محاورات افلاطون
محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون
ژانرها
وهبياس الأليزي
Hippias of Elis
يطوفون بالمدن يحملون الشباب على ترك بني وطنهم الذين يعلمونهم ابتغاء وجه الله ليسعوا إليهم، فلا يأجرونهم وكفى، بل يحمدون لهم ذلك الفضل العظيم. ولقد أتاني نبأ فيلسوف من بارا يقيم في أثينا، حدثني عن رجل صادفته. قد بذل للسفسطائيين مالا طائلا، هو كالياس بن هبونيكوس. ولما أنبأني أن له ابنين سألته: لو كان ابناك يا كلياس جوادين أو بقرتين لما شق عليك أن تجد لهما مدربا؛ فما أهون أن تستخدم مدرب الخيول أو فلاحا يقومهما ويبلغ بهما حد الكمال في حدود ما يعدانه فضلا ونبوغا، ولكنهما إنسانان من البشر، فمن ذا فكرت أن يكون لهما مؤدبا؟ أثمة من يدرك فضيلة الإنسان وسياسة البشر. حدثني، فلا بد أن تكون قد تدبرت الأمر ما دمت والدا. فأجاب: «نعم وجدت ». فسألته: من هو ذا؟ وأين موطنه؟ وكم يؤجر؟ فأجاب: «هو أفينس الباري، وأجره خمسة دراهم.» فقلت في نفسي: «أنعم بك يا أفينس إن كنت تملك هذه الحكمة حقا، وتعلمها بمثل هذا الأجر الضئيل، فلو كانت لدي لزهيت وأخذني الغرور، ولكني بحق لا أعلم من تلك الحكمة شيئا.»
أيها الأثينيون! رب سائل منكم يقول: «وكيف شاعت عنك تلك التهمة يا سقراط إن لم تكن قد أتيت أمرا إدا. فلو كنت كسائر الناس لما ذاع لك صوت ولا دار عنك حديث. أنبئنا بعلة هذا إذ يؤلمنا أن نسارع بالحكم في قضيتك»، وإني لأحسب هذا تحديا رقيقا، وسأحاول أن أوضح لكم لم دعيت بالحكيم، ومن أين جاءتني الأحدوثة السيئة؛ فأرجو أن تنصتوا لقولي، ولو أن بعضكم سيظن بي الهزل، ولكني أعترف أنني لن أقول إلا الحق خالصا. أيها الأثينيون! إن لدي ضربا معينا من ضروب الحكمة كان مصدر ما شاع من أمري، فإن سألتموني عن هذه الحكمة ما هي؟ أجبت أنها في مقدور البشر، وإلى هذا الحد؛ فأنا حكيم. أما أولئك الذين كنت أتحدث عنهم فحكمتهم معجزة فوق مستوى البشر، لا أستطيع أن أصفها لأنني لا أملكها، ومن ظن أنها لدي قد ظن باطلا، وكان أشد ما يكون بعدا عن حقيقتي. أيها الأثينيون! أرجو ألا تقاطعوني ولو بالغت في القول فلست قائل هذا الذي أرويه لكم، ولكني سأنيب عني شاهدا جديرا بالثقة، ليحدثكم عن حكمتي؛ فسينبئكم هل أملك من الحكمة شيئا؟ وإن كنت أملك فما نوعها؛ وأعني بذلك الشاهد إله دلفي. إنكم ولا ريب تعرفون «شريفون» فهو صديقي منذ عهد الصبا، هو صديقكم مذ ظاهركم على نفي من نفيتم ثم عاد أدراجه معكم. كان شريفون كما تعلمون صادق الشعور في كل ما يعمل؛ فقد ذهب إلى معبد دلفي وسأل الراعية في جرأة لتنبئه - وأعود فأرجو ألا تقاطعوني - سأل الراعية لتنبئه إن كان هناك من هو أحكم مني؛ فأجابت النبية أن ليس بين الرجال من يفضلني بحكمته. لقد مات شريفون، ولكن أخاه، وهو في المحكمة بيننا، يؤيد صدق ما أروي.
وفيم أسوق إليكم هذا الخبر؟ ذلك لأنني أريد أن أتقصى لكم علة ما ذاع عني من سوء الذكر. لما أتاني جواب الراعية قلت في نفسي: ماذا يعني الإله بهذا؟ إنه لغز لم أفهم له معنى، أنا عليم أن ليس لدي من الحكمة كثير ولا قليل؛ فماذا عساه يقصد بقوله إنني أحكم الناس؟ ومع ذلك فهو إله يستحيل عليه الكذب؛ لأن الكذب لا يستقيم مع طبيعته. ففكرت وأمعنت في التفكير، حتى انتهيت آخر الأمر إلى طريقة أحقق بها القول، اعتزمت أن أبحث عمن يكون أحكم مني، فإن صادفته، أخذت سمتي نحو الإله لأرد عليه ما زعم؛ فأقول له: «هاك رجلا أكبر مني حكمة، وقد زعمت أني أحكم الناس.» لهذا قصدت إلى رجل من الساسة - ولا حاجة بي إلى ذكر اسمه - فقد عرف بحكمته، وامتحنته فانتهيت إلى النتيجة الآتية: لم أكد أبدأ معه الحديث حتى قرت في نفسي عقيدة بأنه لم يكن حكيما حقا، على الرغم من شهادة الكثيرين له بالحكمة، وعلى الرغم مما ظنه هو نفسه في حكمته، وقد جاوز به الغرور شهادة الشاهدين فحاولت أن أقنعه بأنه وإن يكن قد ظن في نفسه الحكمة إلا أنه لم يكن بالحكيم الحق؛ فأدى به ذلك إلى الغضب مني، وشاطره في غضبه كثيرون ممن شهدوا الحوار وسمعوا الحديث، فغادرته قائلا في نفسي: إني وإن كنت أعلم أن كلينا لا يدري شيئا عن الخير والجمال، فإنني أفضل منه حالا؛ لأنه يدعي العلم وهو لا يعلم شيئا، وأما أنا فلا أدري ولا أزعم أنني أدري. ولعلي بهذا أفضله قليلا. ثم قصدت إلى آخر، وكان أعرض من سابقه دعوى في الفلسفة، فانتهيت معه إلى النتيجة نفسها، وعاداني هو الآخر، وأيده في موقفه عدد كبير.
أخذت ألتمس الناس رجلا فرجلا وأنا عالم بما أثيره في الناس من غضب كنت آسف له وأخشاه، ولكنها ضرورة لم يكن من المضي فيها محيص. إنها كملة الله، ويجب أن أحلها من اعتباري المكان الأسمى، فقلت لنفسي: لا بد أن أحاور أدعياء العلم جميعا لعلي أفهم ما قصدت إليه الراعية. وأقسم لكم أيها الأثينيون أغلظ القسم
3 - فواجب أن أقول الحق - إنني قد انتهيت من البحث إلى ما رويت؛ إذ وجدت أن أشهر الناس أكثرهم غباء، وقد صادفت فيمن هم دون هؤلاء مقاما رجالا بلغوا من الحكمة ما لم يبلغه هؤلاء. وسأقص عليكم حديث تجوالي وما عانيت خلاله لتحقيق ما قالته الراعية. تركت رجال السياسة وقصدت إلى الشعراء، سواء في ذلك شعراء المأساة أو الأغاني الحماسية أو ما شئتم من صنوف الشعر، وقلت في نفسي: إن الأمر لا ريب مكشوف لدى الشعراء فسأجدني بإزائهم أشد جهلا. ثم جمعت طائفة مختارة من أروع ما سطرت أقلامهم، وحملتها إليهم أستفسرهم إياها لعلي أفيد عندهم شيئا، أفأنتم مصدقون ما أقول؟ وا خجلتاه! أكاد أستحي من القول لولا أني مضطر إليه؛ فليس بينكم من لا يستطيع أن يقول في شعرهم أكثر مما قالوا هم وهم ناظموه. عندئذ أدركت على الفور أن الشعراء لا يصدرون في الشعر عن حكمة، ولكنه ضرب من النبوغ والإلهام. إنهم كالقديسين أو المتنبئين الذين ينطقون بالآيات الرائعات وهم لا يفقهون معناها. هكذا رأيت الشعراء، ورأيت فوق ذلك أنهم يعتقدون في أنفسهم الحكمة فيما لا يملكون فيه من الحكمة شيئا استنادا إلى شاعريتهم القوية. فخلفت الشعراء وقد علمت أني أرفع منهم مقاما، فقد فضلني عليهم ما فضلني على رجال السياسة.
وأخيرا قصدت إلى الصناع، وكنت أظنني جاهلا بما يتصل بالصناعة من علم، وكنت أحسب أن لدى هؤلاء الصناع مجموعة طريفة من المعارف، وقد ألفيتني مصيبا فيما ظننت؛ إذ كانوا يعلمون كثيرا مما كنت أجهله، فكانوا في ذلك أحكم مني بلا ريب. ولكني رأيت حتى مهرة الصناع قد تردوا فيما تردى فيه الشعراء من خطأ، فتوهموا أنهم ما داموا أكفاء في صناعتهم فلا بد أن يكونوا ملمين بكل ضروب المعرفة السامية، فذهبت سيئة الغرور بحسنة الحكمة. لهذا ساءت نفسي بالنيابة عن الراعية: أكنت أحب أن أظل كما أنا، لا أملك ما يملكون من علم، ولا أكبو فيما كبوا فيه من خطأ، أم كنت أحب أن أكون شبيههم في العلم والجهل على السواء؟ فأجبت نفسي، وأجبت الراعية: إنني خير منهم حالا.
وهذا الذي انتهيت إليه قد حرك العداوة في قلوب نفر من أشد الناس سوءا وخطرا، كما نسج حولي طائفة من الدعاوى الباطلة. ولقد جرى الناس على تسميتي بالحكيم؛ إذ خيل إليهم أنني ما فتئت أحمل الحكمة التي كانت تعوزهم، ولكن الله - أيها الأثينيون - هو الحكيم الأوحد، ولعل الله أراد بجوابه أن الحكمة في البشر ضئيلة أو معدومة. إنه لم يتحدث قصدا عن سقراط، إنما ضرب باسمي مثلا، كأنما أراد أن يقول إن من يدرك كما أدرك سقراط أن حكمته في حقيقة الأمر لا تساوي شيئا يكون أحكم الناس. فأنا كما ترونني أسير وفقا لما يرسمه لي الله، أفتش عن الحكمة في كل من يدعيها، لا أبالي أكان من أبناء الوطن أو غريبا، فإن لم أجده كما ادعى، صارحته بجهله كما أمرتني الراعية. ولقد انصرفت إلى هذا الواجب انصرافا لم يبق لي معه من الوقت ما أبذله فيما يشغل بال العامة، أو أنفقه في شئوني الخاصة. وهكذا كرست حياتي لله فعشت فقيرا معدما.
أما أن الشبان الأثرياء الذين لا تضنيهم شواغل الحياة كثيرا قد التفوا حولي؛ فهم قد جاءوا يسعون من تلقاء أنفسهم ليشهدوا امتحان الأدعياء. وكثيرا ما انطلقوا بدورهم يلتمسون أدعياء الحكمة ليجروا عليه التجربة نفسها. وما أكثر ما صادفوا رجالا ظنوا في أنفسهم العلم، فإذا بهم لا يعلمون إلا قليلا، أو هم لا يعلمون شيئا. فلا يلبث هؤلاء الذين امتحنهم الشبان أن يصبوا علي جام غضبهم، وأنفسهم أحق بهذا الغضب، ويستنزلون اللعنة على سقراط لأنه أفسد الشبان. فإن سألهم سائل فيم هذه اللعنة، وأي جريرة أتى، وأي رذيلة علم، لما حاروا جوابا لأنهم لا يعرفون لغضبهم سببا. ولكي يستروا علائم الحيرة تراهم يعيدون التهم المعروفة التي قذف بها الفلاسفة جميعا، من أنهم يعلمون ما يتصل بالسحاب، وما هو دفين تحت الثرى، وأنهم كافرون بالآلهة، وأنهم يلبسون الباطل صورة الحق - والحقيقة أنهم جاهلون ويأبون الاعتراف بجهلهم المكشوف. ولما كانت تلك الفئة كثيرة طامعة نشيطة، وقد تصدوا جميعا للنزال بما لهم من ألسنة حداد تلعب بالنفوس؛ فقد ملئوا أسماعكم بهذا الاتهام الباطل. وكان أن ناصبني العداء هؤلاء المدعون الثلاثة: مليتس، وأنيتس، وليقون. فقد ناهضني مليتس ليمثل جماعة الشعراء، وأنيتس ليمثل طبقة الصناع والسياسيين، وليقون ليمثل الخطباء. وإنني كما قدمت لا آمل في أن أمحو في لحظة كل ما علق بي من تهم باطلة. أيها الأثينيون! لقد رويت لكم الحق كل الحق، لم أخف شيئا، ولم أشوه شيئا، ومع هذا فأنا أعلم أن صراحتي في الحديث ستصدكم عني، وما هذا الصد إلا برهان على أني أقول الحق. تلك هي دعواهم وذاك منشؤها، ولن تسفر هذه المحاكمة ولا أية محاكمة مقبلة عن غير هذا.
صفحه نامشخص