سكن الأوروبيون مصر قبل عصر محمد علي لأغراض محدودة وفي ظل نظم معينة، وكانت بيوتهم التجارية قبل ذلك العصر مهمتها الأصلية الوكالة عن الشركات والهيئات الأوروبية المختلفة المرخص لها وحدها من جانب الدول الكبرى بالتصدير إلى مصر والاستيراد منها، وقد خضعت إقامة هؤلاء الأوروبيين لمجموعتين من النظم، أما المجموعة الأولى: فتشتمل على اللوائح المختلفة التي أصدرتها الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية، وتتناول هذه اللوائح تنظيم شئون المعيشة والعمل لمن رخصت لهم من الأوربيين بسكنى مصر وتمثيلها فيها تنظيما مفصلا، وعهد إلى القناصل - وهم لسنوات عديدة من حكم محمد علي تجار تحت إشراف الشركات والهيئات المحتكرة - تنفيذ تلك اللوائح.
أما المجموعة الثانية: فتتكون من منطوق العهود الصادرة من السلطان، المتخذة شكل معاهدات بين حكومة الدولة والدول الأوروبية الخاصة بالامتيازات التي منحها السلطان لرعايا تلك الدول عندما ينزلون أرضه ويتاجرون مع رعاياه. ومما طرأ عليها فعلا في اتجاهي التعطيل الكلي أو الجزئي أو التنفيذ في الأيام السابقة لعهد محمد علي (وكان التعطيل هو الأغلب).
وكلتا المجموعتين أصابهما تعديل جوهري في أيام محمد علي، فالمجموعة الأولى هدمتها الثورة الفرنسية والانقلاب الاقتصادي الكبير؛ فقد ترتب على الانقلابين إلغاء الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية (وأهمها شركة الليفانت الإنجليزية وغرفة مرسيليا التجارية) وجعل تلك التجارة حرة للأفراد يشتغلون بها ويسكنون مصر وغيرها من أقطار الدولة العثمانية بلا قيود سوى ما تصدره الحكومات من جانبها أو بالاتفاق مع السلطات العثمانية لأغراض الأمن العام في أوروبا وفي مصر.
وترتب على ذلك أن اكتسب قناصل الدول الكبرى على الأخص صفة الممثلين الرسميين لحكوماتهم وحرم عليهم مزاولة التجارة، وفتحت بذلك الأبواب للتشجيع على الهجرة لمصر والاستيطان بها وكسب الرزق واستثمار الأموال بها، وصار للجاليات الأجنبية في حياة مصر وأهلها شأن جديد تماما.
أما المجموعة الأخرى من النظم فأمرها غير أمر الأولى، لم تمتد يد لنصوصها بالحذف أو الإضافة أو التعديل، ولكنها أصبحت تطبق في ظروف تختلف تماما عما وضعت له، فقد وضعت في ظروف لا تعرف فيها هجرة الألوف من الأجانب لمصر، ولا يعرف فيها الاستيطان الدائم وطلب الرزق من كل الوجوه، ولا يعرف فيها قدوم المهندس والطبيب والصحفي والمعلم للعمل الحر أو في خدمة الحكومة المصرية، ولا يعرف فيها «اللاجئ السياسي» أو صاحب الدعوة لمذهب سان سيمون وما إليه، ولا يعرف صاحب الحانوت الصغير أو الكبير أو المصنع الصغير أو الكبير ولا المصارف ولا «الأعمال» الكبرى، ولا يعرف فيها انتشار الأجانب في ريف مصر وحواضرها ولا الأجنبي الذي يفلح الأرض أو يقتني العزب أو العمارات، ولا تعرف فيها المطبعة أو المدرسة أو الملجأ أو المستشفى الأجنبي.
بهذا كله أصبح للجاليات شأن في حياة مصر لم تعرفه قبل محمد علي، وقد أدرك محمد علي ما في هذه المخالطة من نفع لخططه في اصطناع الحديد والمال والعلم، بل أدرك أنها ضرورية كل الضرورة، واعتقد أن سطوته الشخصية تغني عن وضع اتفاقات دولية جديدة، تنطبق على الظروف الجديدة وتقي أمته وخلفاءه الأضرار البالغة التي نجمت عن تطبيق معاهدات القرن السادس عشر في ظروف القرن التاسع عشر.
كما أن نظام الاحتكار الذي سار عليه طول مدة حكمه تقريبا كان قيدا شديدا للنشاط الأجنبي في مصر، إلا أن عصره شهد البوادر الدالة على المستقبل، وقد قاومها بسطوته الشخصية، مثلا عندما اعتدى قنصل سردينيا (مملكة بيدمنت: نواة الوحدة الإيطالية) على أرسلان أغا أمين جمرك بولاق كتب محمد علي: «إن أرسلان أغا صبر وتحمل هذا الأحمق ضرب القنصل وعدم مقابلته بالمثل في محل الواقعة، فأوجب ذلك اضطراب ضميري، وحيث إني قد نبهت أكيدا على القنصل الجنرال بعزل المذكور وإبعاده عن مصر فإذا استعلم من الديوان عن أشغال تتعلق بالميري قبل مخابرة القنصل الجنرال فلا يلتفت إلى ما يرد منه، وإنه لا تعطى إليه أية إجابة من الديوان، وأن ينبه على المعاون الأول بالقبض على الياساقجي خارج منزل القنصلاتو وإحضاره إلى الديوان وضربه خمسمائة نبوت أدبا له على ما وقع منه في ديوان جمرك بولاق، وإفهامه أن الغرض من إعطاء الياسقجية للقناصل هو لصيانتها والمحافظة عليها وليس لمساعدتهم في فعل أعمال مغايرة كهذه، وإن أمكن إيجاد من يليق لأمانة جمرك بولاق بدل أرسلان أغا فيرفع عن وظيفته جزاء على عدم محافظته على شرف وناموس الحكومة لقبوله الضرب وعدم مقابلة القنصل المذكور بالمثل.»
وإنا نحمد لمحمد علي أنه لم يفكر في تقييد حرية أفراد شعبه في الانتفاع أو عدم الانتفاع من تلك المخالطة الأوروبية، وامتنع عنهم بسماحته بذلك اللون الممقوت من ألوان الاستبداد الذي يأبى إلا أن يصب حياة الأمة الروحية في القالب الذي تشاؤه الدولة لها، وبقى المصريون إلى يومنا أحرارا يتجهون نحو ما يرتضون لأنفسهم من شتى المثل العليا، كما بقى الباب مفتوحا يلجه من يريد العمل على خلق ثقافة غنية بتباين أصولها وتنوع عناصرها.
ذلك لأنه أحب لشعبه ما أحب لنفسه، فكما أنه لا يرفض النظر في شيء ما لمجرد أجنبيته، وكما أنه دءوب على التعلم، شغوف بالاستعلام من كل من يعلم شيئا ما، كذلك أحب أن يكون شعبه عموما و«الصفوة» التي عمل على تكوينها خصوصا. «تلك الصفوة» هي «الأرستقراطية المتكلمة بالتركية» من أصحاب المناصب الحربية والإدارية والفنية، وهي من خلق محمد علي، عرفنا تحديده لمهمتها في مشروعه، وعلينا الآن أن نلم بأشياء أخرى عنها، كونها محمد علي من شتى العناصر، فمن رجالها من جمعهم أحداثا من المماليك والأحرار من أبناء العالم العثماني ومن مصر وأقاليمها السودانية أو من سبي المورة أو اللاجئين منها، كفلهم محمد علي منذ نعومة أظفارهم ورباهم وعلمهم في مدارسه في مصر وبعث منهم من بعث إلى أوروبا، كما أن من هذه الأرستقراطية من لحقوا بها كبارا، تعلقوا به وتعلق بهم وأئتمنهم على أعز ما لديه: قيادة أمته سواء السبيل.
وعلى ذلك فلم تكن تلك الصفوة تركية لحما ودما، بل كان لسانها التركية إما طبعا وإما اكتسابا، وانطبع أعضاؤها على تباين الأصول بالطابع العثماني - أو، كما عرفناه، العثمانلي - في آداب السلوك وتنظيم المنزل وما إليه من طرق المعيشة، وذلك أن محمد علي فتح مصر للغة الترك وآدابهم مفنونهم وعاداتهم، وانتشرت التركية في مصر انتشارا جديدا تبعا لأنها لغة ولي الأمر ولغة الحكومة ولغة «الصفوة» من القوم، إلا أن تأثير ذلك في الثقافة المصرية كان ضئيلا؛ فلم تتأثر العربية بالنماذج التركية تأثرا يعتد به، اللهم إلا في «الرسائل».
صفحه نامشخص