير علي إلى دمشق، فأصحبه واليها بعسكر ففر الأمير ملحم من وجه العسكر، ونشر حينئذ والي دمشق فرمانا سلطانيا بسلخ بلاد جبيل والبترون وجبة بشي عن إيالة أطرابلس واتباعها لولاية دمشق، ونصب أحمد أغا الشمالي حاكما على بيروت، فنهض عليه الأمير علي علم الدين والتقيا في خلدة، فقتل الأمير علي الحاكم المذكور، وتوفي السلطان مراد سنة 1640. (4) في ما كان بسورية في أيام السلطان إبراهيم خان الأول
إن السلطان إبراهيم الأول استوى على أريكة الملك بعد وفاة أخيه السلطان مراد الرابع سنة 1640، وفي هذه السنة كبس والي أطرابلس الشيخ أبا كرم الجدتي شيخ جبة بشري، ففر وقبضوا على أخيه سعد، وضيقوا على القرى والأديار، فلم يتحمل الشيخ أبو كرم هذا التنكيل بأهل بلاده، فاستسلم طائعا إلى والي أطرابلس فرفعه إلى القلعة ثم طوفه راكبا حمارا في شوارع المدينة، وعرض عليه الإسلام فأبى فأماته معلقا على كلاب.
وفي سنة 1641 غضب والي أطرابلس على المشائخ الحمادية، ففروا من وادي علمات وبلاد جبيل وقتل بعضهم، وتولى بلادهم الأمير علي علم الدين، وفي سنة 1642 صدرت الأوامر السلطانية أن تكون بيروت وصيدا تحت ولاية أحمد باشا الأرناءوطي والي أطرابلس، وكبس الأمير علي علم الدين الشيخ سرحال حمادة بقرية غبالة، فنهب القرية وقتل خمسة رجال من أقاربه، وطرد الحمادية من إيالة أطرابلس.
وفي سنة 1644 تولى أطرابلس حسن باشا، وكان مدبره الشيخ أبو رزق البشعلاني، وقد رأينا لزيادة الإضاح أن نستكمل ترجمة هذا الرجل هنا مكان أن نذكر في تاريخ كل سنة شيئا منها، فهذا كان من أعيان الموارنة، ويظهر أن أصله كان من بشعلي إحدى قرى البترون، وقد اختاره والي أطرابلس مدبرا لحكومته كما مر ثم عزل، وفي سنة 1649 استرده والي أطرابلس عمر باشا إلى تدبير حكومته، ونصب أخاه أبا صعب البشعلاني شيخا على جبة بشري، ولما عزل عمر باشا عن أطرابلس وتولاها حسن باشا سنة 1651 سلم تدبير أمور ولايته إلى أبي رزق المذكور، ولكن تقوى عليه ابن الصهيوني، وأخذ منصبه وصادره، وفي سنة 1653 قبض عليه محمد باشا الأرناءوط بحجة أن بعض المشائخ الحبشية قدموا إلى داره، ومعهم جماعة بداعي زواج أحد أولادهم، فنم خصومه للوالي بأن أولئك الرجال أتوا يريدون به سوءا، فقبض على أبي رزق وضيوفه وسجنهم بالقلعة مكبلين، وكانوا تسعين نفسا ونهبوا داره واستباحوا ماله ... ثم ورد الخبر بعزل الوالي المذكور، وتوجه إلى حماة لجبي المال وأخذ معه أبا رزق وضيوفه، واستدعاه للحساب وادعى أن الباقي عليه من المال للخزينة اثنا عشر ألفا، وبلغ الوالي الجديد إلى حماة وأعاد الحساب، فثبت أن الباقي على أبي رزق أربعة آلاف وخمسمائة قرش، دفعها عنه ابن الصهيوني وخلى الوالي الجديد سبيله وسبيل السجنى معه، وأراد أن يعهد إليه بتدبير أمور ولايته، ولكن وصل قبوجي من الباب العالي يطلب رأسه، فأشار عليه الوالي وابن الصهيوني أن يسلم فدية لنفسه، فأذعن مكرها وأرضوا القبوجي فانصرف، ورجع أبو رزق مع الوالي إلى أطرابلس والتزم منه جبلة واللاذقية، وقبل سفره إليهما أوصى أخاه أبا صعب أن يأخذ أولاده، ويسير بهم إلى بلاد ابن معن، فشق ذلك على الوالي، وفي سنة 1654 صير بشير باشا والي حلب وزيرا، وقدمت له الشكوى على أبي رزق أنه ميال إلى ابن معن، وأرسل أولاده إليه مع أخيه، وأن أخاه هذا كان مع ابن معن في وقعة مع رجال الدولة في وادي التيم، فأمر بقتله فقتل في أوائل آذار سنة 1654.
وكان لأبي رزق ابن اسمه يونس أتحفنا دي لاردك بترجمته (في كتاب رحلته إلى سورية ولبنان مج2 صفحة 263)، فقال ما ملخصه أنه كان من أسرة شريفة بلبنان، وله أملاك وافرة بناحيتي أطرابلس وجبيل، وقد استعمله وزراء الدولة في أهم أعمال حكومتهم، فثروته ومنزلته أكثرتا حساده وخصومه، فائتمروا عليه وأسخطوا عليه قبلان باشا المطرجي والي أطرابلس، فألقاه في السجن مع كل أسرته وكانوا نحو خمسين نفسا، وهددهم بالقتل إلا أن يسلم الأمير يونس فأكره أن يظهر أنه يسلم بشرط أن تبقى أسرته وذووه نصارى، وأن يخلى سبيلهم، فقبل الوالي بشرطه وأرسل ذويه إلى أعلى كسروان، وجامل الباشا أربعين يوما، وفر إلى بطريرك الموارنة معترفا بذنبه، وجمع رؤس الشكايات عليه وبينات إكراهه على الإسلام، وأرسلها إلى الأستانة على يد أحد أصدقائه، فحكم شيخ الإسلام بعد التحري بالدعوى أن تظاهر الأمير يونس بالإسلام لا يعول عليه لصدوره عن إكراه، وأن لا يؤاخذ بردته عنه فاطمأن الأمير يونس ودار في خلده أن يصلح العثار الذي سببه بأطرابلس، فعاد إليها وجاهر أمام الوالي وديوانه بدينه المسيحي، فأغضى المسلمون على صنيعه والتمس له الوالي أمرا ساميا مثبتا حكم شيخ الإسلام، واستعمله في برية أطرابلس واستمر على ذلك خمس سنين ... ولكن تبدل الوالي ومات من كان له من الأصدقاء في الأستانة، فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة، وشكوه بجرائم عديدة فطرحه الوالي بالسجن، وحاول كثيرا أن يحيله عن مذهبه، فلم يذعن فرفعه على الخازوق في شهر أيار سنة 1697، وكان له أخ مسجونا معه اسمه يوسف فاسترضى بعض أصحابه الوالي عنه، فخلى سبيله وسار إلى أوروبا ينال ما يقوم به بأود عائلته، وعائلة أخيه، وصحبه البطريرك إسطفانوس الدويهي بمنشور أثبتناه في تاريخنا الكبير.
وفي سنة 1645 جعل السلطان إبراهيم المشائخ أولاد الحسامي في جبيل في سلك الانكشارية، وباشروا بترميم أسوار المدينة والقلعة، وفي سنة 1647 توفي الشيخ أبو نادر الخازن مدبر حكومة الأمير فخر الدين المعني، وكان قد تولى كسروان وجبيل والبترون وجبة وبشري والمرقب. (5) في ما كان بسورية في أيام السلطان محمد خان الرابع
إن السلطان إبراهيم قد خلعه بعض العلماء والانكشارية في 8 آب سنة 1648، وأقاموا مكانه ابنه السلطان محمد الرابع ولم يكن أتم السنة السابعة من عمره، وفي سنة 1650 ولى عمر باشا صاحب أطرابلس الأمير ملحم المعني على بلاد البترون، فأرسل الشيخ أبا نوفل الخازن يجبي المال من هذه البلاد، وفيها كانت وقعة في وادي التيم بين بشير باشا والي دمشق والأمير ملحم المعني؛ لأن الأمير علي علم الدين أوغر صدر الوزير على الأمير ملحم، فنهض إليه والتقيا بوادي التيم، وكان النصر للأمير ملحم معن، وفي سنة 1653 شكا الأمير علي علم الدين الأمير ملحم معن إلى بشير باشا والي دمشق بأنه أزاحه عن دياره، وأهلك بعض رجاله وأخذ ماله والتمس منه أن يوليه جبل الشرف، ويصحبه بعسكر لقتال الأمير ملحم وأنصاره، فاستجاب الباشا طلبه وفوض إليه ولاية الشوف وأرسل إليه عسكرا من دمشق، وجاء إلى وادي التيم فالتقاه الأمير ملحم وعاونه الأميران قاسم وحسين الشهابيان، والتحم القتال ودام ثلاث ساعات فانتصر الأمير ملحم وأنصاره، وأهلكوا خلقا كثيرا من عسكر الأمير علي وتتبعوا آثارهم إلى خارج دمشق، وجرح الأمير علي علم الدين، وحنق عليه بشير باشا ونسبه إلى الخيانة وحبسه في قلعة دمشق.
وفي سنة 1655 حارب محمد باشا الكوبرلي والي أطرابلس الأمير إسماعيل الكردي من رأس نحاش، والحاج سعد حمادة في حريشة الهري (بكورة أطرابلس) لعدم أدائهما المال، فانهزم الأمير إسماعيل بعياله إلى عند الأمير أحمد ملحم المعني، فولاه على صور، وفي سنة 1656 رقى هذا الوالي إلى مسند الصدارة، فولى على أطرابلس محمد باشا الطباخ وعلى صيدا وبيروت إسماعيل أغا، وعلى صفد محمد أغا، والتزم منه المقدم فارس مراد بللمع جبة بشري، ثم ولاه عليها وعلى عكار سنة 1658، وولى المقدم عليا بن الشاعر على البترون تحت يد الأمير ملحم المعني، وفي هذه السنة سار الأمير ملحم المعني إلى صفد، فمرض بعكا ونقلوه إلى صيدا، وتوفي وحزن عليه الشعب كثيرا.
وفي سنة 1659 تولى قبلان باشا أطرابلس وأمرته الدولة بالاقتصاص من المشائخ آل حمادة لسطوهم، ففروا إلى كسروان بعيالهم وأحرق الوالي بيوتهم في قرى وادي علمات، وقرر المقدم فارس اللمعي في ولاية عكار وكاوراوغلي في جبيل والمقدم علي قيدبية بن الشاعر على جبة بشري، ثم قتل كاوراوغلي لعدم دفعه المال.
وفي سنة 1660 كانت نكبة القيسية، فقد رفعت الشكوى إلى الباب العالي بأن الأمير علي والأمير منصور الشهابيين، وآل حمادة وغيرهم يسطون على حقوق والي دمشق، فأرسل محمد باشا كوبرلي الصدر الأعظم ابنه أحمد باشا واليا على دمشق، ولما وصل إليها استدعى عمال سورية واليمنية، وزحف إلى الأميرين المذكورين، ففرا من وجهه إلى كسروان ونزلا على المشائخ الحمادية، فحرق الوزير دور الشهابيين بحاصبيا وراشيا وقطع أشجارهم بوادي التيم، ومرج عيون والبقاع وكتب إلى الأميرين أحمد وقرقماس ابني الأمير ملحم معن أن يحضرا الأميرين الشهابيين، فأجاباه أنهما لم يأتيا إلى بلادهما، فأرسل أحمد باشا يطلب منهما أربعمائة ألف قرش نفقة عساكره، فأرضياه أخيرا بمائتين وخمسين ألفا منجمة فعاد إلى دمشق، ولم يتيسر لهما دفعها كاملة فعاد ثانية بعساكره إلى قب إلياس، فاضطر إلى الفرار والاجتماع مع الأمراء الشهابيين وآل حمادة في كسروان، وقر رأيهم على الاختفاء فاختبئوا في كسروان وبلاد جبيل، فكتب وجوه البلاد حينئذ إلى أحمد باشا أن الأمراء الشهابيين والمعنيين فروا، ولا يعلم لهم خبر وسألوه أن يأمن البلاد، فأجابهم إلى ذلك وولى الشيخ سرحال العماد على الشوف، والأميرين محمد ومنصور ولدي الأمير علي علم الدين (الذي كان قد توفي بدمشق) على الغرب والجرد والمتن، ومحمد أغا على كسروان.
وبلغ أحمد باشا أن الأمراء مختفون بكسروان، فوجه إلى هناك خمسة آلاف مقاتل فنكلوا بالأهالي وأحرقوا دور اللمعيين والخوازنة والحمادية، وفر الأميران الشهابيان إلى الجبل الأعلى، واستمر الأميران المعنيان في كسروان، وفي سنة 1622 نصب محمد باشا واليا على صيدا، فمكر بالأميرين المعنيين حتى حضرا إليه إلى عين مزبود، وأحاط رجاله بهما فقتلوا الأمير قرقماس ونجا أخوه الأمير أحمد بشق النفس ، وفي سنة 1664 كانت نهضة القيسية؛ لأن أحمد باشا والي دمشق ارتقى إلى منصب الصدارة، ومحمد باشا عزل من صيدا، فتظاهر الأمير أحمد معن من مخبئه فاجتمع إليه جمهور من القيسية فنهض بهم إلى الشوف، وتألب إليه غيرهم فالتحم القتال بينهم وبين اليمنية، فكان النصر للقيسية وبقي القتال مترددا بين الحزبين نحو سنتين حتى حطمت شوكة اليمنية وخمدت نارهم، وتولى الأمير أحمد معن الشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان، وكتب إلى الأميرين منصور وعلي الشهابيين يبشرهما بالنصر، ويستقدمهما وأمدهما للعود إلى بلادهما فعادا إليها.
وفي سنة 1673 تولى حسن باشا أطرابلس فولى الحمادية على الأعمال التي كانوا بها قبلا، ورفع عنهم بعض التكاليف فطمعوا وقتلوا أناسا عند نهر رشعين ونهبوا كثيرا من القرى فخربت، وفي سنة 1674 ولى الباشا المذكور الشيخ سرحال حمادة على بلاد جبيل، لكنه قبض على الشيخ أحمد بن قانصوه حمادة والشيخ محمد بن حسن ديب بسبب التعديات المار ذكرها، وولى على جبة بشري إبراهيم أغا، وكان معه أبو كرم بن بشارة من أهدن وأبو شديد غصيبة بن كيروز من بشري، وفي سنة 1675 جهز الباشا المذكور عسكرا لطرد آل حمادة من إقطاعاتهم، فطردوهم إلى عين الغفير فوق أفقا وقتل الباشا الشيخين أحمد ومحمد اللذين كان قد قبض عليهما، فنهب أصحاب الحمادية وقتلوا وحرقوا بعض القرى في جبيل والبترون والجبة ... فصدر الأمر السلطاني إلى ولاة سورية؛ ليعاونوا والي أطرابلس على قمع الحمادية، فكفل الأمراء الشهابيون وبعض أعيان البلاد المال المطلوب منهم ودفعوه لوالي أطرابلس، فولى سنة 1676 الحاج حسن بن الحسامي وأبا حيدر النمس على بلاد جبيل، والحاج باز بن أبي رعد ومرعبا بن الشاطر على بلاد البترون، وأبا كرم (جد آل كرم) على جبة بشري، وأمر جميعهم أن يحذروا سطو الحمادية، لكن هؤلاء قتلوا عامل البترون المذكور والشدياق أنطون خان مطران أهدن وحرقوا دير القديس إليشاع وحارة أولاد كيروز ببشري، فزحف إليهم حسن باشا بعسكره إلى بلاد جبيل، فقتل شيخ البربارة والحاج حسن الشامي الذي كان قد ولاه، وقبض على شيخي غرزوز وبخعاز، وغرمهم بمال ؛ لأنهم من حزب الحمادية، وحرق فرحت وعلمات ومشان وغيرها من وادي علمات وجبة المنيطرة، وبعد أن عاد حسن باشا إلى أطرابلس حرق بعض الحمادية قصوبا وتولا وعبدللي وبسبينا وصغار وشبطين.
ولكن توفي أحمد باشا الصدر الأعظم، وخلفه مصطفى باشا فغير العمال في كل الولايات ونصب محمد باشا بأطرابلس، فولى الشيخ سرحال حمادة على بلاد جبيل وولده حسين على البترون، وحسين بن أحمد حمادة على جبة بشري، وفي سنة 1680 انتقل محمد باشا المذكور إلى صيدا، وخلفه بأطرابلس وزير آخر يسمى محمد باشا أيضا فأقر الحمادية في إقطاعتهم، وفي سنة 1684 قتل الحمادية أبا نادر شيخ مزرعة عكار وابن أخت محمد باشا في قرية حلبا بعكار، ولما عزل محمد باشا عن أطرابلس وثب الحمادية على قلعتها، وأخرجوا رهائنهم منها وكبسوا قرية عشقوت بكسروان، وقتلوا منها أحد عشر رجلا ورفعت الشكوى إلى أطرابلس، فصدر الأمر بتولية الأمير أحمد معن على جميع إقطاعات الحمادية، فسار الأمير أحمد إلى غزير وأرسل رجالا دهموا الحمادية، ففروا إلى بلاد بعلبك فحرق وادي إيليج ولاسا وأفقا والمغيرة، وقطع أشجارهم وشفع بهم بعض أصحابه فعفا عنهم، ورجع إلى الشوف ولم يقبل الولاية على إقطاعات الحمادية.
وفي سنة 1686 غاب علي باشا النكدلي والي أطرابلس، فثار الحمادية وقتلوا أبا داغر شيخ حردين وابن رعد شيخ الضنية وغيرهما، فقبض الوالي على اثني عشر رجلا من أتباع الحمادية وأماتهم، ولما رجع والي أطرابلس إليها صدر إليه الأمر أن يحارب الأمير شديد الحرفوش؛ لأنه نهب قرية رأس بعلبك فدعا المقدم قيدبية بن الشاعر، وأبا فاضل رعد من الضنية وابن دندش من عكار، وكتب إلى الأمير بشير الشهابي أن يمده بالرجال فمده وزحف إلى بعلبك، فهرب الأمير شديد إلى بلاد جبيل، ولجأ إلى الحمادية فنزل الباشا على العاقورة فحرقها وحرق أربعين قرية للمتاولة، وقطع أشجارها ودك دار الشيخ حسين حمادة في إيليج، واهتدى عسكره إلى خباياهم في مغارة قنات فغنموها، وبينما كان العسكر نازلا على عين الباطية بتنورين دهمهم الحمادية، فقتلوا منهم خمسة وأربعين رجلا، وأما الوزير فنزل إلى جبيل، وعاد إلى أطرابلس فنزل بعده الحمادية، وحرقوا قلعة جبيل ونكبوا المدينة. (6) في ما كان بسورية في أيام السلطانين سليمان الثاني وأحمد الثاني
قرر بعض الوزراء والعلماء خلع السلطان محمد خان الرابع تفاديا من ثورات الإنكشارية، فخلع في 8 تشرين الثاني سنة 1687، وانتخبوا مكانه أخاه السلطان سليمان الثاني، وامتطى منصة الملك إلى 23 حزيران سنة 1691 حين أنشبت فيه المنية مخاليبها، وارتقى إلى العرش بعده أخوه السلطان أحمد خان الثاني، ومما كان بسورية في أيامه أنه ولى على أطرابلس سنة 1691 محمد باشا، فرد المشائخ الحمادية إلى إقطاعاتهم فسلم جبيل والبترون إلى الشيخ حسين سرحال حمادة والكورة إلى ابنه الشيخ إسماعيل، وجبة بشري إلى الحاج موسى بن أحمد حمادة والضنية إلى أولاد حسن ديب ... فلم يرعووا عن سوء مسلكهم، وقتلوا أبا موسى بن زعرور في وطا الجوز بكسروان، وحنا الأسود في الكورة، ونهبوا العاقورة وغلال أهل كسروان من مينا جبيل، وفي سنة 1692 نقل محمد باشا من أطرابلس، وصار كاتبا للصدر الأعظم وخلفه في أطرابس علي باشا وسموه اللقيس؛ لأنه قدم في آخر السنة، وقرر أولا الحمادية في إقطاعاتهم، ثم كتب إليه سالفه محمد باشا أن ينهض عليهم ... فغير الحكام وسلم عكار والهرمل إلى هزيمة أغا دندش، وجبيل إلى حسين أغا الحسامي، والبترون إلى المقدم قيدبية بن الشاعر، والزاوية وجبة بشري إلى الشيخ مخائيل بن نحلوس الأهدني، والضنية إلى الشيخ أبي فاضل رعد، وكتب إلى الأمير أحمد معن أن ينجده بالرجال لقتال الحمادية، فقدم المشائخ الخوازنة ومعهم نحو ألف رجل إلى فوق جبيل، فانهزم الحمادية على طريق العاقورة إلى بعلبك، فتبعهم الرجال وهلك منهم بالثلج نحو مائة وخمسين رجلا، وحرق علي باشا قرية نيجا ونهب ثلاثة عشر ألف رأس من معزي الحمادية، وسلم بلاد بعلبك إلى أحمد أغا الكردي، وجبيل إلى حسن أغا النوري، فكتب حاكم بعلبك إلى الحاج ياغي بن حميه وأقربائه المتاولة أن يحضروا لديه، فحضروا وقتل منهم سبعة عشر رجلا، وأرسل الحاج ياغي المذكور وولده إلى علي باشا فقتلهما ، ثم جهز علي باشا بعض خواصه وأرسلهم إلى بلاد جبيل، فقبضوا على الشيخ حسين بن سرحال وحسن ديب وسبعة رجال من تباعهم، فقتلوهم بين قهمز ولاسا.
وفي سنة 1693 رقى السلطان علي باشا والي أطرابلس إلى منصب الصدارة، وأقام مكان أرسلان باشا بن المطرجي واليا على أطرابلس، فعرض على الأمير أحمد معن أن يوليه إقطاعات الحمادية، فلم يقبل فسلم جبيل إلى الأمير حسن بن صعب الكردي والبترون إلى المقدم قيدبية بن الشاعر، وأرسل مدبره محرم أغا يطرد الحمادية، ووصلوا إلى قبعل بالفتوح فوثب عليهم ليلا أولاد الشيخ حسين حمادة الذين كانوا مختبئين هناك، ومعهم نحو مائتي رجل فقتلوا من العسكر نحو أربعين رجلا، وطردوا الباقين إلى نهر إبراهيم، فرفع أرسلان باشا والي أطرابلس الشكوى بأن الأمير أحمد معن وجه عسكرا فأهلك رجاله، فصدر له الأمر بأن يزيل الأمير أحمد عن الإقطاعات التي بيده، وهي الشوف وما يليه إلى كسروان وإقليما جزين والتفاح، وأن يولي عليها الأمير موسى علم الدين، وصدر الأمر إلى ولاة دمشق وصيدا وغزة وحلب أن يعاونوا والي أطرابلس على إزاحة الأمير أحمد معن عن الأعمال اللبنانية، فاجتمع هؤلاء الولاة بالبقاع وعسكرهم نحو ثمانية عشر ألف مقاتل، وضوى إليهم اليمنية وبعض القيسية، وانفض عن الأمير أحمد بعض أصحابه ففر إلى وادي التيم، واختبأ عند الأمير نجم شهاب وبحثت عنه العساكر فلم يجدوه، فانفض الولاة كل إلى مكانه وتولى الأمير موسى علم الدين بلاد الأمير أحمد، ولما ركدت هذه الزعازع تظاهر الأمير أحمد بوادي التيم، واجتمع إليه القيسية فنهض بهم إلى الشوف ومعه الأميران بشير ونجم الشهابيان، فانهزم الأمير موسى من دير القمر إلى صيدا، واسترد الأمير أحمد بلاده وتمكن من أن جعل مصطفى باشا والي صيدا يطرد الأمير موسى علم الدين من عنده، وأن يلتمس من السلطان العفو عن الأمير أحمد فناله وتقرر في إقطاعاته. (7) في ما كان بسورية في أيام السلطان مصطفى خان الثاني
قد توفي السلطان أحمد الثاني في 6 شباط سنة 1695، وخلفه يوم وفاته السلطان مصطفى خان الثاني ابن السلطان محمد الرابع، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير أحمد معن توفي في 15 أيلول سنة 1697 بدير القمر، ولم يكن له عقب فانقرضت به سلالة آل معن، واجتمع أعيان الشوف بعد وفاته؛ لينتخبوا لهم واليا واتفقوا على اختيار الأمير بشير الشهابي أمير راشيا، وهو ابن أخت الأمير أحمد المتوفى، وكتبوا إلى حسين باشا والي صيدا يسألونه أن يحول إقطاعات الأمراء المعنيين إلى عهدة الأمير بشير الشهابي المذكور، وهو يقوم بدفع ما عليها من المال، فولى حسن باشا الأمير بشيرا وعرض للسلطان مصطفى أن أسرة المعنيين انقرضت، وأن اللبنانيين اختاروا الأمير بشير الشهابي؛ لأنه ابن أخت الأمير أحمد آخر المعنيين، وعرض اليمنيون أنهم لا يقبلون ولاية الأمير بشير الشهابي، وعزل حينئذ حسين باشا وخلفه أرسلان باشا، فورد له الجواب أن الأمير حيدر موسى شهاب هو أحق بأن يرث الولاية على إقطاع آل معن ومتروكاتهم؛ لكونه ابن بنت الأمير أحمد آخرهم، فأرسل أرسلان باشا هذا الجواب إلى الأمير بشير، فأجابه ملتمسا أن يعرض لجلالة السلطان أن الأمير حيدر عمره اثنتا عشرة سنة، فلا يمكنه أن يلي الحكومة بنفسه، فهو يكون نائبا عنه ... وبعد عرض ذلك كان الجواب أن يكون الأمير بشير واليا بطريق النيابة عن الأمير حيدر إلى أن يبلغ أشده، هذه رواية بعض المؤرخين، وروى غيرهم أن أرسلان باشا كتب إلى الأستانة أن الأمير حيدر قاصر، والأمير بشير كفؤ للولاية وقد انتخبه اللبنانيون، فورد الفرمان باسم الأمير بشير فتولى إقطاعات آل معن بالأصالة لا بالنيابة، ويظهر أن هذه الرواية أصح.
فكان ابتداء ولاية آل شهاب على لبنان سنة 1697، واستمرت إلى سنة 1842 حين عزل الأمير بشير قاسم، وتولى عمر باشا النمسوي كما يأتي، وأسرة شهاب قديمة وعريقة بالشرف، ويقال: إن أصلهم من بني قريش، وأن جدهم مالك الملقب بشهاب من ولد مرة بن كعب، وأن مالك استعمله عمر بن الخطاب أميرا بحوران، واستمر أولاده على هذه الإمارة إلى أن ظهر الصليبيون بسورية، فدعاهم الولاة المسلمون أن يقوموا إلى وادي التيم لمناصبة الإفرنج، كما دعوا التنوخيين والمعنيين، وولوهم على حاصبيا وراشيا، ولما خلا الإفرنج عن سورية استمروا على إقطاعهم، ولما فتح السلطان سليم الأول سورية سنة 1515 كان الأمير منصور الشهابي واليا على وادي التيم، وكان في جملة رجال الغزالي نائب دمشق في وقعة مرج دابق، وكان موافقا للغزالي في الانحياز إلى السلطان الذي قرر ولاية آل شهاب على إقطاعهم المذكور، وكانوا غالبا بالاتفاق مع آل معن وصاهروهم إلى أن ورثوا ما كان بيدهم.
وفي سنة 1698 انتقض الشيخ شرف بن علي الصغير صاحب بلاد بشارة، وعصى قبلان باشا والي صيدا، فاستنهض هذا الوزير الأمير بشيرا لقتاله، وولاه على صفد وبلاد بشارة وإقليمي الشومر والتفاح، فسار الأمير بنحو ثمانية آلاف مقاتل وانتصر على الشيخ مشرف، وأهلك من رجاله خلقا كثيرا وقبض عليه وعلى أخيه محمد، وأرسلهما إلى قبلان باشا، وأقام الأمير بشير الأمير منصورا ابن أخيه واليا على صفد، وحضر لدى الأمير بشير بنو منكر أصحاب إقليمي الشومر والتفاح، وبنو صعب أصحاب بلاد الشقيف، فقررهم على إقطاعاتهم، وولى أرسلان باشا والي أطرابلس الأمير بشير على جبيل والبترون، فسلمها إلى الحمادية؛ لأنه كان قد كفلهم بمال وأرسل بعض خواصه، فجمعه منهم ودفعه إلى الوزير. إن كل ما دوناه في هذه الفصول الأخيرة مأخوذ عن تاريخ العلامة الدويهي، وهو شاهد عيان لهذه الأمور؛ إذ كانت في أيامه وبلاده. (8) في بعض مشاهير العلم بسورية في القرن السابع عشر
قد وضع العلامة محمد المحبي الدمشقي تأليفا سماه خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ضمنه 1284 ترجمة فانتقينا منه ما يأتي:
أحمد القرماني:
هو ابن يوسف بن أحمد الدمشقي القرماني، قدم أبوه من قرمان إلى دمشق، وولي نظارة الجامع الأموي، ثم قتل ببعلبك وصار ابنه كاتبا لوقف الحرمين، ثم ناظرا له وألف تاريخه المشهور، وسماه أخبار الدول وآثار الأول، ذكر فيه الدول وكثيرين من الموالي والأمراء، وتوفي سنة 1610.
حسن البوريني:
ولد بصفورية ونشأ بدمشق، ويلقب بدر الدين، وكان فرد زمانه في العلوم والفنون، وألف تآليف كثيرة منها: تحريراته على تفسير البيضاوي، وحاشيته على المطول لسعد التفتزاني في التصريف، وتراجم الأعيان في أبناء الزمان، وشرح ديوان عمر بن الفارض، ورحلة حلبية وأخرى أطرابلسية، وسبع مجموعات سماها السيارات السبع، ورسائل ومقالات كثيرة وجمع ديوانا من شعره تتداوله الأيدي، وتوفي سنة 1615.
حسين بن الجزري:
رحل أبوه من جزيرة ابن عمر إلى حلب وأتقن الشعر، وجمع فيه الصناعة والرقة، وكان يتردد على بني سيفا أمراء أطرابلس، وله فيهم المدائح الكثيرة، وجمع له ديوان تتداوله الأيدي وكان مغرما بشعر أبي العلاء المعري كثير الأخذ منه، وتوفي نحو سنة 1624.
شرف الدين بن حبيب الغزي:
وكان فقيها متمكنا مفسرا نحويا، وله تآليف كثيرة، منها حاشيته على كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم في الفقه، سماها تنوير البصائر في شرح الأشباه والنظائر، وتحريرات على كتاب الدرر والغرر في الفقه أيضا، وله كتاب سماه محاسن الفضائل بجميع الرسائل، وكانت وفاته بين سنة 1620 إلى سنة 1630.
البهاء العاملي:
ولد ببعلبك سنة 1546، ولما اشتد كاهله أخذ في السياحة فساح ثلاثين سنة، ودخل مصر وألف فيها كتابا سماه الكشكول جمع فيه كل نادرة من علوم شتى، وله مؤلفات أخرى جليلة منها التفسير المسمى العروة الوثقى والصراط المستقيم، والتفسير المسمى بعين الحياة، وتفسير آخر مسمى الحبل المتين في مزايا الفرقان المبين، ومفتاح الفلاح والزبدة في الأصول والتهذيب في النحو والملخص في الهيئة، وحواشي الكشاف للزمخشري وحواشي البيضاوي، والفوائد الصمدية في علم العربية إلى غيرها، وكانت وفاته سنة 1615.
فتح الله البيلوني الحلبي:
له تآليف بديعة، منها حاشيته على البيضاوي في الفقه، وكتاب سماه الفتح الحسوي شرح عقيدة الشيخ علوان الحموي، وكتاب آخر سماه خلاصة ما يعول عليه المسلمون في أدوية دفع الوباء والطاعون، وله مجموعات مشتملة على تعاليق غريبة، وله شعر غير قليل وتوفي سنة 1632.
نور الدين بن برهان الحلبي:
له من المؤلفات البديعة السيرة النبوية المعروفة بالسيرة الحلبية، وسماها إنسان العيون في سيرة النبي المأمون، وحاشيته على شرح القاضي زكريا وحاشية على شرح المنهاج للجلال المحلي، وحاشية على شرح الورقات للجلال المذكور، وحاشية على شرح التصريف للسعد التفتزاني، وكتاب سماه زهر المزهر وهو مختصر المزهر للسيوطي في اللغة، وشرح على شرح القطر للفاكهي، ومطالع البدور في الجمع بين القطر والشذور والفوائد العلوية بشرح شرح الأزهرية، والتحفة السنية شرح الأجرومية، وصبابة الصبابة مختصر ديوان الصبابة إلى كثير غير ذلك، وكانت وفاته سنة 1634.
عبد الرحمن العبادي الدمشقي الحنفي:
له من المؤلفات حاشية على بعض تفسير الكشاف للزمخشري، والمنسك المشهور الذي سماه المستطاع من الزاد لأفقر العباد ابن عماد طبع بالقاهرة سنة 1304، وكتاب الهدية في عبارات الفقه والروضة الريا في من دفن بداريا، وله رسائل كثيرة في سائر الفنون وله شعر لطيف، وتوفي سنة 1641.
صالح التمرتاشي الغزي:
له التآليف النافعة، منها حاشية على كتاب الأشباه والنظائر سماها زواهر الجواهر في شرح الأشباه والنظائر، وله منظومة في الفقه وشرح كتاب تحفة الملوك، وشرح ألفية لولده محمد في النحو، وله شرح النقاية للأسيوطي وسماه العناية في شرح النقاية إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1645.
النجم الغزي:
هو محمد بن بدر من غزة، وقد وضع هو ترجمة نفسه، ومما قاله فيها: أنه ولد سنة 977ه/1569 وأن من مؤلفاته نظم الأجرومية سماه الحلة البهية في الأجرومية، وشرح القطر لابن هشام وشرح القواعد له، وشرح منظومة لوالده في أربعة آلاف بيت سماه المنحة النجمية في شرح الملحة البدرية ومنظومة في النحو مائة بيت، ونظم العقيان في مورثات الفقر والنسيان، ومختصر في النحو سماه البهجة، ومقالة على التوضيح لابن هشام ومقالة على الشافعية لابن الحاجب، وشرح لامية الأفعال لابن مالك في التصريف، ونظم شرح العلامة المحب الحموي على منظومة ابن الشحنة في المعاني والبيان، ونظم فرائض المنهاج في الفقه، ونظم رواة الأساطين في عدم الدخول على السلاطين لجلال الدين السيوطي إلى غير ذلك، وذكر له المحبي عقد النظام لعقد الكلام، وهو كتاب غريب الوضع في النصيحة والزهد وما أشبه، وكتاب تحبير العبارات في تحرير الإمارات، وكتابا سماه الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1650.
أبو الوفاء الحلبي :
مفتي الشافعية بحلب، ومن مؤلفاته تاريخ سماه معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب، وكتاب طريق الهدى في التصوف، وشرح على ألفية ابن مالك، وحاشية على شرح المفتاح للسيد، وحاشية على البيضاوي وحاشية على شرح المنهاج للمحلي، وشرح البديعيات وله شعر حسن وكانت، وفاته سنة 1660.
خير الدين الرملي:
كان شيخ الحنفية في عصره، وهو صاحب الفتاوى السائرة، وله غيرها من التآليف في الفقه، منها حواشيه على كتاب منح الغفار، رد فيها غالب اعتراضاته على كتاب الكنز، وحواشيه على شرح الكنز للعيني وعلى الأشباه والنظائر لابن نجيم، وله تعليقات على البحر الرائق والزيلعي وجامع الفصولين، وله ديوان شعر مرتب على حروف المعجم، وتوفي سنة 1670.
علي البصير:
مفتي أطرابلس، ولد بحماة ورحل إلى أطرابلس، وتوطنها وله تآليف كثيرة في الفقه وغيره، منها قلائد الأبخر في شرح ملتقى الأبحر، ونظم الغرر في ألفي بيت ونظم العوامل الجرجانية، ونظم قواعد الإعراب، وله كتاب منظوم في ألغاز الفقه سماه الحور العين، يشتمل على ألف سؤال وأجوبتها، وتوفي سنة 1679.
الكواكبي الحلبي:
له مؤلفات كثيرة منها نظم الوقاية في الفقه، ونظم المنار وشرحه في الأصول، وحاشيته على تفسير البيضاوي التزم بها مناقشة سعدي، وحاشية أخرى انتقد بها عصام الدين، وغير ذلك، وله نظم ونثر في غاية اللطافة، وتوفي سنة 1684.
وعاصر هؤلاء خارجا عن سورية أبو بكر الشنواني المصري، وله مؤلفات حسنة منها حاشية على متن التوضيح في مجلدات، وحاشية على شرح القطر للفاكهي، وحاشية على شرح الشذور، وحاشية على شرح الأزهرية للشيخ خالد الأزهري، وشرح مطول على الأجرومية وغيرها وتوفي سنة 1610.
ثم عبد الرءوف المناوي القاهري، ومؤلفاته كثيرة منها شرح على شرح العقائد للسعد التفتزاني، سماه غاية الأماني وشرح على نظم العقائد لابن أبي شريف، وكتاب سماه أعلام الأعلام بأصول المنطق والكلام، وشرح على الجامع الصغير وكتاب جمع فيه عشرة علوم أي: أصول الدين والعقد والفرائض والنحو والتشريع والطب والهيئة، وأحكام النجوم والتصوف، وشرح على القاموس إلى كثير غيرها، وتوفي سنة 1621، ثم إبراهيم اللقاني المصري أيضا وله مؤلفات كثيرة منها جوهرة التوحيد، وهي منظومة في علم العقائد، وكتاب سماه صاحب المكاشفات، وخوارق العادات ومنازل أصول الفتوى، وقواعد الإفتاء إلى غيرها، وتوفي سنة 1631، ثم محمد الإسحاقي المصري أيضا وأشهر مؤلفاته تاريخه المسمى لطائف أخبار الأول في من تصرف في مصر من أرباب الأول، وكانت وفاته سنة 1650، ثم الشهاب الخفاجي وهو ابن أخت أبي بكر الشنواني السابق ذكره، وله مؤلفات شتى منها عناية القاضي وكفاية الراضي حواش على تفسير القاضي، وله حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي، وشرح كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وشرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري إلى كثير غيرها، وتوفي سنة 1658، ثم برهان الدين اليموني المصري وأشهر مؤلفاته حاشية على المختصر، وهو تلخيص المفتاح في المعاني والبيان للقزويني، وحاشية على كتاب المواهب اللدنية بالمنح المحمدية لشهاب الدين القسطلاني، وحاشية على تفسير البيضاوي وتوفي سنة 1668.
الفصل الثالث
في تاريخ سورية الديني في القرن السابع عشر
(1) في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن
إن دوروتاوس الرابع الذي مر ذكره في تاريخ القرن السابق خلفه أتناسيوس الثالث، وقيل: إنه كان كاثوليكيا وتوفي سنة 1619، وبعد وفاته اختار بعضهم أغناتيوس مطران صيدا، وبعضهم كيرلس أخا أثناسيوس المذكور، واضطهد أغناتيوس كيرلس حتى مات، فاستقل أغناتيوس بالبطريركية، ويظهر من رسالة كتبها من حلب في 10 آذار سنة 1630 أنه كان باقيا حينئذ بطريركا، وبعد وفاته خلفه أفتيموس، وكرمه مطران حلب ... وقال السمعاني: إنه كان يجنح إلى الكثلكة.
وروى الدويهي في تاريخه أنه ترجم رتب كنيسته من اليونانية والسريانية إلى العربية، وقيل: إنه مات مسمما؛ لأنه أراد أن يتبع حساب كنيسة رومة، وخلفه أفتيشيوس الساقسي، وبعد وفاة هذا خلفه مكاريوس الزعيم سنة 1643، وهو صاحب الرحلة إلى القسطنطينية وبلغارية والفلاخ والبغدان، وكتب أخباره فيها ابنه الشماس بولس الزعيم في كتاب اشتمل على فوائد كثيرة في بطاركة أنطاكية الملكيين، شهر بعضها جرجس مرقس الدمشقي نزيل روسية من سنة 1896 إلى سنة 1900، ويظهر أن البطريرك مكاريوس توفي سنة 1672، وخلفه حفيده وسمي كيرلس الخامس وكان ضليعا باللغتين العربية واليونانية ، وجاهر بانحيازه إلى المذهب الكاثوليكي بعد جدال كان بينه وبين البطريرك إسطفانوس الدويهي، وكان معه أربعة أساقفة تابعوه على ذلك ومنهم أفتيميوس الصيفي مطران صور، لكن المخالفين له أدخلوا عليه توافيطس إذ انتخبوه بطريركا إلا أنه بعد وفاة توافيطس أو عزله استقل بالبطريركية سنة 1686، ثم رقى المخالفون إلى البطريركية أتناسيوس الدباس الدمشقي، وتمكن الشقاق بالملة بضع سنين إلى أن وقع الاتفاق بين البطريركين على أن أتناسيوس يكون مطرانا على حلب، وكيرلس يستقر بالبطريركية ... ويقال: إن كيرلس كان يوقع اسمه البطريرك الأنطاكي حالا، وأتناسيوس يوقع اسمه البطريرك الأنطاكي قبلا، ولما بلغ البابا إكليمنضوس الحادي عشر اعتناق كيرلس الإيمان الكاثوليكي، بعث إليه رسالة في 9 كانون الثاني سنة 1716، وسأله أن يدون دستور إيمانه، فدونها فورد إليه الجواب من البابا في 30 أيار سنة 1718 مبينا له مسرته من تصرفه، لكنه لم يمنحه التثبت الرسمي وتوفي هذا البطريرك سنة 1720.
وأما بطاركة أنطاكية على الموارنة في هذا القرن فهم البطريرك يوحنا بن مخلوف الأهدني خلف البطريرك يوسف الرزي، الذي توفي سنة 1608، واستمر على البطريركية إلى 15 كانون الأول سنة 1633، وخلفه البطريرك جرجس عميرة من أهدن أيضا، فدبر البطريركية إلى 29 تموز سنة 1644 وقام بعده البطريرك يوسف العاقوري، ولم يدبر البطريركية إلا ثلاث سنين وبعض أشهر، وتوفي في 23 تشرين الثاني سنة 1647، وخلفه البطريرك يوحنا الصفراوي، وانتقل إلى راحة الأبرار في 23 كانون الأول سنة 1656 وخلفه البطريرك جرجس من قرية بسبعل (بزاوية أطرابلس)، وذهب ينال أجر جهاده في 12 نيسان سنة 1670، وخلفه العلامة البطريرك إسطفانوس الدويهي صاحب المؤلفات البديعة الوافرة، والفضائل السامية النادرة، وبقي مجاهدا بكرم الرب إلى أن دعاه لأخذ أجره مضاعفا في 3 أيار سنة 1704.
وأما بطاركة أورشليم فبعد استقالة صفرونيوس المار ذكره انتخب منهم توافان سنة 1608، وروى بعضهم أنه كان ابن أخي صفرونيوس سالفه أو ابن أخته، وبعد أن صرف بعض سنين في أورشليم سار إلى القسطنطينية وروسية، ثم توفي بالقسطنطينية سنة 1646، وخلفه بايزيوس من أنسباء سالفه وكان راهبا في دير بجانب الأردن، ثم صار رئيسا على دير بغلطة، وهناك انتخب بطريركا على أورشليم، وسار إلى ملدافيا وروسية فأثقل قيصر الروس كاهله بالتقادم وعاد إلى أورشليم، فانقلب عليه البطريرك القسطنطيني ووشى به إلى الحكومة، وأقفل كنيسة تخص القبر المقدس في القسطنطينية ... فاضطر أن يعود إلى ملدافيا، ثم سار إلى أدرنة فسجن فيها مدة، ثم خلى سبيله فرجع إلى أورشليم واعتراه مرض عضال حتى قيل: إنه أعدمه رشده فاتبع مذهب اليهود ثم نفذ به القضاء المحتوم سنة 1660، وبرأ بعضهم ساحته من الضلال، واختار ملك ملدافيا والبطريرك القسطنطيني وبعض الأساقفة أنكتاريوس خلفا له سنة 1661، وكان ناسكا في جبل سيناء وأصله من إكريت، وله من التآليف تاريخ ملوك مصر إلى السلطان سليم الأول، ورسالة يبين فيها مخالفة كنيسة الروم لأضاليل لوتر وكلوين ورفع عريضة إلى السلطان استقال بها من رياسته لشيخوخته وأمراضه، ومنازعة رهبان القدس له، واعتزل في دير القديس ميخائيل بأورشليم، وألف كتابا في رياسة الحبر الروماني باليونانية، وشهد مجمعا عقد بأورشليم سنة 1672 لرد بدع كلوين، وأرسل رسالة إلى رهبان طور سيناء يفند بها غوايات هذا المبتدع، وتوفي أنكتاريوس سنة 1674، وخلفه بعد استقالته سنة 1672 دوزيتاوس الثاني الإكريتي، وكان متريبوليطا لقيصرية فلسطين، وبعد ترقيته إلى البطريركية عقد مجمعا في بيت لحم نبذ به أضاليل كلوين، وأشهر تآليفه تاريخ بطاركة أورشليم يندد فيه باللاتين والأحبار الرومانيين، ولا يتسامح بشيء مع الكلوينيين، ويظهر منه قلة إلمامه بصناعة النقد وطبع كتابه ببوخاريست سنة 1715، وله أيضا محاورة سماها ترس الإيمان الأرثوذكسي، وذكر بعضهم له رسائل أخرى سنة 1698 وسنة 1699 وتوفي سنة 1707. (2) في بعض المشاهير الدينيين في القرن السابع عشر
من هؤلاء الأب بطرس المطوشي القبرسي الماروني:
درس العلوم بمدرسة الموارنة برومة، وضوى إلى جمعية الآباء اليسوعيين، وكان من فضلائهم وعلمائهم وأرسله البابا بولس الخامس إلى إيليا بطريرك الكلدان مع سفيره آدم الأمدي وغيره؛ ليقبل الكلدان الإيمان الكاثوليكي بحضورهم، وكان هو المترجم مع المطران إسحق الشدراوي لرسائل البابا من اللاتينية إلى السريانية، ولرسائل البطريرك والأساقفة، وأعمال معجمهم من السريانية إلى اللاتينية وله غرامطيق سرياني مشروح باللاتينية، ومقالة في اللاهوت الأدبي ، وكان ممن أقامهم الكرسي الرسولي مع الكردينال بلرمينوس وغيره لفحص كتب فروض الموارنة لطبعها، وتوفي المطوشي نحو سنة 1630.
ومنهم القس نصر الله بن شلق الماروني العاقوري:
تخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة وله مؤلف في الكنيسة، وترجمة سفر أيوب من السريانية إلى اللاتينية ومقالات أخرى، وقد أحرز ثروة وافرة أوصى بها عند موته أن تنشأ بها مدرسة للموارنة برافنا، وأقام القس جبرائيل بن عواد الحصروني منفذا لوصيته، فأنشأ المدرسة سنة 1639، ولكن أقفلت سنة 1664 ونقل تلاميذها إلى مدرسة الموارنة برومة وتوفي القس نصر الله سنة 1635.
ومنهم القس جبرائيل الصهيوني الأهدني الماروني:
ولد بأهدن سنة 1577 وتلقى العلوم بمدرسة الموارنة برومة ونال مرتبة ملفان في اللاهوت، وأقيم أستاذا لتعليم السريانية والعربية في مدرسة السابيانسا (الحكمة) برومة إلى أن دعاه لويس الثالث عشر ملك إفرنسة سنة 1614؛ ليكون أستاذا في المدرسة الملكية ببريس، وشرفه برتبة ترجمان ملكي، وعاون كثيرا الأب ميخائيل لي جاي على نشر البوليكلوتا (الأسفار المقدسة بعدة لغات) البريسية لضبط النسختين السريانية والعربية، وترجمتها إلى اللاتينية وشاركه في ذلك إبراهيم الحاقلي الآتي ذكره والخوري يوحنا الحصروني، وقد ترجم الزبور من العربية إلى اللاتينية، وطبعه برومة سنة 1614، وله كتاب في نحو السريانية طبع ببريس سنة 1616، وترجمة جغرافية الإدريسي إلى اللاتينية طبعت ببريس سنة 1619، ومقالة في بعض مدن الشرق ودين أهلها، وخصالهم إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1648.
ومنهم العلامة إبراهيم الحاقلي الماروني:
ولد ونشأ بقرية حاقل من عمل جبيل، وأتقن العلوم بمدرسة الموارنة برومة، وعلم السريانية والعربية برومة، وقد عهد إليه الأب ميخائيل لي جاي بما عهد إلى الصهيوني أيضا بطبع البوليكلوتا البريسية، ومن مؤلفاته ترجمة كتاب ابن الراهب المصري في التاريخ الشرقي، وقد ألحق به الحاقلي مقالات مسهبة في تاريخ العرب وأنسابهم، وطبعت ترجمته ببريس سنة 1651 ثم ترجمة قصيدة عبد يشوع الصوباوي في المؤلفين البيعيين إلى اللاتينية وشروحه لها وحواشيه عليها، وطبعت ترجمته برومة سنة 1653، وله كتاب في نحو اللغة السريانية، وترجمة الكتب الخامس والسادس والسابع من تأليف أبولونيوس في الهندسة من العربية إلى اللاتينية ، وله مختصر في الفلسفة الشرقية وترجمة قوانين القديس أنطونيوس الكبير ومواعظه وأجوبته إلى اللاتينية، وترجمة ديوان الحيوان للسيوطي، وله كتاب الانتصار لأفتيشيوس أي: سعيد بن البطريق في أن درجة الأساقفة غير درجة القسوس، وألحق بهذا الكتاب مقالة طويلة في أصل اسم البابا ورياسته، ورد على هوتنجارس في كلامه على تاريخ العرب ... وللحاقلي أيضا ترجمة القوانين المعزوة إلى المجمع النيقوي المعروفة بالقوانين العربية إلى اللاتينية، وتوفي الحاقلي برومة في 15 تموز سنة 1664، ونقلت كتبه بعد وفاته إلى المكتبة الواتيكانية.
ومنهم الأسقف إسحق الشدراوي الماروني:
ولد بشدرا بعكار، ودخل مدرسة الموارنة برومة سنة 1603، وأقام بها إلى سنة 1618 ورقاه البطريرك جرجس عميرة إلى درجة الكهنوت سنة 1620، وجعله رئيس كهنة بيروت ثم رقاه البطريرك يوحنا مخلوف إلى أسقفية أطرابلس سنة 1629، وله من المؤلفات كتاب في نحو اللغة السريانية وقصيدتان في مديح البابا أدريانوس الثامن، والبطريرك يوحنا مخلوف، وله مباحث لاهوتية في عمل الرب في ستة أيام الخلق، وفي الفردوس الأرضي والخطية الأصلية والموت، ويمبوس الآباء والفردوس الأرضي وجهنم إلخ إلى غير ذلك، واستدعاه الكردينال فريدريك بوروماوس إلى مديولان؛ لتنظيم مكتبته الشهيرة بهذه المدينة، وتوفي المطران إسحق بجبيل سنة 1663، وكان مزوجا فماتت امرأته، ويقال: إن آل طربية في أطرابلس وجبة بشري من ذريته.
ومنهم أندراوس أخيجان بطريرك السريان الكاثوليكيين:
فهذا ولد بحلب من والدين يعقوبيين وتهذب ببعض العلوم، وجحد اليعقوبية، واعتنق المذهب الكاثوليكي بإرشاد البطريرك يوسف العاقوري، الذي أرسله إلى مدرسة الموارنة برومة للتخرج بالعلوم، وعاد إلى لبنان فرقاه البطريرك يوحنا الصفراوي إلى درجة الكهنوت، ثم إلى الأسقفية سنة 1656، وسيره إلى حلب مصحوبا بالقس إسطفانوس الدويهي (الذي صير بعد بطريركا)، فيسر الله لهما ارتداد كثيرين من اليعاقبة إلى الإيمان القويم، وسموا سريانا كاثوليكيين، ولما توفي أغناتيوس سمعان بطريرك اليعاقبة سنة 1659 انتخب هؤلاء الكاثوليكيون أندراوس بطريركا عليهم، ونال الفرمان من جلالة السلطان بواسطة قنصل إفرنسة بحلب المسمى فرنسيس بيكات، وأرسل سنة 1662 دستور إيمانه إلى الكرسي الرسولي، فثبته البابا إسكندر السابع سنة 1665، ورقي أخاه إلى أسقفية حلب على السريان وسمي ديوانيسيوس وزاد ملته الكاثوليكية عددا بجهاده وفضائله وعلمه، وتوفي سنة 1677 وفي رواية سنة 1678.
ومنهم بولس الزعيم ابن البطريرك مكاريوس المار ذكره:
وله تأليفان خاصة أحدهما دون به أخبار بطاركة الروم الكاثوليكيين منذ انتقالهم إلى دمشق إلى زمان والده، والثاني كتاب رحلة والده سنة 1652 إلى سنة 1655 إلى الأستانة وبلغاريا ورومانيا وروسيا، وعلق عليها مقدمة ذكر فيها سلسلة لبعض بطاركة الروم الأنطاكيين، جمعها من سلسلة كان والده قد وضعها، فاختصر وبدل وزاد على كلام والده بحسبما رأى، ولم نظفر بما ينبئنا بسنة وفاة بولس هذا.
ومنهم مرهج بن نيرون الباني الماروني:
فهذا ولد ببان إحدى قرى جبة بشري نحو سنة 1631، وأخذه خاله إبراهيم الحاقلي المار ذكره إلى مدرسة الموارنة برومة، فاقتبس بها العلوم حائزا قصبات السبق، فأقامه الكرسي الرسولي معلما للغة السريانية بمدرسة الحكمة الكلية برومة خلفا لخاله المذكور، ثم صير قانونيا في كنيسة القديس أوسطاتيوس هناك، من مؤلفاته كتابه في أصل الموارنة ودينهم واسمهم في اللاتينية، وقد طبع برومة سنة 1679 وله كتاب آخر باللاتينية سماه أفوبليا (أي: سلاح) الإيمان الكاثوليكي طبع برومة سنة 1694 جمع فيه من كتب السريان والكلدان القديمة البينات القاطعة على صحة المعتقد الكاثوليكي خلافا للبروتسطنت، وقد عني بتنقيح الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد بالسريانية والعربية، وطبعت تحت مناظرته برومة سنة 1702 وأضاف إليها مقدمة جزيلة الفائدة دالة على فقاهته، وطول باعه وغزارة اطلاعه وقد توفي سنة 1711.
الفصل الرابع
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثامن عشر
في الأحداث التي كانت بسورية في هذا القرن (1) في ما كان بسورية في أيام السلطان أحمد خان الثالث
انقضت ولاية السلطان مصطفى خان الثاني بخلعه وإقامة أخيه السلطان أحمد خان الثالث سنة 1703، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير بشير شهاب الذي خلف الأمير أحمد معن سنة 1697، ولاه أرسلان باشا والي صيدا كل الأعمال من صفد إلى المعاملتين بكسروان، وجعل ابن أخيه الأمير منصورا واليا بصفد، ثم توجه بنفسه لجباية المال السلطاني، فتوفي بصفد سنة 1707 وحملت جثته إلى صيدا فدفنت في مدفن المعنيين ، واجتمع أكابر البلاد وقر رأيهم على تولية الأمير حيدر ابن الأمير موسى شهاب، وعرضوا الأمر لأرسلان باشا فأجابهم إليه، فأتوا به إلى دير القمر وكان عمره حينئذ إحدى وعشرين سنة.
ثم عزل أرسلان باشا عن ولاية صيدا وتولاها أخوه بشير باشا، فولى المشايخ بني علي الصغير المتاولة على بلاد البشارة، وأخذوا يسطون على أطراف بلاد الأمير حيدر وانضم إليهم بنو منكر وبنو صعب ولاة إقليمي الشومر والتفاح وبلاد الشقيف، فنهض الأمير حيدر لكبتهم وبلغ إلى النبطية فالتقاه المتاولة، فكانت وقعة دارت بها الدوائر على المتاولة، وقتل منهم خلق كثير وتحصن بعضهم في القرية فأغارت عليهم فرسان الأمير، فأهلكوهم عن آخرهم ونصب الأمير حيدر الشيخ محمود أبا هرموش نائبا عنه في حكومة بلاد البشارة، فثقل ذلك على بشير باشا فأرسل يقوي الأمراء بني علم الدين وغيرهم من اليمنية على الأمير حيدر وهو قيسي.
ففي سنة 1709 عظم حزب اليمنية بالشوف، وأظهر الأمراء بنو علم الدين المجافاة للأمير حيدر ومالأهم على ذلك الأمير يوسف أرسلان حاكم الشويفات، وكان محمود أبو هرموش الذي نصبه الأمير حيدر عاملا ببلاد بشارة قد جار واعتسف، فطلبه الأمير إليه فلجأ إلى بشير باشا ليحميه من غضب الأمير، فالتمس له من السلطان لقب باشا، ونصب الأمير يوسف علم الدين اليمني على ولاية الأمير حيدر، وأرسله مصحوبا بعسكر وبمحمود باشا المذكور لطرد الأمير حيدر من دير القمر، فنهض الأمير إلى غزير ومعه بعض أعيان البلاد، فأرسل الأمير يوسف علم الدين عسكرا في أثره، فكانت وقعة بغزير بين القيسية واليمنية تقهقر بها عسكر اليمنية إلى البحر ... على أن الأمير حيدر لم يثق بظفره فيما بعد، فآثر الاختفاء على الحرب وسار ببعض ذويه إلى الهرمل واختفى هناك بمغارة تعرف بمغارة عزرائيل، ولما تحقق اليمنية خروج عسكر القيسية من غزير دهموها، فنهبوها وأحرقوها وقفلوا إلى دير القمر، وأرخ بعض الشعراء هذه الوقعة بقوله: ندمت غزير أي: سنة 1711، وروى الأمير حيدر شملال الشهابي صاحب التاريخ هذه الحادثة بوجه آخر، وهو خلاف وقع بين آل خازن وآل حبيش، فأرسل الأمير يوسف علم الدين فرسانا إلى غزير فمنعهم آل حبيش، وقتلوا منهم ثلاثة رجال، فركب الأمير يوسف بعسكر إلى غزير فانهزم الحبشيون إلى أطرابلس، فأحرق غزير ونهبها.
أما محمود باشا أبو هرموش مدبر الأمير يوسف علم الدين، فجار في البلاد بعد فرار الأمير حيدر، وتزوج بنتا من بنات الأمراء آل علم الدين فزاد ذلك ثقلا على القيسية، وراسلوا الأمير حيدر بأن يعود إليهم، فسار من مغارة الهرمل وحل في قرية رأس المتن عند المقدم حسين اللمعي، وأنفذ الأعلام للقيسية بالشوف وغيرها فاجتمعوا إليه، وعرف بذلك محمد أبو هرموش، فخاف ودعى اليمنية في الغرب والمتن والجرد، وكتب إلى بشير باشا والي صيدا وإلى نصوح باشا والي دمشق يستنجدهما، فنهض بشير باشا بعسكره إلى حرش بيروت، ونصوح باشا بعسكره إلى قب إلياس وكتب محمود باشا إلى بشير باشا أن يقوم بعسكره إلى بيت مري، وإلى نصوح باشا أن يقوم بعسكره إلى المغيتي فوق حمانا، ونهض هو بعسكر البلاد إلى عين دارا، وعزموا جميعا أن يدهموا بيوم واحد الأمير حيدر، فاستشار الأمير حيدر أصحابه القيسيين، فكان رأي المقدم مراد اللمعي أن يقوم من وجه العساكر إلى كسروان، وصوب الباقون أن ينهضوا ليلا إلى عين دارا، فيدهموا محمود باشا وعسكره، وساروا للحال ... وقسموا عسكرهم ثلاثة أقسام فبلغوا عين دارا غلسا، ودخلها أولا المقدم عبد الله والمقدم حسين اللمعيان، ثم دخل عسكر الأمير حيدر عنوة إلى القرية، وأبدى القيسية آيات البسالة وهلك من الفريقين خلق كثير، وقتل من الأمراء آل علم الدين ثلاثة وأسر أربعة، وقبضوا على محمود باشا أبي هرموش وضربت أيدي الشتات اليمنية، ولما علم والي صيدا ووالي دمشق بما كان عاد كل إلى مقر ولايته، ودخل بعد انقضاء القتال رجل على المقدم حسين اللمعي، ولقبه بالمقدم على عادته، فانتضى سيفه، وقتله قائلا: «أقتل ثلاثة أمراء وتناديني بالمقدم.» يريد أن يسمى أميرا، ثم توجه الأمير حيدر من عين دارا إلى الباروك، ومعه الأمراء اليمنية المأسورين، فأمر بقطع روسهم وانقرضت بهم سلالة آل علم الدين، ثم أمر بقطع لسان محمود باشا أبي هرموش، ولم يقتله حرمة للدولة؛ لأنه باشا، وعاد إلى دير القمر ظافرا، وسمى المقدمين اللمعيين أمراء، وتزوج هو ببنت الأمير حسين اللمعي، وزوج ابنته للأمير عساف ابنه وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج بأم الأمير مراد اللمعي وأقطعه نصف المتن، وزوج أخته بالأمير عبد الله اللمعي، وأحبه لما شاهده من بسالته يوم عين دارا، ثم أقطع الشيخ قبلان القاضي إقليم جزين والشيخ علي النكدي الناعمة وما يليها، وسلخ عمل الغرب الأعلى عن ولاية الأمير يوسف أرسلان، وسلمه إلى محمد تلحوق وأخيه بشير، وأقطع الشيخ جنبلاط عبد الملك عمل الجراد، ورفع مقام هؤلاء المشايخ وكتب لهم الأخ عبد العزيز، وخص بنفسه خمس قرى وهي بتقلين ونيحا، وعين ماطور وبتلون وعين دارا.
وفي سنة 1715 توفي الشيخ قبلان القاضي حاكم إقليم جزين، وأوصى بنصف ماله للأمير حيدر وبالنصف الآخر للشيخ علي جنبلاط، فلم يأخذ الأمير من تركته إلا خمسة وعشرين ألف قرش، وخص بنفسه من إقطاعه مرج بسرى ومزرعة بحنين، وكان الشيخ علي جنبلاط متزوجا بابنة الشيخ قبلان القاضي، فارتأى ذووه بعد وفاته أن يليهم الشيخ علي، وأتوا به إلى الأمير حيدر فسلمه إقليم جزين، وفي سنة 1717 توفي الأمير عبد الله اللمعي زوج غضية أخت الأمير حيدر الوالي، ولم يكن للأمير عبد الله ولد فأخذت غضية نصيبها من تركته بستان أبي كعكة بالبوشرية، وجزيرة ابن معن عند منبع نهر بيروت.
وفي سنة 1732 توفي الأمير حيدر، وكان عادلا حليما كريما، وتزوج بأربع نساء حسب السنة وثلاث سراري ورزق تسعة بنين، وهم الأميران ملحم وأحمد من أم، والأمراء منصور ويونس وعلي ومعن وحسين من أم أخرى، وهي أخت الأولى وكلتاهما من بنات عمه من حاصبيا، ثم الأمير عمر من أم الأمير مراد اللمعي، والأمير بشير من بنت الأمير حسين اللمعي، وفي أيامه ذل الحزب اليمني واستفحل أمر الحزب القيسي. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطان محمود الأول
بعد اعتزال السلطان أحمد الثالث عن السلطان أقيم ابن أخيه السلطان محمود خان الأول سنة 1730، ومما كان في سورية في أيامه أنه بعد وفاة الأمير حيدر شهاب سنة 1732، اجتمع أعيان البلاد، وأرادوا أن يقيموا مكانه ابنيه الأمير ملحما والأمير أحمد، فأبى الأمير ملحم أن يشارك أخاه في الحكم، وسار إلى صيدا طالبا من أسعد باشا العظم واليها حينئذ أن يوليه مكان أبيه، فولاه وضم الأمير ملحم إخوته إليه وزوج ابنته إلى الأمير فارس اللمعي صاحب الشبانية، وبلغه أن بني علي الصغير أصحاب بلاد بشارة شمتوا بموت والده، وخضبوا أذناب خيولهم بالحناء، فالتمس من أسعد باشا أن يوليه على بلاد بشارة، فولاه ونهض إليها ومال إليه سلمان الصعبي صاحب بلاد الشقيف، فأمنه وأبقاه على ولايته ودهم بني علي الصغير، والتقى بهم في قرية يارون فكسر جمعهم وأهلك منهم خلقا كثيرا، وقبض على مقدمهم نصار وفر إخوته فتتبع آثارهم إلى القنيطرة، فقتل بعضهم ونهب تلك الديار وعاد ومعه نصار المذكور مقيدا، ثم حضر إخوته مستسلمين إليه وقدموا له فدية عن أخيهم، فخلى سبيله وأعادهم إلى ولاية بلادهم من قبله، فهابه الناس واعتز به أهل ولايته وأخذوا يسطون على من جاورهم من أهل البقاع، فحنق سليمان باشا العظم والي دمشق وسار بعسكر إلى البقاع قاصدا كبت اللبنانيين، ورأى الأمير ملحم ما يكون من غوائل القتال، فاعتذر للوالي عن أهل بلاده وتعهد بأن يدفع له خمسين ألف قرش، ورهن أخاه الأمير حسينا عنده إلى أن دفع له المبلغ.
وفي سنة 1734 انتقل أسعد باشا العظم من إيالة صيدا إلى إيالة دمشق، وخلفه بصيدا أخوه سعد الدين باشا الذي كان واليا بأطرابلس، وتولى سلطان باشا العظم أطرابلس وعظمت سطوة بني العظم في سورية، وفي سنة 1741 ادعى أسعد باشا العظم والي دمشق على الأمير ملحم دعاوى لم تكن صحيحة، وجهز عسكرا سار به إلى البقاع فحشد الأمير عسكرا والتقاه لهناك ورأى الوزير أن عسكره لا طاقة له على قتال الأمير، فعاد إلى دمشق وتعقبه الأمير إلى قربها، ثم عاد فأحرق بعض قرى البقاع.
وفي سنة 1743 أظهر المتاولة أصحاب جبل عامل الخروج عن طاعة سعد الدين باشا العظم والي صيدا، وامتنعوا عن أداء الأموال الأميرية، وسطوا على إقليم التفاح التابع ولاية الأمير ملحم، فاستنهض الوزير الأمير لقتالهم فسار بعسكر من دير القمر حتى بلغ جسر الأولى عند صيدا، فأخذ الرعب المتاولة من قدوم الأمير فوجهوا رسلا وهدايا إلى الوزير يلتمسون الصفح، ويتعهدون بدفع ما بقي عندهم من المال، ومال آخر فكتب إلى الأمير يخبره بما كان، ويأمره بالعود إلى بلاده فأبى الأمير الامتثال، وسار إلى قرية نصار وفيها بنو منكر وبنو صعب ومحازبوهم، فخرجوا لملتقاه بعسكرهم فهجمت عليهم رجال الأمير، فاندفعوا مدحورين فتعقبهم اللبنانيون وقتلوا بعضهم، وتحصن الباقون في القرية، فوثب عليهم رجال الأمير، وقتلوا منهم ألفا وستمائة قتيل، وقبضوا على أربعة من مشايخهم ونهبوا القرية وأحرقوها، وعاد الأمير إلى دير القمر ظافرا معتزا، وكتب إلى الوزير يبشره بالظفر، فأجابه مظهرا رضاه ومثنيا عليه وأرسل له نفقات العسكر، ثم توسط الشيخ علي جنبلاط أمر تخلية سبيل المشايخ المسجونين، فأجابه الأمير إلى ذلك بشرط أن يدفعوا كل سنة ستة آلاف قرش وفرسين من جياد الخيل.
وفي سنة 1747 تولى الأمير ملحم بلاد بعلبك، وسير إليها أخويه الأمير أحمد والأمير منصور يدبران شئونها، وأبطأ أخواه في أداء بعض مالها، فكتب إليه الوزير يطلب المال، وأغلظ له الخطاب وكان بين الأخوين نفرة، فوجس الأمير ملحم من ذلك ودعا أعيان بلاده إلى الاجتماع بالباروك للتشاور والاهتمام بجمع المال الباقي للخزينة، فأرسل أسعد باشا رسولا يتجسس أعمال الأمير، وما ينوي، ففطن الأمير لما بطن وأظهر للرسول البأس والشدة، ولما عاد الرسول وبث لأسعد باشا ما رآه عزم الوزير أن يدهم الأمير على غفلة، وسار مسرعا إلى صحراء بر إلياس قاصدا قتال الأمير، فنهض الأمير عاجلا من الباروك وحل في المغيثة، فلما بلغ الوزير بر إلياس وجد نيران الأمير تسطع على المغيثة، فعلم أنه يقظ حذور، ثم زحف الأمير بجيشه نحو معسكر الوزير، فكانت وقعة بين العسكرين ظهر فيها العسكر اللباني، وتتبع العسكر الدمشقي إلى الجديدة وأهلك منه خلقا كثيرا، وعاد الأمير إلى البقاع فنهب بعض قراها وأحرقها، ووجه فريقا من عسكره إلى بلاد بعلبك، فأزاح الأمير حيدر الحرفوش الذي كان الوزير قد ولاه عليها، وولى الأمير مكانه أخاه حسينا، ولما علم أسعد باشا ما فعله الأمير ببعلبك احتدم غيظا وحنقا، وأخذ يجمع العساكر لقتال الأمير، ولكن نفذ الأمر السلطاني بضرب عنق أسعد باشا، وتولى مكانه ابن عمه سليمان باشا العظم، وتوفي سعد الدين باشا والي صيدا وخلفه عثمان باشا المعروف بالمحصل، وكان الأمير ملحم قد تأخر عن دفع بعض المال فطالبه به عثمان باشا، ثم شكاه إلى الباب العالي فصدر الأمر لوالي دمشق أن يساعد والي صيدا على إرغام الأمير على القيام بما عليه، فنهض عثمان باشا إلى جسر صيدا وأرسل فأحرق إقليم التفاح، وقطع شجر الزيتون القريب من نهر صيدا، فنهض الأمير بعسكره إلى مزبود قاصدا القتال ثم تصالحا ودفع الأمير ما كان عليه.
وفي سنة 1748 أرسل سلمان باشا والي دمشق إلى الأمير ملحم أن يطرد من بلاده بعض الإنكشارية، الذين كان قد طردهم من دمشق ولاذوا بحمى الشيخ شاهين تلحوق، وكتب الأمير إلى آل تلحوق أن يطردوا من لجئوا إليهم فأبوا رعاية للزمام، فوجه الأمير عسكرا فقاوموه فأحرق العسكر مساكنهم، وقطع أشجارهم وطردهم ونزلاءهم من البلاد، فنزحوا إلى راشيا إلى أن أمن الوزير أولئك الفارة فرجعوا إلى دمشق، وقتلهم جميعا وطلب المشايخ آل تلحوق العفو من الأمير، فعفا عنهم وعوضهم عما أتلفه لهم.
وفي سنة 1749 أرسل الأمير ملحم إلى الشيخ شاهين تلحوق أن يسطو على أطراف بيروت؛ لأن ياسين بك حاكمها لم يكن يجل الأمير، فشكاه الحاكم إلى والي صيدا، فعرض هذا الوالي ولاية بيروت على الأمير ملحم، فقبلها منضمة إلى ولايته وتوطنها الأمراء الشهابيون، وبقيت ولايتهم عليها إلى أيام الجزار كما سيأتي.
وفي سنة 1750 اعتدى بنو منكر المتاولة على إقليم جزين، وقتلوا رجلين من أتباع الشيخ علي جنبلاط، فحشد الأمير ملحم عسكرا وبلغ إلى جباع الحلاوة، حيث كان بنو منكر فظفر بهم وأهلك منهم ثلاثمائة رجل، وتحصن الباقون في مزار فوجه الأمير كتيبة يرأسها الأمير مراد اللمعي والشيخ ميلان الخازن، فأهلكوا أولئك المتحصنين، وفي هذه الأثناء اعتدى الشيخ شاهين تلحوق في البقاع على بعض المارة في طريق دمشق، فوجه سليمان باشا واليها نائبه بجماعة من جنوده، فهزموا الشيخ شاهين وقتلوا من أتباعه ثلاثة رجال، فنهض الأمير ملحم برجاله إلى البقاع وقتل كثيرين من جماعة نائب دمشق وفر الباقون، وأخذ سليمان باشا يتأهب لقتال الأمير ملحم، وعرف مصطفى باشا القواس والي صيدا بهذا الخلاف، فاهتم بإصلاح ذات البين بين سليمان باشا والأمير ملحم، وأصلح بينهما على أن الأمير يدفع للباشا خمسة وسبعين ألف قرش، فدفعها وأزال الخلاف.
وفي سنة 1715 اختصم رجل من دير القمر مع خادم للمشايخ النكديين، وقتل الخادم فقبض الأمير ملحم على القاتل وأودعه السجن، وعرضت أم القاتل مبلغا من المال تفدي به ابنها، ولم يكن القتل تصمما فتردد الأمير عن إهلاك القاتل، فهجم بعض النكدية على السجن؛ ليقتلوه فلم يصلوا إليه ولكن اضطر الأمير أخيرا أن يقتله مرضاة لهم وأكمن البغض لهم، وعزم على الاقتصاص منهم متى سنحت الفرصة، وكان بين الشيخ خطار والشيخ كليب النكديين عداوة، ونهض أحدهما على الآخر فنفاهما الأمير من البلاد، وحرق منازلهما بدير القمر، وأما هما فسارا إلى حاصبيا فأصلح الأمير إسماعيل واليها بينهما، وسأل الأمير العفو عنهما، ورجعا إلى المناصف ثم توفي الشيخ خطار، وطيب الأمير قلب الشيخ كليب فرجع إلى دير القمر وعمر منزله.
وفي سنة 1754 دخلت شوكة صبير في يد الأمير ملحم، فلم يكترث بها ودخل الحمام، وتطيب فورمت يده وتقرحت وخبثت القرحة حتى أعجزت الأطباء عن مداواتها، واشتغل بنفسه عن تدبير البلاد فطمع أعيانها به، وائتمروا عليه مع أخويه الأميرين أحمد ومنصور، فترك لهما مقاليد الولاية مكرها، وسار هو بعياله إلى بيروت وتوطنها متنزها عن الأحكام، ومنقطعا إلى درس الفقه ومعاشرة العلماء إلى أن دهمه مرض الموت سنة 1761 فدعى الشيخ سعد الخوري صالح من رشميا، وأقامه وصيا على أولاده؛ لأنهم كانوا صغارا وهم ستة أمراء محمد ويوسف وقاسم وسيد أحمد وأفندي وحيدر، وتوفي ببيروت، ودفن في جامع الأمير منقذ التنوخي وعمره ستون سنة. (3) في ما كان بسورية في أيام السلطانين عثمان الثالث ومصطفى الثالث
إن السلطان محمود الأول أدركته الوفاة سنة 1754، وتسنم منصة الملك بعده السلطان عثمان خان الثالث، فلم يفسح الله في أجله، بل توفي في سنة 1757 وخلفه السلطان مصطفى خان الثالث، ومما كان في أيامهما بسورية أنه في سنة 1755 ولي عبد الله باشا الشتجي على دمشق، فحضر إليها ومعه ثلاثة عشر ألف رجل لما كان من العداوة بين الإنكشارية والقابوقل، فاجتمع أهل دمشق إلى الميدان قاصدين منعه عن الدخول إلى المدينة، فدهمهم ليلا وقتل منهم كثيرين ودخلها، وأمن المدينة وردع الأوباش فيها، وفي هذه السنة وقعة نفرة بين الأمير أحمد وأخيه الأمير منصور وبين ابن أخيهما الأمير قاسم ابن الأمير عمر، فنزح الأمير عمر إلى البقاع، وقطع الطريق على من يحضرون إلى بلادهما، فأرسل عماه يسترضيانه وأعطياه غزير ... ولما رأى الأمير ملحم أن أخويه لم يحفظا الزمام له دعا الأمير قاسم، وأشار عليه أن يتوجه إلى الأستانة، وأن يلتمس من الباب العالي الولاية على جبل الشوف للأمير ملحم، ويلتمس لنفسه الولاية على بلاد جبيل، وأن تكون الولايتان إقطاعا لهما ولذريتهما، فسار الأمير قاسم سنة 1758 إلى الأستانة فرحب به مصطفى باشا القواس الذي كان قبلا واليا في صيدا، ووعده بقضاء حاجته، وحال دون ذلك وفاة السلطان عثمان وخلافة السلطان مصطفى، وعزل مصطفى باشا المذكور، لكنه أوصى علي باشا الحكيم الذي خلفه في الدفتارية بالأمير قاسم، فأصحبه بكتاب إلى عبد الله باشا والي دمشق المذكور، فالتقاه هذا الوالي مرحبا وعرض عليه ما يريد من الإقطاعات في ولاية دمشق، فلم يقبل أحدها ثم عزل عبد الله باشا عن ولاية دمشق، وعيل صبر الأمير قاسم فأتى إلى فالوغا ونزل على الأمير شديد مراد اللمعي، وكاتبه عماه في أمر الصلح فأجابهما إلى ذلك، وحضر من فالوغا إلى دير القمر، فقابلهما وتوجه إلى الحدث فتوطنها، ثم حضر إليه رسول من قبل الباب العالي وبيده أمر إلى نعمان باشا والي صيدان أن يولي الأمير قاسما على الشوف وملحقاته، فأرسل الأمير قاسم إلى عميه يقول: إنه مقيم على العهد ويؤثر رضاهما على الولاية، وطلب منهما سبعة آلاف قرش؛ ليدفعها صلة لرسول السلطنة، فلم يشأ عماه دفعها، فنهض إلى صيدا ورفع الأمر إلى عثمان باشا فخلع عليه خلعة الولاية على الشوف، وعاد إلى بيروت فجأة فاستولى عليها، وفر عماه ولم يشأ أن يؤذيهما، لكنهما جمعا أكابر الجبل فرفعوا عريضة إلى والي صيدا أنهم لا يرضون أن الأمير قاسما يحكم فيهم، بل يلتمسون إعادة الولاية إلى الأميرين أحمد ومنصور، ودفعوا له خمسين ألف قرش، فعزل الأمير قاسما فسار إلى البقاع، وكتب له عماه راغبين في الصلح معه فأجابهما إلى ذلك، وفي سنة 1762 زوجه عمه الأمير منصور بابنته؛ ليقربه إليه فولد له منها الأمير حسن والأمير بشير الكبير، وفي آخر أمره انتقل إلى غزير، وتوفي بها سنة 1767.
وفي سنة 1762 وقعت نفرة بين الأمير منصور وأخيه الأمير أحمد، وكان أعيان ولايتهما منقسمين على حزبين يزبكي وجنبلاطي، وكان الأمير أحمد يميل إلى الشيخ عبد السلام زعيم اليزبكية، والأمير منصور إلى الشيخ علي جنبلاط زعيم الجنبلاطية، فسار الأمير أحمد إلى دير القمر عازما أن يستبد بالولاية، وتوجه الأمير منصور إلى بيروت، وكتب إلى محمد علي باشا العظم والي صيدا؛ ليجعله متفردا في الولاية فلبى دعوته، وسار بعسكر إلى حرش بيروت لمساعدته ونهض الأمير منصور لقتال أخيه في دير القمر، فقام الأمير أحمد إلى كفر نبرخ، ودعى اليزبكية لقتال أخيه فلم يجيبوه إليه، بل انقاد زعيمهم وغيره إلى الأمير منصور، فاستقل بالولاية وكان مدبره الشيخ منصور أده، وتوسط الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام العماد الصلح بين الأميرين، فاصطلحا على أن الأمير أحمد يسكن في دير القمر غير متعرض لأخيه في الولاية، وكان الأمير يوسف أخوهما من حزب الأمير أحمد، فضبط الأمير منصور أملاك باقي إخوته، وهدم مساكن الشيخين كليب وخطار النكديين؛ لأنهما كانا من خدام الأمير أحمد، وسعى الشيخ علي جنبلاط بالصلح بين الأمير منصور والأمير يوسف، فرضي الأمير منصور عن الأمير يوسف، لكنه ما برح ضابطا أملاكه وأملاك إخوته.
وكان الشيخ سعد الخوري وصيا ومدبرا لأولاد الأمير ملحم، فأخذ يخابر أعيان البلاد بشأن ضبط الأمير منصور أملاك إخوته، ونصح الشيخ علي جنبلاط الأمير منصور، فلم ينتصح فانحاز إلى نصرة الأمير يوسف واتفق مع الشيخ كليب النكدي على مخالفة الأمير منصور، وممالأة الأمير يوسف، ونهض الأمير يوسف قاصدا دمشق ومعه الشيخ سعد الخوري، وكان واليها حينئذ عثمان باشا الكرجي فكتب هذا الوالي إلى ولده محمد باشا والي أطرابلس أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل، فولاه على بلاد جبيل والبترون سنة 1763، واستقر في جبيل واليا فتقاطر إلى الأمير يوسف محازبوه من الشوف وغيرها، وكثر أصحابه وأعوانه وارتفع شأنه بتدبير الشيخ سعد الخوري، وكان المشايخ آل حمادي يتولون جبيل والبترون، فحاربهم الأمير يوسف وكسرهم في عدة مواقع حتى أضعفهم عن طلب الولاية، وفي سنة 1764 استنجده عثمان باشا والي دمشق لفتح قلعة سانور، فسار الأمير بجيش من لبنان والتقاه الوزير وحاصروا القلعة، فلم يفتحوها حينئذ ولكن غمر الوزير الأمير بإكرامه ووجس الأمير منصور من الأمير يوسف، وفي سنة 1766 قبض الأمير يوسف على جماعة من الحمادية، فأمدهم والي أطرابلس بعسكر وحضروا إلى بزيزا بكورة أطرابلس، فسار الأمير يوسف إليهم فانتشب القتال في أميون وانكسر عسكر أطرابلس، وحاصر جماعة منهم في البرج الذي بأسفل القرية، فقتل الأمير منهم عدة رجال فاستسلموا إليه، وانصرفوا إلى أطرابلس ورجع الأمير إلى جبيل. وفي سنة 1667 ولد للأمير قاسم ولد سماه بشيرا وهو الأمير بشير المعروف بالكبير، وبعد ثلاثة أشهر ونصف توفي الأمير قاسم. وفي سنة 1770 توفي الأمير إسماعيل أرسلان بلا عقب، فأوصى بماله للأمراء آل شهاب، واختلف الأمراء على قسمة الموصى لهم به، فأصلح الأمير منصور بينهم تاركا نصيبه، فأخذ الأمير علي العقار الذي بوادي شحرور، والأمير يونس ما كان للموصي في برج البراجنة، والأمير سيد أحمد طاحون المخاضة، وبعض العقار بنهر بيروت.
وفي سنة 1771 تجمع المشايخ الحمادية، ودهموا الأمير بشير حيدر في العاقورة، وكان نائب الأمير يوسف ببلاد جبيل، وكان معه شيخا بشري وأهدن فدام القتال بينهم نهارا كاملا، فظهر الأمير عليهم وأبعدهم عن العاقورة، ثم حضر رجال الجبة لنجدته، فانهزم المتاولة بعيالهم من جبة المنيطرة ووادي علمات إلى الكورة، ولحقهم رجال جبة بشري، وأرسل الأمير يوسف الشيخ سعد الخوري، وأصحبه بعسكر مغاربة فأدرك المتاولة في دار بعشتار، فأغار عليهم بمن اجتمع إليه من أهل البلاد، فظفر بهم وظل يطردهم إلى القلمون، وأهلك منهم نحو مائة رجل.
وفي سنة 1772 سار الأمير يوسف بعسكر إلى الضنية لقتال المشايخ آل رعد لمحاماتهم عن الحمادية، ولما وصل إلى عفصديق في الكورة ورد له كتابه من والي أطرابلس يقول فيها: إن آل رعد لجئوا إليه والتمسوا تدخله في الصلح، فرجع الأمير من عفصديق وأمر بحرقها؛ لأن الأمير أحمد الكردي كان يميل إلى الحمادية.
وفي سنة 1773 كانت حرب بين عسكر والي دمشق، وعسكر الأمير بسبب أن الأمير سيد أحمد أخا الأمير يوسف كان عثمان باشا والي دمشق رخص بولايته على البقاع، فأقام بقلعة قب إلياس وأتى إليها بآلات حربية، وأخذ يسطو على مارة الطريق، ونهب قافلة لتجار دمشق فكتب الوزير للأمير أن يردع أخاه عن التعدي، وأن يرد ما سلبه من القافلة، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يجب واعتذر الأمير للوزير عذرا لم يقبله، فنهض الوزير بعسكره إلى البقاع والتقاه الأمير إليها، فكانت بينهما وقعات لم يتم بها الظفر لأحدهما، فاستنجد الأمير يوسف بالشيخ ضاهر العمر والشيخ نصيف النصار، فأتياه بجيش وافر، ولما بلغ عثمان باشا قدومهم، ورأى قلق عسكره عاد إلى دمشق تاركا المدافع والخيام والذخر، فغنمها الأمير وأقام أخاه الأمير سيد أحمد في قلعة قب إلياس، وسلمه المدافع التي غنمها. وفي سنة 1774 سولت للأمير سيد أحمد نفسه أن يعصي أخاه الأمير يوسف، واستمال إليه بعض المخالفين لأخيه، فجمع الأمير يوسف عسكرا وحصره في قلعة قب إلياس وضيق عليه مانعا عنه الزاد والماء، فاستجار الأمير سيد أحمد بالشيخ علي جنبلاط، والشيخ كليب النكدي متعهدا أن يخرج من القلعة ويسلمها لأخيه، فأذعن الأمير يوسف لوساطة الشيخين المذكورين، وخرج الأمير سيد أحمد من القلعة بأصحابه وماله، وسار إلى الحدث فتوطنها، وسأل محمد باشا العظم الذي كان قد تولى دمشق أن يوليه البقاع، فأجابه إلى ذلك على شرط أن يرد على تجار دمشق ما سلبه من قافلتهم، فرده وأناب عنه أخاه الأمير قاسما في ولاية البقاع. وفي هذه السنة توفي الأمير منصور الشهابي الذي كان حاكما بلبنان، ودفن في جامع الأمير منذر التنوخي في بيروت. (4) في خروج الأمير علي بك المصري والشيخ ظاهر العمر في سورية
في أثناء الحرب بين الدولة العلية وروسيا أرسلت روسيا أسطولا إلى البحر المتوسط، وأثارت كثيرين من عمال الدولة عليها، وفي جملتهم علي بك المصري فحشد الجنود في مصر، وأرسلها بقيادة محمد بك المكنى أبا الذهب، فتوجه أولا إلى الحجاز فملك جدة ثم طرد الشريف من مكة، فاشتهر علي بسطوته وضربت السكة باسمه، وخلع عامل مصر وأقام عاملا آخر من قبله، وكان حينئذ واليا على عكا الشيخ ظاهر العمر، وأصله من المدينة أتى جده زيدان إلى صفد، وتولى على عكا أبوه عمر، وعند وفاته خلفه ابنه ظاهر، وكان متفقا مع المتاولة حكام صور وبلاد بشارة، ووقعت نفرة بينه وبين والي دمشق وحشد الوالي عليه عسكرا، فكتب ظاهر إلى علي بك المصري، وزين له الخروج على سورية، فجهز عشرة آلاف مقاتل وأرسلهم مع إسماعيل بك، وأمرهم أن يعتمدوا أمر ظاهر العمر، فأرسل ظاهر أولاده لملتقاهم إلى يافا، ثم حضروا إلى عكا وكان في نية ظاهر أن يضرب العسكر المصري والي دمشق الذي كان متوجها إلى الحج، فلم يشأ قائد العسكر ذلك وعاد بعسكره إلى يافا، وجهز علي بك عسكرا آخر أرسله مع أبي الذهب سنة 1770، وانضم ظاهر ورجاله إليه حتى صاروا نحو ستين ألفا، وخرج والي دمشق لقتالهم فلم يثبت إلا قليلا وخيم أبو الذهب على أسوار المدينة، فخرج أهل المدينة إليه مرحبين به فدخلها، واستقر في دار الوزارة وتسلم القلعة واستمال الشيخ ظاهر أبا الذهب إلى الأمير منصور شهاب، فأرسل الأمير إليه ثلاثة أفراس من جياد الخيل، أما عثمان باشا فتوجه بعد انهزامه إلى حمص، وأخذ يحشد الجنود حتى تألب عنده خلق كثير وأتى إسماعيل بك المذكور يغير فكر أبي الذهب ويخوفه من معاداة الدولة حتى جعله ينهض ليلا من دمشق بعساكره، فتعجب الناس من هذا التغير غير المنتظر.
ولما علم عثمان باشا والي دمشق برحيل أبي الذهب أسرع إلى دمشق، والتقاه الأمير يوسف شهاب الذي كان قد كلفه بإنجاده، فأكرمه الباشا وخلع عليه ومال إليه أعيان البلاد، فوجس منه الأمير منصور وتنزل له عن الولاية بحضرة أعيان البلاد، ولما وصل أبو الذهب إلى مصر تعجب الأمير علي بك، وسأله عن سبب رجوعه، فجعل السبب تحالف الشيخ ظاهر العمر وعشيرته عليه، ونسبهم إلى الخيانة، وكتب علي بك إلى الشيخ ظاهر يسأله عن ذلك، فأجابه ناكرا ما قال أبو الذهب وأرسل ابنه؛ ليكون رهينة على صدق قوله، ولم يلبث أبو الذهب أن أظهر العصيان على علي بك الذي أرسل إليه عسكرا أمر عليه إسماعيل بك المذكور، فاتفقا على علي بك وعادا بالجيش إلى القاهرة، ففر علي بك إلى عكا عند الشيخ ظاهر، وجلس أبو الذهب على تخت القاهرة.
وكتب علي بك والشيخ ظاهر إلى أمير الأسطول الروسي أن ينجدهما، فلبى دعوتهما، وكانت مغالبات بين عثمان باشا والشيخ ظاهر ونزيله علي بك، أفضت إلى فرار درويش باشا والي صيدا ابن عثمان باشا من ولايته، فأرسل الشيخ ظاهر أحمد أغا الدنكزلي فاستولى على صيدا، فصدر أمر الباب العالي بقتل ظاهر العمر وعلي بك، ومات عثمان باشا، وخلفه عثمان باشا المصري، وكتب إلى الأمير يوسف حاكم لبنان؛ ليجمع رجاله ليكونوا مع عسكر الدولة، وساروا جميعا إلى صيدا وحاصروها، وإذا بالأسطول الروسي قد أشرف على المدينة وشرع بإطلاق المدافع على العسكر العثماني ورجال لبنان، فتنحوا إلى حارة صيدا فخرج إليهم الشيخ ظاهر بعسكره فظفر بهم، وقفل العسكر العثماني إلى دمشق، وعاد الأمير برجاله إلى لبنان وسار الأسطول إلى بيروت، وشرع بإطلاق القنابل على أبراجها فهرب الأمراء الشهابيون منها، ودخلها الروسيون وانتهبوا كل ما وجدوا، وعادوا إلى مراكبهم، وسار الأمير يوسف برجاله إلى الحدث، وأرسل أمير الأسطول يطلب منه نفقة مراكبه ليتحول عن المدينة، فأرسل له خمسة وعشرين ألف قرش، وعاد إلى عكا وكان ذلك سنة 1771.
وفي سنة 1773 توجه الأمير علي بك، ومعه عساكر الشيخ ظاهر قاصدا الديار المصرية، فالتقاه أبو الذهب عند غزة فانكسر عسكر علي بك كسرة هائلة وجرح هو في وجهه جرحا بالغا، وسقط على الأرض فانكب عليه أبو الذهب وقبل يده، وحملوه إلى مصر ودسوا له سما في جرحه فمات وانقضى دوره.
وابتدأ دور أحمد الجزار، فهذا الرجل بشناقي الأصل، وأتى إلى مصر وارتكب جرائم وفر إلى الأمير يوسف شهاب سنة 1770، فأرسله إلى بيروت وجعل له نفقة من جمركها، ثم سار إلى دمشق وكان في عسكر عثمان باشا عند حصار صيدا على الدنكزلي، وأمر عثمان باشا الأمير يوسف أن يسلمه بيروت؛ ليحافظ عليها إذا طرقها الأسطول الروسي، فسلمه المدينة وشرع يحصنها ويمنع أهل الجبل من الدخول إليها، فعلم الأمير أنه يريد العصيان عليه، فحضر بعسكر إلى بعبدا وقابله الجزار في المصيطبة، وأظهر له الخضوع وطلب أن يمهله أربعين يوما ليخرج من بيروت، فاغتر الأمير بكلامه وأمهله، ولما مضت الأربعون يوما جاهر بالعصيان، فجمع الأمير عسكرا وحاصر المدينة وكتب إلى ظاهر العمر أن يوعز إلى الأسطول الروسي لينجده، ولما أتى اتفق معه الأمير يوسف أن يدفع له ثلاثمائة ألف قرش على أخذ المدينة وتسليمها إليه، حاصرها برا وبحرا أربعة أشهر، ثم خرج الجزار من المدينة مستسلما عن يد ظاهر العمر، فعاد الأمراء الشهابيون إلى بيروت وولى الأمير عليها حاكما من أهلها.
وفي السنة المذكورة راسل الشيخ ظاهر عثمان باشا والي دمشق بأن يتوسط له بالعفو عنه، فعفا السلطان عنه وولاه على صيدا وعكا وما يليهما، فاطمأن خاطره واستفحل أمره . وسنة 1774 استأذن أبو الذهب السلطان بأن يحمل على سورية لتأديب ظاهر العمر، وخرج من مصر ومعه عسكر كثيف، ولما بلغ غزة ارتجت له البلاد، فحاصر يافا ستين يوما، وكان كريم بن ظاهر فيها وفتحها عنوة وأهلك من كان بها ونهب أموالها، وأقبل على عكا وجاهر الأمير يوسف بطاعته فقام الشيخ ظاهر إلى صفد، ثم سار منها بأولاده إلى عرب عنزة، ثم ملك أبو الذهب صفد ونهب دير إيليا النبي، وقتل من وجد من رهبانه وهدمه. وإذ كان ذات يوم جالسا في مظلته سقط مغشيا عليه، وكان يصرخ: «ردوا عني هذا الشيخ المفترس.» والناس لا يرون أحدا ومات، فقال العامة: إن إيليا النبي خنقه. وحمل عسكره جثته وعادوا إلى مصر.
وبعد موت أبي الذهب رجع الشيخ ظاهر إلى عكا، وأرسلت الدولة العلية أسطولا أميره حسن باشا إلى سورية، فكتب إلى الشيخ ظاهر أن يؤدي ما عليه من الأموال، وإلا فيعزل عن ولايته، فجمع أولاده وأصحاب مشورته واستشارهم، فاختلفت آراؤهم وصوب بعضهم دفع المال، وكان رجل اسمه إبراهيم الصباغ قيم بيته أمره أن يعد المال، فاعتذر وقال: «ليس عند الشيخ إلا رجال وسلاح، فليفعل حسن باشا ما شاء.» فاشمأز الدنكزلي وخرج إلى من كانوا على الأبراج، وقال: «إن الشيخ يريد أن يلقي نفسه بالنار، اسلموا بأنفسكم، وسدوا أفواه المدافع ولازموا الإقامة عليها حتى لا يطلق أحدها.» ولما أبطأ الجواب قام حسن باشا بالأسطول إلى عكا، وأمر والي القدس أن يحضر بعسكره إلى هناك، وأخذ الأسطول يرمي المدينة بالقلل فأرسل الشيخ ظاهر المغاربة؛ ليطلقوا المدافع على المراكب، فقال من في الأبراج: «إننا قوم مسلمون لا نحارب السلطان.» واعتصموا في الأبراج لا يدعون أحدا يدخل إليها، فلما علم الشيخ ظاهر ذلك فر من البلد، وبينما هو خارج من الباب رماه أحد المغاربة برصاصة أصابته في صدره، ودخل حسن باشا إلى عكا، فإذا هناك من الأموال والسلاح والتحف ما لا يحصى. وأرسل حسن باشا كتاب الأمان إلى أولاد الشيخ ظاهر، فحضر إليه أربعة منهم فقبض عليهم وقتل واحدا منهم؛ لأنه تطاول بالكلام على الدولة، وأرسل الثلاثة مع رأس أبيهم إلى الأستانة وقبض على إبراهيم الصباغ، وعذبه حتى أقر بكل ما يعلمه من ذخائر مولاه وشنقه، فسبحان الباقي. (5) في ما كان بسورية في أيام السلطان عبد الحميد خان الأول
إن السلطان مصطفى الثالث توفي سنة 1774، وخلفه أخوه السلطان عبد الحميد الأول، ومما كان في أيامه بسورية أنه لما كان الجزار قد نصب واليا على صيدا سنة 1776، خاف الأمير يوسف حاكم لبنان لما كان بينهما من العداوة، وأسر بالأمر لحسن باشا المكلف بإصلاح شئون سورية، فأجابه كن آمنا فإذا رجعت إلى الأستانة عزلته، وطلب منه أن يدفع له مائة ألف قرش كانت باقية عليه من المال الأميري، فوضع يده على ريع عقارات تخص الحكومة كانت بيد أقربائه، فثار الأمراء عليه ونهضوا إلى البقاع فحشد الأمير رجالا سار بهم، ففروا من وجهه واسترضاه الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا عنهم، وبقي أخواه الأميران سيد أحمد وأفندي يحزبان عليه، فاضطر الأمير أن يرد عليهما إقطاعهما، وسافر حسن باشا إلى الأستانة، ونهض الجزار بعسكر من صيدا إلى بيروت، فاستحوذ عليها وضبط أملاك الشهابيين بها وشدد على الأمير يوسف بطلب الأموال عن ثلاث سنين ماضية، فكتب الأمير إلى حسن باشا وكان بلغ إلى قبرس، فعاد وأخرج الجزار من بيروت وطيب قلب الأمير، وبينما كان فرسان الجزار راجعين إلى صيدا أكمن لهم المشايخ النكدية في السعديات بقرب الدامور، فاندفع الفرسان عليهم وقتلوا منهم كثيرين وأسروا شيخين منهم، وكتب الأمير يوسف إلى الجزار معتذرا بأن ذلك لم يكن بعلمه، والتمس إطلاق الشيخين وجعل له فدية عن ذلك مائة ألف قرش، فأجابه الجزار إلى ذلك ووزع الأمير المبلغ على البلاد، فأبى الأمراء اللمعيون دفع ما نابهم منه، فالتمس الأمير من الجزار إرغامهم على الدفع، فأرسل عسكرا على المتن فأحرق المكلس والدكواني والجديدة، وقتل جماعة ثم دهم الشويفات فصده رجالها فقفل إلى بيروت ثم سار إلى صيدا، وخرج منها بعسكر إلى البقاع وضبط كل ما بها للبنانيين من الغلات، فاتفق حينئذ الأمير يوسف مع الأمراء اللمعيين وجمع عسكرا زحف به إلى المغيثة، وكان بين الفريقين وقعات كان النصر فيها لعساكر الجزار.
وكانت في هذه الأثناء وقعات بين عساكر الجزار، والشيخ علي بن ظاهر العمر في نابلس قتل فيها ابناه الحسن والحسين، ففر الشيخ علي إلى نيحا بالشوف، وراسل الأمير يوسف أن يقبله في بلاده وهو يكفيه مئونة القتال للجزار، فلم يقبله الأمير خوفا من الجزار، وعاد الشيخ إلى نابلس فقتله علي أغا القيصري بدسيسة من محمد باشا العظم والي دمشق، وزال مجد بيت ظاهر العمر بعد قتل الشيخ علي واستحوذ الجزار على بلادهم.
وفي هذه الأثناء أرسل يوسف باشا والي أطرابلس، فكبس الأمير حيدر أخا الأمير يوسف بأهدن، وحاصره يومين فتسارع الناس من جبة بشري وغيرها، ودفعوا عسكر أطرابلس إلى أميون، وبلغ ذلك الأمير يوسف، فنجد أخاه وزحف إلى أميون ففر عسكر أطرابلس، وقتل منهم جماعة.
وفي سنة 1778 وما بعدها كانت مغالبات بين الأمير يوسف وأخويه الأميرين سيد أحمد وأفندي على ولاية لبنان، والجزار يتلاعب بالفريقين إلى أن جمع الأمير يوسف أعيان البلاد في الباروك، وخلع نفسه أمامهم من ولاية البلاد وسلمها إلى أخويه، وأقطعاه إقطاعات في كسروان وأسقطا عنه المال الأميري، فوجه الجزار خلعة الولاية لأخويه وأقاما في دير القمر، وعاد هو إلى غزير ولكن لم يطل الوقت حتى جد وقع النفور بينهم، وجمع أخواه رجالا في بعبدا وجمع هو محازبيه، واستنجد أصحابه المراعبة ولاة عكار وبني رعد ولاة الضنية، فجزع أخواه وكتبا إلى الجزار، فأرسل لهما عسكرا، وحضر هو إلى بيروت فقام الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى بعقلين، وأرسل يعد الجزار بمائة ألف قرش؛ ليعزل أخويه فرضي عنه ورده إلى الولاية، فدخل الأمير يوسف باحتفال إلى دير القمر وفر أخواه إلى المتن.
وفي سنة 1782 أحدث الأمير يوسف ضريبة على التوت سموها البزرية، فأثار أخواه الجنبلاطية عليه، وجمعوا حشدا وساروا به إلى قرب دير القمر قاصدين طرده وقتل مدبره سعد الخوري، فوعد الأمير بإبطال الضريبة ، فانفض الحشد واستمر الأميران والجنبلاطية على عزمهم. وفي سنة 1783 اجتمعوا في دار الأمير أفندي ليلا؛ ليمضوا إلى كنيسة التلة ليقسموا على اتفاقهم على طرد الأمير وقتل مدبره، وعرف الأمير ذلك فأكمن لهم المغاربة في طريقهم فقبضوا على الأمير أفندي، وفر الأمير سيد أحمد، ولما رأى الأمير يوسف أخاه حملته سورة غضب، فقتل أخاه بيده، وأما الأمير سيد أحمد فاتفق مع الشيخ حسن جنبلاط، والشيخ عبد السلام العماد على خلع الأمير يوسف، فخاف الأمير يوسف وأسرع إلى الجزار ووعده بثلاثمائة ألف قرش، فولاه وأرسل معه عسكرا قام به إلى إقليم الخروب، وحشد الأمير سيد أحمد عسكرا، وأرسله مع ابن أخيه الأمير قعدان، والتقى الجيشان بعانوت فانكسر عسكر الأمير قعدان وهو نجا منهزما، وارتاع الأمير سيد أحمد ففر ومعه الشيخ قاسم جنبلاط إلى صليما عند الأمير إسماعيل اللمعي، فضبط الأمير يوسف أملاكهم وهدم مساكنهم والتجأ الأمير سيد أحمد إلى محمد باشا العظم والي دمشق، فولاه على وادي التيم والبقاع وأصحبه بعسكر وأتى معه الجنبلاطية إلى قب إلياس، والتقاهم الأمير، فكانت الحرب بينهم ثلاثة أيام فانهزم الأمير سيد أحمد والجنبلاطية إلى الزبداني، وعاد الأمير يوسف إلى دير القمر، وأخذ يصادر محازبي أخيه، ثم تدخل الأمير إسماعيل خال الأمير يوسف بالصلح بينهم وبين ابن أخيه، فرضي الأمير يوسف عنهم بشرط أن يدفعوا مائة وخمسين ألف قرش، فدفعوها وعادوا إلى وطنهم، وأمر الأمير يوسف الأمير سيد أحمد أن يسكن بالشويفات فأطاعه. ثم استحوذ الجزار على بلاد بشارة بإرساله عسكرا ضخما إلى بني منكر وبني صعب المتاولة، فحاربهم وقتل رئيسهم نصيف النصار، فهربوا إلى بلاد عكار عند محمد بك الأسعد.
وفي سنة 1785 كانت فتنة بين الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل والي حاصبيا؛ لأن الجزار عزل الأمير إسماعيل عن ولاية مرجعيون وولى عليها الأمير يوسف، فدفع الأمير إسماعيل إلى الجزار ثلاثمائة ألف قرش على ولاية لبنان ومرجعيون، فشرط الجزار عليه أن يكون معه واحد من الأمراء اللبنانيين ... فاستدعى الأمير سيد أحمد فلم يتوقف عن القبول وحضر إلى عكا، فخلع الجزار عليه وعلى الأمير إسماعيل، وسير معهما عسكرا وأرسل الأمير يوسف عسكرا مع مدبره الشيخ سعد الخوري، فكانت بين العسكرين وقعات كان النصر فيها لعسكر الأمير يوسف، واستدعى المتاولة المذكورين من عكار، وأطلق لهم السطو على عمال الجزار في بلاد بشارة، وعاد عسكر الأمير إلى دير القمر، فعاد عسكر الجزار ومعه الأميران سيد أحمد وإسماعيل، وظهرت خيانة الحزب الجنبلاطي، فقام الأمير يوسف إلى المتن ودخل الأميران إلى دير القمر، وحضر أعيان البلاد وسلموا الأمر إليهما، وسار الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى كسروان وبلاد جبيل، وأتبعه الأمير إسماعيل وقام الأمير سيد أحمد إلى البترون، فانصرف الأمير يوسف إلى عكار وكتب إلى الجزار يلتمس صفو خاطره، فأوعز إلى سعد الخوري أن يعود بمولاه فيرده الجزار إلى ولايته فعاد للحال من عكار، فوجد الجزار ببيروت وأخذه معه إلى عكا، وتعهد الأميران إسماعيل وسيد أحمد للجزار بدفع خمسمائة ألف قرش إن أهلك الأمير يوسف، وتعهد الأمير يوسف بدفع ألف ألف قرش في مدة ثلاثة أشهر، فخلع عليه وأصحبه بعسكر وافر وأبقى عنده الشيخ سعد رهنا، وأسرع الأمير يوسف إلى دير القمر وقتل خمسة من خدام الأمير إسماعيل، وفر الأمير سيد أحمد إلى المتن وقبض الأمير يوسف على الأمير إسماعيل وعلى نحو من خمسمائة رجل من أتباعه، وألقاهم بالسجن وصادر الجنبلاطية بأموال وافرة، وانهزم الأمير سيد أحمد إلى حوران.
وفي سنة 1786 توفي الأمير إسماعيل في سجنه وعاد الأمير سيد أحمد إلى صليما نزيلا على امرأة أخيه، فأمنه أخوه وأمره أن يسكن بحمدون، وأطلق له أملاكه ثم قبض عليه سنة 1787، وسمل عينيه وأرسله إلى عبية. وفي هذه الأثناء توجهت ولاية دمشق على الجزار، فسار إليها ومعه الشيخ سعد الخوري، وتوجه إلى الحج، ولما عاد شكا له الشيخ سعد من مرضه، فبعث به إلى داره بهودج، وتوفي في جبيل ولم يبق الجزار على ولاية دمشق إلا سنة واحدة، وشكا المسلمون جوره بدمشق فأمر بالعود إلى عكا فعاد إليها.
وفي سنة 1787 أمن الأمير يوسف الأمير نجم أخا الأمير إسماعيل، فعاد من دمشق ولما دخل على الأمير قتله. وفي سنة 1788 ثار على الجزار بعض مماليكه الذين كان قد رقاهم إلى المناصب، وكتبوا إلى الأمير يوسف فارتاح إلى مناصرتهم، ولكن شتت الجزار شملهم وعزم على الانتقام من الأمير يوسف. وكانت بعض وقعات بين عسكر الجزار ورجال الأمير، وكان النصر فيها لعسكر الجزار، فعول الأمير على التنزل عن الولاية، ونقل عياله إلى المتن وجمع أكابر البلاد وأبدى لهم عجزه عن الولاية والمشاحنة بينه وبين الجزار، وأطلق لهم أن يختاروا واليا من أرادوا فاختاروا الأمير بشير قاسم المعروف بالكبير؛ لأنه كان فتى نبيلا والجزار يميل إليه، وبينه وبين الجنبلاطية موادة، فأحضره الأمير يوسف وأشار عليه أن يتوجه إلى عكا، ويأخذ خلعة الولاية فأجابه: أخاف أن أمضي ابنك وأرجع ابن الجزار، وتوجه وقلده الجزار الولاية على الشوف وكسروان، وأصحبه بألف عسكري وأمره أن يطرد الأمير يوسف، فأرسل الأمير بشير يخبره بأمر الجزار فقام متدرجا إلى لحفد، وقام الأمير بشير إلى وطا الجوز، ثم إلى العاقورة، وجمع الأمير يوسف المشايخ الحمادية ومشايخ جبة بشري، وأرسلهم مع رجاله إلى المجال، وكانت وقعة اندحر فيها رجال الأمير يوسف، وقتل منهم الشيخ يوسف بولس شيخ أهدن وخلق كثير، وفر الأمير يوسف إلى أهدن، وسار الأمير بشير إلى لحفد، وأرسل الجزار ألف فارس إلى البترون، وأرسل والي أطرابلس يحذر الأمير يوسف أن يقوم من أهدن، فقام بجماعته إلى بعلبك ثم إلى الزبداني ثم إلى منين، وبقي هناك أربعة أشهر.
وفي سنة 1789 كتب إبراهيم باشا والي دمشق إلى درويش باشا والي أطرابلس أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل، فولاه إياها فكتب الأمير بشير إلى الجزار فأرسل عسكرا إلى حرش بيروت، وأمره أن يقوم إلى جبيل ويطرد الأمير يوسف، فسير الأمير بشير أخاه الأمير حسنا بذلك العسكر، ففر الأمير يوسف إلى كرك بعلبك، واختبأ مدبره الشيخ غندور الخوري في الضنية، وصرف رجاله إلى أوطانهم وأقام فارس الشدياق بدلا من الشيخ غندور، وأرسله إلى دمشق وكيلا عنه، وسار هو إلى حوران. (6) في ما كان بسورية في أيام السلطان سليم الثالث
توفي السلطان عبد الحميد الأول سنة 1789، وخلفه السلطان سليم الثالث، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير يوسف كتب إلى الجزار يستأذنه بالحضور إلى عكا، فأذنه فدخل عليه وفي عنقه منديل الخضوع فأمنه وأكرمه، وأقام عنده خمسة أشهر. وفي سنة 1790 خلع عليه خلع الولاية على لبنان بعد أن تعهد له بدفع ستمائة ألف قرش، ورهن عنده على ذلك ابنه الأمير حسينا ومدبره الشيخ غندور الخوري، واتخذ فارس الشدياق مدبرا عوضا عن غندور، فقام الأمير بشير إلى نيحا، ثم إلى عكا وتعهد للجزار بدفع زيادة على ما دفع الأمير يوسف، فأنعم عليه بخلعة الولاية على لبنان، وأمر أن يلقى الأمير يوسف بالسجن ومعه عشرة من خدمه من بيت الدحداح وسمعان البيطار، وفارس الشدياق، وأمر الأمير بشير أن يسرع إلى دير القمر، ويأخذ معه الأمير حسينا ابن الأمير يوسف، ولما وصل إلى دير القمر قبض على كل من وجده من محازبي الأمير يوسف، وأودعهم السجن، ووجه جباة يجمعون المال، فاجتمع الأمراء اللمعيون، ووجوه المتن في مأتم الأمير محمد اللمعي وائتمروا على الأمير بشير، واختاروا مكانه الأميرين حيدر ملحم وابن أخيه قعدان، وبثوا إلى وجوه البلاد ما عزموا عليه، وطردوا جباة المال، فجمع الأمير بشير رجاله وسار إلى عين دارا، واجتمع المتنية في حمانا، وسار الأمير حيدر ملحم إلى أعبية واتفق مع ابن أخيه الأمير قعدان، وضوى إليهما بعض المشايخ النكدية والعمادية، وخاف الأمير بشير أن يسبقاه إلى دير القمر فأسرع إليها، وأرسل الجزار ألفا من الأرناؤط إلى حرش بيروت، فخاف الأمير حيدر ملحم وقام إلى العبادية واتفق مع المتنية، وأرسل الأمير بشير رجالا لمساعدة عسكر الجزار، فكانت بينهم وبين المتنيين وقعات انهزم بها المتنيون وقتل منهم خلق كثير، وكتب الأمير بشير إلى الجزار يخبره وينسب هذه الثورة إلى الأمير يوسف، وكان الجزار في طريق الحج فغضب، وكتب إلى نائبه في عكا أن يشنق الأمير يوسف ومدبره غندور الخوري ، ثم خمد غضبه وكتب إلى نائبه أن يتوقف عن شنقهما، وبلغ الأمر الثاني قبل الأول فأخفاه النائب بإشارة ابن السكروج؛ لأنه كان عدوا للشيخ غندور وأخذهما إلى المشنقة، فشنق الأمير يوسف وأما الشيخ غندور فمات خوفا، وقيل: شنقا.
إن قتل الأمير يوسف والشيخ غندور لم يخمد الثورة التي ابتدأت في المتن على الأمير بشير، وعند رجوع الجزار من الحج أسف على قتل الأمير يوسف، وأمر بقتل ابن السكروج، والتمس الأمير بشير منه إطلاق المسجونين من أتباع الأمير يوسف وكفلهم فأطلقوا، وكتب الجزار إلى والي دمشق أن يرسل عسكرا لمساعدة الأمير بشير، وأرسل هو عسكرا إلى البقاع وأمر الأرناؤط الذين كانوا في حرش بيروت أن يحضروا إلى صيدا، ولما شعر النكدية بمرورهم التقوهم بالسعديات، وقتلوا منهم نحو مائتي رجل فكتب الجزار إلى قائدي عسكريه في صيدا والبقاع أن ينهضا بالعساكر إلى المتن، وسار الأمير بشير بعسكر من صيدا، وأظهر حينئذ العصيان أهل الغرب والشحار والجرد، وأهل دير القمر أيضا، وتجمعوا وأكمنوا للأمير عند صحراء الشويفات، لكنهم اندحروا وقتل منهم نحو عشرين رجلا، وكانت بعد ذلك أي: سنة 1790 وسنة 1791 سلسلة حروب متصلة في ساحل بيروت والبقاع وحاصبيا، وإقليم الخروب والشوف ... وكانت النهاية أن الجزار لما رأى أن عساكره لا تستطيع أن تكره اللبنانيين على طاعته كتب للأمير بشير أن يرجع بالعساكر إلى عكا، فرجعوا وأمر الأمير أن يقيم بصيدا وجعل له نفقة كافية، وكان الأميران حيدر ملحم وقعدان أقاما في دير القمر حاكمين، فصرفا أهل البلاد كلا إلى محله، لكنهم بطروا وتمردوا وسطا بعضهم على أهل الساحل وبيروت، فأقفل المسلمون أبواب المدينة على من كان فيها من الجبل وقتلوا ستين رجلا، فرفع أعيان البلاد عريضة للجزار التمسوا فيها الصفح، وأن يولي عليهم الأميرين حيدر وقعدان وتعهدوا بدفع الأموال مع زيادة أربعة آلاف كيس عليها، وبعد التوثق على ذلك أرسل إليهما الخلع، وأمر بحجز الأمير بشير بصيدا وأخاه الأمير حسنا ببيروت.
وفي سنة 1792 التمس جرجس باز من دير القمر من الأميرين أن يأجرا أولاد الأمير يوسف بلاد جبيل، فأجراهم إياها بستين ألف قرش كل سنة، وتوجه هؤلاء الأمراء إلى جبيل ومعهم مدبرهم جرجس باز المذكور، وطلب لهم خلع الولاية من والي أطرابلس فأرسلها إليها، وأخذ يستميل أعيان البلاد إلى هؤلاء الأمراء، فمالوا إليهم واستهانوا بالأميرين الحاكمين حتى أصبحا عاجزين عن تدبير مهام البلاد، فأشار عليهما بعض أصحابهما أن يسلما الولاية إلى أولاد الأمير يوسف خشية أن ترد إلى الأمير بشير، فارتضيا بذلك وأرسل جرجس باز أخاه عبد الأحد إلى الجزار بمائة ألف قرش، فأنعم على أولاد الأمير يوسف بخلع الولاية، وأتوا من جبيل إلى الحدث والتقاهم الأميران حيدر وقعدان إلى هناك، وساروا جميعا إلى دير القمر.
أما الأمير بشير فالتقى بالجزار عند عوده من الحج إلى المزاريب، وكان كثيرون من أعيان البلاد قد التسموا منه إعادة الأمير بشير إلى الولاية، فأنعم عليه بها وأصحبه بعسكر إلى صيدا، وأرسل هو إلى الشوف أخاه الأمير حسنا والشيخ بشير جنبلاط ومعهما ألف فارس وحلوا بالمختارة، فجمع الأمير قعدان وجرجس باز نحو ألف رجل فتقوى عليهم الأمير حسن، وهزمهم إلى برج بعقلين، ونهض الأمير بشير إلى السمقانية ففروا من بعقلين إلى جبيل، ومعهم محازبوهم وقام الأمير إلى حرش بيروت وأرسل رجالا للقبض على بعض المذنبين، فاجتمع أهل المتن وطردوا أولئك الرجال ودعوا أولاد الأمير يوسف ليأتوا إلى المتن، ونهض الأمير بشير لكبتهم فالتقاه بعضهم، وأطلقوا الرصاص فهجم عليهم فانهزموا، وتبعهم إلى العبادية ورأس المتن وقتل منهم جماعة، وحضر الأمير حسن ابن الأمير يوسف برجال كسروان وبلاد جبيل والقاطع إلى بعبدات، لكنه رأى المتنية مذعورين فعاد إلى جبيل، وقدم الأمراء اللمعيون طائعين، وأما الأميران حيدر وقعدان فسأل بعض أصحابهم الأمير أن يعفو عنهما، فأجابهم إلى ذلك وغرم النكدية بخمسين ألف قرش ثم طيب خاطرهم، وفي سنة 1794 شكا سر عسكر الجزار إليه أن الأمير جمع أموالا كثيرة، ولم يجر عليهم أرزاقهم، فأمره أن يقبض على الأمير وأخيه حسن، والشيخ بشير جنبلاط ويحضرهم إلى عكا فاعتقلهم، وسار بهم بحرا إليها ، وكتب الجزار إلى أولاد الأمير يوسف أن يحضروا إليه فحضر منهم حسين وسعد الدين إلى الساحل، فأرسل لهم خلع الولاية فسار الأمير حسين إلى دير القمر، ومعه مدبره جرجس باز، وسار الأمير سعد الدين إلى جبيل، ومعه فرنسيس باز وأخذ، الأمير حسين ينتقم من محازبي الأمير بشير، فاتفق حسن جنبلاط والعمادية، ودعوا الأمير عباس أسعد وقاموا معه إلى بعقلين قاصدين أن يدهموا الأمير حسينا، فكتب إلى الجزار أن هذه الثورة من الأمير بشير فأمر بسجن الأمير بشير وأخيه الأمير حسن مغللين، وأنفذ عسكرا إلى الشوف فاختفى حسن جنبلاط، وفر العمادية إلى حوران، وحضر الأمير عباس إلى الأمير حسين فطيب خاطره.
وفي سنة 1795 تقدمت إلى الجزار شكاوى من ظلم أولاد الأمير يوسف وجرجس باز، فأمر بإطلاق الأمير بشير وأخيه من السجن، وتعهد له بدفع ثمانمائة ألف قرش قسوطا، ورهن عند أخاه الأمير إبراهيم وغيره، فخلع على الأمير بشير خلعة الولاية، وأصحبه بعسكر فقام إلى لبنان، ففر الأمير حسين ومحازبوه إلى جبيل، ثم دعاهم الأمراء اللمعيون، واجتمعوا بالبقاع فنهض الأمير بعسكره إلى الباروك ثم إلى المغيثة ومعه عسكر الجزار، فانهزموا إلى البترون، وقام الأمير إلى كسروان فتقدم إليه المشايخ الدحادحة، وكانوا مع الأمير يوسف فجعلهم كتابا عنده وعند أخيه، وأرسل بعض أتباعه يدهمون أولاد الأمير يوسف في البترون، ففروا مذعورين إلى أطرابلس، وسار الأمير حسن أخو الأمير بعسكر الجزار إلى زغرتا قاصدا حصار أطرابلس، فأمر الجزار الأمير بشيرا أن يعود إلى دير القمر، ويبقي أخاه مع العسكر في جبيل، وانهزم أولاد الأمير يوسف إلى عكار، وضبط الأمير بشير أملاكهم وهدم مساكن النكدية.
وفي سنة 1796 ولى خليل باشا والي أطرابلس الأمير سليم ابن الأمير يوسف على بلاد جبيل، وأرسل معه عسكرا إلى البترون فأرسل الأمير أخاه وبعض الأمراء والمشايخ، والتقى الفريقان في أرض عمشيت فانكسر عسكر الأمير سليم، وانهزموا إلى أطرابلس، ثم جهز والي أطرابلس عسكرا آخر، والتقاهم الأمير حسن وعسكر الجزار فدحروهم إلى عكار، ثم دعا والي دمشق أولاد الأمير يوسف إلى البقاع، وأرسل عسكرا إلى هناك وأرسل الأمير بشير الأمير حيدر أحمد وعسكر الجزار، واتقع الفريقان فانهزم عسكر دمشق وفر أولاد الأمير يوسف إلى دمشق.
وفي هذه السنة كان مقتل المشايخ النكدية، فإنهم كانوا يخالفون الجنبلاطية والعمادية في التقلبات المار ذكرها، فاتفقوا على قتلهم برضى الأمير بشير، فطلبوا إلى دار الحكومة في دير القمر وقتل من أتى منهم، ثم أرسلوا إلى بيوتهم في أعبية فهرب أولادهم، ونهبوا بيوتهم ثم قبضوا عليهم وسجنوهم، ثم قتلوهم في سجنهم.
وفي سنة 1797 أمر عبد الله باشا والي دمشق أولاد الأمير يوسف أن يقيموا بحماة، وورد أمر من الجزار أن يحضروا إليه آمنين فحضروا مع مدبرهم جرجس باز، فرحب بهم. وفي سنة 1798 ولى أولاد الأمير يوسف مكان الأمير بشير، لكنه وقفهم عن المسير إلى لبنان؛ لأنه بلغه خبر وصول بونابرت إلى الإسكندرية. وفي سنة 1798 قدم بونابرت إلى عكا وحاصرها، فاستنجد الجزار بالأمير بشير، فاعتذر له بأن أهل البلاد عرفوا أنه ولى أولاد الأمير يوسف، فما عادوا يطيعونه، وكتب بونابرت إلى الأمير بشير فلم يجبه ثم كتب إليه كتابا آخر يعتبه به؛ لأنه لم يجبه، فوقع هذا الكتاب بيد الجزار فرضي عن الأمير بشير. ولما ارتحل بونابرت عن عكا خاف الأمير والنصارى من الجزار، وكان الأميرال سميت رئيس الأسطول الإنكليزي قد كتب إلى الأمير بشير كتابا وداديا وزاره بعين عنوب، وتعهد له بكف الجزار عن المضرة له، وحضر حينئذ الصدر الأعظم إلى سورية، فأنعم على الأمير بشير بخلع الولاية على لبنان، ووادي التيم وبعلبك والبقاع وبلاد المتاولة واعدا إياه أن يبقى واليا بأمر الدولة، وليس لوزراء صيدا ودمشق تسلط عليه بل يورد المال إلى الخزينة، على أن اليزبكية اتفقوا مع الأمير قاسم والي حاصبيا وطلبوا عسكرا من الجزار لمقاومة الأمير بشير، فوجه عسكرا إلى خان حاصبيا ونهض اليزبكية به إلى البقاع، وأرسل الأمير بشير الشيخ بشير جنبلاط برجاله، واضطرمت نار الحرب بين الفريقين إلى المساء وقتل منهما جماعة وافرة، واستمد الأمير بشير عبد الله باشا والي دمشق ، فأرسل المنلا إسماعيل بألف فارس إلى البقاع، وبعث إلى رؤساء عسكر الجزار أن ينكفوا عن مقاومة الأمير، فانقادوا لأمره وهرب الأمير قاسم واليزبكية إلى عكا، واحتدم الجزار ولم يلتفت إلى أمر الصدر الأعظم، وولى الأميرين حسين وسعد الدين ابني الأمير يوسف على لبنان، وأصحبهما بستة آلاف فارس وأربعة آلاف راجل، فسار الأمير حسين بالفرسان إلى البقاع ومعه جرجس باز، والأمير سعد الدين بالمشاة إلى إقليم الخروب ...
فقام الأمير بشير إلى عين بال، وطلب رجال البلاد فقل من لبى دعوته وانفض الأمراء اللمعيون عنه، فقام إلى البقاع ثم نهض إلى بلاد جبيل، وليس معه من الشوف إلا الجنبلاطية ونحو خمسمائة رجل، وتوجه إلى الكورة ثم إلى راسكيفا، وسار الأمير حسين حتى بلغ البترون ثم أميون، ففر الأمير بشير إلى الهرمل وقصد أن يقيم بحوران، فورد له كتاب من الأميرال سميت يطلب حضوره إلى غزة لمقابلة الصدر الأعظم، وأرسل له مركبا إلى أطرابلس سار به، ومعه الشيخ سلوم الدحداج وبعض خدمه، وتلقاه الصدر الأعظم بالترحاب، وطيب قلبه وعرض عليه أن يصحبه بعشرة آلاف جندي لقتال الجزار، فامتنع من ذلك واستأذنه أن يسافر مع الأسطول إلى قبرس، وبقي فيه مدة ولما عاد إلى مصر وجد أن الإفرنسيين كسروا الصدر الأعظم، وعاد إلى يافا فطلب من الأميرال أن يرده إلى أطرابلس، فرده إليها ونزل عند مصب نهر البارد وسار إلى الحصن عند علي بك الأسعد، حيث كان أخوه والشيخ بشير جنبلاط.
وكان ابنا الأمير يوسف قد عجزوا عن جمع المال المطلوب للجزار، فأنفذ ألف فارس لجباية المال من البقاع، وألح بطلب المال كاملا مع مطالب أخرى فأرسل الأميران محصلين لجمعها، فهاج أهل البلاد وطرد المتنيون المحصلين، وأرسل الجزار الأرناؤط إليهم فاستعدوا لقتالهم، وأجمعوا على إعادة الأمير بشير إلى الولاية، ووافقهم أكثر أعيان البلاد فأرسلوا ثلاثمائة رجل إلى الحصن يستدعون الأمير بشير، فعاد معهم إلى لبنان، فاضطرب الأميران وأسرع جرجس باز إلى الجزار، فجهز ألفي مقاتل من الأرناؤط ووعده بإرسال عسكر من الفرسان، وقام الأمير بشير إلى حمانا فالتقاه الجميع بالسرور، واتحد معه أكثر الأمراء اللمعيين، فنهض إلى الباروك ثم كفرنبرخ، ووصل جرجس باز بالأرناؤط إلى دير القمر، وقل أصحاب أولاد الأمير يوسف، فأقنع بعضهم جرجس باز بعقد الصلح على أن يتولى الأميران بلاد جبيل، ويتولى الأمير بشير باقي البلاد فرضي بذلك، وقام الأمير حسين بعسكر الجزار إلى ساحل بيروت، ودخل الأمير بشير دير القمر.
على أن جرجس باز عدل عن الصلح، وجرت وقعات كان النصر في آخرها للأمير، فأذعن جرجس باز وعقد الصلح بشروطه المار ذكرها، ولما علم الجزار بما كان تمزق غيظا، وكان ذلك سنة 1800. (7) في غزوة بونابرت لمصر وسورية
في سنة 1798 سار نابوليون بونابرت من قبل الجمهورية الإفرنسية لفتح مصر دون معالنة الدولة بالحرب، فاحتل مالطة بطريقه واستحوذ على مصر وأرسلت إنكلترا مراكبها، فكانت وقعة هائلة بين مراكب الدولتين انجلت عن تدمير مراكب إفرنسة، ووافقت روسية أيضا الدولة العلية وقطعت الدول الثلاث خط الاتصال بين إفرنسة وجيشها، وأراد بونابرت أن يباغت الدولة بأخذ سورية أيضا، فسار إليها بثلاثة عشر ألف مقاتل فأخذ العريش وغزة والرملة، ثم يافا وبلغ إلى عكا وحاصرها برا وكانت عساكر الجزار تقاومه من داخل، والأسطول الإنكليزي يرشقهم بالقلل النارية، وحضر المتاولة من بلاد بشارة، فولاهم بونابرت على هذه البلاد وحضر الشيخ صالح بن ظاهر العمر، فولاه على صفد. وقد علم بونابرت أن الجيش العثماني قادم للدفاع عن عكا، فأرسل فرقة من جيشه بإمرة القائد كليبر، فالتقت بالجيش العثماني عند جبل طابورة، فأحاطها من كل جهة فصبر الإفرنسيون على القتال مع قلة عددهم، وأسرع بونابرت لنجدتهم وإنقاذهم فشتت شمل أعدائهم لكن بونابرت رأى فتح عكا متعذرا عليه لمقاومة مراكب الدول الثلاث له، وتوارد عساكر الدولة عليها واشتدت وطأة الطاعون في عسكره، فرحل عنها إلى مصر حيث كانت له وقعة مع عساكر الدولة، وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر قائدهم وكثيرا من جنوده. وبلغه أن أحوال الجمهورية مضطربة فانسل خفية ومعه بعض قادة جيشه، فظهر بباريس في أواخر سنة 1799 وترك قيادة الجيش في مصر لكليبر، وكانت وقائع انتصر بها ثم اغتاله صعلوك وسلمت قيادة الجيش إلى الجنرال منو فدافع ما استطاع وأخيرا انتهى الأمر بالتسليم، وجلاء الفرنسيس عن مصر سنة 1801. (8) في بعض المشاهير الدنيويين بسورية في القرن الثامن عشر
عبد الجليل المواهبي:
ولد بدمشق سنة 1668 وبرع في المعقولات والمنقولات، وله من التآليف نظم الشافية لابن الحاجب في التصريف وشرحها شرحا حافلا، وله تشطير بديع على ألفية ابن مالك، وله إرجوزة في العروض، وشعر باهر وغير ذلك من الرسائل وتوفي سنة 1707.
السيد إبراهيم بن حمزة:
ولد بدمشق سنة 1644، وكان ضليعا في كثير من العلوم والفنون، وله من المؤلفات كتاب سماه أسباب الحديث، وحاشية على الألفية لابن الناظم لم تكمل، وتوفي سنة 1707.
محمد الكفيري:
ولد بدمشق أيضا سنة 1733، ومن تأليفه شرحه على البخاري في ستة مجلدات، وحاشية على الأشباه والنظائر في الفقه، وشرح على الأجرومية، سماه الدرة البهية على مقدمة الأجرومية، وله العرف الندي في تخميس لامية ابن الوردي، وله غير ذلك كثير من المقالات والرسائل والشعر، وكانت وفاته سنة 1717.
أبو السعود الكواكبي:
ولد بحلب سنة 1679 وتولى الإفتاء بحلب إلى وفاته التي كانت سنة 1724، وله من المؤلفات رسالة آداب منظومة وشرحها شرحا مفيدا، ونظم رسالة سماها رسالة الوضع، ولازم التدريس، وكان له شعر رقيق.
الشيخ عبد الغني:
ولد بدمشق سنة 1640، وكان أستاذ الأساتذة ومؤلفاته كثيرة، منها بديعية في مدح النبي وشرحها، وبديعية أخرى التزم فيها ذكر الأنواع، والتحرير الحاوي بشرح تفسير البيضاوي في ثلاثة مجلدات، وبواطن القرآن ومواطن العرفان كله منظوم نحو خمسة آلاف بيت، وكنز الحق المبين في أحاديث سيد المرسلين، وكشف السر الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، والظل الممدود في معنى وحدة الجود إلى كثير غير ذلك من رحلات ورسائل ومقالات وأجوبة، وتوفي سنة 1730.
أحمد الغزي:
مفتي الشافعية بدمشق ولد بها سنة 1667، وصنف شرحا على المنحة النجمية في اللمحة البدرية، وهي كتاب في علم العربية، وله شرح على نظم نخبة الفكر في مصالح أهل الأثر، وهو كتاب في علوم الحديث لأحمد بن حجر العسقلاني، واختصر السيرة النبوية لعلي الحلبي، وكانت وفاته سنة 1730.
أحمد العكي:
ولد بعكا سنة 1683، وله من التآليف فتاوى مشهورة باسمه، وحاشية على تنوير البصائر في الفقه، وشرح منظومة ابن الشحنة في الفرائض، واختصر السيرة الحلبية، وحاشية على نزهة النظار في علم الغبار في الحساء، وشرح على ملتقى الأبحر في الفقه، وتوفي سنة 1734.
عبد الله الأطرابلسي:
ولد بأطرابلس، وله من التآليف العقود الدرية في رحلة الديار المصرية، والزهر البسام في فضائل الشام، ومختصر الإشاعة في أشراط الساعة، ورنة المثاني في حكم الاقتباس القرآني، إلى غيرها وتوفي سنة 1741.
مصطفى البكري:
ولد بدمشق سنة 1687، وله مؤلفات منها الكشف الأنسي، والفتح القدسي في العبادات وشرحه ثلاثة شروح، ومنها شرحه قصيدة الإمام أبي حامد الغزالي واثنتا عشرة مقامة، واثنتا عشرة رحلة، وسبعة دواوين وألفية في التصوف، وكتاب سماه الفرق المؤذن بالطرب في الفرق بين العجم والعرب إلى كثير غير ذلك، وتوفي سنة 1748.
محمد الغزي:
أصله من غزة وولد بدمشق سنة 1684، وكان ضليعا بالتاريخ، وألف تاريخا سماه ديوان الإسلام جمع فيه تراجم العلماء والمشاهير والملوك وغيرهم، وله شعر باهر وتوفي سنة 1753.
حامد العمادي:
ولد بدمشق سنة 1693، ومن مؤلفاته شرح الإيضاح، وفتاويه المشهورة في مجلدين، والحواشي التي جمعها على كتاب دلائل الخيرات للجزولي، وله رسائل كثيرة وديوان شعر، وتوفي سنة 1757.
محمد السفاريني:
ولد بقرية سفارين بنابلس سنة 1702، وله تأليف كثيرة، منها شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، وشرح نونية الصرصري، وسماه معارج الأنوار في سيرة النبي المختار، وتحبير الوفا في سيرة النبي المصطفى، وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، والبحور الزاخرة في علوم الآخرة، وكشف اللثام في عمدة الأحكام، إلى غير ذلك من الكتب والمراسلات، وتوفي سنة 1774.
محمد خليل المرادي:
هو ابن السيد علي المرادي مفتي دمشق، ومن مؤلفاته سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، وعنه أخذنا أكثر الترجمات التي ذكرناها هنا، وتوفي سنة 1791.
وممن كانوا من المشاهير في هذا القرن في غير سورية، السيد عبد الله الحدادي اليمني، كف بصره وهو صغير، ومع ذلك له مؤلفات كثيرة، منها رسالة المعاونة والموازرة للراغبين في طريق الآخرة، وإتحاف السائل بأجوبة المسائل، وكتاب الجامع جمع فيه المكاتبات والوصايا، والكلام المنظوم والمنثور، وله ديوان وتوفي سنة 1719. ثم علي العمري الموصلي ومن تآليفه شرح كتاب الآثار للإمام محمد، وشرح الفقه للإمام الأعظم، وله شعر حسن وتوفي سنة 1741. ثم خليل المصري الفيومي، ومن مؤلفاته الرد على الإسماعيلية سماه السطوة العدلية بالفرقة الإسماعيلية، ومؤلف في العروض وكتاب في الحديث وقصائد كثيرة، وتوفي سنة 1747. ثم محمد بن الطيب وله حاشية على القاموس، وشرح كافية ابن الحاجب، وشرح شواهد الكشاف للزمخشري إلى غير ذلك، وله شعر حسن، وتوفي سنة 1756. ثم عبد الله السويدي ومن تآليفه شرح دلائل الخيرات للجزولي، وحاشية على مغني اللبيب لابن هشام، وله ديوان شعر وغير ذلك، وتوفي سنة 1760. ثم يوسف الحفني المصري ومن مؤلفاته الحاشية على شرح الألفية للأشموني، وحاشية على شرح الخزرجية لزكريا، وشرحان على آداب البحث للمنلا حنفي، وشرح التحرير في الفقه، وله ديوان شعر مشهور، وتوفي سنة 1762. ثم محمد الصبان وله تآليف كثيرة منها شرحه لأرجوزة الأخضري في المنطق، وأرجوزة في العروض وحاشية على شرح الأشموني المشهور لألفية ابن مالك، وتعليقات على المختصر للسعد التفتزاني في المعاني والبيان، ومنظومة سماها الكافية الشافية في علمي العروض والقافية، وتوفي سنة 1791.
الفصل الخامس
في تاريخ سورية الديني في القرن الثامن عشر
في بطاركة أنطاكية وأورشليم في هذا القرن (1) في بطاركة أنطاكية الروم غير المتحدين والمتحدين في هذا القرن
بعد وفاة كيرلس المار ذكره في تاريخ القرن السالف يذكر الروم غير المتحدين أتناسيوس الدباس، فإنه بعد موت كيرلس سنة 1720 عاد إلى بطريركيته التي نازعه إياها كيرلس المذكور، ويحسبه الروم الكاثوليكيون كاثوليكيا، والظاهر أنه لم يكن كاثوليكيا مخلصا؛ لأن البابا لم يثبته، وتوفي سنة 1734، فخلفه سيليبسترس القبرسي، واستمر على البطريركية إلى سنة 1766، وخلفه تيليمون، فعاش سنة واحدة وخلفه دانيال سنة 1767، واستمر إلى سنة 1793، وبعد وفاته قام أنتيميوس وبقي إلى سنة 1813.
وأما على الروم الكاثوليكيين، فبعد كيرلس وأتناسيوس الدباس اللذين يحسبونهما من بطاركتهم صير كيرلس تاناس سنة 1724، وثبته البابا ديكتوس الرابع عشر سنة 1744، وتنزل عن البطريركية للقس أغناتيوس جوهر ابن بنت أخيه سنة 1759، وتوفي سنة 1760، وأبطل الحبر الروماني تنزله لنسيبه، وأقام مكسيموس حكيم مطران حلب بطريركا سنة 1760، فلم يعش هذا البطريرك إلا سنة وبعض أشهر وتوفي سنة 1761، ووقع الخلاف بين الأساقفة على انتخاب خلف له، فانتخب بعضهم أثاناسيوس الدهان وبعضهم أتاناسيوس جوهر، وسار هذا إلى رومة يحامي دعواه، فأثبت الحبر الروماني الدهان الذي اتخذ اسم توادوسيوس، وأبطل انتخاب السيد جوهر.
وعاد السيد جوهر من رومة كئيبا سنة 1774، واجتمع بعد ذلك بالمطارين محازيبه فانتخبوه ثانية بطريركا، فأبطل الحبر الروماني بطريركيته الثانية سنة 1765، وحرم من قاموا بهذا الصنيع، ثم خضع السيد جوهر والأساقفة محازبوه للبطريرك توادوسيوس سنة 1768، وتوفي البطريرك توادوسيوس الدهان سنة 1780، فانتخب الأساقفة السيد أتاناسيوس جوهر وثبته البابا سنة 1789، وتوفي سنة 1794 فانتخب بعده السيد كيرلس سياج الدمشقي، ولكن عاجلته المنية سنة 1796 فانتخب مكانه السيد أغابيوس مطر، وثبته البابا بيوس السادس سنة 1797.
أما بطاركة الموارنة الأنطاكيون، فكان منهم في هذا القرن جبرايل البلوزاوي بعد وفاة العلامة الدويهي سنة 1704، وتوفي سنة 1705 فخلفه البطريرك يعقوب عواد الحصروني، على أن سلامة سريرة هذا البطريرك أوقعته في العداوة لكثيرين، حتى اجتمع الأساقفة وحطوه عن مقامه البطريركي، وانتخبوا مكانه المطران يوسف مبارك، لكن الكرسي الرسولي انتصر له بعد الفحص عن دعواه، ورده إلى مقامه مكرما سنة 1713، واستمر مجاهدا بكرم الرب إلى سنة 1733 وخلفه البطريرك يوسف ضرغام الخازن، وفي أيامه عقد المجمع اللبناني سنة 1736 وتوفي سنة 1742، وبعد وفاته اختلف الأساقفة فانتخب بعضهم المطران إلياس محاسب، وبعضهم المطران طوبيا الخازن، وعرض الفريقان الأمر للحبر الروماني، فأبطل انتخاب الاثنين وانتخب المطران سمعان عواد سنة 1743، فخضع الجميع له ودبر شعبه بقداسة إلى سنة 1756، وخلفه البطريرك طوبيا الخازن، ودبر البطريركية إلى سنة 1766، وقام بعده البطريرك يوسف إسطفان، وفي أيامه كانت العابدة حنة عجيمي المعروفة بهندية، فاغتر بقداستها وحامى عنها، وكان بعض الأساقفة يخالفون، فأفضى ذلك إلى توقيف الكرسي الرسولي له عن مقامه إلى أن اتضحت براءته وخضوعه للكرسي، فرده إلى مقامه سنة 1784 وبقي يدبر ملته إلى سنة 1793، وخلفه البطريرك ميخائيل فاضل من بيروت، ولم يصل إليه درع التثبيت إلا بعد وفاته سنة 1795، وقام بعده البطريرك فيلبس الجميل، لكنه توفي سنة 1796، وخلفه البطريرك يوسف التيان. (2) في بطاركة أورشليم في القرن الثامن عشر
بعد وفاة دوزيتاوس المار ذكر خلفه البطريرك خريسنتوس سنة 1707، وكان عالما، وله كتاب في فروض الكنيسة الشرقية وغيره، وتوفي سنة 1733، وخلفه ملاتيوس، وكان شيخا فتخلى عن البطريركية ليوتينيوس من أثينا سنة 1737، ودبر شعبه إلى سنة 1766 حين تنزل لإفرام من أثينا أيضا، وتوفي سنة 1771 وقام بعده صفرونيوس السادس وكان حلبيا، ونقل سنة 1775 إلى بطريركية القسطنطينية، وخلفه بكرسي أورشليم إبراميوس الكرجي، وتوفاه الله سنة 1787، وخلفه بروكوبيوس الراكوزي، فأقام سنة واحدة وتخلى لأفتيميوس مطران قيصرية عن البطريركية سنة 1788، فأقام هذا بها عشرين سنة ويقال: إنه كان عالما وله كتاب الهداية وتفسير المزامير. (3) في المشاهير الدينيين في القرن الثامن عشر
في المشاهير الموارنة
القس يوسف الباني الحلبي:
ولد ونشأ بحلب وتخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة، وأشهر تآليفه تفسير رؤيا يوحنا الحبيب، وله ترجمة كتاب ميزان الزمان، وكتاب الكمال المسيحي في ثلاثة أجزاء وكتاب المعرف والمعترف، وتعزى إليه كتب في تفسير الرسائل والأناجيل، وتوفي بعد سنة 1712.
المطران جرمانوس فرحات:
ولد بحلب سنة 1670، ودرس علومه العربية على الشيخ سليمان الحلبي، وعلومه الفلسفية واللاهوتية على العلامة الخوري بطرس التولاوي، وانضم إلى مؤسسي الرهبانية اللبنانية الحلبية، وله تآليف كثيرة مشهورة، منها باب الإعراب عن لغة الأعراب، وبحث المطالب وحث الطالب في النحو والتصريف، والمثلثات الدرية، وبلوغ الإرب في البديع ورسالة الفوائد في العروض، وديوانه المشهور، وتعريب الكتب التي ترجمها القس يوسف الباني السابق ذكرها، وتعريب ترجمات فرماج في تفسيرات العهد الجديد في عدة مجلدات، وتعريب ترجمة أسفار العهد الجديد من السريانية إلى العربية، وترتيب السنكساري، وله ديوان البدع جمع فيه تاريخ أكثر البدع، وكتاب فصل الخطاب في صناعة الوعظ والخطب إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1732.
الأب بطرس مبارك:
ولد بغوسطا في نحو سنة 1660، وتخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة، ورقاه البطريرك إسطفانوس الدويهي إلى درجة الكهنوت سنة 1685، وأرسله إلى رومة وكيلا عنه، وسلم إليه بعض كتبه؛ ليهتم بترجمتها ونشرها، ويظهر أنه ترجم منها نسبة الموارنة، ورد التهم عنهم، وسلسلة بطاركهم، وأقامه أمير توسكانا على طبع الكتب الشرقية، ومدرسا للعلوم المقدسة، وربح أموالا فأنشأ بها مدرسة عنطورا وشرى لها من العقار ما يقوم بنفقة اثني عشر تلميذا، وسلم تدبيرها إلى الآباء اليسوعيين الذين ضوى إليهم، وله ترجمة مجلدين من تآليف القديس إفرام من السريانية إلى اللاتينية، وألحق بها مقدمات بديعة وله أيضا مقالات رد بها على كوكليوس ولبرون في رتب القداس الشرقية، ومقالة رد فيها على رينودوسيوس في بعض النوافير الشرقية، وله ترجمة ما ذكرناه من تأليف الدويهي وتوفي سنة 1742.
المطران جرجس بنيمين:
ولد بأهدن وتلقى العلوم بمدرسة الموارنة برومة، ورقاه البطريرك إسطفانوس الدويهي إلى أسقفية إهدن سنة 1690، واشتهر ولا سيما بمواعظه، وأنشأ مدرسة وكنيسة بزغرتا وسلمهما إلى الآباء اليسوعيين للرسالة والتعليم في القرية المذكورة، واعتزل الأسقفية وضوى إلى جمعية الآباء اليسوعيين، وأقام بمدرسة الموارنة برومة يعلم تلامذتها إلقاء المواعظ واللغتين السريانية والعربية، وله كتاب فند به كل البدع المشهورة.
الخوري أندراوس إسكندر:
ولد ونشأ بقبرس وتعلم بمدرسة الموارنة برومة، واستخدمه الأحبار الأعظمون في جمع الكتب من المشرق للمكتبة الواتيكانية، ودرس اللغة العربية بالمدرسة الكلية المعروفة برومة بسبيانسا (أي: الحكمة)، وسمي أستاذ اللغات الشرقية وترجمانها لدى الكرسي الرسولي، ونعرف من تآليفه مقالة في ترجمة القديس مارون، وثبت الموارنة الدائم على الإيمان الكاثوليكي بالإيطالية، وقد وقف كل ما اقتناه على مواطنيه بقبرس؛ ليصرف ريعه في تعليم كهنة منهم وعمل رسالة عندهم، ووصيته مؤرخة بسنة 1734 فنظنه مات فيها.
العلامة الخوري بطرس التولاوي:
ولد بتولا إحدى قرى البترون سنة 1657، وأرسله البطريرك جرجس البسبعلي المتعلم بمدرسة الموارنة برومة، وعاد إلى لبنان حائزا شهادة الملفنة سنة 1682، ورقاه البطريرك إسطفان الدويهي إلى درجة الكهنوت، وأرسله إلى حلب واعظا ومعلما فطارت شهرته، ورأسه مطران حلب على كهنتها، وأقام مدرسة مسيحية لا تنحط عن مدارس حلب الإسلامية الشهيرة، وتتلمذ له كثيرون وكانوا من المشاهير، وله مؤلفات كثيرة منها كتاب في المنطق مشهور باسمه، وكتاب في نحو اللغة السريانية وكتاب مجموع المجامع المارونية، وترجمة القديس توما الكمبيسي، وأخبار المجمع التريدنتي وكتاب إثبات الحقائق التي ينكرها الروم، وكتاب مواعظ في مجلدين، وكتاب في علم ما وراء الطبيعة، وكتاب في الطبيعيات، وكتاب في اللاهوت الاعتقادي خمسة أجزاء، وكتاب سماه مرآة النفوس إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1745.
العلامة يوسف سمعان السمعاني:
ولد بأطرابلس سنة 1687، وأرسله عمه المطران يوسف السمعاني مطران أطرابلس للتعلم بمدرسة رومة، فكان نابغة دهره وفريد عصره، ولما أتم دروسه عهد إليه البابا إكليمنضوس الحادي عشر أن يصنع فهرسا لاتينيا للكتب الشرقية المخطوطة، التي كان قد أتى بها إلى المكتبة الواتيكانية، وأن يلخص فحاويها، فأتم ذلك على أحسن مما كان يرجى، فجعله البابا مترجما للكتب العربية والسريانية في المكتبة الواتيكانية، وأخذ يتراقى في المراتب وتنبسط شهرته حتى حاز الرياسة على المكتبة المذكورة، ورقي إلى درجة الكهنوت سنة 1719، وسمي كاهنا في جملة خادمي النفوس في كنيسة زعيم الرسل، ومستشارا في عدة مجامع وفي جوقة رؤساء غرفة البابا إلى غير ذلك من المناصب البيعية، وأرسل قاصدا من لدن الحبر الروماني إلى طائفته لإصلاح التهذيب البيعي، فعقد المجمع اللبناني ثم سماه كرلس الرابع ملك نابولي وصقلية مؤرخا لمملكة نابولي، وحسبه من أعيان مملكته، ثم رقي إلى أسقفية صور سنة 1766، ورقد بالرب سنة 1768 برومة، ودفن بمدرسة الموارنة.
وأما مؤلفاته فكثيرة نقتصر على ذكر بعضها، فقد ذكرناها مفصلة في تاريخ سورية، وبعضها احترق في غرفته بعد موته، فمن الباقي منها المكتبة الشرقية في أربعة مجلدات، ومكتبة الناموس المدني والديني في خمسة مجلدات، وكلندريات الكنيسة كلها في ستة مجلدات، ومجموعة المؤرخين الإيطاليين في أربعة مجلدات، وترجمة تآليف القديس إفرام السرياني اليونانية إلى اللاتينية في ثلاثة مجلدات، وترجمة تاريخ ابن الراهب وشروح عليه، وترجمة سنكساري الروم من اليونانية إلى اللاتينية، وفهرست الكتب الشرقية في المكتبة الواتيكانية عاونه عليه ابن أخته المطران إسطفان عواد، وله بالعربية المجمع اللبناني، وكتاب في الإلهيات وكتاب في اللاهوت الاعتقادي، وكتاب في اللاهوت الأدبي، وكتاب في البطريركيات الأربعة، وكتاب في المنطق، وغرامطيق للغة السريانية، إلى غير ذلك من الرسائل والمقدمات والخطب.
وأما ما احترق من تآليفه فهو تكملة المكتبة الشرقية في سبعة مجلدات أخرى، وتكملة مؤلفه في الكلاندريات في ستة مجلدات، وتكملة مجموعة مؤرخي إيطاليا في ستة مجلدات، وله مؤلف في صور القديسين وذخائرهم في خمسة مجلدات، وأوخاليجيون الكنيسة الشرقية في سبعة مجلدات، ومجامع الكنيسة الشرقية في ستة مجلدات، والتاريخ الشرقي في ستة مجلدات، وتاريخ سورية القديمة والحديثة في تسعة مجلدات، كل ما مر مأخوذ من سجل صنع بعد وفاته، وحفظ في خزائن كنيسة القديس بطرس الكبرى برومة.
المطران إسطفان عواد السمعاني:
هو ابن أخت العلامة السمعاني، تخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة، ورقي إلى درجة الكهنوت، ثم رقاه البطريرك يوسف ضرغام الخازن إلى أسقفية أفاميا، وله تآليف كثيرة ونفيسة، منها شرح أعمال الشهداء الغربيين والشرقيين في مجلدين ضخمين، وفهرست الكتب الشرقية المخطوطة في المكتبة الماديشية في فيرانسة، وفهرست الكتب التي بمكتبة كيجي برومة، وفهرست الكتب المخطوطة بالمكتبة الواتيكانية مع خاله السمعاني في ثلاثة مجلدات، وله كتاب محاماة عن القديس يوحنا مارون، وترجمة التاريخ السرياني لابن العبري إلى اللاتينية، وألحق بها حواشي كثيرة مفيدة، ولم يطبع، وله ترجمة تكملة المجلد الثالث من كتب القديس إفرام السرياني إلى اللاتينية، وتوفي سنة 1782.
يوسف لويس السمعاني:
وهو ابن أخي العلامة السمعاني، ولد ونشأ بحصرون، وتخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة، وعلم اللغات الشرقية في الكلية الرومانية سابيانسا (الحكمة)، ومن مؤلفاته الكوديكس ليتورجيكوس (رتب القداس والطقوس) في ثلاثة عشر مجلدا، وكتاب في تاريخ بطاركة الكلدان والنساطرة، وكتاب في الكنائس واحترامها وحمايتها، ومقالات في الاتحاد والاشتراك الكنسي وفي قوانين التوبة القديمة، وفي مجمع الأبرشية، وله ترجمة فروض السريان إلى اللاتينية، وشرح على كتاب مورينوس في الرسامات.
القس سمعان السمعاني:
وهو ابن أخي يوسف لويس المذكور تلقى العلوم بمدرسة الموارنة برومة، وضوى إلى الرهبانية الحلبية ، ومن تآليفه فهرست الكتب المخطوطة الشرقية في المكتبة النانية ببادوا، وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، وكتاب في الكرة الفلكية.
الخوري ميخائيل:
الغزيري أصلا الأطرابلسي مولدا، وهو أحد تلامذة مدرسة الموارنة برومة، ومن تآليفه فهرست الكتب العربية بمكتبة إسكوريالي بإسبانيا في مجلدين.
إسطفان ورد:
المعلوم أنه من كفر حورا بالزاوية، وقيل: إنه من حلب، تخرج بالعلوم بمدرسة الموارنة برومة، وصار خوريا بصيدا، وله كتاب مواعظ وكتاب نزهة العباد، ورسالة إلى أبناء ملته المارونية.
الخوري أنطون القيالي:
ولد ببيروت ودرس العلوم بمدرسة رومة، وصار خوريا ببيروت، ونعرف من تآليفه رد على مطاعن القس يوحنا عجيمي بالموارنة.
في المشاهير الدينيين غير الموارنة
الشماس عبد الله زاخر:
ولد بحلب ودرس فيها العلوم البيعية على الخوري بطرس التولاوي، وهاجر حلب وأتى إلى لبنان سنة 1722، وأقام بزوق مكايل، وأنشأ مطبعة في دير القديس يوحنا الصابغ بالشوير، ونشر بها كتبا كثيرة، وله تآليف منها البرهان اليقين في إثبات القضايا الخمس التي ينكرها الروم غير المتحدين، والترياق الشافي من سم الفيلادلفي، رد على رسالة مطران فيلادلفيا، والرد على ذوي الانفصال والصد والبرهان الصريح في سري دين المسيح، والمحاماة الجدلية على الكلمات الربية، ونذر في آخر حياته النذور الرهبانية، وتوفي سنة 1748.
الخوري نقولا الصايغ:
ولد بحلب سنة 1692، وضوى سنة 1716 إلى الرهبنية الحناوية الشويرية، ورقي إلى درجة الكهنوت سنة 1719، وانتخب رئيسا عاما في رهبانيته سنة 1727، ثم سنة 1733 وبقي عليها إلى آخر حياته، ومن مؤلفاته كتاب التقدمة لخدمة عيد الجسد، وكتاب فرائض الرهبان والراهبات وديوانه المشهور، وتوفي سنة 1756.
الخوري يواكيم مطران:
ولد ببعلبك سنة 1696، ودخل الرهبانية الحناوية سنة 1731، وأخذ العلم عن عبد الله زاخر، واشتهر بمواعظه وتآليفه، فله الإيصاغوجي في المنطق، وكتاب الإيضاحات المنطقية، وكتاب التكميل وكتاب منارة القداس، وكتابا مواعظ، وتوفي بعكا سنة 1772.
الخوري يوحنا عجيمي:
ولد بقرية جون بجنوبي لبنان سنة 1724، وتلقى العلوم بمدرسة مجمع نشر الإيمان برومة، ولما أتم دروسه بها أقام بباريس أربع سنين وعاد إلى وطنه سنة 1750، ورقي إلى درجة الكهنوت، ومن تآليفه كتاب التختيكون الكنسي ، ومقالة طعن بها بالموارنة والقديس يوحنا مارون، وردها الخوري أنطون القيالي الماروني، وتوفي بأوروبا سنة 1785.
السيد جرمانوس آدم:
ولد بحلب، وتلقى العلوم بمدرسة مجمع نشر الإيمان برومة، ورقاه البطريرك كيرلس الدهان إلى أسقفية عكا سنة 1774، ثم انتقل إلى كرسي حلب، وجعله البابا بيوس السادس قاصدا من قبله في مجمع عقده الموارنة في بكركي سنة 1790، وهو مؤلف أعمال المجمع الذي عقدته طائفته في دير القرقفة، ونبذه البابا غريغوريوس السادس عشر ببراءته سنة 1835. ومن تآليفه كتاب أثبت فيه القضايا الخمس التي ينكرها الروم، وكتاب في التعليم المسيحي، ونبذة في إرشاد معلمي الاعتراف، وكتب كتابا ظهر منه أنه ينكر رياسة البابا المطلقة، فانتقده البطريرك يوسف التيان، فكتب السيد آدم ردا على انتقاد البطريرك، فأجابه برد مسهب بين له فيه أن القضايا التي كتبها تطابق تعليم أسقف بيستويا الذي نبذه الكرسي الرسولي، على أن السيد آدم أخضع كل ما ألفه لحكم الكنيسة المقدسة، وقال: إنه يقبل ما تقبله ويحرم ما تحرمه، وتوفي سنة 1809.
الفصل السادس
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن التاسع عشر
في الأحداث التي كانت بسورية في القرن التاسع عشر (1) في ما كان بسورية من سنة 1800 إلى سنة 1807
بعد اتفاق الأمير بشير وأولاد الأمير يوسف على أن يلوا بلاد جبيل والبترون من قبله وهو يلي باقي البلاد، اتفق الأمير عباس أسعد شهاب مع المشايخ النكدية على أن يولوه البلاد مكان الأمير بشير، والتمسوا له الولاية من الجزار، فأجابهم إلى ذلك، وأصحب الأمير عباس بعسكر إلى صيدا، ثم نهض إلى ساحل بيروت، وأرسل فرسان الجزار إلى جبيل فأسرع الأمراء أولاد الأمير يوسف إلى دير القمر، وأتى الأمير عباس بعسكر الجزار، فلم يتمكن من الدخول إليها فانصرف إلى الباروك، ثم إلى البقاع ونهض الأمير بشير إلى حمانا، والتقى العسكران في خان مراد، وانتشبت الحرب فانهزم الأمير عباس وعسكر الجزار، وكان ذلك سنة 1801.
وفي سنة 1802 اتفق العمادية مع الأمير سلمان سيد أحمد شهاب أن يولوه البلاد مع الأمير عباس، وحضر الأمير سلمان إلى الجزار، فوعده بالولاية وكتب إلى الأمير حسن علي أن يعاون العمادية على طرد الأمير بشير، وبلغ هذا ما نووا فقام إلى عين صوفر ومعه الشيخ بشير جنبلاط والكدية وجرجس باز فدان له أهل الجرد، واستسلم إليه الأمراء اللمعيون وأعيان المتن والتلاحقة، ففر العمادية إلى رأس بيروت، وكتب محازبو الأمير بشير إلى الجزار أنهم لا يقبلون واليا عليهم إلا الأمير بشير، وعاد هو إلى دير القمر واهتم بعض أصحابه أن يسترضوا الجزار عنه، وكتبوا له أن يرسل من يعتمد عليه إلى الجزار، فأرسل الشيخ يوسف الدحداح ومعه عريضة أجابه الجزار عليها جوابا لطيفا، فأرسل الأمير التقادم وأرسل الجزار إليه خلعة الولاية على البلاد، مستثنيا منها إقليم جزين وبرجا.
وفي سنة 1804 توفي الجزار آفة هذه البلاد، وبعد موته أخرج الشيخ طاها الكردي إسماعيل باشا من السجن، ونادى باسمه بناء على أن الجزار بايعه بالولاية بعده، وكتب الشيخ طاها إلى الأمير بشير أن يرسل التقادم، فيرسل له الباشا خلع الولاية ويطلق له ولده الأمير قاسما والأمير سليم يوسف اللذين كانا مرهونين عند الجزار، فأرسل الأمير التقادم وأرسل إليه الباشا خلعة الولاية، ولم يرسل الأميرين المرهونين، ثم ورد فرمان من السلطان سليم الثالث إلى الأمير بشير فحواه أنه نصب إبراهيم باشا مكان الجزار، وأن يكون مطيعا له متفقا معه، ولما وصل الباشا إلى دمشق أرسل الأمير إليه جرجس باز بمائة فارس، فأمر إبراهيم باشا أن تلتقيه قواد العساكر والأعيان، وأكرمه الباشا وأجرى له النفقات وكان يستشيره في مهامه، وورد فرمان آخر إلى الأمير بأن يعاون إبراهيم باشا على طرد إسماعيل باشا، ولما أتى إبراهيم باشا من دمشق التقاه الأمير إلى جسر صيدا بنحو ستة آلاف مقاتل، واعتذر له عن مقابلته؛ لأنه بعد خروجه من سجن الجزار أقسم أن لا يقابل وزيرا، فقبل الوزير عذره وأرسل إليه خلع الولاية، وعاد الأمير وبقي جرجس باز ورجاله مع إبراهيم باشا، فقتل إسماعيل باشا وسمت الدولة سليمان باشا والي صيدا قبلا مكانه.
وسنة 1807 كان مقتل الشيخ جرجس باز في دير القمر، وقتل أخيه عبد الأحد في جبيل، فالشيخ جرجس كان وصيا على أولاد الأمير يوسف وأقامهم على ولاية بلاد جبيل، وكانوا لا يأتون أمرا دون علمه وهو يفعل ما شاء دون إذنهم، وقام جرجس بدير القمر عند الأمير بشير، وأخوه عبد الأحد بجبيل وعظم قدرهما، ولم تكن لهما حرمة للأمير بشير، بل كانا يفعلان أمورا تسوءه فيضمر لهما السوء، واتفق مع أخيه الأمير حسن على قتلهما، واتفق حينئذ أن الأمير بشير كان مغضبا على المشايخ آل تلحوق وآل عبد الملك، فاستدعى الأمير حسن الشيخ علي تلحوق وكاشفه بالأمر، فوافقه عليه، وحضر مع البعض من المشايخ اليزبكية، وأظهروا أنهم متوجهون إلى الأمراء أولاد الأمير يوسف؛ ليلتمسوا منهم كتابا للأمير بشير ليرضى عنهم، وسار الأمير حسن معهم إلى جبيل وهجم المشايخ اليزبكية على الشيخ عبد الأحد باز، فأطلق الرصاص على أحدهم فقتله، وأحاطت الجماعة به فألقى نفسه من شباك، فأدركه من كانوا أسفل فقتلوه، وتوجه الأمير حسن توا إلى القلعة، وقبض على أولاد الأمير يوسف. وفي ذلك النهار نفسه استدعى الأمير بشير جرجس باز، ولما دخل عليه خرج الأمير وأمر بعض أعوانه من الدروز، فدخلوا وخنقوه وركب الأمير قاصدا جبيل، وأمر بتوجيه أولاد الأمير يوسف؛ ليقطنوا بدرعون وأن تسمل أعينهم، فنفذ الأمر، وكان ذلك في 5 أو 15 أيار سنة 1807. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطان مصطفى الرابع والسلطان محمود الثاني إلى سنة 1821
إن السلطان سليم الثالث خلع بسبب ثورة الإنكشارية عليه؛ لأنه أراد إدخال النظام الجديد سنة 1807، ونادى الثائرون بالسلطان مصطفى خان الرابع، ولما انتصر له مصطفى باشا البيرقدار وأراد إرجاعه إلى عرشه أمر السلطان مصطفى بقتله، وإلقاء جثته إلى الثائرين فازدادوا هياجا ونادوا بخلع السلطان مصطفى وحجروا عليه، وكان آخر العهد به سنة 1808 وأجلسوا على العرش السلطان محمود خان الثاني. ومما كان في هذه المدة بسورية وفاة الأمير حسن أخي الأمير بشير بغزير سنة 1808. وفي سنة 1809 أرسل سليمان باشا والي صيدا خلعة الولاية إلى الأمير بشير كالعادة بأن تتجدد هذه الخلع كل سنة في شهر مارت، وفي السنة المذكورة جدد الأمير بشير بناء جسر نهر الكلب. وفي سنة 1810 حمل بعض الوهابيين (هم أتباع رجل يسمى عبد الوهاب ابتدع بدعة حرم بها الالتجاء إلى نبي أو رسول، وانبث هذا الضلال في العربية) على حوران، وهددوا دمشق فاستنجد واليها سليمان باشا والي صيدا، وهذا استمد الأمير بشير فجمع خمسة عشر ألف مقاتل، وسار بهم إلى جهة طبريا حيث كان سليمان باشا، ثم ورد الخبر أن العرب رجعوا من حوران وورد حينئذ فرمان إلى سليمان باشا أن يتولى دمشق بدلا من يوسف باشا الكنج، فاستشار الأمير بقبوله، وحقق له أنه يرد الفرمان إن لم يساعده فأجابه: لبيك. وكتب الأمير إلى بعض أصحابه ولاة حماة وأطرابلس وغيرهما، فلبوا دعوته وساروا جميعا إلى دمشق فخرج عليهم يوسف باشا بعساكره، وانتشبت الحرب وكان النصر لعساكر سليمان باشا والأمير بشير، وانهزم يوسف باشا ودخل سليمان باشا المدينة يصحبه الأمير بشير ورجاله، وفوض الباشا إلى الأمير أن ينتخب العمال فأرسل مصطفى أغا بربر إلى أطرابلس، والأمير إسماعيل إلى حمص وحماة وحسين أغا سركجي إلى اللاذقية، والأمير جهجاه الحرفوش إلى بعلبك، وأنعم سليمان باشا على الأمير قاسم ابن الأمير بولاية بلاد جبيل، وعلى أخيه الأمير خليل بولاية البقاع.
وفي سنة 1812 شرع الأمير بشير في جر ماء نبع الصفا إلى بتدين. وفي سنة 1814 بنى بأمر سليمان باشا جسرا على نهر الدامور، وأنفق عليه مائة ألف قرش دفعها له الوزير. وفي سنة 1819 توفي سليمان باشا، وأنعمت الدولة بمنصبه على عبد الله باشا، وكان نائبا لسليمان باشا بعكا، وكتب إلى الأمير بشير يبشره فأجابه الأمير مهنئا ومرسلا التقادم، فوجه الوزير إليه خلع الولاية.
وفي سنة 1820 طلب الوزير مبلغا لم يتيسر للأمير دفعه للحال، ووجه المعلم بطرس كرامة يعتذر له، فحنق الوزير وأمر بتوجيه عسكر إلى حدود ولاية الأمير، وأمر متسلمي صيدا وبيروت أن يقبضا على من يجدانه من اللبنانيين، فقبض متسلم بيروت على مائة وثلاثين لبنانيا، ومتسلم صيدا على أربعين منهم ، فأرسل الأمير يعتذر للباشا ويستعطفه، فأمر أن يتعهد الأمير بألفي كيس يدفعها بعد مضي شهرين فتعهد بذلك، وأمر الوزير بإطلاق اللبنانيين، وأرسل إلى الأمير خلع الولاية وأرسل الأمير جباة لجمع المال فهاج أهل المتن، وأبوا دفع المطلوب وكاتبوا أهل كسروان أن يحذوا حذوهم فأجابوهم إلى ذلك.
واجتمع الفريقان بأنطلياس وأقسموا أن لا يدفعوا إلا بحسب العادة، وأتاهم الشيخ فضل الخازن فجعلوه شيخا للعامية المعروفة بعامية أنطلياس، وكتبوا إلى عبد الله باشا أن ظلم الأمير بشير إنما هو الذي أوجد الهياج في البلاد، فأجابهم أن لا يدفعوا إلا بحسب عادتهم، وأرسل الأمير يحذرهم وينذرهم، فلم يرعووا فكتب إلى الوزير: إني عجزت عن الولاية وتركت بلادي منتظرا أن يصفو خاطركم علي، فوجه الوزير بعض مشايخ الدروز وأصحبهم بسبعمائة مقاتل، وأرسل معهم خلعة الولاية إلى الأمير حسن علي والأمير سلمان سيد أحمد الشهابيين، فنهض الأمير بشير بأولاده وخدمه إلى حمانا، فأقسم له الأمراء اللمعيون أنهم لا يقبلون واليا غيره، ثم نهض إلى قب إلياس ثم إلى وادي التيم، وسار الأمير سليمان بالعسكر إلى وادي التيم مصحوبا بأمر من عبد الله باشا إلى أمراء حاصبيا وراشيا أن لا يقبلوا الأمير بشير، فنهض الأمير إلى حوران وضبط الأمير سلمان أملاك الأمير بشير وأصحابه، فكتب الأمير بشير إلى عبد الله باشا يستعطفه، فأجابه لو لم تترك الولاية لما وليت غيرك، فأسرع الآن إلى عكا، فأجابه الأمير أرجو أن تأذن لي بالإقامة ببلاد جبيل، وكنت أود أن أتشرف الآن برحابك، ولكن لم أتمكن من ترك أتباعي ولا من إحضارهم معي، فأذن له بالإقامة ببلاد جبيل، وطلبه أن يحضر إلى عكا بنفسه، وكان الأميران حسن وسلمان قد تعهدا لعبد الله باشا بدفع ألفين ومائتي كيس، ولما وصل الأمير بشير إلى شفا عمرو استأذن الوزير أن يحضر لديه، فأجابه أن حضوره إلى عكا وقتئذ يؤخر دفع ما تعهد به الأميران، وخيره بمكان إقامته فاختار جزين وحضر إليها فالتقاه الناس بالتجلة، وأرسل الأميران يجبيان المال الذي تعهدا به فطرد الجباة من المتن وكسروان وبلاد جبيل، وتقاطر مشايخ البلاد وأعيانه إلى الأمير بشير، فطلب الأميران من مشايخ العقل أن يتوسطوا للصلح بينهم وبين الأمير بشير، فتم الاتفاق أن الأميرين يتنزلان عن الولاية، وأن الأمير بشير يأخذها، فعهد الوزير إليه بها مدة حياته، فتليت الأوامر بها بكل احتفاء.
عامية لحفد
إن الأميرين حسن وسلمان رفعا عريضة إلى عبد الله باشا يبديان خوفهما من الأمير، فأمر بشنق رسولهما، ثم سار الأمير بشير إلى بلاد جبيل، وطلب الأمير سلمان أن يكون بخدمته فأبى، فكتب الأمير حسن إلى الأمير سلمان، واستغواه أن يمالئا الجبيليين الثائرين على الأمير بشير فانقاد لرأيه، وقام الأمير إلى غرفين إحدى قرى جبيل، وكان أهل تلك الجهة مجتمعين بشامات فبقي الأمير سائرا إلى لحفد، فاجتمع في حاقل أهل بلاد جبيل والبترون وبعض من كسروان، وأتى رجال جبة بشري إلى أهمج وجمهر المتاولة في رام مشمش، وأرسلوا يقولون للأمير: إنهم لا يدفعون إلا مالا واحدا وجزية واحدة، وكان الأميران حسن وسلمان يجسرانهم فأرسل يقول لهم: أرتضي بمال واحد وهم يجمعون المال ويوردونه له ... وقبل عود الرسول ظهر نحو ألفي رجل من جهة ميفوق، وظهر أمامهم من الجنوب جماعة من المتاولة، وأخذوا يطلقون الرصاص والأمير لا يسمح بالقتال إلى أن أصيب أحد رجاله، فثار بعض العسكر واقتحموا أولئك الرجال، وتبعهم الفرسان وأطبقوا عليهم وأعملوا فيهم السلاح، وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلا فانهزموا شر هزيمة، وألقى بعضهم أنفسهم من شاهق إلى أسفل، وأسر منهم كثيرون، فعفا الأمير عنهم وقتل من عسكر الأمير تسعة رجال، وقام هو في اليوم التالي إلى عمشيت فتعرضوا له في غرفين، فأرسل إليهم عشرين فارسا يناوشونهم القتال، وانكسروا أمامهم ليلحقوهم فلم يجسروا أن يلحقوهم، فسار الأمير إلى عمشيت ثم جبيل.
وكان الأمير قد دعا الشيخ بشير جنبلاط والشيخ علي العماد وغيرهما ليلحقوه، فنهضوا ومعهم نحو ألفي رجل، فجمع الأمير حسن بعض الرجال، وكتب الأمير سلمان إلى أهل المتن وكسروان أن يوافوه إلى نهر الكلب، فشتت المشايخ من جمعهم الأمراء في الساحل وسبقوهم إلى نهر الكلب، فهزموا من التقاهم من كسروان، وفر الأميران حسن وسلمان إلى العاقورة وتنورين وحدت الجبة، فلم يجدا من يقوم معهما فسارا إلى بعلبك، ثم إلى الزبداني، وأخذ الأهلون يتقاطرون إلى الأمير بشير سائلين عفوه، وقام إلى جبة بشري واستماحه مشايخها العفو فعفا عنهم، وعاقب بعض المذنبين وغرم أهل الجبة بمائتين وخمسين ألف قرش، وأهل كسروان بمائتي ألف قرش وأهل القاطع بمائة ألف قرش، وأرسل لعبد الله باشا ما كان قد تعهد به، وكان ذلك سنة 1821. (3) في ما كان بين درويش باشا وعبد الله باشا والأمير بشير
في سنة 1822 بينما كان عبد الله باشا واليا على صيدا أرسل الباب العالي درويش باشا واليا على دمشق، وحضر حسن أغا متسلم البقاع إلى قرية عميق، وطرده أهلها فنهب مواشيهم ومواشي أهل الجبل وزحلة، فأمر الأمير اللبنانيين أن يرحلوا إلى الجبل وزحلة، وأمر درويش باشا بالقبض على اللبنانيين الذين بدمشق، وأرسل واليا إلى البقاع وأصحبه بمائتي فارس، وكتب الأمير إلى عبد الله باشا، فأجابه أن يرسل عسكرا يطرد والي البقاع فأرسل ابنه الأمير خليلا، ففر الوالي إلى دمشق ونهب رجال الأمير خليل بعض قرى البقاع، وساق بعض رجالها وسجنوا ببتدين، وكاشف درويش باشا الأمير بالاتفاق معه، فقبل الأمير ذلك بإذن عبد الله باشا فأطلق الأمير من كانوا في سجنه، وأطلق درويش باشا من كانوا بسجنه من اللبنانيين، ولدى المخابرة بشروط الاتفاق أبى عبد الله باشا التسليم بها، وأمر الأمير أن يرسل عسكرا يطرد الأمير منصور والي راشيا، وأرسل خمسمائة فارس تنجد عسكر الأمير وأرسل والي دمشق عسكرا إلى راشيا، فانتشبت الحرب بين الفريقين وكان النصر لجماعة عبد الله باشا، وجهز درويش باشا حملة أخرى كان بها الأمير سيد أحمد، فنهض الأمير بشير بنفسه وأرسل درويش باشا السر عسكر بأربعمائة فارس، ودارت رحى الحرب، فكان النصر للأمير بشير وأرسل السر عسكر يطلب منه الصلح، فأجابه إليه بشرط أن يسلمه الأميرين حسنا وسلمان، ففر الأميران ليلا إلى دمشق وتبعهما السر عسكر، وأرسل عبد الله باشا إلى الأمير سيفا مرصعا بالجواهر، وخلعة فاخرة، وعاد بعد ذلك إلى بتدين.
وأمر عبد الله باشا الأمير أن يحارب ثانية درويش باشا، فسار إلى عكا ليقنعه بالعدول عن الحرب خشية أن يسخط السلطان، فلم يصغ لكلامه وأمره أن يتوجه إلى جسر بنات يعقوب، حيث كان عسكره فسار الأمير بعسكره وعسكر عبد الله باشا حتى انتهى إلى المزة، فجمع درويش باشا عسكره وأضاف إليه الأميرين حسنا وسلمان أحمد وأخاه الأمير فارسا وبعض اليزبكية، واضطرمت نار الحرب فكانت وقعة هائلة تذكر في هذه البلاد إلى الآن، وكانت الدائرة على عسكر دمشق وقتل منهم نحو مائتين وعشرين رجلا، وأسر نحو خمسمائة رجل منهم الشيخ حسن تلحوق، وغرق منهم كثيرون في نهر بردى، ومن بقي منهم محاصرا في المزة قتل بعضهم، واستسلم بعضهم إلى الأمير بشير، وفر الأمراء حسن وسلمان وفارس إلى صيدنايا، وخاف درويش باشا فأقفل أبواب المدينة، وتحصن بالقلعة، وأطلق الأمير بشير من أسر من اللبنانيين، وكتب إليه عبد الله باشا يثني عليه أطيب الثناء.
وعزل الباب العالي عبد الله باشا عن إيالة صيدا ونصب مكانه درويش باشا، وأمر مصطفى باشا والي حلب أن ينفذ الأمر، والتقاه الأمراء حسن وسلمان وفارس المذكورون إلى حمص، وكتب إلى الأمير بشير يخبره بتولية درويش باشا على صيدا، وأمره أن يطلق عساكره ويعود إلى بلاده، فأذعن الأمير وعاد إلى بتدين، ولكن كتب درويش باشا إلى اللبنانيين أن الدولة أنعمت عليه بمنصب صيدا، وأنه قد استدعى الأمير بشير لخدمته فأبى؛ ولذلك عزله عن ولايته واتفق الأمير مع الشيخ بشير جنبلاط على تولية الأمير عباس أسعد، وتحالفا على ذلك، وتعهد الشيخ بشير لدرويش باشا بدفع ألف ألف قرش، ورهن له عليها ابنه الشيخ نعمان، فولى درويش باشا الأمير عباس أسعد، وكتب الشيخ بشير إلى الأمير بشير يشير عليه أن يقوم من البلاد، وإلا فيقبض عليه درويش باشا، فسافر الأمير بشير إلى مصر ومعه ابناه الأميران خليل وأمين، وسارت عساكر مصطفى باشا ودرويش باشا إلى عكا وحاصرت عبد الله باشا فيها، ونال الأمير بشير من محمد علي باشا عزيز مصر صنوف التوقير والإجلال، وأسر إليه بما ينويه من الخروج على سورية، وعرض الأمير له ما كان لعبد الله باشا، وسأله أن يساعده لدى الدولة فأجاب سؤله وأرسل موفدا إلى الأستانة، وكانت الدولة قد نصبت مصطفى باشا على إيالة صيدا وردت درويش باشا إلى إيالة دمشق، وكتب مصطفى باشا إلى الأمير بشير يدعوه أن يعود إلى بلاده، فأبى فحنق الوزير وكتب إلى الأمير عباس أن ينبه على اللبنانيين أن لا يكاتب أحد منهم الأمير بشير فشهر هذه الأوامر، وبعد أيام أعطى فرمانا بالعفو عن عبد الله باشا، وأن يقوم من عكا بماله ورجاله ويذهب إلى مصر فلم يرض العزيز ذلك، وألح ببقاء عبد الله باشا بعكا وكرر الإلحاح بأن يبقى فيها واليا، فأجيب إلى ذلك وصدر الفرمان به، وأنعم العزيز على الأمير وابنيه بحلل فاخرة وخيل جياد، وأكرمه بمائة وخمسين ألف قرش وعاد إلى عكا، فاستقبله عبد الله باشا بإطلاق المدافع والتقاه بأكابر ولايته وأعيان المدينة، وكتب عبد الله باشا والأمير يبشران اللبنانيين بما كان، وكتب الأمير بشير إلى الأمير عباس أن يبقى مباشرا الولاية، وعند مسيره إلى لبنان التقاه أصحاب المناصب والأعيان، وصحبوه بموكب عظيم إلى بتدين. (4) في ما كان بين الأمير والشيخ بشير جنبلاط، ويعرف بحركة المختارة
يظهر أن الشيخ بشير جنبلاط كان قد اتفق مع الأمير عباس شهاب والي لبنان على أمور تخالف رضى الأمير بشير في مدة غيابه في مصر؛ ولذلك كان الشيخ بشير واجسا بعد عود الأمير إلى الولاية، وقام إلى جباع بالشوف، وأرسل يستعطف خاطر الأمير فأجابه طالبا منه ألف ألف قرش؛ لأن الدولة كانت تطلب من عبد الله باشا نفقة الجنود التي أرسلتها إلى سورية، وطلب من الأمير بشير مبلغا، منها فدفع الشيخ بشير قسما من المطلوب، واعتذر عن دفع الباقي واستمر واجسا، وطلب من والي دمشق أن يأذن له بالإقامة في وادي التيم، وسار إليها وانضم إليه هناك بعض من الأمراء اللمعيين، وبعض أهل الشوف والمتن، فكتب الأمير بشير إلى والي دمشق أن له على الأمير عباس (الذي كان انضم إلى الشيخ بشير) مائتي ألف قرش من الأموال الأميرية في أيام ولايته، ولما طولب بها قال: إنها مطلوبة من الشيخ بشير جنبلاط.
وفي سنة 1823 سار الأمير عباس إلى عكا ملتمسا من عبد الله باشا أن يرضى عنه، وعن النازحين جميعا، وأن يرفع المطالبة له بالمائتي ألف قرش، فكتب عبد الله باشا إلى الأمير بشير يعلمه بذلك، وأرسل إلى الشيخ بشير يطلب منه هذا المبلغ، فأرسل له صكا متعهدا بدفعه بعد عوده إلى بيته، وأمر الأمير بشير من نزحوا إلى وادي التيم أن يعودوا إلى أوطانهم، فعادوا واستأذن الشيخ الأمير أن يحضر لديه إلى بتدين فأذنه؛ ولخوفه أصحب معه نحو ألفي رجل تركهم على مقربة من بتدين ... ودخل على الأمير رجلا ذليلا، فطيب الأمير قلبه وما برح مؤاخذا له بكثرة الرجال الذين أحضرهم إلى قرب بتدين، وعاد الشيخ بشير إلى إيالة دمشق، فورد أمر من عزيز مصر إلى والي دمشق أن يطرد الشيخ بشيرا من إيالته، فخاف وتوجه إلى حوران فضبط الأمير بشير أملاكه كلها، وطالبه والي دمشق بالمال الذي وعد به فاعتذر عن دفعه، وانضم في هذه المدة إلى الشيخ بشير الشيخ أسعد النكدي وجماعته، والشيخ علي العماد وجماعته، وكاتب الأمراء سلمان سيد أحمد وأخاه فارسا، وحسن أسعد الشهابيين؛ ليتفقوا معهم على خلع الأمير بشير فأجابوهم إلى ما طلبوا، ووعدوا الأمير عباس أسعد بالولاية فضوى إليهم وتابعهم آخرون من الأمراء الشهابيين واللمعيين، واجتمع هؤلاء جميعا في المختارة سنة 1825، وكاتبوا الشيخ بشير ليسرع إليهم فمر بالبترون وكسروان، واستنهض المشايخ الخوازنة فصحبه بعضهم ثم سار إلى برمانا، وحمانا يستدعي وجوه المتن للانضمام إليه، وأرسل الأمير بشير ينصح المجتمعين بالمختارة، فلم يقبلوا نصيحته، وكتب إلى عبد الله باشا فأرسل عسكرا لنجدته، ولما علم المجتمعون ذلك أرسلوا فريقا منهم ليقطع الطريق على عسكر عبد الله باشا.
وفي 5 ك2 سنة 1825 أطلوا على بتدين، وجعلوا يطلقون الرصاص ، فأرسل الأمير ابنه الأمير خليلا فلم ينثنوا عن الحرب فهبت إليهم حينئذ رجال الأمير، وأصيب الشيخ علي العماد برصاص، فرجع وانكسر أصحابه إلى السمقانية وتبعهم عسكر الأمير إلى هناك، واشتد القتال إلى المغرب، وقتل من عسكر الأمير رجلان ومن عسكر خصومه تسعة رجال، ووصل الشيخ بشير إلى المختارة في صباح اليوم التالي، وطلب الصلح من الأمير فلم يتفق عليه بينهما، وقام عبد الله باشا بعسكره إلى صيدا لنجدة الأمير، ونهض الأمير بشير إلى السمقانية بعسكره، وأرسل شرذمة إلى مطل المختارة فالتقاهم عسكر الشيخ بشير، واستمرت الحرب بين الفريقين إلى المغيب، فقتل من عسكر الأمير سبعة رجال ومن عسكر الشيخ بشير خمسة عشر رجلا، وأسر منهم جماعة فأمر الأمير بإطلاقهم، والتقوا في اليوم التالي في الجديدة فقتل من عسكر الشيخ أربعون رجلا، ومن عسكر الأمير عشرة رجال، وانفض رجال الشوف الذين مع الشيخ بشير إلى أماكنهم والأمراء اللمعيون برجالهم إلى المتن، وبعض الأمراء الأرسلانيين إلى الشويفات، ولما رأى الباقون ذلك فروا ليلا إلى جزيرة قاصدين حوران، فأرسل الأمير ابنه الأمير خليلا يتعقبهم بمؤازرة العساكر في ولايتي صيدا ودمشق، واختبئوا جميعا بحوران، وأخذ قائد عسكر والي دمشق يخادعهم ليسلموا إليه، فاطمأنوا ورجعوا إلى دمشق فقطع واليها رأس علي العماد، وسجن الباقين في القلعة ثم أرسلهم إلى عبد الله باشا في عكا، فأمر بشنق الشيخ بشير والشيخ علي العماد ... وأما الأمراء سليمان سيد أحمد وأخوه فارس وعباس أسعد الشهابيون، فقبض الأمير عليهم وأمر بسمل أعينهم، وقطع رءوس ألسنتهم ورجوعهم إلى منازلهم. (5) حضور مراكب الأروام إلى بيروت وحصار قلعة سانور
في سنة 1826 لما كانت حرب الاستقلال في المورة حضر ليلا إلى بيروت ثلاثة عشر مركبا للأروام، وخرج منها عسكر إلى البر ونصبوا سلالم على أسوار المدينة، ودخلوها وهجم عليهم المسلمون فأخرجوهم من المدينة، واستؤنف القتال في خارج الأسوار فقتل من الأروام سبعة رجال ومن المسلمين خمسة، فكتب متسلم بيروت إلى عبد الله باشا يخبره بما كان، وعلم الأمير بشير بذلك فأرسل ابنه الأمير خليلا ببعض الرجال إلى حرش بيروت، ثم قام بنفسه إلى هناك، وكتب إلى عماله بلبنان أن يلتقوه بالرجال، فلما رأى الأروام كثرة العساكر أقلعوا إلى بلادهم.
وفي سنة 1829 انتقض النابلسيون على عبد الله باشا، فأرسل عسكرا لكبتهم فتحصنوا بقلعة سانور، فكتب إلى الأمير بشير أن يسير برجاله لفتح القلعة المذكورة. وفي سنة 1830 سار الأمير إلى عكا، فرحب به الوزير ثم نهض الأمير بالعسكر إلى الناصرة وجنين، وأقبل على قلعة سانور حيث كان عسكر الوزير، وأخذ يدبر العساكر في حصار هذه القلعة الحصينة. وخرج النابلسيون ذات ليلة من القلعة وكبسوا الأرناؤط من عساكر الوزير، واستظهروا عليهم فأرسل الأمير جماعة من عسكره، فهزموا النابلسيين إلى العراق ودنوا من جدارها، وكانت النساء من القلعة تغمس اللحف بالزيت، وتشعلها وترميها لينظر النابلسيون عسكر الأمير، ويطلقوا الرصاص عليهم، ودام القتال إلى الصباح ثم استؤنف في ثلاثة أيام، وجعل النابلسيون الخارجون عن الحصار ومعهم ثلاثمائة فارس من العرب يمنعون العساكر من استقاء الماء، فوثب عليهم جماعة من عسكر الأمير، فهزموهم إلى قرية عجة واعتصموا بها فحاصرهم فيها رجال الأمير، ثم ظهروا عليهم وهزموهم وأعملوا في أقفيتهم السلاح، وقبضوا على من استمروا محاصرين فيها، فقتلوا منهم تسعين رجلا وأسروا أربعة عشر، فأرسل الأمير الأسرى ورءوس القتلى إلى عبد الله باشا، فكتب إليه يثني على شجاعته وهمته، ثم أخذ عسكر الأمير والوزير ينهب ويحرق قرى بلاد نابلس حتى وقعت رهبة الأمير في قلوب جميعهم، وبدءوا يستسلمون إليه فئة فئة، وكان عبد الله باشا قد قبض على بعض مشايخ نابلس، فأخذ يهددهم بالأمير بشير وصولته، فأذعنوا لأمره وتعهدوا له بدفع مبلغ وافر من المال، ورهنوا أولادهم عنده فطيب قلبهم، وأرسلهم إلى الأمير بشير فسلموه القلعة، وأمر عبد الله باشا بدكها حتى أسسها وتعطيل آبارها ومغاورها، ورجع الأمير بعسكره وعسكر الوزير إلى عكا. ولما كان الطاعون فاشيا فيها فلم يسمح الوزير بدخولهم إليها، فسار إلى بلاده والتقاه الأمراء والأعيان إلى صيدا، وصفت له الأيام وطاب العيش. (6) خروج محمد علي باشا على سورية
إن محمد علي باشا بعد أن استحوذ على مصر كانت أبصاره طامحة إلى الاستيلاء على سورية أيضا، وانتهز فرصة اتحاد فرنسا وروسيا وإنكلترا على استقلال اليونان، فأرسل سنة 1831 عساكره برا وبحرا إلى سورية، وأمر عليها ابنه إبراهيم باشا، فسار إبراهيم باشا وسليمان بك الفرنساوي بمنزلة قائمقام له في الأسطول المصري إلى حيفا، وكان الجيش المصري قد سبقه في طريق العريش وفتح غزة ويافا وبيت المقدس ونابلس، وجعل حيفا مركزا لأركان حربه ومستودعا للذخائر والعدد الحربية. ثم سار في 26 تشرين الثاني سنة 1831 إلى عكا، فحاصرها برا وبحرا وكتب إلى الأمير بشير، فالتقاه إلى عكا فقبله مرحبا وكتب عزيز مصر إلى ابنه إبراهيم باشا بأن يفوض إلى الأمير شئون صيدا، وأن يعتمد على رأيه في نصب أصحاب الإقطاعات، ولما بلغ الباب العالي ما كان اعتده عصيانا وانتقاضا من محمد علي، وأمر عثمان باشا والي حلب أن يقوم بالعساكر لكبت إبراهيم باشا، فجمع نحو عشرين ألف جندي وسار قاصدا عكا، فترك إبراهيم باشا فريقا من جيشه على عكا وهب لملاقاة عثمان باشا، وأوعز إلى الأمير خليل ابن الأمير بشير أن يتوجه بألف رجل من اللبنانيين إلى أطرابلس للمحافظة عليها، ووجه الأمير قاسما ابن الأمير بشير أيضا بألفي لبناني إلى زحلة للمحافظة على ذخائر العسكر المصري، وأقبل عثمان باشا على أطرابلس فخرج إليه الأمير خليل، وبدد شمل جماعته وعاونه في ذلك مصطفى أغا بربر حاكم أطرابلس حينئذ، ثم وفد إبراهيم باشا ففر عثمان باشا ليلا إلى جهات حماة، ونهض إبراهيم باشا في أثره إلى حمص، فكانت هناك وقعة هائلة انتصر بها إبراهيم باشا وبدد بها شمل عسكر عثمان باشا.
وعاد إبراهيم باشا وشدد الحصار على عكا، ودخلها عنوة في 27 أيار سنة 1832 وأسر واليها عبد الله باشا، وأرسله إلى مصر، وسار إبراهيم باشا إلى دمشق ولاقاه الأمير بشير، فجمع علي باشا والي دمشق عسكرا، وخرج لقتاله فانهزم والي دمشق إلى حمص، ودخلت العساكر المصرية إلى المدينة، وكان الباب العالي قد جهز في هذه المدة جيشا لا يقل عن ستين ألفا وأمر عليه حسين باشا، فبلغ إلى نواحي حمص فنهض إبراهيم باشا ومعه الأمير بشير ... والتقى الجيشان عند بحيرة حمص، وتسعرت نار الوغى فكان النصر لإبراهيم باشا الذي بات تلك الليلة في حمص، وترك الأمير بشيرا فيها وجد في لحاق العساكر العثمانية إلى حلب، فدخلها في 17 تموز سنة 1832 بعد موقعة هائلة، وانهزم حسين باشا وتحصن في بوغاز كيليكيا المشهور، فلحقه إبراهيم باشا إلى هناك، واشتد القتال بين الجيشين وشتت إبراهيم باشا الجيش العثماني في 29 تموز من السنة المذكورة.
وجهز الباب العالي جيشا آخر بإمرة رشيد باشا، وأرسله إلى الأناضول إذ كان إبراهيم باشا استحوذ على كل ما كان في هذه البلاد إلى مدينة قونية، والتقى الجيشان على مقربة من هذه المدينة فظهر الجيش المصري على العثماني، حتى أخذ إبراهيم باشا رشيد باشا أسيرا في 12 ك1 سنة 1832، وسارت العساكر المصرية حتى ضواحي مدينة بورصة، وعظم القلق في الأستانة، وخيف من مهاجمة إبراهيم باشا لها. (7) في إكراه الدول محمد باشا على جلاء عساكره عن سورية والأناضول
بعد انتصار جيش إبراهيم باشا على العساكر العثمانية في قونية قلقت دول أوروبا، وخشيت أن يستحوذ على الأستانة، وكانت روسيا أكثر قلقا لمطامعها المعلومة، وعرضت على الدولة أن تساعدها على مقاومة الجيش المصري، فقبلت الدولة ذلك وأحلت روسيا على شواطئ الأناضول خمسة عشر ألف جندي لحماية الأستانة، فقلقت فرنسا وإنكلترا من تداخل روسيا وألحتا على الباب العالي أن يسرع بالاتفاق مع محمد علي باشا، وبعد مخابرات اتفق الباب العالي والدولتان على أن المصريين يتخلون عن الأناضول، ويعطى محمد علي باشا الولاية على مصر مدة حياته، ويحق له أن ينصب ولاة في ولايات سورية الأربع أي: عكا وطرابلس ودمشق وحلب، وصدرت في ذلك إرادة سنية مؤرخة في 5 أيار سنة 1833، على أن السلطان لم يقبل هذه التسوية إلا ليكون له وقت للاستعداد للحرب، واسترداد ما أخذ من مملكته ولم يقبلها محمد علي باشا؛ لأنها تخالف مقاصده، وجرت مخابرات أخرى بين الدول لم يتفق فيها على حل للمسألة. وأوعز الباب العالي إلى حافظ باشا أن يسير بالعساكر نحو ولاية سورية، والتقى الجيشان المصري في 24 حزيران سنة 1839 في جهات نصيبين، واشتعلت نار الحرب وظهر الجيش المصري آخذا 166 مدفعا وعشرين ألف بندقية من العسكر العثماني عدا الذخائر والأثقال، وكان ذلك اليوم مشهودا مشهورا وتوفي حينئذ السلطان محمود الثاني، وزاد في هذا الارتباك تسليم أحمد باشا أمير الأسطول العثماني مراكبه الحربية إلى محمد علي باشا خيانة، ولما علم بذلك سفراء الدول في الأستانة خافوا من أن إبراهيم باشا يزحف بعساكره عليها، فترسل روسيا جيشها لمحاربته عملا بالاتفاق السابق ذكره مع الدولة العلية، فأرسلوا إلى الباب العالي لائحة في 28 تموز سنة 1839 وقع عليها سفراء إفرنسة وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا ... طلبوا بها أن لا يقرر الباب العالي شيئا في المسألة المصرية إلا بإطلاعهم، فقبل الباب العالي هذه اللائحة، واجتمع السفراء عند الصدر الأعظم يتداولون فيما يلزم أن يعطاه محمد علي، فارتأى سفيرا إنكلترا والنمسا لزوم رد سورية إلى ولاية الدولة العلية، وخالفهما سفيرا فرنسا وروسيا وطلبا أن يعطى محمد علي مصر وولايات سورية الأربع المذكورة، وانحاز سفير بروسيا إلى رأي إنكلترا والنمسا فتقرر بالأكثرية، وطلب وزير النمسا عقد مؤتمر دولي في فيانا أو لندرة لتقرير المسألة المصرية، فأنكرت فرنسا ذلك وتوقفت المخابرة مدة، وكانت فرنسا تود أن يعطى محمد علي وذريته مصر وسورية، وولايتي أدنة وترسيس مدة حياته، وأما إنكلترا فلم تكن تريد أن يعطى إلا ولاية مصر، ثم قبلت رغبة في إرضاء فرنسا أن يعطى مع مصر نصف سورية الجنوبي بشرط أن لا تكون عكا من هذا النصف، وطال الخلاف بين الدول.
وفي سنة 1840 عقد المؤتمر المطلوب في لندرا، فطلبت فرنسا إبقاء سورية كلها تحت ولاية محمد علي وعارضتها إنكلترا، وأصرت أن لا يعطى إلا نصف سورية الجنوبي مدة حياته، ويعود بعد موته إلى الدولة العلية وجارتها روسيا والنمسا وبروسيا، فلم يحصل وفاق بين الدول، ولما تولى تيار الشهير وزارة فرنسا حاول أن ينهي المسألة مع الباب العالي ومحمد علي على أنه يلزم الباب العالي أن يتخلى له عن ولاية مصر وسورية، وإن لم يذعن الباب العالي، لذلك ساعدت فرنسا محمد علي عليه، وأرسل يشجع محمد علي على القتال، وأما بلمارستون وزير إنكلترا، فحنق من استبداد فرنسا في هذه المسألة واتفق مع روسيا والنمسا وبروسيا على إرجاع محمد علي إلى حدود مصر، وإجباره بالقوة على ذلك، فوقع مندوبو هذه الدول مع مندوب الدولة على معاهدة في ذلك مؤرخة في 25 حزيران سنة 1840.
وشرع عمال إنكلترا يهيجون اللبنانيين من موارنة ودروز ومتاولة على خلع الطاعة للحكومة المصرية، وانبث بين العامة روح العصيان وانتبه إبراهيم باشا إلى ذلك فأمر الأمير بشيرا أن يجمع السلاح من النصارى والدروز، فهاج الأهلون وجاهروا بالعصيان، وأكثروا من المخرقات والتعدي على الحكومة في محلات كثيرة، وصدر أمر إنكلترا للأميرال نابير أن يسير بأسطوله إلى موانئ سورية، ويأسر أو يحرق الأسطول العثماني الذي كان قد سلم إلى مصر، وباقي مراكب مصر تجارية كانت أو حربية، فأخذ نابير ما وجده من المراكب المصرية، ووصل إلى بيروت في 14 آب سنة 1840، وأعلن للعساكر المصرية لزوم جلائها عن بيروت وعكا، ونشر على أهل سورية ما قررته الدول الأربع، وحرضهم على الخضوع للدولة العلية والعصيان على الحكومة المصرية.
وفي 10 أيلول من السنة المذكورة وصلت مراكب النمسا والدولة العلية إلى بيروت تقل نحو عشرة آلاف جندي عثماني وإنكليز أنزلتهم في شمالي بيروت، وابتدأت مراكبهم تطلق المدافع على المدينة، فهدمت وأحرقت دورا كثيرة، وفر سليمان باشا بعسكره إلى الحازمية، وكذلك فعلوا في أكثر ثغور سورية، وسارت بعض مراكب إلى جونية فأحلت هناك عسكرا، وفر عمال الحكومة المصرية إلى الجبل، وكتب قائد العسكر من جونية إلى اللبنانيين يستدعيهم لطرد العساكر المصرية، ويوزع السلاح عليهم، وهكذا تشجع اللبنانيون وبمعاونة الجنود العثمانية حاربوا العساكر المصرية في مواضع كثيرة، وكتب محمد علي إلى ابنه إبراهيم باشا أن ينسحب بعساكره من سورية، ويعود إلى مصر ففعل، وأما الأمير بشير حاكم الجبل فنزل إلى صيدا ثم سار لمواجهة عزت باشا السر عسكر في بيروت، فخيره أن يختار محلا لإقامته ما عدا فرنسا وسورية ومصر، فاختار جزيرة مالطة ثم سار منها إلى الأستانة حيث توفي سنة 1850، وأما محمد علي باشا، فأصدر عليه السلطان فرمانا مؤرخا في 21 ذي القعدة سنة 1256 يوافق 12 شباط سنة 1841، يتضمن منحه ولاية مصر على طريقة التوارث لذريته مع تعيين مبلغ تدفعه حكومة مصر إلى الدولة العلية. (8) في ما كان بسورية في أيام السلطان عبد المجيد خان
توفي السلطان محمود خان سنة 1839 بعد انكسار جيشه في نصيبين، وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد خان في تلك السنة، وبعد جلاء العسكر المصري عن سورية نصب السر عسكر العثماني الأمير بشير قاسم الشهابي واليا على جبل لبنان في مكان الأمير بشير المعروف بالكبير، ونصب السلطان ولاة في سورية عوض الولاة المصريين، أما الأمير بشير قاسم والي لبنان فلم تمض مدة وجيزة إلا ووقعت النفرة بينه وبين بعض أعيان الدروز، فاحتشدوا وحاصروه في دير القمر، فكانت من جراء ذلك بين النصارى والدروز الحروب الأهلية المعروفة عند العامة بالحركة الأولى سنة 1841، وكانت حينئذ عدة وقعات بين الفريقين في ساحل بيروت والغرب والشحار ودير القمر وزحلة والمتن، وكانت خاتمة هذه الحروب أن الأمير بشير قاسم خرج من دير القمر على يد سليم بك والسيد فتيحة، إذ أرسلهما وزير الإيالة إلى دير القمر، فأهانه الدروز في خروجه وسلبوه سلاحه وسلاح جماعته، ووصل إلى بيروت وكان حينئذ أن الباب العالي أرسل مصطفى باشا نوري لإصلاح شئون لبنان، فسير الأمير المذكور إلى الأستانة ودعا أعيان النصارى والدروز، وخلع عليهم وكاشفهم بإقامة وال عليهم من رجال الدولة، فأبى النصارى طالبين البقاء على ولاية الأمراء الشهابيين، ورفعوا بذلك عرائض إلى الأستانة، أما الدروز فأذعنوا لمشورته، وارتضوا بولاية أحد رجال الدولة.
وفي سنة 1842 أقام مصطفى باشا المذكور واليا على لبنان يسمى عمر باشا النمسوي العثماني، وأرسله بعسكر إلى بتدين ومعه الأمير أحمد وأخوه الأمير أمين أرسلان، وأخذ عمر باشا مدبرين له الشيخ منصور الدحداح والشيخ خطار العماد، وولى الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن على كسروان، والشيخ ضاهر منصور الدحداح على الفتوح، وثلاثة مشايخ من الحمادية على بلاد جبيل والبترون والكورة العليا، فنفر المشايخ الخوازنة لضم الحاكم ولاياتهم الثلاث إلى واحد منهم، واستاء أهل بلاد جبيل والبترون والكورة بنصب متاولة على بلادهم بعد أن نسخت ولاياتهم عليها منذ سنوات متطاولة ... وأراد عمر باشا أن يسترضي النصارى، فأدخل في خدمته جنودا منهم وجعل أبا سمرا البكاسيني ويوسف أغا الشنتيري من بكفيا قائدين لهم، ودعا ذات يوم إلى بتدين الأمير أحمد أرسلان، والمشايخ: نعمان جنبلاط، ونصيف نكد، وحسين تلحوق، ويوسف عبد الملك، فقبض عليهم وأرسلهم إلى بيروت، وأمر مصطفى باشا بتوقيفهم فيها، وألحق بهم الشيخ خطار العماد فاستاء الدروز من ذلك، وطفقوا يتزلفون إلى النصارى طالبين الاتفاق معهم على عمر باشا.
وفي أثناء ذلك صدر أمر الدولة العلية بالإجابة إلى اللبنانيين أن ينتخبوا لهم واليا منهم، وأرسل من يكتب أسماء المنتخبين، فكتب أعيان النصارى يسترحمون رد الأمير بشير عمر إلى ولاية لبنان، واستدعى الدروز النصارى لطرد عمر باشا من الولاية، فلم يجيبوهم وزينوا للأمير أسعد قعدان شهاب أن ينهض معهم على عمر باشا، فينتخبوه واليا فمالأهم على ذلك، وكاشفوا النصارى ثانية للاتفاق، فأجابوهم إليه بشرط أن يدونوا صكا يصرحون فيه أنهم يرضون برجوع الولاية إلى الأمراء الشهابيين، فدونوه وشرطوا به أن يكون أحد الأمراء اللمعيين معاونا للوالي الشهابي، وأن يكون له أربعة مدبرين: مدبران درزيان، ومدبران مسيحيان، واجتمع الأمراء اللمعيون وبعض وجوه المتن وكسروان بأنطلياس، ودعا الدروز شبلي العريان من حوران واجتمعوا في المختارة، وحصلت بعض مناوشات بينهم وبين عسكر عمر باشا فبددهم العسكر.
وفي هذه الأثناء أحيلت ولاية صيدا إلى أسعد باشا، فأرسل إلى المجمعين بأنطلياس رسولا يحذرهم من الخروج عن خاطر الدولة، فحضر وحذرهم وتوجه إلى بطريرك الموارنة يستشيره بمن يصلح للولاية من الأمراء اللمعيين، فأشار أن الأمير حيدر إسماعيل هو الأصلح، وعاد فأخبر أسعد باشا، ثم توجه إليه وجوه المجتمعين بأنطلياس يطلبون واليا وطنيا عليهم، فنصب الأمير حيدر المذكور.
وكان في هذه الأثناء أنه وشي إلى السر عسكر أن المشايخ الدحادحة ساعون بما يكدر الدولة، فأرسل بعض جنوده إلى المشايخ أبناء حمزة حبيش يأمرهم أن يقبضوا على رسول الدحادحة، فقبضوا عليه ونزل بعض مشايخ الدحادحة إلى غزير، فالتقاهم أولاد حمزة واقتتلوا معهم فقتل ثلاثة من أولاد حمزة، فحنق السر عسكر وأرسل منيب باشا بعسكر، فانهزم أهل عرامون والمشايخ الدحادحة، ونزل العسكر في بيوتهم وأثقل على الأهلين، ولما علم السر عسكر أن المشايخ الدحادحة في جبة بشري كتب إلى والي أطرابلس أن يرسل عسكرا إلى جبة بشري للقبض عليهم، فالتقى رجال أهدن العسكر في عقبة حيرونا، وانتصروا عليه فأرسل منيب باشا عسكرا إلى جبة بشري، فتوسط بطريرك الموارنة بين العسكر ومشايخ الجبة، فانصرف الأمر بين الفريقين وعاد العسكر العثماني إلى أطرابلس.
على أن أسعد باشا والي صيدا قسم الولاية في لبنان، فجعل الأمير حيدر إسماعيل على النصارى بلبنان، وسماه قائمقام النصارى، وولى على بلاد جبيل وتوابعها واليا مسلما، ونصب الأمير أحمد عباس الأرسلاني على الدروز، وسماه قائمقامهم، واختلف القائمقامان الماروني والدرزي على المختلطين في أعمال لبنان من نصارى ودروز، وكتب أسعد باشا إلى الباب العالي، فصدر الأمر بقسمة البلاد فجعل الوزير سكة دمشق فاصلا بين القائمقاميتين، فما كان منها إلى الشمال تولاه قائمقام النصارى، وما كان منها إلى الجنوب وليه قائمقام الدروز. وفي سنة 1844 أمر الباب العالي برجوع ولاية بلاد جبيل، وما تبعه إلى قائمقامية النصارى.
وفي سنة 1845 كانت الحرب الأهلية بين النصارى والدروز في لبنان، وتعرف العامة هذه الحرب بالحركة الثانية، وكانت فيها عدة مواقع في ساحل بيروت والمتن والغرب والشحار والجرد والشوف، ولولا توسط رجال الحكومة لأضر النصارى بالدروز أضرارا كثيرة، وكانت نهاية هذه الحرب في أن وجيهي باشا (الذي خلف أسعد باشا في إيالة صيدا) جمع في بيروت بعض وجوه النصارى والدروز، وأجرى بينهم الصلح واستكتبهم صكوكا مانعة من تجديد الفتنة بينهم، ثم وفد إلى بيروت شكيب أفندي مرسلا من الأستانة لتدبير شئون لبنان، وقدم نميق باشا السر عسكر من دمشق بألف جندي إلى بتدين، وسار إلى هناك شكيب أفندي والأمير حيدر إسماعيل قائمقام النصارى والأمير أحمد أرسلان قائمقام الدروز، ولما وصلوا إلى بتدين أخذ سلاحهم وسلاح من كان قد حضر معهم وسلاح أهل دير القمر، وفرق العساكر المنظمة في أعمال البلاد لهذه الغاية، فأثقلوا على الأهلين وأهانوا بعض الكهنة في كسروان، وسار نميق باشا بعسكره إلى العاقورة، وأخذ سلاح أهلها ثم نهض إلى تنورين فالتقاه أهل جبة بشري قاصدين صده، فناوشهم فانهزموا إلى الحدث ولحقهم إلى هناك، فهربوا إلى بشري وتوسط بطريرك الموارنة أمرهم بأن يقدموا سلاحهم إلى الحدث، ولا يدخل العسكر قراهم فرضي نميق باشا، ولما قدموا سلاحهم سار بعسكره إلى أطرابلس ثم إلى بيروت.
ثم عزل شكيب أفندي الأمير أحمد أرسلان عن قائمقامية الدروز، وولى مكانه أخاه الأمير أمينا، وأما الأمير حيدر إسماعيل، فأدركته الوفاة سنة 1854 في قرية صربا بكسروان مفلوجا، وبلا عقب فعين واثق باشا ابن أخيه الأمير بشير عساف قائمقاما للنصارى، وكتب إلى الأستانة يلتمس تولية الأمير بشير أحمد فأجيب إلى طلبه.
وفي سنة 1859 كانت ثورة الكسروانيين على مشايخهم آل خازن، وطردوهم من كسروان، وفي السنة المذكورة كانت وقعة بيت مري بين النصارى والدروز، فعقبتها سنة 1860 الملاحم التي كانت في دير القمر وحاصبيا ودمشق، والمواقع التي كانت بين الفريقين في باقي أعمال البلاد الجنوبية، على أن ما جرى على النصارى لم تتحمله رأفة السلطان الغازي عبد المجيد خان، واشمأزت منه دول أوروبا وشعوبها، فأرسل جلالة السلطان فؤاد باشا بصفة مفوض بالاستقلال؛ ليجزي كل من اشترك في المنكرات بما جنت يداه، ويؤمن رعايا الدولة ويعيد السكينة والراحة إلى البلاد، وأرسلت حكومة فرنسا ستة آلاف جندي إفرنسي باسم دول أوروبا، وأمرت على عساكرها الجنرال بوفور دي هرطبول والجنرال دي كرو، وأرسلت دول فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا مفوضين للمداولة بإصلاح ذات البين، وفرض ما يلزم من النظام لمنع تجديد الفتن الأهلية فأقاموا بيروت، وبعد أن أجرى فؤاد باشا جزاء من ثبت اشتراكهم في هذه الفظائع بقتل ونفي كثيرين، وتأمين البلاد، أخذ يتداول مع مفوضي الدول بوضع نظام يكفل راحة البلاد، وعدم تجديد الفتن فيه فوضعوا أولا نظاما في 20 آذار سنة 1861 مؤلفا من 47 مادة، ثم عولوا على نظام آخر في أول أيار من السنة المذكورة مؤلفا من ست عشرة مادة ... ومن فحواه أن يكون في الجبل حاكم واحد مسيحي من الأكثرية، ورفعوا النظامين إلى الباب العالي؛ ليتفق مع سفراء الدول على أحدهما، وحصلت المذكرات بذلك وتقرر نظام البلاد الحالي. (9) في ما كان بسورية في أيام السلطانين عبد العزيز ومراد وسلطاننا الغازي عبد الحميد خان الثاني أطال الله أيام سلطنته
توفي السلطان عبد المجيد خان في 25 حزيران سنة 1861، وبويع بالخلافة بعده أخوه السلطان عبد العزيز خان في اليوم الثاني لوفاته، فتوفي سنة 1876، وخلفه أخوه السلطان مراد خان الخامس في أواخر أيار سنة 1876، لكنه بعد استوائه على سرير الملك ظهرت عليه أمارات اختلال الشعور، وأقر الوزراء لزوم المبايعة لأخيه السلطان عبد الحميد خان سلطان هذا الزمان أيد الله عرشه، ومتع رعاياه بعدله وحلمه وحسن نواياه، وكان استواؤه على منصة الملك في 30 آب سنة 1876. وأما ما كان في سورية في هذه المدة أي: من سنة 1861 إلى الآن فقليل الأهمية. وتبدل على متصرفية لبنان إلى الآن ستة ولاة أو متصرفين: أولهم داود باشا الأرمني سماه السلطان سنة 1861 برضى سفراء الدول الموقعة على نظام لبنان، ولم تخل أيام ولايته من القلق، وكان فؤاد باشا قد سمى يوسف بك كرم لقائمقامية النصارى، وانتهت مأموريته هذه بوصول داود باشا إلى لبنان، وأراد المتصرف أن يستخدمه في إحدى القائمقاميات لما كان له من نفوذ الكلمة ومحبة الشعب له، فأبى قبول أية وظيفة كانت، ولما ضويق ليقبل منصبا سمي قائمقاما لقضاء جزين لكنه استقال من هذا المنصب في اليوم الثالث، وسار إلى داره بأهدن فوجس داود باشا من هذا الاعتزال وشكا الأمر إلى فؤاد باشا، فكتب إلى كرم أن يحضر إليه طلق العنان (كما في أصل الرسالة)، فأسرع بالحضور دون إبطاء إلى بيروت، ولما قابل فؤاد باشا أمره أن يبقى حيث كان وقتئذ في القشلة العسكرية، فبقي مكرما وبعد أيام صحبه فؤاد باشا معه إلى الأستانة.
وأقام كرم بك بالأستانة مكرما مطلقا له أن يتوجه حيث شاء إلا إلى سورية. وفي سنة 1864 جددت ولاية داود باشا، ولما علم كرم بك بذلك عاد إلى زغرتا في 12ت2 سنة 1864، فاهتزت البلاد له، ورأى داود باشا أنه يتعذر عليه إدارة البلاد وهو فيها وأن لا قوة له لكبته، فأمنه وسافر إلى الأستانة سنة 1865؛ ليستأذن بحربه ويستعد له، وبعد عوده من الأستانة قبض في أواخر السنة المذكورة على بعض أنسباء كرم وأصحابه ليهيجه، وعلم يوسف بك ما وراء الأكمة، فأتى بجمهور من شمالي لبنان أكثره من أهل التعقل والسلامة لا من أهل الحرب، آملا أن يحمل الباشا على مصالحته، فبلغوا في 6ك2 سنة 1866 إلى دير مار ضوميط البوار وبينا كان البك يسمع القداس أطل بعض فرسان الدراكون على رجال البك، وناوشوهم للقتال، فاضطرمت نار الحرب وتقدم البك برجاله إلى المعاملتين، فزادت نار الحرب تسعرا وقتل من الطرفين عدة قتلى، وعاد البك برجاله إلى زغرتا.
فأرسل داود باشا العساكر في أثره، ورفع البك إلى عمال الدولة في سورية وقناصل الدول فيها الحجة على أنه لا يريد قتال عساكر الدولة، ويستعيذ من العصيان على السلطنة، لكن إذا دهمته العساكر فيضطر أن يدافع عن نفسه وأصحابه. وكانت وقعات بين كرم والعساكر انتصر بها كرم في بنشعي، وبسبعل ثم اختفى وكانت العساكر تطلبه، ولم تنل منه مأربا. أخيرا سئمت نفسه الاختفاء، وظهر واجتمع عليه نحو ثلاثمائة رجل وقام بهم في وسط البلاد من جبة بشري إلى بلاد البترون وجبيل وكسروان حتى بلغ إلى قاطع بيت شباب، وعسكر الحكومة يتبعه عن بعد، ولم يتحرش لقتاله إلا في الوادي الفاصل بين كسروان والقاطع، ولما رأى داود باشا اتساع الخرق لجأ إلى قنصل فرنسا لإيجاد مخرج من هذه الحال السيئة، وبينما كان يوسف بك في القاطع أرسل إليه قنصل فرنسا كتابا يعرض عليه به أن يكون تحت حماية فرنسا ، وهي تسفره من لبنان بكل أمن إلى فرنسا وأرسل إليه بعض أعيان ملته؛ ليقنعوه بالإجابة إلى طلبه، فعاد البك حينئذ برجاله إلى بكركي كرسي بطريركية الموارنة، والتقاه القنصل إلى هناك فارتضى البك حماية فرنسا وأن يسافر تحت رايتها، وبارح بكركي قاصدا بيروت للسفر منها إلى فرنسا، فاجتمعت في بكركي الألوف المؤلفة ورافقته في سفره إلى بيروت وغصت الطريق بالملاقين له، وكان لدخوله بيروت احتفال لم يكن له مثيل قبله، وسافر إلى مرسيليا في شباط سنة 1867، ثم إلى جزائر الغرب حيث عين له نابوليون الثالث نفقة لمصروفه عشرين ألف فرنك في السنة.
وأما داود باشا فاستمر على متصرفية لبنان إلى أن عزله الباب العالي برضى سفراء الدول سنة 1868، وسمى خلفا له المرحوم فرنكو باشا كوسا، ودبر هذه المتصرفية إلى أن مات مأسوفا عليه سنة 1873، ودفن في الحازمية، وخلفه رستم باشا وأقام عشر سنوات إلى سنة 1833 حين سمى الباب العالي بدلا منه واصا باشا، ودبر الجبل إلى أن توفي في 29 حزيران سنة 1892، ودفن في الحازمية أيضا، وخلفه سنة 1892 نعوم باشا ابن أخت فرنكو باشا ودبر جبل لبنان إلى سنة 1902 حين انقضت مدة ولايته، فسمى الباب العالي خلفا له برأي سفراء الدول مظفر باشا، وهو المتصرف الحالي، وفقه الله إلى ما به عمل الخير ورضى المتبوع الأعظم، ونجاح لبنان.
وفي سنة 1885 فصلت ولاية بيروت عن ولاية سورية، وجعلت ولاية مستقلة، وكان أول من وليها المغفور له علي باشا أقام على الولاية نحو سنة، وتوفي وسمي موضعه حسين فوزي باشا، ثم راؤف باشا، ثم عزيز باشا، ثم إسماعيل بك، ثم خالد بك، ثم نصوحي بك، ثم ناظم باشا، ثم رشيد بك أفندي، ثم خليل باشا والينا الحالي.
ونحمد الله على أن السوريين لزموا السكينة والهدوء، والانقياد لأمر سلطاننا الأعظم في كل هذه المدة الأخيرة، ولم يصنعوا شيئا يسخط المتبوع الأعظم عليهم إلا بعض المنازعات التي كانت في حوران بين الدروز والعرب.
الفصل السابع
في بعض المشاهير في القرن التاسع عشر
(1) في ذكر بعض هؤلاء المشاهير السوريين
الشيخ أمين الجندي:
ولد في حمص، وأخذ العلوم عن علمائها، وتردد إلى دمشق وقرأ على أئمتها وعاد إلى حمص، وأقام بها وأتقن الشعر واشتهر به. ولما كان إبراهيم باشا المصري بسورية كان متقربا إليه، ولائذا بعقوته مكثرا من القصائد في مدحه ومن نظم الأدوار يتغنى بها بذكره، وقد عني بعضهم بجمع أكثر ما نظمه من القصائد والمقاطيع والموشحات، فكان منه ديوان كبير طبع ببيروت، وتوفي الشيخ أمين بحمص سنة 1841.
المعلم بطرس كرامة:
هو بطرس بن براهيم كرامة، من أعيان ملة الروم الكاثوليكيين في حمص، ولد بها سنة 1774، وهاجر مع أبيه إلى عكا ثم إلى لبنان وكان ضليعا في اللغة العربية ويحسن التركية، فدعاه الأمير بشير الشهابي والي لبنان سنة 1810؛ ليعلم ابنيه خليلا وأمينا، فرفع الأمير مكانته، واشتهر بعلمه وتفننه وشعره وعظمت مهابته، وبقي على ذلك إلى أن نفي الأمير بشير إلى مالطة، ثم سافر معه إلى الأستانة، وتزلف إلى رجال الدولة فعين مترجما في المابين الهمايوني إلى أن أدركته المنية سنة 1851، وكان شاعرا مجيدا فصيح اللسان سيال القلم، طبع له ديوان في بيروت سنة 1898.
الشيخ نصيف اليازجي:
هو ابن عبد الله بن نصيف اليازجي الحمصي الأصل، ولد في كفرشيما بلبنان في 25 آذار سنة 1800، وكان والده طبيبا مشهورا، وكان يحسن الشعر فنشأ نصيف على الميل إلى الأدب والشعر، ثم اتصل بالأمير بشير الشهابي، فجعله كاتبا له وأقام في خدمته إلى أن ترك الأمير لبنان سنة 1840، فانتقل إلى بيروت وأقام بها متفرغا للمطالعة والتأليف والتدريس ونظم الشعر، ومن تآليفه المشهورة أرجوزتان إحداهما في التصريف والأخرى في النحو، وشرحهما بنفسه وله أيضا أرجوزة في المنطق وأخرى في العروض، وأخرى في المعاني والبيان، وله كتاب عقد الجمان في المعاني والبيان، ومجمع البحرين جمع فيه ستين مقامة نحا فيها نحو الحريري، وجمع من شعره ثلاثة دواوين وكانت وفاته في 8 شباط سنة 1871.
فتح الله مراش وابنه فرنسيس:
أما فتح الله فكان أحد أعيان طائفة الروم الملكيين في حلب، وله إلمام ببعض العلوم ، وقد كتب مقالة في انبثاق الروح القدس من الابن وحده، فردها الطيب الذكر البطريرك بولس مسعد ردا مفحما، ولما اطلع فتح الله عليه حصحص له الحق، وأذعن للعقيدة الكاثوليكية بأن الروح القدس ينبث من الآب والابن، وصار كاثوليكيا.
أما ابنه فرنسيس:
فولد سنة 1836 وسافر مع أبيه إلى أوروبا، وعاد إلى حلب عاكفا على التخرج بالأدب والعلوم، ودرس الطب أيضا، ولكن كف بصره ومع ذلك أكب على نظم الشعر وتأليف الكتب، فله منها غاية الحق وهي رواية فلسفية طبعت في بيروت سنة 1881، ومشهد الأحوال وهو كتاب أدب نظم ونثر طبع في بيروت سنة 1870، ومرآة الحسناء وهو ديوان شعر طبع في بيروت سنة 1874، والصدف في غرائب الصدف، وكتاب رحلته إلى باريس، وله كتاب آخر سماه شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة طبع في بيروت سنة 1892، وله رسائل كثيرة، وكانت وفاته سنة 1873.
الحاج عمر الأنسي البيروتي:
هو ابن السيد محمد ديب بن أعرابي بن حسين المعروفين ببني السقعان، ولد ببيروت سنة 1821، وأكب على اقتباس العلم على الشيخ محمد الحوت، والشيخ عبد الله خالد، وتقلب في عدة مناصب منها مديرية قضاء حيفا، ثم قضاء صيدا ثم نيابة صور، وتوفاه الله سنة 1876، وكان شاعرا مجيدا وله منظومات عني بنشرها ابنه عبد الرحمن أفندي وجمع شتاتها، فألف منها ديوانا سماه المورد العذب وطبعه.
إسكندر أبكاريوس وأخوه يوحنا:
هما ابنا يعقوب أغا الأرمني، وقد توفي إسكندر في بيروت سنة 1885، وله مؤلفات حسنة، منها تزيين نهاية الأدب في أخبار العرب، طبع في بيروت سنة 1867، ثم روضة الأدب في طبقات شعر العرب طبع في بيروت سنة 1856، وله ترجمة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا طبع في مصر سنة 1299ه، وله أيضا نزهة النفوس وزينة الطروس طبع في مصر.
وأما أخوه يوحنا:
فتوفاه الله في سوق الغرب من لبنان سنة 1889، وله من التآليف كتاب سماه قطف الزهور في تاريخ الدهور طبع في بيروت سنة 1889، وله معجم إنكليزي مطول طبع في بيروت أيضا، وله كتاب آخر سماه نظرة الخواطر يشتمل على روايات أدبية وتاريخية طبع في بيروت سنة 1877.
الشيخ يوسف الأسير:
هو ابن السيد عبد القادر الحسيني، ولد بصيدا سنة 1814 ودرس شيئا من العلم على الشيخ أحمد الشرمبالي وأقام مدة في مدرسة دمشق المرادية، ثم أقام في الجامع الأزهر سبع سنين فنبغ في العلوم النقلية والعقلية، ثم أقام في بيروت وكثر تلاميذه في الفقه، وتولى الفتوى بعكا مدة ونصب مدعيا عموميا بلبنان في مدة داود باشا، وسار إلى الأستانة وتولى رياسة التصحيح في دائرة نظارة المعارف، وعاد إلى بيروت مكبا على التعليم والتأليف، فله كتاب سماه الرائض في الفرائض، وشرح كتاب أطواق الذهب للعلامة الزمخشري، وله نظم كثير جمع في ديوان يعرف باسمه، وله رسائل وردود مشهورة، وتوفي سنة 1889.
الشيخ إبراهيم الأحدب:
ولد بأطرابلس سنة 1826، وأتقن علوم التفسير والحديث والأصول والكلام واللغة وآدابها، وعكف على التدريس، وكان ذا قريحة شعرية، وسار إلى مصر فأجله علماؤها، واشتهر ببراعته في الفقه الحنفي وسمي نائبا في المحكمة الشرعية في بيروت، ثم رئيسا لكتابها، وله ثلاثة دواوين شعر معروفة باسمه، ونحو ثمانين مقامة على نحو مقامات الحريري، وله أيضا كتاب سماه فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق، وله كتاب آخر سماه اللال في مجمع الأمثال، وله أيضا نشوة الصهباء في صناعة الإنشاء، إلى غير ذلك، وتوفي سنة 1890.
وأما من علماء الموارنة فكان:
المعلم بطرس البستاني:
وهو بن بولس بن عبد الله البستاني، ولد بقرية الدبية سنة 1819، ودرس مبادئ العربية والسريانية، ثم دخل مدرسة عين ورقة فتلقى فيها آداب اللغة العربية واللغات السريانية والإيطالية واللاتينية، ومن العلوم الفلسفة واللاهوت والشريعة الكنسية والتاريخ والحساب، وعين معلما في مدرسة عين ورقة، وبقي فيها إلى سنة 1840 حين حضرت مراكب الدول إلى شطوط سورية، فاستخدمه الإنكليز ترجمانا، وتعرف في بعض قسوس الأميركان، فكان يعلمهم العربية ويعرب الكتب التي ينشرونها، فتمكنت علاقات المودة بينه وبينهم حتى تابعهم على مذهبهم، وعين ترجمانا في قنصلاتو أميركا ببيروت، وعكف على التأليف والترجمة ودرس اللغتين العبرانية واليونانية، وعاون الدكتور سميت الأميركي على ترجمة الأسفار المقدسة إلى العربية، وفتح مدرسة وطنية يدرس فيها اللغات والعلوم، وأنشأ مجلة علمية أدبية سماها الجنان، وجريدة أسبوعية سماها الجنة، ونشرة يومية سماها الجنينة، وتوفي سنة 1883 بعد أن قضى حياته كلها خادما للعلم، وله مؤلفات كثيرة منها كتابه الموسوم بكشف الحجاب في علم الحساب، ومعجمه الموسوم بمحيط المحيط، ومختصره الذي سماه قطر المحيط، وله أيضا كتاب مسك الدفاتر، وكتاب مفتاح المصباح في التصريف والنحو، وأشهر مؤلفاته المؤلف المعروف بدائرة المعارف، جمع فيه تراجم الأعلام من سلاطين وملوك وأعيان ومدن، وأعمال ومقالات في العلوم والفنون، شرع فيه سنة 1875 يعاونه فيه ابنه سليم، وبعض الكتاب، فأكمل منه ستة مجلدات، وتوفي مبتدئا بالسابع وما زال ورثاؤه يواصلون هذا التأليف، وبلغوا فيه إلى المجلد الثاني عشر.
فارس الشدياق:
هو ابن يوسف بن منصور بن جعفر الشدياق، من سلالة المقدم رعد بن خاطر الحصروني، ولد بعشقوت سنة 1804، وانتقل والداه إلى الحدث في ساحل بيروت، وتخرج أولا بشيء من العلوم في مدرسة عين ورقة، ثم سار إلى مصر وتولى كتابة جريدة الوقائع المصرية، ثم سافر إلى مالطة سنة 1834، وأقام بها زهاء أربع عشرة سنة يدرس في مدرسة المرسلين الأميركان، ويعرب ما يطبع في مطبعتهم، وفي سنة 1848 طلبته جمعية ترجمة الأسفار المقدسة في لوندرا؛ ليعاونها على ترجمتها إلى العربية، ففعل وكانت هذه الترجمة أحسن الترجمات من حيث اللغة العربية، وأتقن حينئذ اللغتين الإفرنسية والإنكليزية، وتزوج بسيدة إنكليزية، ولما زار أحمد باشا باي تونس إفرنسا وهو فيها، نظم له قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
زارت سعاد وقلبي اليوم متبول
فما الرقيب بغير النشر مدلول
فأرسل الباي يستقدمه إليه على سفينة حربية، فأقام بتونس يدون جريدة الرائد التونسي، وولاه الباي أحسن منصب، فأسلم وسمى نفسه أحمد فارس الشدياق، ثم طلبه السلطان عبد المجيد خان إلى الأستانة، فقدم إليها وتولى تصحيح الطباعة العامرة سنين، وفي سنة 1861 أنشأ جريدة الجوائب الشهيرة وأجاد في إنشائها وسبكها، وما زال عاكفا على التأليف والتصنيف إلى آخر حياته التي انقضت سنة 1887، ودفن في الحازمية على مقربة من الحدث موطنه.
أما مؤلفاته فمنها سر الليال في القلب والإبدال، وهو كتاب في اللغة قصد به بيان مدلولات الأسماء والأفعال من قلبها، أو تبديل بعض حروفها، واستدرك ما فات صاحب القاموس من لفظ أو مثل، وطبع كتابه هذا بالأستانة سنة 1284ه، ثم كتابه الجاسوس على القاموس انتقد به الفيروزبادي في قاموسه المحيط، ومنها كتاب كشف المخبا عن أحوال أوروبا، والواسطة في أحوال مالطة، واللفيف في كل معنى ظريف، وغنية الطالب ومنية الراغب في التصريف والنحو، والباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية، والسند الراوي في الصرف الفرنساوي، وله كتاب آخر وسمه بالساق على الساق في ما هو الفرياق ... وليته لم يكتب هذا الكتاب؛ لأنه ضمنه ألفاظا وحكايات تجاوزت حدود الأدب، ويأبى الأديب مطالعته، ولم يكن من المفيد في هذا الكتاب إلا جمع الألفاظ المترادفة، ومجموعات أسماء كل موضوع على حدة كأسماء الآلات والمأكولات إلخ.
الكونت رشيد الدحداح:
هو ابن الشيخ غالب بن سلوم الدحداح، ولد بعرمون سنة 1813، ودخل مدرسة عين ورقة فدرس بها أصول العربية والإيطالية، ثم مدرسة بزمار فأتقن اللغة التركية. وفي سنة 1838 أدخله الأمير أمين ابن الأمير بشير في كتبة ديوان أبيه فأقام هناك سنتين، ولما تولى عمر باشا لبنان سنة 1842 قرب إليه الشيخ رشيد وولاه نظارة البكاليك بلبنان، فلم يمكث طويلا إلا وكان ما دفعه إلى ترك هذه النظارة، وظهر بين الساعين بنصب الأمير أسعد قعدان شهاب واليا على لبنان، وعين مديرا لأعماله سنة 1843، ولما لم يقبل عمر باشا تولية الأمير أسعد تشتت شملهم، وفر الشيخ رشيد إلى صيدا وانصب هناك على درس الفقه، ثم أخذه الشيخ مرعي الدحداح إلى مرسيليا، وجعله كاتبا في محل تجارته وزوجه بابنته مرتا. وفي سنة 1852 ترك محل تجارة عمه، وأنشأ محلا تجاريا في فرنسا ثم محلا في إنكلترا، وعكف في آونة الفراغ على التأليف والتصنيف، فطبع سنة 1849 قاموس المطران جرمانس فرحات، وهذبه وزاد عليه وسمى كتابه أحكام باب الإعراب عن لغة الأعراب، وطبع ديوان الشيخ عمر بن الفارض مع شرحين له لعبد الغني النابلسي وحسن البوريدي ، ثم أنشأ في باريس جريدته المشهورة برجيس باريس، وأنيس الجليس وله فيها المقالات الخطيرة الرنانة، ونشر أيضا مجموعة أشعار حكمية لأشهر شعراء العرب سماها طرب المسامع في الكلام الجامع، وتقرب إلى سمو باي تونس، وكان ترجمانا له عند زيارته إفرنسة وسعى له بقرض، فتكرم عليه بمبلغ عظيم، وفي سنة 1864 عاد إلى إفرنسة، وتوطن بريس وزار رومة سنة 1867، فأنعم عليه البابا بيوس التاسع بلقب كونت روماني، وفي سنة 1875 اشترى بلدة دينار على شاطئ بحر المانش، وأجال فيها يد العمارة وأوصل إليها السكة الحديدية، وزادت قيمتها على أثمانها أضعافا، وصارت ثروة طائلة، ومن منشوراته ومؤلفاته كتاب فقه اللغة لأبي منصور الثعالبي، طبعه في بريس سنة 1861، وله كتاب عنوانه قمطرة الطوامير ضمنه مقالات أدبية، وفوائد لغوية، وله كتاب كبير في عدة مجلدات لم يطبع سماه السيار المشرق في بوار المشرق تكلم فيه في العرب، ومن تنصر منهم ومناظرات مع علماء التفسير من المسلمين، وكلام في ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وله رسالة في المناظرات عنونها ترويح البال في القلم والمال، وأدركته المنية سنة 1889.
إبراهيم بك النجار:
هو ابن خليل النجار من دير القمر، ولد بها سنة 1822 ودرس الطب في مدرسة قصر العيني في مصر، وحاز قصبات السبق بين أقرانه، ولما نال الشهادة المعتادة سنة 1842 سار إلى أزمير، ثم إلى الأستانة ليرى من ربي بنعمة الأمير بشير الشهابي، وتوفق هناك ببعض عمليات جراحية، وتقرب من بعض رجال الدولة، وأتقن اللغتين التركية والإفرنسية وأنعمت عليه الحضرة السلطانية برتبة سر هزار أي: رئيس ألف، وصدرت الإرادة السنية بأن يكون طبيبا أولا للعساكر ببيروت، فاشتهر بصناعته وحسن صفاته وفصاحة لسانه، وله من التآليف كتاب مصباح الساري ونزهة القاري، طبعه ببيروت سنة 1858 تكلم فيه عن أسفاره والسلاطين العثمانيين إلى السلطان عبد المجيد خان، وله أيضا كتاب سماه هدية الأحباب وهداية الطلاب، تكلم فيه في بعض مبادئ الطبيعيات، وتوفي بعد سنة 1860.
ومن المشاهير غير السوريين الذين كانوا في هذا العصر:
عبد الله الشرقاوي المصري :
له تآليف أشهرها تحفة الناظرين في من ولي مصر من الولاة والسلاطين طبعت في مصر سنة 1281ه، وله أيضا حاشية على شرح محمد منصور الهدهدي لرسالة السنوسي في التوحيد، طبعت في القاهرة سنة 1810، وله أيضا شرح على كتاب الحكم في التصوف لابن عبد الله القشعري، وتوفي سنة 1812.
عبد الرحمن الجبرتي الحنفي المصري:
أشهر تآليفه كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار، طبع بالقاهرة في أربعة أجزاء سنة 1297ه، وهو تكملة لتاريخ ابن إياس، وتاريخ ابن إياس تتمة لتاريخ المقريزي، وقد طبع تاريخه أيضا على هامش تاريخ ابن الأثير المعروف بالكامل من سنة 1290 إلى سنة 1303، وكانت وفاة الجبرتي سنة 1822.
إبراهيم الباجوري المصري:
ولد سنة 1783، وتوفي سنة 1859 وله مؤلفات كثيرة منها تحفة المريد على جوهرة التوحيد، وكتاب الجوهرة هذا هو لإبراهيم اللقاني المالكي، وقد طبعت التحفة بالقاهرة سنة 1304ه، وله حاشية على شرح ابن هشام لقصيدة كعب بن زهير، وحاشية على شرح حسن أفندي لكتاب شمائل النبي للترمزي، وسمى الباجوري حاشيته المواهب اللدنية، وطبعت في بولاق سنة 1280ه، ومن مؤلفاته حاشية على كتاب أبي الشجاع أحمد الأصفهاني في الفقه، وحاشيته على أم البراهين والعقائد وهي رسالة للسنوسي في التوحيد، وحاشية على كتاب الإيضاح لأحمد الدمنهوري على أرجوزة الأخضري في المنطق إلى غير ذلك، وتوفي الباجوري سنة 1859.
محمد الدمنهوري المصري:
توفي سنة 1871، وله من التآليف الحاشية الكبرى على متن الكافي في علمي العروض والقوافي، وله أيضا مختصر الشافي على متن الكافي، وحاشية على الرسالة السمرقندية في البيان، وطبعت كتبه هذه في مصر.
عبد الله أبو السعود المصري:
ولد سنة 1828، وتفقه بالعلوم في المدرسة التي أنشأها محمد علي باشا، وكان شاعرا مجيدا وقد اشتهر بألفيته في تاريخ محمد علي باشا، وطبع ديوانه بالقاهرة، وله نظم اللآلئ بالسلوك في من حكم فرنسا من الملوك ترجمه عن الإفرنسية، وطبع ببولاق سنة 1257ه، وله قانون المحاكمات والمخاصمات طبع ببولاق سنة 1283، وتوفي بمصر سنة 1878.
الفصل الثامن
في تاريخ سورية الديني في القرن التاسع عشر
في بطاركية أنطاكية في هذا القرن (1) في بطاركة أنطاكية للروم الملكية غير المتحدين
بعد وفاة البطريرك أفتيميوس سنة 1813 خلفه حينئذ سيرافيم، واستمر على الكرسي الأنطاكي إلى سنة 1832، فخلفه متوديوس من نكسس فدبر البطريركية إلى سنة 1850، وخلفه في تلك السنة البطريرك إياروتاوس من غانفورا، واستمر يدبر شئون البطريركية خمسا وثلاثين سنة، وتوفاه الله سنة 1885، وخلفه تلك السنة السيد جراسيميوس من المورة، فقام بأعباء البطريركية الأنطاكية ست سنين، وانتقل سنة 1891 إلى بطريركية أورشليم وخلفه على الكرسي الأنطاكي البطريرك سبيريدون من قبرس، واستمر يدبر البطريركية الأنطاكية ثماني سنين، وخلفه السيد ملاتيوس الثاني ابن موسى دوماني من دمشق، وتوفي سنة 1906، وخلفه السيد غريغوريوس حداد البطريرك الحالي. (2) في بطاركة الموارنة الأنطاكيين
إن البطريرك يوسف التيان صير بطريركا سنة 1796، وكان قد ولد في بيروت، وتخرج في العلوم بمدرسة الطائفة برومة، ورقي إلى درجة الكهنوت سنة 1784، وأرسله أعيان الطائفة إلى رومة نائبا عنها لرد البطريرك يوسف إسطفان إلى المقام البطريركي، وقضى وطر الطائفة على أحسن حال، ورقاه البطريرك يوسف إسطفان إلى أسقفية دمشق سنة 1786، ثم استقال من هذه الأسقفية وجعل نائبا بطريركيا في الروحيات، ولما توفي البطريرك فيلبوس الجميل خلفه في البطريركية في 28 نيسان سنة 1796، وأقام يدبر البطريركية بغيرة لا يدانيها ملل، وكانت مناقشة بينه وبين المطران جرمانوس آدم الملكي الكاثوليكي سنة 1799 على السلطة المطلقة للحبر الروماني، فكتب هذا البطريرك ثلاث رسائل بين بها صراحة رأيه مفندا رأي الباحث معه، وكان يؤثر هذا البطريرك العيشة بالنسك والانفراد على أعباء البطريركية، وزاد في رغبته هذه معاكسة بعض الأساقفة لبعض رغائبه الخيرية، واستمالوا إليهم بعض أصحاب الأمر فاستقال من البطريركية سنة 1809، ولزم العيشة النسكية في دير القديس يوحنا مارون، وفي دير قنوبين وأدركته المنية في هذا الدير في 20 شباط سنة 1820، وقد أرخ بعضهم وفاته بقوله: غاب ضياها.
وبعد استقالة البطريرك يوسف التيان انتخب البطريرك يوحنا الحلو في 8 حزيران سنة 1809، وانتقل للسكنى بدير قنوبين سنة 1811، وأخذ في إصلاح أملاكه وأحواله بعد أن كان مهملا لسكنى البطاركة في كسروان، وحول دير مار يوحنا مارون بكفر حي مدرسة خاصة لأبرشية جبيل والبترون سنة 1812، وجعل دير مار مارون الرومية بكسروان مدرسة عامة للطائفة سنة 1817، وعقد مجمع لويزة سنة 1818، وذهب للقاء ربه في 12 أيار سنة 1823 في دير قنوبين.
وخلفه في بطريركية الموارنة الأنطاكية البطريرك يوسف حبيش من ساحل علما بكسروان، وكان قد تخرج بالعلوم في مدرسة عين ورقة، ورقاه المطران أنطون الخازن إلى درجة الكهنوت في 26 حزيران سنة 1814، ورقاه البطريرك يوحنا الحلو إلى أسقفية أطرابلس في 30ك 2 سنة 1820، ولما توفي البطريرك يوحنا الحلو انتخب بطريركا في 25 أيار سنة 1823، وحول دير مار عبدا هرهريا مدرسة عامة لطائفته سنة 1830، وكذا فعل بدير مار سركيس وباخوس بريفون سنة 1833، وجعل مدرسة الموارنة بعنطورا ديرا للمرسلين اللبنانيين، وتوفاه الله سنة 1845.
وخلفه البطريرك يوسف الخازن من عجلتون، وهو من تلاميذ مدرسة عين ورقة ودبر البطريركية بروح وداعة إلى سنة 1854، وخلفه البطريرك بولس مسعد من عشقوت، وكان قد تخرج بالعلوم بمدرسة عين ورقة، ثم بمدرسة مجمع نشر الإيمان المقدس برومة وكان عالما، وله عدة تآليف منها الدر المنظوم ردا على أسئلة البطريرك مكسيموس مظلوم، وكتاب في انبثاق الروح القدس من الآب والابن ردا على فتح الله مراش الحلبي إلى غير ذلك، وجمع من أوراق الكرسي البطريركي التي كانت مشتتة مجلدين ضخمين، وزار سنة 1867 رومة وباريس والأستانة العلية، ولقي من أصحابها كل تجلة وتكريم، وقد أبنت ذلك بتفصيل في كتابي سفر الأخبار في سفر الأحبار، وانتقل إلى السعادة الخالدة سنة 1890.
وخلفه البطريرك يوحنا الحاج من دلبتا، وهو من تلامذة مدرسة عين ورقة، ومن أعماله الخطيرة إنشاؤه وهو أسقف ثروة طائلة لكرسي أبرشيته بعلبك، وتجديده بناء دير بكركي الكرسي البطريركي، وجعله صرحا يعز له النظير، وسعى نائبه المطران إلياس الحويك بتجديد مدرسة الموارنة برومة، ونال من حكومة إفرنسة ثمانية كراسي لثمانية تلاميذ موارنة بمدرسة سان سولبيس بباريس، واشترى في القدس دارا للطائفة يقيم به نائب بطريركي، وتوفي البطريرك يوحنا في آخر سنة 1898.
وخلفه بطريركنا الحالي السيد إلياس الحويك من حلتا في بلاد البترون، تلقى العلوم حتى الفلسفة بمدرسة الآباء اليسوعيين بغزير، ثم درس اللاهوت في مدرسة مجمع نشر الإيمان برومة، ونال رتبة ملفان، وقد أنشأ صرحا جديدا للبطريركية على مقربة من قنوبين وسماه جديدة قنوبين، وقد مر أنه كان هو الساعي بتجديد مدرسة رومة، وبأخذ الكراسي من حكومة إفرنسة، وشراء المحل في القدس أطال الله أيام رياسته ووفقه إلى عمل الخير. (3) في بطاركة أنطاكية المتحدين في القرن التاسع عشر
ذكرنا في تاريخ القرن السالف أن البطريرك أغابيوس مطر انتخب سنة 1797، ففي سنة 1806 عقد مجمعا بدير القديس أنطونيوس في القرقفة، وسنوا به قوانين لإصلاح التهذيب البيعي، وفي سنة 1811 اشترى دار الشيخ سعد الخوري بعينتراز، وجعله مدرسة إكليريكية، ورأس عليها المطران مكسيموس مظلوم، وتوفي هذا البطريرك سنة 1812.
وخلفه البطريرك أغناتيوس صروف سنة 1812 نفسها، لكنه لم يبق في البطريركية إلا نحو تسعة أشهر وسطا عليه إلياس عماد وأولاده، واغتالوه ظلما، فقبض عليهم جميعا الأمير بشير وشنقهم، وقام بعد أغناتيوس البطريرك أثاناسيوس مطر، وكان أخا البطريرك أغابيوس مطر المذكور ومن الرهبانية المخلصية، وكان انتخابه سنة 1813، ولم يستمر على البطريركية إلا نحو ثلاثة أشهر وتوفي مطعونا، وانتخب مكانه البطريرك مكاريوس الطويل سنة 1813، واستأثرت رحمة الله به سنة 1815، وانتخب بعده البطريرك أغناتيوس القطان، وابتلاه الله بمرض في عينيه أدى به إلى فقد بصره، وتحمل مصابه بالصبر الجميل إلى أن توفاه الله سنة 1833.
وخلفه البطريرك مكسيموس مظلوم، وكان مطرانا على حلب، فتنزل عن رئاسة هذه الأبرشية في رومة فسماه البابا أسقف ميراليكية، وعكف في مدة إقامته برومة على درس اللغات اليونانية والإيطالية واللاتينية، وعلى ترجمة كتب إلى العربية منها: كتاب أمجاد مريم، وكتاب الاستعداد للموت، وألف بعض كتب أيضا، وبعد أن انتخب بطريركا عقد مجمعا في عين تراز سنة 1835 وضع فيه 25 قانونا، أثبته الكرسي الرسولي وسنة 1838 نال براءة سلطانية بأن يسمى رئيسا على كرسي أنطاكية وإسكندرية وأورشليم، وعرفت الدولة طائفة مستقلة عن الروم الملكيين، وفي سنة 1853 سار إلى إسكندرية لبناء الكنيسة، والدار البطريركية فتوفي هناك سنة 1855.
وبعد وفاته انتخب البطريرك إكليمنضوس مجوث، وهو من الرهبانية المخلصية وقد التبك كثيرا بالقلق الذي كان في ملته من جراء اتباع الحساب الغريغوري، حتى حمله أخيرا على أن يستقيل من البطريركية سنة 1864، وانقطع إلى الزهد والورع والسيرة النسكية الشاقة إلى أن نقله الله إليه سنة 1882.
وبعد استقالته انتخب البطريرك غريغوريوس يوسف من رشيد بمصر مولدا، وهو دمشقي أصلا وكان أول اهتمامه بإزالة القلق من ملته بسبب الحساب، فيسر الله له ذلك وأخذ بإنشاء المدرسة المعروفة بالبطريركية ببيروت سنة 1865، وجمع طلبة إكليريكيين إلى مدرسة عين تراز، وشهد المجمع الواتيكاني برومة سنة 1869، وأنشأ كثيرا من الكنائس والمعابد والمكاتب لملته، وكان غيورا على شعبه راغبا في خيره ونجاحه إلى أن أدركته الوفاة سنة 1897.
وخلفه البطريرك بطرس الجريجيري من زحلة، وأبدى صنوف الغيرة والجهاد في خير ملته، ولم يفسح الله بأجله بل عاجلته المنية في أوائل سنة 1902، وخلفه البطريرك كيرلس جحي من حلب، وهو بطريركهم الآن، أتاح الله له التوفيق لخير الدين الكاثوليكي وملته. (4) في بطاركة أنطاكية على السريان الكاثوليكيين
إن بعض السريان اليعاقبة عادوا إلى الإيمان الكاثوليكي على أثر المجمع الفلورنسي، لكنهم ارتدوا إلى بدعتهم، ثم اعتنق الإيمان القويم أندراوس أخيجان الحلبي على يد البطريرك يوسف العاقوري، وأرسله البطريرك يوحنا الصفراوي إلى مدرسة الموارنة برومة فتخرج بالعلوم، فرقاه إلى درجتي الكهنوت ثم الأسقفية سنة 1656، وأرسله إلى حلب يصحبه القس إسطفان الدويهي (الذي صار بعدا بطريركا)، فردا كثيرين من اليعاقبة إلى الإيمان القويم، ولما توفي أغناتيوس سمعان بطريرك اليعاقبة سنة 1659 سمى الكرسي الرسولي أندراوس أخيجان بطريركا على السريان الكاثوليكيين، وتوفاه الله سنة 1678، وخلفه البطريرك أغناتيوس بطرس غريغوريوس وثبته الحبر الروماني سنة 1679، وتوفي بالسجن بأدنة بمكيدة جرجس بطريرك اليعاقبة سنة 1701.
ولم يقم بعد ذلك بطريرك على هؤلاء السريان إلا في سنة 1783، حين جحد المطران ديونيسيوس جروة اليعقوبية، واعترف بالإيمان الكاثوليكي وأقنع أربعة أساقفة يعقوبيين أن يقتدوا به، ففعلوا وهم إبراهيم ونعمة وموسى وجيورجيوس بشارة وانتخبوه بطريركا، وثبته البابا بيوس السادس سنة 1783، وإذ لم يتمكن من السكنى بين اليعاقبة لجأ إلى لبنان، فقبله الموارنة بالإكرام ، وسكن في دير الشرفة بكسروان وتوفي به سنة 1800.
وبعد وفاته انتخب كيرلس بهنام مطران الموصل بطريركا فلم يقبل، فاجتمع رأي الأساقفة على انتخاب الخوري ميخائيل ضاهر من حلب سنة 1802، ورقوه إلى الأسقفية ثم إلى البطريركية، وثبته البابا بيوس السابع سنة 1803، ثم استقال سنة 1810 وبقي كرسيهم فارغا مدة.
وفي سنة 1814 أقيم عليهم غريغوريوس سمعان الموصلي مطران أورشليم بطريركا، لكنه استقال قبل أن يبلغه التثبيت وبقي كرسيهم فارغا إلى أن اجتمع أساقفتهم في دير الشرفة، وانتخبوا بطريركا غريغوريوس بطرس جروة ابن أخي بطريركهم ميخائيل جروة المذكور سنة 1820، وحضر إلى رومة فثبته البابا لاون الثاني عشر سنة 1828. وفي سنة 1839 عرفتهم الحكومة السنية ملة مستقلة، فتملصوا من مضايقة اليعاقبة لهم. وتوفي البطريرك بطرس جروة سنة 1851.
وخلفه السيد أنطونيوس السمحيري سنة 1853، وجعل سكناه في ماردين حيث بنى كنيسة ودارا بجانبها، وتوفي سنة 1864 وخلفه السيد فيلبس عركوش سنة 1866، وتوفي سنة 1874 وخلفه السيد جرجس شلحت مطران حلب تلك السنة، وتوفي سنة 1891، وخلفه السيد بهنام بني مطران الموصل، وتوفي سنة 1897، وخلفه السيد إفرام الرحماني مطران الرها أولا، ثم مطران حلب، وكان انتخابه سنة 1898، وثبته الكرسي الرسولي تلك السنة وهو بطريركهم الآن، وفقه الله إلى عمل الخير. (5) في بطاركة أورشليم على الروم غير المتحدين واللاتينيين
بعد وفاة البطريرك أفتيميوس المذكور في تاريخ القرن السالف سنة 1808، انتخب بوليكربوس بطريركا على الكرسي الأورشليمي، واحترق في أيامه هيكل القيامة فعني بتجديده، ولم تنته سنة 1811 إلا وعاد الهيكل إلى رونقه السابق، وتوفي هذا البطريرك سنة 1827 وخلفه يوسف الخامس، وقد أنشأ بعض كنائس وتوفي سنة 1844، وخلفه سنة 1845 كيرلس ويوصف بالثاني وأنشأ مدرسة للعلوم السامية واللغات، ومدرسة استعدادية للذكور وأخرى للإناث، وتوفي سنة 1872، وخلفه بروكوبيوس الثاني، ولم يقم في البطريركية إلا ثلاث سنين، وتوفي سنة 1875، فخلفه إيروثيوس واستمر في الرئاسة إلى سنة 1882، وخلفه البطريرك نيقوديموس ودبر البطريركية إلى سنة 1890، واعتزل البطريركية لخلاف وقع بينه وبين الرهبان، ونظنه حيا إلى الآن في الأستانة، وخلفه السيد جراسيموس منتقلا من كرسي أنطاكية إلى كرسي أورشليم سنة 1891، واستمر إلى سنة 1897، وخلفه السيد دميانوس وهو البطريرك الآن.
وأما بطاركة أورشليم على اللاتينيين، فقد ذكرنا منهم في تاريخ سورية للقرنين الثاني عشر والثالث عشر من كانوا حينئذ مع بطاركة أنطاكية، وبعد أن غرق نيقولاوس بطريرك أورشيلم عند محاصرة الملك الأشرف عكا سنة 1281 اختار البابا إينوشنسيوس الخامس رودلفوس الثاني بطريركا على أورشليم، وتوفي سنة 1303، فصار الأحبار الأعظمون يسمون بطاركة شرفا على أورشليم، ويقيمون برومة إلى أن حسن للبابا بيوس التاسع أن ينصب السيد يوسف فالركا بطريركا مقيما بأورشليم سنة 1847، ويخضع لسلطته اللاتينيون الذين بفلسطين وقبرس، وأضاف بعد ذلك إليه القصادة الرسولية بسورية، وتوفي سنة 1873، وخلفه السيد منصور براكو، وبقي مدبرا البطريركية إلى سنة 1888 وخلفه سنة 1889 السيد لودوفيكوس بيافي، وكان قاصدا رسوليا بسورية، وقد توفي هذا سنة 1905 ولم يسم الكرسي الرسولي خلفا له إلى الآن. (6) في بطاركة الأرمن بلبنان
يعلم كل من له إلمام بالتاريخ أن الأرمن بعد تشبثهم ببدعة الطبيعة الواحدة زمانا مديدا، رجع بعضهم إلى الإيمان القويم في آونة متباينة، ولم يثبتوا إلى أن قام منهم ملكيور طاسباس مطران ماردين في أواسط القرن السابع عشر، وصار كاثوليكيا وانضم إليه جماعة، ولكن نفي إلى الأستانة بسعاية الأرمن غير الكاثوليكيين، ومات في منفاه سنة 1714، وفر حينئذ يعقوب مطران مرعش الكاثوليكي، ولجأ إلى البطريرك إسطفانوس الدويهي وأقام عنده في قنوبين عدة سنين، ورقى بطرس بطريرك كيليكيا إبريهام العينتابي الأرمني إلى أسقفية حلب سنة 1708، وكان كاثوليكيا، وفي سنة 1739 انتخب إبريهام المذكور بطريركا على كيليكيا، وسار إلى رومة فثبته البابا بناديكتوس الرابع عشر سنة 1742، وأنفذ رسالة إلى بطريرك الموارنة سنة 1743 يوصيه بها بالبطريرك إبريهام المذكور، فحضر إلى لبنان وجعل سكناه بدير الكريم بكسروان، وكان أربعة شبان قد أنشئوا هذا الدير، وانقطعوا به لعبادة الله، وأبدى الموارنة كل مساعدة وتكريم للبطريرك وجماعته، وتوفي إبريهام البطريرك سنة 1749، ودفن بدير الكريم، وخلفه السيد يعقوب مطران حلب وتثبت سنة 1750، وكان الشيخ شرف دهام الخازن قد وقف عليهم محل دير بزمار، فباشروا البناء فيه، وتوفي البطريرك يعقوب سنة 1753، وخلفه السيد ميخائيل مطران حلب وثبته البابا بناديكتوس الرابع عشر، وتوفي سنة 1770، وخلفه باسيليوس مطران أدنة سنة 1780، وتوفي سنة 1788، وخلفه غريغوريوس مطران أدنة أيضا، وأنشأ مدرستهم ببزمار سنة 1790 وتوفي سنة 1812.
وخلفه غريغوريوس الثاني مطران مرعش، وثبته البابا بيوس السابع سنة 1819 وتوفي سنة 1840، وخلفه يعقوب الثاني أماسيا سنة 1841، وتثبت سنة 1842، وتوفي سنة 1843 وخلفه ميخائيل أسقف قيسارية، ودعي غريغوريوس الثالث وتثبت سنة 1844، وبعد وفاته سنة 1866 حسن للكرسي الرسولي أن يضم الأرمن الذين يرعاهم الجاثليق المقيم بالأستانة إلى الأرمن المقيمين في بطريركية كيليكيا، ولدى اجتماعهم بعد وفاة البطريرك غريغوريوس انتخبوا السيد حسون جاثليق القسطنطينية بطريركا لكيليكيا أيضا سنة 1866، ونشأت في ملتهم اختلافات أفضت إلى انشقاق بينهم إلى حسونيين وكوبلييانيين، وحسن للكرسي الرسولي أن يسمي البطريرك حسون كردينالا، وانتخب الأرمن الكاثوليكيون السيد إسطفانوس عازريان بطريركا سنة 1881، وتوفي سنة 1899 وخلفه بولس عمانوليان، وتوفي في سنة 1904 وخلفه السيد صباغيان.
وكان الفراغ من تسويد هذا الموجز في 11 أيلول سنة 1905، تقبل الله أتعابي به كفارة عن سيئاتي الماضية، واستمدادا لما يراني أحوج إليه من نعمه في ما أبقاه لي من أنفاسي.
صفحه نامشخص