وفي جزيرة العرب - في ذلك العصر - وفي أنحاء أخرى منعزلة من دار الإسلام كانت حركات أخرى إسلامية لها شأنها وخطرها، كالوهابية وما انبعث عنها من الجداول التي انسابت في أقطار قديمة وأقطار جديدة من دار الإسلام. وكانت غايتها الكبرى إحياء الحياة السلفية، والغاية لها قدرها، وكل مجتمع جدير بهذا الاسم لا يستغني عما يدفعه نحو السلف كما أنه لا يستطيع أن يبقى إذا اعتبر نفسه في حرب دائمة ضد حاضره وضد مستقبله، وقد احترم محمد علي، بل واستخدم، الجماعات الدينية التي أخذت تتكون وتنشط في وقت بعث الوهابية في نشر الإسلام وتهذيب حياة الشعب وترقيتها في الأقطار السودانية. ولكن الوهابية وخططها في عصره كانت مما لا يحتمل، وما جرى من نهب مزارات الشيعة بالعراق والروضة النبوية بالمدينة والاعتداء على الآمنين في الجزيرة وفي العراق والشام وفي البحار العربية؛ مما لا يمكن التجاوز عنه، فلا مناص من الحرب.
وإن شئت مثالا يوضح لك ذلك «الضيق» الذي لا يطاق - وبخاصة إذا كان يحمل سيفا - تجده فيما صرح به الشيخ محمد رشيد رضا في المنار من استنكار الاحتفال بذكرى محمد علي المئوية في المساجد مبينا «سيئات محمد علي وأكبرها قتاله للوهابية وقضاؤه على ذلك الإصلاح !»
وأوروبا أيضا اهتمت بالإسلام والمسلمين عموما وبالعالم العثماني خصوصا، اهتمت به وبهم بداعي اشتباك المصالح الحسية والمعنوية التي أملت أحيانا سياسة الاستحواذ وأحيانا سياسة الابتعاد، وليست مظاهر الاهتمام الأوروبي مما يمكن إجماله في الصيغة الواحدة، وإنما هي مما يزداد وضوحا عند دراستها مقترنة بالوقائع في موضع التفصيل، ولكن يصح أن نقف في موضعنا الحاضر عند مسألة مهمة من مسائلها، وهي الآتية: هل اتسع الفكر الأوروبي في ذلك العصر للبحث عن أسس يصح أن يقوم عليها تعاون حقيقي جدير بهذا الاسم بين دار الإسلام وأوروبا؟ إن من المسلمين إذ ذاك من خطا هذه الخطوة ورآه أمرا ممكنا لازما، فهل خطاها أحد في أوروبا إذ ذاك؟
إنا لا ندخل في عناصر المسألة سعي بعض العلماء وغير العلماء من الأوروبيين لفهم الإسلام والمسلمين؛ من أجل تيسير مهمة الحاكم الأوروبي في القطر الإسلامي، أو إمداد وزارات الخارجية بالحقائق النزيهة وما إلى ذلك، ولا ندخل فيها سعي أصحاب الدعوات إلى مذاهب اجتماعية تستند إلى التطور الاجتماعي الأوروبي وتروم أن تجد في دار الإسلام ميدانا لانتشارها. بل ولا ندخل فيها ما تلوح عليه مسحة عدم الاتصال بمنفعة أوروبية أو فكرة أوروبية بحتة؛ كاشتغال بعض الأوروبيين بمسائل الخلافة، أو إنشاء وحدات داخل نطاق دار الإسلام تقوم على قواعد من وحدة اللغة أو الجوار أو الثقافة، أو ما شابه، أو إحياء فنون أو عادات إسلامية تقليدية.
إننا نخرج هذه الحركات من تحديدنا المسألة، لا لأننا لا نرى ما فيها من حسن النية، ولا لأننا لا نعتد بأهميتها، ولا لأننا لا نعتقد أن في بعضها ما يوجد وجها للتعاون بين المسلمين وغير المسلمين؛ إنما نخرجها لسبب واحد: لأنها جميعا تندرج تحت باب المنفعة الأوروبية بمعناها الشامل، وقد أرجأنا بحث المنافع الأوروبية بأنواعها ونتائجها إلى موضع التفصيل، ومسألتنا تقوم على الاعتراف بالإسلام لذاته وكما هو وقبوله كما هو في تنظيم عالمي، وجوابنا على ذلك: أن أوروبا في عصر محمد علي لم تكن مستعدة لذلك. وإن نظرتها وخططها نحو الإسلام والمسلمين كلها مما يقوم على قاعدة المصالح الأوروبية المختلفة، ويرجع ذلك لسببين: يرجع أولا؛ لاعتقاد الأوروبيين إذ ذاك أن رسالة الإسلام قد قضيت، وألا رجاء للمسلمين إلا بأن يأخذوا عن المجتمع الأوروبي فكرة «الحركة» والتخلي عن فكرة المحافظة والسكون، كما يرجع ثانيا: لأن فكرة التنظيم العالمي كانت إذ ذاك لم تنتقل إلى حيز المباحث السياسية العملية.
الفصل السادس
وقد قبل محمد على الأخذ بفكرة «الحركة» لا على أن رسالة الإسلام قد قضيت، بل تحقيقا لقانون قديم من قوانين تطور الأمة الإسلامية، وهو وجوب بعث حافز من دعوة أو عصبية يخرج الأمة من طور سكون إلى طور حركة، وقد يكون مصدر الحافز داخليا وقد يكون خارجيا، ولكن أثره دائما أشبه ما يكون بأثر الخميرة في العجينة تكسبها سرا من أسرار الحركة.
وقد عبر هو نفسه عن الأخذ بفكرة الحركة، وعن كونها تتم على يد صفوة القوم يقودون ولا يقادون يعرفون وجهتهم ويتجهون نحو الوجهة؛ أحسن تعبير، قال في خطبة له في آخر أيامه: «إن الذي أذكره من أحوال العالم لا بد من أن يكون معلوما لديكم إجمالا، وذلك أن أهل الملل الموصوفين بالقدرة والقوة لم يكونوا في الأصل من أصحاب الاقتدار واليسار الذي هم عليه الآن، بل كان كل منهم جاريا على طراز قديم، ثم ظهر فيهم بعد ذلك ذوات من أصحاب الانتباه فأخذوا يجهدونهم بوسائل حتى إنهم بسبب ما أثمر من سعيهم واجتهادهم في حقهم علموا قيمة محبة الوطن فكان ذلك سببا في تقدمه.»
وعلى هذا فما يعمل له من اصطناع قوة الحديد والعلم والمال لتأسيس ما سميناه «قاعدة الارتكاز» في العالم العثماني له شروط: أولها؛ الاستعداد لقبول ما يلائم المصلحة من مناهج الغير، ويتأتى ذلك بالمخالطة على نحو ما والاستعداد - داخل حدود طبعا - لدفع ثمن تلك المخالطة «فالغير» لا يخدم حبا في سواد العيون فقط. وثانيها: العمل على خلق «الصفوة» بمختلف وسائل التربية والتكوين. وثالثها: ابتكار «أدوات التثبيت» أو اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه لجعل المستحدثات جزءا لا يتجزأ من كيان المجتمع معاونة لفعل الزمن.
و«المخالطة» شرط أساسي للنقل عن الغير، عدها رفاعة «مفلسف النهضة» من أكبر ما أقدم عليه محمد علي، قال: فلو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة؛ لكفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد وآنسها بوصال أبناء الممالك الأخرى والبلاد لنشر المنافع العلمية واكتساب السبق في ميدان «التقدمية»، وأكسبت المخالطة وضعا جديدا للجاليات الأجنبية ورثته مصر فيما ورثت عن عصر محمد علي.
صفحه نامشخص