إن ابن آشور بانيبال المسمى آشور أديليلان كان ضعيفا وملكه منبسطا حتى مصر، فلم يمكنه ضبطه، وولى نبو بلاسر الكلداني على بابل، وجعله قائدا لجيوشه فتقوى عليه وثل عرشه ودك نينوى، وجعل عاصمة ملكه بابل، ولم تنج فونيقي من غائلة هذا الانقلاب، فإن نكو الثاني ملك مصر خرج على سورية طلبا لنصيبه من مملكة آشور سنة 608، فالتقاه يوشيا ملك يهوذا يريد منعه من العبور حفظا لأمانته لملك آشور فقتله نكو، ولما رأى ملك صور وغيره من ملوك فونيقي ما حل بملك يهوذا خضعوا لملك مصر، وتوصل نكو بغزوته إلى الفرات، وشق على نبو بلاسر ملك بابل أن يأخذ ملك مصر سورية كلها، وخشي أن يملك ما بين النهرين أيضا فأشرك ابنه بختنصر في ملكه، وفي سنة 606ق.م خرج بختنصر لمقاومة ملك مصر، فكانت موقعة هائلة دارت الدوائر على المصريين، فتتبعهم الكلدان على أعقابهم في سورية كلها، فاستسلم الفونيقيون والسوريون أجمع إلى بختنصر، وبلغ بجحافله إلى تخوم مصر، لكنه اضطر أن يعود إلى بابل لوفاة والده واستوى على منصة الملك وحده من 604 إلى سنة 561.
وعاد بختنصر إلى سورية سنة 602ق.م؛ ليقتص من يواقيم ملك يهوذا لمحالفته نكو ملك مصر، فأذله وأخذ بعض آنية الهيكل، ويظهر أن الفونيقيين خضعوا له طائعين، ولكن يواقيم انخدع ثانية بدسائس ملك مصر، فتمرد على ملك بابل فهب إليه بختنصر سنة 599ق.م فتوفي يواقيم، ولم يستطع ابنه يوياكيم أن يحارب إلا ثلاثة أشهر وسلم نفسه لبختنصر، فأخذه والده ونخبة من قومه أسرى إلى بابل واستلب كل ثمين في الهيكل، وفي هذه الغزوة أيضا بقي الفونيقيون على الطاعة لملك بابل، وكانت نفرة بين ملك بابل وملك مادي، فسولت لملوك مصر وسورية نفوسهم الانتقاض على ملك بابل، فهب بختنصر إلى سورية وقسم جيشه قسمين: حاصر أحدهما أورشليم وحاصر الآخر صور وضيق على أهلها، ودام الحصار ثلاث عشرة سنة، وكان ملكها إيتوبعل وأبطاله يبدون آيات الشجاعة والثبات، وغادروا أولا المدينة البرية فدك جنود بختنصر أبنيتها واعتصموا بالمدينة الجزرية، وشدد بختنصر الحصار بنفسه لها فقيل: إنه افتتحها عنوة، وقيل: إن إيتوبعل سئمت نفسه القتال، ورأى الخراب الملم بشعبه لانقطاعهم عن الأشغال التجارية، فاستسلم إلى بختنصر واعترف بسيادته، فأسره وكثيرا من أعيان قومه إلى بابل، وفر فريق من الصوريين بسفنهم إلى قرطاجنة، وأقام بختنصر على صور ملكا اسمه بعل ودانت له باقي مدن فونيقي، وتمت بصور نبوة حزقيال (في الفصل 26 عدد 2 وما يليه).
إن حفرع ملك مصر كان حليفا لأورشليم وصور ضد بختنصر، لكنه أبطأ في إنجادهما إلى ما بعد افتتاح صور، فجهز أسطولا واستأجر له بحارة وجنودا من اليونان وغيرهم، وسيرهم نحو فونيقي أملا أن يحمل سكان مدنها على استئناف الثورة على ملك الكلدان، فخاف أولئك السكان وأعرضوا عن مطاوعة حفرع، بل جهزوا سفنهم وانضمت إليها سفائن قبرس ... فكانت موقعة بحرية هائلة في مياه قبرس كان النصر فيها للأسطول المصري، وتتبع الأسطول الفونيقي يطلب غرامة حربية وافتتح صيدا عنوة؛ لأن ملكها كان رئيس الأسطول، وأخذ أرواد وجبيل وسالمته بقية مدن سورية، على أن تسلطه على هذه المدن لم يثبت إلا نحوا من ثلاث سنين أو أربع؛ لأن بختنصر عاد إلى فونيقي وأخضعها بل قصد مصر، فاستولى عليها وثل عرش حفرع وكتب ذلك في أثر له، وتمت بحفرع نبوات حزقيال في فصل 29 وما يليه وإرميا فصل 24 عدد 30.
أما بعل الذي أقامه بختنصر ملكا على صور فدبرها نحو عشر سنين، ثم ثار الصوريون عليه فخلعوه واستبدلوا الحكومة الملكية بحكومة جمهورية سموا رئيسها شفط أي: حاكما أو قاضيا، فلم تستقم لهم حال، وذكر مينندر عدة قضاة منهم في مدة وجيزة، ومدة هذه الثورة توافق مدة جنون بختنصر، واستدعوا بعد ذلك موربعل وملكوه فيهم سنة 555، ودام ملكه أربع سنين وتوفي سنة 551، وخلفه أخوه حيرام خاضعا أولا لملك بابل، ثم لكورش ملك الفرس الذي أخذ الملك من الكلدان، وخضعت له المدن الفونيقية دون مقاومة، وتوفي حيرام سنة 531، وأعاد كورش المسبين من الفونيقيين إلى بلادهم.
ولزم الفونيقيون الطاعة لكمبيس بن كورش، ولما اجتاز سورية قاصدا مصر لم يلق منهم إلا التجلة والإذعان، لكنه بعد انتصاره بمصر طمع في أن يتولى قرطاجنة، فأمر جنوده البحرية بأن يسيروا إليها، فأبى الفونيقيون منهم الإذعان لأمره؛ لأن أهل قرطاجنة أقرباؤهم فأعرض كمبيس عن ما كان قد قصده، ولما ملك في الفرس دارا من سنة 531 إلى سنة 485 قسم مملكته إلى تسع عشرة ولاية، وكانت الخامسة منها فونيقي وسورية وقبرس، وكان المفروض عليها من الجزية ثلاثمائة وخمسين وزنة من الذهب، واستمر الفونيقيون على الطاعة إلى أيام أرتحشستا الثالث الذي ملك من سنة 359 إلى سنة 338ق.م، فثار عليه ملوك قبرس وتاناس والي فونيقي، فزحف أرتحشستا إلى فونيقي بعسكر جرار فحاصر صيدا، فدافع أهلوها بعض الدفاع ثم التمسوا الأمان فلم يجبهم الغازي إليه، فاجتمع نحو أربعين ألفا منهم في بيوتهم، وألقوا النار فيها مؤثرين الحريق على نحر الفرس لهم، روى ذلك ديورودس الصقلي ثم خضع الفونيقيون والسوريون لإسكندر الكبير بعد فتحه صور كما سوف ترى. (12) في تجارة الفونيقيين
قضت على الفونيقيين حالة بلادهم أن يكبوا على التجارة، ولا سيما بعد أن ملك بنو إسرائيل كل ما كان خصبا من أرضهم، ولم تبق لهم إلا بعض المدن وقليل من السهول المجاورة لها وبعض أهضاب لبنان، وقد أفرد النبي حزقيال الفصل السابع والعشرين من نبوته للكلام في تجارة صور أي: مملكة صور لا المدينة وحدها، وأبان أنها كانت منبسطة في أكثر أنحاء المعمور المعروف وقتئذ، فكان لتجارتها في آسيا ثلاثة فروع إلى الجنوب والشرق والشمال، فكانت قوافلهم تسير في الفرع الجنوبي حتى اليمن، وحضرموت وعمان، وتجلب من هذه البلاد الذهب والحجار الثمينة والبخور والمر وغيرها، وتأتي موانئ عدن ببضائع الهند ومصنوعاتها، ومن أطراف اليمن ببضائع الحبشة، وأما الفرع الثاني فكان إلى جهات بابل ونينوى، فكانت قوافلهم تجاوز حماة وحلب ونصيبين، وتتصل إلى بلاد الآشوريين حيث كان قوم فونيقيون يتلقون بضائع بلادهم، فيبيعونها ويبعثون إلى زملائهم في فونيقي بضائع آشور وحاصلاتها، والقوافل التي كانت تيمم بابل كانت تسير في البرية إلى تدمر وتبسك على الفرات، وأما الفرع الثالث الشمالي، فكان إلى أرمينيا حتى كرجستان وحتى البحر الأسود وبحر قزوين، وكانت سفنهم تسير في البحر الأحمر وخليج العجم والأوتيانوس الهندي بدليل اشتراك سليمان، وحيرام في تسيير السفن إلى أوفير لجلب الذهب.
وكانت لهم تجارة عظمى بإفريقية، فكان لهم في مدن مصر السفلى والعليا أحياء برمتها، وكان كل ما يحتاج إليه المصريون من وراء البحار جلبه لهم الفونيقيون، وروى هيردوت (ك1 من تاريخه) أن الفونيقيين وحدهم كانوا ينقلون بضائع مصر وحاصلاتها إلى الآفاق، بل حفظ لنا في حطام المؤرخين القدماء آثار تنبئنا بتواصل مستعمراتهم ومحاط تجارتهم من تخوم مصر إلى ما وراء جبل طارق، خاصة بعد أن عمروا قرطاجنة كما تقدم وروى إسترابون (ك17 فصل 3) أن الصوريين عمروا هناك ثلاثمائة مدينة.
وأما تجارتهم في أوروبا فكان لها طريقان: الأول من جهة جزر البحر المتوسط، فكان لهم محاط تجارية في أكثرها فتوصلوا منها إلى بلاد اليونان ثم إلى صقلية وسردينيا وكرسيكا، ثم أمعن تجارهم في إيطاليا وإفرنسة، والثاني: من جهة إفريقية وبوغاز جبل طارق، وتوصلوا بهذا الطريق إلى إسبانيا وعمروا مدنا كثيرة، وتطرقوا من هناك إلى البرتغال وإلى بعض جزر الأتلانتيك، وأشغلوا قوافل فكانت تتوغل في داخلية إفرنسة وجرمانيا.
يكاد البنادقة والهولنديون والإنكليز أنفسهم في هذه الأعصر لا يساوون الفونيقيين في أعصرهم، وكما يقتدي جيلنا بالأوروبيين كان الأوروبيون يقتدون بالفونيقيين، وقد تعاظمت ثروة الفونيقيين وغناهم فكان من ذلك غائلتان، الأولى: تهييج مطامع الآشوريين والكلدان والفرس لامتلاك بلادهم. والثانية: حملهم على البذخ وفساد آدابهم، وأشار حزقيال النبي إلى ذلك، إذ قال لملك صور (ف28 عدد 13): «كنت في عدن جنة الله وكان حجر كريم كساءك ... وصنعت بيوت حجارتك من ذهب، فامتلأ باطنك جورا وخطئت ودنست مقادسك، فأخرجت من وسطك نارا، فأكلتك وجعلتك رمادا على الأرض على عيني كل من يراك.» (13) صنائع الفونيقيين
كان للفونيقيين تجارة وسيعة من مصنوعات أيديهم أيضا، وأول مصنوعاتهم وأفخرها البرفير، ويسمى الأرجوان أيضا الذي كان ملبس الملوك في القديم، وليس من نكير أن أول من أوجده الفونيقيون، وكانوا يأخذون مادة الصبغ من دم حيوانات بحرية ولون الأرجوان كان أحمر بنفسجيا، وحمرته تكون ناصعة أو يخالطها لون آخر، وكان أجوده ما أخذت صبغته من الحيوانات العائشة في البحرين صور وصيدا وما جاورهما؛ ولذلك كانت أخص مصايدهم لهذا الحيوان ومعاملهم للأرجوان في صور وصيدا، ثم أخذوا يصنعون ذلك في غيرهما كقبرس ورودس، وشطوط المورة، وكانوا يصبغون بهذه الصبغة أنسجة من قطن وصوف وحرير، وكان لهم من هذا الاختراع ثروة كبرى.
صفحه نامشخص