بعد وفاة فولك انتخب ابنه بودوين الثالث، ولم يكن له من العمر حينئذ إلا ثلاث عشرة سنة، ومما كان في أيامه أخذ عماد الدين زنكي أمير الموصل وحلب الرها وسروج وغيرها من يد الإفرنج سنة 1145، وكان حاكمها وقتئذ جوسلين الثاني، ولما قتل زنكي سنة 1147 استردها جوسلين، ولكن أرغمه نور الدين بن زنكي على تركها، وقبض على جوسلين وسجنه بحلب حيث توفي سنة 1149، وفي سنة 1145 كانت حملة الإفرنج الثانية على سورية ودعا إليها القديس برنردوس الشهير، وكان برأس المتجندين لويس السابع ملك إفرنسة وكونوراد ملك ألمانيا، فأذاقهم الروم والأتراك الأمرين في طريقهم من القسطنطينية إلى أورشليم حتى أبادوا السواد الأعظم من عسكر ألمانيا، وخلقا كثيرا من عسكر إفرنسة، وبعد وصول الملكين إلى أورشليم تقرر العزم على محاصرة دمشق، فسارت عساكر الإفرنج إليها وحصرتها سنة 1149، وحاكمها حينئذ مجير الدين أبق بن محمد بن نوري بن طغتكين المار ذكره، وصبر المسلمون على القتال لكنهم انهزموا إلى المدينة واتصل ملك الألمان إلى أن حل بالميدان الأخضر، وأيقن سكان دمشق بعجزهم عن الدفاع، ولكن وقع الخلاف بين الإفرنج على من يتولى دمشق، وورد الخبر بأن أميري الموصل وحلب قادمان لنجدة دمشق، فرحل الإفرنج عن دمشق إلى فلسطين، وعاد ملك ألمانيا إليها خجلا آسفا ثم عاد ملك إفرنسة أيضا إلى بلاده دون أن يصنع شيئا يذكر، وملك الإفرنج بعدئذ مدينة عسقلان التي كانت قد استمرت تحت ولاية الخلفاء الفاطميين، وكان ذلك سنة 1154.
وفي سنة 1155 أخذ نور الدين محمود بن زنكي دمشق من صاحبها مجير الدين المذكور، وأعطاه عوضا إقطاعا في جملته حمص، ولما سار إلى حمص أعطاه بدلها بالس فلم يرضها وأقام ببغداد، وفي سنة 1158 كانت زلازل بسورية خربت بها حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفامية وحمص، وحصن الأكراد وعرقا واللاذقية وأطرابلس وأنطاكية، وفي سنة 1162 سار بودوين الثالث إلى جهات أنطاكية فأصابته حمى شديدة، فحملوه إلى أطرابلس ثم إلى بيروت فتوفي بها في 13 شباط، فحملوا جثته إلى أورشليم ودفنوها في مدفن أسلافه. (8) في أموري الأول وبعض ما كان في أيامه
بعد وفاة بودوين الثالث اختير للملك أخوه أموري، ويسمى الماريك أيضا وتوج في 18 شباط سنة 1162، ومن الأحداث في أيامه أن نور الدين بن زنكي قصد أطرابلس سنة 1164، ونزل في البقيعة وكبسه الإفرنج فانهزم إلى بحيرة حمص، وكان شاور وزير العاضد لدين الله الخليفة الفاطمي قد هرب إلى حمص، فاستنجد نور الدين ليعود إلى وزارته فأرسله نور الدين إلى مصر، وأصحبه بشيركوه أحد أمراء عسكره ومعه عسكر من سورية، فقتلوا ضرغام الذي كان قد تغلب على الوزارة بمصر، وأعادوا شاور إلى الوزارة، ثم غدر شاور بنور الدين وأخلف وعده بأن يبذل له ثلث أموال مصر، فأرجع نور الدين شيركوه إلى مصر واستحوذ على بلبليس والمديرية الشرقية، فاستنجد شاور بملك الإفرنج فنجده وحاصر عسكره بلبليس فحاصر نور الدين حارم بسورية، وأخذها وقتل وأسر من الإفرنج، وكان في جملة الأسرى صاحب أنطاكية، وصاحب أطرابلس من الإفرنج فاضطر الإفرنج إلى مصالحة شيركوه، وعاد هو والإفرنج من مصر إلى سورية، وفتح نور الدين بانياس وحصن المنيطرة وغيرهما من أملاك الإفرنج، وجهز عسكرا إلى مصر أمر عليه شيركوه، وكان معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فانتصر شيركوه على المصريين والإفرنج، وأخذ بعض أعمال مصر وملك الإسكندرية وجعل فيها صلاح الدين ابن أخيه المذكور، فحاصره المصريون فيها ثم صالحوه على ترك الإسكندرية وعود عساكر سورية إليها، واتفق الإفرنج والمصريون على أن تكون شحنة من الإفرنج بالقاهرة، ويكون لهم من دخل مصر مائة ألف دينار كل سنة، وفتح نور الدين صافيتا سنة 1168.
وفي سنة 1169 أعاد نور الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لاستغاثة الخليفة الفاطمي به لطرد الإفرنج من مصر، ولما قرب شيركوه من مصر ارتحل الإفرنج عنها، وقتل صلاح الدين شاور الوزير؛ لأنه أحس بسوء نيته في حق عمه شيركوه وأرسل رأسه إلى العاضد؛ لأنه كان متغيرا عليه فخلع العاضد على شيركوه وجعله وزيرا مكان شاور، لكنه لم يعش في الوزارة إلا شهرين ومات، فجعل العاضد صلاح الدين مكانه ، فطلب أباه وأهله إلى مصر وأعطاهم إقطاعات بها، وتمكن بالبلاد وضعف أمر العاضد، وفي سنة 1172 أمر نور الدين أن يقطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين ويخطب للعباسيين، ففعل صلاح الدين كما أمر، ثم توفي العاضد فاستحوذ صلاح الدين على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه فانقرضت بالعاضد دولة الفاطميين ... وكان ابتداء خلافتهم سنة 909 وانقرضت سنة 1172، فمدة خلافتهم 263 سنة.
وأظهر صلاح الدين أنه يلي مصر من قبل نور الدين، ولكن توحش نور الدين منه، وفي سنة 1173 سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها وفيها الإفرنج، وسار نور الدين من دمشق إلى الرقيم بقرب الكرك، وخاف صلاح الدين من الاجتماع به، فعاد إلى مصر معتذرا بمرض أبيه، وعلم نور الدين مقصده فعاد إلى دمشق ليجهز حملة إلى مصر فتوفي، وخلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، وتوفي أموري ملك الإفرنج في 11 تموز سنة 1173.
المقال الخامس
في تاريخ سورية في أيام صلاح الدين وخلفائه والمماليك البحرية والجراكسة
الفصل الأول
تتمة في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
(1) في أخذ صلاح الدين سورية
صفحه نامشخص