كانت صيدا مقام ذرية صيدون بكر كنعان بن حام، ولما فتح يشوع بن نون بلاد الكنعانيين الجنوبية قهر ملوكهم، وأخذ أراضيهم وملكها لبني إسرائيل، ولم يتخط يشوع حدود صيدا في لحاقه لملوك الكنعانيين، فتزاحمت أقدام الفارين في هذه المدينة، وضاقت بهم الأرض فارتحلوا إلى أصقاع شتى، وأخص جالياتهم جاليتان: هاجرت الأولى منهما إلى تاب ببلاد اليونان، وهي المعروفة بجالة قدموس الفونيقي، وهو على رأي جمهور العلماء واضع الحروف اليونانية المشبهة الحروف الفونيقية ، وقد حكم في تلك الأصقاع، ولكن نازعه الوطنيون الولاية، واستمرت ولاية تاب تتنازعها سلالتان: إحداهما فونيقية والأخرى سبرتية أو وطنية مدة ثلاثة قرون، والجالية الثانية ارتحلت إلى المغرب في إفريقية فتوطنوا قرطاجنة وما يليها، وتبعهم غيرهم من الفونيقيين، واختلطوا بالسكان الأصليين الليبيين اليافتيين، فكانت منهم تلك الأمة التي طارت شهرتها وعظمت سطوتها وصولتها حتى حاربت الرومانيين تلك الحرب الشهيرة، وكانت لغة هذه الجالية لغة الفونيقيين أو فرعا منها إلى أيام القديس أغوسطينوس أسقف هيبونا التي أنشأها الفونيقيون.
ولما احتل الفلسطينيون جنوبي البلاد المنسوبة إليهم أزاحوا منها من كان قد بقي فيها من الكنعانيين، فانضموا إلى إخوانهم المنتشرين في الشمال إلى أرواد تجمعهم معاهدة اتفقوا عليها وسموا فونيقيين.
وكان الصيدونيون قد اخترعوا الملاحة والسفر بالبحر، وبينما كان أبناء عمهم الحثيون يشنون الغارة على مصر، فيستحوذون عليها ويجلسون قادتهم على منصات الفراعنة، كان الصيدونيون يغالبون البحر ويمتطونه، ويذللون أمواجه ليضربوا في ما وراءه للتجارة والكسب، وكانوا أول من أجاد على المعمورة بهذا الاختراع الخطير الكثير النفع، وقد احتكروا هذه الصناعة ولم يكن لهم فيها مبار مدة قرون. (3) مستعمرات الفونيقيين في أيام سؤدد صيدا
قبرس:
كانت هذه الجزيرة أول محاط الفونيقيين في البحر لقربها من بلادهم، وعن إسطفان البيزنطي أن الجبيليين سبقوا الصيدونيين إليها، لكن جبيل كانت مدينة هياكل ومعابد يهمها الدين أكثر من التجارة، فلم يكن لها أملاك هامة في الجزيرة بل أقام منازيحها هيكل الباف في غربي الجزيرة، وكان ولاة بعض الأعمال فيها يخضعون لجبيل إلى أن ذل جميعهم لسلطة صيدا، وقال بعضهم: إن هذه الجزيرة افتتحها أولا الحثيون وأنشئوا فيها مدينة شيتيوم وهماسيا، وسميت الجزيرة كلها باسم شيتيوم، ولا تحتاج الكلمة إلا إبدال الشين بالحاء؛ لتكون حيتيوم أو حتيم أو كتيم فتشعر بأنها من بناء الحثيين، وكذا همتوسيا أو حماسيا مشعرة باسم حماة مدينة الحثيين ... وعليه فيكون الحثيون سبقوا إلى قبرس، ثم استحوذ عليها الصيدونيون.
رودس:
انتقل الفونيقيون من قبرس إلى رودس، وعن سالون الأثيني أن الكاريين سكان الجزيرة القدماء اختلطوا بالفونيقيين، وأصبحوا شعبا واحدا، ثم تطرق الفونيقيون إلى إكريت وغيرها من جزر الأرخبيل إلى تاتوس التي كانت فيها معادن ذهب، شاهدها هيرودت بعد عشرة قرون، فدهش بما رآه من الأعمال الكبيرة التي أجراها الفونيقيون في استخراج هذه المعادن.
البحر الأسود وجبال قاف:
انطلق تجار الفونيقيين وتجارتهم إلى البحر الأسود وانتهوا إلى جنوبي قاف، وكانت سفنهم تشحن من هنالك الذهب وغيره من المعادن الثمينة، وكانت لهم محاط ومستعمرات في الأماكن المذكورة.
الأبير وإيطاليا الجنوبية:
صفحه نامشخص