وبلغ يوناتان أن قواد ديمتريوس عادوا لقتاله، فالتقاهم إلى أرض حماة وأرسل جواسيس فأخبروه أنهم مزمعون أن يهاجموه ليلا، فأمر جيشه أن يسهروا وسلاحهم بأيديهم، ولما علم الأعداء تيقظهم داخلهم الرعب وفروا وتعقبهم يوناتان إلى أن عبروا العاصي، وأما أخوه سمعان فاستحوذ على يافا إذ كان بها محازبون لديمتريوس وأقام حامية بها وزادا في تحصين أورشليم، والفصل بين القلعة والمدينة، وسير يوناتان إلى رومة رسلا لتقرير الموالاة بين الرومانيين واليهود، فكتب الرومان إلى مناصريهم الرسالة المثبتة في سفر المكابيين الأول (ف15) يعلنون فيها مناصرتهم لليهود، وكتب يوناتان مع رسله المذكورين رسالة إلى أهل إسبرطة (في المورة) تراها في ف12 من سفر المكابيين الأول، ويظهر منها أنه كانت قربى بين اليهود والإسبرطيين اختلف العلماء فيها، فمن قائل: إنه لم تكن قربى بل إخاء ووداد، ومن قائل: إن القربى كانت من قبيل أن الإسبرطيين من ولد إحدى امرأتي إبراهيم وهاجر أو فطورة، أو من ولد امرأة لعيسو اتخذها من اليونان، أو من ولد قدموس الفونيقي، وعن القديس أرتيموس (في تفسير ف23 من نبوة إشعيا) أن كثيرين من اليهود فروا إلى بلاد اليونان لما استحوذ بختنصر على اليهودية وأخرب أورشليم. (16) اغتيال تريفون يوناتان وأنطيوكس السادس
كان تريفون هائما بالملك، ولم يرق أنطيوكس إليه إلا ليحطه يوما عنه ويجلس مكانه، وكان يخشى من يوناتان، ويحب أن يهلكه وسار بعسكر إلى بيسان فالتقاه يوناتان بأربعين ألفا، فلم يجسر أن يمد إليه يدا بل تودد إليه، وأسمعه أن لا حاجة إلى رجاله بل أن يسير معه إلى عكا، فيسلمها إليه وسائر الحصون، فاغتر يوناتان بكلامه وصرف جيشه وبقي معه ثلاثة آلاف ترك ألفين منهم في الجليل، وسار معه إلى عكا بألف رجل، ولما دخلا المدينة أمر تريفون بإغلاق أبوابها، وقبض على يوناتان وأهلك من كانوا معه وزحف تريفون من عكا بجيش كثيف ومعه يوناتان مخفورا، وعلم أن سمعان قام في مكان أخيه، فأرسل إليه رسلا يقول: «إنما قبضنا على يوناتان لمال عليه للملك فأرسل مائتي قنطار فضة وابني يوناتان رهينة؛ لئلا يغدر بنا إذا أطلقناه، فعلم سمعان مكره ولكن خاف من أن يقال: إنه أضر بالشعب؛ لأنه لم يرسل ما طلب تريفون فأرسل المال والولدين، واستمر تريفون يغير على البلاد ويدمرها وسمعان وجيشه يقاومونه، وارتحل تريفون إلى السلطة، وقتل يوناتان ودفنوه هناك سنة 143ق.م، وأرسل سمعان فأخذ رفاته ودفنه في مدافن آبائه في مودين، وناح عليه بنو إسرائيل نوحا عظيما أياما، وأقام سمعان على مدافن إخوته بناء رفيعا، ونصب سبعة أهرام لأبيه وأمه وإخوته وعلى مدفن صنعه لنفسه، وبقيت هذه المدافن إلى أيام يوسيفوس والقديس إيرونيموس، إذ ذكراها في مورين وتسمى اليوم المدية بجانب اللد، وقد كشف عنها العالم كاران، وحقق في مجلد 2 من السامرة صفحة 55 أنها هي هي مدافن المكابيين، وتابعه غيره من العلماء على ذلك.
وأما تريفون فعاد إلى أنطاكية، ولم يبطئ أن اغتال أنطيوكس السادس بحجة أنه مريض مرض الحصاة، فدعا أطباء لإخراج الحصاة، فقتلوه بعمليتهم ولم يكن من يثأر بدمه، وملك مكانه (مكا1 فصل 13 وطيط ليف فصل 13 وأبيان فصل 68)، وكان ذلك سنة 42ق.م. (17) في ما كان في أيام تريفون
كتب سمعان المكابي إلى ديمتريوس وهو في اللاذقية لاهيا بملاذه أن ينجدهم لإزالة الضرائب التي يطلبها تريفون، وأهدى إليه إكليلا وسعفا من ذهب، فكتب ديمتريوس إليه كتابه المثبت في الفصل الثالث عشر من سفر المكابيين الأول به يثبت له ولأمته كل ما كان لهم قبلا من الاختصاص والعفو، فسار سمعان إلى غزة وحاصرها حتى صعد أهلها على الأسوار يسألون الأمان، فأمنهم ودخل المدينة بالابتهاج وضايق من كانوا بقلعة أورشليم حتى مات بعضهم جوعا، واستأمنوا فأمنهم وأخرجهم من القلعة وطهرها، وأقام ابنه يوحنا قائدا على جميع الجيش وجعل يافا مرسى للسفن ووسع تخوم مملكته، وكتب الشيوخ والكهنة والشعب سنة 139ق.م صكا لسمعان أقروا له ولإخوته بالفضل، وأقروه قائدا لأمتهم ورئيسا لأحبارهم، ووقعوا على هذا الصك في صفيحة من نحاس حفظت في خزانة الهيكل، وأفاق ديمتريوس من غفلته وحارب تريدات ملك البرتيين، فانتصر عليه هذا الملك وأخذه أسيرا لكنه أكرم مثواه وزوجه بابنته، ولما علمت فلوبطرة امرأته بأسره تحصنت مع أولادها في السويدية، وترك كثيرون من الجنود تريفون لاعتسافه ولاذوا بفلوبطرة المذكورة، ولما بلغها أن زوجها زفت إليه بنت ملك البرتيين راسلت أنطيوكس صيدات أخا زوجها أن يتزوجها، فأجابها إلى ما طلبت وكتب إلى سمعان المكابي رسالته المثبتة في الفصل 15 من سفر المكابيين يستحثه على مناصرته لطرد تريفون، ويبيحه أن يسك سكة خاصة أيضا، وسمى نفسه ملك سورية وحمل عليها بجيش نحو مائة وعشرين ألفا، وانضم إليها من كانوا عند فلوبطرة، ولما رأى تريفون عجزه عن مناوأة أنطيوكس السابع هذا فر من وجهه، وأحرق بيروت وسار إلى الطنطورة قرب عكا، فحاصره أنطيوكس بها بحرا وبرا، فهرب تريفون إلى طرطوس، ثم إلى حماة موطنه فقبض عليه هناك وقتل سنة 138ق.م. (18) حرب أنطيوكس السابع واليهود وباقي أخباره
لما حاصر أنطيوكس تريفون في الطنطورة أرسل سمعان المكابي لنجدته ألفي رجل منتخبين وفضة وذهبا وآنية، ولكن لما رأى الملك فرار عدوه من وجهه آثر اتباع خطة أكثر أسلافه في مناصبة اليهود، ولم يقبل رجال سمعان ولا هداياه ونقض عهده له، وأرسل إليه أحد حاشيته يطلب رفع يده عن يافا وجازر وقلعة أورشليم، وتأدية خراجها، فلم يجبه سمعان إلى طلبه، فاستشاط الملك غضبا وأقام كنديارس قائدا على جيش سيره لقتال اليهود وأغار الجيش على اليهودية، وكان سمعان قد شاخ فأرسل ابنيه يهوذا ويوحنا بعشرين ألف رجل منتخبين، والتقوا بجيش الملك فكسروه وقتلوا منه جماعة كثيرة، وجرح يهوذا بن سمعان فتعقبهم أخوه يوحنا وفروا إلى بروج في أشدود فأحرقها، وقتل منهم كثيرين، وأقام الملك بطلماوس صهر الكاهن الأعظم قائدا في بقعة أريحا وكان غنيا، فسولت له نفسه أن يستولي على البلاد، ويقتل سمعان وبنيه ومضى سمعان وابناه مقتفيا يهوذا إلى هناك، وأدب لهم بطلماوس وأكمن رجالا وثبوا عليهم وقتلوهم بخيانة فظيعة، وأعلم الخائن أنطيوكس بما عمل وأرسل رجالا ليقتلوا يوحنا بن سمعان أيضا، فقبض يوحنا عليهم وقتلهم عن آخرهم، وروى يوسيفوس ك13 ف5 وأوسابيوس ك2 من تاريخه ف19 أن يوحنا أتى أورشليم، وحشد الرجال على بطلماوس وحاصره في محله ، وكان الخائن أسر أم يوحنا وأخوين له، فأصعدهم إلى أعلى السور متهددا يوحنا بأنه يلقيهم إلى أسفل إن لم يرفع الحصار، فرفعه شفقة على أمه وأخويه، لكن الخائن قتلهم بعد ذلك وفر إلى ملك عمان، وغشى أنطيوكس السابع اليهودية بعسكره، وأخرب ودمر وحاصر أورشليم، لكنه خوفا من الرومانيين صالح يوحنا على شروط لم تكن ثقيلة على اليهود، ويوحنا هذا يلقب هركان، وقد خلف أباه في الرياسة الروحية والولاية على اليهودية.
أما ديمتريوس أخو أنطيوكس، فكان باقيا في أسر متريدان ملك البرتيين وحاول الهرب والعود إلى سورية فلم يستطع، وكان متريدان يطمع بأن يتولى سورية وأخذ يستجيش بحجة أن يرد صهره ديمتريوس إلى سورية، فيتولى هو عليها، وأراد أنطيوكس أن يتدارك ذلك فحشد جيشا لا يقل عن ثمانين ألف رجل، فاستظهر أولا على ملك البرتيين واسترد منه بابل وماداي، وخلعت جميع أعمال المشرق نير الطاعة للبرتيين وخضعت لأنطيوكس ، وربما كان حينئذ ما رواه يوسيفوس (ك13 فصل 16) عن نقولا الدمشقي أن أنطيوكس هذا أقام قوس انتصار على عدوة نهر الكلب ذكرا لانتصاره على أندات قائد جيش البرتيين، واستمر أنطيوكس وجيشه يقضون فصل الشتاء سنة 130ق.م في أعمال المشرق، وتفرقوا في محال كثيرة آمنين، وأثقلوا على الأهلين واستطالوا فتآمروا مع البرتيين ووثبوا عليهم في يوم واحد في كل المحال، فلم يمكنهم أن يجتمعوا فقتلوهم وارتكم الأعداء على أنطيوكس وقتلوه، ومن لم يقتل أخذ أسيرا ولم يفلت إلا قليلون (يوستينوس ك38 فصل 9 و10 وأبيان ف96). (19) عود ديمتريوس الثاني إلى الملك بسورية
إن ملك البرتيين بعد أن انتصر عليه أنطيوكس سرح ديمتريوس إلى سورية، فبلغ أنطاكية واستوى على منصة الملك، وانتهز يوحنا هركان بن سمعان المكابي هذه الفرصة، فمد حدود ولايته ووسع سلطته على أماكن كثيرة في سورية وبلاد العرب، واستبد هو وذريته في الملك على اليهود، وقلبوا المجن لملوك سورية ولم يبق لهم علاقة معهم (يوسيفوس ك13 ف17 وإسترابون ك16)، وقتل التتر ملك البرتيين فنجا ديمتريوس من مناوأته له، لكنه لم ينج من غائلة أعماله السيئة.
إن ديمتريوس كان متزوجا بفلوبطرة ابنة بتلمايس فيلوماتر، وكانت حرب بين أمها وبين زوجها بتلمايس فيكسون، فراسلت صهرها ديمتريوس ووعدته بتاج مصر فلبلى دعوتها، وأسرع بجيشه وحاصر بالوس (فرما) وكان شعبه يمقته فثار عليه أهل أنطاكية وأفاميا وغيرهما، فاضطر أن يعود إلى أنطاكية ولحقته حماته، وكانت ابنتها عادت بعد مقتل أنطيوكس إلى زوجها الأول ديمتريوس، ووصلت أمها إليها وهي في عكا، فجهز زوجها بتلمايس فيسكون جيشا أمر عليه إسكندر زبينا، وجعله يدعي أنه ابن إسكندر بالا ملك سورية وينازع ديمتريوس الملك، فانحاز إليه السواد الأعظم من سكان سورية لمقتهم ملكهم ديمتريوس ... وكان قتال بين جيش زبينا وجيش ديمتريوس في نواحي دمشق، فانكسر عسكر ديمتريوس وانهزم هو إلى عكا، حيث كانت الملكة فأرادت الانتقام منه لزواجه في مدة أسره بابنة ملك البرتيين، فوصدت أبواب عكا عليه، ففر إلى صور وقتل هناك، فأخذت امرأته قسما من الملك وملك زبينا في باقيه (يوستينوس ك38 ف8 و9 وطيطوس ليف ك39)، وكان ذلك سنة 130 إلى سنة 125ق.م. (20) في فلوبطرة امرأة ديمتريوس وزبينا
ملكت فلوبطرة أرملة ديمتريوس بعكا وجنوب المملكة، وملك زبينا في أنطاكية وشمالي المملكة، وكان سلوقس أكبر أبناء ديمتريوس قد أعلن أنه ملك سورية، وحازبه قوم من أهلها على أن أمه كانت هائمة ببقائها على الملك، وخشية أن يثأر ابنها منها بدم أبيه قتلته بيدها طاعنة له بمدية، فاستأصل طمعها الأشعبي بالملك الحنو الوالدي من قلبها، فلم يملك سلوقس إلا سنة واحدة من سنة 125 إلى سنة 124ق.م، وخافت فلوبطرة أن يثور الشعب عليها لعدم وجود ملك يخرج معهم للحرب، فملكت ابنها الصغير سنة 123ق.م، ولكن لم يكن له إلا اسم ملك، وهو لصغر سنه جعل أعنة الأمر والنهي بيدها، وسمي أنطيوكس كريبيوس (الكبير الأنف)، وهو يسمي نفسه في سكته أنطيوكس إبيفان وهو الثامن بهذا الاسم.
ولما بلغ رشده أراد أن يستبد بملكه، فلم تتحمل أمه الطماعة هذا الاستبداد، وعزمت أن تهلك ابنها هذا الثاني كما أهلكت الأول، وتقيم على أريكة الملك آخر لها من أنطيوكس السابع، وهو حدث فتستمر أزمة الملك بيدها، وعاد أنطيوكس الثامن ذات يوم إلى قصره تعبا، فهيأت له كأس شراب دست له بها سما، فسألها أن تشرب هي الكاس حرمة لها؛ لأنها أمه فأبت، فقال: «لا مناص لك لتبرئة ساحتك من شرب هذه الكأس.» ففكرت أنها إن شربت الكأس ماتت مسممة، وإن لم تشربها قتلها ابنها لمكرها فشربتها، وكانت القاضية سنة 120ق.م (طيطوس ليف ك60).
صفحه نامشخص