وفي سنة 1112 جهز السلطان محمد السلجوقي جيشا لقتال الإفرنج، فحصروا قلعة تل باشر من أعمال حلب ولم يبلغوا منها غرضا، فرحلوا عنها إلى حلب، فأغلق صاحبها الملك رضوان أبوابها، ولم يشأ أن يجتمع بهم فرحلوا إلى معرة النعمان، واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق فاطلع على خبث نيتهم في حقه، وخاف أن يأخذوا منه دمشق، فهادن الإفرنج سرا فتفرقت عساكر المسلمين وبقي بعضهم في المعرفة، فطمع بهم الإفرنج فرحل المسلمون إلى شيزر، فتبعهم الإفرنج إليها ورأوا قوة المسلمين، فعادوا إلى أفاميا (قلعة المضيق)، وفي سنة 1114 اجتمع بعض الأمراء المسلمين، ومعهم طفتكين صاحب دمشق والتقوا في سلمية، وساروا جميعا إلى الأردن ودخلوا بلاد الإفرنج، فالتحم القتال عند طبرية فانهزم الإفرنج، وكثر القتل فيهم وأسر ملكهم بودين وأخذ سلاحه، ولكن لم يعرف فأطلق، ثم نجد عسكر أطرابلس وأنطاكية الإفرنج، فقويت نفوسهم وعاودوا الحرب وأحدق بهم المسلمون من كل جهة، فصعدوا على جبل في غربي طبرية، فاعتصموا به ستة وعشرين يوما، فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الإفرنج بين عكا والقدس، وقتلوا من ظفروا به من النصارى ثم عاد الأمراء المسلمون عن القتال.
ودار في خلد الملك بودوين أن يحمل على مصر، فحمل عليها سنة 1118 ووصل إلى الفرما ظافرا غانما، ولكنه أصيب بمرض وحملوه بمحفة إلى العريش وهناك توفي مزودا الأسرار المقدسة، ونقلوا جثته إلى القدس فدفن في 26 آذار سنة 1118. (5) في بودوين الثاني وبعض ما كان في أيامه
بعد وفاة بودوين الأول اختار إكليروس أورشليم وشعبها بودوين دي بورج كنت الرها من أنسباء الملك المتوفى وأقام بكنتية الرها عوضا عنه جوسلان دي كورتناي، ولم تنته حفلات إقامة الملك إلا تألبت جموع من المسلمين من فارس والجزيرة وسورية، وزحفوا إلى عدوة العاصي بإمرة إيلغازي بن ارتق والي ماردين، فكانت وقعة سنة 1120 بأرض حلب انهزم فيها الفرنج، وقتل منهم جماعة كثيرة وأسر كثيرون، ولم يكن بودوين في هذه الوقعة بل وصل إلى أنطاكية بعدها، فحمل ثانية على أعدائهم فهزم إيلغازي والي ماردين ودبيس قائد العرب، وأمن بودوين أنطاكية وأعمالها وعاد إلى أورشليم.
وكان إيلغازي المذكور أقام ابنه سليمان واليا بحلب، ففي سنة 1122 عصى أباه بمكيدة من ابن قرناص الحموي، فهجم إيلغازي على حلب وقطع يدي ابن قرناص ورجليه، وسمل عينيه وهرب ابنه إلى طفتكين بدمشق، فاستناب أبوه على حلب ابن أخيه واسمه سليمان أيضا، وفي السنة المذكورة كبس بلك ابن أخي إيلغازي جوسلين كنت الرها؛ ليستفك الأسرى فاستفزه كرم أخلاقه على اقتحام المخاطر، فوقع أسيرا بيد بلك المذكور وصار شريكا لمن عني بتخليصهم، فحملت النخوة خمسين رجلا من أرمينية على إنقاذ الملك وجوسلان، فدخلوا القلعة التي كانا بها وقتلوا الحامية التي كانت بها، ولكن أحاط المسلمون بالقلعة، وتمكن جوسلان أن يفر منها ومن الرها لينقذ الملك الأسير الذي كان قد نقل إلى قلعة حران، واغتنم المصريون فرصة أسر الملك، فأرسلوا جيشا إلى صحراء عسقلان قاصدين أن يزيحوا الإفرنج عن فلسطين، فخرج النصارى من أورشليم فبددوا شملهم، وأما الملك بودوين فافتدى نفسه بمال وخلى سبيله، فجمع عسكرا وزحف به إلى حلب وضايقها حتى أوشك أهلها أن يستسلموا إليه، ولكن نجدهم أمير الموصل، فاضطر بودوين أن يرفع الحصار، ويعود إلى أورشليم وانتشر عسكر المسلمين في إمارة أنطاكية، فهب راجعا في نخبة من فرسانه فهزمهم من أملاك الإفرنج، وهجم عليها طغتكين من دمشق فقاتله بودوين وأرغمه على أن ينكص إلى دمشق.
وبقيت صور كل هذه المدة في حوزة الخلفاء الفاطميين بمصر، فهم الإفرنج بأخذها فسلم الخليفة أمرها إلى طغتكين صاحب دمشق، وحاصرها الإفرنج ومعهم دوك البندقية، فلم يقو طغتكين على مناصبتهم بل سلمها إليهم على شريطة أن يخرج الجند والأهلون منها بما يقدرون على حمله من أموالهم، فتسلمها الإفرنج سنة 1125، وتوفي بودوين في 21 آب سنة 1130 وقيل: سنة 1131 ودفن في كنيسة القيامة، وكان تقيا ورعا وهماما. (6) في الملك فولك دي إنجو وبعض ما كان في أيامه
بعد دفن بودوين الثاني اختار الرؤساء والأعيان فولك دي إنجو، وكان متزوجا بابنة بودوين الثاني، وتوجه البطريرك الأورشليمي في 14 أيلول سنة 1132، ومما كان في أيامه أن أقسنقر البرسقي صاحب الموصل كان قد تولى حلب، فقتله الباطنية في الموصل، وكان قد أقام ابنه مسعودا واليا بحلب، وبعد مقتل أبيه سار إلى الموصل وملك فيها واستخلف على حلب أميرا اسمه قيماز، ثم استخلف بعده رجلا اسمه قتلغ فخلعه أهل حلب، وولوا عليهم سليمان بن عبد الجبار، ولما سمع باختلاف أهل حلب سار جوسلان إليهم فصانعوه بمال ورحل عنهم، ومات مسعود بن البرسقي أمير الموصل، فولى السلطان محمود السلجوقي عماد الدين زنكي على الموصل وما يليها، فأرسل عسكرا إلى حلب فأطاعه أهلها فأصلح بين قتلغ وسليمان بن عبد الجبار، ولم يول أحدهما على حلب بل سار بنفسه إليها وملك منبج في طريقه، ورتب أمور حلب وسمل عيني قتلغ فمات، ومما كان في دمشق في أيام فولك أنه بعد موت طغتكين أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان خلفه ابنه تاج الملوك نوري، فتغلب عليه وعلى المملكة الإسماعيلية، ووزيره طاهر بن سعد حتى صار الحكم لهم، وكاتب الوزير الإفرنج بأنه يسلم إليهم دمشق إذا سلموا إليه صور، وعلم الأمير تاج الملوك بذلك فقتل وزيره، وأمر بقتل الإسماعيلية الذين بدمشق فقتل منهم ستة آلاف، ووصل الإفرنج في الميعاد وحصروا دمشق، فلم يظفروا بمأرب فرحلوا عنها، وخرج تاج الملوك في أثرهم فقتل جماعة منهم.
وكان عماد الدين زنكي قد استنجد صاحب دمشق على الإفرنج، فأرسل إليه ابنه سوفج الذي كان نائبا عنه بحماة، فغدر زنكي به واعتقله وجماعة من عسكره بحلب، وسار زنكي إلى حماة فملكها وسار منها إلى حمص وحاصرها، وكان قد غدر بصاحبها وقبض عليه وأمره أن يأمر عسكره بتسليم حمص إليه فلم يمتثلوا أمره، ولما يئس زنكي من فتح حمص عاد إلى الموصل، واستصحب معه سوفج ابن صاحب دمشق وبعض أمرائها، وفي سنة 1131 عاد زنكي من الموصل وقصد حصن الأثارب القريب من حلب، فاتقع مع الإفرنج فهزمهم وقتل منهم وأسر وخرب الحصن المذكور وبقي خرابا إلى الآن، وفي سنة 1133 توفي تاج الملوك صاحب دمشق وعهد بالملك بعده إلى ابنه شمس الملوك إسماعيل، وأوصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد، فكان خلاف بين الأخوين، وسنة 1134 سار إسماعيل إلى بانياس فملكها على غفلة من الإفرنج وقتل منهم، وأسر ثم سار إلى حماة وهي لعماد الدين زنكي فملكها عنوة، ثم سار إلى شيزر وهي لبني منقذ فنهب بلدها وحاصر القلعة وصانعه صاحبها بمال، فعاد إلى دمشق وقتل أخاه سوفج المذكور فعظم ذلك على الناس فنفروا منه.
وفي سنة 1135 أخذ شمس الملوك حصن الشقيف في وادي التيم من ابن الضحاك، فعظم ذلك على الإفرنج؛ لأنهم كانوا راضين عن ابن الضحاك فقصدوا حوران، فأغار شمس الملوك على بلادهم من جهة طبرية فوقعت الهدنة بينهم وبين الإفرنج، وفي سنة 1136 قتل شمس الملوك غيلة فملك بعده بدمشق أخوه شهاب الدين محمود، وفي سنة 1137 تسلم مدينة حمص وأعطى أصحابها أولاد الأمير قير خان بن قراجا تدمر عوضا عنها، فأغار عسكر عماد الدين زنكي المقيم بحلب على بلاد حمص، ونازل زنكي حمص سنة 1138 فلم ينل منها مأربا فانصرف إلى بعرين، وهي بيد الإفرنج وضيق عليها فقاتله الإفرنج، ثم انهزموا واعتصم بعضهم بحصن فحصره زنكي إلى أن طلب الإفرنج الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن وأخذ منهم خمسين ألف دينار وفتح حينئذ المعرة، وأخذها من الإفرنج، وفي سنة 1139 سار زنكي إلى حماة ومنها إلى بقاع بعلبك فملك حصن المجدل، وكان لصاحب دمشق وعاد إلى حمص وحصرها ثانية، ثم رحل عنها إلى سلمية ثم عاد إلى حمص فتسلمها، وأرسل فخطب أم شهاب الدين صاحب دمشق طمعا بأن يتولى دمشق، ولما خاب أمله في ذلك أعرض عنها.
وكان الملك يوحنا كمنانوس قد حمل على سورية سنة 1138، ففتح ترسيس وأدنة وما جاورهما وخيم على أبواب أنطاكية، فارتاع ريموند صاحبها واستنجد ملك أورشليم، فلم يستطع أن ينجده، فسلم ريموند أنطاكية إلى ملك الروم وأقر بسيادته ووعده الملك أن يلحق بإمارة أنطاكية كل ما يأخذه من المسلمين، وسار الملك إلى حلب وحاصرها أياما ثم خاف حصول مجاعة في عسكره، فرفع الحصار عن حلب واكتفى بأخذ بعض القرى المجاورة لها، ورحل إلى شيزر فاعتصم المسلمون بأسوارها يدافعون عن بلدهم، فلم يقو الروم على فتحها واستحوذوا على بعض ضواحيها، وقدم له أهل شيزر تقادم نفيسة فرحل عنهم إلى أنطاكية، وسأل أميرها أن يقيم بها حامية من قبله، فثار سكان المدينة وحملوا سلاحهم، وقتلوا بعض حاشية الملك، فوارى مقصده وطيب قلوب الثائرين، وعاد إلى القسطنطينية وفي قلبه حزازات من أهل أنطاكية.
وعاد ملك الروم إلى سورية سنة 1142، واستأنف طلبه من أمير أنطاكية أن يقيم حامية من قبله فأبى ريموند الإجابة، فأوعز الملك إلى جنوده فنهبوا بلاد أنطاكية وقطعوا أشجارها، وأتلفوا مزارعها فزاد كره الناس له وأراد أن يزور أورشليم فخشي فولك ملكها الخديعة له، وأجاب ملك الروم أنه يتعذر عليه أن يقيم بأزودة جيش الملك، فإن شاء أن يحضر بقليل من عسكره قبله بالتجلة والاحتفاء، فأدرك ملك الروم سبب رفض قبوله في أورشليم ، وقفل إلى كيليكية فمات بها سنة 1143، ثم توفي فلك ملك أورشليم سنة 1144. (7) في بودوين الثالث وبعض ما كان في أيامه
صفحه نامشخص