مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
ژانرها
27
وبالرغم من أن الشعر يستخدم الكلمات، ويحمل دائما مضمونا ذهنيا، وينطوي على معان عقلية، فإن الكلمات في الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق، وتتخفف من ماضيها، ولا تعود «أداة» تخدم الفكر وتحيل إلى معان. إنها تنصهر وتكتسب «الشكل»
Form
وتتحول إلى «غاية»، وتفارق صفة «العلامة» وتأخذ صفة «الرمز» الملتحم بمعناه. وكأنما الشعر عودة باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه العودة طرائق كثيرة، منها الوزن. فالوزن، كما أشار كرورانسوم،
28
هو طريقة لفرض الصورة صوتيا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في معاني الألفاظ نفسها؛ وبذلك يخلق الوزن نوعا محببا من التشتيت يجعل من التلقي تجربة جمالية، كما أن للوزن تأثيرا سيمانطيقيا (دلاليا) هائلا: فهو يضطر الشاعر إلى أن يضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى يسلم له النغم، ويلوي بالتركيب النحوي ليسلم له العروض، وفي هذه العملية يسترخي المعنى ويتفكك ويحقق الشعر ذاته؛ فيكون لغة بدائية صورية شيئية غامضة، أفضل تسجيلا لكثافة الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة. ولعل هذا هو السبب في أن القصيدة تعني دائما أكثر مما تعنيه ترجمتها النثرية في لغة أخرى، من حيث إن بناءها الشكلي والموسيقي قد جعل منها «رمزا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
29
صفوة القول أن الضرورة الشعرية ليست معلولا مباشرا للوزن ولا تتحدد به، «وإنما تتحدد بماهية الشعر نفسه من حيث هو مستوى من التعبير مختلف عما عليه سائر الكلام، فللشعر تركيبات لغوية تختص به، وهذه هي محل الضرورة.»
30
ومما سبق يتبين لنا حجم الخطأ الذي وقع فيه النحاة حين اعتمدوا في جمع اللغة وتقعيدها على الشعر بالدرجة الأساس، حيث كان ينبغي الاعتماد على النثر بوصفه اللغة السوية القياسية، ويبقى الشعر مستوى آخر من اللغة جديرا بالدراسة بحقه الشخصي، وقد أدى هذا الخلط الأساسي إلى تضخم القواعد واضطرابها وتناقضها، وإلى ضروب أخرى من الخلط ما زالت الفصحى تعاني من آثارها وجرائرها إلى يومنا هذا.
صفحه نامشخص