الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - جمع المادة اللغوية
2 - الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر
3 - نشأة اللغة توقيف أم اصطلاح
4 - طبيعة اللغة
5 - اللغة والمنطق
6 - التغير اللغوي
7 - ازدواجيتنا اللغوية «العامية والفصحى»
8 - تعريب العلم
9 - مزايا العربية
10 - ضرورة الإصلاح
تذييل
من مراجع الكتاب ومصادره
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - جمع المادة اللغوية
2 - الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر
3 - نشأة اللغة توقيف أم اصطلاح
4 - طبيعة اللغة
5 - اللغة والمنطق
6 - التغير اللغوي
7 - ازدواجيتنا اللغوية «العامية والفصحى»
8 - تعريب العلم
9 - مزايا العربية
10 - ضرورة الإصلاح
تذييل
من مراجع الكتاب ومصادره
مغالطات لغوية
مغالطات لغوية
الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
تأليف
عادل مصطفى
الإهداء
إلى الأم الجليلة الجميلة الأزلية ... مصر،
وقد نال منها الوهن والشحوب،
داعيا الله أن يهون عليها آلام المخاض.
كلمة
اللغة العربية لغة وعي ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن؛ للتأثير في اللغة الدولية المستقبلة.
لوي ماسنيون
مقدمة
سيكون هذا الخيط وصل ما بينك وبين الماضي فعد إليه، عد إلى نفسك؛ فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يعتمد مستقبل أمرك إلا على ماضيك الذي كنت فيه، وحاضرك الذي أنت عليه.
أندريه جيد: ثيسيوس
تعاني الفصحى هذه الأيام وهنا وذبولا لم يعد محل جدال؛ فالركاكة أصبحت ظاهرة عامة ومناخا شاملا، واللحن في مبادئ اللغة أصبح قاسما مشتركا، لا بين عامة الناس فحسب، بل بين خاصة الأساتذة والإعلاميين والأدباء! وإن لغة تستعصي على سدنتها وأحبارها لهي لغة تفقد طبيعة اللغة ووظيفتها، وتستحق من الجميع وقفة للتدبر والمراجعة والتمحيص.
العربية لغة كأي لغة، تجري عليها نواميس اللغات، وتخضع لقوانين علم اللغة العام، غير أنها في ذلك تقف حالة خاصة بين اللغات ونسيج وحدها؛ فهي أعرض اللغات متنا وأطولها عمرا، العربية لغة جسيمة هائلة الجرم؛ لأسباب حتمت ذلك:
أولا:
أنها في الأصل ليست (بمعنى ما) لغة واحدة، بل هي المجموع الجبري للغة العربية المشتركة ولهجات القبائل الموثقة.
1
ثانيا:
أنها بعد الفتوحات بسطت ظلها على أصقاع مترامية من الأرض، وقضت على لغات قديمة فيها (كالسريانية واليونانية والقبطية ... إلخ) بعد أن نقل إليها، بالترجمة والتعريب، عصارة هذه اللغات وخبرات أهلها الذين أسلموا واستعربوا؛ فصارت العربية في أدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، وصارت، من حيث الرصيد العلمي والحضاري، مجموعا جبريا لعدة لغات عريقة!
ثالثا:
أنها صينت، برغم التوسع الجغرافي، من التفتت إلى لغات منفصلة؛ بفضل كتاب جامع وعقيدة موحدة وعلماء أفذاذ؛ فامتد بها الأجل أكثر من سبعة عشر قرنا من الزمن محتفظة بأسسها ونحوها وجذرها الثلاثي، وهي مزية لم تتح لأي لغة من اللغات.
من شأن هذه الظروف التاريخية الخاصة، وهذا الامتداد الجغرافي والزمني، وهذه البسطة الأفقية والرأسية، أن تجعل من العربية لغة ضخمة واسعة، صعبة بطبيعة الحال، صعوبة الاكتناز والثراء والغنى، وإذا كان قدرنا أن نبذل في تعلمها جهدا أكبر مما يبذله غيرنا في لغته فإن جهدنا فيها لا يذهب دون مقابل.
يتضمن الكتاب الذي بين يديك مراجعة شاملة لفقه اللغة العربية، تتناول قصتها من مبدئها إلى منتهاها، عسانا أن ندرك ما لهذا الكائن الجميل المقيم معنا وفينا من جلال وحسب؛ فنحتشد لنصرته، ونتنادى لإنقاذه. (1) أخطاء النحاة
في الفصل الأول والثاني تجد عرضا مفصلا لعملية جمع اللغة العربية على أيدي النحاة الأوائل، أخطأ النحاة في جمع اللغة وتقعيدها أخطاء منهجية معروفة، عرضنا لها بشيء من التفصيل، وأخذناها بحجمها، ووضعنا أمرها في نصابه.
قد تكون لبعض الأخطاء ثمار حلوة، وعواقب محمودة، ونواتج بعدية سائغة تتجاوز منشأها، وتصبح قيمة بحقها الشخصي! مثلما ينتج اللؤلؤ عن خطأ حل بالمحار؛ فتغمدته حظوة الزمن:
خلط اللهجات كان خطا منهجيا بغير شك، أفضى إلى لغة جسيمة داخلها عنصر اصطناعي؛ لغة متخمة بالمترادف والمشترك والأضداد والغريب؛ لغة لم يتحدث بها أحد في أي وقت على نحو طبيعي؛ ذلك أنها ليست لغة واحدة، كما قلنا، بل حزمة لغات، غير أن هذه الجسامة صارت وديعة الزمن؛ الزمن الذي يقصي ويصطفي، ويعجم ويجرب؛ فأخذها بالتنقيح والنخل، واجتبى منها الأجمل والأسلس، فاستوت في النهاية لغة بديعة قسيمة تامة الخلق خلابة البنيان.
وأخطأ النحاة حين استندوا إلى الشعر في أغلب شواهد اللغة، وهنا أيضا لا نعدم أثرا إيجابيا لهذا الخطأ المنهجي؛ فاللغة التي استمدت مادتها وشواهدها من الشعر لا يمكن إلا أن تكون «لغة شاعرة»، تؤثر النغم وتكره الثقل، وتعرف الحذف والإيجاز واللمح، ويدخل المجاز منها في الصميم.
2
ثم عرضنا لرأي النحاة في نشأة اللغة وطبيعتها. لم يكن الإطار المعرفي الذي يفكر داخله النحاة ليسمح لهم بأكثر مما رأوه، واستثنينا عبد القاهر الجرجاني الذي كانت نظريته في «النظم» استباقا مدهشا لكثير من الأفكار الفلسفية واللغوية المعاصرة.
ثم انتقلنا في فصل «اللغة والمنطق» إلى قضية النحو العربي، وبينا أن تاريخ النحو كان تاريخ صراع بين ثقافتين: ثقافة العرب وثقافة الموالي، كتب فيه النصر، للأسف، لثقافة الموالي الذين بالغوا في تضخيم النحو وأثقلوه ومنطقوه، وجمدوا اللغة وأبعدوها عما ألفته في «بيت أبيها» من رحابة وسماحة وسجية، وهذه تذكرة تحمل في ذاتها دعوة إلى إعادة «تعريب النحو»! وتخليصه من اللحاء الأرسطي الثقيل، الذي أضر بالعربية وخنقها وأوحى إلى الناس أن يهجروها.
وفي فصل «التغير اللغوي» نوهنا إلى ظاهرة التغير وعرضنا، بشيء من التفصيل، لأسبابه وأنواعه، والتوتر القائم بين فكرة «التغير» وفكرة «اللحن» في أذهان اللغويين القدماء والمحدثين، وبينا أن الخطأ المشهور لا يعود خطأ؛ إذ إن شرعية اللغة الشيوع! وعرضنا نماذج من «تصحيح الصحيح»! جعلنا منها فرصا لتصويب الفكر قبل الكلمات، وبينا أن كثيرا مما يقال له «خطأ» في اللغة هو خطأ اللغويين أنفسهم هواة «قل ولا تقل»، الذين ثقل على أذهانهم الركام الأرسطي فعزلهم عن السليقة العربية، وأفقدهم الفطرة اللغوية فجعلوا يخطئون الناس ويبثون فيهم اليأس من الفصحى والتوجس منها.
وفي فصل «العامية والفصحى» عرضنا لقضية ازدواجيتنا اللغوية التي تهدد العقل العربي بالانشطار والتشوش، وبينا أن سد الفجوة بين العامية والفصحى لا يكون باحتقار العامية، بل بمهادنتها واسترفادها، ورصد فصيحها وترويجه وإدراجه في مناهج التعليم، حتى يأنس النشء بلغتهم التي يدرسونها ولا يعودوا يحسون في دراسة الفصحى أنهم يتعلمون لغة أجنبية.
وفي فصل «تعريب العلم» اقتحام لهذه المسألة الشائكة المعلقة، بينا فيه أن التعريب ضرورة ملحة: قومية وعلمية ونفسية ولغوية، وأن التقاعس عن التعريب هو انتحار جماعي بشع، وتخل عن أمانة تاريخية علينا أن نحملها ولا نشفق منها.
وفي فصل «مزايا العربية» بينا، بحيدة وموضوعية، ما تتمتع به العربية من فضائل بنيوية ودلالية، وعرضنا لقضية غياب فعل الكينونة ودلالته الفلسفية، واحتمال وجود منهج علمي وفلسفي مضمر في قلب العربية علينا أن نستكشفه ونستوحيه.
وفي فصل «ضرورة الإصلاح» عرضنا لمعنى الإصلاح وخصائصه، واقترحنا ما أسميناه «نظرية الاستعمال» كوصفة شاملة للإصلاح اللغوي في مجال التقعيد والتعليم والتعلم، وأشرنا بسهم إلى الطريق الثالث الذي ينبغي أن نتخذه في مسيرنا إلى الفصحى الجديدة التي علينا أن نؤسسها، مثلما أسس دانتي الإيطالية، تواتينا في ذلك رياح الكوكبية وقوى العولمة التي تحل لنا، من حيث لا نحتسب، مشكلة الحرف العربي، وتعكس الميول اللغوية القديمة؛ إذ تقرب اللهجات وتوحد اللغة وتمنع انشعابها، وتيسر نشرها وتعلمها، وتلقيها على مسامع الناس بالغدو والآصال، وقلنا: إن تلك فرصة سانحة علينا أن ننتهزها ولا نضيعها. (2) إحياء التراث
ليس ثمة تناقض بين تجديد اللغة وإحياء التراث كما قد يبدو للنظرة السطحية العجلى، فالحق أن العربية لغة معمرة، تنمو من داخلها بالاشتقاق والتعريب، ويظل جذرها الثلاثي حاضرا عتيدا، ويظل ماضيها موصولا بحاضرها يغذوه ويمسكه ويمده بأسباب النماء.
بإهاب كل مجدد كبير كلاسيكي كبير، وفي طي كل تجديد شيء من الإحياء! وإن جيلا نسي ماضيه لهو جيل شائخ لا مستقبل له. ليس إحياء التراث غيابا في الماضي أو اغترابا عن الحاضر وغفلة عن الآتي؛ فلا بناء بغير دعائم، ولا سموق بغير جذور، ليس إحياء التراث ترفا بل ضرورة، ولا سباتا بل هو الصحو واليقظة والإفاقة، إنه ضرورة لكل أمة تريد أن تسترد وعيها وتستعيد توجهها وتتعرف خط سيرها. إن حاضرا بلا ماض هو ذهول وشرود وفقدان ذاكرة، وضرب في التيه بعد ضياع الخرائط واشتباه الطرق والتباس الأمام والوراء.
ألفاظ مهجورة: من التجديد أن نبعث بعض الألفاظ المهجورة التي هي أكثر إسعافا لنا من المشهور وأكثر حداثة من الحديث! ألست ترى أن نصف ألفاظ العلم هي جذور وضمائم لاتينية ويونانية كانت ميتة فأحيتنا؟! كذلك الأمر في العربية:
هناك ألفاظ نهجرها لأننا لم نجدها ذات نفع لنا أو غناء في حياتنا الجديدة.
وهناك ألفاظ تهجرنا لأنها لم تجدنا أكفاء لها، ولما كانت تذخره لنا من ذهب المعنى.
هناك ألفاظ تموت عنا.
وهناك ألفاظ نموت عنها. (3) خطورة القضية اللغوية
تولد كل الأجنة عارية إلا جنين الفكر فيولد متلبسا باللغة.
تعست فكرة رانت على البشر دهورا تقول إن اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر ونقله إلى الآخرين، تعرض له من خارج وهو تام مكتمل كأنها غلاف الهدية أو كساء البدن أو وعاء السائل.
إنما شأن اللغة أبلغ من ذلك خطرا وأبعد نفوذا وأشد هولا.
اللغة هي ذخائر المقولات وخزائن المفاهيم، بحيث يستحيل عليك أن تفكر تفكيرا مركبا ثريا بلغة ساذجة فقيرة.
اللغة هي «دالة الفكر» ونماذج الرؤية، بحيث لا تملك أن ترى من العالم إلا بقدر ما تسمح لك لغتك أن ترى.
اللغة هي حاملة العالم، وأطلس الوجود، بحيث لا بجانبك الصواب إذا قلت إن حجم وجودك هو حجم لغتك.
هكذا يتبين لنا مبلغ السفه الذي نأتيه إذا نحن تخلينا عن هذه اللغة الجميلة الجليلة بعد كل الذي بلغته من الثراء والارتقاء.
التعريب شرط الحداثة والتغريب حياة بالانتساب.
من الحذق حين نثاقف العالم الغربي المتحضر أن نأخذ عنهم، ونهضم زادهم، ونتمثله تماما، ونحيله، بحكم التمثل ذاته، إلى كياننا وبنيتنا، لا أن نمنحهم أنفسنا ونتقمصهم تقمصا رخيصا، ونضحي بحقيقتنا دون مقابل.
آية الهضم التام أن يتحول المهضوم إلى الهاضم، فأنت، كما يقول بياجيه، حين تهضم الملفوف وتتمثله تحوله إلى أنسجتك وبنائك العضوي ولا تتحول أنت إلى ملفوف! كذلك الحال في هضم الفكر الغربي وتمثله، فمن شأن الفكر الذي تستوعبه بالفعل أن يتعضى فيك ويذوب في كيانك ويصطبغ بصبغتك؛ فلا نكاد نتبين من ملامحه الأولى شيئا إلا من طريق الظن والاستنباط، فهو يغيرك ويطورك فيما يتشتت داخلك ويتبدد فيك.
ذلك هو الفهم الحق والتمثل الأصيل.
وحالما تبينا في خطابك فكر غيرك كما هو، وتجلت لنا ملامحه بتمامها، فهو الدليل على أنك لم تقدر على هذا الفكر ولم تفهمه، وإن كنت تستظهره وتردده، إنه الفكر الذي لم تستوعبه بل استوعبك، ولم تهضمه بل هضمك.
ذلك هو التقليد السطحي والتقمص الرخيص.
لكي نقول: إننا استوعبنا الحداثة حقا يتعين أن نرى الحداثة استعربت وتحدثت العربية، ولكي نقول: إننا فهمنا العلم حقا؛ ينبغي أن يكون لدينا ما يثبت أن العلم نفسه فهم العربية، أي تعرب وتوطن في معجمنا وطاب له المقام! وما دون ذلك هو استعمال من الظاهر، هو تمسح وتقول وتخلف مقلوب.
إن لدينا منتسبين كبارا يعيشون بيننا في الشرق كمواطنين بالانتساب في العالم الغربي، يتلبسون بالنموذج الأوروبي الأمريكي، ويتشدقون في مجالسهم بالإنجليزية، ويوقعون بها أعمالهم ورسائلهم، إن أسلوبهم يثير الشفقة، وإنجليزيتهم، بحكم الانتساب ذاته، ركيكة عجماء، يظن هؤلاء أنهم متحضرون مجددون، وهم غارقون إلى الأذقان في تقليد آخر، لقد نسوا لغتهم التي لن يبدعوا إلا بها، واستعاروا لغة غيرهم التي لن يعرفوها إلا بالنقل والوساطة، ولو عرفوا من اللفظ معناه المباشر فإنهم في عمه عن شحناته وظلاله، وإيحاءاته وتداعياته، وتجلياته الثانية وأقانيمه الأخرى، ومنشئه في التاريخ ومسيره في الزمن، وهم بذلك يخسرون البعد الثالث للغة، ويتبنون لغة مسطحة مصمتة لن يفكروا بها إلا تفكيرا مسطحا مصمتا.
إن حياة الانتساب هذه تضحية بالحياة وتنازل عن الإرث ونفي للذات، ووقر وفقر وخزي، لقد باع أصحابنا أنفسهم مجانا وصاروا مسوخا لا تروق أعين الشرق أو الغرب، واختاروا أن يكونوا أذيالا لا عمل لها إلا التبعية، ولا مكان إلا المؤخرة. (4) في ظل الفصحى
اللغة «جين» آخر.
فكما أن الجينات شفرات أو مخططات يسير وفقا لها الكيان البشري جسميا ونفسيا، فإن اللغة شفرة ومنظور ونماذج رؤية تشكل وعينا وإدراكنا الخاص للوجود، وتحكم وجهتنا في الفكر والفعل، وطريقتنا في تصور ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
بهذا المعنى تكون العروبة قرابة رؤية بقدر ما هي قرابة دم، وتكون الدعوة إلى الفصحى دعوة إلى الوحدة، وإلى لم الشمل، وإلى اجتماع الإخوة بعد افتراق وشتات وغربة.
عادل مصطفى
25 / 2 / 2010
الفصل الأول
جمع المادة اللغوية
من يتأمل علوم العربية، من نحو وصرف وأصوات ومعاجم وعروض ... لا يسعه إلا الإجلال لمن ابتكروا هذه العلوم من العدم، وشيدوا هذه الصروح من الصفر، بعزم صادق وإخلاص نادر، وحذق منقطع النظير.
1
على أن غاية الإجلال لهذا السلف العظيم أن نقتدي به في الخصلة التي جعلت منه سلفا عظيما؛ في اجتهاده وابتكاره؛ فنجتهد نحن أيضا ونبتكر، وننخل ونغربل، ونراجع ونصوب. (1) الفصحى (المشتركة) واللهجات
يبدأ المشهد اللغوي بجزيرة العرب، نجد والحجاز ومنطقة الفرات، في القرن الخامس والسادس الميلاديين، وقد انتظمتها لهجات محلية متعددة، تتحدث بها قبائل متفرقة أدى بها اتساع الصحراء إلى عزلة نسبية، ولما كانت تلك القبائل على عزلتها تتبادل التجارة وتتلاقى في الحج والأسواق والندوات، كان لا بد من وجود لغة «مشتركة» يتفاهم بها الناس جميعا على اختلاف قبائلهم، كانت مكة، أم القرى، هي مهوى الأفئدة وملتقى الحج والتجارة وأسواق الخطابة والشعر، وقد كفل لها نشاطها التجاري وثراؤها الاقتصادي ارتقاء حضاريا وسلطانا سياسيا؛ الأمر الذي جعل اللهجة القرشية هي اللهجة الغالبة في تكوين اللغة المشتركة، وإن لم تتطابق معها تمام التطابق، هذه الفصحى المشتركة هي التي يتخذها الخطباء والشعراء، وهي التي تكتب بها المعاهدات وتتخذ في مواقف الوفادة والتشاور والحروب والعبادة، وقد نزل بها القرآن الكريم ليفهمه العرب جميعا على اختلاف لهجاتهم المحلية، وبذلك سادت المشتركة واستتبت وازدهرت وارتقت ارتقاء عظيما.
نحن إذن بإزاء مستويين لغويين متباينين: المستوى اللهجي من جهة، ومستوى الفصحى أو المشتركة من جهة أخرى، ومن العبث وإهدار الطاقة أن نسأل الآن أيهما السابق على الآخر: أهي لهجات تبلورت منها المشتركة (مرتكزة كثيرا على لهجة قريش)؟ أم هي المشتركة تفرعت عنها اللهجات شأنها شأن غيرها من اللغات الكبرى كاللاتينية والجرمانية؟ ذلك أمر مختلط ملتبس غامض يثير فيضا من الحدوس والتخمينات والفروض، ولا يؤدي إلى نتائج حاسمة صلبة.
ثمة موقفان متمايزان أمام الباحث في أمر العلاقة بين المشتركة واللهجات:
الموقف الأول:
أن يعتبر كلا منهما مستوى خاصا ولا يخلط بينهما بالرغم من إدراكه للتأثير المتبادل بينهما؛ فكل لهجة مستوى خاص ينبغي ألا يختلط بغيره من اللهجات ولا بالمشتركة، كل لهجة مستوى متفرد في دلالة الألفاظ وفي الأصوات والصيغ والتراكيب.
والموقف الثاني:
أن يعتبر المشتركة هي اللهجات نفسها، فتكون المشتركة (الفصحى) هي المجموع الجبري ل «لغة قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين.»
الموقف الأول هو الموقف العلمي الصحيح (ما ينبغي أن يكون)، ولقد راود بعض النحاة على نحو عارض لا يشكل اتجاها أو منهجا، والموقف الثاني هو الموقف الخاطئ من الجهة العلمية، وهو الموقف الذي اتخذه النحاة مع الأسف (ما هو كائن)، فأدى إلى اضطراب الدراسة وتعقد النحو، فتجد في المسألة الواحدة وجوها، وتجد لكل وجه توجيها، وتجد لهذه الوجوه والتوجيهات سندها في اللغات واللهجات.
لقد اتخذت اللهجات تكأة في النحو العربي لكثير من التفريعات التي تتدارك على القاعدة العامة أو تنقضها تماما، مما زاد من تعقيد النحو وصعوباته. قيل لأبي عمرو بن العلاء كيف تصنع فيما خالفتك به العرب وهم حجة؟ فقال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. وتفسير هذا المسلك العلمي هو فهم علمائنا للصلة بين الفصحى واللهجات، واعتبارهم الفصحى هي نفس اللغات المتعددة مما أطلقوا عليه أنه «كلام العرب»، ولا تمكن دراسة هذا الحشد الكبير المختلط إلا بهذه الطريقة، وهكذا جاء النحو العربي وفيه قواعد عامة ذات احتمالات ولغات تتدارك عليها أو تنقضها، مثال ذلك أن العرب بعامة تقف على المنصوب المنون بإبدال التنوين ألفا، ولكن أبا الحسن قطرب وأبا عبيد والكوفيين ذكروا أن من العرب من يقف على المنصوب المنون بالسكون، فيقول «رأيت زيد»، وهي لهجة بعض فروع ربيعة. إن الفصحى المشتركة لم تحمل هذا ليشيع ويوفق عليه عرفها، ولكن النحاة حملوه ودرسوه من اللهجة، ووضعوا له قاعدة تمثل ظاهرة ضمها النحو العربي، ذاك الذي يفترض فيه أنه للفصحى أساسا.
2 (2) سمات اللغة المشتركة
تتميز أي لغة مشتركة بصفات معينة؛ الأولى: أنها فوق مستوى العامة، بمعنى أن العامة لا يستعملونها في خطابهم، وإذا سمعوا متكلما بها رفعوه فوق مستوى ثقافتهم، فاللغة المشتركة العربية التي نظم بها الشعراء وخطب بها الخطباء، لم تكن في متناول العرب جميعا، بل كانت في مستوى أرقى وأسمى مما يمكن أن يتناوله العامة، وحتى الإعراب الذي يعد أهم مميزات الفصحى لم تكن كل العرب تقدر عليه، روي عن ابن أبي إسحق: «العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق فيه.» وعن يونس: «العرب تشام الإعراب ولا تحققه.» وعن الخشخاش بن الحباب: «العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد.»
3
والسمة الثانية للغة المشتركة: أنها لا تنتمي صفاتها أو عناصرها إلى بيئة محلية بعينها، بمعنى أن الخطيب باللغة المشتركة لا يكاد السامع يكشف عن بيئته المحلية؛ فاللغة المشتركة لغة منسجمة موحدة لا يمكن أن تنتمي إلى بيئة خاصة من بيئات الجزيرة العربية، فلا يحق لنا أن نقول مثلا: إن اللغة المشتركة هي لغة قريش أو تميم أو غيرها من قبائل العرب، بل هي مزيج من كل هذا، تكونت له شخصيته وكيانه وأصبح مستقلا عن اللهجات، وإن التمس هذا المزيج في نشأته بعض صفات هذه اللهجات بعد هضمه، من ذلك أن المشتركة العربية تحقق الهمز، بينما لهجة قريش نفسها تسهيل الهمز، ومن ذلك «أن شعر الشعراء من ربيعة لا يعرف ما اشتهر عن لهجتها من الكشكشة، وشعر الشعراء من تميم لا يعرف العنعنة»،
4
وفي ديوان الهذليين لا نكاد نجد ما عرف عن لهجة هذيل من فحفحة واستنطاء ونحو ذلك.
5
والصفة الثالثة للغة المشتركة: أنها ليست لغة سليقة، ومعنى السليقة أن تتكلم لغة من اللغات بغير شعور بما لها من خصائص، وباستحالة أن تخطئ فيها دون أن تدرك خطأك وتتداركه على الفور. وأكبر دليل على أن الفصحى لم تكن لغة سليقة لكل العرب، تلك الروايات الكثيرة التي تشير إلى وقوع اللحن من العرب، قبل الإسلام وبعده. إن صاحب اللغة الذي يتكلمها بالسليقة، كما يقول د. إبراهيم أنيس، يستحيل عليه الخطأ في ظواهر تلك اللغة دون أن يدرك أنه أخطأ؛ فالإنجليزي لا يخطئ في كلامه إلا إذا قسنا كلامه بمستوى لغوي آخر فوق كلام الناس، ونحن في كلامنا بالعامية لا نخطئ، فإذا زل اللسان في لحظة ارتباك أو تلعثم رجعنا عن هذا الزلل في لمح البصر، وأدركنا أننا وقعنا فيه، ولا يتصور وقوع الخطأ من صاحب السليقة اللغوية في أي ظاهرة من ظواهر لغته: في تركيب أصواتها أو في ترتيب الكلمات بجملها، أو في صيغها، أو في طريقة النفي والإثبات، أو في طريقة الاستفهام والتعجب ونحو ذلك.
6 (3) تشييء السليقة اللغوية
حين يتعلم الطفل لغة أهله بالمحاكاة والمران، والمحاولة والخطأ، فإنه يحتشد ويعمل ذهنه فيما ينطق له ويركز فيما يقول، وإذا أخطأ فقد لا يعي أنه أخطأ حتى يظهره الكبار على خطئه، حتى إذا اكتمل تعلمه وتمت له السيطرة على لغته فإنه يتحدث بها من غير حاجة إلى احتشاد وتركيز وتيقظ، ودون وعي بخصائصها وتوجس من أخطائها، هنالك يقال إنه يتكلم ب «السليقة»، السليقة إذن هي تمكن المرء من لغة ما بحيث يتكلم بها عفويا وتلقائيا ودون التفات منه إلى قواعدها وضوابطها. يتحدث الطفل لغته الأم بالسليقة، وبوسع المرء أن يتمكن من لغة أجنبية ويتكلمها بالسليقة إذا أولاها اهتماما متصلا وثابر على تعلمها ولم ينقطع عن التدريب والممارسة.
يقول ابن خلدون: «اعلم أن اللغات كلها ملكات بالصناعة؛ إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها، وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب، فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال؛ بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصودة للسامع، وهذا هو معنى البلاغة، والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة، ثم يتكرر فتكون حالا، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال، وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع، أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم.»
7
السليقة إذن ليست «شيئا»
Res
أو «كيانا»
Entity
سحريا يرتبط بالبداوة أو بالجنس العربي ويمتنع على غير العربي مهما أخلص السعي وواصل التعلم، ولكن قدماء اللغويين العرب كان لهم رأي آخر: فقد سيطرت عليهم فكرة أن الكلام بالعربية لا يستقيم لغير العربي، وكأن في الأمر شيئا سحريا هو سر السليقة العربية؛ شيئا يجري في دماء العرب ويختلط برمالهم ودمنهم، يورثه الآباء أبناءهم وترضعه الأمهات أطفالهن في لبانهن، إنه «تشييء»
Reification
أو «أقنمة»
Hypostatization
السليقة إن جاز التعبير، وهو الذي جعل نحاة الكوفة يأخذون اللغة عن أي عربي يصادفونه، ويأخذون حتى عن الأطفال والمجانين (والنساء) كما ذكر السيوطي في «المزهر»، وهم بذلك قد خلطوا بين مستويات الأداء المختلفة حيث كان ينبغي الفصل بينها. «على أن النحاة قصروا هذه السليقة على قوم معينين وعلى زمن معين وبيئة معينة، فنشأ في مخيلاتهم ما يمكن أن يعبر عنه ب «ديكتاتورية الزمان والمكان» مغالين في الحرص على العربية والاعتزاز بها.»
8 (4) ديكتاتورية الزمان
جمع قدماء النحاة المادة اللغوية التي تنتمي إلى فترة تمتد من منتصف القرن الثاني قبل الهجرة وتنتهي في منتصف القرن الثاني الهجري أو نهايته، والحق أنه من الصعب، استنادا إلى عدد من الشواهد، أن نقبل رأي من ذهب إلى أن حركة العمل اللغوي الميداني قد توقفت في القرن الثاني الهجري، وبدأت ملاحظة التغير الذي يعتري الاستخدام اللغوي بعد القرن الثاني، إذ نرى مثلا أن الأزهري (ت. 370ه) في القرن الرابع قد اعتمد في معظم المادة التي وردت في معجمه «تهذيب اللغة » على النقل المباشر، إذ إنه جمعها من البدو الذين عاش بينهم فترة من الزمن، ونميل إلى ما ورد لدى المصادر العربية من أن الاستشهاد باللغة (العمل اللغوي الميداني) قد انتهى في القرن الرابع،
9
وقد اتخذ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قرارا مؤداه «أن العرب الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثاني وأهل البدو من جزيرة العرب إلى نهاية القرن الرابع»،
10
باعتبار أن لغة العرب بقيت نقية خالصة في البوادي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، وفي الحواضر حتى نهاية القرن الثاني الهجري، قبل أن يعتريها الفساد ويتسرب إليها اللحن.
ولا يخفى على القارئ، فضلا عن ديكتاتورية الزمان، أن هذا خلط آخر: خلط عصور، فقد امتدت الفترة التاريخية للغة المجموعة حوالي خمسة قرون، وتعامل النحاة مع هذه المادة اللغوية على أنها تنتمي إلى نظام لغوي واحد، وتعذر عليهم أن يدركوا أن اللغة ظاهرة اجتماعية تتغير عبر الزمن، وأن من الخطأ أن تأخذ مادة لغوية مستقاة من القرن الثاني قبل الهجرة مأخذ مادة من القرن الرابع الهجري وتدرجها في نظام لغوي واحد (أو «حالة» لغوية واحدة بتعبير فرديناند دي سوسير). لقد فطن النحاة إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل خارجية فحددوا فترة الاستشهاد، غير أنهم فيما يبدو لم يفطنوا إلى ظاهرة التغير اللغوي الناجم عن عوامل داخلية في اللغة ذاتها، وآية ذلك أنهم أخذوا شواهدهم من فترة زمنية هي نفسها كافية لحدوث تغير كبير.
لم يشأ العرب، كما يقول د. كمال بشر، «أن يأخذوا عامل الزمن في الحسبان؛ فلم يعترفوا على ما يبدو بأن اللغة ظاهرة اجتماعية قابلة للتطور على مدى الأيام، وقد جاءت خطة دراستهم العامة على وفق هذا التصور غير الدقيق.»
11 (5) ديكتاتورية المكان
في منتصف القرن الثاني الهجري وما تلاه ازدهرت دراسة اللغة، ودأب العلماء والدارسون على الترحل إلى الأعراب في مواطنهم للأخذ عنهم، وقام الأعراب في المقابل بالوفادة على الحضر لتقديم المادة اللغوية للدارسين والعلماء.
لم يأخذ النحاة بلهجات القبائل كيفما اتفق، بل تواصوا على الأخذ من قبائل بعينها، هي «القبائل الموثقة» التي يصح الأخذ عنها، وعلى ترك قبائل أخرى؛ لفساد لغتهم. وللفارابي (ت 350ه) نص مشهور في ذلك ورد مختصرا جدا في كتاب «الحروف»، ومفصلا في «الاقتراح» و«المزهر» للسيوطي، يقول الفارابي: «والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرءون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلا، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.»
تتصف القبائل الموثقة بأنهم يعيشون في وسط الجزيرة العربية بحيث تحققت لهم العزلة، والعزلة مظنة النقاوة والخلوص، وأنهم يعيشون في البوادي لا الحضر، والبوادي مظنة العزلة ويندر أن يجتازها الأغراب، أما القبائل غير الموثقة فتقع في أطراف الجزيرة فيكثر اتصالها بغير العرب، أو تقع في الحضر فيكثر تعرضها لوفادات الأجانب ومخالطة الأعاجم، وبصفة عامة تكون هذه القبائل ما يشبه السور الخارجي للقبائل الموثقة. يقول ابن جني في «باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر»:
12 «علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلاط والفساد والخطل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذلك أيضا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛
13
لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا، وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه»،
14
ويقول السيوطي في «الاقتراح»: «ومما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكوامخ.»
يختلف البصريون عن الكوفيين في منهج البحث والمعيار الذي حددوه للمصدر اللغوي الذي يؤخذ عنه؛ لذا اختار البصريون قبائل بعينها للأخذ عنها، وتركوا قبائل أخرى باعتبارها فاسدة اللغة، وأسموا لغاتها باللغات الشاذة التي لا يؤخذ بها، على حين كان الكوفيون يوثقون كل القبائل على حد سواء، ويحتجون بكل ما يؤخذ عنها، ويؤسسون عليه نحوهم وقواعدهم.
يرى د. رمضان عبد التواب أن «الفرق بين اللغة المشتركة واللهجات لم يكن واضحا في أذهان اللغويين في هذه الحقبة من التاريخ وضوحا تاما؛ ولذلك سعى البصريون للأخذ عن قبائل معينة، وهدفهم الوصول إلى تقعيد اللغة الأدبية المشتركة، غير أنهم لم يفرقوا فيما أخذوه عن هذه القبائل بين تلك اللغة المشتركة ولهجات الخطاب، ومن هنا جاء الخلط والاضطراب، ورأيناهم يؤولون كل مثال شذ عن قواعدهم. ولم يكن الكوفيون أقل منهم حظا في الاضطراب والخلط؛ لأنهم أخذوا اللغة عن كل العرب، ولم يفرقوا كذلك بين اللغة المشتركة ولهجات الخطاب.»
15
ويقول في حديثه عن المعاجم العربية: «تخلط هذه المعاجم كثيرا بين مستوى العربية الفصحى واللهجات القديمة، في اللفظ والدلالة، بلا إشارة إلى ذلك في الكثير من الأحيان، مثل: السراط والصراط والزراط، بمعنى الطريق مثلا، وكذكرها لكلمة «العجوز» مثلا أكثر من سبعين معنى، من بينها: الإبرة، والجوع، والسمن، والقبلة، واليد اليمنى، فمن المحال أن تكون هذه المعاني جميعا مستعملة في الفصحى.»
16
يقول ابن جني في الخصائص: «إذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان واحد فإن أحرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها، من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله، وذلك كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد، نحو قولهم: هي رغوة اللبن، ورغوته، ورغوته، ورغاوته، ورغاوته، ورغايته ... وكقولهم: جئته من عل، ومن عل، ومن علا، ومن علو، ومن علو، ومن علو، ومن علو، ومن عال، ومن معال، فإن أرادوا النكرة قالوا: من عل، وههنا من هذا ونحوه أشباه له كثيرة، وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات، اجتمعت لإنسان واحد، من هنا ومن هنا، ورويت عن الأصمعي قال: اختلف رجلان في الصقر؛ فقال أحدهما الصقر (بالصاد)، وقال الآخر السقر (بالسين)، فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه، فقال: لا أقول كما قلتما، إنما هو الزقر.»
17
لقد وقع النحاة في خطأ منهجي كبير إذ خلطوا بين اللهجات ولم يميزوا بين هذه اللهجات؛ فاضطرهم ذلك في كثير من الحالات إلى التأويل والتخريج الذي أظهر اللغة بمظهر الاضطراب، وخلطوا بين مستوى المشتركة وبين اللهجات معتبرين أن المشتركة تشمل لغات هذه القبائل المتعددة؛ فأدى ذلك إلى بناء قواعد المشتركة (الفصحى) على ظواهر لهجية، وإلى اختلاف الآراء حول المسائل اعتمادا على ما ورد من بعض القبائل، وإلى تضخم المعجمات القديمة واشتمالها على الحوشي المتروك، وإلى ظاهرة الترادف المفرط، والاشتراك، والأضداد، وكثرة الشذوذ، واضطراب أوزان الفعل الثلاثي وصيغه المختلفة. (6) مسألة الثقة بالرواية
من أوجه النقد الشهيرة التي استهدفت عملية جمع اللغة عدم توافر الثقة بالرواة ثقة تشابه ما توافر لرواية الحديث، فقد قيل إن بعض اللغويين كان غير موثوق به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان، أو عن مجانين، أو كان راوية من أهل الأهواء، وكان بعض الجامعين لا يتحرى الصدق بل يتيح لنفسه أن يضع، وقد ورد مثل هذا النقد على أقلام المحدثين والأقدمين معا. في مجلة مجمع اللغة العربية ج8 ص209 يقول د. أحمد أمين إن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه، بل يدون كل ما يسمع سواء سمع من ثقة أو غير ثقة. وفي كتاب «اللغة بين المعيارية والوصفية» يقول د. تمام حسان: «وليس ببعيد أن يكون الأعراب الضاربون في الصحارى التي طرقها الرواة قد فطنوا إلى ضالة هؤلاء الناس، وإلى أنهم يجرون وراء غريب اللغة أو غريب التراكيب، ويحسنون إلى من ينيلهم هذا المطلب، وليس ببعيد كذلك أن بعض الأعراب قد اتخذ من التجارة بالغريب وسيلة للرزق ليس من صالحه أن تفنى، فإذا ما نضب معين ما عنده من اللغة عمد إلى الاختراع وبالغ في ذلك، ولا سيما حين فطن إلى سرور الرواة بما يقول واحتفالهم به ... على أن الرواة واللغويين أنفسهم لم يكونوا في بعض الأحيان فوق مستوى الشبهات، فقد كان الرواة يأخذون من كلام الأعراب ما وافق هدفهم، ويتركون منه ما لا يعجب به الناس في الحاضرة، ولا ينفع اللغويين، أو لا يحفل به اللغويون، لبعده عما قعدوه من قواعد.»
18
ثم يشير إلى ظاهرة اختلاق الروايات والنصوص التي تسد في التقعيد فراغا صودف وحاجة عرضت. جاء في العقد الفريد عن الأصمعي: «ورأيت أعرابيا ومعه بني له صغير ممسك بفم قربة وقد خاف أن تغلبه القربة، فصاح يا أبت! أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها.» يعلق د. تمام على هذا الخبر قائلا: «ولست أشك في أن هذا الخبر مختلق، بل إن هذا النص الذي نطق به الغلام كما يرويه الأصمعي أو من ألصق به هذا الخبر ليبدو كأنه منتزع من صفحة من صفحات كتب القواعد تتكلم عن إعراب الأسماء الخمسة، فالمسألة إذن ليست مسألة موقف اجتماعي يسجل كما هو وتأتي النصوص فيه جزءا من هذا الموقف ، لا بل إن النص والخبر هنا يخلقان الموقف المصطنع الذي يدور الكلام فيه حول إعراب كلمة بعينها، ولا يبدو لنا نصا لغويا ذا عنصر اجتماعي واضح.»
19
نحن هنا، كما في كثير من المواضع في تراثنا، أمام قلب لمنطق الأمور و«وضع للعربة أمام الحصان»
Hysteron proteron
أمام قاعدة تلتمس لها الشواهد، لا شواهد تستخلص منها القاعدة، أمام نص «احتيالي»
Ad hoe ، «قد» على مقاس المشكلة التي «قيض» لحلها؛ ذاك موقف حرج يبتلي أخلص العلماء، ويزين له أن يرشو ضميره ويختان نفسه. (7) ثقوب في المنهج
في بحث للدكتور محمد كامل حسين في مجلة مجمع اللغة العربية بعنوان «أخطاء اللغويين»،
20
يقول إنه «لا يستسيغ أن نستشهد بكلام أمة (عبدة) بلهاء؛ لأنها لم تخالط الأعاجم، وأن نقبل كل ما يقوله الأعرابي مهما يكن حظه من الذكاء، وألا نثق بما يقوله الجاحظ بذكائه وعلمه، وهناك ظاهرة أخرى أدى إليها تأخر التدوين في تاريخ اللغة العربية، والرغبة الملحة في جمع اللغة من أفواه الناس قبل أن يفسدهم الاختلاط بالأعاجم، ذلك أن اللغويين جمعوا كل ما سمعوه من العرب على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم، وسموا ذلك كله اللغة العربية، وهي مجموعة لغات تتفق في أمور كثيرة وتختلف في أمور كثيرة، وهذا هو التعليل الوحيد لوجود بابين للفعل الواحد. ولا أظن أن الرجل من تميم كان ينطق بالفعل يوما من باب «نصر» ويوما من باب «فتح»، وإنما هو اختلاف اللهجات، كما يقول أهل القاهرة «سمع» الكلام بكسرتين وما يقول أهل الشمال «سمع» الكلام بفتحتين، ولا أدري داعيا للتمسك بالبابين للفعل الواحد إلا أن يكون هناك اختلاف في المعنى كما نراه في فعل «حسب» و«كبر»، ولعل في هذا أيضا تعليل المصادر المتعددة للفعل الواحد، ولعل من واجباتنا أن نحدد لكل مصدر معنى يختلف عن الآخر، فيكون «الإياب» من السفر و«الأوب» من الخطأ والذنب.»
ويمضي د. كامل حسين في تبيان جرائر الخلط في اللهجات فيقول: «وهذا أيضا تعليل أسماء الأضداد، وليس معقولا أن القبيلة الواحدة كانت تسمي الأسود والأبيض جونا، وإنما هو من اختلاف لغات القبائل ، ليس علينا أن نتابع اللغويين فيما فعلوه من جمع اللهجات كلها، ومن إغفالهم النص على أن لهجة بعينها كانت لقبيلة دون أخرى، وهم لم يذكروا شيئا عن ذلك إلا نادرا.»
ثم يشير إلى خطأ منهجي يصل إلى قلب الأمور: «على أن هناك ظاهرة عجيبة حدثت إبان جمع اللغة: وذلك أن اللغويين بدءوا بجمع أكبر عدد من الألفاظ التي سمعوها عن العرب، وتنافسوا في كثرة ما حفظوه منها، ثم أخذوا بعد ذلك يبحثون عن مدلولات هذه الألفاظ، جمعوا الأسماء أولا ثم بحثوا عن مسمياتها، على حين أن الأمر الطبيعي هو أن يعرف الناس الأشياء ثم يبحثوا عن كلمات تدل عليها! ورأى اللغويون أن لديهم عددا كبيرا من الألفاظ للشيء الواحد، ولو عنوا ببحث مصادرها لتبين لهم أن هذا جاء من اختلاف اللغة عند القبائل المختلفة، ولكنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأخذوا يخصصون معاني مختلفة للكلمات التي جمعوها، ولست أشك أن هذا التخصيص كان من عمل اللغويين وحدهم، وكان لا بد من مثل هذا التخصيص، فقد جمعوا للبن مثلا نيفا ومائة وستين كلمة، فوضعوا لكل منها معنى خاصا بها، ومن غير المعقول أن يكون كل عربي في البادية يعرف مائة وستين حالة للبن، وأنه وضع لكل حالة كلمة.»
يهون د. أمين علي السيد، العميد السابق لكلية دار العلوم وعضو المجمع اللغوي، من مسألة اختلاف اللهجات العربية ومن جرائرها المحتملة: «واختلاف اللهجات أصبح بعد دراستها أمرا مشهورا يعرفه كثير من أهل العلم، ولم يعد (لا يتعدى) هذا الاختلاف مسائل محصورة لا تكاد تذكر بجانب ما أجمع عليه العرب، ولا يجوز لنا ترجيح لهجة على لهجة أخرى، وإنما يجوز لنا أن نرجح الأكثر شيوعا؛ لأن لهجات القبائل العربية على اختلافها صحيحة، وكل واحدة منها يصح أن تكون إماما لنا نقيس عليه.»
21
يبرر الأستاذ حفني ناصف منهج النحاة فيقول: «ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها بل جمعوا الألفاظ التي يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها وجعلوها لغة واحدة مقابل اللغة الأعجمية، ولا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها، فلفظ «المدية» لغة دوس ولفظ «السكين» لغة قريش، فنقل الأئمة اللفظين وأباحوا لكل إنسان أن يتكلم بأيهما شاء ولو لم يوجد في العرب من تكلم بهما معا، ومن هنا جاء الترادف في اللغة والاشتراك اللفظي، ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لتكرر العمل وطال الزمن. ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات فما كان منها كثير الدوران على ألسنة العرب عدوه فصيحا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبا وحشيا، يعد استعماله مخلا بالفصاحة ولو كان معروفا عند المخاطبين، واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودا واستثناءات حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطا بقوانين تحتذى عند القياس، وما شذ عن ذلك جعلوه سماعيا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد.»
22
سجل د. البدراوي زهران اعتراضات على منهج النحاة كما يعرضه حفني ناصف ويبرره، فيقول: «يبرر الأستاذ حفني ناصف خلطهم هذا بأنهم لو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لتكرر العمل وطال الزمن، وأرى أنه لا ضرر من أن يطول الزمن ولكن المهم أن تأتي النتائج صحيحة وتكون الدراسة دقيقة فتتم خدمة لغة القرآن الكريم ولا يحدث مثل هذا الخلط ويكون للسيف خمسون اسما وللحجر سبعون وللناقة مائة؛ وتمثل ظاهرة الترادف أو المشترك مشكلة لغوية ضررها أكثر من نفعها. ثم ما الحكمة في أن يخلط المتكلم بين الخصائص اللغوية لقبائل العرب؟ هل في هذا نفع للغة؟ هل هو الدقة؟»
23
ثم ينتقل إلى كثرة الدوران على الألسنة كمعيار للفصيح فيقول: «إنه حكم غير علمي، فقد كان المفروض أن ما كان بلسان عربي أو بلغة قريش أو ورد في نصوص أدبية عالية أي الذي يمثل اللغة النموذجية هو الفصيح، أما أن يعرف الفصيح بكثرة دورانه على الألسنة فقد يكون لغة العامة، أو لغة قبائل غير قرشية.»
24
ويرى د . زهران أن الأخذ عن العربي دون المولد فيه مجافاة للمنهج العلمي، أما المنهج الأمثل فهو «أن تدرس اللغة دراسة مستويات، فليعد العربي مستوى من مستويات الدراسة، ويعد المولد مستويات الدراسة، فلو اتبع مثل هذا المنهج في الدراسة، ودرست كل لهجة دراسة مستقلة، ودرس كل مستوى من مستويات اللغة دراسة مستقلة؛ لكان ذلك معينا على فهم أساليب العربية وما فيها من أسرار، وكان ذلك أيضا وسيلة للتفريق بين شعراء، وأدباء كل بيئة، بالإضافة إلى هذا، فإن ذلك كان سيحدد طريقة الاستعمال؛ فمستعمل اللغة سوف يرتبط بمستوى معين من مستويات الأداء اللغوية؛ أما والحال هكذا فعلى حد تعبير حفني ناصف فأي لفظ نطقت به فأنت مصيب، وأي استعمال جريت عليه فلست بمخطئ ما دمت لم تخرج عن المنقول.»
25
وعن خلط اللهجات يقول د. زهران: «لا شك أن هذا الخلط في المستويات اللغوية وبين اللهجات المختلفة لا يقره العرف اللغوي، فضلا عن مجافاته لروح البحث العلمي، ولك أن تتصور شخصا يحدثك بعامية أهل مصر وبعامية المغرب والشام والعراق في آن واحد دون أن يلتزم خصائص مستقلة للهجة واحدة (من حيث النطق والمفردات والتراكيب ...) هل يمكنك متابعة حديثه وفهمه؟! إنه الخلط الذي لا تعترف به أية جماعة لغوية، ولا يقره أي منهج.»
26
ويرى د. زهران أن اللغويين «كان يجب عليهم بعد الفراغ من دراستهم لتلك المرحلة ألا يدوروا حول أنفسهم فيها، وإنما يدرسوا ويوصوا بمتابعة الدراسات المتعاقبة ويتتبعوا الظواهر المتغيرة في كل أوضاعها على مر العصور وفي مختلف البيئات، فلو أنهم رصدوا حركات التطور لأفادوا اللغة التي حاولوا المحافظة عليها، بالإضافة إلى أنهم كانوا ربما اهتدوا إلى معرفة قوانين التطور وإلى تسخيرها لمصلحة اللغة (غير واقفين في وجه سننها) ... وبذلك يكون علاجهم لها علاجا مبنيا على أسس علمية.»
27 (8) إنصاف وتفهم
أن تفهم شيئا لا يعني أن تقره أو تبرره، وأن تفهم شخصا لا يعني أن تسوغ عمله وتبتلع أخطاءه، بل أن تتمكن من أن تضع نفسك مكانه، وترى الأمور من زاويته، وتدرك العالم من منظوره، أن «تقايضه المواقع في المخيلة»
28
أو كما يقول الإنجليز «تضع قدمك في حذائه»، أن «تواجده»
Empathize
أي تتمثل وجداناته، وتنفذ إلى خبرته، وتجد ما يجد، «وعسير بلوغ هاتيك جدا» باستعارة شطر ابن الرومي.
لكي نفهم النحاة ونتفهم موقفهم لا بد لنا من أن نعي قضيتهم الملحة وسياقهم التاريخي، لقد عاشوا في زمن لا يسعف بتقنيات ولا بمنهج علمي متطور، وواجهوا، كما يقول الشيخ أمين الخولي، «أزمة اجتماعية لغوية هددت العربية؛ فسارعوا إلى جمعها كما أمكن وكما لم يكن يمكن سواه، بجهد مشكور قدره الناقدون قبل تقدمهم بهذا النقد المتبغدد.»
29
ويتلخص هذا النقد في بدائية عملهم في الجمع،
30
وفي اقتصارهم على قبائل «موثقة» من العرب الخلص، فكانت الحصيلة لغة ثرية في ألفاظ البداوة، فقيرة في ألفاظ الحضارة؛ مما اضطرهم، أو غيرهم، في العصر العباسي إلى التعريب
31 «بعد أن أعرضوا عنه؛ نزولا على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أخذوه عن القبائل بما عربوه عن الأمم المتمدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم وهي الأخذ عن العرب الخلص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم؛ فهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم.»
32
والآن هل يصمد هذا النقد حين نضع أنفسنا مكان هؤلاء النحاة ونحمل همومهم التي حملوها؟ لقد حاولوا الحفاظ على جوهر العربية ولبابها ليفهموا بها القرآن وينقذوا الأصل المهدد بالضياع، وليعربوا بعد ذلك ألفاظ الحضارة ما شاءوا، ويصبغوها بالصبغة العربية ما داموا قد استخلصوا هذه الصبغة نقية صحيحة. لقد كان همهم أن يتداركوا العربية في ألسنة الخلص قبل أن تغيرها الحضارة بترقيق وسعة. يقول الأستاذ أمين الخولي «إنهم كانوا يجمعونها ليجنبوها هذا الترقيق والتوسيع، ثم لا عليهم بعد ذلك أن يعربوا هم أو غيرهم فيقدموا للحياة حاجاتها، ويضيفوا إلى جانب الفصيح الأصيل، الذي حفظ جوهر العربية وروحها، ما عربوه هم فأكسبوه تلك الروح العربية، وأعطوه الصورة العربية، بعد أن عرفوا هذا كله واستشفوه مما جمعوه من خالص العربية في لسان خلص أهلها، وهم لم يضيعوا بهذا التعريب ولا بجمع الألفاظ الجديدة قاعدتهم الأولى التي رسموها لأنفسهم قط، بل لو أخذوا من أول الأمر عن القبائل التي اختلطت بالعجم لأنهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم؛ لو فعلوا ذلك لأضاعوا جوهر العربية وطابعها الذي يبغون الاحتفاظ به؛ لاعتبارات دينية واجتماعية؛ إذ سيكون ما جمعوه من هذا الخليط ليس هو العربية التي عرفها شعرهم المأثور وفنهم الموحي.»
33
هكذا يكون الفهم الحقيقي لتاريخ الأفكار، ف «التعريب» غير «العجمة»: التعريب يتناول اللفظة الأعجمية ويعلمها العربية! العربية التي أنقذت وحفظت وصينت بفضل الأخذ عن العرب الخلص، «وهل كانوا يعربون قبل أن يعرفوا طابع العربية الصميم الذي يريدون إضفاءه على الكلم الأجنبية؟! لقد كان القوم أيقاظا لما يفعلون، وقد بينوه وأوضحوه بمثل ما قال ابني جني في الخصائص عن ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر،
34
وزاده إيضاحا بقوله في موضع آخر من كتابه هذا: إن أهل الحضر يتظاهرون بينهم بأنهم تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى العربية الفصيحة، فهم يخلون بالفصيحة عن قصد وعمد، ومع مثل هذه الحال لا يعمد القاصدون للظفر بجوهر العربية إلى مواطن الحضارة الواسعة، الرقيقة العبارة، ليأخذوا عنها العربية!»
35
أما مشكلة الثقة بالرواية اللغوية فيرى الأستاذ أمين الخولي أن الأقدمين عرضوا لها على نحو أدق وأوضح مما فعل المحدثون، وأفاضوا فيها، وتولوا الإجابة عن كل دقائقها وتفريعاتها، فنجد السيوطي يعقد لها فصولا في «المزهر»: كفصل معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت، وفصل معرفة المصنوع، وفصل معرفة الضعيف والمنكر والمتروك من اللغات، وكلها في الجزء الأول، ثم فصل معرفة آداب اللغوي، وفصل من سئل من علماء العربية عن شيء فقال لا أدري، وفصل التحري في الرواية، والفرق بين مثله ونحوه، وفصل في كيفية العمل عند اختلاف الرواة، وفصول أخرى تتصل بالرواية اللغوية وضبطها، تقرؤها في الجزء الثاني من المزهر أيضا، «ولا معنى بعد ذلك لإيراد النقد مبتورا، والاحتجاج به إيرادا واستشكالا، مع تجاهل نفضه وإبطاله، والتغافل عما هناك من الدلالة المسهبة على التحري الممكن في الرواية.»
36 (9) خلاصة القصة
37
يرى الأستاذ أمين الخولي أن «هذه اللغة العربية لم نتلقها التلقي المباشر المشافه الممارس، كما يتلقى الوارث الرشيد تركة من سلفه، كان قد شاركه في التدبير لها والخبرة بها، بل تلقيناها تلقيا غير مباشر ولا مشافه ولا ممارس، كما يتلقى الوارث المحجور الصغير السن تركة من سلف له، ما شاركه قبل في أمرها ولا اكتسب شيئا من الخبرة بها قبل الانفراد؛ فأصبح وليس هو صاحب اليد عليها ولا الكلمة فيها، بل الأمر في ذلك ل «وصي» أقيم، وولي أنيب، فهو الذي يدبر أمرها: يؤجر ويبيع ويشتري ويرهن، ولن تخلص تلك التركة إلى وارثها إلا على حال لا عمل له فيها، ولا ذنب له في سوئها، ثم لا يد له بإصلاح أمرها في يسر وسهولة، إن حاول تخليصها مما قيدت به أو أدينت أو عطلت. (1)
الخرجة الكبرى: عاشت هذه اللغة في مهدها من الجزيرة العربية ما عاشت من الزمن وشملها جميع، في عزة من أهلها، حتى كانت الخرجة الكبرى والهجرة البعيدة المدى التي دفعهم إليها الإسلام لنشر دعوته وإقامة دولته، فخرجت اللغة مع آلاف أهلها الذين خرجوا إلى المشرق القديم وأقصى المغرب المعروف. (2)
التذويب: تفرقت اللغة مع الخارجين أوزاعا
38
ومزقا، فما كانوا وكانت إلا كالشعرة أو الشعرات البيضاء في الثور الأسود، وكأنما ذوبوا في هذه الدماء والألسنة والأجناس التي خالطوها؛ وجعلت هذه العربية تتفاعل مع ما خالطت من لغات، فلا تعطي فقط بل كانت تأخذ كذلك، هذا التذويب في المزج الذي صادفه أهلها في الواسع الفسيح من أقطار الأرض حري بأن يخفف من كثافة مادتها وقوة تماسكها، ويخلخل نسيجها منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها، فيدخل عليها الضعف والوهن في صوغها وتركيبها وبيانها. (3)
استشعار الخطر والتنادي للجمع: لم يغفل أهل العربية منذ أول الأمر عن هذا الأثر، بل هالهم أمره، فهبوا يحاولون أن يحفظوا على العربية تماسكها ويوقوها التخلخل والتحلل، ليظل لها من القوام ما تهدي به إلى مراد الدين وغرض القرآن ومقصد الشرع، جدوا ليخلصوا جوهر العربية ويصفوا معدنها، فالتمسوا ذلك عند العرب الخلص لا عند من ديف (خلط) بالعجمة؛ فخرجوا إلى البادية واستقدموا من أهلها إلى الحواضر ليلقنوهم ما عندهم وليتلقوا منهم بالممارسة المشافهة التي هي أسلم الطرق في كسب اللغة الحية، وجمعوا ما شاء الله لهم وشاء لهم النشاط الجاد أن يجمعوا، وأيقنوا في الوقت نفسه أن ما ضاع عليهم وأفلت من يدهم كثير بعد ما أمسكوا وحفظوا، ولكن لا حيلة. (4)
نفاد الرواية والتحول إلى المدارسة والتقعيد: ولما عزت الممارسة اللغوية والتلقي المباشر عن مشافهة فزعوا إلى الطريقة الثانية، وهي المدارسة وكسب اللغة بالتعلم، وهي طريقة تحتاج إلى القواعد والأصول والضوابط، فاستقرءوا من مجموعهم في اللغة ما استقرءوا، واقتبسوا مما حولهم ما اقتبسوا، حتى قرروا من أصولها ما قرروا، وكان علم العربية أو علومها المختلفة العدد على الزمن. (5)
التركة المثقلة: وفي هذه المقررات ومن تلك القواعد نتلمس مواطن الداء ومواضع الوهن، إذا ما فحصنا تلك العلوم واختبرنا تلك المقررات؛ لأنها هي سجلات الالتزامات والتصرفات التي أحدثها ذلك القيم (الوصي) خلال الدهر الطويل، فقيد التركة وأسلمها إلى الخالفين مثقلة بما تم، وتناقلوها جيلا بعد جيل على هذه الحال، ومع تلك القيود والارتباطات التي مهما تفترض فيها حسن النية وطلب المنفعة فإنك لن تضمن تحقق ذلك دائما؛ لأن المستوى العقلي والحياة الفكرية والخبرة العلمية لأولئك القوام المتصرفين لم تكن لتسبق زمنهم وتتقدم دهرهم، والإخلاص وحده لا يكفي في هذا ولا يغني، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان.»
39
الفصل الثاني
الخلط بين مستوى الشعر ومستوى النثر
الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه.
عبد الله بن عباس رضي الله عنه
الشعر لغة خاصة، الشعر حيود عن اللغة السوية بغية التأثير الاستطيقي (الجمالي الفني):
للشعر نظامه الموسيقي، هو الأوزان والقوافي التي استخلصها الخليل بن أحمد بدقة متناهية وعبقرية نادرة .
للشعر، غالبا، ألفاظ معينة يؤثرها على غيرها، ويأبى التنازل عنها إلى الألفاظ الشائعة المبذولة في مداولات الحياة العادية، ربما لكي يتخلص من مناخات الحياة العادية التماسا لمناخات الفن.
1
الشعر عاطفة وخيال وليس مجرد فكرة وخبر، يرمي الشعر إلى إيصال «تجربة»، لا مجرد «معرفة» عن التجربة.
يستخدم الشعر المجاز والصور، وينفر من التحديد والمباشرة، وينتحي إلى الإيحاءات وظلال المعاني (
Connotation ) ويشيح عن المعاني الحقيقية الإشارية المحددة (
Denotation ).
يميل الشعر إلى الإيجاز في اللفظ والإسهاب في المعنى! يريد أن يفجر أكبر «طاقة» من المعاني بأقل «كتلة» من الألفاظ.
الشعر يخلخل التراكيب، ويتعمد الإخلال بالترتيب المألوف للكلمات، والخلو قدر المستطاع من الأدوات والروابط وكل ما يطيل العبارة.
يقول أدونيس في «كلام البدايات»: «... فالحق أن اللغة الشعرية قيمة لا وسيلة: إنها ما لم تقع المواضعة عليه؛ فهي ليست لغة المحكم بل لغة المتشابه، وهي جوهريا لغة مجازية؛ وهي لذلك لغة التأويل من حيث إن للفظة في الشعر دلالات عديدة: فالشعر هو الخروج عن المواضعة ...»
2
لم تكن الفروق بين النثر والشعر خافية على علماء العرب، ومنهم من أفاض في الحديث عنها. يقول أبو حيان التوحيدي في فضل النثر: «سمعت أبا عابد الكرخي صالح بن علي يقول: النثر أصل الكلام، والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل، لكن لكل واحد منهما زائنات وشائنات، فأما زائنات النثر فهي ظاهرة؛ لأن جميع الناس في أول كلامهم يقصدون النثر، وإنما يتعرضون للنظم في الثاني بداعية عارضة، وسبب باعث، وأمر معين ... قال: ومن شرفه أيضا أن الوحدة فيه أظهر، وأثرها فيه أشهر، والتكلف منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب ... قال: وليس كذلك المنظوم؛ لأنه صناعي؛ ألا ترى أنه داخل في حصار العروض وأسر الوزن وقيد التأليف، مع توقي الكسر، واحتمال أصناف الزحاف؛ لأنه لما هبطت درجته عن تلك الربوة العالية دخلته الآفة من كل ناحية ... قال: ومن شرف النثر أيضا أنه مبرأ من التكلف، منزه عن الضرورة، غني عن الاعتذار والافتقار، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرير ... إلخ،
3
وقال عيسى الوزير : النثر من قبل العقل ، والنظم من قبل الحس، ولدخول النظم في طي الحس دخلت إليه الآفة، وغلبت عليه الضرورة، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر.»
4
وفي فضائل الشعر يقول التوحيدي: «من فضائل النظم أن صار صناعة برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة؛ وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية، فصار بذلة لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان.» وقال أيضا: «من فضائل النظم أنه لا يغنى ولا يحدى إلا به ... والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب وتفريج الكرب، وإثارة الهزة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة، وما لا يحصى عدده.»
5
ويقول ابن خلدون: «الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به، فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر. وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل. وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة؛ لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعرا، إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور.»
6
ويقترب ابن خلدون كثيرا من الفكرة الحديثة عن خصوصية لغة الشعر واختلافها الكيفي المقصود عن اللغة العادية، فيقول في الفصل نفسه من المقدمة: «ولا يكفي (في الشعر) ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها واستعمالها.»
7
وبالرغم من أن قدماء اللغويين عرفوا خصوصية نظام الشعر فإنهم تعاملوا مع النثر والشعر على قدم المساواة في تقعيدهم القواعد، وخلطوا بينهما خلطا أدى إلى «اضطراب مادة اللغة وصفاتها أمامهم، وانعكس تأثير ذلك على دراستهم؛ فالقواعد تتعارض، والآراء تتعدد، والاستدراكات تكثر وتتشعب، وتستند تلك القواعد والآراء والاستدراكات على نصوص من الشعر أو النثر أو لغات القبائل، وليس من حق أحد رفض شيء من ذلك ما دامت مستنداتها من مادة اللغة الموثقة.»
8
تلك استدراكات وتفريعات «لا يصح أن توصف بها لغة موحدة الخصائص والسمات، تستخدم بين الناس في التفاهم وتحقيق الصلات الاجتماعية. وهذا التشتت المجهد يعود في أحد أسبابه إلى ما نحن بصدده من الخلط بين المادة اللغوية التي تختلف كل منها في خصائصها عن الأخرى. والأساس الصحيح الذي كان ينبغي مراعاته هو العرف الاجتماعي واللغوي لكل من الشعر والنثر ولغات القبائل، ولو قد فعلوا ذلك لاستقامت لهم صحة النظرة وسلامة الخطة، ولخصوا كلا من لغة الشعر ولغات القبائل بدراسة مستقلة، ولكانت بعض الجهود الطيبة التي ضمتها موسوعات النحو كافية للوصول إلى نتائج أكثر اطرادا وفائدة، ولبرئت دراستهم من عيوب الخلط في المادة اللغوية واضطراب الآراء حولها.»
9 (1) الشفاهية والشواهد الشعرية
أن تصوغ الخبرة في شكل يمكن تذكره، ذلك مفتاح الثقافة الشفاهية.
تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرف الكتابة والتدوين) من أصوات، ومن أصوات فقط، ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير والتفكير؛ ذلك أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوة كبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعا إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفة على الإطلاق، لا مناص للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب مادته الذهنية داخل أنماط حافزة للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي، هنالك يتعين عليه أن يجبل مادته في أنماط ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة ، أو في ثيمات ثابتة ، أو في أمثال رنانة سهلة الترديد. تهيب الشفاهية بالمرء أن يعتصم بالأوزان والقوافي والأسجاع إن شاء أن يحتفظ بأي مادة ذهنية؛ إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
لا غرو كان الشعر ديوان العرب، فالوزن «معين للتذكر»
Mnemonic Device
لا يشق له غبار، ومن ثم كان الشعر أهم مادة ثقافية وعلمية في المجتمع العربي الشفاهي؛ فالشعر هو الباقي في ذاكرة الفرد والقبيلة بعد أن يزول كل نثر ويذهب أدراج الرياح.
يقول ابن قتيبة إن الذي لا يقيد مناقبه وأفعاله بالشعر «شذت مساعيه وإن كانت مشهورة، ودرست على مرور الأيام وإن كانت جساما، ومن قيدها بقوافي الشعر وأوثقها بأوزانه وأشهرها بالبيت النادر والمثل السائر والمعنى اللطيف؛ أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجحد، ورفع عنها كيد العدو، وغض عين الحسود». فليس الشعر معيارا للحياة وحسب، وإنما هو كذلك معيار لتجاوز الموت؛ ذلك أنه يضمن الخلود. (عيون الأخبار: 2 / 185).
10
والحق أن النحاة اعتمدوا على الشواهد الشعرية بالدرجة الأساس في تقعيد القواعد، وكان رائدهم في ذلك سيبويه نفسه؛ فقد ذهب سيبويه إلى أن رواية الشعر أدق من رواية النثر، وتذكر المنظوم أيسر من تذكر المنثور، وأن احتمال التغيير والتبديل في الشعر أقل من احتماله في المروي من النثر؛ لحرصهم على تصوير الأساليب العربية في أدق صورها.
إن النحاة لمعذورون في اعتقادهم بأن الشعر هو المادة اللغوية التي يمكن الاطمئنان إلى صحتها وصحة روايتها، ما دام الوزن والقافية يعينان الذاكرة ويضبطان الرواية ضبطا تلقائيا، غير أن هذا لا يعفيهم من مسئولية الخطأ الجسيم في استخلاص قواعد «اللغة العامة» من شواهد «لغة خاصة»! يطبق علماء اللغة المحدثين على أن لغة الشعر، على دقة روايتها، لا يصح أن تكون المصدر الذي تستخلص منه قواعد لغة من اللغات، لكأن النحاة في ذلك يعملون بمنطق جحا إذ وقع منه درهم على رصيف معتم فذهب يبحث عنه على الرصيف الآخر لأنه جلي مضاء بنور المصابيح! فالصبغة الشعرية في النحو العربي مسئولة مسئولية مباشرة عما تعانيه قواعد النحو من اضطراب، وعن ذلك العنت في توجيه القواعد والآراء والتخريجات الذهنية.
لم يكن لدى أحد من النحاة أي شك في أن الشعر هو المادة اللغوية الصالحة للاستشهاد؛ لأن صورة المنظوم، كما جاء في «الإمتاع والمؤانسة»، محفوظة وصورة المنثور ضائعة، ولأن الشواهد لا توجد إلا في الشعر، والحجج لا تؤخذ إلا منه. أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: «قال الشاعر» و«هذا كثير في الشعر» و«الشعر قد أتى به»؛ فالشاعر على هذا هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة،
11
وفي «المقدمة» يقول ابن خلدون «واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علوهم وحكمهم.»
12
لكن هذا الإعذار لهم، كما يقول د. محمد عيد، لا يمنع من ذكر المآخذ التي توجه إلى صبغ النحو بالصبغة الشعرية، والصحيح في الدراسة الاعتماد على النثر أساسا باعتباره الممثل الصحيح لاستعمال اللغة. لقد فرض النحاة نتائجهم التي استقرءوها من لغة الشعر على كل استعمال للغة الفصحى، «وترتب على ذلك كثرة القواعد وتعددها وتعدد الآراء حولها، وتفرع عليه الحكم بالضرورة والندرة والشذوذ؛ إذ تذكر القاعدة العامة مما يشمل الشعر والنثر، ثم تدل نصوص الشعر على ما لا يتفق معها؛ فتذكر قاعدة أخرى بجوارها، أو تنفرد بعض نصوص الشعر بما يخالف القاعدة، ولا تتوافر النصوص التي تؤيد اطرادها؛ فيتفرع على القاعدة العامة آراء أو استعمالات في شكل تنبيهات أو استدراكات، أو يحكم على تلك المظاهر المنفردة في لغة الشعر بالندرة أو الشذوذ، أو يحدث الطعن في هذه النصوص نفسها بعدم الثقة في روايتها أو متنها.»
13 (2) خرافة الضرورة الشعرية
ليست الضرائر في الشعر رخصا بل عزائم!
وجد النحاة بعض الشواهد الشعرية لا تخضع لقواعدهم التي أسسوها، ففسروا ذلك بأن الشاعر قد اضطر، غير باغ ولا عاد، إلى مخالفة الاطراد النحوي السائد حتى يسلم له الوزن، وأسموا هذا المسلك ب «الضرورة»، مستعيرين اللفظة من الفقه، وقسموا هذه الخروجات الشاذة بحسب درجة تواترها إلى ضرورات مباحة لا بأس بها (مثل صرف الممنوع وقصر الممدود ومد المقصور)، وأخرى قبيحة يجمل بالشاعر اجتنابها ما استطاع (مثل منع المنصرف والعدول بالكلمة عن أصل وضعها)،
14
وما كان أغناهم عن مثل هذا، كما يقول د. إبراهيم أنيس لو أنهم بحثوا الشعر وحده وخصوه ببعض الأحكام التي تترك للشعراء وحدهم، باعتبارها من خصائص لغة الشعر، بدلا من أن يصموا الشعر العربي بهذه الوصمة التي عطلت الفهم الأسلوبي للشعر قرونا عديدة.
ولعل ابن جني (ت 392ه) هو أول من التفت إلى أن ما يسمى بالضرورة الشعرية قد تكون اختيارا لا اضطرار فيه البتة، يقول ابن جني: «فإن العرب تفعل ذلك تأنيسا لك بإجازة الوجه الأضعف؛ لتصح به طريقك، ويرحب به خناقك إذا لم تجد وجها غيره، فتقول: إذا أجازوا نحو هذا ومنه بد وعنه مندوحة، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلا ولا عنه معدلا، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليعدوها لوقت الحاجة إليها، فمن ذلك قوله:
قد أصبحت أم الخيار تدعي
علي ذنبا كله لم أصنع
أفلا تراه كيف دخل تحت ضرورة الرفع، ولو نصب لحفظ الوزن وحمى جانب الإعراب من الضعف! وكذلك قوله:
لم تتلفع بفضل مئزرها
دعد ولم تغذ دعد في العلب
كذا الرواية بصرف «دعد» الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنا، وأمن الضرورة أو ضعف إحدى اللغتين.»
15
وجاء في «الأشباه والنظائر»: «قال أبو حيان: يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر، المختصة به، ولا يقع في كلامهم النثري، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام، ولا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإنما يعنون ما ذكرناه، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ إلا ويمكن الشاعر أن يغيره.»
16
ثم جاء ابن مالك في القرن السابع الهجري، فلمس فكرة التفريق بين ما هو «خاص بالشعر» وما هو «ضرورة»؛ فجعل الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة، وناقش الكثير من ظواهر الشعر التي حكم النحاة عليها بالضرورة فرفض أن يكون الشاعر مضطرا إليها، وبين ما كان يمكن للشاعر أن يقوله بدل الضرورة المزعومة، وأنه مختار ولا ضرورة تلجئه إلى ذلك، مثال ذلك دخول «أل» على المضارع في قول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقال إن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة؛ لتمكن الشاعر أن يقول: ما أنت بالحكم المرضي حكومته؛ هذا إذن شيء «خاص بالشعر» وليس «ضرورة»، ولو أن من جاءوا بعد ابن مالك توسعوا في تطبيق هذه الفكرة لأمكنهم عزل الكثير مما سمي «ضرورة» على أنه «خاص بالشعر»، ولأمكن لدراسة الشعر أن تستقل بخصائصها كليا عن دراسة النثر، لكن شيئا من هذا لم يحدث، وظل النحاة على مذهبهم في الضرورة؛ ذلك أن تمييز لغة الشعر عن لغة النثر يفتح بابا لإعادة النظر في الطريقة التي تمت بها دراسة نصوص الكلام العربي جملة، وما كان تقليد المتأخرين للمتقدمين يسمح بهذه المراجعة.
17
وفي شرح التلخيص للسبكي نجد التفاتا ذكيا إلى طبيعة «الضرورة» وطبيعة الاختلاف بين لغة النثر ولغة الشعر. كان شراح التلخيص يعدون مخالفة القاعدة النحوية المطردة ضعفا في التأليف وبعدا عن الفصاحة، ومن أمثلة ذلك «الإضمار قبل الذكر» لفظا ومعنى، كما في قول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
وحسن فعل كما يجزى سنمار
يرى السبكي أن هذا قد يكون ضعفا في النثر، أما في لغة الشعر فالأمر يختلف: «لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز فقد تقوي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك، فربما كان الشيء فصيحا في الشعر غير فصيح في النثر.»
ومن يتأمل البيت المذكور يدرك صواب السبكي فيما ارتآه، فحين انصهرت مثل هذه «المجاوزة» في سبيكة الشعر لم نكد نحس أي نشوز أو اختلال، وربما أطربتنا المجاوزة ذاتها ووجدنا لها وقعا جماليا معينا. وجدير بالذكر أن الإضمار قبل الذكر لم يعد مستنكرا حتى في لغة النثر بعد أن وفد علينا بكثرة في الأساليب الأجنبية هذه الأيام.
18
لا لم تكن فكرة «الضرورة» إلا ضرورة النحاة أنفسهم في دراستهم وقد جبهتهم لغة الشعر بما لا يتفق مع قواعدهم. انظر إلى سيبويه نفسه كيف اغترب عن بيت عمر بين أبي ربيعة:
صددت فأطولت الصدود وقلما
وصال على طول الصدود يدوم
فقال: يحتمل الشعراء قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه، وإنما الكلام «قلما يدوم وصال».
لم يوفق سيبويه في هذا المثال إلى تمييز الفرق الجوهري بين لغة النثر ولغة الشعر، فهذا الحيود في لغة البيت ليس قبحا وليس اضطرارا، وإنما هو طريقة للشعر في الصوغ والتركيب، أو هو «خاص بالشعر»، ولو أن البيت صيغ على غير ذلك لذهب ماؤه وزال موضع التعجب منه.
لم يحتمل العلماء فكرة وجود لغتين أو مستويين لغويين للفصحى: لغة النثر ولغة الشعر، بحيث يكون أغلب ما أسموه «ضرورة» هو، ببساطة، «خاص بالشعر». ولعل ابن فارس خير ممثل لاتجاه عامة النحاة إلى تخطئة الشعراء في خروجهم على المطرد والقياسي من القواعد. في رسالته «ذم الخطأ في الشعر» يذهب ابن فارس إلى أن الضرورة ضرب من الخطأ ومجانبة الصواب، فالشعراء عنده يخطئون كما يخطئ الناس ويغلطون كما يغلطون، وما جعل الله الشعراء معصومين يوقون الخطأ والغلط، فما صح من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية وأصولها فمردود، ورأى ابن فارس أن كلام النحويين في هذا الباب إنما هو ضرب من التوجيه لخطأ الشعراء وتكلف التأويلات لأغلاطهم،
19
وذهب ابن رشيق إلى أن «الضرورة لا خير فيها»،
20
وقال أبو هلال العسكري في كتابه «الصناعتين»: «وينبغي أن تجتنب ارتكاب الضرورات، وإن جاءت فيه رخصة من أهل العربية؛ فإنها قبيحة تشين الكلام وتذهب بمائه، وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم - كان - بقباحتها، ولأن بعضهم كان صاحب بداية، والبداية مزلة، وما كان أيضا تنقد عليهم أشعارهم، ولو قد نقدت وبهرج منها المعيب، كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة ويبهرج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنبوها.»
21
ونقل الدمنهوري عن السيوطي في الأشباه والنظائر النحوية ما نصه:
قاعدة: ما جاز للضرورة يقدر بقدرها، ومن فروعه: إذا دعت الضرورة إلى منع المنصرف المجرور فإنه يقتصر فيه على حذف التنوين وتبقى الكسرة؛ لأن الضرورة دعت إلى حذف التنوين فلا يتجاوز محل الضرورة. قاعدة: ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى مما يؤدي إليها. وخلاصة هذه الأحكام أن للشعر خصائص منها الضرورات، وأن هذه الضرورات ينبغي أن تجتنب، ويجب أن يقتصر فيها على الحاجة فيقدر بقدرها، وأن يعلم الشاعر أن ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى مما يؤدي إليها.
22
قلنا: إن النحاة لم يحتملوا فكرة وجود مستويين للفصحى، وظنوا أن الشعر لا يعدو أن يكون فنا من الكتابة التزم بما لا يلزم في النثر، طموحا إلى قيم تأثيرية كبرى، فآده حمله الثقيل من وزن وقافية، وأعذره فيما اضطر إليه من ضروب التعثر والظلع اللغوي. وحتى ابن جني في تمجيده للشاعر لم يعد أن مهد له عذرا ونوه ببسالته، ولكنه لم يبلغ عمق الظاهرة الشعرية،
23
لم يفهم ابن جني أن الشاعر ليس بهلوانا يوفق فيكبر أو يسقط فيعذر! «فالشاعر لا يتلقى اللغة تلقيا سلبيا، بل له عليها أثر إيجابي، بطبيعة ما بينهما من علاقة جدلية يتأثر فيها الشاعر باللغة ويؤثر هو كذلك فيها. والضرورة الشعرية يتجلى فيها عمل الشاعر الخلاق من جهة تناوله للغة تناولا مختلفا (وإن كان يتم في أحضان اللغة نفسها)؛ فالشاعر يغير في اللغة بحكم ما له عليها من أثر إيجابي تتحقق به المحافظة على روح اللغة ونموها معا (فاللغة ثبات وتغير وبهما يتحقق للغة شخصيتها وحياتها معا).»
24
من آليات الدراسة الأسلوبية للعمل الأدبي «ملاحظة مواطن الخروج ومناهضة الاستعمال الجاري عليه الكلام، ثم محاولة الكشف عن العلل الاستطيقية (الجمالية/الفنية) الباعثة على ذلك، ويعد الألماني ليو سبتزر رائدا في هذا الباب، فهو يبحث عن روح الكاتب أو الشاعر في لغته على ما تظهر في الخصائص التي يخرج فيها عن المعايير اللغوية الشائعة ويتجاوزها، بحيث يلوح منها الطريق التاريخي الذي يختطه والتغير الطارئ عليه من روح العصر والثقافة في الصورة اللغوية الجديدة. لقد اعتبرت المخالفات النحوية على أيدي النقاد جميعا هفوات، ولكن الضرورة الشعرية باعتبارها خروجا على الاستعمال المألوف للغة وما تقتضيه المعايير المقررة في النظام اللغوي؛ تكشف عن الخصائص الفردية التي بها يظهر روح الشاعر أو الأديب، فمغالبة القوة التي يصنعها اطراد العادة اللغوية لا يمكن تفسيره إلا بالتسليم بأن قوة مناهضة بعثت على النشاط الجديد الذي به خالف التعبير ما استقر عليه الاستعمال. إن اطراد الاستعمال اللغوي من شأنه أن يصبح قوة تتسلط على كل تعبير ناهض؛ إذ تتكون العادة اللغوية التي عليها يطرد التعبير، وتستقر في عقل الجماعة اللغوية، فلا ينفك عنها أي تعبير جديد؛ ولهذا يلزم في بحث الظاهرة اللغوية الكشف عن العلل الداخلية التي تستبطنها. فأي دراسة لا تنطلق في بحث الظاهرة من داخلها تقع في الأوهام التي تقع فيها أي دراسة لا تقوم على الموضوعية؛ لأنها لا تظهر على شيء من حقيقة الموضوع المبحوث»،
25 «وإذا كان الشاعر يناهض الأعراف اللغوية المستقرة؛ فلأن هذه الأعرف لم تعد في خدمة الأغراض التي يسعى إليها الشاعر، فالواقع في الوهم أن الشعراء يتجنون على اللغة، والصحيح أن الضرورة الشعرية إنما هي ضرورة تحتمها القوانين الداخلية للظاهرة اللغوية، وهي في خدمة هذه القوانين وحدها؛ لأنها إنما تستمد وجودها منها، وأي قوانين أخرى تسبق ميلاد الظاهرة نفسها مردودة لأنها أجنبية، والظاهرة إنما تحمل في باطنها المبدأ الخالق لها.»
26
للشعر مناخه اللغوي الخاص، الشعر حيود عن جادة اللغة السوية - لغة النثر؛ لأن للنثر مطلبا وللشعر مطلب آخر، الشعر يقدم المتأخر (أقيس أرى؟ - بالحسن أعدى ...)، ويؤخر المتقدم (باد هواك - من الموجعات النجوم)، ويفصل المتصل (وما للسيف إلا القطع فعل - تبزغ سائلها لماذا الشمس)، ويصل المنفصل (ما أنت بالحكم الترضى حكومته - الدرج الرنا إلي عهدا)، ويكرر (لا يبصر الخطب الجليل جليلا - حتى خطاياه ما عادت خطاياه - كان يا مبسمها كان أن - أخبرتها أخبرتها النجوم)، وينكر (عزيز أسى من داؤه الحدق النجل - مررت كصحو ببال) ... إلخ.
يبحث الشاعر في مادة اللغة عما يحقق له الشكل الجمالي (الاستطيقي ) الدال، وإذا كان للغة سلطان على الناس فللشاعر سلطان على اللغة، وهو في سعيه إلى الأثر الجمالي لا يخرج عن اللغة بل يطورها وينميها ممتدا بها ومنها. وينبغي أن نفهم مواطن خروجه عن المألوف المطرد على أنها كشوف لغوية: منافذ انعتاق، رءوس تبرعم، نقاط شطء، طلائع نمو؛ فهمها النحاة فهما «ألكن» على أنها مواطن قصور وضعف وخطأ، سملها النحاة فأوقفوا نمو اللغة.
في كتابه «بناء لغة الشعر» يخلص جون كوين إلى أن الشعر «انحراف»
Ecart
بالقياس إلى النثر، أو «مجاوزة» كما فضل د. أحمد درويش ترجمتها: «الشعر خروج منظم على قواعد اللغة، والشعر ليس هو النثر مضافا إليه شيء ما، ولكنه هو «المضاد للنثر»، ومن هذه الزاوية فإنه يبدو شيئا سلبيا تماما كأنه شكل «معتل» للغة، لكن هذا العنصر الأول يتضمن عنصرا ثانيا إيجابيا هو أن الشعر لا يهدم اللغة العادية إلا لكي يعيد بناءها وفقا لتخطيط أسمى».
27
وبالرغم من أن الشعر يستخدم الكلمات، ويحمل دائما مضمونا ذهنيا، وينطوي على معان عقلية، فإن الكلمات في الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق، وتتخفف من ماضيها، ولا تعود «أداة» تخدم الفكر وتحيل إلى معان. إنها تنصهر وتكتسب «الشكل»
Form
وتتحول إلى «غاية»، وتفارق صفة «العلامة» وتأخذ صفة «الرمز» الملتحم بمعناه. وكأنما الشعر عودة باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه العودة طرائق كثيرة، منها الوزن. فالوزن، كما أشار كرورانسوم،
28
هو طريقة لفرض الصورة صوتيا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في معاني الألفاظ نفسها؛ وبذلك يخلق الوزن نوعا محببا من التشتيت يجعل من التلقي تجربة جمالية، كما أن للوزن تأثيرا سيمانطيقيا (دلاليا) هائلا: فهو يضطر الشاعر إلى أن يضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى يسلم له النغم، ويلوي بالتركيب النحوي ليسلم له العروض، وفي هذه العملية يسترخي المعنى ويتفكك ويحقق الشعر ذاته؛ فيكون لغة بدائية صورية شيئية غامضة، أفضل تسجيلا لكثافة الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة. ولعل هذا هو السبب في أن القصيدة تعني دائما أكثر مما تعنيه ترجمتها النثرية في لغة أخرى، من حيث إن بناءها الشكلي والموسيقي قد جعل منها «رمزا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
29
صفوة القول أن الضرورة الشعرية ليست معلولا مباشرا للوزن ولا تتحدد به، «وإنما تتحدد بماهية الشعر نفسه من حيث هو مستوى من التعبير مختلف عما عليه سائر الكلام، فللشعر تركيبات لغوية تختص به، وهذه هي محل الضرورة.»
30
ومما سبق يتبين لنا حجم الخطأ الذي وقع فيه النحاة حين اعتمدوا في جمع اللغة وتقعيدها على الشعر بالدرجة الأساس، حيث كان ينبغي الاعتماد على النثر بوصفه اللغة السوية القياسية، ويبقى الشعر مستوى آخر من اللغة جديرا بالدراسة بحقه الشخصي، وقد أدى هذا الخلط الأساسي إلى تضخم القواعد واضطرابها وتناقضها، وإلى ضروب أخرى من الخلط ما زالت الفصحى تعاني من آثارها وجرائرها إلى يومنا هذا.
الفصل الثالث
نشأة اللغة توقيف أم اصطلاح
ذهب العرب مذهبين في تفسير أصل اللغة:
الأول أنها «توقيف» (إلهام/وحي) من الله، أي أن الله هو صانع اللغة. ويستند هذا الرأي إلى قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (البقرة: 31).
1
الثاني أنها «اصطلاح» (عرف/اتفاق/تواضع/تواطؤ)، بمعنى أن يصطلح اثنان أو أكثر من الناس على تسمية شيء بالاسم الذي يرتضونه ويتواضعون عليه هم ومن يليهم.
وبدا للعربي في ذلك الزمن أن ليس هناك احتمال ثالث لهذين الاحتمالين؛ فقد كان سقف التاريخ البشري في إطاره الذهني وطيئا لا يتعدى بضعة آلاف من السنين لا تسمح بتخلق تلقائي لمثل هذا النظام الهائل - اللغة - فلم يكن بد من صانع مباشر: إما الله (التوقيف)، وإما غيره (الاصطلاح).
2
والحق أن هذا الإطار المعرفي كان يتلبس بالفكر اللغوي الغربي أيضا: «وقد كان المدى الزمني لأي دراسة تاريخية للغات أقصر كثيرا مما هو متاح لدينا؛ فالناس، وبالتالي لغتهم الإنسانية، ترجع - عبر قرون قليلة - إلى أسلافهم من الأبطال والآلهة والإلهات في الأساطير المسلم بها، وقد اتجهت الجهود أساسا إلى الإجابة عن السؤال: كيف أمكن لمجموعة من الكلمات الأولية المتوافقة صوتيا والتي منحتها أو علمتها الآلهة في البداية أن تتضاعف، لتنتج الأعداد الهائلة من كلمات معجم اليونانية أولا ومعجم اللاتينية بعد ذلك، لتواجه متطلبات المدنية ذات الثقافة الرفيعة؟»
3
يقول ابن فارس في كتاب «الصاحبي»: «اعلم أن لغة العرب توقيف، دليل ذلك قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها (البقرة: 31). كان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارفها الناس من دابة وأرض، وسهل وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.»
4
استند القائلون بالتوقيف إلى ظاهر النص: فالأسماء كلها معلمة من عند الله بالنص، وكذا الأفعال والحروف؛ لأن الأفعال والحروف أيضا أسماء، لأن الاسم ما كان علامة، والتمييز (بين الأسماء والأفعال والحروف) من تصرف النحاة لا من اللغة، ولأن التكلم بالأسماء وحدها متعذر.
5
واستندوا أيضا إلى استحالة أن يجري اصطلاح بدون لغة مسبقة يتواصل بها المصطلحون. يقول السيوطي في «المزهر»: «لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، ويعود إليه الكلام، ويلزم إما الدور أو التسلسل في الأوضاع، وهو محال، فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.»
6 (المزهر 1: 18).
ويرد القائلون بالاصطلاح بأن المقصود بقوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها
أقدره عليها ومكنه من الكلام والتسمية، ويردون على أهل التوقيف بطريقتهم: «لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علما ضروريا في العاقل أنه وضع الألفاظ لكذا، أو في غير العاقل، أو بألا يخلق علما ضروريا أصلا، والأول باطل، وإلا لكان العقل عالما بالله بالضرورة؛ لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا لكان علمه بالله ضروريا ولو كان كذلك لبطل التكليف. والثاني باطل؛ لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام هذه الألفاظ. والثالث باطل؛ لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيف آخر، ولزم التسلسل.» (المزهر 1: 18).
جاء في كتاب الحروف للفارابي: «فهكذا تحدث أولا حروف تلك الأمة وألفاظها الكائنة عن تلك الحروف، ويكون ذلك أولا ممن اتفق منهم، فيتفق أن يستعمل الواحد منهم تصويتا أو لفظة في الدلالة على شيء ما عندما يخاطب غيره فيحفظ السامع ذلك، فيستعمل السامع ذلك بعينه عندما يخاطب المنشئ الأول لتلك اللفظة، ويكون السامع الأول قد احتذى بذلك فيقع به، فيكونان قد اصطلحا وتواطآ على تلك اللفظة، فيخاطبان بها غيرهما إلى أن تشيع عند جماعة، ثم كلما حدث في ضمير إنسان منهم شيء احتاج أن يفهمه غيره ممن يجاوره، اخترع تصويتا فدل صاحبه عليه وسمعه منه فيحفظ كل واحد منهما ذلك وجعلاه تصويتا دالا على ذلك الشيء، ولا يزال يحدث التصويتات واحدا بعد آخر ممن اتفق من أهل ذلك البلد، إلى أن يحدث من يدبر أمرهم ويضع بالإحداث ما يحتاجون إليه من التصويتات للأمور الباقية التي لم يتفق لها عندهم تصويتات دالة عليها، فيكون هو واضع لسان تلك الأمة، فلا يزال منذ أول ذلك يدبر أمرهم إلى أن توضع الألفاظ لكل ما يحتاجون إليه في ضرورية أمرهم.»
7
وجدير بالملاحظة أن فكرتي «التوقيف» و«الاصطلاح» لم تكونا واضحتين في أذهان أصحابهما، كما يتصور القارئ المعاصر، ولا متمايزتين إحداهما عن الأخرى تمام التمايز!
فبعض القائلين بالاصطلاح لا يستبعدون أن تكون اللغة من وضع مخلوقات ذكية سابقة على الإنسان. يقول الغزالي في المنخول إن «قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء كلها
ظاهر في كونه توقيفا وليس بقاطع، ويحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم» (المزهر 1: 23).
وبعض القائلين بالتوقيف يرون أن اللغات كلها تم صنعها في بدء الخليقة (المزهر 1: 11)، وبعضهم يرى أن التوقيف لم يقع في الابتداء إلا على لغة واحدة، وأن اللغات الأخرى ثم التوقيف عليها بعد الطوفان في أولاد نوح حين تفرقوا في أقطار الأرض (المزهر 1: 27)، ويرى فريق ثالث أنه يجوز أن تكون اللغات التي تلت اللغة التوقيفية الأولى جاءت اصطلاحا أو توقيفا (المزهر 1: 27)، ويرى آخرون أن اللغة الأولى فقط هي التوقيفية (وهي العربية - اللغة التي نزل بها آدم من الجنة)، بينما نشأت اللغات الأخرى تحريفا (المزهر 1: 30).
ومن التوقيفيين من ذهب إلى أن اللغة العربية ظهرت أيضا في مرحلة متأخرة عندما حشر الله الخلائق إلى بابل، جاء في «المزهر»: «... لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا، فاجتمعوا ينظرون لماذا حشروا له، فنادى مناد: من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء، فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود، أنت هو؟ فكان أول من تكلم بالعربية المبينة» (المزهر 1: 32). ومنهم من ذهب إلى أن العربية ظهرت أول مرة بعد قدوم سيدنا إسماعيل عليه السلام إلى مكة واستقراره بها، وأن أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه هو إسماعيل عليه السلام (المزهر 1: 32-33).
ويبدو أيضا أن النسق المذهبي لعالم اللغة كان يملي عليه الرأي في أصل اللغة، وأن تفكيره في هذا الشأن لم يكن علميا خالصا، أو فلسفيا محضا، فثم مذهب كلامي كلي عليه أن يخضع له ويضمن اتساقه. يقول د. إبراهيم أنيس: «إن الخلاف بين علماء العرب ظهر واضحا في منتصف القرن الرابع الهجري وما بعده، فرأيناهم فريقين: أولا: أهل التقاليد من المحافظين الذين اعتمدوا على النصوص من السنيين وأضرابهم، وهؤلاء كانوا ينادون بأن اللغة توقيفية وأن لا يد للإنسان في نشأة ألفاظها أو كلماتها، وزعيم هؤلاء ابن فارس في كتابه «الصاحبي»، والفريق الثاني من علماء اللغة الذين نادوا بأن اللغة اصطلاحية، وكان معظمهم من المعتزلة الذين استمدوا أدلتهم من المنطق العقلي، وفسروا ما ورد من نصوص بحيث تلائم اتجاههم وتنسجم مع منطقهم.»
8 (1) تردد ابن جني بين الاصطلاح والتوقيف
ولعل ابن جني هو خير من يعكس لنا حيرة فقيه اللغة في ذلك الزمن بين التوقيف والاصطلاح، وقد سجل تردده في غير موضع من «الخصائص»، يقول ابن جني في «باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح»: «هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، إلا أن أبا علي رحمه الله، قال لي يوما: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى
وعلم آدم الأسماء كلها
وهذا لا يتناول موضع الخلاف، وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة، فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به ... ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيا، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، قالوا: كأن يجتمع حكمان أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات، فيضعوا لكل واحد منها سمة ولفظا، إذا ذكر عرف به ما مسماه، ليمتاز من غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره، لبلوغ الغرض في إبانة حاله ... فكأنهم جاءوا إلى واحد من بني آدم، فأومئوا إليه، وقالوا: إنسان إنسان إنسان، فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق، وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك، فقالوا: يد، عين، رأس، قدم، أو نحو ذلك، فمتى سمعت اللفظة من هذا عرف معناها، وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل، واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري؛ وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك علي جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر ... وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي، ثم أقول في ضد هذا: كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانا؛ فأقف بين تين الخلتين حسيرا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق.»
9
وفي موضع آخر من الخصائص يقول ابن جني: «هذا كله وما أكني عنه من مثله - تحاميا للإطالة به - إن كانت هذه اللغة شيئا خوطبوا به وأخذوا باستعماله،
10
وإن كانت شيئا اصطلحوا عليه، وترافدوا بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه فهو مفخر لهم، ومعلم من معالم السداد دل على فضيلتهم.»
11
وفي موضع ثالث من الخصائص يقول بصريح العبارة: «قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام؟ وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعا، وكيف تصرفت الحال، وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها؛ فإنها لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه؛ لحضور الداعي إليه، فزيد فيها شيئا فشيئا، إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه ...»
12
يرى د. لطفي عبد البديع «أن التوقيف يمكن حمله على الإلهام من الله تعالى للبشر بالأسماء في مطلق معناها دون أن يكون في ذلك تعارض ما مع القول بالاصطلاح على معنى أن يتواطأ اثنان فأكثر من أبناء لغة بعينها على تسمية شيء بالاسم الذي يرتضونه ويتواضعون عليه هم ومن يليهم، ويكون التوقيف والاصطلاح أمرين «متكاملين» في الإنسان لا يتم أحدهما إلا بالآخر فهما جانبان للغة التي تدرج على الأرض ولكنها تمد بسبب إلى السماء؛ فالتوقيف كالأصل الميتافيزيقي للغة، والاصطلاح كالأصل الاجتماعي لها، وكلاهما له مكانه السائغ في العمل اللغوي، أما ما أفاض فيه القائلون بهذا وذاك من حجج وأدلة فمبناه على قضايا كلامية في جملتها ينقض بعضها بعضا ...»
13 (2) استكمال اللغة
وسواء على اللغوي أكان أميل إلى التوقيف أم الاصطلاح، فقد كان يشعر بأن اللغة لم توضع مرة واحدة، وأنها قد تلاحق تابع منها بفارط، ليس بمعنى التطور الذي ندركه اليوم (فالحق أن مفهوم اللغة عندهم ما زال يتمتع بكمال مرحلي معين) ولكن بمعنى آخر مقيد أيضا بالتوقيف الإلهي أو بوضع الواضع الأول! يذهب ابن فارس مثلا إلى أن الله وقف آدم على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، ثم علم آخرين من عرب الأنبياء ما شاء أن يعلمهم، حتى انتهى الأمر إلى خاتم الرسل فلا نعلم لغة من بعده حدثت. ويميل ابن جني إلى أن استكمال اللغة مقيد بوضع الواضع الأول، الذي لا يخالف عليه من بعده، وأن خلاف من بعده ليس إلا أثرا لمتابعة المتأخر للمتقدم: ذلك أن الواضع الأول توقع حاجات الخلف بحكمة استقبلت من أمر الحياة ما استدبر،
14
وتعرفت المستقبل فوضعت القياس الذي يأخذ به الخالف حين يحتاج إلى الزيادة في اللغة أو يضطر إلى مخالفة الواضع الأول!
15 (2-1) كمال اللغة ورأي ابن حزم «العربية خير اللغات» يقول العربي ... «اليونانية أفضل اللغات» يقول جالينوس ... «العبرية لغة الرب، والملائكة لا يفهمون غير العبرية» يقول اليهود ... «السريانية لغة الحساب في الآخرة ولغة أهل الجنة» يقول السريان ... «الفارسية لغة الجنة» يقول الفرس ... «أنا الحق وكل ما سواي الباطل» يقول «العرق»
Ethnos ! لاحظ أن بعض اللغات المذكورة لم يدم في الحياة لكي يلحق بالآخرة!
لكي ننفي هذا التفضيل اللاهوتي للعربية (ولكل لغة) فمن الأقرب والأيسر أن نستشهد بواحد من قدامى العلماء الأجلاء أنفسهم هو ابن حزم، القائل في «الإحكام في أصول الأحكام»: «وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ وقد قال تعالى:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (إبراهيم: 4)، وقال:
فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (الدخان: 58)، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: إن لغة اليونانيين أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب وإما نقيق الضفادع. قال علي: وهذا جهل شديد؛ لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكر جالينوس، ولا فرق ... وقد قال قومه: العربية أفضل اللغات لأن بها نزل كلام الله تعالى، قال علي: وهذا لا معنى له؛ لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه، وقال تعالى:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: 24)، وقال تعالى
وإنه لفي زبر الأولين (الشعراء: 196)، فبكل لغة قد نزل كلام الله ووحيه، وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا.»
16 (2-2) ملاحظات واستدراكات «الاصطلاح» عند قدماء النحاة يعني تواطؤ حكماء، من البشر أو غير البشر، وهو مصطلح يختص بنشأة اللغة، وهو ضد «التوقيف». أما «الاصطلاح» أو «المواضعة»
Convention
في فلسفة اللغة الحديثة، والفلسفة الغربية بعامة، فهو مصطلح يختص بطبيعة اللغة، ويعني العلاقة الاتفاقية التعسفية الاعتباطية بين «الدال»
Signifier
و«المدلول»
Signified ، وهي ضد العلاقة الضرورية أو الطبيعية بين الدال والمدلول (
Naturalism )، وقد لزم التنويه بذلك حتى لا يقع القارئ في الخلط ويظن أن قدماء النحاة كانوا يعنون بالاصطلاح ما يعنيه هورموجينيس في محاورة أقراطيلوس (كراتيلوس)، أو ما يعنيه دي سوسير ب «اعتباطية العلامة»
Arbitrariness of sign .
إن الكثير من فقهاء اللغة العرب كانوا يضمرون الاعتقاد في التوقيف والاصطلاح معا: أن الله صنع العربية على أكمل وجه وعلى النحاة الكشف عن حكمته فيما صنعه، وأن العرب صنعت العربية على أكمل وجه وعلى النحاة الكشف عن حكمة العرب فيما صنعته.
إن المذهبين كليهما يلتقيان في أن اللغة كيان محكم، متناهي الإتقان، ثابت الأركان، أتى بتدبير مدبر وفعل فاعل، ومن ثم فإن علينا حفظه وتأمله، وليس لنا أن نعبث به ونتصرف فيه.
لم يكن العقل الإنساني في هذه المرحلة من تطوره ينفر من التناقض نفورنا منه الآن، ولم يكن «قانون التناقض»
Law of contradiction
فاعلا فيه! هذا ما يجب أن نعيه ونحن نشهد النقائض متراصة في فكر القدماء جنبا إلى جنب
Juxtapose
في وئام وسلام، مثلما تتراص في أحلامنا! ونشهد التصورات الميثوبية
17
والغيبية تتبلع ببساطة تدعونا إلى العجب. كان الفكر القديم يدرك العلاقة بين السبب والنتيجة ، ولكنه لن يدرك ما نراه من سببية تعمل كالقانون، آليا ودونما أي هوى شخصي؛ وذلك لأننا قد ابتعدنا كثيرا عن عالم التجربة المباشرة بحثا عن الأسباب الحقيقية ... إنه أعجز من أن ينسحب كل هذا الانسحاب عن الحقيقة المحسوسة، كما أنه لن يقنع بأفكارنا، فإذا بحث عن السبب، فإنه يبحث عن «من» لا عن «كيف»، إنه يبحث عن إرادة ذات غرض تأتي فعلا معينا،
18
هذا ما جعل مسألة «اللغة» كظاهرة «انبثاقية»
Emergent
تنجم تلقائيا من طبيعة الاجتماع، شيئا عصيا على إدراكه، بعيدا عن منال فهمه. (3) علم اللغة الحديث ونشأة اللغة
إن اختلافنا عن هذا السلف البعيد هو اختلاف «إطار معرفي»
(نموذج شارح) و«رؤية عالم»
World-view ، يقول الأستاذ أمين الخولي: «لكن ما يبدو لنا غريبا لم يكن في منطق القوم على هذه الغرابة، فإنك لتعرف أنهم يرون أن الدنيا نصف، قد ذهب خير نصفيها: ويقررون أن الأول قد ذهب بالمعرفة كلها، كما ذهب بالخير كله، وأن أفضل القرون قد مضى منذ أكثر من عشرة قرون ... فالنظام عندهم ليس ترقيا، بل هو تنزل وتدهور، بعد كمال وفضل. ومن هنا تدرك أن أساس الخلاف فكري جوهري عام، يمتد إلى أشياء كثيرة، ولا يقتصر على اللغة، بل يمس النظرة الكبرى في سير الوجود كله لا سير اللغة فقط.»
19
من الثابت الآن في ضوء اللغويات الحديثة وعلم الاجتماع الحديث «أن اللغة ليست إلا ظاهرة اجتماعية، وتلك الظواهر الاجتماعية لا تقوم إلا على غير ما تصوره الأقدمون من أمور عقلية منطقية، وأعمال صناعية تحكمية»
20 «تلك الظواهر الاجتماعية ليست صناعة فرد بعينه أو أفراد بعينهم، ولا عمل جيل بذاته، ولا توجيه فيها لعقل الفرد، أو الإرادة الفردية، ولا تأثير له عليها، فلا هو يستطيع دفعها إذا أراد، ولا هو يستطيع صدها إذا شاء، وما هو ولا قومه مجتمعين بمستطيعين أن يقدموا من أمرها شيئا أو يؤخروه، فلا هم يتدخلون تدخلا إراديا في وجودها، ولا هم يسهمون في تنظيمها، ولا هم يختطون طريقها، وكل ما تتعرض له وما يواجهها من دوافع أو موانع، وما ينالها من تغير وتحول، أو توسع وتبسط، أو توقف وتعطل، لا يكون شيء منه إلا من نتائج العقل الجمعي، ومقتضيات الوجود التجمعي، وهو ما لا ينفي فيه منطق الأفراد ولا يثبت، ولا تعطي فيه إرادتهم ولا تمنع، ولن يغيروا أبدا من واقع تحتمه القوانين الاجتماعية الثابتة المطردة.»
21
هذ أمر ينبغي تفهمه ابتداء حين يتبين لنا خطأ القدماء الأولي فيما ذهبوا إليه، «فاللغة في كل مجتمع نظام عام يشترك الأفراد في اتباعه، ويتخذونه أساسا للتعبير عما يجول بخواطرهم، وفي تفاهمهم بعضهم مع بعض. واللغة ليست من الأمور التي يصنعها فرد معين أو أفراد معينون، وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجمعية، وما تقتضيه هذه الحياة من تعبير عن الخواطر، وتبادل للأفكار، وكل فرد منا ينشأ فيجد بين يديه نظاما لغويا يسير عليه مجتمعه فيتلقاه عنه تلقيا بطريق التعليم والمحاكاة، كما يتلقى سائر النظم الاجتماعية الأخرى، ويصب أصواته في قوالبه، ويحتذيه في تفاهمه وتعبيره».
22 «واللغة من الأمور التي يرى كل فرد نفسه مضطرا إلى الخضوع لما ترسمه، وكل خروج على نظامها، ولو كان عن خطأ، أو جهل، يلقى من المجتمع مقاومة تكفل رد الأمور إلى نصابها الصحيح، وتأخذ المخالف ببعض أنواع الجزاء ... وإذا حاول فرد أن يخرج كل الخروج على النظام اللغوي بأن يخترع لنفسه لغة يتفاهم بها فإن عمله هذا يصبح ضربا من ضروب العبث العقيم؛ إذ لن يجد من يفهم حديثه، ولن يستطيع إلى نشر مخترعه هذا سبيلا».
23
والحق أن «علم اللغة»
Linguistics
الحديث من العلوم الإنسانية الدقيقة التي بلغت في أدائها ونتائجها مستوى من الدقة العلمية يقترب من مستوى العلوم الطبيعية، وصارت مثالا يحتذى لبقية العلوم الإنسانية. وقد أثبت هذا العلم الحديث على نحو حاسم صلب «أن اللغة ظاهرة اجتماعية يتميز بها كل مجتمع إنساني، وهي ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلهة، ولم تهبط من عل، بل نشأت من أسفل، وتطورت بتطور الإنسان ذاته، ونمت بنمو حضارته»،
24
فإذا نحن سلطنا هذا الضوء العلمي الكاشف على آراء القدماء «فسنتبين سريعا وفي وضوح أن ما زعمه الزاعمون من عمل الأفراد، أو الكثرة، في تكوينها ووضعها لا يؤيده شيء من طبيعة اللغة! وسيتبين لنا كذلك بأسرع وأوضح مما سبق أن إدراك هذا الفرد الممتاز، أو الكثرة الحكيمة، لمستقبل اللغة واحتياطهم لآخر أمرها ... كل ذلك لا تحتمل تصديقه طبيعة اللغة على ما عرفها البحث الاجتماعي، فليس لوضع الواضع الأول، بحكمته وحسن تأتيه - أو بغير ذلك - وجود ولا سند ... لأن اللغة ليست إلا نشاطا اجتماعيا، لا اجتهادا عقليا وتدبيرا منطقيا ... وإذا ما استقرت هذه الحقيقة من خصائص اللغة بما هي نظام اجتماعي، اتضح لنا أن اللغات الصناعية المبنية على خطة منطقية قد وضعت مقدما غير ممكنة الوقوع إلا إذا كانت لغات خاصة: لغات فنية (تكنيكية) ولوائح إعلانات، ففي هذه الحال يكفي الاتفاق بين الأشخاص المعدودين الذين يستعملونها للاحتفاظ بها كما خلقت دون تغيير.»
25
ولا يفوتنا، أخيرا، أن نتبين البون البعيد بين الإطار المعرفي الذي كان يوجه عقل القدامى ويرشد بحثهم وبين النموذج المعرفي الحديث: كان «التنزل»، إن صح التعبير هو الإطار القديم، كمقابل ل «التطور» في العقل الحديث، فالتطور «أصل أصيل في حياة اللغة بما هي كائن اجتماعي، وأساس التطور هو الوجود البسيط أولا، ثم النماء المترقي ثانيا، وخلال هذا الانتقال يتكون الكائن مترقيا، ويتغير تغيرات متدرجة ... وعلى ذلك لن نهتدي إلى صواب من الرأي في مشكلات حياتنا اللغوية إلا إذا ما أخذنا أنفسنا في تبين هذه المشكلات بالمنهج الذي يقرر عكس ما قرره الأقدمون في تكون اللغة العربية وحياتها؛ فإذا ما قالوا: إنها كانت كاملة دقيقة أولا ثم فسدت واضطربت، قال هذا المنهج إنها كانت نامية متغيرة مكتملة، ولها في ذلك تاريخ حيوي ومرضي لا بد من معرفته قبل أن تقولوا بفسادها واضطرابها، أو بم فسدت؟ أو لم اضطراب؟! وتلك هي المهمة الكبرى، بل الهائلة، لمن يتحدث عن مشكلات حياتنا اللغوية حتى يكون حديثه سليم الأساس.»
26
الفصل الرابع
طبيعة اللغة
العلاقة بين الدال والمدلول علاقة ضرورية، لا في ذاتها ، بل في ذاتنا نحن!
ما هي العلاقة بين الكلمات والأشياء؟ بين الدال والمدلول؟ بين الألفاظ وما تشير إليه الألفاظ؟
ثمة جوابان ممكنان على هذا السؤال: الأول يقول إن العلاقة بين الكلمة ومدلولها علاقة طبيعية ضرورية تجعل هذه الكلمة بعينها هي المقيضة للتعبير عن هذا الشيء بعينه، وهي المناسبة، دون غيرها من الأصوات الممكنة، للإشارة إلى هذا المعنى المحدد؛ وبالتالي فإن أمر الدلالة (أو التدليل
Signification ) غير متروك للمصادفة أو الاعتساف، ذلك هو «المذهب الطبيعي»
Naturalism
في اللغة.
والجواب الثاني يقول إن العلاقة القائمة بين العلامات اللغوية، كالكلمات، وبين معانيها هي في عامة الأحوال مسألة «عرف» أو «اصطلاح» أو «تواطؤ» أو «مواضعة»
Convention . «إن الرموز اللغوية لا تحمل قيمة ذاتية طبيعية تربطها بمدلولها في الواقع الخارجي؛ فليس هناك أي علاقة بين كلمة «حصان» ومكونات جسم الحصان، والعلاقة كامنة فقط عند الجماعة الإنسانية التي اصطلحت على استخدام هذه الكلمة اسما لذلك الحيوان، ومعنى هذا أن قيمة هذه الرموز اللغوية تقوم على العرف، أي على ذلك الاتفاق الكائن بين الأطراف التي تستخدمها في التعامل، وهذا معناه أن المؤثر والمتلقي متفقان على استخدام هذه الرموز اللغوية المركبة بقيمتها المعرفية.»
1
وليس هناك ما يحتم على كلمة
Dog
أن تعني ذلك الصنف المستأنس من الكلبيات، إنما يجعل هذه الكلمة تعني ما تعنيه هو أن الناطقين بالإنجليزية يرقب بعضهم بعضا ويتوقعون فيما بينهم أن يلتزم كل منهم بالعرف المتفق عليه والذي يربط كلمة
Dog
بالكلب،
2
ذلك هو «المذهب الاصطلاحي، أو التواضعي»
Conventionalism
في اللغة.
شغلت هذه المسألة عقول المفكرين اللغويين منذ أقدم العصور، وفي زمن الإغريق طرح هذا السؤال طرحا ناضجا، وانقسم الفلاسفة فيه بين قائل بالمذهب الطبيعي، مثل هيراقليطس وكراتيلوس، وقائل بالمذهب الاصطلاحي، مثل ديمقريطس وهيرموجينيس. (1) أفلاطون
وقد أفرد أفلاطون لهذه المسألة محاورة كاملة، تنتمي إلى المرحلة الوسيطة من محاوراته، هي محاورة «كراتيلوس» (أقراطيلوس). في هذه المحاور يجري نقاش طويل بين سقراط ومحاوريه: هيرموجينيس وكراتيلوس، يمثل هيرموجينيس الموقف الاصطلاحي القائل بأن منشأ اللغة هو عملية تواطؤ (اصطلاح /اتفاق/تواضع) بين أفراد المجتمع اللغوي على أن يطلق لفظ ما لتسمية شيء معين، والاسم الذي نتفق عليه يغدو، بموجب هذا الاتفاق، هو الاسم الصحيح، فإذا اتفقنا على تغييره والاستعاضة عنه باسم آخر؛ فإن الاسم الجديد يصبح هو الاسم الصحيح. ونحن نغير أسماء عبيدنا فلا يكون الاسم الجديد أقل صوابا من القديم، الطبيعة ليست موكلة بأن تطلق لنا أسماء على الأشياء، بل هذه مهمتنا نحن، التسمية صناعة بشرية ومناط التسمية التكرار والاعتقاد والتواطؤ بين من يقومون بفعل التسمية، وليس ثمة استحالة في أن تطلق نفس الأسماء على أشياء مختلفة تمام الاختلاف، أو أن تعطى نفس الأشياء أسماء متباينة كل التباين، ما دام مستخدمو اللغة قائمين على اتفاقهم بهذا الشأن.
أما كراتيلوس، نصير المذهب الطبيعي في اللغة، فيرى أن الأسماء لا يمكن أن تسبغ على الأشياء كيفما اتفق كما يتصور أصحاب المذهب الاصطلاحي؛ لأن الأسماء تنتمي إلى مسمياتها المحددة انتماء «طبيعيا» «ضروريا»، فإذا ما حاولت أن تتحدث عن شيء ما بأي اسم غير اسمه الطبيعي فإنك ببساطة تفشل في الإشارة إليه فشلا ذريعا. ثمة بالطبيعة طريقة صحيحة للتدليل على الأشياء، واسم صحيح لكل كائن في الوجود، عند الناس جميعا على السواء. وقد كان هيراقليطس مهتما بتحليل الأسماء لأنها تعبر عنده عن ماهية الأشياء، وتأتي بمشيئة إلهية، إنها «توقيف»، وحي، إلهام.
أما رأي أفلاطون، الذي يضعه - كعادته في محاوراته - على لسان سقراط، فهو محير حقا، ويشبه أن يكون وسطا بين الاصطلاحية والطبيعية: طبيعية معدلة، وربما اصطلاحية معدلة! فالأسماء في نظره لا يمكن أن تعطى للأشياء على نحو عشوائي كما يتصور الاصطلاحيون، بل ينبغي أن تسك بمهارة وحذق لكي تؤدي الغرض منها،
3
والغرض منها هو فصل أو عزل الشيء الذي تسميه عن بقية الأشياء وإفراده في عملية الإشارة بشكل دقيق، وذلك بأن يطابق الاسم طبيعة هذا الشيء على نحو ما ... أن يحاكيه بطريقة ما،
4
غير أن واضعي الأسماء الأوائل ليسوا سلطة مطلقة، و«التأثيل» (البحث في أصل الكلمات)
Etymology
ليس طريقا مأمونا لتأسيس الحقيقة ؛ فواضعو الأسماء قد يخطئون، ورغم أنهم كانوا موفقين في المجال الكوزمولوجي إلى حد كبير، فقد أخطئوا في مجال الأخلاق أخطاء فادحة، تلك هي الشوكة المقيمة في صلب المذهب الطبيعي، وفي صلب نظرية التوقيف: وجود الخطأ. كيف نفسر وجود الخطأ؟ إذا كانت هناك قوة إلهية هي التي تطلق الأسماء على الأشياء، فمن أين يأتي الخطأ؟! من هنا رأى أفلاطون أن الأسماء والألفاظ هي الجالبة للفساد ومنها ينشأ الضلال؛
5
لذا وجب أن ننطلق من الأشياء عينها لا من الكلمات التي تشير إليها؛ فالكلمات كالزئبق لا تستقر على حال، بينما الحقيقة ثابتة لا تقبل تغييرا ولا تبديلا.
6 (2) أرسطو
رأينا أن أفلاطون لم يتخذ في مسألة طبيعة اللغة مذهبا محددا، أما العلماء الذين جاءوا بعده فاتخذوا مواقف أكثر حسما؛ فقد أفاد أرسطو من افتراضات أستاذه أفلاطون وطورها، وذهب إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية وأصواتها رموز اصطلاحية ليس لها بالمعاني علاقة طبيعية أو مباشرة أو ضرورية. يقول ابن سينا في تلخيص كتاب أرسطو في العبارة: «فإنها إنما تدل بالتواطؤ، أعني أنه ليس يلزم أحدا من الناس أن يجعل لفظا من الألفاظ موقوفا على معنى من المعاني، ولا طبيعة الناس تحملهم عليه، بل قد واطأ تاليهم أولهم على ذلك وسالمه عليه ...»،
7
غير أن أرسطو يميز بين مستويين أساسيين: مستوى الكلمات والألفاظ والكتابة: وهي تقوم على العرف والاتفاق والتواطؤ والاصطلاح وتختلف باختلاف الأمم والشعوب، ومستوى الأفكار والمعاني والموجودات: وهي واحدة عند جميع الأمم والأجناس. موقف أرسطو إذن هو موقف الاصطلاح على مستوى اللفظ، والضرورة على مستوى المعنى،
8
وللفارابي نص يلخص موقف أرسطو من جميع جوانبه، وربما الموقف الفلسفي برمته من أصل اللغة وعلاقة الأسماء بمسمياتها، يقول فيه: «هذا رأي أرسطوطاليس في القول وفي الألفاظ المفردة جميعا، فإن قوما يرون في الألفاظ المفردة الدالة أنها ليست على طريق المواطأة، فبعضهم يرى أنها بالطبع، وبعضهم يرى أنها آلة استخرجت بالإرادة على ما تستخرج آلات الصنائع، وذلك أنهم يقولون إن كل لفظة دالة فينبغي أن تكون محاكية للمعنى المدلول عليه ومعرفة بطبعها لذات ذلك الشيء ، أو لغرض يكون ملاءمة للمدلول عليه خاصة وتكون اللفظة بطبعها محاكية، مثل قولنا: هدهد، للطائر الذي يحاكي هذه اللفظة صوته الخاص به ... وربما لم تكن بأسرها محاكية، ولكن بعض أجزائها مثل «طنبور» الذي يحاكي الجزء الأول من هذه اللفظة صوت الآلة ... وآخرون رأوا أن الألفاظ المفردة الأولى باصطلاح وتواطؤ، وأما المشتق عن الأول والأسماء المركبة عن الأول فليست باصطلاح، وإنما ألزمت طبيعة الأمر المدلول عليه باسم مركب، أو باسم مشتق من الألفاظ المفردة الأول، وقوم آخرون رأوا هذا في الأقاويل عن الألفاظ التي تدل على أجزاء الأمر المركب الذي يدل عليه القول، وأرسطوطاليس يرى أن جميع ذلك باصطلاح وتواطؤ.»
9
اتخذ أرسطو إذن وجهة نظر عرفية بشكل حازم «فاللغة نتاج العرف، ما دامت الأسماء لا تنشأ بشكل طبيعي، والمحاكاة الصوتية لا تحتم نقض هذا الرأي؛ نظرا لأن صيغ المحاكاة الصوتية تختلف من لغة إلى أخرى، وهي قليلة في فونولوجيا كل لغة على حدة، ورأي أرسطو في اللغة ملخص في بداية
De Interpretatione
كالتالي: الكلام تمثيل للخبرات العقلية، والكتابة تمثيل للكلام.»
10
أما أبيقور (341-270ق.م) فقد اتخذ موقفا وسطا معتقدا أن صيغ الكلمات قد نشأت بشكل طبيعي، ولكنها تغيرت عن طريق العرف. وبشكل أكثر أهمية في تاريخ علم اللغة فإن الرواقيين قد تحيزوا للأساس الطبيعي للغة، معولين إلى حد كبير على المحاكاة الصوتية والرمزية الصوتية: فالأسماء في رأيهم قد صيغت بشكل طبيعي، أي من الأصوات الأولى التي تبدو مثل الأشياء التي تطلق عليها، وهذا الموقف يتفق في الواقع مع تأكيدهم الأعم على الطبيعة بوصفها مرشدا للحياة الإنسانية اللائقة،
11
وفي بحثهم عن أصول الكلمات فقد أولوا أهمية كبيرة ل «الصيغ الأصلية للكلمات»
التي زعم أنها كانت محاكاة صوتية، ولكنها فيما بعد خضعت لتغيرات من أنواع مختلفة.
12
هذان الرأيان المتعارضان لكل من أرسطو والرواقيين رأيان مهمان؛ لأنهما قادا إلى الخلاف اللغوي الثاني للعصور القديمة، وهو القياس مقابل الشذوذ، وهذا الخلاف لم يظهر بشكل جوهري قبل المعالجة الموسعة التي قدمها للمسألة الكاتب اللاتيني فارو
Varro
في القرن الأول قبل الميلاد ... ويبدو واضحا أن أرسطو قد انحاز للقياس، وأن الرواقيين قد انحازوا إلى الشذوذ بوصفه السمة المسيطرة في اللغة،
13
فأرسطو في ذلك أشبه بعلماء البصرة (فيما سيأتي بعد أكثر من ألف عام!) والرواقيون أشبه بالكوفيين. (3) دي سوسير: اعتباطية العلامة اللغوية
ثمة شق آخر من العرف أو التواطؤ ينبغي أن نلتفت إليه: وهو أن هناك أكثر من طريقة لتجزئة العالم وتقطيعه، وكل لغة من اللغات الطبيعية تقوم بذلك على نحو مختلف بعض الشيء، هذه العرفية المزدوجة لكل العلامات اللغوية هي ما يعرف حاليا ب «اعتباطية العلامة»
Arbitrariness of sign ، وهو مصطلح مأثور عن فرديناند دي سوسير (1807-1913)، يقول سوسير: إن العلاقة التي تربط «الدال»
Signifier
ب «المدلول»
Signified
علاقة اعتباطية. ولما كنت أعني بالعلامة اللغوية النتيجة الإجمالية للربط بين الدال والمدلول، فإن بوسعي القول بإيجاز وبساطة: العلامة اللغوية علامة اعتباطية، ففكرة «الأخت»
Sister
لا ترتبط بأية علاقة داخلية مع السلسلة المتتابعة من الأصوات
s-o-r
التي تستعمل كدال بالنسبة لهذه الفكرة في اللغة الفرنسية، إذ يمكن تمثيل هذه الفكرة باستخدام أي سلسلة أخرى من الأصوات، وأكبر دليل على ذلك هو الفروق القائمة بين اللغات، بل وجود لغات مختلفة: فللمدلول «ثور» الدال
b-o-f
على طرف من الحدود (الفرنسية-الألمانية)، و (Ochs) o-k-s
على الطرف الآخر،
14
لقد استخدم لفظ «رمز»
Symbol
للدلالة على العلامة اللغوية، أو على وجه الدقة للدلالة على ما نسميه «الدال». ولكن هناك بعض المصاعب التي تمنعنا من اتخاذه؛ وذلك بسبب مبدئنا الأول نفسه: فللرمز خاصية أنه لا يدرك دوما اعتباطيا، فهو ليس فارغا، بل فيه بقية من رابطة «طبيعية» بين الدال والمدلول، فرمز العدالة مثلا، أي الميزان، لا يمكن أن يستبدل به أي شيء آخر: دبابة مثلا أو عربة!
15
يستدعي لفظ «اعتباطية» الملاحظة التالية: فهذه الكلمة لا ينبغي أن تعطي انطباعا بأن أمر اختيار الدال متروك تماما للمتكلم (وسنرى أنه ليس بمكنة أي أحد أن يغير شيئا في علامة لغوية استتبت في مجتمع لغوي ما)، إنما أعني بالاعتباطية أن العلامة اللغوية ليس لها من سبب، أي أن العلاقة بين الدال والمدلول بها لا تقوم على أية رابطة طبيعية.
16
والاستثناء الوحيد الممكن لهذه الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية هو ما عرف بالأونوماتوبيا
Onomatopoeia
أي التسمية بالمحاكاة الصوتية، حيث تقوم بعض الكلمات بمحاكاة الأصوات التي تسميها (مثل كلمة
Boom
بمعنى هدير أو أزيز، وكلمة
Bow-wow
بمعنى نباح).
17
غير أن دي سوسير سرعان ما يهون من شأن الأونوماتوبيا ويضعها في حجمها: «قد تتخذ الكلمات الأونوماتوبية كدليل على أن اختيار الدال ليس اعتباطيا دائما، غير أن الكلمات الأونوماتوبية ليست عناصر حيوية (عضوية) في بناء النظام اللغوي، ثم إن عددها أقل بكثير مما يعتقد ... كما أن أونوماتوبيتها إنما جاءت نتيجة تصادفية للتطور الصوتي فيها.
أما الكلمات التي هي أمثلة حقيقية للعلاقة بين الصوت والمعنى، مثل
Tuik-Tick ،
Glug-Glug ، فهي قليلة العدد، فضلا عن أن اختيارها يكون عادة بصورة اعتباطية؛ لأنها محاولات تقريبية تعتمد أيضا على العرف، في محاكاة بعض الأصوات (مثال ذلك
Bow-Wow
في الإنجليزية يقابله
Ouaoua
في الفرنسية (نباح الكلب))، ثم إن هذه الكلمات ما إن تدخل اللغة حتى تصبح إلى حد ما خاضعة للتطور اللغوي - الصوتي والصرفي إلخ - الذي تخضع له الكلمات الأخرى (مثال ذلك كلمة
(حمام) مشتقة من اللاتينية العامية
وهذه الكلمة بدورها مشتقة من الصوت الذي يوحي به صوت الطائر)، وهذا دليل واضح على أن هذه الكلمات تفقد شيئا من صفتها الأولى لكي تكسب الصفة العامة للعلامة اللغوية وهي صفة الاعتباطية (انعدام الصلة الطبيعية).
وأما ألفاظ التعجب، وهي ترتبط ارتباطا وثيقا بالكلمات الأونوماتوبية (التي توحي أصواتها بمعانيها)، ويصح عليها أيضا النقد السابق، فهي ليست دليلا على بطلان حجة الاعتباطية في العلامة اللغوية. وقد ينظر المرء إلى ألفاظ التعجب على أنها تعابير تلقائية للحقيقة تمليها على المتكلم القوى اللغوية الطبيعية، ولكننا نستطيع أن نبين عدم وجود علاقة ثابتة بين المدلول والدال في معظم ألفاظ التعجب، فما علينا إلا أن نقارن بين هذه الألفاظ في لغتين حتى نرى اختلافها من لغة إلى أخرى (فلفظة
Aie ! الفرنسية يقابلها
Ouch ! في الإنجليزية)،
18
ثم إننا نعلم أن كثيرا من ألفاظ التعجب كانت في وقت ما كلمات لها معان محددة ، لاحظ: الكلمة الفرنسية
Diable (اللعنة)،
Mordieu (الله) من
Mort Dicu (في الإنجليزية
Zounds Goodness )، إذن فالألفاظ التي توحي بمعناها وألفاظ التعجب ذات أهمية ثانوية، وأصلها الرمزي موضع خلاف.»
19
وقع كثير من النحاة العرب في الغلو في خصائص اللغة، وذهب بهم إعجابهم باللغة العربية بعيدا بحيث تصوروا فيها ما لا وجود له إلا في خيالهم، وأضفوا عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر،
20
من ذلك أنهم كانوا يؤمنون إيمانا قويا بوجود «مناسبة» بين اللفظ والمعنى، أو رابطة عقلية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها، ولا يتصورون أن الأمر يمكن أن يكون اعتباطيا مرده إلى التكرار والعادة، وأن يكون وهما ناتجا عن التداعي وميل العقل إلى الربط والتعميم. يقول ابن جني في كتابه «التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري»: «وقد ذهب بعضهم إلى أن العبارات كلها إنما أوقعت على حكاية الأصوات وقت وقوع الأفعال، ولا أبعد أن يكون الأمر كذلك، ثم إنها تداخلت وضورع ببعضها بعض، ألا ترى أن الخضم لكل رطب والقضم لكل يابس، وبين الرطب واليابس ما بين الخاء والقاف من الرخاوة والصلابة ... وهذا باب إنما يصحب وينجذب لمتأمله إذا تفطن وتأتى له، ولاطفه ولم يجف عليه، ومنه قولهم: «بحثت» التراب ونحوه، وهو على ترتيب الأصوات الحادثة عنده، فالباء للخفقة بما يبحث به عن التراب، والحاء فيما بعد كصوت رسوب الحديدة ونحوها إذا ساخت في الأرض، والثاء لحكاية صوت ما ينبث من التراب فتأمله، فإن فيه غموضا. فأما قولهم: بحثت عن حقيقة هذا الأمر، وبحثت عن حقيقة هذه المسألة فاستعارة للمبالغة في طلب ذلك المعنى، ولا تترك الحقيقة إلى المجاز إلا لضرب من المبالغة، ولولا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المجاز.»
21
وفي «الخصائص»: «فإن كثيرا من هذه اللغة وجدته مضاهيا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا قضم في اليابس، وخضم في الرطب؛ وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك قالوا: صر الجندب ، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صرصر البازي، فقطعوه؛ لما هناك من تقطيع صوته، وسموا الغراب غاق حكاية لصوته، والبط بطا حكاية لأصواتها، وقالوا «قط الشيء» إذ قطعه عرضا، و«قده» إذا قطعه طولا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وقالوا «مد الحبل» و«مت إليه بقرابة» فجعلوا الدال - لأنها مجهورة - لما فيه علاج، وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه.»
22
ثم يقول في الفقرة التالية عليها: «نعم، وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية تخفى علينا لبعدها في الزمان عنا»، وهو شبيه بقول أفلاطون في كراتيلوس: «إن العصور القديمة قد ألقت عليه حجابا.»
وقد ابتدع بعض النحاة، مثل ابن جني وابن فارس، فكرة «الاشتقاق الكبير» زاعمين أن تقلبات الفعل الثلاثي تشير جميعا إلى معنى معين كيفما اختلف ترتيب أصواتها. وفي الخصائص: «وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحدا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيء من ذلك (عنه) رد بلطف الصنعة والتأويل إليه.»
23
وهكذا رد ابن جني أصل «الكلام» (مادة «كلم» وتقاليبها) إلى معنى القوة والشدة، وأصل «القول» (مادة «قول» وتقاليبها) إلى معنى الإسراع والخفة والحركة، ومادة «جبر» إلى القوة والشدة، ومادة «قسو» إلى القوة والاجتماع، ومادة «سلم» إلى الإصحاب والملاينة، وهو لا يدعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، «بل لو صح من هذ النحو وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان ذلك غريبا معجبا، فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد؟»
24
وفي «باب في تصاقب
25
الألفاظ لتصاقب المعاني» يعرض ابن جني لأمثلة على تقارب الألفاظ لتقارب معانيها: من ذلك: تؤزهم أزا، أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزا، والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهز ما لا بال له، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك. ومنه العسف والأسف، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف، فقد ترى تقارب اللفظين لتقارب المعنيين، ومثله تركيب «ع ل م» في العلامة والعلم، ومنه تركيب «ج ب ل» و«ج ب ن» و«ج ب ر» لتقاربها في موضع واحد، وهو الالتئام والتماسك، منه الجبل لشدته وقوته، وجبن إذا استمسك وتوقف وتجمع، ومنه جبرت العظم ونحوه أي قويته، ومنه الغدر والختل، والمعنيان متقاربان، واللفظان متراسلان، فذاك من «غ د ر» وهذا من «خ ت ل» فالغين أخت الخاء، والدال أت التاء، والراء أخت اللام
26 ...
وفي «باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني» يقول ابن جني: «اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا: صر، وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة؛ نحو النقزان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال، ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة ... وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والجرجرة، والقرقرة ... ومن ذلك أنهم جعلوا «استفعل» في أكثر الأمر للطلب، نحو استسقى، واستطعم، واستوهب، واستمنح، واستقدم عمرا، واستصرخ جعفرا ... ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل، فقالوا: كسر، وقطع، وفتح، وغلق ... فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها، وجعلوه دليلا على قوة المعنى المحدث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر وحقحق دليلا على تقطيعه ... فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ... من ذلك قولهم خضم وقضم، فالخصم لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس، قضمت الدابة شعيرها، ونحو ذلك، وفي الخبر «قد يدرك الخضم بالقضم» أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف؛ وعليه قول أبي الدرداء: «يخضمون ونقضم لليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحدث. ومن ذلك قولهم: النضح للماء ونحوه، والنضخ أقوى من النضح، قال الله سبحانه:
فيهما عينان نضاختان
فجعلوا الحاء (لرقتها) للماء الضعيف، والخاء (لغلظها) لما هو أقوى منه ... ومن ذلك أيضا سد وصد، فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد، والمنظرة ونحوها، والصد جانب الجبل والوادي والشعب، وهذا أقوى من السد، الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك (فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى، والسين لضعفها للأضعف)، ومن ذلك القسم والقصم، فالقصم أقوى فعلا من القسم؛ لأن القصم يكون معه الدق، وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما؛ فلذلك خصت بالأقوى الصاد، وبالأضعف السين ... وقولهم: بحث (عرضنا لها آنفا)، ومن ذلك قولهم: شد الحبل ونحوه، فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشد والجذب، وتأريب العقد، فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمة؛ فهي أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد لها ... ومن ذلك أيضا جر الشيء يجره، قدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهو حرف مكرر، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها، واضطرب صاعدا عنها، ونازلا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق، فكانت الراء - لما فيها من التكرير، ولأنها أيضا قد كررت في نفسها في «جر» و«جررت» - أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا محجة هذا ومذهبه ... ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها، ولا يحاط بقاصيها، ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما، من ذلك «الدالف» للشيخ الضعيف، والشيء التالف ... و«الدنف» المريض ... و«الترفة » لأنها إلى اللين والضعف ... «والطرف» لأن طرف الشيء أضعف من قلبه وأوسطه، و«الفرد» لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو ... و«الفتور» للضعف، و«الطفل» للصبي لضعفه ...»
27
ومع تقديرنا العميق لعبقرية ابن جني ونظره اللغوي الثاقب، فليس يخفى ما في بعض أمثلته من التكلف والتعسف، وتمحل العلاقة حيث لا علاقة. يقول د. إبراهيم أنيس: «ألست ترى فيما تقدم قدرا كبيرا من التكلف والتعسف؟ خذ مثلا المادة «سمح» التي لم نعمد إليها عمدا، أو قصدنا إليها قصدا، وإنما كانت أول ما صادفنا حين فتحنا الجزء الأول من قاموس المحيط، أليس منها السماحة التي هي لين ودعة وإشراق؟ ولكن منها أيضا «المسح» وهو إزالة ومحو، ومنها «حمس» بمعنى اشتد وصلب في القتال، ومنها «السحم» الذي هو السواد ولا إشراق في السواد، ثم منها «حسم» بمعنى قطع، والحسوم الشؤم، الليالي الحسوم التي تحسم الخير عن أهلها! فإذا كان ابن جني قد استطاع، في مشقة وعنت، أن يسوق لنا للبرهنة على ما يزعم بضع مواد من كل مواد اللغة التي يقال إنها في معجم صحاح اللغة تصل إلى أربعين ألفا، وفي معجم لسان العرب تكاد تصل إلى ثمانين ألفا، فليس يكفي مثل هذا القدر الضئيل المتكلف لإثبات ما يسمى بالاشتقاق الكبير.»
28 «هكذا نرى أن ابن جني كان ممن يؤمنون إيمانا قويا بوجود الرابطة العقلية المنطقية بين الأصوات والمدلولات أو ما يسميه بعض المحدثين بالرمزية الصوتية، بل لقد غالى ابن جني ومعه الثعالبي صاحب فقه اللغة، إذ جعلا مجرد الاشتراك في أصلين فقط من الأصول الثلاثة دليلا على الاشتراك في معنى عام لبعض الكلمات، فيقرر أن المعنى العام للتفرقة يكون بصوتي «الفاء والراء» والمعنى العام للقطاع يكون «بالقاف والطاء»، إلى غير ذلك من تخيلات وتأملات تشبه أحلام اليقظة عند رجل اشتد ولعه وإعجابه باللغة العربية؛ فتصور فيها ما ليس فيها، وأضفى عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر.»
29
ويرفض البحث اللغوي الحديث هذا كله وإلا فإنه يجب على هذا أن نتصور نوعا من الارتباط بين حروف الفعل «أدرك» وحروف الفعل «فهم» لأن لكل منهما نفس الدلالة؛ وعليه من جهة أخرى أن ننكر من اللغة تلك المئات من الكلمات التي اشتركت لفظا واختلفت معانيها اختلافا بينا (من قبيل: ضرب، فصل، عين ...).
وفي كتابه «دلالة الألفاظ» يقول د. إبراهيم أنيس: «الأمر الذي لم يبد واضحا في علاج كل هؤلاء الباحثين هو وجوب التفرقة بين الصلة الذاتية والصلة المكتسبة، ففي كثير من ألفاظ كل لغة نلحظ تلك الصلة بينها وبين دلالتها، ولكن هذه الصلة لم تنشأ مع تلك الألفاظ أو تولد بمولدها، وإنما اكتسبتها اكتسابا بمرور الأيام وكثرة التداول والاستعمال، وهي في بعض الألفاظ أوضح منها في البعض الآخر، ومرجع هذا إلى الظروف الخاصة التي تحيط بكل كلمة في تاريخها، وإلى الحالات النفسية المتباينة التي تعرض للمتكلمين والسامعين في أثناء استعمال الكلمات. فإذا تصادف أن عني أحد المتكلمين بأصوات لفظ من الألفاظ، واسترعى انتباهه أكثر من غيره، لا يلبث أن يعقد الصلة الوثيقة بينه وبين دلالته، ويتصور نوعا من المناسبة بين تلك الأصوات وما تدل عليه، ويحاول نقل شعوره إلى غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا تصادف أيضا أن أحس فريق من الناس نفس الإحساس، بدأت عملية ذهنية أخرى هي الربط بين هذه الأصوات وأشباهها من الكلمات الأخرى؛ لأن الذهن الإنساني يميل إلى التجميع والتعميم، وتلتقي تلك العملية بعملية نفسية أخرى هي التي تسمى بتداعي المعاني، أي أن المعنى حين يخطر في الذهن يدعو ما يشبهه أو يقاربه، وهنا قد يخطر في الذهن فكرة الربط بين مجموعة من الألفاظ المتشابهة المتقاربة، بمجموعة من المعاني المتشابهة أو المتقاربة، ويترتب على هذا أن يشيع بين أبناء اللغة نوع من الوهم يشعرون معه بوثوق الصلة بين الألفاظ والمدلولات.»
30
وقد عرض الأستاذ العقاد لمسألة المحاكاة الصوتية في كتابه «أشتات مجتمات في اللغة والأدب»، تعقيبا على رأي للأستاذ رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) في اختصاص بعض الحروف بمعان معينة؛ فالفاء للإبانة والوضوح ، والضاد للشؤم، والحاء للمعاني الشريفة القوية . يقول العقاد: «كان الأستاذ برادة يبحث عن أثر الحروف في السمع وعلاقة ذلك بالفصاحة والإقناع، ويعتقد أن الحاء أظهر الحروف أثرا في الإيحاء بمعاني السعة، حسية كانت أو فكرية، ويعمم الحكم فيسوي بين موقع الحاء في أول الكلمة وموقعها في وسطها أو آخرها، ويتمثل بكلمات الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة ... ولقد كان زميله الهلباوي على عادته في الفكاهة والدعابة يسخر من فلسفته «الحائية» كما يسميها، ويقول إن اسم «الحمار» مبدوء بالحاء، وإن أشيع اللفظات على ألسنة النادبات يتردد فيها حرف «الحاء» ... إلا أننا كنا نخالف الأستاذ برادة في تعميم الحكم على الحرف بغير تفرقة بين مواقعه في الكلمات ومواقعه في السماع، وقد ضربنا له المثل بكلمات لا تغيب عن المحامين على التخصيص وهي كلمات «الحبس والحجر والحرج والحد والحساب والحرس» وغيرها من الكلمات التي تناقض معاني السعة بالحس والتفكير.»
31
على أن الأستاذ العقاد ينتهي من هذه المناقشة بقبول مبدأ المحاكاة الصوتية في اللغة العربية بشروط، وبأن العبرة بموقع الحرف من الكلمة لا بمجرد دخوله في تركيبها، وبأن الاستثناء في الدلالة قد يأتي من اختلاف الاعتبار والتقدير، ولا يلزم أن يكون شذوذا في طبيعة الدلالة الحرفية. وما كان العقاد ليفوت فرصة يبين فيها تميز العربية عن غيرها من اللغات دون أن يفيد منها أقصى فائدة ممكنة.
الحق أن ابن جني لا يدعي أن مقارباته المذكورة تشمل اللغة جميعا (واعلم أنا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة)،
32
غير أن هذا يعد تقويضا لفكرة المناسبة بين اللفظ والمعنى، وفكرة العلاقة الطبيعية أو الضرورية بين الدال والمدلول. وإذا كان دأب ابن جني التحرج من التعميم ومن الاندفاع إلى وجهة واحدة من الرأي، فإن من تبعه في تأملاته، ومنهم بعض المحدثين من أهل اللغة، لم يأتموا به في تأنيه وترويه وحصافته العلمية، وأخذهم التعميم المتسرع، وفتنتهم الأمثلة المؤيدة، فقالوا بمناسبة اللفظ لمعناه ولم يتحرزوا من الأمثلة المضادة وهي الأعم والأغلب بما لا يقاس. (4) التعميم المتسرع
يقول جودور أولبورت: «ما نكاد نتلقى «حبة» من الوقائع، حتى نشيد منها «قبة» من التعميمات.» ويقول شكسبير في مسرحية «عطيل»: «ولا تشيد صرحا من الأوهام المزعجة على أساس غير متين من ملاحظاته الناقصة.»
لعل «التعميم المتسرع»
Hasty Generalization
من أكثر الأغلاط المنطقية شيوعا؛ فهو يتبطن الكثير من التحيزات العنصرية والنعرات القومية والتعصب الطائفي والأيديولوجي، كذلك يتبطن التعميم المتسرع كثيرا من الأوصاف النمطية عن الشعوب المختلفة، وعن أهل الأقاليم المحلية، وربما يتبطن كثيرا من اعتقاداتنا حول أصناف المنتجات وماركات الأجهزة التي تقوم في الغالب على بضعة أمثلة من واقع خبرتنا الحياتية القصيرة المحدودة.
حين يسمح المرء لعقله أن يشيد تعميمات عريضة على أساس معلومات شحيحة أو أدلة هزيلة أو أمثلة قليلة أو عينة «غير ممثلة»، فلن يعييه أن يقيض أدلة لكل شيء ويجد بينة لأي دعوى مهما بلغت من السخف والبطلان، ولن يعجزه أن يؤيد أي شيء يميل إلى الاعتقاد به ما دام يعنيه الاعتقاد ولا تعنيه الحقيقة.
ومن الحق أيضا أننا مضطرون إلى التعميم في حياتنا العملية، ولا يسعنا إلا التعميم إذا شئنا أن نفكر في أي شيء أو نتخذ أي قرار، ويبقى أن نتبع الأسلوب العلمي في استخلاص التعميمات، وأن نتجنب التعميم المتسرع جهد استطاعتنا، وأن نملك تعميماتنا ولا تملكنا، أي أن نجعل منها مجرد فروض عمل قابلة للمراجعة والتنقيح لا اعتقادا دوجماطيقيا صلبا يأخذ علينا سبل التأمل ويسد علينا منافذ التفكير.
33 (5) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
يبدو أن لدينا ميلا صميما إلى أن «نؤيد»
Confirm
فرضياتنا بدلا من أن «نفندنا»
Disconfirm ، يفكر الواحد منا هكذا: إذا عثرت على مثال موجب أو أمثلة موجبة أكون قد أيدت فرضيتي، غير أن العثور على مثال يؤيد القاعدة لا يثبت أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثال واحد يكذب القاعدة هو أمر يكفي لأن يثبت كذبها على نحو نهائي حاسم ويقضي عليها قضاء مبرما، التكذيب إذن، وليس التأييد، هو معيار العلم.
34
وفي مجال الاستدلال الإحصائي يعد «انحياز التأييد»
Confirmation Bias (أو انحياز التحقيق
Verification Bias ) ضربا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة. ومن أجل معادلة هذا الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تلزمنا بأن نحاول «تفنيد» أو «تكذيب»
Falsification
فرضياتنا.
يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المخلدة لذاتها» أو «المحققة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحكم تكوينه يجد صعوبة في «معالجة»
الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة.
35 (6) الجرجاني يومئ إلى مبدأ اعتباطية العلامة
لا نعدم من علماء العربية القدامى من نظر إلى اللغة نظرة أعمق، واستكنه جوهر الظاهرة اللغوية، وتفطن إلى اعتباطية العلامة اللغوية بحد ذاتها؛ فهذا عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز» يقول في مفتتح الفصل الثالث: «ومما يجب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بين قولنا حروف منظومة وكلم منظومة؛ وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط وليس نظمها بمقتضى عن معنى (أي ليس واجبا لمعنى اقتضاه) ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه. فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. وأما نظم الكلم فليس الأمر فيه كذلك؛ لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق ...»، ويقول بمعرض بيان الإعجاز في نظم الكلم لا في الكلم ذاته: «فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة، وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر ...»
36
كان الجرجاني حقا ثاقب الفهم لطبيعة الظاهرة اللغوية، ومستبقا لكثير من أفكار دي سوسير وفتجنشتين وسواهما . يقول الجرجاني في الفصل قبل الأخير من «الدلائل»: «اعلم أن ها هنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف من جانب وينكر من جانب آخر، وهو أن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم (علم التراكيب
Syntactics ) والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لنعرفها بها حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: رجل وفرس ودار، لما كان يكون لنا علم بمعانيها، وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعل ويفعل، لما كنا نعرف الخبر في نفسه وفي أصله، ولو لم يكونوا قالوا: افعل، لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده في نفوسنا، وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها؛ فلا نعقل نفيا ولا نهيا ولا استفهاما ولا استثناء. وكيف والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها تبصرها، كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له، ومن هذا الذي يشك أنا لم نعرف الرجل، والفرس، والضرب، والقتل إلا من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد، أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة.»
37
النظم إذن هو مقصد المفردات، ومناط المعنى، وجوهر الفصاحة. (7) الضرورة السيكولوجية في علاقة الدال/المدلول
في كتابه «مسائل في اللسانيات» يؤكد بنفنيست وجود علاقة ضرورية بين الدال والمدلول، ولكن بمعنى سيكولوجي معين، يقول بنفنيست، مقتفيا مصطلحات دي سوسير ومحتذيا حذو حجته: «إن العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل هي على العكس علاقة ضرورية، فالفكرة أو المفهوم (المدلول) «ثور» مماثل في وعيي بالضرورة للمجموع الصوتي (الدال) ث و ر، وكيف يكون الأمر على خلاف ذلك؟ فكلاهما نقشا في ذهني، وكل منهما يستحضر الآخر في كل الظروف، ثمة بينهما اتحاد وثيق إلى درجة أن الفكرة «ثور» هي بمثابة روح الصورة الصوتية ث و ر. إن الذهن لا يحتوي على أشكال خاوية، أي لا يحتوي على أفكار غير مسماة، إن الذهن لا يتقبل من الأشكال الصوتية إلا ذلك الشكل الذي يكون حاملا لتمثل يمكنه التعرف عليه، وإلا رفضه بوصفه مجهولا وغريبا، فالدال والمدلول، التمثل الذهني والصورة الصوتية، هما في الواقع وجهان لأمر واحد ويتشكلان معا كالمحتوي والمحتوى، فالدال هو الترجمة الصوتية للفكرة، والمدلول هو المقابل الذهني للدال، إن هذه الوحدة الجوهرية للدال والمدلول هي التي تضمن الوحدة البنيوية للعلامة اللسانية.»
38
وصفوة القول أن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة ضرورية: ضرورية لا في ذاتها، بل في ذاتنا نحن! (8) سطوة اللغة
لو غيرنا أسماء الأشياء جميعا ونمنا، لصحونا على عالم جديد!
اللغة تشيد العقل وتصوغ الفكر، اللغة هي وسيلتنا لإدراك العالم والتعامل معه، لم تعد اللغة مجرد نافذة شفافة تطل على الواقع الكائن هناك بمعزل عنها وعن الطريقة التي تسمى بها الأشياء، يقول شكسبير: «إن ما نسميه (الوردة) سيظل ينشر عبيره ولو تسمى باسم آخر»، وهو قول حق، وأحق منه إن ما نسميه الوردة سوف تختلف رائحته بعض الشيء لو تسمى باسم آخر؛ لأن العناصر الصوتية للاسم الجديد بجميع مصاحباتها وتداعياتها الممكنة سوف تنفذ إلى جماع الوعي وتعيد تشكيل الوقع الحسي المباشر للوردة. إن معرفتنا بالأشياء وتناولنا للأشياء يتأثران حتما بتسميتنا للأشياء، فالأسماء، الدلالة الإشارية، التغطية الرمزية، هي أداتنا لإدراك الواقع، ومهما بلغ بنا وهم الحرية فإن اللغة التي نستخدمها هي التي ترسم الحدود النهائية للعالم كما نعرفه، وإن الشطر الأكبر من هذه اللغة هو شيء مفروض علينا في حقيقة الأمر، شيء يأتينا «جاهزا» من ثقافتنا المحلية التي نعيش فيها وتعيش فينا. «وأمر اللغة ليس مقصورا على ما بينها وبين الأشياء والكائنات من مغايرة بل هي تتجاوز ذلك إلى التأثير في تصورات الإنسان لها، فالكلمات لا تنزل من الحقيقة منزلة الصور التي تشير إليها وتحاكيها، بل تنزل منزلة القوى التي تخلق عالمها وتقرره، بحيث يظهر الروح لذاته في هذا الديالكتيك الذي لا توجد بمقتضاه إلا «حقيقة واحدة» هي ظهور الموجود المتسق ذي السمات.»
39 «وكما قال همبولت بصدد مشكلة اللغة: يعيش الإنسان مع أشيائه كما تقدمها له اللغة غالبا (بل لك أن تقول حصرا، في حقيقة الأمر، ما دام شعوره وفعله يتوقفان على إدراكاته)، وبنفس العملية التي يغزل بها اللغة من قلب وجوده الخاص فإنه يوقع نفسه في شركها، فكل لغة ترسم دائرة سحرية حول الشعب الذي تنتمي إليه، دائرة لا مفر منها إلا إذا تخطاها إلى دائرة أخرى.»
40
الفصل الخامس
اللغة والمنطق
هي العرب تقول ما تشاء.
من الطبيعي أن يكون بين اللغة والمنطق تداخل معين ومناطق اهتمام مشترك، فاللغة تعبير عن الفكر، وعليها من ثم أن تراعي مقولاته وتراكيبه، والمنطق بحث في الفكر، وعليه من ثم أن يبحث في أمر التعبير عن هذا الفكر، أي في أمر اللغة، وليس من قبيل المصادفة أن لفظة «منطق» نفسها مشتقة من النطق أو الكلام، بل إن معناها الأصلي بالعربية هو «اللغة» أو «الكلام»
علمنا منطق الطير .
يقول التوحيدي في «المقابسات» على لسان أبي سليمان السجستاني: «النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، وجل نظر المنطقي في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي لها كالحلل والمعارض، وجل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يسوغ له الإخلال بالمعاني التي هي لها كالحقائق والجواهر ... وكما أن التقصير في تحبير اللفظ ضار ونقص وانحطاط، فكذلك التقصير في تحرير المعنى ضار ونقص وانحطاط ... النحو نظر في كلام العرب يعود بتحصيل ما تألفه وتعتاده، أو تفرقه وتعلل منه، أو تفرقه وتخليه، أو تأباه وتذهب عنه وتستغني بغيره ... والمنطق آلة بها يقع الفصل والتمييز بين ما يقال: هو حق أو باطل، فيما يعتقد؛ وبين ما يقال: هو خير أو شر، فيما يفعل؛ وبين ما يقال: هو صدق أو كذب، فيما يطلق باللسان؛ وبين ما يقال: هو حسن أو قبيح بالفعل ... قلت: فهل يعين أحدهما الآخر؟ قال: نعم، وأي معونة، إذا اجتمع المنطق العقلي والمنطق الحسي فهو الغاية والكمال ... وبالجملة، النحو يرتب اللفظ ترتيبا يؤدي إلى الحق المعروف أو إلى العادة الجارية، والمنطق يرتب المعنى ترتيبا يؤدي إلى الحق المعترف به من غير عادة سابقة، والشهادة في المنطق مأخوذة من العقل، والشهادة في النحو مأخوذة من العرف، ودليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي، والنحو مقصور، والمنطق مبسوط، والنحو يتبع ما في طباع العرب وقد يعتريه الاختلاف، والمنطق يتبع ما في غرائز النفوس وهو مستمر على الائتلاف ...»
1
وفي خاتمة المقابسة 24 يقول: «وبهذا يتبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو، والبحث عن النحو يرمي بك إلى جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحويا والنحوي منطقيا، خاصة والنحو واللغة عربية، والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها ...»
2
كان هذا الفهم للطبيعة العرفية للنحو في مقابل الطبيعة العقلية للمنطق استباقا مبكرا من التوحيدي والسجستاني للفهم الحديث الذي نجد بداياته في حركة
Vaugelas
في فرنسا الذي قال عبارته المشهورة «إن الفيصل هو الاستعمال، وليس للعقل في اللغة مجال»، وكانت الأكاديمية الفرنسية من أنصار هذا الرأي، إذ كانت تجعل مهمتها عرض «القواعد التي وضعها الاستعمال» و«استخلاص هذه القواعد من ملاحظة اللغة الحية»،
3
فالشهادة في النحو مأخوذة من العرف وعادة أصحاب اللغة، فما تعودوه من أساليب التعبير وما جرت به ألسنتهم وما ألفوه في كلامهم من طرق معينة في التعبير بالألفاظ؛ هذا هو المصدر الوحيد لنحو كل لغة، والمقياس الوحيد للحكم على الصواب أو الخطأ في الحديث بتلك اللغة. (1) منطق اللغة
للغة منطقها الخاص الذي يختلف عن المنطق العقلي والفلسفي، فاللغة في نهاية التحليل هي نتاج أفراد الجماعة اللغوية جميعا على اختلاف تكوينهم ومقتضى أحوالهم، وأفراد الجماعة اللغوية ليسوا أجيالا من الفلاسفة متشربين بمنطق أرسطو. واللغة لا تستلزم من مستخدميها أحكاما عقلية عميقة، وحسبها أن تكون تعبيرا واضحا مفهوما ومتفقا عليه بين الجماعة، والسلطة اللغوية الحاكمة هي «الجماعة اللغوية»، وهي تحكم بموجب «عرف لغوي»، ومحك الصواب والخطأ في اللغة هو السماع والاستعمال، والقواعد في اللغة قابعة في هذا الاستعمال ومطمورة فيه، وينبغي أن تستخرج أو تستخلص منه ولا تفرض عليه من خارج. اللغة عرف ومجاز ولا تسلك دائما مسلكا منطقيا.
سئل الكسائي عن شذوذ «أي» الموصولة في استعمالها عن سائر أخواتها الموصولات، فأجاب: «أي ... هكذا خلقت.» وقد صارت عبارته هذه قولا مأثورا يدل على كل ما يتعين اتباعه كما هو دون سؤال عن العلة العقلية، أو يدل على كل ما ليس له تعليل عقلي؛ لأنه، ببساطة، عرف واتفاق وسماع، ومن ذلك: الظواهر اللغوية، فالظاهرة اللغوية بنت العرف والعادة وليست بنت العقل والمنطق.
اللغة لغة والمنطق منطق، ومن يعمل مقولات المنطق في الظواهر اللغوية أو يقيس اللغة بمعايير المنطق فإنه يغترب عن الظاهرة اللغوية، ويقع فيما يسمى «الخطأ المقولي»
Category mistake ، شأنه شأن من يقول: الأعداد الحمراء، الفضائل البدينة، القضايا غير القابلة للأكل. إنه، باستعارة تعبير كلايف بل، «يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، أو يستخدم تلسكوبا لقراءة جريدة!»
يقول ابن جني: «... هذه اللغة أكثرها جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة، وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه، ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم، وعادتهم في استعمالها.»
4
في كتاب «من أسرار اللغة» يعرض د. إبراهيم أنيس لظواهر لغوية لا تخضع للمنطق، منها «الإفراد والجمع»، فمن اللغات ما يميز الصيغة بين المفرد وغير المفرد (الجمع)، ويتفق في هذا مع التقسيم المنطقي عند الحديث عن الكم ومنها (اللغات السامية) ما يتخذ في الكم ثلاث صيغ: المفرد والمثنى والجمع، بل يذهب البعض إلى أن العربية أمعنت في التمييز فعرفت جمع الكثرة وجمع القلة وجمع الجمع (وهو أمر غامض غير مطرد). وهناك لغات أفريقية تتخذ صيغة للمفرد، وأخرى للمثنى، وثالثة للمثلث، ورابعة للجمع! وما قد يعد مفردا في لغة قد يستعمل جمعا في لغة أخرى (مثل
Shoes
حذاء،
Trousers
بنطال،
Moustaches
شارب،
Scissors
مقص). وفي العربية لا نجمع امرأة ولا نفرد نساء، وقد نستعمل «قدم» ونقصد المثنى (قدمين)، وقد نستعمل المثنى (قفا نبك) ونقصد المفرد أو نقصد حتى الذات! وقد يستعمل الجمع ويراد المثنى
فقد صغت قلوبكما ،
هذان خصمان اختصموا ، وقد يستعمل المفرد ويراد الجمع
هؤلاء ضيفي ،
فإنهم عدو لي ،
ثم نخرجكم طفلا . يقول د. أنيس: «ومهما أجهد اللغويون أنفسهم في تبرير مثل تلك الاستعمالات، فلن يستطيعوا إنكار أنها لا تمت للمنطق العام بصلة؛ وذلك لأن للغات منطقها الخاص.»
5
ومن الظواهر اللغوية التي لا تخضع للمنطق «التذكير والتأنيث»: من اللغات ما يقسم الكيانات إلى مؤنث ومذكر، ومنها ما يقسمها إلى مؤنث ومذكر ومحايد، ومنها ما قصر الأمر على الحي والجماد! وقد يصيب التغير بعض الأسماء المؤنثة فتصبح مذكرا أو العكس، وقد فقدت الفروع الحديثة للاتينية (الفرنسية والإسبانية والإيطالية، والبرتغالية والرومانية) الصيغة المحايدة، وأصبحت الأسماء المحايدة في اللاتينية مؤنثة أو مذكرة في اللغات الجديدة، وروي أن أهل الحجاز يؤنثون الطريق والصراط والسبيل والسوق والزقاق ... وأن بني تميم يذكرون كل ذلك. وقيل إن جمع الجنس كالبقر والتمر والشعير، يذكر ويؤنث، وإن هنا أيضا بعض التفاوت بين القبائل في التذكير والتأنيث. ومعروف أن من الكلمات ما هو مذكر في لغة ومؤنث في غيرها (الشمس مذكر في الفرنسية، مؤنثة في العربية، جائزة الأمرين في العبرية والآرامية)، ويقسم النحاة العرب التأنيث إلى مؤنث حقيقي ومؤنث مجازي، ولكل منهما أحكامه اللغوية، وقد تستعمل الصفة المذكرة للمؤنث (امرأة كاعب، ناهد، عانس، طالق، عجوز، طروب، حامل، مرضع، أيم، عاقر، وبقرة فارض، وناقة شافع ... إلخ) وتستعمل الصفة المؤنثة للمذكر (رجل داهية، علامة، باقعة، نابغة ...)، وتقبل العربية صيغا مثل: «قالت الأعراب»، «قالت اليهود »، «بلدة ميتا»، «السماء منفطر به»، «سبيل الرشد لا يتخذوه»، «هذه سبيلي»،
6
وفي مسألة التذكير والتأنيث بصفة خاصة تتجلى بوضوح عرفية الظاهرة اللغوية وخصوصيتها وتأبيها على المنطق الصوري والرياضي.
و«الأزمنة» في اللغة وطريقة رصدها والتعبير عنها؛ تتفاوت بين اللغات ولا تخضع لمنطق عام يشملها جميعا، ثمة تقسيم سباعي للزمن عند المحدثين: قبل الماضي - الماضي - بعد الماضي - الحاضر - قبل المستقبل - المستقبل - بعد المستقبل. وكثير من اللغات الهندوأوروبية تحرص على التعبير عن معظم تلك الأزمنة. وفي الإنجليزية على سبيل المثال نجد صيغا محددة لهذه الأزمنة السبعة جميعا، أما في الفصيلة السامية فنرى أن معظم لغاتها قد اتخذت صيغا قليلة العدد للتعبير عن تلك الأزمنة السبعة في صورة غامضة بعيدة عن التحديد المنطقي. ويقسم النحاة العرب الأزمان إلى ثلاثة: الماضي والحالي والمستقبل، مكتفين بتلك الأزمنة الأساسية، ولما رأوا للفعل ثلاث صيغ فقد اختصوا كلا منها بزمن من تلك الأزمنة الثلاثة، وجعلوا الفعل المسمى بالماضي لكل حدث مضى وانتهى أمره، إلا أن دخول «قد» على هذا الفعل يقربه من زمن الحال، وجعلوا الأمر للزمن الحالي، وخصصوا المضارع بالمستقبل ولا سيما حين يتصل بالسين أو سوف، وفي قليل من الأحيان جعلوه للحال أيضا، وحين رأوا الخلل يتسرب إلى تقسيمهم من نواح عدة، بدءوا كعادتهم يحملون الكلام العربي ما ليس منه، ويتأولون من النصوص الصحيحة ما ليس بحاجة إلى تأويل أو تخريج، فإذا استعمل الماضي مكان المضارع قالوا لحكمة أرادها المتكلم أو الكاتب، وإذا استعمل المضارع مكان الماضي التمسوا في هذا نكتة بلاغية هللوا لها وكبروا، وما كان أغناهم عن كل هذا التعسف لو أنهم نظروا إلى صيغ الفعل وأساليبها بعيدا عن الفكرة الزمنية، من ذلك ما جاء في الأثر من أن المضارع قد يستعمل مكان الماضي، والعكس أيضا، مثل قوله تعالى:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه
أي سيأتي، وقوله:
واتبعوا ما تتلو الشياطين
أي تلت، ومثل:
وكان الله غفورا رحيما
أي ولا يزال ... إلخ، ولا شك أن ربط الصيغة بزمن معين يحملنا في العربية على كثير من التكلف والتعسف في فهم أساليبها، ومن الواجب أن نفصل بينهما، وأن ندرس أساليب الصيغ مستقلة عن الزمن، دراسة لغوية لا منطقية؛ لندرك ما فيها من جمال وحسن ... وفعل الشرط وجوابه قد يكونان مضارعين، وقد يكونان ماضيين، وقد يكون الأول ماضيا والثاني مضارعا! واستعمالات أخرى مثل «بعتك الدار» أي أبيعك، و«رحمك الله» أي يرحمك، وغير ذلك من أساليب العربية، وفي العبرية أسلوب شائع يستعمل الماضي مكان الأمر مثل: «اذهب وقلت لهذا الشعب»! وصفوة القول أن اللغات بوجه عام قد سلكت طرقا متباينة في ربطها بين الزمن والصيغ، وأن سلوكها وإن كان واضحا كل الوضوح من الناحية اللغوية، لا يمت للمنطق العام بصلة وثيقة.
7
وأخيرا يعرض د. أنيس ل «النفي اللغوي»، فيقول: إن للغات منطقها الخاص، والنفي في اللغات رغم أنه معنى عقلي مشترك بين جميع العقول، عبرت عنه اللغات بسبل وأساليب لا تطابق دائما الأساليب المنطقية أو الرياضية، من ذلك أن قانون عدم التناقض لا يسري على التعبير اللغوي، فاللغة لا تمنع المتحدث من أن يقول إن فلانا غني وغير غني في آن واحد، أو وطني وغير وطني، وفقا لمعنى معين أو تفسير ما، وفي الذكر الحكيم:
هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، لم يجد المفسرون أي صعوبة في فهم ذلك؛ فالله هو الظاهر لأن آثاره بادية للعيان، وهو الباطن لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار، وربما كان من أوضح الفروق بين النفي اللغوي والنفي المنطقي أن نفي النفي ينتج الإثبات في المنطق، ولكنه من الناحية اللغوية ليس إلا تأكيدا للنفي! فاللغات حين تكرر الأداة في موضع ما من الجملة إنما تهدف بهذا إلى توكيد فكرة النفي، لا إلى الإثبات، مثال ذلك قول العامة من الإنجليز:
I haven’t done nothing ، ومثله كثير في جميع اللغات قديمها وحديثها، ذلك أن للغات منطقها الخاص، ولأساليبها طرقها الخاصة التي يجب عرضها وتفسيرها لا في ضوء المنطق العام، بل في ضوء المنطق اللغوي والاستعمال اللغوي، وفي ضوء العوامل النفسية التي قد يتأثر بها المتكلم والسامع حين التعبير عما يدور بخلد كل منهما، بأسلوب لغوي خاص.
8 (2) منهج البحث اللغوي
اللغة ظاهرة اجتماعية، شأنها شأن العادات والتقاليد والطقوس والملابس وطرائق المعيشة، ومن ثم فإن المنهج المناسب لدراستها هو المنهج الاستقرائي الوصفي: ملاحظة الوقائع الجزئية، ثم استخلاص المبادئ العامة التي تنتظمها، وليس المنهج الاستنباطي المعياري الذي يتجه من العام إلى الخاص، ويفرض المبادئ العامة، من فوق؛ ليضمن صواب الفكر واتساقه مع نفسه. يقول د. تمام حسان: «اللغة موضوع من موضوعات الوصف، كالتشريح، لا مجموعة من القواعد كالقانون. والباحث في تشريح الجسم الإنساني لا يتوقع منه أن يعبر عن أفكاره بقوله يجب أن تكون العضلة الفلانية بهذا الوضع، أو يجب أن يكون العظم الفلاني بهذا الحجم أو الصورة، وكذلك الباحث في تشريح اللغة لا ينبغي أن يعبر عن موقفه من موضوعه بالنص على ما يجوز وما لا يجوز، و«هم اللغوي لهذا السبب هو أن يصف الحقائق لا أن يفرض القواعد»، وإن الدراسة الوصفية لتختار مرحلة بعينها، من لغة بعينها، لتصفها وصفا استقرائيا، وتتخذ النواحي المشتركة بين المفردات الداخلة في هذا الاستقراء وتسميها قواعد، فالقاعدة في الدراسة الوصفية ليست معيارا، وإنما هي جهة اشتراك بين حالات الاستعمال الفعلية.»
9
وإذا كان النحاة الأوائل قد اتخذوا منهجا استقرائيا وصفيا يبدأ من جمع النصوص اللغوية وملاحظتها، ويمضي إلى استخلاص القواعد العامة التي تنتظمها، فإن النحاة المتأخرين قد اتخذوا «طريقا عكسيا»
Via negative : فبدءوا من القواعد العامة وفرضوها على النصوص، والحق أنه لم تكن القواعد في الحالتين تعكس لغة العرب كما هي قائمة بالفعل، وإنما تعكس أفكار النحاة وعقولهم التي شكلها المنطق الأرسطي وأثر فيها بالغ الأثر، يقول د. إبراهيم بيومي مدكور في بحثه الشهير «منطق أرسطو والنحو العربي» (المجمع 148): «ولا شك في أن المنطق الأرسطي قد صادف في القرون الوسطى المسيحية والإسلامية نجاحا لم يصادفه أي جزء آخر من فلسفة المعلم الأول: فعرف أرسطو المنطقي قبل أن يعرف أرسطو الميتافيزيقي، وترجم الأرجانون قبل أن يترجم كتاب الطبيعة أو كتاب الحيوان. وللأرجانون
10
في العالم العربي منزلة خاصة، فكانت أجزاؤه الأولى أول ما ترجم من الكتب الفلسفية إلى اللغة العربية، ثم ألحقت الأجزاء الأخرى فترجمت وشرحت واختصرت، وتوالى البحث في المنطق لدى المدارس الإسلامية المختلفة عند الفلاسفة والمتكلمين، بل وعند الفقهاء ... ولم يقف الأمر فيما نعتقد عند الفقه والكلام والفلسفة، بل امتد إلى دراسات أخرى من بينها النحو، وقد أثر فيه المنطق الأرسطي من جانبين: أحدهما موضوعي، والآخر منهجي، فتأثر النحو العربي عن قرب أو بعد بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من قواعد نحوية، وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ما حدده القياس المنطقي.»
وقد أشار اللغوي الإنجليزي روبرت هنري روبنز في كتابه «موجز تاريخ علم اللغة» إلى تأثر النحو العربي بالمنطق الأرسطي، إذ يقول: «نشأ تنافس مهم بين مدارس فقه اللغة المختلفة في العالم العربي، ونلمس التأثير الأرسطي - خاصة في مدرسة البصرة - بوصفه جزءا من التأثير الأوسع للفلسفة اليونانية والعلم اليوناني على المعرفة العربية، وقد شددت مدرسة البصرة على الاطراد الصارم وعلى الطبيعة النظامية للغة بوصفها وسيلة الحديث المنطقي عن عالم الظواهر، وهنا يمكن القول إن أفكار أرسطو عن القياس قد تركت أثرها، وقد أولت مجموعة من العلماء اللغويين في الكوفة أهمية أكبر للاختلاف في اللغة كما هو موجود بالفعل (السماع) بما في ذلك الاختلافات اللهجية وما هو واقع في النصوص كما أقرت، وهذه المدرسة تعتنق إلى حد ما وجهات نظر «شذوذية»
Anomalist ... على أنه من المؤكد أن اللغويين العرب قد طوروا وجهات نظر خاصة بهم في دراستهم النظامية للغتهم، ولم يفرضوا عليها بأي حال النماذج اليونانية مثلما فعل النحاة اللاتين.»
11
ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يملي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا قنعت بأن اللغة عرف اجتماعي اتفاقي فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح، أما إذا امتلأت بأنها «توقيف» إلهي
12
أو اصطلاح حكماء أو سليقة عربية سحرية فسوف يتملكك وسواس البحث عن الحكمة أو «العلة»، وسوف تصطنع في دراستها القياس والتعليل والتأويل .
ليست العربية توقيفا إلهيا، لقد اخترعت اللغة كما يقول هيردر «بوسائل الإنسان الخاصة، ولم تبتكر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية، لم يكن الله هو الذي اخترع اللغة للإنسان، ولكن الإنسان نفسه هو الذي اضطر إلى اختراعها بطريق ممارسته قدراته الخاصة.» وليست اللغة اصطلاحا بين حكماء، من البشر أو غير البشر، كما بينا ذلك في موضعه، وليست اللغة سليقة عربية سحرية تتلبس بالأعراب وتسري منهم مسرى الدم وتجعلهم المفوضين في اللغة وتكسبهم معرفة بمواقع الكلام وعللا تقوم في العقول، وإنما اللغة اكتساب وتعلم اجتماعي بالممارسة والاعتياد.
فإذا ما تخلى الباحث عن المنهج الوصفي الاستقرائي ولجأ إلى التفكير القياسي المعياري يكون قد نأى بنفس القدر عن مجال عمله وجعل دراسته مؤسسة على المنطق. وفي مستهل كتابه «علم اللغة العام» يقول دي سوسير: «لقد اهتم الدارسون في بادئ الأمر بفرع من فروع المعرفة سمي بالنحو. إن هذه الدراسة التي بدأها الإغريق وأخذها عنهم الفرنسيون اعتمدت على علم المنطق، وهي تفتقر إلى النظرة العلمية ولا ترتبط باللغة نفسها، وليس لها من هدف سوى وضع القواعد التي تميز الصيغ الصحيحة وغير الصحيحة، فهي دراسة معيارية تبتعد كثيرا عن الملاحظة الخالصة للوقائع، ومجالها محدود ضيق.»
13
لقد كانت دراسة اللغة تدور في مبدأ الأمر على تلقي النصوص من أفواه الرواة، ومشافهة الأعراب وفصحاء الحاضرة، فكان ثمة مجال للاستقراء واستخلاص القاعدة من تقصي سلوك المفردات والأمثلة، ومن ثم رأينا الدراسات العربية الأولى تتسم بالوصف، وتنأى إلى حد كبير عن المعيار، ثم وضع حد فاصل انتهى عنده عصر الاحتجاج، وجاء وقت كان الرواة عنده قد أفرغوا ما في جعبتهم، وبذا جفت روافد الرواية، وانحسر المد الذي كان يفيض على الحواضر، فوجد النحاة أنفسهم وجها لوجه مع تجربة جديدة، هي أن يتكلموا في النحو دون اعتماد على روايات جديدة، وبذا أصبحت الروايات القديمة مقاييس متحجرة كان من الواجب في رأي النحاة على طلاب الفصاحة أن يحتذوها، وبدأ الكلام عند هذا الحد فيما يجوز وفيما لا يجوز من التراكيب، بل بدأ الكلام فيما يجب منها أيضا.
14
وثمة ما يشير من الوجهة التاريخية إلى أن المنطق الأرسطي نشأ متأثرا بالنحو الإغريقي، وأن النحو العربي نشأ متأثرا بالفكر الأرسطي، فقد استعان أرسطو في وضعه للوحة «المقولات»
Categories
بالتقسيمات اللغوية، ثم جاء النحو العربي فورث عن أرسطو خلطه بين النحو والمنطق، وعمل على تطبيق المقولات الأرسطية العشر على اللغة، كما أخذ عن أرسطو أقيسته المنطقية وعلله الأربع، وسعى إلى تطبيقها في المسائل النحوية، وكانت النتيجة كارثية كشأن أي محاولة لفرض قوالب شيء على شيء آخر من غير جنسه. (3) المقولات الأرسطية
كلمة «قاطيغورياس» عند أرسطو تعني الإضافة أو الإسناد، ومن ثم فالمقولات
Categories
هي أمور مضافة أو مسندة أو «مقولة»، أي «محمولات»
، أو بتعريف أدق: المقولة معنى كلي يمكن أن يدخل محمولا في قضية. والمقولات الأرسطية العشر تقابل جميع الأجوبة التي تقال عن جملة الأسئلة التي يمكن أن تثار بصدد شيء ما. وهذه الأسئلة عشرة يجاب عنها بعشرة محمولات، فإذا اتخذنا من الإنسان مثلا كانت الأسئلة والأجوبة كما يأتي:
15
سؤال
جواب
ما هو؟
جوهر
ما كميته؟ بدين أم نحيف؟ طويل أم قصير؟
كم
أهو طيب أم رديء؟ عالم أم جاهل؟
كيف
أهو أب أم ابن؟ سيد أم خادم؟
إضافة
ماذا يفعل؟
فعل
ماذا يقبل؟ ماذا يصيبه؟
انفعال
ما مقره؟ أين هو؟
مكان
في أي وقت؟
زمان
ما هيئته؟ أهو جالس أم نائم أم قائم؟
وضع
ماذا يلبس؟
ملك
مقولة الجوهر:
نظر النحاة إلى اللغة نظرتهم إلى الأشياء فجعلوا للكلمة «جوهرا»
Substance ، ورأوا أن جوهر الكلمة لا يتغير إلا بإعلال أو إبدال، بل إن للجملة جوهرا، ومن ثم فإذا غاب شيء من هذا الجوهر تعين علينا تقديره، خذ مثلا عبارة «زيد قام»، فإن «قام» هنا فيها ضمير فاعل تقديره «هو»، ولا يصلح «زيد» أن يكون فاعل «قام» لأن الفاعل لا يتقدم على فعله (وفقا لمقولة المكان التي ستأتي)، وإذ لا بد للفعل من فاعل فنحن «نقدره» هنا على أنه الضمير «هو».
مقولة الكم:
يقول د. تمام حسان إن النحاة «ربما عرفوا أن المدة
Duration
التي يستغرقها نطق صوت من الأصوات لا تتناسب طردا ولا عكسا مع كميته الطولية
Quantity ، ومع هذا أصروا على خلق وحدات طولية فكرية في دراسة الأصوات العربية، فالحرف المشدد بحرفين وإن قصرت مدته عن مدة الحرف المفرد في بعض النطق، والفتحة نصف الألف اللينة في نظرهم إذا كانت كتلك القصيرة المدة التي في آخر «منى» من قولنا «منى النفس»، والتفكير المنطقي هنا واضح كل الوضوح، وعلى الأخص إذا عرفنا أن بعض التجارب الآلية التي قمت بها على لهجة عدن قد برهنت إلى درجة تعزز ملاحظتي الخاصة تعزيزا كاملا على أن الصوت المفرد الأخير الساكن في الكلام أطول من نظيره المشدد في الوسط من جهة المدة وإن كان أقصر منه من جهة الكم.»
16
مقولة الكيف:
يتضح تطبيقها من نسبة كيفيات استعدادية لبعض الأفعال الثلاثية (مثل المقصور والأجوف والناقص) ولبعض الأسماء (المقصور، المنقوص ...) وبعض الحروف (الألف اللينة)، ومن ذلك أيضا التقسيم إلى مفرد ومثنى وجمع واتصاله بفكرة الكيفيات الكمية.
مقولة الزمان:
أما تطبيق مقولة الزمان على دراسة اللغة بلا تفريق بين الزمان الفلسفي والزمن النحوي فواضح في تقسيم الفعل دون نظر إلى استعمالاته، فالفعل إما ماض أو مضارع أو أمر، والماضي ما دل على حدث مضى قبل زمن التكلم، والمضارع ما دل على حدث في الحال أو الاستقبال ... إلخ. ويضطر النحاة بعد هذا التقسيم المنطقي أن يعتذروا كلما خذلهم الاستعمال النحوي، فهم يعتذرون عن الفعل المضارع الدال على المضي حين يقترن بلم، ويعتذرون عنه في تعبير مثل «إن تكن عاد قد بادت فما بادت خصالها»، وعنه في قوله تعالى:
قد يعلم الله المعوقين منكم ، وعن الماضي في قوله تعالى:
وكان الله غفورا رحيما ، وفي قوله تعالى:
إذا جاء نصر الله والفتح
إلخ، كل ذلك لخلطهم في التفكير بين الزمان الفلسفي والزمن النحوي، ولو أعطوا للزمن النحوي وظيفة التفريق بين الصيغ لا الدلالة على المضي والحضور والاستقبال لكان ذلك أشبه بالدراسة النحوية.
مقولة المكان:
لهذه المقولة نفوذ كبير على تفكير النحاة يتجلى في:
تقدير الحركات على أواخر الكلمات سواء منع من ظهورها الثقل أو التعذر.
فكرتي الإعلال (تغيير شكل في مكان معين) والإبدال (بوضع شيء مكان شيء آخر).
ضرورة أن يكون الفاعل بعد الفعل، وقد سبق أن قلنا في مقولة الجوهر: إنه في عبارة «زيد قام» لا بد للفعل «قام» من فاعل، ولا بد أن يكون هذا الفاعل بعد الفعل، ومن الواضح أن هذه قواعد ذهنية مفروضة على الصيغ، والصيغ في غنى عنها ودالة بذاتها.
مقولة الإضافة:
فهم النحاة العرب كل فعل بالإضافة إلى فاعله، فإذا لم يكن للفعل فاعل مذكور في الجملة فلا أقل من أن يقدره النحاة ليكون تفكيرهم متمشيا مع منطق المقولات، وهنا نعود مرة أخرى إلى مثال ابن مضاء (زيد قام) لنقول: إن زيدا برغم كونه موجودا في الجملة لم يصلح فاعلا لتحكم فكرة المكان، فالفاعل يأتي بعد الفعل لا قبله، وإذا لم يصلح فاعلا فلا بد إذن أن نقدر فاعلا في الجملة، برغم أن صيغة الفعل الماضي تدل هنا بشكلها ودون الحاجة إلى تقدير على أن الفاعل مذكر غائب، ولو كان غير ذلك لغيرت صيغة الفعل، ومقولة الإضافة أيضا مسئولة عن فكرة الإمالة فالاسم الممال إنما اعتبر ممالا بالإضافة إلى اسم آخر ألفه صريحة بقطع النظر عن أن كلا منهما أصل في لهجته الخاصة به، ولو درسنا اللهجة التي فيها الإمالة بمفردها ما احتجنا إلى التفكير في هذا الباب على الإطلاق، ولكن النحاة العرب أبوا إلا أن يدرسوا مجموعة من اللهجات في نحو واحد، ومن هنا جاءت شدة الاضطرار إلى التقسيم إلى شاذ ومطرد.
مقولة الوضع:
مسئولة عن فكرة الوضع الإعرابي الذي يفرض على الجملة برغم امتناع ظهور حركة إعرابية عليها، فتكون في محل رفع خبرا (مثل «قام» في زيد قام)، أو في محل نصب حالا، أو في محل جر صفة، أو في محل نصب مقول القول ... إلخ.
مقولة الملك:
مسئولة عن تهميش الحركات (الفتحة، الكسرة، الضمة، السكون ...) في اللغة العربية، وتحولها إلى مجرد «علامات » على الحروف الصحيحة، رغم أنها حروف في كل لغات العالم، فالحرف الصحيح في اللغة العربية يكون مضموما (ب) أو مفتوحا (ب) أو مكسورا (ب) ... إلخ وكأن الحركة مجرد وصف للحرف الصحيح و«ملك» يمين له! غير أن العروضيين قد قلبوا الأوضاع فأعلوا شأن الحركات وألغوا الحرف إلغاء، فرمزوا بالشرطة إلى الحرف ذي الحركة (متحرك -)، وبالدائرة إلى الحرف الساكن أو المد (ساكن ° ).
مقولة القابلية والفاعلية:
المقولة التاسعة مقولة «ينفعل» والانفعال هو قبول أثر المؤثر، والمقولة العاشرة هي مقولة «يفعل» وهو التأثير في الشيء الذي يقبل الأثر، مثل التسخين والتسخن، والقطع والانقطاع،
17
وهاتان المقولتان هما من وراء نظرية العامل في النحو، «فإذا كان الشيء إما فاعلا وإما قابلا فلماذا لا تكون الكلمات كذلك؟ ولماذا لا يكون بعض الكلمات عاملا في بعضها الآخر؟ مثال ذلك «حضر زيد» فإن كلمة «زيد» قبلت تأثير الفعل «حضر» وهو الرفع على الفاعلية وحركته (الضمة) هي ملك الحرف الأخير، الدال (مقولة الملك)، ومثال آخر: «عليك نفسك» فإن كلمة «نفس» قبلت تأثير اسم الفعل «عليك» وهو النصب على المفعولية، وحركته (الفتحة) تخص الحرف الأخير (السين) وتتبعه.»
لقد رأى النحاة الإعراب بالحركات وغيرها عوارض للكلام تتبدل بتبدل التركيب، على نظام فيه شيء من الاطراد، فقالوا: عرض حادث لا بد له من محدث، وأثر لا بد له من مؤثر، ولم يقبلوا أن يكون المتكلم محدث هذا الأثر؛ لأنه ليس حرا فيه يحدثه متى شاء، وطلبوا لهذا الأثر عاملا مقتضيا، وعلة موجبة، وبحثوا عنها في الكلام، فعددوا هذه العوامل، ورسموا قوانينها ... لقد تصوروا «عوامل» الإعراب كأنما هي موجودات فاعلة مؤثرة، قال الإمام الرضي: «والنحاة يجرون عوامل الإعراب كالمؤثرات الحقيقية.»
18
وقد عدد الجرجاني العوامل المائة وقسمها إلى فئات، فبدت شديدة السهولة والوضوح، غير أنها تعرضت في مطولات النحو للاضطراب والتعقيد من نواح عديدة: ناحية العامل الواحد في إعماله أو إهماله، وناحية توجيه المعمول الواحد حسب عوامل مختلفة، وغير ذلك مما يشق على الحبر المتخصص بله القارئ العادي، ومما جعل باحثا مثل د. تمام حسان يقول في ختام تناوله لنظرية العامل في كتابه «اللغة بين المعيارية والوصفية»: «ما العامل إذن؟ الحقيقة أنه لا عامل. إن وضع اللغة يجعلها منظمة من الأجهزة، وكل جهاز منها متكامل مع الأجهزة الأخرى، ويتكون من عدد من الطرق التركيبية العرفية المرتبطة بالمعاني اللغوية، فكل طريقة تركيبية منها تتجه إلى بيان معنى من المعاني الوظيفية في اللغة، فإذا كان الفاعل مرفوعا في النحو فلأن العرف ربط بين فكرتي الفاعلية والرفع دون ما سبب منطقي واضح، وكان من الجائز جدا أن يكون الفاعل منصوبا، والمفعول مرفوعا، لو أن المصادفة العرفية لم تجر على النحو الذي جرت عليه. المقصود من أية حركة إعرابية إذن هو الربط بينها وبين معنى وظيفي خاص، وقد جاءت هذه الحركة في نمطية اللغة على هذه الصورة لأن العرف ارتضاها كذلك، والشرط الوحيد في كل ذلك أن يكون هناك ارتباط تام بين اختلاف الحركات واختلاف الأبواب النحوية التي ترمز إليها، أي أن يراعى في الفرق بين باب الفاعل وباب المفعول مثلا أن يعبر عنه بفرق شكلي يظهر بين الحركة الإعرابية الدالة على الفاعل وبين الحركة الإعرابية الدالة على المفعول ... وذلك هو المقصود بقول ابن جني: ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكنا.»
19 (4) العلة
مرت بنا هيفاء مقدودة
تركية تنمى لتركي
ترنو بطرف ساحر فاتر
أضعف من حجة نحوي «العلة» هي ما يؤثر في غيره ويقابل «المعلول». والعلل عند أرسطو أربع: فاعلة كالنجار الذي يصنع الكرسي، ومادية وهي الخشب الذي يصنع منه، وصورية وهي الهيئة التي يتم عليها شكله، وغائية وهي الجلوس عليه. وقد تسرب التعليل من المنطق الأرسطي إلى النحو العربي، ثم نما وتضخم وتحول إلى صناعة فكرية تجهد الذهن ولا تعود بفائدة على النطق.
فقد قسم النحاة العلل النحوية إلى نوعين: نوع يؤدي إلى معرفة كلام العرب، كقولنا: كل فاعل مرفوع. ونوع آخر يسمى «علة العلة» مثل أن يقولوا: لم صار الفاعل مرفوعا والمفعول به منصوبا؟ ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحا قلبتا ألفا ؟ وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها، وتبين بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات.»
20
يطلق الزجاجي على النوع الأول «العلل التعليمية»، وعلى الثاني «العلل القياسية» و«العلل الجدلية والنظرية»، ويطلق ابن مضاء على النوع الأول «العلل الأول» (بمعرفتها تحصل لنا المعرفة بالنطق بكلام العرب) في مقابل «العلل الثواني والثوالث» وهي «لا تفيدنا إلا أن العرب أمة حكيمة»، ويقسم العلل أيضا إلى «علل كسب» تكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، و«علل حكمة» تظهر لنا حكمتها في الأصول التي وضعتها.
ومنذ البداية يطالعنا خلط في استخدام النحاة لمصطلح «التعليل» نفسه! فهم تارة يستخدمونه للإشارة إلى طريقة عمل النظام اللغوي، وهو ما نسميه اليوم ب «الوصف»، وتارة يستخدمونه بمعنى «السبب الذي يجعل النظام اللغوي يعمل بالطريقة التي يعمل بها»، وهو المعنى الصحيح والقويم لكلمة «التعليل». وإن هذا الخلط المبدئي ليعكس خلطا في الفهم نفسه، ولقد كان ينبغي أن يقيض مصطلح خاص لكل من العمليتين المختلفتين اختلافا نوعيا.
من المسلم به اليوم أن العلم لا يخوض في العلل الغائية للظواهر، وأن المنهج العلمي لا يعنيه إلا وصف الظواهر واستخلاص القوانين التي تطرد عليها، وباختصار: لا يعنيه إلا الإجابة عن «كيف»، أما إذا تخطى هذا النطاق إلى السؤال عن «لماذا» (لماذا تجري الظواهر على هذا النحو) فإنه يكون قد تخطى مجاله وتنكر لطبيعته ولم يعد منهجا علميا، «فالعلل الغائية غير معترف بها علميا لأنها تتكلم أكثر عن أمور غيبية لا سبيل إلى اختبار صدقها أو كذبها ... ومن قبيل العلل الغائية علل النحاة التي يوردونها لرفع الفاعل، والمبتدأ والخبر، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إن، وفي نصب المنصوبات، وفي منع بعض الأسماء من الصرف، وفي بناء المبنيات، وإعراب المعربات، وهلم جرا.»
21
ولكن ما احتيالك فيمن شرع في بحثه اللغوي وقد وقر في قلبه أن اللغة توقيف إلهي أو وضع حكماء أو سليقة سحرية؟ إنه مدفوع إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه الظواهر اللغوية التي لم تأت عبثا ولم تنشأ اعتباطا. يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة الله فيما صنعه» (التوقيف). ويقول سيبويه: «وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها» (حكمة العرب). ويقول الزجاجي في «الإيضاح في علل النحو»: «سئل الخليل بن أحمد رحمه الله عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أصبت العلة فهو الذي التمست، وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: «إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلولات فليأت بها»، وهذا مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه.»
22 (4-1) تفصيل العلل
يشير السيوطي في «الاقتراح» إلى أن أبا عبد الله الحسين بن موسى الدينوري الجليس قد ذكر أن «اعتلالات النحويين صنفان: علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم، وعلى تظهر حكمتهم وتكشف صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم، وهم للأولى أكثر استعمالا وأشد تداولا، وهي واسعة الشعب إلا أن مدار المشهورة منها على أربعة وعشرين نوعا ... وشرح ذلك التاج بن مكتوم في «تذكرته» فقال: قوله «علة سماع» مثل قوله «امرأة ثدياء» ولا يقال «رجل أثدى»، وليس لذلك علة سوى السماع. و«علة تشبيه» مثل إعراب المضارع لمشابهته الاسم، وبناء بعض الأسماء لمشابهتها الحروف. و«علة استغناء» كاستغنائهم ب «ترك» عن «ودع». و«علة استثقال» كاستثقالهم الواو في «يعد» لوقوعها بين ياء وكسرة. و«علة فرق» وذلك فيما ذهبوا إليه من رفع الفاعل ونصب المفعول وفتح نون الجمع وكسر نون المثنى. و«علة توكيد» مثل تعويضهم الميم في «اللهم» من حرف النداء. و«علة نظير» مثل كسرهم أحد الساكنين إذا التقيا في الجزم حملا على الجر؛ إذ هو نظيره. و«علة نقيض» مثل نصبهم النكرة ب «لا» حملا على نقيضها «إن». و«علة حمل على المعنى» مثل «فمن جاءه موعظة» ذكر فعل الموعظة وهي مؤنثة حملا لها على المعنى وهي الوعظ. و«علة مشاكلة» مثل قوله: «سلاسلا وأغلالا». و«علة معادلة» مثل جرهم ما لا ينصرف بالفتح حملا على النصب ثم عدلوا بينهما فحملوا النصب على الجر في جمع المؤنث السالم. و«علة مجاورة» مثل الجر بالمجاورة في قولهم «جحر ضب خرب»، وضم لام «لله» في «الحمد لله» لمجاورتها الدال. و«علة وجوب» وذلك تعليلهم برفع الفاعل ونحوه. و«علة جواز» وذلك ما ذكروه في تعليل الإمالة من الأسباب المعروفة فإن ذلك علة لجواز الإمالة فيما أميل لا لوجوبها. و«علة تغليب» مثل
وكانت من القانتين . و«علة اختصار» مثل باب الترخيم
ولم يك . و«علة تخفيف» كالإدغام. و«علة أصل» ك «استحوذ» و«يؤكرم» وصرف ما لا ينصرف. و«علة أولى» كقولهم إن الفاعل أولى برتبة التقديم من المفعول. و«علة دلالة حال» كقول المستهل: «الهلال»، أي «هذا الهلال» فحذف لدلالة الحال عليه. و«علة إشعار» كقولهم في جمع موسى: موسون بفتح ما قبل الواو إشعارا بأن المحذوف ألف. و«علة تضاد» مثل قولهم في الأفعال التي يجوز إلغاؤها متى تقدمت وأكدت بالمصدر أو بضميره: لم تلغ؛ لما بين التأكيد والإلغاء من التضاد، قال ابن مكتوم: وأما «علة التحليل» فقد اعتاص علي شرحها وفكرت فيها أياما فلم يظهر لي فيه شيء. وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ: قد رأيتها مذكورة في كتب المحققين كابن الخشاب البغدادي حاكيا له عن السلف، في نحو الاستدلال على اسمية «كيف» ينفي حرفيتها لأنها مع الاسم كلام، ونفي فعليتها لمجاورتها الفعل بلا فاصل، فتحلل عقد شبه خلاف المدعي، انتهى. وأما الصنف الثاني فلم يتعرض له الجليس ولا بينه.»
23
قال السيوطي: وبينه ابن السراج في «الأصول» أنه هو المسمى «علة العلة»، مثل أن يقولوا: لم صار الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا؟ وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما يستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها.
ويتساءل د. محمد عيد في «أصول النحو العربي»: «لكن ... أحقا كان النحاة للأولى أكثر استعمالا وأشد تداولا - كما يقول الدينوري - أم أنها، بفعل الصنعة، قد فقدت سماتها، ووسمت بالصفة الثانية، فغلب عليها الجدل والنظر؟ إن كتب النحو المتأخرة اختفت فيها العلل التي عرف بها كلام العرب تحت ركام هائل من المجادلات والمساجلات في العلل.»
24 (4-2) اعتراضات ابن مضاء
كان ابن مضاء هو أول (وآخر!) من صرح بوضوح تام بضرورة سقوط هذا النوع من العلل من النحو. يقول ابن مضاء في «الرد على النحاة»: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيد» لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا نطقت به العرب، ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر، ولا فرق بين ذلك وبين من عرف أن شيئا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه على غيره، فسأل لم حرم؟ فالجواب على ذلك غير واجب على الفقيه، ولو أجبت السائل عن سؤاله بأن تقول له: للفرق بين الفاعل والمفعول فلم يقنعه، وقال: فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له: لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد، والمفعولات كثيرة، فأعطي الأثقل، الذي هو الرفع، للفاعل، وأعطي الأخف، الذي هو النصب، للمفعول؛ لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة، ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون، فلا يزيدنا ذلك علما بأن الفاعل مرفوع، ولو جهلنا ذلك لم يضرنا جهله، إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا، باستقراء المتواتر، الذي يوقع العلم.»
25 (4-3) اعتراضات المحدثين
يقول الأستاذ عباس حسن: «إن علوم العربية على اختلاف فروعها وتعدد أنواعها مستقاة من الكلام العربي الأصيل، ومردها جميعا إلى ما نطق به الفصحاء من أهل الضاد الذين يستشهد بكلامهم ويحتج بلسانهم. فإذا نطقنا باللفظ المفرد أو المركب، وصغنا الأسلوب صياغة خاصة، وجرينا في تأليفه على نظام معين؛ فلا تعليل لذلك إلا محاكاة العرب والنسج على منوالهم، ولا شيء غير هذا، ولو أن سائلا سألني: لم بنيت الكلمة على ثلاث أو أكثر؟ ولم ضبطت حروفها بضبط خاص؟ ولم جريت في تركيب الأسلوب على نظام معين؟ ولم ... ولم ... ولم؟ ما كان الجواب إلا واحدا: هو أني في هذا المقام أحاكي ما فعله العرب في مثله، وأنقل عنهم طريقتهم، وآخذ من مادتهم ووسائل استخدامها مثل ما كانوا يأخذون. وكذلك جواب كل فرد؛ فالكلمات التي ننطق بها اليوم من حيث مادة تكوينها ومن حيث مظاهر هيئاتها المتعلقة بوضعها في الجملة وبضبط حروفها، إنما نخضع في شأنها للمأثور عن العرب وحده وليس ثمة ما نخضع له طائعين أو مرغمين إلا ذلك المأثور، وكل إجابة غير هذه فضول وهزل لا صواب فيه ولا جد ولا أمانة.»
26
والأستاذ عباس حسن، كما هو معروف، حجة في علم النحو، وكتابه «النحو الوافي» هو المرجع الأكبر في هذا العلم، ومن ثم كان لرأيه ثقل خاص في هذا الشأن. يقول الأستاذ عباس حسن: «لم رفعت أواخر الكلمات؟ لم نصبت أو جرت أو جزمت؟ لم كانت على وزن فعل، أو فاعل، أو ... أو ...؟ لم تقدمت في أسلوبها أو تأخرت؟ لم ذكرت أو حذفت؟ لم كان هذا التعبير أبلغ وأقوى من ذاك؟ لم كان هذا أرق وأعذب؟ لم ... لم ...؟ لا شيء إلا مجاراة العرب الفصحاء، والأخذ بمنهاجهم فيما نحن بصدده، مع التصرف المحمود في حدود ذلك المنهاج، والتزام أصوله العامة بحيث نوائم بينه وبين حرية التصرف المأمونة.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فما هذه العلل والتعليلات المرهقة التي تطفح بها المراجع النحوية، وتضيق بها صدور المعلمين وأوقاتهم ممن كتب الله عليهم الرجوع إلى تلك المطولات لاستخلاص بعض القواعد النحوية؟ إن النظرة العجلى الصائبة لتحكم من غير تردد بأن جميع هذه العلل والتعليلات زائفة لا تمت للعقل بصلة ولو كانت واهية. وإن احترام ذلك العقل يفرض علينا نبذها وتطهير النحو منها، اللهم إلا من ذلك النوع، الصحيح والصادق الذي يسمونه: «علل التنظير» يريدون به ما أشرنا إليه قبلا حين ترفع آخر كلمة أو تنصبه أو تجره، وحين تجعل الكلمة على وزن معين، وتسلك به في التركيب مسلكا خاصا، لم رفعتها؟ لأنها نظير زميلتها في كلام العرب، ولم نصبتها أو جررتها أو جزمتها؟ للسبب السالف، ولم جعلتها على وزن كذا؟ ولم قدمتها أو أخرتها؟ لم استخدمتها أداة استفهام، أو حصر، أو نفي، أو مدح، أو ...؟ ...؟ لأن نظيرتها في كلام العرب كذلك.»
27
ويرى د. تمام حسان أن استحواذ الفكر الغائي على عقول النحاة هو ما دفعهم إلى انتحال العلل وانتفاخ كتب النحو بلا مبرر، «ولو لجأ النحاة إلى العرف فاعتبروه مصدرا وحيدا للغة لما اضطروا إلى انتحال العلل ثم الدفاع عن ذلك الانتحال فيما بعد.»
28
وفي كتابه «أصول النحو العربي» يرصد د. محمد عيد تعليلات النحاة ويردها إلى: حكمة الله، ونية العرب، والطبيعة والإحساس، وما نقل عن العرب: أما حكمة الله في الصيغ وأوضاع الكلام، ونية العرب في النطق، فمما لا يدخل في طوق الباحث؛ لأنها أمور غيبية لا شأن لها باللغة، وأما الطبيعة والإحساس (بالخفة أو الثقل، والأنس بالشيء أو الاستيحاش منه) فمما لا يمكن ضبطه، بل ذلك مما يخضع فحساس النحوي وطبيعته، وأما ما نقل عن العرب (من تعليلات لنطقهم) فهو تعليل ساذج لا يقاس بما صنعه النحاة من غرائب العلل، والحقيقة أن ذلك كله تسويغ لما حدث، وليس حقيقة ما حدث . أما الحقيقة فهي وقوع النحاة في تعليلهم تحت نفوذ التعليل الأرسطي.
29 (5) صراع بين ثقافتين
ويلك يا عمرو؛ إنك ألكن الفهم.
أبو عمرو بن العلاء
يقول د. لطفي عبد البديع في كتابه «عبقرية العربية»: «والدلالة اللغوية إنما تغاير الدلالة العقلية في أنها دلالة ذاتية على معنى أن اللغة تختضن دلالتها في كيانها ... والدلالة بعد ذلك لا تتم إلا بمخاطب ومتكلم يتواضعان على قدر مشترك من الفهم المبني على مسلمات بعينها، والمتكلم مهما أوتي من بيان عاجز عن أن ينقل إلى سامعيه ما يريد نقله إذا لم يكونوا على بينة مما يقول ... فكل لغة تئول إلى مسلمات تنزل منزلة القيم التي تضفي على الدلالات حجية يتعاطاها أبناء اللغة فيما بينهم وربما عزبت
30
عن سواهم.»
31
بدأ النحو على أيدي العرب، وانتهى في أيدي الموالي، كان النحو في بدايته الأولى عربيا خالصا، وكان النحاة الأوائل عربا، ومؤسس النحو أبو الأسود الدؤلي عربيا خالصا، وكان الغرض من النحو في الأصل، وهو ما كان ينبغي ألا يخرج عنه فهم النحو، وضع أسس للأعاجم ليتعلموا العربية، عساهم أن ينحوا «نحو» العرب في كلامها، ولم يقصد به أن يكون سلطانا على أهل العربية فيما ينطقون به، فهم في غنى عنه لأنهم يتلقون اللغة تلقيا أول (
First hand ) بحكم عيشهم فيها ومعاشرتهم لها. يروى أن رجلا من الموالي الفرس، هو سعد من أهل زندخال، سأله أبو الأسود: «ما لك يا سعد؟ لم لا تركب؟»، فقال له الرجل: «إن فرسي ضالع»، أراد ظالعا، فضحك بعض من حضره، فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول.
32
لم يكن الغرض من النحو وضع قواعد لتقييد اللغة؛ فقد كان واضعو النحو الأوائل على بينة من أن اللغة لا تقيد، اللغة في حياة مستمرة ونمو متصل ولا يمكن فرض قواعد جامدة على شيء حي متغير كاللغة، اللغة لا تقيد بل تواكب أو تلاحق وصفيا واستقرائيا فيما تتخذه هي من اطرادات خاصة بها .
ومنذ البداية ظهر لعلماء العربية إفلاس النحو، وشعروا بالبون الواسع بين اللغة والنحو لصعوبة السيطرة على اللغة بقوانين جامعة لأطرافها، أما أبو الأسود فوضع باب الفاعل والمفعول ولم يزد عليه، ثم جاء رجل من بني ليث فزاد في ذلك الكتاب ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه. وأما أبو عمرو بن العلاء فحين سئل أيدخل كلام العرب كله فيما وضعت مما سميته عربية؟ قال: لا، فلما سئل كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ قال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. هذه الحيلة المنهجية ذاتها ... هذا التمييز بين النحو وما يخالفه هو بعينه ما يجعل المفارقة ظاهرة بين النحو واللغة؛ فاللغة باعتبارها ظاهرة متكاملة لا تقبل التمييز بين أطرافها.
33 «إلا أن النحو الذي ابتدأ عربيا خالصا من جهة المقولات الفكرية التي سيطرت عليه، انقلب به الأمر فانتصرت فيه ثقافة الأعاجم على ما عداها بما سيطر عليه من مقولات فكرية غريبة على طبيعة التفكير اللغوي العربي نفسه، وأريد به أن يكون سلطانا قائما على العربية والشعراء.»
34
وبعبارة أخرى فإن النحو لم يلبث أن انفصل عن اللغة وجعل يدرسها بفكر غريب عنها، واغترب عن مصدر الظاهرة اللغوية، وجعل يمتح من بئر أخرى!
كان اللقاء بين النحو واللغة بعد طبقة النحويين العرب الأوائل لقاء بين ثقافتين مختلفتين: الثقافة العربية التي تشربها العرب بالاتصال المباشر، وثقافة الأعاجم التي أخلص لها النحويون بطبيعة انتمائهم وكان أكثرهم من الموالي. وتؤرخ الخصومة بين موالي النحويين وبين الشعراء العرب للصراع بين هاتين الثقافتين. والخصومة بين الفرزدق الشاعر وعبد الله بن أبي إسحاق النحوي معروفة، فقد كان هذا النحوي يخطئ الفرزدق ويلحنه في أبياته، والفرزدق يهجوه ويعنفه بشعر وأقوال شهيرة، نجتزئ منها ما يلي لدلالته على جوهر الخصومة:
على ما يسوءك وينوءك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا.
أما وجد هذا لبيتي مخرجا في العربية؟
أما إني لو أشاء لقلت ... ولكني لا أقوله.
تترجم هذه الأقوال للفرزدق جوهر الصراع واختلاف الوجهة. لم تكن قوالب النحو وقضبانه مما يعني الفرزدق، بل كان يتخذ مستوى صوابيا آخر، الفرزدق من الشعراء (أمراء الكلام، الذين يحتج بهم ولا يحتج عليهم)، وقد كان يحس بعمق الأزمة وهول الخطر الذي يحدق بالعربية في تلك الحقبة: ثمة مقولات غريبة تريد أن تلتف على العربية؛ كي تؤدبها وتسلكها على اطراد واحد، ثمة لواء للفصاحة يوشك أن ينتزع، لكأنه يدفع عن اللغة غازيا أجنبيا يريد أن يأسرها لا أن يفهمها!
وقد كان أحرى بالنحوي أن يقف من الفرزدق موقفا آخر، كموقف أبي عمرو بن العلاء فيما سبق، وهو أن يأخذ أبيات الفرزدق على أنها مادة لغوية يضيفها إلى ما لديه؛ لكي يصف ويستقرئ ويستخلص منها ما يكمن فيها من اتجاهات وميول لغوية، لا أن يقف هذا الموقف المعكوس فيعايرها بما لديه من قواعد «مقيسة على الأكثر وتسمى ما خالفها» خطأ (لا لغات كما كان أبو عمرو يسمي).
كان عيسى بن عمر النحوي يخطئ النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع
35
ويقول: موضعها ناقعا، وللأستاذ العقاد رد بليغ على هذه التخطئة وعلى الأساس الذي تقوم عليه التخطئة، يقول العقاد: «وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانا كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأن المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون ... فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية تدل على الصفة وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة حين قال «ضئيلة ناقع في أنيابها السم» ... ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان القافية؛ لأنها - وهي مرفوعة - لا تكون إلا صفة موافقة لموصوفاتها أينما انتقل بها ترتيب الكلم المنظوم.»
36
الخطأ هنا خطا فهم قبل أن يكون خطأ لغة، والاختلاف هنا اختلاف ثقافة واختلاف منطق، فالنحويون الموالي كانوا يقيسون اللغة بمقياس آخر غير لغوي، ويعايرون العربية بمعيار غير عربي، وصدق فيهم قول أبي عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: «ويلك يا عمرو، إنك ألكن الفهم ...»، لاحظ أنه يصف عقله (أي منطقه) باللكنة، أي بالافتقار إلى الصبغة العربية؛ لأنه حفظ المنطق الأرسطي وغاب عنه المنطق العربي.
وهناك أبيات مشهورة للشاعر عمار الكلبي تترجم هذه الخصومة وتعبر عن جوهر هذا الصراع بقوة وبراعة منقطعة النظير. يقول عمار الكلبي وقد عاب أحد النحاة بيتا من شعره.
ماذا لقينا من المستعربين ومن
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصبا
وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق
وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم
وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها
نار المجوس ولا تبنى بها البيع
تصور هذه الأبيات، ببراعة، عمق الخلاف بين الطرفين: الشعراء قوم مطبوعون على فصاحتهم، والنحاة قوم متطبعون يحتالون لمنطقهم، الشاعر عربي الدم نشأ في أرض عربية غير أعجمية لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى البيع (إشارة إلى صراع الثقافتين)، «الشاعر يتكفل بحياة اللغة وديمومتها، والنحوي يريد السيطرة على اللغة ولا يستطيع ملاحقتها في تدفقها المستمر، فيسعى إلى تجميدها وإمساكها على وضع لا يتغير، الشاعر يبحث عن مطالبه والنحوي يبحث عن مطالبه، وهي مطالب لا يتم بينها اللقاء.»
37
وهذه هي المغالطة النحوية المتأصلة منذ البداية، والتي جمدت اللغة وشلت حركتها: قلب الأوضاع، وضع العربة أمام الحصان، رفع المعيارية على الوصفية.
وفي مقاله «النحو والمنطق الأرسططاليسي» يقول د. علي الوردي: «وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقدة أو متشعبة جدا، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح. والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا دراسة موضوعية يشعر بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.» أما د. تمام حسان فيقول في نهايات كتابه «اللغة بين المعيارية والوصفية»: «كانت دراسة النحو في مبدئها وسيلة إلى غاية، ولكنها سرعان ما أصبحت غاية في ذاتها متعددة الوسائل والطرق، كانت في مبدئها تقوم على الاستقراء والتقعيد، فأصبحت بعد زمن تقوم على القاعدة والتطبيق، وخلف من بعد الرعيل الأول من رجالها خلف وقفوا من النحو موقف المتكلمين من الدين: كان الدين سمحا فطريا فجعله المتكلمون فلسفة وقضايا منطقية، وكان النحو سهلا هينا وصفيا فجعله النحاة فلسفة وقضايا معيارية منطقية أيضا.»
38
بذلك يصدق قول الخليل بن أحمد، عن رواية الجاحظ في «الحيوان»: «لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه»، وكذلك قول ابن خالويه حين طلب رجل أن يتعلم من العربية ما يقوم لسانه: «أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو وما تعلمت ما أقيم به لساني!»
الفصل السادس
التغير اللغوي
التغير يحفظ نظام الأشياء، ويبقي العالم صبيا على الدوام.
ماركوس أوريليوس
الإنسان يحيا بالتغير، الحياة لم تعط له لكي يحفظها، بل لكي يغيرها.
أدونيس
يقول فرديناند دي سوسير: «إن الزمن يغير كل شيء، إذن ليس من سبب يجعل اللغة لا تخضع لهذا القانون العام ... فاللغة لا حول لها في الدفاع عن نفسها في مواجهة القوى التي تغير من لحظة إلى أخرى العلاقة بين المدلول والدال، وهذه إحدى نتائج الطبيعة الاعتباطية للعلامة.»
1
وحيثما كان هناك جماعة بشرية تسير في الزمان فثم تغير سيعروها شاءت أم أبت، وليست اللغة من ذلك ببعيد، فالحق أن «الزمن إذ يفكك المدلول والدال فإنه لا يعمل في فراغ بل في مجتمع المتكلمين، فلا وجود للغة خارج الإطار الاجتماعي، وإذا نظرنا إلى اللغة ضمن الزمن وأهملنا مجتمع المتكلمين (تصور فردا لوحده يعيش عدة قرون) ربما لا نلاحظ أي تغيير، فالزمن إذاك لن يؤثر في اللغة، وعلى العكس من ذلك، فإذا أخذنا بعين الاعتبار مجتمع المتكلمين وأهملنا الزمن لما رأينا أثر القوى الاجتماعية التي تؤثر في اللغة.»
2 «التطور أمر لا مناص منه، ولا توجد لغة واحدة في العالم تقاومه، فما إن تمض فترة من الزمن حتى تدون بعض التغييرات الواضحة. إن التغيير أمر لا بد منه حتى إنه ليظهر في اللغات الاصطناعية (غير الطبيعية). بوسع من يخترع لغة ما أن يسيطر عليها قبل أن توضع موضع الاستخدام، ولكن ما إن تدخل في مجال الاستخدام لتحقيق الغاية التي وضعت من أجلها حتى تصبح ملكا لجميع الأفراد؛ فيفقد صاحبها السيطرة عليها.»
3
يقول فونت في كتابه «عناصر السيكولوجية الشعبية»: «اللغة يستحيل أن يخلقها فرد من الأفراد، صحيح أن أفرادا قاموا باختراع الإسبرانتو وغيرها من اللغات الاصطناعية، إلا أن هذه الاختراعات كان من المستحيل تحقيقها ما لم تكن هناك لغة أصلا، بل لم تستطع أي من هذه اللغات أن تعيل نفسها، ومعظمها لم يعش إلا بفضل عناصر مستعارة من لغات طبيعية.»
4
وعن هذه اللغة الاصطناعية يقول سوسير:
5 «ولنأخذ الإسبرانتو
6
على سبيل المثال: إذا نجحت هذه اللغة ستتحرر من القيد الذي فرض عليها، فأغلب الظن أن الإسبرانتو بعد أن توضع قيد الاستخدام تدخل مرحلة من الحياة الكاملة للعلامة اللغوية، وتنتقل طبقا لقوانين تختلف تماما عن تلك التي وضعت لتلائم طبيعتها المنطقية الأولى: ولن تعود إلى هذه الطبيعة أبدا. إن الذي يقترح لغة ثابتة تستخدمها الأجيال المقبلة وتقبلها بطبيعتها الأولى فإن مثله كمثل الذي يضع تحت الدجاجة بيضة البط، فاللغة التي يخلقها هذا الرجل يجرفها، رغم صاحبها، التيار الذي يجرف بقية اللغات.»
7
يسير الزمن فتتغير حاجات الناطقين باللغة، وتتبدل الأجيال والأحوال، وأشكال الحياة وأنماط التفكير وأدوات العمل ووسائط المعلومات، تتغير اللغة بتغير الحياة، تتغير الأشياء وغطاؤها الرمزي. (1) أسباب التغير اللغوي (1-1) مبدأ الاقتصاد
من أسباب تغير اللغة مبدأ الاقتصاد في الجهد، أي ميل الناطقين إلى التعبير المفيد بأقل مبذول من الطاقة، مثال ذلك التخلص من الهمزة في لهجة قبائل الحجاز وفي معظم اللهجات العربية الحديثة، وانكماش «الأصوات المركبة»
Diphthong ، فتحول نطق «يوم» إلى «يوم»، و«نوم» إلى «نوم»، و«بيت» إلى «بيت»، و«عين» إلى «عين»، واندثار الأصوات الأسنانية (الثاء والذال والظاء) في بعض اللهجات العربية الحديثة، والقضاء على التفريعات الكثيرة والأنواع المختلفة للظاهرة الواحدة في داخل اللغة، مثال ذلك الاكتفاء بالتاء كعلامة تأنيث والاستغناء بها عن الألف المقصورة (فنقول: سلمه، عدوه، فتوه، بلدا من: سلمى، عدوى، فتوى) وعن الألف الممدودة (فنقول: حمره، صحره، شقره، بدلا من: حمراء، صحراء، شقراء).
يشير فراي إلى أن ما درج على تسميته بالأغلاط في الاستعمال اللغوي العادي ما هو إلا محاولة لتبسيط التنظيم اللغوي، باتجاه الانتفاع إلى أقصى حد من المجهود الذي يقوم به متكلم اللغة، من حيث الإنتاج اللغوي، فينم الاستعمال اللغوي عن حاجة ثابتة إلى الاختصار اللغوي والدقة في التعابير والتناسب المنطقي في التركيب
8 ... (1-2) مبدأ القياس
القياس هو أهم الآليات الضالعة في إحداث التغيرات اللغوية، ويعني «القياس»
Analogy
في اللغة ارتجال ما لم نسمعه قياسا على ما سمعناه، أو ابتكار كلمة أو تصريف من عندنا بالقياس على ما لدينا من كلمات أو تصريفات تشبهه، ويدخل القياس ضمن مبدأ «الاقتصاد» في المجهود وتخفيف العبء على الذاكرة، من خلال الحمل على الشائع المطرد وإقصاء الصيغ النادرة الشاذة وإعادة صياغتها على القاعدة المطردة؛ فتزول الاختلافات وتتوحد الظاهرة ويجري المختلف مجرى المؤتلف
Leveling .
مثال ذلك أن الأفعال الشاذة الأنجلو سكسونية قد خضعت لتأثير القياس على المطرد في الألف سنة الماضية، من ذلك أن الفعل (Help) Helpen
كان يصرف إلى الماضي
healp
والتصريف الثالث
Holpen ، ولكن بحلول القرن الرابع عشر كان هذا الفعل منتظما على القاعدة المطردة للأفعال الإنجليزية (
Help، Helped، Helped )، وفي الحقبة الإنجليزية الوسيطة المبكرة تم انتظام أكثر من أربعين فعلا بنفس الطريقة (شاملة)
Walk، Climb، Burn & Step ، على أن عوامل اجتماعية من قبيل نشأة اللغة القياسية وتطور الطباعة قد أبطأت من عملية التغير؛ ولذا فما زالت الإنجليزية الحديثة اليوم تضم الكثير من الأفعال الشاذة، وإن كنا نصادف القياس وهو يعمل عمله عندما نسمع الناس تستخدم «القياس الخاطئ»
False analogy
في مثل كلمة
Knowed ، وعندما نسمع الأطفال وهم يتعلمون اللغة يجربون صيغة مثل
Goned ... إلخ.
9
حين يحدث القياس الخاطئ ثم يشيع ويدخل في متن اللغة يحدث التغير ثم يستتب، مثال ذلك في العربية أن كلمة «سراويل»، وهي للمفرد في الفارسية، تشبه صيغة من صيغ الجمع في العربية (فعاليل ) فأخذ العرب يقيسونها على تلك الصيغة ويشتقون لها مفردا قياسا على ذلك الجمع، فيقولون «سروال»،
10
ومثل ذلك بالضبط ما حدث في الكلمة اليونانية
فإنها مفرد، غير أن مشابهتها للجمع (فعاليل) جعل العرب يشتقون منها مفردا، هو «فردوس»، وكذلك كلمة «كرونوس»
Kronos
في اليونانية، والكلمة الألمانية
Groschen
التي دخلت العربية بطريق التركية، هاتان الكلمتان مفردتان في لغتيهما، غير أنهما تشابهتا في العربية مع صيغة الجمع «فعول» فاشتق منها مفردان جديدان هما: «قرن» (من الزمان)، و«قرش» (من القروش)،
11
وهكذا أيضا دخلت كلمة
في الإنجليزية، فمنذ أربعمائة سنة كانت كلمة
تستخدم بمعنى بازلاء سواء واحدة أو حزمة، ولكن بمرور الزمن افترض الناس أن
صيغة جمع واشتقوا منها مفردها فولدت كلمة
.
ويؤثر القياس أيضا في تراكيب الجمل، فالنمط «فاعل - فعل - مفعول» في اللغة الأنجلوسكسونية كان ينطبق على العبارات الرئيسية فحسب بينما كان المفعول يسبق الفاعل في العبارات الفرعية أو التابعة، أما في الإنجليزية الحديثة فكلا الصنفين من العبارة يتخذ نفس النظام (فاعل - فعل - مفعول).
ليس من شأن القياس أن يخلق أنماطا نحوية جديدة، إنما هو، ببساطة، يوسع نطاق نمط قائم بالفعل في اللغة، ثمة عمليات أخرى غير القياس تضطلع بدور أكثر جذرية فتخلق أنماطا جديدة وتطمس أنماطا قديمة، من ذلك أن العلاقة بين الفاعل والفعل في اللاتينية كانت تتمثل في نهايات إعرابية، ولم يكن لترتيب عناصر الجملة أهمية تذكر، أما في اللغات الرومانية الاشتقاق
Romance Language
فمثل هذه العلاقات تتمثل في ترتيب الكلمات، وفي اللغات الهندوأوروبية المبكرة كانت هناك ثلاث صيغ للجنوسة النحوية: المذكر
Masculine
والمؤنث
Feminine
والمحايد
Neuter ، وقد بقيت القسمة الثلاثية في الألمانية واليونانية، واختزلت إلى اثنتين في السويدية (عام، ومحايد)، والفرنسية (مذكر، ومؤنث)، وتلاشت تماما في الإنجليزية.
12 (1-3) الاتصال بلغة أخرى
من أسباب التغير في اللغة اتصالها بلغة أخرى من خلال الغزو أو الهجرة أو التجارة، ومن أهم صور التغير في حالة احتكاك اللغات «الاقتراض». فقد اقترض العرب، على سبيل المثال، ألفاظا أعجمية من لغات كثيرة، عن طريق الاشتقاق والنحت والمجاز، أو عن طريق تعريب اللفظة الأجنبية إذا كانت تدل على معنى اصطلاحي دقيق يخشى ضياعه في ثنايا اللفظ العربي.
من الألفاظ الفارسية التي انتقلت إلى العربية: الكوز، الإبريق، الطست، الخوان، الطبق، السكرجة، السمور؛ الخز، الديباج، السندس؛ الياقوت، الفيروز، البلور؛ السميذ، الكعك، الفالوذج؛ الفلفل، الكرويا، القرفة، الزنجبيل، الخولنجان، الدارصيني؛ النرجس، البنفسج، السوسن، الياسمين، الجلنار؛ المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل.
13
ومما انتقل من اليونانية إلى العربية: البطريق، القنطرة، الفردوس، القرميد، القسطاس (الميزان)، القنطار، البطاقة، السجنجل (المرآة). ومما انتقل من اليونانية من خلال السريانية: إنجيل، أسطوانة، أسقف، ناموس، إسفنج. ومن الآرامية: شيطان، سكين، سارية.
14
ومن الألفاظ الأخرى الشهيرة التي أخذها العرب من الفارسية والسريانية واليونانية: الديوان، العسكر، البند (العلم الكبير)، الصهريج، القيروان (القافلة)، الطنبور؛ البابونج، الزرنيخ، الملنخوليا، الأصطرلاب، الطلسم، المغناطيس، القانون، الأسطول، الفلسفة، الهيولي ... إلخ.
15
أما ما أخذته اللغات الأخرى من العربية فلا يكاد يحصى، فمعظم مفردات الفارسية الحديثة عربي الأصل، ومعظم مفردات التركية عربي أو فارسي، وثلاثة أرباع مفردات الأردية عربي أو فارسي، وفي الإنجليزية الحديثة كلمات كثيرة من أصل عربي مثل:
Lemon, Muslin, Saffron, Sherbet, Syrup, Sugar, Camphor, Candy, Coffee, Cotton, Crimson, Cumin, Damask
وهي على الترتيب: الليمون، الموصلي (نسيج خاص ينسب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل القصب المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج).
16 (1-4) تغير أشكال الحياة
من أسباب التغير اللغوي تغير أشكال الحياة ومعالم الثقافة ووسائط الاتصال، وبزوغ مفاهيم جديدة تتطلب مصطلحات جديدة. من ذلك أن كثيرا من الألفاظ العربية قد تجردت من معانيها العامة القديمة وأصبحت تدل على معان خاصة تتصل بالعبادات والشعائر، أو شئون السياسة والإدارة والحرب، أو مصطلحات الفلسفة والكلام والفقه، أو مصطلحات النحو والصرف والعروض ... إلخ، من ذلك: الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج؛ الخليفة، الإمام، أمير المؤمنين، الوالي، القاضي، الكاتب، المشير، الشرطة؛ الوظيفة، القطائع؛ الجريدة، الصائفة، الشاتية، المرتزقة، المتطوعة، الشحنة، الثغور، العمارة، دار الصنعة، ديوان الجند؛ ديوان الرسائل، ديوان الخاتم، السرير، السكة، الطراز، المقصورة؛ التعجب، التوكيد؛ الحد، التعزير، الشبهة، القياس؛ التعريف، القضية، السالبة، الموجبة، المقدمة، النتيجة؛ الصرع، الاستسقاء، الذبحة، الربو، الأمزجة؛المثلث، المربع، الدائرة؛ الكون، الحدوث، القدم، الوجود، العرض، الجوهر ... ومن آثار الإسلام كذلك قضاؤه على كثير من الألفاظ العربية الجاهلية التي تدل على نظم حرمها الإسلام كأسماء الأنصبة التي كانت لرئيس الحرب في الجاهلية (المرباع والصفايا والنشيط والفضول)، وكألفاظ الإتاوة والمكس والحلوان والصرورة والنوافج. وقضى الإسلام كذلك على أسماء الأيام والأشهر في الجاهلية لاتصال بعضها في أذهان العرب بشئون وثنية أو نظم جاهلية واستبدل بها أسماءها الحالية.
17 (1-5) تأثير الكتاب والمترجمين والمجامع العلمية
للكتاب والأدباء والمترجمين أثر كبير في نهضة اللغة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم، فأكبر الفضل في نهضة العربية في العصر العباسي يعود إلى العلماء والأدباء والمترجمين عن اليونانية والفارسية؛ لقد اقتبسوا مفردات أجنبية وطوعوها لمقتضيات العربية؛ فاتسع متن اللغة وازدادت مرونة وقدرة على التعبير عن العلوم والآداب، كذلك الأمر في عصر النهضة الحديثة في مصر والشام؛ إذ أفاد الكتاب والأدباء والعلماء من أساليب اللغات الأوروبية وتأثروا بها، وترجموا وعربوا الكثير من مصطلحات الأدب والعلم، ونقلوا الكثير من مذاهب الفن والأدب والفكر، وكان للأدباء والشعراء والعلماء فضل كبير في إحياء الكثير من المفردات القديمة والمهجورة، فكثيرا ما يلجأ المبدعون إلى بعث الألفاظ المنسية للتعبير عن معان لا يجدون لها مفردات راهنة تعبر عنها تعبيرا دقيقا، أو يلجئون لذلك ترفعا عن المفردات المبتذلة التي لاكتها الألسنة. وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقا جديدا ويزول ما فيها من غرابة وتندمج في المتداول المألوف. من ذلك أن البارودي وشوقي بعثا مئات الألفاظ من مرقدها فصارت مألوفة واتسع بها متن اللغة وزادت قدرتها على التعبير، وكذلك فعل غيرهما من الشعراء والناثرين فردوا إلى العربية شطرا كبيرا من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواح من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات.
18
إن حاجة المبدع، كاتبا أو شاعرا، إلى توضيح الدلالة أو تقوية أثرها في الذهن تحمله على ابتكار تعبيرات جديدة سرعان ما تجد طريقها إلى متن اللغة، كذلك تقوم المجامع اللغوية والهيئات العلمية بالابتداع اللغوي حين تحتاج إلى استخدام لفظ ما للتعبير عن فكرة أو مفهوم معين، وبهذا تعطي الكلمة معنى جديدا يبدأ أول الأمر اصطلاحيا ، ثم قد يخرج إلى دائرة المجتمع فيغزو اللغة المشتركة كذلك، ومثال ذلك كلمة
Root (جذر) التي يختلف معناها بحسب مهنة المتكلم أهو مزارع أم عالم رياضيات أم لغوي.
19 (1-6) عوامل داخلية في ذات اللغة
إن بنية اللغة ذاتها، متنها وأصواتها وعناصر كلماتها ودلالاتها وقواعدها، تنطوي على خصائص تعمل هي نفسها في صورة آلية على التطور اللغوي وعلى توجيهه وجهة خاصة، إنه الطابع «الكموني» أو «المحايث»
Immanent
لل «بنية»
Structure
الذي ألح عليه البنيويون واضطلع جيل دولوز بتبيانه: إن كل ما يطرأ على «البنية» من أحداث أو عوارض لا يقع لها «من الخارج»، وإنما ينبع مما تنطوي عليه البنية ذاتها من ميول كامنة واتجاهات باطنة تكون هي المسئولة عن كل ما يعرض لها من تغيرات.
20
من عوامل تطور أصوات اللغة تفاعل أصوات الكلمة بعضها مع بعض، وموقع الصوت من الكلمة، وتناوب الأصوات وحلول بعضها محل بعض، فالأصوات الساكنة تتفاعل فيما بينها، فيتجاذب المختلف ويتنافر الشبيه (مثلما تسلك الشحنات الكهربية!) فإذا تجاور في الكلمة صوتان مختلفان أو تقاربا في المكان فقد يتحول أحدهما إلى صوت الثاني، مثل كلمة «شمس» التي تحولت في بعض اللهجات العامية إلى «سمس» (بل تحولت في بعض لهجات الصعيد إلى «شمش»)، وفقا لقانون «المماثلة» أو «التشاكل»
Assimilation . وإذا تجاور صوتان متماثلان أو تقاربا في المكان فقد يميل اللسان إلى ضروب من التغيير الذي يرمي إلى الفرار من الثقل، ذلك أن اللسان يتعثر إذا اضطر إلى نطق حروف متشابهة تتكرر وتتتابع، فالصوتان المتماثلان يحتاجان إلى جهد عضلي في النطق بهما في كلمة واحدة، ولتيسير هذا المجهود العضلي يقلب أحد الصوتين صوتا آخر أو يحذفه، وفقا لقانون «المخالفة»
Dissimilation ، وقد فطن قدماء اللغويين لهذه الظاهرة وكانوا يعبرون عنها أحيانا ب «كراهية التضعيف»، أو «كراهية اجتماع حرفين من جنس واحد» أو «استثقلوا اجتماع المثلين» ... إلخ.
21
وقد وجد أن موقع الصوت في الكلمة يعرضه لصنوف من التطور والانحراف: فوقوع أصوات اللين في آخر الكلمة يجعلها في الغالب عرضة للسقوط، ويؤدي أحيانا إلى تحولها إلى أصوات أخرى، من ذلك ما لحق بالحركات (الفتحة والكسرة والضمة) في أواخر الكلمات، وهي أصوات لين قصيرة، فقد سقطت في جميع اللهجات العامية، وبذلك سقطت أيضا وظيفتها في الجملة وانقلب النظام اللغوي من نظام المرونة الإعرابية إلى نظام الترتيب المقيد، كما أشرنا إلى ذلك في موضعه، كذلك تضاءلت أصوات اللين الطويلة الواقعة في آخر الكلمات (فتحولت «رمى» مثلا إلى «رم»، و«ضربوا» إلى «ضرب»، و«مصطفى» إلى «مصطف» ... إلخ)، كذلك فإن معظم أصوات اللين المتطرفة في اللاتينية قد انقرضت في اللغات المنشعبة عنها. ووقوع الصوت الساكن في آخر الكلمة يجعله كذلك عرضة للتحول أو السقوط، من ذلك ما حدث في العربية بصدد التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء المتطرفتين (محمد ولد مطيع، الأولاد يعلبون، الهواء شديد، انتظرته ساعة كاملة - تحولت إلى: محمد ولد مطيع، الأولاد بيلعب، الهو شديد، انتظرت ساع كمل)،
22
وفي اللاتينية انقرضت معظم الأصوات الساكنة من أواخر الكلمات في اللغات الرومانية المنبثقة عنها. والحق أن سقوط الأصوات اللينة والساكنة من أواخر الكلمات في جميع الألسنة قد أحدث انقلابا كبيرا في عالم اللغات: فقد كان من آثاره انقراض «طريقة الإعراب» في كثير من اللغات التي كانت تسير عليها كالعربية واللاتينية وما إليهما،
23
ويرفض جاسبرين اعتبار سقوط الإعراب في اللغات المتفرعة عن اللاتينية كمظهر انحطاط لغوي، ويرى في هذه الظاهرة تطورا باتجاه التبسيط بصورة عامة، وباتجاه ملاءمة اللغة لظروف التعبير.
24
ووقوع الصوت في وسط الكلمة يعرضه كذلك لصنوف من التغير والانحراف. فمن ذلك ما حدث بصدد الهمزة الساكنة الواقعة وسط الثلاثي، فقد تحولت إلى ألف لينة في العامية (فيقال: فاس، راس، فال ... بدلا من فأس، رأس، فأل ... إلخ)، كذلك الياء والواو الساكنتان في وسط الكلمة تحولتا إلى صوتي لين (عين تحولت إلى عين، يوم إلى يوم ... وهكذا).
25
ووقوع الصوت في أول الكلمة يجعله كذلك عرضة للانحراف، فمن ذلك ما حدث في بعض المفردات العربية المفتتحة بالهمزة، إذ تحولت همزتها في بعض اللهجات العامة إلى فاء أو واو («أذن » تحولت في العامة إلى «ودن»، و «أين» إلى «فين» ...)، وقد تتبادل الأصوات مواقعها في الكلمة ويحل بعضها محل بعض (النقل المكاني)، مثلما تتحول «أرانب» في العامية المصرية إلى «أنارب» وتتحول «مسرح» إلى «مرسح» ... إلخ، وقد تتناوب أصوات اللين (القصيرة كما تتمثل في تناوب الحركات وانحراف أوزان الكلمات في العامية فتتحول «يعوم» إلى «يعوم» و«يضرب» إلى «يضرب» و«محمد» إلى «محمد» ... إلخ، والطويلة كما تتمثل في الإمالة في بعض اللهجات ... إلخ)، كما تتناسخ الأصوات الساكنة فتتحول الصاد إلى سين («مصير» إلى «مسير»، و«يصدق» إلى «يسدق» ... إلخ) واللام إلى ميم («البارحة» إلى «إمبارح») والميم إلى نون («فاطمة» إلى «فاطنة»، وهلم جرا).
26
ضروب التغير الدلالي
من الأمثلة النموذجية على التطور الدلالي ما حدث لكلمة «السيد»: فقد كانت هذه اللفظة في البداية هي متضايف
Correlative
كلمة «عبد»: فالسيد هو من له عبد، أو هو مقابل العبد، ثم تطور استعمال كلمة «السيد» لتدل على صاحب النفوذ والسلطان، ثم استخدمت في الغزل: على سبيل المثال يقول البحتري:
سيدي أنت ما تعرضت ظلما
لأجازى به ولا خنت عهدا
ثم أصبحت كلمة «سيد» تعني «الهاشمي»، وهي عند الإخوة الشيعة لقب للمرجع الشيعي العلمي، وفي العصر الحديث، وبعد تقليص الفوارق بين الطبقات وإلغاء الألقاب أصبح الناس جميعا يلقبون ب «السيد»، وصارت الكلمة لقبا يسبق الأسماء جميعا على سبيل الاحترام والتأدب، وقد استجدت في الفترة الأخيرة كراهة معينة لاستعمال هذه الكلمة في بعض الأوساط العربية المتحفظة. (أ) توسيع المعنى (التعميم)
Widening/Extension
وذلك نتيجة إسقاط بعض الملامح التمييزية للفظ، فيتسع «مفهومه»
Intension
وتزداد «ماصدقاته»
Extension ، أي أن معنى الكلمة يتسع ويمتد لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي. أمثلة ذلك:
كلمة
Salary
التي تعني الراتب، وهي كلمة من أصل لاتيني كانت تعني في بدايتها القديمة حصة الجندي من الملح، ثم صارت بمرور الزمن تعني مرتب الجنود، وانتهت في زمننا الحديث إلى أن تعني أي مرتب لأي عمل.
كلمة
كانت تطلق على اللوحة المرسومة، واتسع معناها الآن ليشمل أي صورة بما فيها الصورة الفوتوغرافية.
كلمة
Virtue (الفضيلة) كانت في اللاتينية صفة ذكورية ، فاتسع معناها لتشمل كلا الجنسين.
كلمة
Barn
كانت تعني «مخزن الشعير»، ثم صارت تعني مخزن أي نوع من الحبوب، وربما على أي مخزن لأي شيء.
كلمة
Manuscript (حرفيا أي مخطوط باليد) تتسع الآن لأي مخطوط مكتوب باليد أو مطبوع بالآلة الكاتبة.
كلمة
Dog
كانت قديما تعني سلالة معينة من الكلاب، وصارت الآن تشمل جميع السلالات.
كلمة
Girl
كانت تعني طفلة صغيرة، وقد اتسع معناها ليشمل أيضا أي امرأة من أي عمر.
كلمة
Arriver
الفرنسية كانت تدل في الأصل، كما تشير بنيتها، على الوصول إلى الشاطئ، ثم صارت تستعمل في كل وصول.
القافلة: في الأصل هي الرفقة الراجعة من السفر، يقال «قفلت» أي رجعت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم، ولا يقال لمن خرج من مكة إلى العراق قافلة حتى يصدروا (أدب الكاتب). ويقول ابن الأنباري: «القافلة عند العرب الرفقة الراجعة من السفر، والعامة تظن أن القافلة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة»، ويقول ابن الجوزي: «وتقول للرفقة الراجعة من السفر قافلة والعامة تقول لمن ابتدأ أو عاد»، ويقول البغدادي: «القافلة هي الراجعة، فأما الذاهبة فالسفر، ولا يقال قافلة إلا بطريق التفاؤل»، ويقول الجواليقي: «سميت قافلة تفاؤلا بقفولها عن سفرها الذي ابتدأته، وما زالت العرب تسمي الناهضين في ابتداء الأسفار قافلة تفاؤلا بأن ييسر الله لهم القفول وهو شائع في كلام فصحائهم» (اللسان، مادة قفل). وبذلك يكون الجواليقي مخالفا لما أقره العلماء، غير أن رأيه صحيح على سبيل المجاز، وعلى سنة العرب في كلامها. وقد سارت اللغة في السبيل التي ارتآها، وكلنا يستعمل لفظة «القافلة» الآن لرفقة السفر ذاهبة كانت أو راجعة.
27
الورد: في الأصل إتيان الماء، ثم اتسع معناها ليشمل كل شيء.
الورد: تطلق على ذلك الصنف المعروف من الأزهار، وقد اتسع معناها وصارت تطلق أيضا على كل زهر.
حمة: هي في الأصل سم العقرب وضرها، وقد صارت تستعمل لشوكتها وسمها وضرها معا.
العربة: كانت مقصورة على العربة التي تدفع باليد أو تجرها الدواب، وصارت تشمل كل السيارات الآلية .
اللبن: كان يخص لبن الناقة والشاة وغيرهما من الدواب، (أما الذي ترضعه الأم ابنها فهو لبان)، وقد تطور معنى اللبن ليشمل الناقة والشاة والمرأة المرضع التي كان يختص بها اللبان.
النجعة: أصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعا.
الرائد: في الأصل طالب الكلأ، ثم صار طالب كل حاجة رائدا.
البأس: في الأصل الحرب، ثم كثر استخدامه في كل شدة. (ب) التضييق (التخصيص)
Narrowing
وهو تقلص نطاق المعنى واقتصاره على شيء بعينه من بين الأشياء التي كان يشملها في الماضي، وذلك نتيجة إضافة بعض الملامح التمييزية أو المكونات الدلالية للفظ، فكلما زادت المكونات الدلالية لشيء قل عدد أفراده (كلما ضاق المفهوم قل الماصدق). والتضييق هو التغير الدلالي الأغلب في اللغة، يقول السيوطي في «الإتقان»: «ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص.» ويقول د. إبراهيم أنيس: «يرجع ذلك إلى أن الناس في حياتهم العادية يكتفون بأقل قدر ممكن من دقة الدلالات وتحديدها، ويقنعون في فهم الدلالات بالقدر التقريبي الذي يحقق هدفهم من الكلام والتخاطب.»
28
ويقول د. علي عبد الواحد وافي: «وكثرة استخدام الكلمة في مدلول ما؛ لحدوث ما يدعو إلى ذلك في شئون الحياة الاجتماعية وما يتصل بها، يجردها - مع تقادم العهد - من مدلولها الأصلي، ويقصرها على الناحية التي كثر فيها استخدامها، فكثرة استخدام العام مثلا في بعض ما يدل عليه، لسبب اجتماعي ما، يزيل مع تقادم العهد عموم معناه، ويقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله، ولدينا في اللغة العربية وحدها آلاف من أمثلة هذا النوع، فمن ذلك جميع المفردات التي كانت عامة المدلول ثم شاع استعمالها في الإسلام في معان خاصة تتعلق بالعقائد أو الشعائر أو النظم الدينية: كالصلاة والحج والصوم والمؤمن والكافر والمنافق والركوع والسجود ... وهلم جرا. فالصلاة مثلا معناها في الأصل الدعاء (وقد جاء على الأصل قوله تعالى:
وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم )، ثم شاع استعمالها في الإسلام في العبادة المعروفة لاشتمالها على مظهر من مظاهر الدعاء، حتى أصبحت لا تنصرف عن إطلاقها إلى غير هذا المعنى، والحج معناه في الأصل قصد الشيء والاتجاه إليه، ثم شاع استعماله في قصد البيت الحرام، حتى أصبح مدلوله الحقيقي مقصورا على هذه الشعيرة.»
29
من أمثلة التضييق في الدلالة
كلمة
Mete
في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفة عامة، وما زال أثر المعنى العام في كلمة
Sweetmeat (مربى أو حلوى)، وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفا واحدا من الطعام.
كلمة
Hound
الإنجليزية كانت في الأصل تشير إلى جميع الكلاب، وقد ضاق معناها الآن ليخص نوعا بعينه منها.
كلمة
الإنجليزية تعني «قرص» من أي نوع، وقد صارت في الولايات المتحدة تعني أقراص منع الحمل بخاصة، واحتفظ للمعنى العام لفظ
Tablet .
كلمة
(سم) الإنجليزية كانت تعني «الجرعة من أي سائل».
كلمة
Corpse
الإنجليزية كانت تعني ما يعنيه أصلها اللاتينية
Corpus
أي «الجسم» البشري أو غير البشري، حيا أو ميتا، وقد ضاق معناها ليخص جثة الإنسان الميت.
كلمة
Shtraf
الروسية، المأخوذة من الألمانية، كانت تعني «العقوبة» بصفة عامة، ثم ضاق معناها لتدل على «الغرامة المالية» فحسب.
حريم: كانت في الأصل تدل على كل محرم لا يمس، ثم أصبحت تدل على النساء.
العيش: ضاق معناها لتدل على «الخبز» (في مصر)، وعلى «الأرز» (في بعض البلاد العربية).
فاكهة: كان معناها في الأصل «الثمار كلها»، ثم تخصص معناها ليقتصر على ثمار معينة مثل العنب والموز والبرتقال والتفاح ... إلخ.
مأتم: في الأصل تعني اجتماع الناس، نساء ورجالا، في الخير والشر، في الفرح والحزن، وقد ضاق معناها لتعني اجتماع النساء للموت، وهي الآن تعني اجتماع الناس في الأحزان.
طرب: كانت تعني خفة تعتري المرء في الفرح أو الحزن، يقول النابغة الجعدي:
وأراني طربا في إثرهم
طرب الواله أو كالمختبل
ويقول المتنبي:
لا يملك الطرب المحزون منطقه
ودمعه وهما في قبضة الطرب
والطرب في البيتين يعني الحزن، وقد تطور معنى الطرب وسقط منه ملمح الحزن واستبقي ملمح الفرح، وصارت الكلمة تعني الفرح فحسب، أو اهتزاز النفس للجمال من نغم أو تعبير.
وعد: وكانت تستعمل في الخير والشر أيضا (
النار وعدها الله الذين كفروا (الحج: 72))، وقد صارت الآن تستعمل في الخير فقط، واختصت كلمة «وعيد» بالشر.
حمام: كانت تطلق على ذوات الأطواق وما أشبهها كالفواخت والقماري واليمام والقطا، ثم ضاق معناها ليدل على ذلك النوع بعينه من الطيور.
الرث: هو الخسيس من كل شيء، ثم قصر مدلولها على الخسيس مما يفرش أو يلبس.
المدام: في الأصل كل ما سكن ودام، ثم شاع استعمالها في الخمر لدوامها في الدن، أو لأنه يغلى عليها حتى تسكن. (ج) التحول (النقل)
Shift
أي انتقال الكلمة من مجموعة من الأحوال إلى أخرى.
كانت كلمتا «ملاحة»
Navigation
و«ميناء»
مقصورتين على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقل معناهما الآن ليشمل المجال الجوي والبري، ويمكن أن يعد هذا أيضا ضمن «التوسيع» الدلالي
Widening .
كلمة
Bead (خرزة) كانت في الإنجليزية القديمة
Gebet
وتعني التضرع والدعاء، إذ كان الكهنة الكاثوليك يعدون تسبيحاتهم وأدعيتهم على حبات منظومة في خيط، ثم صارت
Bead
أو
Bede
في الإنجليزية الوسيطة تدل على المعنيين: دعاء، وحبات عد الأدعية.
شنب: كانت تعني جمال الثغر وصفاء الأسنان، يقول ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعس
وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
وصارت الكلمة الآن تعني الشارب عند العامة.
السفرة: كانت تعني الطعام الذي يصنع للمسافر، وصارت تعني المائدة وما عليها من الطعام.
طول اليد: كان يكنى به عن السخاء، وصار يكنى به عن الميل إلى السرقة.
التنزه: كانت في الأصل تعني «التباعد» عن الأقذار، وأحيانا عن المياه والريف! وقد تطورت الآن لتعني البعد عن الصخب والفلوات إلى البساتين والخضر.
القطار: هو في الأصل عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر وفي النقل، وقد تغير الآن معناها لتطور وسائل النقل. (د) الاستعمال المجازي
Figurative use
وهو تحول في المعنى قائم على مماثلة أو مشابهة بين الأشياء.
كلمة
Crane (كركي) وهو طائر طويل العنق، وتستعمل الآن لتعني الرافعة أيضا.
كلمة
Bureau (مكتب) كانت في الأصل تدل على نوع من نسج الصوف الغليظ، ثم أطلقت على قطعة الأثاث التي تغطى بهذا النسج، ثم على قطعة الأثاث التي تستعمل للكتابة أيا كانت ، ثم على الغرفة التي تحتوي على هذه القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال تعمل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، ثم على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات.
30
يقول الأستاذ محمد المبارك: «ينتقل اللفظ من الدلالة الحسية (الحقيقية) إلى الدلالة المعنوية (المجازية) نتيجة كثرة الاستعمال وتأثير مرور الزمن، فاستعماله بالمعنى الجديد في بادئ الأمر عن طريق المجاز، ولكنه بعد كثرة الاستعمال وشيوعه بين الناس تذهب عنه هذه الصفة وتصبح دلالته على مدلوله الجديد حقيقية لا مجازية.»
31
ويقول د. أحمد مختار عمر: «وعادة ما يتم الانتقال المجازي بدون قصد، وبهدف سد فجوة معجمية، ويميز الاستعمال المجازي من الحقيقي للكلمة عنصر النفي الموجود في كل مجاز حي، وذلك كقولنا: رجل الكرسي ليست رجلا، وعين الإبرة ليست عينا ... وقد يحدث بمرور الوقت أن يشيع الاستعمال المجازي فيصبح للفظ معنيان، وقد يشيع المعنى المجازي على حساب المعنى الحقيقي ويقضي عليه، وميز بعضهم بين الأنواع الثلاثة الآتية للمجاز: (1)
المجاز الحي: الذي يظل في عتبة الوعي، ويثير الغرابة والدهشة عند السامع. (2)
المجاز الميت، أو الحفري
Fossil : وهو النوع الذي يفقد مجازيته ويكتسب الحقيقية من الألفة وكثرة التردد. (3)
المجاز النائم، أو الذاوي
Faded : ويحتل مكانا وسطا بين النوعين السابقين، والفرق بين المجاز الميت والمجاز النائم هو - جزئيا - سؤال عن درجة الوعي اللغوي.»
32
أمثلة أخرى
المجد: معناه الأصلي امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازا في الامتلاء بالكرم وطيب السمعة وبعد الصيت، وانقرض معناه الأصلي، وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي.
الأفن: هو قلة لبن الناقة، وانتقل إلى نقص العقل.
الوغى: هو اختلاط الأصوات في الحرب، وانتقل إلى الحرب نفسها.
بنى الرجل على امرأته: عبارة كانت كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديدا، وقد فقدت الآن معناها الأصلي لانقراض هذا النظام، وإن كانت لا تزال تستخدم كناية عن الزفاف.
الراوية: تعني في الأصل الجمل الذي يحمل قربة الماء، وقد صارت تعني القربة نفسها (مجاز مرسل) لعلاقة المجاورة بين البعير الذي يحمل الماء في آنيته وبين الإناء المحمول.
البريد: في الأصل الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تطور مدلولها لتطلق على الرسائل المنقولة، وعلى النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر.
الغفر، والغفران: من الستر، وانتقل إلى الصفح عن الذنوب.
ساق الرجل إلى المرأة مهرها: كان هذا التعبير يستخدم قديما حينما كان المهر عددا من الأنعام، ولكن بعد أن تغير العرف وصار المهر نقودا أعطي الفعل معنى أوسع واحتفظ بحيويته.
33
لسان القوم (أو المتحدث باسم ...): صار يستعمل بمعنى المتكلم عن قومه أو مؤسسته، على سبيل المجاز المرسل (إطلاق اسم الجزء على الكل). (1-7) الانحطاط الدلالي
Deterioration/pejoration
هو تغير يلحق بمعنى اللفظة فيكسبها دلالة سلبية، ومن أمثلته:
كلمة
Sir
و
Lady : هي في الأصل ألقاب شرف رفيعة لا تحظى بها إلا الطبقة العليا أو من تمنحه الأمة هذا اللقب تقديرا لمكانته الاستثنائية (مثل سير كارل بوبر)، غير أنه شاع إطلاقها اليوم على الأشخاص العاديين نتيجة التغيرات الكبيرة الاجتماعية والسياسية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث.
كلمة
Constable
كانت تعني «كونت الاصطبلات»، وهي شخصية سامية كانت توجد في البلاط الملكي في أوروبا في العصور الوسطى، هذه الكلمة ما تزال تحتفظ بمكانتها الراقية في مثل:
Chief Constable (رئيس الشرطة)، ولكنها فقدت هذه المكانة في
Constable (كونستابل شرطة).
34
كلمة
Notorious
كانت في الأصل تعني «مشهور»، ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مشهر» أي مشهور بشيء قبيح.
كلمة
Dogmatic
في الأصل تعني «ذو اعتقاد راسخ»، وكانت كلمة
Dogma
تعني عقيدة أو مبدأ هاديا ومرشدا، وقد انحدرت دلالتهما واقتصرت على اليقين المتصلب الجازم اللاعقلاني.
كلمة
Skeptic
تأتي من الكلمة اليونانية القديمة
Skeptikos
التي تعني «متسائل» أو «مستعلم»
Inquiring ، أي الشخص الذي يسأل ويلتمس الإجابات ولم يصل بعد إلى اعتقادات راسخة، ثم تغير معناها وصارت تعني «الشاك» أو «المرتاب».
حاجب: كانت تعني في الدولة الأندلسية «رئيس الوزراء»!
أفندي: تركية كانت تعني في الأصل مركزا رفيعا ومنصبا مرموقا. (1-8) «الارتقاء» أو «التحسن» الدلالي
Melioration/Amelioration
يقابل الانحطاط الدلالي الارتقاء الدلالي، حيث تكتسب اللفظة دلالة إيجابية أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالة سلبية، ومن أمثلتها:
كلمة
Marshal
الإنجليزية (مشير): كلمة من أصل جرماني معناه السايس أو خادم الإصطبل أو الغلام الذي يتعهد الأفراس (
Mares ).
كلمة
Angel
كانت تدل على «الرسول» الذي يشبه «موزع البريد» في أيامنا، ثم رفع الفقهاء هذا اللفظ باستعماله للدلالة على الكائن الوسيط بين العقل الإلهي والعقل الإنساني.
35
كلمة
Knight
التي تعني الآن لقب «فارس» أو «سير»، وكانت تعبر في فروسية القرون الوسطى عن مركز مرموق، وقد انحدرت إلى اللغات الأوروبية من معنى أصلي هو «ولد خادم».
36
كلمة
Minister (وزير) كانت قديما تعني «خادم» (ولا تزال تستعمل كفعل بمعنى يسعف أو يعين أو يقدم خدمة).
كلمة
Wicked
بمعنى شرير أو خبيث، صارت في السياقات العامية تعني «ذكي» أو «متألق» أو كقولنا في عاميتنا «شاطر».
كلمة
Mischievous (مؤذ) فقدت كثيرا من حدتها وصارت تعني «مزعج بظرف ومرح» أو كقولنا في عاميتنا «شقي».
كلمة
Nice (لطيف) تنحدر من كلمة فرنسية قديمة بمعنى «غبي» أو «أحمق».
بيت: في الأصل هو المسكن المصنوع من الشعر، ثم صار يعني كل بيت حتى «البيت الأبيض»! (2) مغالطة التأثيل (الإتيمولوجيا)
ثمة اعتقاد خاطئ يقر في أذهان الكثيرين مفاده أن المعنى الحقيقي لأي كلمة يجب أن يلتمس في الأصل التاريخي الذي أتت منه الكلمة، أو ما يسمى في اللسانيات ب «الإتيمولوجيا» (التأثيل/الأصل الاشتقاقي/دراسة أصل الكلمة وتاريخها)
Etymology ،
37 «والتعريف اليوناني لكلمة إتيمولوجيا يوضح هذا المفهوم: فهو تفتح الكلمات الذي من خلاله تبدو معانيها الأصلية جلية.»
38
ولعل القارئ الآن، بعد عرضنا للتغير اللغوي، قد أصبح محصنا ضد هذا الاعتقاد وما ينطوي عليه من تبسيط مفرط لطبيعة اللغة ومنشئها وقوانينها المسيرة.
وتعود تسمية هذه المغالطة (
Etymological Fallacy ) إلى جون ليونز
John Lyons
ويعني بها خطأ التأثيليين حين يحاجون بأن كلمة ما تعود إلى أصل يوناني أو لاتيني أو عربي ... إلخ؛ ولذا فإن معناها ينبغي أن يكون مطابقا لما كانت عليه في الأصل. ويبدو زيف هذه الحجة في أن الافتراض الضمني بوجود «صلة حقيقية» أو «مناسبة» في الأصل بين المبنى والمعنى - وهو ما تستند إليه هذه الحجة - هو شيء لا يمكن التحقق منه .
39
وقد سبق أن عرضنا لمنطق التأثيليين في حديثنا عن محاورة كراتيلوس في فصل طبيعة اللغة، وتبينا أنهم يعتقدون بوجود علاقة طبيعية (غير اصطلاحية) وضرورية بين الدال والمدلول، وأنهم بالتنقيب في الماضي عن أصل الكلمة والكشف عن معناها الحقيقي إنما يصلون إلى حقيقة من حقائق الطبيعة، أو يميطون اللثام عن «ماهية» الشيء الذي تدل عليه الكلمة!
وشبيه بهذا ما يفعله بعض الباحثين عندما يفسرون المعنى الاصطلاحي لمفهوم ما بمعناه اللغوي، مع احتمال ألا يكون المعنى الاصطلاحي مرتبطا بالمعنى اللغوي ارتباطا وثيقا. وقد سبق لابن تيمية وابن قيم الجوزية أن اعترضا على استخدام أنصار المجاز للمنهج التاريخي في التمييز بين الحقيقة والمجاز رغم صعوبة التثبت من أصل اللفظ، وعدم وجود ما يفيد تاريخيا بسبق أحدهما على الآخر.
40
والحق أن التأثيل منهج مستخدم اعتمد عليه الكثير من اللغويين اعتمادا كبيرا، وبخاصة في القرن التاسع عشر، حيث أقيم على أسس أمتن مما كان عليه قبل ذلك، وما زال مستخدما حتى الآن، ويعد فرعا معتبرا من اللسانيات التاريخية (الدياكرونية)، وله دعائم منهجية خاصة تتوقف على كمية الشواهد المؤيدة ونوعها، إلا أنه بات واضحا للتأثيليين في القرن التاسع عشر، وسلم به اللسانيون عامة في الوقت الحاضر، أن معظم كلمات المعجم في أي لغة لا يمكن أن تعزى إلى أصولها، وقد انتكس المنهج التاريخي بعد دعوة دي سوسير إلى الفصل بين الدراسات التزامنية (السينكرونية) والدراسات التاريخية (التعاقبية/الدياكرونية)، وكرس مبدأ «اعتباطية العلامة اللغوية» على نحو نهائي حاسم، ومنح الصدارة للسينكروني على الدياكروني، ولفت الانتباه إلى أهمية الدراسة الوصفية التي تقتصر على النظر إلى «حالات» اللغة، وضرورة استبعاد العامل التاريخي عند دراسة «حالة» من حالات اللغة، فاللغة عند سوسير هي مجرد نسق أو نظام وتؤدي وظيفتها باعتبارها «بنية» لا تنطوي في ذاتها على أي بعد تاريخي، من ذلك أن تاريخ كلمة ما كثيرا ما يكون بعيدا كل البعد عن أن يفيدنا في فهم المعنى الراهن لهذه الكلمة.
وفي كتابه «اللغة» يعرض ليونارد بلومفيلد لمنهج التأثيل، ويكشف لنا بؤس الإتيمولوجيا، ويبين أن منهج الحفر التاريخي في اللغة لا يفضي إلى شيء. يقول بلومفيلد: خذ مثلا كلمة
Blackbird (الشحرور) وتتكون من
Black
و
Bird ، وتطلق على نوع من الطير، وهذا النوع من الطير إنما سمي بهذا الاسم بسبب لونه الأسود، وهذه حقا تسمية صادقة تصدق على هذه الطيور: فهي طيور، وهي سوداء ... وجريا على هذا المنطق، أكان من الممكن أن يستنتج علماء اليونان أن ثمة صلة باطنة عميقة بين ال
Gooseberry (عنب الثعلب) وال
Goose (الإوز)؟! ... إن التحليل في جميع اللغات لا يسمح بذلك ولا يجود به، ولنا في اليونانية والإنجليزية أمثلة كثيرة من الكلمات التي تستعصي على هذا النوع من التحليل الذي يتصوره التأثيليون: كلمة
Early
أي مبكرا، تنتهي بمثل ما تنتهي به كلمة
Manly
بمعنى رجولي، فاللاحقة
ly
مضافة إلى
Man (رجل)، ولكن إذا جردنا الكلمة الأولى من اللاحقة
ly
فماذا يتبقى؟ يتبقى
Ear (أذن)، فهل تعطي فائدة؟ إنها بقية غامضة لا تفيد ... وكذلك كلمة مثل
Woman (امرأة): إنها تلتقي مع كلمة مثل
Man (رجل)، ولكن ما دور المقطع
wo
في هذا؟ إن هذا المقطع هو الذي يفصل بين دلالة هذه الكلمة ودلالة الكلمة الأخرى من الناحية الشكلية الصوتية، ولكن ما قيمة هذا المقطع الأول
Wo
في التحليل الاشتقاقي؟ إنه لا دور له، ولا دلالة له كذلك ... وعلى هذا النحو تواجهنا صعوبات في تحليل الكلمات القصيرة أو البسيطة، التي هي أقل من السابقة، فكلمات مثل
Man, Boy, Good, Bad, Eat, Run ... ، وغيرها كثير، لا يعين فيها التحليل الإتيمولوجي (التأثيلي/الاشتقاقي) على كشف صلة بين الكلمة وما تشير إليه ... ولكن علماء اليونان، ومثلهم تلامذتهم من علماء الرومان كانوا في مثل هذه الحالات يلجئون إلى الحدس والتخمين ... إن صيغ الكلام تتغير وإنها قابلة للتغير لأنها غير ثابتة على حين أن المسميات لا تتغير، وكذلك المعاني ثابتة لا تتغير ... أي أنه لا توجد علاقة طبيعية ضرورية، أو منطقية عقلية، بين الاسم والمسمى أو بين الدال والمدلول ... وصفوة القول عند بلومفيلد أن التحليل التأثيلي لا يؤدي إلى شيء، وأنه لا طائل من ورائه ... وإنما هو دليل على أنه لا توجد علاقة ولا رابطة عقلية ضرورية بين الاسم والمسمى.
41
وتبلغ المغالطة التأثيلية مداها، وتصبح مسخا كاريكاتوريا، حين تعمل أدواتها التاريخية في المصطلح العلمي أو التكنيكي حيث الطابع الاصطلاحي المطلق للعلامة، وتحاول أن تفهم المصطلح الفني المتخصص بمعناه اللغوي الدارج! وهو ما يمكن أن نطلق عليه «ابتذال المصطلح»
Vernacularization .
42
إن اللفظ اللغوي العادي حين يوضع بين هلالين ويتحول إلى مصطلح علمي فإنه يفارق داره وينسى ماضيه، ويكتسي معنى جديدا قد لا يكون له بمعناه اللغوي الدارج أي علاقة؛ وبالتالي فليس يجدي نفعا تنقيبنا عن أصله وفصله، ولا يقربنا إلى فهم المصطلح في وضعه الجديد. يقول جاستون باشلار في كتابه «المادية والعقلانية»: «إن اللفظ عندما يوضع بين مزدوجتين فهو يبرز وتحتد نغمته، إنه يأخذ فوق اللغة العادية نغمة علمية. ما إن يوضع لفظ من ألفاظ اللغة العادية بين مزدوجتين حتى يكشف عن تغير في منهج معرفة تتعلق بميدان جديد للتجربة، وبإمكاننا أن نذهب حتى القول من وجهة نظر الباحث الإبستمولوجي إن هذا اللفظ علامة على قطيعة وانفصال في المعنى، وإصلاح للمعرفة.»
43
وبعد، فحين يحاج المرء بأن دعواه صائبة لا لشيء إلا لأن الأصل اللغوي نفسه للكلمة يفيد ذلك - فإنه يقع في ضرب من الاستدلال الدائري. وفضلا عن ذلك فإن افتراض أن الكلمات يجب أن تبقى لصيقة بمعناها التاريخي الأول هو افتراض ينطوي على إغفال عبثي للطبيعة الاصطلاحية للغة، وتقييد لا مبرر له لنموها وتطورها.
إن اللغة لفي سيرورة دائمة وتحول دائب، وهناك ألف سبب يلح على الألفاظ أن تخرج من جلدها وتكتسي معاني جديدة غير ذات صلة بمعناها القديم. وما دامت اللغة في تغير مستمر فمن الطبيعي أن تواكبها في ذلك علوم اللغة المنوط بها رصد الظاهرة اللغوية وضبط حركتها، وأن يكون نهج العلوم اللغوية توترا محسوبا بين «المعيارية» و«الوصفية»: معيارية تصون اللغة من التحلل والانهيار، ووصفية تفتح لها آفاقا للتطور والارتقاء.
44 (2-1) قل وقل وقل
يوشك هواة قل ولا تقل أن يغادروا الناس وهي لا تقول ولا تقول.
ماذا يعني أن تقول في اللغة: «هذا خطأ »؟
يعني أنه لا يراعي «مستوى صوابيا»
Standard of correctness
معينا كان ينبغي أن يراعيه. يقول جاردنر في كتابه «الكلام واللغة» (1933م): «ومن أجل هذا يجب أن نسأل أنفسنا أولا: ما هي اللغة؟ ومن صاحب السلطة في وضع القواعد والأسس والاستعمالات والكلمات التي يجب التزامها وتفرض على الجميع؟ وهذه أسئلة سهلة، ولكن الإجابة عليها عسيرة، فهناك تقدير تقريبي للموضوع من رأيه أنه كما يقف الفرد وراء كلامه ليدافع عنه، فإن «المجتمع اللغوي» يقف أيضا من وراء اللغة عموما»
45 ... وكان السائد في الجيل الماضي اتجاه اللغويين إلى النظرة للغة نظرة معيارية صرفا: فمهمة النحو تدريس قواعد صحة الكلام، ووظيفة المعجم ليست إعطاء معاني الكلمات فقط بل الإشارة أيضا إلى ما يجب أن تعنيه الكلمات، ولكن الاتجاه الآن يسير ضد هذا الاتجاه المعياري، إذ أصبحت جل المؤلفات اللغوية «تصف» الاستعمال اللغوي في صورتيه الماضية والحاضرة ... مع وضع «التغير اللغوي» في الاعتبار؛ «لأن اللغة في أي لحظة من لحظاتها ليست فقط ما هو كائن بالفعل وإنما ما سيكون في المستقبل، فاللغة في حركة دائمة وفي تحول دائم.»
46
لم يكن قدامى اللغويين العرب يبحثون أسباب التغير، ربما لأنهم عدوا التغير خطأ وحثوا العامة على اجتنابه، وقصروا جهدهم على تعقب الخطأ ورصده، بغية التحرز منه واجتنابه، في «أدب الكاتب»، على سبيل المثال، أفرد ابن قتيبة بابا بعنوان «باب معرفة ما يضعه الناس في غير موضعه»،
47
صفوة القول أن قدامى اللغويين لم يدرسوا التغير لأنهم عدوه لحنا، فدرسوا اللحن!
اللحن
منطق صائب وتلحن أحيا
نا وأحلى الحديث ما كان لحنا
للحن معان عديدة تدور حول معنى عام هو «الميل» وتحول الشيء من هيئته المألوفة إلى أخرى غير مألوفة. من معاني اللحن: الغناء والتطريب، اللهجة الخاصة، الفهم والفطنة، التعريض والإيماء والتورية، الخطأ في اللغة.
48
بعد أن اختلط العرب بالأعاجم بدأ اللحن يظهر على ألسنتهم؛ فكانت ردة الفعل الطبيعية من جانب العلماء استهجان هذه الحال والتنادي لوضع حد لها، من هنا نشأت حركة تصحيح لغوية كبيرة تنبه على الأخطار وتشير إلى وجه الصواب ، وأثمرت عددا كبيرا من الكتب التي عرفت باسم «كتب اللحن»، وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق.
من أسباب ظهور اللحن:
اختلاط الفصحى بغيرها من اللغات.
إقدام الكثير من الرواة على وضع الشعر واختلاقه؛ لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لنصرة مذهب سياسي أو كلامي أو لغوي.
وقوعه من ذوي الشأن كالخلفاء والوزراء والعلماء، والتماسهم من ينقذهم من وهدته.
تنازع النحاة في المسألة الواحدة. ومن شأن ذلك أن يشجع اللاحنين على ما هم فيه ما داموا يجدون من يلتمس الشاهد أيا كان ويصوب الفاسد ويقوي الضعيف.
اغتفار اللحن في مواقف خاصة.
الاضطراب الاجتماعي والسياسي.
49
يستند المخطئون إلى معايير معينة يمكن تلخيصها فيما يلي:
عدم السماع:
أي عدم ورود اللفظة عند العرب الفصحاء في عصر الاحتجاج. ولهذا المعيار عيبان أساسيان: (1) فهو يقصر في كثير من الأحيان أمام حاجة العصر للألفاظ الجديدة، وقد أحسن مجمع اللغة العربية المصري صنعا عندما حرر السماع من قيود الزمان والمكان، ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات، وأجاز الاعتداد بالألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ المأثورة عن القدماء.
50 (2) وهو يقتضي من يتخذه أن يكون مطلعا على كل ما ورد عن العرب، وهذا شبه مستحيل، وفيه كثير من المجازفة.
عدم القياس:
القياس هو رد الشيء إلى نظيره، وقد روي عن الخليل وسيبويه قولهما «ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم»، وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة الأخذ بمبدأ القياس، ثم أطلقه ليشمل ما قيس من قبل وما لم يقس، وقد قسم ابن جني كلام العرب من حيث الاطراد والشذوذ إلى: (1) مطرد في القياس والاستعمال جميعا، مثل: قام زيد، ضربت زيد، مررت بسعيد. (2) مطرد في القياس شاذ في الاستعمال: مثل الماضي من «يذر» و«يدع». (3) مطرد في الاستعمال شاذ في القياس: مثل: استصوبت الأمر، ولا يقال استصبت، ومثل: استحوذ، واستنوق الجمل، واستفيل الجمل واستتيست الشاة. وهذا الضرب من الكلام لا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه، لكنه لا يتخذ أصلا يقاس عليه غيره. (4) شاذ في القياس والاستعمال جميعا: كتتميم مفعول فيما عينه واو، مثل: ثوب مصوون، ومسك مدووف، وحكى البغداديون: فرس مقوود ورجل معوود من مرضه،
51
وقد أحسن ابن جني إذ لم يخطئ إلا ما شذ في القياس والسماع معا.
عدم ورود اللفظة في المعاجم:
وهو معيار فيه مجازفة أيضا لأن المعاجم لم تحط بكل ما قالته العرب. يقول أمين ظاهر خير الله في كتابه «الرأي الحاسم في الكلام الذي خلت منه المعاجم» (المطبعة العلمية، بيروت، 1932): «هذا جانب صغير مما أغفلت المعاجم ذكره، ولو اتسع لي المقام لجئت بمئات من الأفعال والأسماء وردت في كلام أمراء الشعر والنثر ولم يرد الجلاء عنها في المعاجم.»
52
الاستناد إلى اللغة الأفصح:
ويعنون بالأفصح دائما المأثور السائر الرائج بين الفصحاء، ولكن «الغريب» و«الشاذ» و«القليل» و«النادر» جزء من ثروة اللغة، ولا خلاف في كونه من أسلم كلام العرب، فقد ورد في القرآن والحديث وشعر العرب ونثرهم، وقد تكون ندرته منسوبة إلى زمان معين أو مكان معين، كما أن الحكم بالشذوذ والندرة والقلة فيه مجازفة لأنه يستدعي قراءة التراث كله، وما نحكم عليه بالشذوذ قد لا يكون كذلك لو وصل إلينا كل ما قالته العرب. وقد كان البصريون يبنون قواعدهم على الغالب الأعم من اللغة ويئولون ما يرونه شاذا أو نادرا أو قليلا، بينما كان الكوفيون يقيسون هذا الشاذ أو النادر، وقد ثبت في كثير من المسائل صحة ما ذهب إليه الكوفيون: مثل إجازة النسبة إلى الجمع، وإضافة مضافين إلى مضاف إليه واحد، وتقديم التمييز على عامله إذا كان فعلا متصرفا، وجواز تعريف العدد المضاف إضافة معنوية ب «أل» ... إلخ.
53
الاستناد إلى قواعد النحو والصرف:
ولكن هذه القواعد نفسها لا تخلو من الفساد في بعض الأحيان! وخاصة عندما منع النحاة اشتقاق وزن «فاعل» من «فعل»، أو جمع «فعل» على «أفعال»، ومجيء «كافة» إلا حالا، ودخول «أل» على «بعض»، وإضافة مضافين إلى مضاف إليه واحد، واشتقاق أفعل التفضيل من اللون ... إلخ، وغير ذلك مما أثبت الاستقراء اللغوي السليم صحته.
54
رفض المولد:
أي الذي استعمله الناس بعد عصر الرواية، وهو معيار يفضي إلى تحنيط اللغة في ألفاظها ومعانيها، فكل لفظ قديم كان ذات يوم «مولدا» إن جاز التعبير، وقبول المولد سنة طبيعية في اللغات جميعا، ومظهر حيوي للغة يساعد على بقائها ونمائها وتطورها. (2-2) المستوى الصوابي
حين نقول: إن السلطة اللغوية هي المجتمع اللغوي، فإنما نعني تلك «الجماعة التي تستعمل نظام الكلام بطريقة موحدة»، على حد قول بلومفيلد، ففي كل وسط اجتماعي متجانس السكان نجد عادة أن للغة شيئا من الوحدة، بل إنه لشرط أساسي لوجود اللغة أن يحرص من يتكلمونها على استخدام نفس الوسائل للتعبير،
55
فالجماعة المتزاملة لغويا تستعمل، كما يقول فيرث، ما يتقاسمونه من تجارب مشتركة، وهم يستمسكون بهذا التماثل ويحرصون عليه؛ لأنه شرط الفهم والإفهام في بيئتهم الخاصة.
56
والأفراد يكتسبون اللغة من بيئتهم وفي عصرهم الذي عاشوا فيه، ومن ثم فإنهم يراعون اللغة كما تنطق في عصرهم لا كما تنطق في عصور سبقت، ولا كما ينبغي أن تنطق وفق نموذج مثالي لعصر ذهبي غيبته الأيام، اللغة في تغير مستمر، وقد يكون هذا التغير بطيئا لا يتضح إلا بمرور جيل أو أجيال، ولكنه يحدث، ولا ينفيه بطء حدوثه، ونحن إذ نفترض الثبات اللغوي فإنما نفعل ذلك لدواعي التشريح والدراسة، وبغية اقتناص «حالة لغوية» سينكرونية لضرورة الرصد والتقعيد، بينما اللغة في حركة مستمرة والعرف اللغوي في تغير دائب، الثبات اللغوي إذن ليس أكثر من حيلة إجرائية ووهم عملي.
نخلص من ذلك إلى تعريف المستوى الصوابي على أنه: «مراعاة العرف اللغوي المقتصر على بيئة خاصة في زمن خاص، مع اعتبار التطور في اللغة، يتوافق معه نشاط المتكلم ويلاحظه الباحث بهذه الصفات.»
57
يتبع ذلك بالضرورة تغير ما يراعيه المتكلم على حسب العرف اللغوي الجديد الذي يفرض نفسه عليه كي يتوافق معه، ويترتب عليه أن مستعمل اللغة لا يطالب بغير مراعاة المستوى الصوابي في اللغة الذي اكتسبه من الجيل الذي هو أحد أفراده، ومن عرف العصر الذي عاش فيه .
58
ليس هذا الحديث دعوة إلى إلغاء القواعد والانصراف عن جهات الاختصاص اللغوي، بل دعوة إلى أن تراعي جهات الاختصاص طبيعة القواعد ومنشأها وحركتها، بحيث تأتي القواعد متفقة مع استعمال اللغة وتطورها وتبرأ من التعسف والجمود، وتأتي المقترحات الجديدة متوافقة مع طبيعة اللغة، بوصفها ظاهرة اجتماعية تخضع للعرف الاجتماعي العام والعرف اللغوي الخاص، ولا تكون محاولات دونكيشوتية تحارب في غير ميدان، ومماحكات تكد الذهن في غير طائل.
لقد توقف النحاة في تقعيداتهم عند زمن معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئة بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة، هذا ما أربك الفصحى وصعب قواعدها وجعلها أشبه بلغة أجنبية في دراستها وفي استخدامها. «إن التطور اللغوي (الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي) ليستتبع تغييرا في المستوى الصوابي من الناحية التاريخية كذلك، فما كان صوابا في الماضي يصبح خطأ في الوقت الحاضر، ويصبح خطأ اليوم صواب الغد إذا رأى المجتمع اللغوي أن يتبناه في الاستعمال.»
59 «وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها، وهذا عكس لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»
60 «ولو أن الاستشهاد لم يقف عند حد على يد النحاة العرب لأمكن أن تجري دراسة اللغة على مراحل وعصور باستقراء ما يجد من النصوص إلى أيامنا هذه، ولاعتبر كل ميل غير فردي إلى مخالفة القواعد السابقة تطورا في الاستعمال اللغوي يتطلب تطورا في النظرة إلى هذه القواعد في ظل منهج وصفي لدراسة اللغة، ولكن إيقاف الاستشهاد عند حد معين جعل النحاة وقد جفت روافد الاستقراء عندهم يلجئون إلى ما لديهم من القواعد، فيجعلونها مادة الدراسة بدل النصوص التي أعوزهم الجديد منها، وما دامت القواعد نفسها هي الهدف وهي مادة الدراسة فلا مهرب إذن من النظرة إلى هذه القواعد باعتبارها مقاييس ومعايير من صلب المنهج؛ لبيان الصحيح والخطأ من التراكيب، أي أن المستوى الصوابي بدل أن يكون فكرة اجتماعية يراعيها المتكلم، أصبح فكرة دراسية يراعيها الباحث، وبهذا توقف العمل بالمنهج الوصفي في دراسة اللغة، وأصبح لزاما علينا الآن أن ننظر إلى الدراسات اللغوية العربية باعتبارها دراسة تصف مرحلة معينة من تطور الفصحى، ولكن هذه المرحلة تشتمل في الحقيقة على مراحل، وقد كان مؤرخو الأدب أسرع إلى الاعتراف بعصور اللغة من النحاة، وكان أولى بالنحاة أن يعترفوا بهذه المراحل ويدرسوا كل واحدة منها دراسة وصفية على حدة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب.
61
وقد أصبح لزاما علينا أيضا إذا أردنا دراسة ما جد من تطور في هذه الفصحى أن نبدأ بدراسة مرحلتنا هذه التي نعيش فيها دراسة وصفية، وأن نتطرق منها إلى ما سبقها من المراحل التاريخية التي حدثت منذ توقف الاستشهاد وأن نقطع النظر عن نفوذ هذه الدراسات القديمة على تفكيرنا، ونبدأ بالدراسة على أساس منهج وصفي يتوخى الاستقراء والتقعيد من جديد.»
62
خطأ مشهور
تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها!
يسبرسن
التغير «عملية» و«حالة»: «عملية»
ابتداع وتجديد (فردي في الأغلب) مخالف «بطبيعة حاله»
Ipso facto
للعرف السائد، تتبعها «حالة»
state
يستتب فيها الطارف المستجد ويدخل متن اللغة فلا يعود جديدا، وهكذا دواليك. يقول أولمان إن التغير في اللغة يقع على مرحلتين: الأولى هي مرحلة التغير نفسه وما يطلق عليه «الابتداع والتجديد»
Innovation
ويحدث هذا في الكلام الفعلي، وقد يقوم به فرد من الأفراد بإدخال عناصر جديدة في استعمال اللغة، والثانية هي مرحلة «انتشار التغير»
Dissemination
بأن تتداوله الجماعة فيما بينها، وإذا حدث ذلك أصبح التغير عنصرا من عناصر نظام اللغة، ما دام قد سمح له بالاستعمال العام بين الناطقين بها. فالتغير يبدأ أولا فرديا بما يدخله فرد أو أفراد على نظام اللغة من استعمالات جديدة، مما ينظر إليه أولا على أنه «مخالفة» (خطأ!) لما عليه الجماعة، فإذا قدر لهذه «المخالفات» (الأخطاء!) أن تلقى قبولا من غيرهم، فإنها تأخذ الطابع الاجتماعي العام، وتصبح القاعدة التي يتبعها كل الناطقين باللغة.
63
هذا تأويل قول يسبرسن عن بعض اللغويين: «إن تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها.»
64
شرعية اللغة الشيوع.
ومن ثم فإن عبارة «خطأ مشهور» شأنها شأن «مربع مستدير» ... تناقض ذاتي! فإذا ما وجدت الخطأ المشهور أكثر جمالا ووضوحا وإبانة، فاعلم أن شهرته مشروعة مستحقة: الجمال، والوضوح، والإبانة. وماذا يكون «الصواب» أكثر من ذلك؟! «خطأ مشهور» هي ذاتها خطأ مشهور!
حين تشيع مجاوزة لغوية وتنشر رايتها على الألسنة، يتحول عنصرها وتتبدل صفتها وتأخذ رتبة «قاعدة»؛ قاعدة لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق، وما كان لهذه «المخالفة» أن تبسط سلطانها لو لم تكن تقدم فكرا، وتحقق وصلا، وتسد فراغا، وتثبت نجاعة. لقد تمت لها «المواضعة»
Convention
فصارت من ثم «لغة»، ومن السفه أن نتنازل عنها بدعوى قل ولا تقل! وهل اللغة إلا «مواضعة» جدت، على رسلها، لتحقيق التواصل بعد أن كانت وسيلة التواصل فأفأة و«قاعدته» صراخا و«نحوه» لهاثا ونخيرا. هل اللغة إلا ذاك «الخروج» على الصراخ والمروق من الحبسة؟ وإذا كان الخطأ هو خروج عن المتبع وتململ عن المستقر؛ فاللغة بقضها وقضيضها هي بهذا المعنى خطأ مشهور، وإن امتاز عن غيره من الأخطاء بأنه خطا كبير ... بحجم العالم. (3) تصويب الفكر قبل الكلمات (3-1) أمثلة من تصحيح الصحيح
وكأنا لم يرض فينا بريب ال
دهر حتى أعانه من أعانا
المتنبي
أما وجد هذا لبيتي مخرجا في العربية؟!
الفرزدق
أكثر اللغة مجاز لا حقيقة.
ابن جني
لسنا هنا بصدد تصويب
65
كلمة أو كلمات، وليس هذا من غرض الكتاب في شيء، إنما نحن بصدد تصويب منطق وتقويم منهج وتصحيح فكر. إن فينا قوما تملكهم «إرهاب معجمي» و«سادية لغوية»، يقومون من زمن بوظيفة شرطة لغوية مولعة بتحرير المخالفات، وبلعبة قل ولا تقل، ينصبونها للتسلط والتسلي، «كفعل الهر يحترش العظايا!»، ويغالون في ذلك إلى حد «تصحيح الصحيح»! يظن هؤلاء أنهم يحسنون إلى اللغة وهم يؤذونها غاية الإيذاء وينشرون فيها الفوضى والاضطراب، ويبثون في الناس اليأس من الفصحى والانصراف عنها، وها هي العربية تحتضر على أيديهم الخشنة، وليس موت اللغة سوى أن تهجر اللسان، يظن هؤلاء أنهم يصلحون اللغة وهم يهزون القارب وينخرون فيه نخرا منكرا، لقد أضلتهم القواعد (البعدية) فسلبتهم السليقة (القبلية)، وكأنا بالذيل يهز الكلب والعربة تتقدم الحصان.
لماذا كان العربي القديم يتكلم بسجية تعنو لها القواعد وتأتي بعدها ووراءها وعلى قدها، حتى لقد شرع السماع وأصبح الذوق قواعد، بينما قلبنا نحن الآية وبدأنا بالقواعد نتحنث في محرابها ونطوع لها الذوق، حتى ضجر الناس من العربية، وانفضوا عن الخطأ والصواب، وفقدوا الذوق والقواعد؟!
متحف
يقولون: قل متحف بضم الميم ولا تقل متحف بفتحها؛ لأنه اسم مكان لموضع التحف الفنية، والأصل «أتحف» الرباعي وليس «تحف» الثلاثي الذي لم يرد، وعليه يكون اسم المكان هو «مفعل» بضم الميم وفتح العين.
والآن علينا أن نسجل أولا أن كلمة «متحف» بضم الميم ثقيلة الظل تشارك بسهم في كراهة اللغة العربية والازدراء بها والضحك عليها، وكلنا يحس بعد نطقها بوعكة لا يدري كنهها، فاستفت قلبك فيها وإن أفتاك الناس. ثم علينا أن نتساءل: لماذا كان ذلك؟ والجواب، ببساطة؛ لأنها خطأ، ولأنها غير ما نعنيه جميعا إذ ننطق بهذه الكلمة البسيطة ونعني بها المكان الذي تجمع فيه التحف لا المكان الذي تعطى فيه وتمنح (وهو ما لا يحدث في دور الآثار!)، إنها موضع «التحف» لا «الإتحاف». وللأستاذ الدكتور محمد كامل حسين، عضو المجمع اللغوي، وقفة عز مع هذه الكلمة وغيرها، يخلص منها إلى دروس لغوية ثمينة. يقول سيادته في مجلة المجمع، ج22، 1967: «والمتحف» بضم الميم كلمة سقيمة سيئة المبنى، وهي خطأ، وليس لها من العربية إلا انطباقها على قاعدة صرفية، وقد سبق أن وصفت الكلمات المهجورة بأنها من ورق أهل الكهف، صحيحة ولكنها غير قابلة للتداول، أما كلمة «متحف» فهي من العملة المزيفة التي ليس لها من العربية إلا مظهرها، وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي » أن مجمع اللغة العربية اعتمد على كثرة اشتقاق العرب من الأسماء الجامدة مثل «أثث» بمعنى وطأ، و«تبغدد» بمعنى انتسب إلى بغداد أو تشبه بأهلها، و«تفرعن» بمعنى تخلق بخلق الفراعنة، فأقر الاشتقاق من أسماء الأعيان من غير تقييد بالضرورة لما في ذلك من إثراء للغة، وكان قد أقر أيضا جواز تكملة فروع مادة لغوية لم تذكر بقيتها في المعاجم. وقد أقر المجمع استعمال كلمة متحف بضم الميم وفتحها: بالضم على أنها اسم مكان من «أتحف» وبالفتح على أنها اسم مكان مشتق من الفعل الثلاثي «تحف» المأخوذ من كلمة «تحفة».
يقول د. محمد كامل حسين: «على أن معنى متحف ليس صحيحا إلا من حيث مطابقته لقواعد الصرف، أما الذوق اللغوي فيأباه، والذوق يدق عن القواعد؛ ذلك أن اشتقاق اسم المكان من أفعل المتعدي نادر جدا، وأكثره من الأفعال اللازمة، فإذا كان الفعل يأتي لازما مثل أقام فإن اسم المكان يشتق من معناه اللازم فالمقام من أقام بالمكان، ولا أعرف أن أحدا يسمي مكان الصلاة مقام الصلاة وإن صح ذلك من جهة قواعد الصرف. ولا أريد أن أعرض لنظرية السماع والقياس، ولكني أقول إن العربي الذي فرض اللغويون وجوده وسط الجزيرة العربية لا يختلط بالأعاجم هو الذي قال ب «المأسدة»،
66
وهو في هذا بين أمرين: إما أن سليقته التي تحس بأدق القواعد خانته فاشتق اسم المكان من الجامد، وهذا يقضي على نظرية السماع كلها، وإما أن يكون وجد نفسه في حاجة إلى هذا الشذوذ؛ فوضع كلمة جديدة تدل على ما يريد ولم يعبأ باشتقاقها. والحاجة التي دفعت العربي إلى صياغة فاسدة أو شاذة ليست أشد من حاجتنا إلى صوغ كلمة تدل على مكان تكثر فيه التحف، وعلى ذلك تكون كلمة متحف بفتح الميم هي الكلمة العربية الصحيحة.»
تقييم
إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب.
ابن جني
يقولون: لا تقل «تقييم» (الثمن، السلعة، العمل ...)، وقل «تقويم»، ولا تقل «يقيم» وقل «يقوم »؛ لأن الفعل واوي، أما كلمة «قيمة» فياؤها منقلبة عن واو، وفي الإعلال أن كل واو تقلب ياء إذا كانت ساكنة وكسر ما قبلها.
لا يخفى أن لكلمة «تقويم» معاني كثيرة (تحديد القيمة، التصويب، العقاب، حساب الزمن، مواقع البلدان)، في هذه الحالة من الاشتراك اللفظي يتكفل السياق بتحديد المعنى المقصود بسهولة ووضوح، فيما عدا التفرقة بين التصويب وتحديد القيمة، مثال ذلك: «على المدرس أن يقوم أداء الطلاب»، ولا تدري أيحدد مستوى أدائهم أم يصوبه ويعدل اعوجاجه، وفي كل سياق تأتي فيه كلمة «تقويم» بمعنى التصويب أو بمعنى تحديد القيمة يلتبس المعنى على المتلقي التباسا شديدا بحيث لا يستطيع التيقن من المقصود إلا إذا سأل المتحدث نفسه، وجها لوجه، عما يعنيه هنا ويقصده. هذا مثال لحالة يكون فيها الصواب الصرفي (أو بالأحرى الاطراد) هو الملتبس والغامض، وهذا شيء مضاد لطبيعة اللغة وطبيعة الإفصاح. ومن المعروف أن العربي كان يلجأ إلى الشاذ إذا كان فيه الإبانة والخفة، «واللغويون يقبلون الشاذ إذا سمع عن العرب كما في مادة «الديمة»، ويقولون إن هذا شيء سماعي لا يقاس عليه، ولا يقول أحد بأن كل شاذ يصلح أن يقاس عليه، ولكن الحاجة التي حملت العربي على الشذوذ قد تنشأ في كلمات أخرى، ويكون مباحا أن نقيس على صيغة شاذة عند الحاجة، والحاجة عندنا إلى كلمة «تقييم» أشد من حاجة العربي إلى أن يقول «ديمت السماء» حيث المعنى لا يختلف عن قوله «دومت السماء».»
67
على الرغم من أن أصل الكلمة هو الواو، إلا أن «العرب ربما قطعوا النظر عن أصل حرف العلة، ونظروا إلى حالته الراهنة، ومن هنا أجاز مجمع اللغة العربية استعمال «قيم» بالياء بمعنى حدد القيمة، للتفرقة بينه وبين «قوم» الشيء بمعنى عدله، وقد جاءت المعاقبة بين الواو والياء المشددتين في أمثلة من كلام العرب يستأنس بها في تصحيح ذلك، وقد أوردت المعاجم الحديثة كالوسيط والأساسي والمنجد هذه الكلمة، ونص الوسيط على أنها مجمعية.»
68
في «باب في تدريج اللغة» يقول ابن جني في الخصائص: «وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع، فيمضي حكمه على الحكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره ... ومن ذلك قولهم: صبية وصبيان، قلبت الواو من صبوان وصبوة في التقدير - لأنه من صبوت - لانكسار الصاد قبلها، وضعف الباء أن تعتد حاجزا؛ لسكونها، وقد ذكرنا ذلك، فلما ألف هذا واستمر تدرجوا منه إلى أن أقروا قلب الواو ياء بحاله وإن زالت الكسرة، وذلك قولهم أيضا: صبيان وصبية، وقد كان يجب - لما زالت الكسرة - أن تعود الياء واو إلى أصلها، لكنهم أقروا الياء بحالها لاعتيادهم إياها حتى صارت كأنها كانت أصلا، وحسن ذلك لهم شيء آخر، وهو أن القلب في صبية وصبيان إنما كان استحسانا وإيثارا، لا عن وجوب علة، ولا قوة قياس، فلما لم تتمكن على القلب ورأوا اللفظ بياء قوي عندهم إقرار الياء بحالها؛ لأن السبب الأول إلى قلبها لم يكن قويا، ولا مما يعتاد في مثله أن يكون مؤثرا ... ومن ذلك قولهم: أبيض لياح، وهو من الواو؛ لأن ببياضه ما يلوح للناظر، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وليس ذلك عن قوة علة، إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب، وهو التطرق إليها بالكسرة طلبا للاستخفاف ... ومن التدريج في اللغة قولهم: ديمة وديم، واستمرار الكسر في العين للكسرة قبلها، ثم تجاوزوا ذلك لما كثر وشاع إلى أن قالوا: ديمت السماء ودومت، فأما دومت فعلى القياس، وأما ديمت فلاستمرر القلب في ديمة وديم ... فهو بالياء لهذا آنس، وجماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها، فهم لا يزالون تسببا إليها، ونجشا عنها، واستثارة لها، وتقربا ما استطاعوا منها ...»
69
ومن هذا الباب كلمة «تريض» بمعنى «خرج للتنزه»، فقد رفضها من رفض لأن الكلمة واوية، غير أن معجم «الأساسي» ذكرها بمعنى خرج للمشي على سبيل الرياضة، وقد تبين لنا الآن أنها صحيحة بالاشتقاق المباشر من كلمة «الرياضة»، مثلما أن «التقييم» صحيحة بالاشتقاق من كلمة «القيمة».
نفس، وعين
يقولون: لا تقل «جاء نفس الرجل»، والصواب «جاء الرجل نفسه»؛ لأن كلمتي «نفس، وعين» إذا كانتا للتوكيد وجب أن يسبقهما المؤكد، وأن تكونا مثله في الضبط الإعرابي، وأن تضاف كل واحدة منهما إلى ضمير مذكور حتما، يطابق هذا المؤكد في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع.
ونقول: نعم، لنلتزم بذلك وسعنا فهو أقوم وأسعد، ولكن أسبقية التوكيد تكون أوضح وأسمح في سياقات معينة، فلم التضييق ومجال القول ذو سعة؟ ولماذا لا نطاوع ضغط اللغة المحكية والأجنبية وكلتاهما تقدم التوكيد على المؤكد؟ العقل نفسه، والخاطر والشعور، كثيرا ما يقدم التوكيد على المؤكد! وفي سياقات معينة توقعنا القاعدة القديمة في اللبس والاضطراب، وبخاصة حين يكون المؤكد مضافا، يعرف ذلك كل من له باع في الترجمة: هبني أريد أن أؤكد: بنود الوصية، أو درجات الطالبة ... إلخ، هل أقول «في بنود الوصية نفسها»، و«على درجات الطالبة نفسها»، أرأيت إلى الالتباس؟ تراني أؤكد هنا البنود أو الوصية؟ الدرجات أم الطالبة؟ ويزداد الأمر اضطرابا إذا تعقد السياق: «بنود وصية السيدة نفسها»، «درجات طالبة الدفعة نفسها»، هذه عقدة جوردية، حلها بسيط جدا: أن نقطع القاعدة بحد السيف، ونقول: يجوز تقديم التوكيد على المؤكد إذا حكم التعبير واقتضى الحال وساغ النغم.
جاء في «معجم الصواب اللغوي»: «جاء في نفس الوقت» فصيحة: تستعمل كلمة «نفس» للتوكيد المعنوي، وحينئذ لا بد أن يسبقها المؤكد وأن تضاف إلى ضميره، ويكون استعمال النفس في غير التوكيد بمعنى الذات فصيحا، كما يكون أيضا استعمالها للتوكيد دون أن تدخل في نطاق التوكيد الاصطلاحي «النحوي» فصيحا، وقد أجاز مجمع اللغة المصري هذا الاستعمال مستشهدا بما حكاه سيبويه عن العرب: «نزلت بنفس الجبل»، ويقول الجاحظ: «لا بد للترجمان أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة.»
70
وجاء في «موسوعة اللحن في اللغة»: «جئت في نفس الوقت (تقديم النفس - من ألفاظ التوكيد - على المؤكد): ورد في كلام من يعتد بهم من العلماء، كابن جني في قوله في الخصائص (1 / 295) «هي متعلقة بنفس تبا» يريد: بتبا نفسها، وجاء في اللسان (نفس): ونفس الشيء: ذاته، ومنه ما حكاه سيبويه من قولهم: نزلت بنفس الجبل، ونفس الجبل مقابلي.»
71
وقد صادفت «نفس » المقدمة على المؤكد في كتابات أئمة ثقات من القديم والحديث: منهم:
ابن جني في الخصائص: «إنما هو منصوب بنفس عليك ...» (ج1، ص284)، «لا لشيء رجع إلى نفس، أو» (ج1، ص349)، «وهذا نفس الحق» (ج3، ص26).
د. طه حسين: «وإخضاعي إياه لنفس المثلة» (في ترجمة كتاب ثيسيوس وأوديب لأندريه جيد، ص148).
د. شوقي ضيف: «يتخذون نفس لغات العلوم ...» (توحيد المصطلح العلمي في النقل والتعريب، مجلة مجمع اللغة العربية ج45، 1980).
د. أحمد درويش: «هي نفس الفصحى ...» (لإنقاذ الفصحى من أيدي النحاة، قضايا فكرية، العدد 17-18، 1997، ص83).
هام/مهم
في كتابه «قل ولا تقل» يسهب الدكتور مصطفى جواد في تبيان الخطأ في استعمال «هام» بمعنى «مهم»، ويتكلف في ذلك عنتا كبيرا، ويحس القارئ وهو يتابع حججه وشواهده أنه عاقد العزم على صرف الناس عن العربية وتيئيسهم منها، بل إنه لينقض ما جاء في «لسان العرب» ويخطئه؛ تفضيلا للمنع على الإباحة، وانتصارا للعسر على اليسر: «وجاء في لسان العرب ما يلبس المعنى على القارئ غير الفطن، قال: «الهم: الحزن وجمعه هموم، وهمه الأمر هما ومهمة وأهمه فاهتم واهتم به»، أراد بقوله: همه الأمر: أحزنه؛ لأنه بدأ المادة بتفسير الهم، مع أن قولنا: أهمني الأمر يهمني يعني جعلني أهم به، بدلالة ما نقل صاحب اللسان بعد ذلك قال: وفي حديث سطيح «شمر فإنك ماضي الهم شمير» أي إذا عزمت على شيء أمضيته، والهم ما هم الإنسان في نفسه تقول: أهمني هذا الأمر. هذا ولو صحت دعوى أن «همه الأمر» بمعنى أهمه الأمر الذي اشتق منه المهم وجمعه المهام والمهمات لسمت العرب «المهم» باسم «الهام» ولجمعته على «هوام وهامات»، ولكن هذا لم يكن ولم يصر إليه قط، فالهام لم يرد في لغة العرب بمعنى المهم ... نضيف إلى ذلك أن «هم» لو صح بمعنى «أهم» في المعناة المشار إليها، لفضله الفصحاء على الرباعي؛ لأن قاعدة الفصاحة العامة في ذلك تفضيل الثلاثي على الرباعي إذا كانا بمعنى واحد إلا إذا نبه على العكس بالنص والتصريح، ف: نعشه أفصح من أنعشه، ورجعه أفصح من أرجعه، ووقفه أفصح من أوقفه ، ونقصه أفصح من أنقصه، وعاقه أفصح من أعاقه، ونتجه أفصح من أنتجه، وغاض الماء يغيضه أفصح من أغاض الماء ...»
72
ولقد فضل الناس الثلاثي على الرباعي وقالوا «هام»
73
بمعنى «مهم» فما للدكتور جواد ينفس على المحدثين أن يكون لهم ذوق كما كان للأسلاف ذوق! وما لنا نضيع جوهر «الظاهرة اللغوية» (العرف/الشيوع) في رهج الشجار وفي غيابة الجدل؟ يقول الأستاذ محمد العدناني: «ويخطئون من يقول: أمر هام، ولا خطأ في ذلك؛ لأن هناك فعلين: همه الأمر يهمه هما ومهمة: أقلقه وحزنه، فهو هام، وهنالك أيضا: أهم الأمر فلانا: أقلقه وحزنه، فهو مهم، وكلتا الكلمتين صحيحة، جاء في المصباح: أهمني الأمر: أقلقني، وهمني هما (من باب قتل) مثله.»
74
وفي «معجم الصواب اللغوي»: «أمر هام: مرفوضة عند بعضهم لأن «الهام» مذكر الهامة بمعنى الدابة وكل ذي سم قاتل. المعنى: يسترعي الاهتمام ويدعو إلى اليقظة والتدبر، الرأي والرتبة: (1) أمر مهم (فصيحة). (2) أمر هام (فصيحة)، يرد في المعاجم استعمال «هم» بمعنى «أهم»، ففي المصباح: «وأهمني الأمر، بالألف، أقلقني، وهمني مثله»، كما نقل اللسان عن أبي عبيد في باب قلة اهتمام الرجل بشأن صاحبه: «همك ما همك، ويقال: همك ما أهمك»، فالتبادل بين الصيغتين وارد، ومن ثم يجوز استخدام اسم الفاعل من أيهما»،
75
وفي القاموس والتاج «همم» وهمه الأمر هما ومهمة: حزنه وأقلقه، كأهمه.
76
تخرج من المعهد
يقولون: لا تقل «تخرج من كلية كذا» بل تخرج «فيها»، أي تعلم وتدرب، يقول د. جواد: «وذلك لأن تخرج في هذه الجملة وأمثالها بمعنى «تأدب» و«تعلم» و«تدرب»، فيقال: تعلم فلان في الكلية، وتأدب في الكلية وتدرب، ولا محل لحرف الجر «من» فليس المقصود هو الخروج من الكلية، ولو كان المقصود الخروج لكان لكل طالب في اليوم خرجة أو خرجتان، ولذهب المعنى المقصود.»
77
ويقول الأستاذ محمد العدناني: «الصواب تخرج في معهد كذا؛ لأن تخرج معناه تعلم وتدرب، وهو خريج وخريج ومتخرج ، أما الذي يتعلم في معهد ويفوز بشهادته فنقول: إنه تخرج من معهد كذا، وفاز بشهادته.»
78
والآن لنخلع عصابة الزمت: نعم لقد تخرج «في» المعهد أو الكلية بالتأكيد، ولكن ماذا عن «يوم التخرج» أو «تاريخ التخرج» الذي نعني به «اليوم» المحدد الذي نال فيه الشهادة التي تشهد بأنه قد تعلم في الكلية «سنوات»، فإذا قلنا: إنه قد تخرج «في» كلية الطب في السابع من يوليو عام 1977 والتزمنا بتزمت المتزمتين فمعنى ذلك أنه تعلم فيها الطب في هذا اليوم الواحد، وهو باطل محال! ولماذا لا نضيف للغة غنى وإمكانات دلالية جديدة فنقول: إنه «تخرج في» كلية الطب في التسعينات و«تخرج منها» في يوليو 1997؟
وقد تدارك معجم الصواب اللغوي، الذي يحرص على حياة اللغة لا على موتها، هذا الأمر وحسمه حسما علميا حصيفا: «... تخرج» من «جامعة القاهرة صحيحة: الوارد في المعاجم استخدام حرف الجر «في» مع الفعل «تخرج»؛ لأن المعنى: تدرب وتعلم، ولكن أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما أجازوا تضمين فعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وفي المصباح (طرح): «الفعل إذا تضمن معنى فعل جاز أن يعمل عمله»، وقد أقر مجمع اللغة المصري هذا وذاك، ومجيء «من» بدلا من «في» كثير في الكلام الفصيح كقوله تعالى
أروني ماذا خلقوا من الأرض (فاطر: 40)، وقوله تعالى:
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة (الجمعة: 9)، ويمكن تصحيح
79
التعبير المرفوض استنادا إلى ما جاء في كتب اللغة من أنه يقال: خرجه من المكان إذا جعله يخرج،
80
ويكون الخروج هنا معنويا لا حسيا، بمعنى إنهاء الدروس، وقد عداه الأساسي ب «من».
81
زوج/زوجان
يقولون: لا تقل «اشتريت زوجا من الأحذية» وقل «زوجين»؛ لأن الزوج في العربية هو الفرد المزاوج لصاحبه. جاء في كتاب «درة الغواص» للحريري: «يقولون للاثنين: «زوج»، وهو خطأ؛ لأن الزوج في كلام العرب الفرد المزاوج لصاحبه، وأما الاثنان المصطحبان فيقال لهما: زوجان، كما قالوا: عندي زوجان من النعال ... وكذلك يقال للذكر والأنثى من الطير: «زوجان»، كما قال تعالى:
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ... وقال:
قلنا احمل فيها من كل زوجين (هود: 40)، أي ذكرا وأنثى.»
كل هذا حسن وجميل ، ولكن في سياقات معينة يكون ثقيلا ومسترذلا ومتعثرا في الدلالة: هبني اشتريت سبع علب من الأحذية لي ولأبنائي في كل علبة زوجان، أو هبني اشتريت ثلاث عشرة علبة، فماذا أقول بالله عليك: اشتريت أربعة عشر زوجا من الأحذية، أو ستة وعشرين زوجا في الحالة الثانية؟ أهذا بربك يمكن أن يقال في الحياة الحقيقية؟ أليس هذا بثقيل ملتبس الدلالة؟ أليس الأقرب للسليقة أن أقول اشتريت سبعة أزواج من الأحذية، ومفهوم أن كل زوج هو حذاءان اثنان وليس فرد حذاء بالطبع والبديهة؟! وماذا لو علمنا أن الصحاح واللسان والتاج ومد القاموس ومتن اللغة قد أجازت جميعا أن يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج؟ لماذا نضيق على العربية مجال الدلالة وفيها متسع، لماذا نقلص الدلالة وننقصها من أطرافها؟ ولمصلحة من نفقر هذه اللغة الرخية الرحيبة؟ وأي طائل دلالي أو جمالي نناله من وراء التضييق؟
لغتنا رخية سخية رحيبة: تجيز أن نستعمل المفرد بمعنى المثنى (اشتريت حذاء جديدا، خلع نعله، تحلت أذناها بقرط، ضعف الشيء أي مثلاه، رأيته بعيني ...)، ونستعمل المثنى للمفرد (قفا نبك، قص شاربيه، يحمل همومه على كاهليه ...)، والجمع للمفرد (قص شواربه، وأردف أعجازا ...)، والجمع للمثنى (فتوردت وجناته، ضحك ملء أشداقه، كحلت عيونها، عريض الأكتاف، مشى على أقدامه،
قالتا أتينا طائعين ،
إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ...).
منسوب الماء
ويقولون: لا تقل «منسوب الماء» والصواب: «مستوى الماء»؛ لأن المنسوب في العربية هو ذو الحسب والنسب، أو الشعر المنسوب أي الذي فيه نسيب أي غزل، أو الخط المنسوب أي ذو القاعدة. وأقول: لماذا لا نضيف هذا المعنى الجديد إلى المعاني القديمة؛ لدقته الدلالية وبخاصة في مجال العلم (منسوب الماء في البئر أو في النهر أثناء الفيضان أو منسوب السائل في المخبار ...)، وكلها مختلفة في معناها عن مجرد «المستوى»: إنها «الارتفاع» الحاصل في المستوى محددا ومقيسا، لماذا نحبس الدلالة في حذاء صيني ونخنق العربية بأيدينا؟ لماذا نقف بالألفاظ حيث وقف الأسلاف ونوجس من توسيع الدلالة في زمن تتسع فيه المعاني وتتفجر بلا توقف ؟
وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي» أنها صحيحة: «يشيع في الاستعمال المعاصر قولهم: منسوب الماء، ويعنون به المستوى الذي يصل إليه في ارتفاعه، وهو معنى لم يرد عن العرب، فهو من باب التوسيع الدلالي للكلمة، وقد أوردتها المعاجم الحديثة بهذا المعنى الجديد، ونص الوسيط على أنها محدثة.»
82
يسري (الحكم)
يقولون: لا تقل «هذا الحكم يسري من أول الشهر» والصواب: يجري، أو ينفذ، أو يمضي؛ لأن «سرى» في العربية معناه: سار ليلا،
83
وأقول: وماذا عن «يسري» بمعنى ينطبق ويشمل (لا يسري هذا القانون إلا على الفئات التالية ...)؟ لماذا لا نضيف هذا المعنى المولد إلى المعاني القديمة وهو معنى شائع ومستعمل ومحكي ومسعف؟ وكيف نتنازل عن خدماته الدلالية في سياقات كثيرة قانونية وعلمية؟
يقول الأستاذ العقاد: «... لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها ...»،
84
ويقول الأستاذ أمين الخولي: «وهذه العادة سادت بين أهل القاهرة الخاصة ثم سرت منها إلى بعض المدن الكبيرة كدمشق ...»،
85
وفي «معجم الصواب اللغوي»: «هذه الأوامر تسري على الجميع - صحيحة، قال في المصباح: سرى فيه السم والخمر ... وسرى عرق السوء في الإنسان ... وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية. وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم. وبناء على هذا يصح قولهم: تسري الأوامر على الجميع.»
86
استضاف
يقولون: لا تقل «يستضيف البرنامج الأستاذ ...»، أو «استضافت القاهرة أعضاء المؤتمر»؛ لأن «استضاف» في العربية تعني: طلب من غيره أن ينزله عنده ضيفا، أي طلب الضيافة، أو طلب أن يضيف. يقول ابن المقفع: «إن استضافك ضيف وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك.»
وتفيد صيغة «استفعل» في العربية معاني كثيرة أهمها الطلب: مثل استغفر الله أي طلب غفرانه، ومثل استطعم واستكتب واستفتى واستعطف ... إلخ، وإذا كان الطلب من جانب الضيف هو السائد في الثقافة العربية بحكم الظروف البيئية فلقد تبدلت أشكال الحياة وأصبح المضيف هو الذي يطلب الضيف، الطلب إذن ذو اتجاهين: فقد يكون من الضيف إلى المضيف، وقد يكون من المضيف إلى الضيف، أي من المضيف إذ يطلب ضيافة الغير عنده، أي «يستضيفه»؛ وعليه يجوز أن «يستضيف البرنامج الأستاذ ...»، وأن «تستضيف القاهرة أعضاء المؤتمر».
استبدل ب
يقولون: لا تقل «أبدل ثوبه القديم بثوب جديد» لأن الباء تدخل على المتروك، والحق أن هذه القاعدة مطردة إلى حد كبير، كما في قوله تعالى:
أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير (البقرة: 61)، وينبغي الالتزام بها منعا للبس، غير أنه في بعض الأحيان قد يحكم السياق بترك القاعدة دون تضحية بالوضوح والإبانة. فحين قال شوقي: «أنا من بدل بالكتب الصحابا» لم يحدث أي لبس من جراء هذه الرخصة التي هلل لها بعض مناوئيه، وإن المتلقي ليدرك قصده مبرأ من أي التباس. وفي كتابه «مشكلات حياتنا اللغوية» يقول الأستاذ أمين الخولي: «... أن بعض أهل القاهرة كان استخشن نطق القاف فأبدله بالهمزة»، ولا نحسب أن في تعبير الخولي أي لبس، وهذا هو المحك اللغوي الأول والأخير. وبمراجعة الأمر علميا وجدنا أنه «ورد في بعض المعاجم جواز دخول الباء على غير المتروك، وهو ما أخذ به مجمع اللغة المصري، وإن كان الأفضل إدخالها على المتروك منعا للبس.»
87
اعتد (بنفسه)
يقولون: لا تقل اعتد بنفسه وقل اعتز بنفسه؛ لأن اعتد تعني أشياء أخرى مثل: صار معدودا، اعتد الأمر لعبا: حسبه وظنه، اعتد الشيء: أحضره، اعتد للشيء: تهيأ له، اعتدت المطلقة: دخلت في أيام عدتها، لا يعتد به: لا يهتم به.
وأقول: «الاعتداد» المقصود في هذا المقام غير «الاعتزاز» وأكثر رهافة وعمقا، هو يعتد بنفسه أي يقدرها ويحترمها ويعتبرها ويعدها شيئا، ألا تقول العرب: «هذا شيء لا يعتد به»؟ فلنضف إلى معجمنا هذا المعنى الجديد الشائع الراسخ، والجائز من ثم والمشروع، أضف إلى ذلك أن «اعتد» جاء في الوسيط بمعنى اهتم، وفي الأساسي بمعنى وثق بنفسه، وفي المنجد بالمعنيين.
انطلى
يقولون: لا تقل «انطلت عليه الحيلة» والصواب «جازت عليه الحيلة»؛ لأن الفعل المطاوع «انطلى» لا وجود له في كلام العرب.
وأقول: ولكن له وجودا مهما في الاستعمال الجاري ، لقد درجت اللفظة وشاعت واستتبت وقدمت دلالة جديدة أخص وأدق وأقوى من «جازت»، ولن نعدم أكثر من تخريجة لغوية تجعل منها استعمالا صحيحا، وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي» أن مجمع اللغة المصري أقر قياسية مجيء «انفعل» مطاوعا ل «فعل» المتعدي الدال على معالجة حسية، ومن ثم أجاز استعمال «انطلى»، وقد أوردته بعض المعاجم الحديثة كالأساسي.
88
رغم
يقولون: لا تقل «فعل كذا رغم كذا»، ولا تقل «رغم فلان» أو «رغم أنف فلان». يقول د. جواد: واللغة العالية هي في استعمال «على»، أي «على الرغم من أنفه» و«على رغم أنفه»، ودونها لغة استعمال الباء أي «برغم»، وغير الفصيح هو قولهم «رغم»، وللشعر ضرورات لا تسوغ للناثر الحر المختار، فقل «على الرغم» و«بالرغم» ولا تقل «رغم» إلا في الشعر.
وأقول: إن استعمال «رغم» فيه اقتصاد وخفة وليونة، سواء جاءت في بداية العبارة أو في نهايتها، وكثيرا ما يحتم هذا الاقتصاد استعمالها، وبخاصة إذا كان الوزن العروضي يحبذها. ألست ترى أن «على الرغم من» ليست أكثر من «رغم» وقد تعكنت وثقلت بلا أي مقابل دلالي يذكر؟! وقد اعترف د. جواد بسواغها في الشعر، غير أن للنثر موسيقاه وإيقاعه، كما بينت ذلك في موضعه (في فصل «مزايا العربية»)، ومن ثم فإن علينا إجازة كل ما يثري جماليات الكتابة ويضع أمام الكاتب بدائل عديدة يختار من بينها الأنسب، ما دامت هذه البدائل صحيحة فصيحة.
هذا هو المبدأ العام. ونأتي الآن إلى التخريجة العلمية: تستخدم «رغم» مسبوقة بحرف جر: «على الرغم من ...»، «بالرغم من ...»، «برغم ...»، غير أن المجمع اعتبر «رغم» صحيحة، مثل «رغم خطورة الموقف ...»، إما على تقدير حرف جر، أو على اعتبار المصدر حالا على سبيل المبالغة.
89
الرئيس/الرئيسي
يقولون: لا تقل «القضية الرئيسية» و«الفكرة الرئيسية»، و«الأمر الرئيسي»، و«العضو الرئيسي» وقل «القضية الرئيسة» و«الفكرة الرئيسة» و«الأمر الرئيس» و«العضو الرئيس»؛ وذلك لأن «الرئيس» و«الرئيسة» صفة على وزن «فعيل»، مثل «شريف» و«نجيب» و«كبير» و«كريم» ... إلخ ، ومن غير المألوف أن نضيف ياء النسب التي تفيد الصفة إلى ما هو صفة أصلا: فنحن لا نقول: للشريف شريفي، وللعجيب عجيبي، وللكبير كبيري، فذلك كما يقول د. جواد «عبث باللغة فظيع، قال الشريف الرضي في كتابه المجازات النبوية: «لأن القلب سيد الأعضاء الرئيسة والأحناء الشريفة»، وقال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة: «ولكل واحد من الحيوان ثلاثة أرواح في ثلاثة أعضاء رئيسة»، وذكر ابن النديم في الفهرست كتابا اسمه «سير العضو الرئيس من بدن الإنسان»، وذكر الخوارزمي في مفاتيح العلوم «الأعضاء الرئيسة في الإنسان» ... وقال الصاغاني في كتابه مجمع البحرين «الأعضاء الرئيسة عند الأطباء أربعة ...» ... وقد رأيت هذا الخطأ، أعني استعمال النسبة بغير باعث عليها ولا ملجئ إليها، في كلام القلقشندي (وأما استيفاء الدولة فهي وظيفة رئيسية) ... والصواب «وظيفة رئيسة» كما قدمناه، واستعمل الأتراك العثمانيون هذا الغلط في عباراتهم فقد كانوا يقولون «رئيسي جمهور» بمعنى «رئيس جمهورية» وسرى الخطأ من الجهتين إلى الكتاب حتى أعثرنا الله تعالى على الصواب.»
90
هذا تحليل تاريخي (دياكروني) يعنيه تخريج الخطأ، و«من طلب شيئا وجده»، ولكن هل صحيح أن صفة «رئيسي» منسوبة إلى صفة؟ أي منسوبة إلى صفة الرياسة التي على وزن فعيل (رئيس)؟ الحق أن صفة «رئيسي» هي صفة منسوبة ل «اسم ذات» (الرئيس: أي كبير القوم وسيدهم)، و«الرئيس» بهذا المعنى هو اسم ذات وليس صفة، والمعروف أن كثيرا من أسماء الذات يبدأ استعمالها تاريخيا كصفات ثم تتحول دلالتها إلى اسم ذات: مثل «شاعر»، «كاتب»، «أديب»، «عامل» ... إلخ، وثمة ما يشير بقوة إلى أن «الرئيس» (سيد القوم) مشتق من «الرأي» وأنه كان في الأصل صفة تحولت إلى اسم ذات وشاع استخدامها بهذه الدلالة، ومن ثم اشتقوا منه اسم النسب «رئيسي»، وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي» أن الرئيسي هو «المنتمي إلى مفهوم رئيس (سيد القوم) وكأنه فرد من أفراده؛ وعلى ذلك فرئيسي فصيح والوصف به غير الوصف برئيس (صفة الرياسة)، وقد أقره مجمع اللغة المصري بشرط أن يكون المنسوب إليه أمرا من شأنه أن يندرج تحته أفراد متعددة ... وقد ورد عن العرب كلمات مثل: أكثري، أولي، أساسي، عرضي، ظاهري، باطني.»
91
جيب
أهمية هذا اللفظ أنه يمثل كلمة لم ترد بمعناها في كلام العرب؛ لسبب بسيط هو أنهم لم تكن لديهم جيوب في ملابسهم! فالجيب عند العرب هو طوق الثوب عند النحر، أي فتحة الثوب عند الرقبة، والجيب أيضا الصدر أو القلب، وقد كانت العرب تضع الأشياء الثمينة في صدور ثيابها، وفي الذكر الحكيم:
وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء (النمل: 12)،
وليضربن بخمرهن على جيوبهن (النور: 31)، أي صدورهن أو موضع القطع في القميص حيث يدخل الرأس.
لم تكن للعرب جيوب في ملابسهم. حسن، ولكن ماذا عن جيوبنا نحن التي في ملابسنا؟ ماذا نسميها؟ أين غطاؤها الرمزي؟ ما أظن أن هذا السؤال يعني المتزمت الذي وقف الزمن عنده في القرن الثاني أو الثالث الهجري.
لعب دورا
مثل: «لعب دورا مهما في السياسة الخارجية.»
أدرجنا هذا المثال لأنه يثير قضيتين أو يطرح مبدأين:
92 (1) التطور الدلالي الحثيث لبعض الألفاظ. (2) ضرورة الإذعان في بعض الأحيان لضغط اللغة الأجنبية.
يخطئ البعض هذا الاستعمال لأن معناه اللهو وهو معنى غير مناسب في هذا المقام، يقول الأستاذ العقاد في كتاب «أشتات مجتمعات في اللغة والأدب»، بصدد ترجمة المفردات أو العبارات: «ومن ذلك قولهم: إن هذا أو ذاك، يلعب دورا خطيرا في السياسة أو التاريخ أو شئون الحياة العامة»، وقد يقبح الذوق في اختيار المواضع لهذه العبارة حتى يقول القائل: «إن الدين يلعب دورا جديا في المسائل الاقتصادية»، أو يقول قائلهم: «إن ذاك البطل العظيم لعب دورا هاما في تشريع زمانه» إلى أمثال هذا السخف الذي يتحرج منه أصحاب اللغة الأجنبية أنفسهم عند استخدام هذه العبارات، ولو أنهم أخذوا مادة «اللعب» بحرفها كما وضعت أصلا لم يكن لهذا الموقع المعيب عند سامعيها من العارفين بمعانيه؛ لأن أصل المادة عندهم يشمل «الاشتغال» ويشمل «الحركة» التي تحمل الإنسان وراء مشيئته، ومنها جاءت حركة الرقص وحركات اللعب والطرب، وأشباه هذه الحركات التي تدخل فيها حركة اللعب الهازل وغير الهازل، ولكن الأصل في مادة «اللعب عندما يرجع إلى المهازل الصبيانية ويأتي، على ما نرجح، من قولهم «لعب الصبي أي سال لعابه» ولعب فلان أي صنع صنيع الصبيان، وليست الكلمة على معنى من معانيها الأصلية أو الطارئة بالتي تصلح للاقتران بمعاني التقديس ومعاني الخطر والتعظيم.»
93
كتب الأستاذ العقاد رحمه الله هذا الكلام منذ أكثر من نصف قرن، وقد كان على حق في وقته، غير أن نصف قرن من السنين حدثت فيه تحولات وجرت مياه كثيرة، وتطورت دلالة «اللعب» تطورا عظيما، وأصبحت في جميع الثقافات معادلا للأداء والممارسة، واتشحت بوشاح «الجد»، ودخل أنالوجي (مماثلة) «اللعب» في نظريات فلسفية كثيرة، وحتى الألعاب الرياضية أصبحت مؤسسات محلية ودولية هائلة، لديها تمويلات طائلة وفعاليات خطيرة.
قناعة
لديه قناعة بهذا الموضوع.
هذا شيء لا يمس قناعاته.
هذه أيضا لفظة راجت كثيرا في أحاديث المثقفين ومناقشاتهم بمعنى الرأي الذي يقبله المرء ويضمره ويتبناه، ويخطئها البعض لأن هذا المعنى يختلف عن معنى القناعة في العربية، وكلنا يعرف «القناعة» ويعرف أنها كنز لا يفنى؛ ولهذا السبب نفسه فإن بوسعنا أن نتبنى الاستعمال الجديد ونحن بمأمن من اللبس؛ فالكلمة حقا مرنة لينة أسيلة، وجمعها خفيف سائغ (قناعات
Convictions )، وهي حقا مسعفة وسعيدة في سياقات كثيرة، وما هكذا ضرتها الثقيلة «اقتناع».
هذا من جهة الوظيفة الدلالية والجمالية، فماذا عن الصواب المعجمي؟ «عندي قناعة بالموضوع» صحيحة: يمكن تخريج العبارة على أن «قناعة» اسم مصدر للفعل «اقتنع» لأنها ينطبق عليها تعريف اسم المصدر، أو أنها مصدر للفعل قنع بمعنى رضي، فقد ذكرت المعاجم اقتنع بالشيء وقنع وتقنع، ومعنى هذا إمكانية استعمال الفعلين قنع واقتنع بالتبادل، وحيث صح هذا في الفعل صح كذلك في المصدر، وقد ذكرتها بعض المعاجم الحديث كالأساسي، والمنجد.»
94
هل «كذا» أم «كذا»؟
يقولون: لا تقل هل كذا أم كذا؛ لأن «هل» لا تأتي بعدها «أم » المتصلة (وإنما تأتي بعدها «أو»).
هذه أيضا قاعدة تعلمناها، وما أسهل تعلمها، فأورثتنا ثقلة في الأسلوب والتباسا مجانيا كان منه بد. أكتب:
95 «هل معنى هذا أن نهادن أو ننتظر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا؟ وأكتب: «هل عندك طالب أو طالبان؟»، «هل معك درهم أو دراهم؟»، «هل أستدعي محمدا أو عليا ليساعدنا؟» ... إلخ، فلا تدري أقصدت تعيين أحد الشيئين أم ألحقت أحدهما بالآخر وأردفته وماثلته!»
والحقيقة أن اللغة العربية ذاتها بريئة من اللبس هنا لأن الأصل أن تختص «هل» بطلب التصديق الإيجابي، فلا تستخدم لطلب تعيين أحد الشيئين؛ ولذا لا تقع بعدها «أم» المتصلة التي يطلب بها وبأداة الاستفهام التعيين؛ «وذلك لأن الهمزة هي الأصل في الاستفهام، قال الزمخشري في المفصل: «والهمزة أعم تصرفا في بابها من أختها «هل»، تقول: أزيد عندك أم عمرو؟» فإذا استعملنا حرف العطف «أم» للتعيين بعد الاستفهام وجب أن نستعمل معها همزة الاستفهام ولا نستعمل «هل»، كقوله تعالى:
وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ...»
96
غير أن استعمال «هل» لطلب التعيين قد شاع وانتشر بحيث لا يمكن رده، ويستخدمون بعدها «أو» لتجنب الخطأ، ولكن «أو» توقع في الالتباس وهو الخطأ بعينه! ولا حل لهذه العقدة إلا باتباع «ما ذهب إليه بعض النحاة من أن «هل» قد تكون بمعنى «الهمزة» فيعطف ب «أم» بعدها: جاء في الحديث الشريف: «هل تزوجت بكرا أم ثيبا؟» وقال الشاعر:
هل الله عاف عن ذنوب كثيرة
أم الله إن لم يعف عنها يعيدها؟
97
بمثابة
يقولون: لا تقل «كان لي فلان بمثابة الأخ»، والصواب «كان لي كالأخ» أو «مثل الأخ»؛ «لأن المثابة تعني: المنزل، والملجأ، والمرجع، ومجتمع الناس بعد تفرقهم، ومبلغ تجمع ماء البئر، وما أشرف من الحجارة حول البئر، والجزاء.»
98
وأقول: لماذا نخسر هذا اللفظ المهم في معناه الجديد المولد الذي يفوق الكاف و«مثل» في قوة الدلالة ورشاقة التعبير في سياقات معينة؟ يقول الأستاذ العقاد: «... إن هذه القضية بمثابة خطر دائم على السلام.»
99
وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي»: «ذكرت المعاجم أن المثابة هي البيت والملجأ والمنزل، ولما كانت هذه المعاني يجمعها معنى المكان صح أن يقال : أنت لي بمكان الأخ، أو بمثابة الأخ، وليس هذا الاستعمال حديثا، فقد ذكر دوزي أنه ورد في الأحكام السلطانية للماوردي، ومقدمة ابن خلدون.»
100
كرس تكريسا
يقولون: لا تقل «كرس نفسه للعلم»، والصواب «وقف نفسه للعلم، أو على العلم»؛ لأن «كرس» هنا لفظة دخيلة على العربية (يونانية)، أما في العربية فإن للفعل «كرس» معاني أخرى: كرس الأشياء: ضم بعضها إلى بعض، كرس البناء: أسسه، كرس اللآلئ والخرز: نظمها في خيوط، فهي مكرسة.
وأقول: إذا كانت كلمة «التكريس»
Devotion
يونانية تكون كلمة مولدة مهمة في سياقات كثيرة، ولا يصح التنازل عنها، ولا بأس في هذه الحالة بأن نقترض من اللغات الأجنبية ونذعن لضغطها إذا كان من شأنه أن يزيد العربية ثراء ودلالة. وإذا كانت «كرس» عربية، بمعنى جمع وضم أجزاء الشيء بعضها إلى بعض، يكون تعبير «كرس حياته للعلم» صحيحا، وكأن من يكرس حياته للعلم يجمع أوقات حياته كلها لأجل العلم. وقد أوردت بعض المعاجم الحديثة كمحيط المحيط والأساسي الفعل «كرس» بهذا المعنى، كما تردد كثيرا في كتابات المعاصرين مثل ميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم.
101
حار/احتار
يقولون لا تقل: «احتار في أمره»، والصواب «حار في أمره»؛ لأن الفعل «احتار» لم تتفوه به العرب،
102
وأقول: لماذا لا نشتقها اشتقاقا صحيحا من «حار» (افتعل من فعل)، ولماذا لا نجيزها بالشيوع ونماشي المحكية ما دام اللفظ خفيفا سائغا تستريح له الآذان وتقبله السليقة؟ ولم يخذلنا «معجم الصواب اللغوي» واعتبر «احتار» صحيحة «استنادا إلى اشتهاره وجريانه على القياس الصحيح، ويراد بهذه الزيادة حينئذ المبالغة في الحيرة، وقد أثبتته بعض المعاجم الحديثة كالأساسي وتكملة المعاجم العربية ... وسمى أحد الفقهاء كتابه ب «دليل المحتار»
103 (محتار اسم فاعل من احتار).
بواسل
يقولون: لا تقل هؤلاء الضباط البواسل، وقل: البسلاء والباسلون؛ لأن «بواسل» جمع لغير العاقل وللمؤنث، تقول أسد باسل وأسود بواسل، وفتاة باسلة وفتيات بواسل، أي باسلات ... والجمع الآخر «بسل» ... كتب د. مصطفى جواد: «قال العقاد: إن بعض الفرسان البواسل، وإنما البواسل جمع باسلة للمرأة وباسل للحيوان كالأسد، وللرجال يقال البسلاء والباسلون.»
104
والحقيقة أن «فاعل» يجمع قياسا على «فواعل» إذا كان اسما أو وصفا لمؤنث عاقل أو وصفا لمذكر غير عاقل، أما إذا كان وصفا لمذكر عاقل فلا يجمع عادة على «فواعل»، «ويدعون أن العرب لم تجمع من صفات المذكر العاقل على «فواعل» سوى ثلاث كلمات، هي: هالك وفارس وناكس، فتصبح: هوالك وفوارس ونواكس، ولكن بعض الباحثين المعاصرين اهتدى في الكلام الفصيح إلى جموع كثيرة جاوزت الثلاثين، وكل واحد منها وصف لمذكر عاقل، منها: سابق سوابق، سابح سوابح، حاسر حواسر، قارئ قوارئ، كاهن كواهن ...»
105
وقبل ذلك وقف العلامة عبد القادر البغدادي ... عند قول الفرزدق «نواكس الأبصار» فعرض أمثلة من هذا الجمع جاوزت العشرة، ثم وصلت بعده إلى ما يربي على الثلاثين، وذكر الفيومي في المصباح المنير والزبيدي في تاج العروس أمثلة أخرى، وقال الزبيدي «إذا كان قوارئ جمع قارئ فلا مخالفة للسماع ولا للقياس فإن فاعلا يجمع على فواعل.»
106
من الأفضل بالطبع ألا نجمع فاعلا المذكر العاقل على فواعل إلا للكلمات الشهيرة الرائجة، حتى نحتفظ بفواعل للمؤنث العاقل (حوامل، عوانس، طوالق ...) ونحفظ للغة فصاحتها ودقتها، وإنما ركزنا على هذه التخطئة لأنها تكشف لنا أن الادعاء بأن العرب لم تقل كذا فيه مجازفة، وتهيب بنا ألا نسارع بتخطئة الناس. وقد حسم المجمع هذا الأمر ف «أجاز جمع فاعل، وصفا لمذكر عاقل، على فواعل؛ وذلك لما ورد من أمثلته الكثيرة في فصيح الكلام، وقد ورد الجمع «فواعل» في شعر أورده ديوان الحماسة كقول الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خضع الرقاب نواكس الأبصار
كما ورد في المعاجم الحديثة كالوسيط والأساسي والمنجد.»
107
كلل
كلنا يقول على السجية: «دون كلل» أو «لا يعرف الكلل»، ولا يخطر له أن هناك من يخطئون هذه الكلمة لأنها لم ترد في المعاجم القديمة، والمستعمل في العربية: الكلال والكلالة، أما الكلل والكلة فمعناها الحالة، فيقال: بات فلان بكلل سوء، أي بحالة سوء ، غير أن «السليقة» العربية تبقى غير مقتنعة: لماذا يجوز لي أن أقول «ملل» ولا يجوز أن أقول «كلل»، والمبدأ يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؟! لماذا يحظر علينا أن نقول: «دون كلل أو ملل»، ذلك التعبير السلس الرفيق المسعف؟
وقد حسم مجمع اللغة المصري هذه المسألة، واعتبر هذا الاستعمال صحيحا «اعتمادا على سندين: (1) أن مصادر الثلاثي أغلبها سماعي. (2) عملا بقرار مجمعي سابق بإجازة تكملة فروع مادة لغوية لم تذكر بقيتها في المعاجم.»
108
ولعلها فرصة للحديث عن قضية عامة هي أن ألفاظا عربية كثيرة لا تذكرها المعاجم اللغوية ولكن عدم ذكرها لها لا ينفي عربيتها وأصالتها، وبالتالي تنتفي حجة من يخطئ اللفظ لمجرد أنه لم يرد عن العرب أو لم يرد في المعاجم، يقول المعري في «عبث الوليد»: «لا يمكن أن يحاط بجميع ما لفظت به القبائل؛ إذ كان ذلك غاية ليست بالمدركة»، ويقول أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير.»
109
ذلك أن العرب انشغلوا عن الشعر زمنا بالجهاد وغزو فارس والروم، «فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يئولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثيره.»
110
وهذا ابن فارس أحد أصحاب المعاجم الكبيرة يعقد في كتابه «الصاحبي» فصلا عنوانه «باب القول على لغة العرب وهل يجوز أن يحاط بها» ويصدره بقوله: قال بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي، «وإذا كانت اللغة بهذه السعة، وقد ضاع مع ذلك كثير من شعر أصحابها على ما يقرره ابن سلام كذلك؛ فالقول بعدم إحاطة المعاجم باللغة صحيح، والقول بأن من اللغة ما ليس في المعاجم صحيح، والقول بأن في الإمكان تقرير عربية كلمة وأصالتها ولو لم ترد في المعاجم صحيح.»
111
ولا يفوتنا أن نحيل القارئ إلى بحث الأستاذ أمين ظاهر خير الله «الرأي الحاسم في الكلام الذي خلت منه المعاجم» الذي سبقت الإشارة إليه في حديثنا عن المعايير التي يستند إليها المخطئون، تحت العنوان الفرعي «اللحن».
نوايا
يقولون: لا تقل «نوايا»، والصواب «نيات»، وأقول: نعم، جمع «نية» على «نوايا» فيه شذوذ ولم تقل به العرب، ولكن «نوايا» شائعة وسلسة (نفترض حسن النوايا) وميزانها الصرفي والعروضي مختلف عن «نيات»، فلماذا نتنازل عنها وهي تزيد من ثراء العربية التعبيري والموسيقي، لماذا نقطع هذه النبتة اللفظية الجميلة؟
وهنا أيضا لا يتخلى عنا المجمع، فقد أجاز جمع «نية» على «نوايا» حملا لها على «طوايا» في جمع «طوية» التي ترتبط بكلمة «نية» في الدلالة، وحملا أيضا على نظائر أخرى كثيرة جمعت فيها «فعلة» على «فعائل»، وقد أجاز عدد من المعاجم الحديثة هذا الجمع كالأساسي والمنجد.»
112
صدفة
يقولون: لا تقل «قابلته صدفة»، والصواب «مصادفة»؛ لأن «صدفة» لم ترد عن العرب، و«صادفه» وجده أو لقيه أو قابله، وهي لا تحمل معنى المفاجأة، تقول «صادف نجاحا عظيما» أي لقي نجاحا وإن كان متوقعا، واستخدامها بمعنى اللقاء على غير موعد هو استخدام جديد مولد، أما الفعل «صدفه» فمعناه «صرفه»، و«صدف» عنه: أعرض، وصدفه عن كذا أي أمال وعدل به «وفي الذكر الحكيم:
سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (الأنعام: 157)، أي: يعرضون.»
هذه النبتة أيضا لماذا نقطعها؟ اللفظة خفيفة على اللسان (وأخف ظلا من ضرتها وأسلس نغما)،
113
شائعة مستتبة، محكية رائجة، ودلالتها مهمة كثيرة التوارد، وبمأمن تام من اللبس، وفي تفصيحها تقريب حميد بين العامية والفصحى نريد أن نستنه.
ولم يخذلنا المجمع في نبتتنا: «قابلته صدفة - صحيحة: يصح استخدام «صدفة» على اعتبارها مصدرا مستحدثا من الفعل «صدف» للدلالة على المعنى الجديد أو على اعتبارها اسم مصدر من «صادف» وقد أقر مجمع اللغة المصري استعمالها بهذا المعنى، وقد وردت الكلمة في عدد من المعاجم الحديثة كالمنجد والأساسي.»
114
مستديم/مستدام
كلمة «مستدام» من الألفاظ التي تسهم في توسيع الفجوة بين الفصحى والمحكية دون مقابل. فكنتا درجنا على استخدام كلمة «مستديم »، كما في «مرض مستديم»، «عاهة مستديمة»، «عجز مستديم»، ولم نصادف في ذلك مشكلة، ولم نسبب لأحد مشكلة ، حتى خرج علينا من يقول «مستدام» ويلح في قولها، فوقر في ظن الجميع أنها الصواب، بحكم قاعدة (تقر في أعماق الجميع) بأن الغريب أصوب من المألوف.
وتحقق في الأمر علميا فتجد أن الفعل «استدام» (الذي استعملته العرب في الغالب متعديا بمعنى طلب الدوام وعليه يكون اسم المفعول «مستدام» فصيحا بمعنى «مطلوب دوامه» - هذا الفعل قد ورد أيضا لازما بمعنى «دام»، فتكون مستديم بمعنى «دائم»، وهي صحيحة وأفضل من «مستدام»: أولا لأنها آلف منها وأساس، وثانيا لأنها اسم فاعل ولذا يليق استعمالها في جميع الأغراض دون حرج: ف «التنمية المستديمة» هي التنمية الدائمة، و«العجز المستديم» هو العجز الدائم، ولا يصح أن يقول أحد «عجز مستدام» لأن العجز لا يطلب دوامه!
وصفوة القول أننا إذا شئنا تيسير الاستخدام اللغوي ووضع الإصر عن مستخدمي اللغة فمن الأسلم والآمن أن نعمم «مستديم»؛ لأنها صائبة في كل مقام، و«مستدام» صائبة في مقام الخير وحده.
المباشر/المباشر
من تقاليع النطق أيضا هذه الأيام قول المذيعين «البث المباشر»، و«الاتصال المباشر»، فما الخطب؟!
الفعل «باشر» في اللغة يعني «لامس البشرة»، ويفيد الاتصال بلا واسطة، باشر زوجه: غشيها، يقول تعالى:
ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ، وباشر الأمر: تولاه بنفسه، وباشر الفعل: فعله من غير وساطة، وباشره النعيم: بدا عليه أثره، وباشر الشيء مباشرة: جعله ملاصقا له، وفي الحديث: «اللهم إني أسألك إيمانا تباشر به قلبي.»
115
وفي المعجم الأساسي أن «مباشر» صفة للدلالة على ما ينجز حالا أو بدون واسطة، وحين يقول المذيع «البث المباشر» (اسم مفعول) فقوله صحيح بمعنى البث المباشر من قبل المذيع الذي يكون هو (أي المذيع) مباشرا له.
ولكن هل هذا، بعيش أبيك، هو المعنى الذي يقصده المذيع؟ الأغلب أن البث هو الذي «يباشر» هنا، أي يباشر المشاهدين أو المستمعين، ويتصل بهم حالا بدون واسطة، وأن المذيع لا يقصد غير هذا: البث مباشر للجمهور فكأنه يلامس بشرتهم لأنه يتم بدون واسطة، ويتم حالا؛ وعليه فإن «مباشر» بكسر الشين أصح وأسلم في عامة الأحوال من «مباشر».
مفاد/مفاد
يقولون: لا تقل «مفاد الأمر» وقل «مفاده»، ولا تقل «برقية مفادها كذا»، وقل «مفادها»؛ وذلك لأنك تقول أفادت البرقية كذا، أي جاءت بفائدة خبرية هي كذا، والمصدر الميمي من الرباعي «أفاد» هو «مفاد» بضم الميم، وعلى وزن اسم المفعول، والمفاد هو المحتوى والمضمون والفحوى والفائدة الخبرية، مثل: المصاب، المخرج، المدخل، المراد، المراغم ... إلخ. «أما «المفاد» فهو مصدر ميمي لفعل من الأضداد، من معانيه حصول الفائدة والحياد، والموت والتبختر، وفي استعماله التباس كثير، فضلا عن بعده عن المراد.»
116
وليس يخفى أن «مفاد» بفتح الميم أخف نطقا وأعم استخداما، ولكن هل هي حقا خطأ صرفي ومعجمي وفي استعمالها التباس كثير؟
ولنبدأ بالالتباس: لا يقاس الالتباس بكم المشترك، بل بإمكان التشابه في السياقات المختلفة، ولا نظن أن حصول الفائدة يشتبه مع الحياد أو الموت أو التبختر! وما دمت آمنا من الاشتباه فقل وثق بفهم المخاطب.
وأما من جهة الصرف والمعجم فإن «مفاد» بالفتح صحيحة فصيحة، فهي «مصدر ميمي من «فاد» الثلاثي المجرد، الذي يدل على حدوث الفائدة، وفي اللسان: «الفائدة» ما استفدت من علم أو مال، تقول منه: فادت له فائدة.»
117
تساءل/سأل
يقولون: لا تقل «تساءل الرجل عن الأمر» أو «تساءلت عن هذا الأمر»، وقل «سأل» و«سألت»؛ لأن «تساءل» تقتضي المشاركة، مثل «تساءل الرجلان أو الرجال عن الأمر» أي سأل بعضهم بعضا، فصيغة «تفاعل» تدل على المشاركة وهي غير متحققة هنا.
ويبقى الذوق غير مستريح: ففي سياقات معينة أريد أن أقول «كنت أتساءل» ولا أقول «كنت أسأل» (وما أسهلها وأبردها)، وخاصة حين أريد أن أبرز معنى التحير والتقليب والتداول مع كيان آخر (ربما كياني نفسه!). وما زادت «تساءل» عن «سأل» إلا لزيادة هذا المعنى بالذات، وفي هذه الحالة تكون «سأل» ناقصة قاصرة، وفاترة كسولا غير مسعفة.
نخلص من ذلك إلى أن «تساءلت عن الأمر» صحيحة، وأن «استخدام صيغة «تفاعل » بمعنى «فعل» أو «أفعل» كثير في لغة العرب، كما في تراءى بمعنى رأى، وتداعى بمعنى دعا، وتساقط بمعنى سقط، ويمكن كذلك اعتبارها صحيحة على افتراض وجود طرف ثان هو النفس، فيكون المعنى: تساءل فلان: سأل نفسه، وفي الأساسي: تساءل: سأل نفسه.»
118
ساهم/أسهم
وقريب من «تساءل وسأل» لفظا «ساهم وأسهم»، يقولون: لا تقل «ساهم في مناقشة القضية» أو «ساهم في تأسيس الجمعية»؛ لأنها لم ترد في المعاجم القديمة بهذا المعنى، وقل «أسهم»، ووجه الأمر أن كلا اللفظين صحيح فصيح، فقد شاع استخدام الفعلين بمعنى «شارك» في اللغة المعاصرة، وأجاز المجمع المصري كلمة «ساهم» لورودها في مقدمة معجم لسان العرب، بالإضافة إلى وروده في شعر لزهير، وقد ورد في المعاجم الحديثة كالوسيط والمنجد والأساسي.»
119
داهم/دهم
يقولون: لا تقل «داهمنا العدو» أو «داهم رجال الشرطة وكر اللصوص» أو «الوقت يداهمنا»؛ لاستخدام صيغة «فاعل» بمعنى «فعل»، وقل «دهمنا يدهمنا دهما».
ونقول: بل قل دهم وداهم وفقا لذوقك، ووفقا لنغم الجملة، ووفقا لما تحس له وقعا في نفسك؛ «لأن مزيدات الأفعال قياسية لا تحتاج إلى ورود بالمعاجم، وأصول اللغة لا تمنع من استخدام «فاعل» بمعنى «فعل»، فهو كثير شائع في لغة العرب، مثل: «حافظ»، و«بادر»، و«حاذر»، و«شاهد»، و«راقب»، و«دافع»، وقد ورد الفعل «داهم» في بعض المعاجم الحديثة كالأساسي.»
120
اعتذر عن الحضور
لا تقل «اعتذر عن الحضور» وقل «اعتذر عن عدم الحضور»؛ لأن عدم الحضور، أو الغياب، هو المعتذر عنه، وليس الحضور، نعلم ذلك، ولا أظن أن أحدا لم يسمع بهذا الخطأ الشائع وتصويبه.
غير أن طبيعة الظاهرة اللغوية ليست دائما منطقية أرسطية على هذه الشاكلة، وكلنا يقول «أعتذر عن الحضور» إذا ترك نفسه لسليقته، أو يتعمل ويقول «عن عدم الحضور» وفي النفس شيء من هذا التصويب، وكأن لجنة الألفاظ والأساليب بالمجمع قد آنست شيئا من ذلك فأجازت التعبير المرفوض، «على اعتبار «عن» للمجاوزة، فالمعتذر يعتذر لأنه تجاوز الحضور الذي ينبغي له ألا يتجاوزه، بينما رفض مجلس المجمع ومؤتمره قرار اللجنة.»
121
يقول العقاد في كتابه «أنا»: «كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق.»
122
حين كتب العقاد: «اعتذاري من تلبية الدعوة» وليس «اعتذاري من عدم تلبية الدعوة»، كان يطير بجناح مضري يعبر كل لفظ نافل، ويكره الثقل النغمي وكثرة المضافات، ويثق في فطنة سامعه، ويحذف كل ما دلت عليه القرينة، بينما ظل هواة قل ولا تقل يعثرون عثارا أرضيا ويعكزون على عكازات أرسطية ويدبون دبيبا!
نلعب في الوقت الضائع
إذا كانت اللغات جميعا لغات تمشي فإن العربية لغة تطير!
قريب من ذلك أيضا تعبير «يلعب في الوقت الضائع»، ونعلم جميعا أن الصواب «يلعب في الوقت بدل الضائع»، بعد تدخل المعالجة «المنطقية» للمسألة، وإفسادها لجمال التعبير الأصلي «في الوقت الضائع» الذي نحس له وقعا شعريا مؤثرا،
123
تقف الذائقة غير قريرة: ثمة قيمة أهدرت ... شيء من قلب اللغة قد احترش ... شيء من سر العربية أهين، لكأن الكيان المجازي قد لم متاعه ورحل!
قال تعالى:
هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ، لا بدله أو نتاجه بل هو، ولقد أهدرنا وقتا (ضائعا) وها نحن نلعبه (واحتذاء بالآية: هذا ما أضعتم من وقت فالعبوا ما أضعتموه)، بل انظر إلى قوله تعالى:
إني أراني أعصر خمرا
ولم يقل «عنبا» (باعتبار ما سيكون).
لكي نفهم الظاهرة اللغوية فإن علينا أولا أن نتعوذ من وسواس المنطق: اللغة التي تجيز أن نقول: «عامر»، ونعني «معمور»، و«فاقد» ونعني «مفقود»، ونقول: «لا عاصم»، ونعني «معصوم»، ونقول: «كاسية» ونعني «مكسوة»، ونقول: «لا غني ولا فقير»، و«لا حلو ولا حامض»، و«لا شرقية ولا غربية»، ونقول لصبينا: اذهب إلى السوق وهات عنبا حامضا، ونقول: أكل المال، شرب الكأس، قتل الوقت (لهوا)، قتل الأمر (بحثا)، تركت لمن «كان» بعدي، والموعد الله - مثل هذه اللغة لا تؤتى بالمنطق الأرسطي ولا الإقليدي، بل بمنطقها، هي لغة تتكئ على فهم المخاطب وتلتئم بمعقوله وتثق في ذكائه. يقول الجاحظ: «للعرب إقدام على الكلام، ثقة بفهم المخاطب من أصحابهم عنهم.»
كم ذا أضر باللغة وآذاها هواة قل ولا تقل، وها هو حصاد زرعهم: ناس طيبون أصابهم القنوط، فانفضوا عن العربية (وفي القلب ثأر كظيم)، ولم يعودوا يقدرون على صواب ولا على خطأ.
يقول د. محمد كامل حسين «إن اللغويين يخطئون حين يظنون أن الإضافة إلى اللغة إضعاف لها، وأن المحافظة عليها بتقييدها، والمحافظة على لغة ما لا تكون إلا بجعلها مطابقة لتفكير أهلها، وترك الحرية لكتابها أن يزيدوا ما دلهم عليه الذوق والحاجة، وخطئ اللغويون في إسرافهم في تخطئة الناس، وجدلهم حول ما هو خطأ، والجدل حول صحة كلمة «افتكر» و«احتار» و«اعتاد» لا داعي له، فكلها صحيحة، والكاتب المتأنق يختار «تفكر» و«حار» و«تعود» حين يقتضي مستوى أسلوبه أن يختار أرشق الألفاظ وأفصحها، ويجب أن نقدر أن عهد تحكم الأجرومية في اللغة العربية قد انقضى أو كاد، وأن علينا أن نسارع إلى تنظيم يوائم عصرنا، والتفكير اللغوي الحديث قوامه الوضوح والدقة، فإن لم نفعل فسيقوم عهد اللغة الجديد على الفوضى والاضطراب وتحكم من لا ذوق لهم ومن لا علم لهم بأصول اللغات والأساليب.»
124
ورحم الله شيخنا أمين الخولي، القائل في خاتمة بحثه «لسان العرب اليوم» أمام المجمع: «وقد بدا من واقع التاريخ أن تتبع الصواب وإعلانه أجدى من تتبع الخطأ وإعلانه، وإلى هذا التصويب صار الأمر أخيرا، كما رأينا فهو سبيل التقريب أو التوحيد، ورحم الله أبا حنيفة، في قياسه مع حجامه، حين قال له الحجام: إن تتبع الأبيض من الشعر يكثره، فقال أبو حنيفة: تتبع مواضع السواد لعله يكثر، وقد تتبعوا مواضع الغلط فاستفحل الأمر فيه، فهلا نتتبع مواضع الصواب فيشيع ويغلب، وذلك ما تشهد به تجارب المصلحين والمربين ... تلك مواقف عملية، إن وافقتم عليها فبها، وإلا فواقع الحياة أغلب.»
125
الفصل السابع
ازدواجيتنا اللغوية «العامية والفصحى»
ليس لهذه الأدواء القومية التي تمتص من مصر حيويتها، من علة إلا هذه اللغة المتآكلة التي لا تساير مطالب الجماعة الناهضة .
محمد العلاني
مقدمة «فن القول» لأمين الخولي
كتب الأستاذ العقاد في أبريل 1927م: «إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام
1
له قواعد وأصول وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق.»
2
وفي الأربعينيات من القرن الماضي كتب د. علي عبد الواحد وافي: «فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرا شاذا حتى نلتمس علاجا له، بل هو السنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسنة الله تبديلا.»
3
كان هذا الرأي حول الازدواجية اللغوية، الذي تلخصه فقرتا الأستاذ العقاد والدكتور وافي، سائدا بين الكثير من النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ كانت «النهضة» في أوجها و«التنوير» يمضي في عنفوانه مطمئنا إلى نتائجه واثقا من مآله،
4
وأقرب ما ننعت به هذا الرأي المتفائل هو أنه «يحل المشاكل بإنكارها»، نعم، في كل أمة لغة عامية ولغة فصحى، ولكن الفجوة بين العامية والفصحى في لغتنا ليست كنظيراتها في اللغات، إن بين عاميتنا وفصحانا فروقا صوتية ونحوية وصرفية ومعجمية تجعل منهما، بقليل من التجوز، لغتين منفصلتين،
5
كان هذا واضحا حتى لابن خلدون (في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي) الذي يقول في «المقدمة»: «اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدها، وهي عن لغة مضر أبعد، فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا.»
6
ثمة نسقان نحويان متعارضان في قلب العربية: النسق الإعرابي المرن في الفصحى، ونسق إسقاط الإعراب والاعتماد على الترتيب المقيد لعناصر الجملة في العامية، يمثل هذان النسقان مرحلتين نحويتين في تطور اللغة. وثمة فروق أخرى كبيرة: تخفيف الصوامت الثقيلة في النطق، إلغاء الحروف الأسنانية (الظاء والذال والثاء )، تقديم الفاعل على الفعل، الاستفهام دون حرف استفهام اعتمادا على تغيير مواضع النبر ... إلخ.
في بحث بعنوان «لسان العرب اليوم» المقدم إلى مجمع اللغة العربية عام 1961، يعرض الأستاذ أمين الخولي لتاريخ الصراع بين الفصحى والعامية عبر الزمن، ويخلص إلى مواقف عملية في تقريب اللغتين وصولا للوحدة، ومنها الأخذ من فصيح العامية وتعميم استعماله، وأخذ المجمع من الحياة وعدم الاكتفاء بإعطائها، وفي مناقشات الأعضاء للبحث يعقب الدكتور إبراهيم مدكور بقوله: «... لغة التخاطب تختلف نوعا ما عن لغة الكتابة في كل أمة وفي كل حضارة ... أما توحيد هاتين اللغتين فلا محل له بحال، ولا يتفق مع علم اللغات المقارن في شيء ...» وفي تعقيب الأستاذ أمين الخولي على التعقيب يقول: «... الصحيح أن الفرق هو بين لغة الأدب ولغة الحديث، أما الفرق (بين لغة الكتابة ولغة الحديث) في اللغات الأجنبية فمعدوم أو كالمعدوم ...» ويكفي أن يقارن المرء بين لغة فيلم إنجليزي ولغة نشرة إنجليزية ليدرك صواب الشيخ أمين الخولي فيما ذهب إليه: فليس بين عامية الإنجليز وفصحاهم فرق نوعي يذكر. (1) تجربة من مختبر الحياة
معيار اللهجة إمكان التفاهم: فمحك التفرقة بين اختلاف اللهجتين واختلاف اللغتين هو إمكان الفهم المتبادل، بمعنى أن صاحبي اللهجتين المختلفتين يفهم أحدهما الآخر، بعكس صاحبي اللغتين المختلفتين. إذا كان هذا هو المحك فإن لدينا دليلا حيا على أن عاميتنا وفصحانا هما لغتان منفصلتان، وهو أن دارسي العربية الفصحى من الأجانب لا يفهمون شيئا إذا أنت حدثتهم بالعامية الخالصة، يعرف ذلك كل من أتيح له هذا المشهد الطريف وتعامل مع أشخاص أجانب ممن درسوا العربية في جامعاتهم وأتقنوها. ولسوف يضطر إلى التخاطب معهم بالفصحى، حتى في أمور الحياة اليومية؛ لكي يفهموا عنه! هذه تجربة سديدة بوسعك إجراؤها في مختبر الحياة و«إعادة إجرائها»
Replication
كما تشاء. فهذا الأجنبي يتقن العربية الفصحى وقد درسها أكاديميا مثلما درسناها في مدارسنا، غير أنه، بحكم ظروفه الجغرافية، لم يعرف العامية ولم يتعرض لها قط، أي أنه خلو من الازدواجية اللغوية (الفصحى/العامية) التي نتحلى بها، إنه يمثل «الفصحى الخالصة» أو المحضة التي لا تتوافر لأي منا من حيث إننا ثنائيون تعرضنا لكل من الفصحى والعامية. مثل هذا الشخص هو وحده من يخبرنا أتكون الفصحى والعامية «لهجتين» أم «لغتين». (2) ثنائية إفقار لا إثراء
ازدواجنا اللغوي إذن ليس كغيره من ضروب الازدواج (لغة الكتابة/لغة الكلام) في اللغات الأخرى، غير أن «ذلك الازدواج لا يعني امتيازا يتمثل في امتلاك لغتين، بل يعني الافتقار إلى لغة واحدة منسجمة مكتملة الحلقات كلغة، بكل ما تعنيه حالة أمة بلا لغة، أو حالة أمة ذات لغة تعاني من الازدواج والانشطار والتشوه.»
7 «العامية ليست لغة مكتملة الحلقات كما أن الفصحى ليست لغة مكتملة الحلقات، ذلك أن الفصحى عاجزة منذ قرون وقرون عن الاستمرار كلغة كلام وحياة يومية. وهي بذلك لغة ناقصة، كما أن هذا النقص، هذا الانفصال عن الحياة اليومية، يفقرها ويحرمها من حيوية الحياة ويجردها من القدرة على التعبير عنها بالحيوية المطلوبة ... والعامية رغم كل التطور الذي حققته والمكاسب التي أحرزتها تظل محرومة من ثروة خبرات الفصحى في التعبير عن الثقافة العربية، فالفصحى هي حامل هذه الثقافة القومية. وهكذا نجد العامية عاجزة، بحكم عدم الممارسة، وبحكم وقف النمو المفروض عليها، عن أن تكون لغة الفكر والفلسفة والأدب ... إلخ، وبهذا يتضح أن الازدواج يعني عدم اكتمال حلقات الحياة اللغوية، وضرب التمكن والإتقان في الصميم، وبالتالي حرمان اللغتين (الفصحى والعامية) من اكتمال صفة الفصاحة الضرورية لكل لغة لتكون لغة بالمعنى الصحيح والكامل للكلمة.»
8
وإذا كانت اللغة هي الفكر أو «دالة الفكر» (دي لاكروا)، وإذا كانت كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم (هردر)، فإن العقل العربي المشطور بين الفصحى والعامية مهدد بالتشوش والاضطراب وانعدام الوضوح والدقة.
يستهل الأستاذ أمين الخولي كتابه «مشكلات حياتنا اللغوية» بالحديث عن ظاهرة «الازدواج اللغوي» التي تجعل المجتمعات العربية «تحيا وتشعر وتتعامل وتتواصل بلغة يومية مرنة نامية متطورة مطاوعة، ثم هي تتعلم وتتدين وتحكم بلغة مكتوبة محدودة غير نامية، لا تطوع بها الألسنة، وتتعثر فيها الأقلام، وهذا الازدواج اللغوي القهري يصدع وحدتها الاجتماعية ويفرقها طبقات ثقافية وعقلية، وبهذه الوحدة المرضوضة الواهنة تمارس الحياة العملية وهي خائرة التماسك فاترة التعاون إن لم تكن فاقدته ... اللغة التي هي وسيلة كسب المعرفة قد صارت هي نفسها مادة صعبة التعلم سيئة النتائج ... وإذا الكثرة الكاثرة تحيا حياة تئود كل تقدم وتعوق كل نهوض، بسبب من اللغة.»
9
للأستاذ محمد العلائي، وهو من «الأمناء» - تلامذة الشيخ أمين الخولي - نظرات تشخيصية ثاقبة لأدواء العربية، منشئها وأعراضها ومخاطرها المحتملة. يقول في تقديمه لكتاب أستاذه «فن القول»: «لقد كان لطبيعة الشخصية المصرية هذه منذ القدم نتائجها في استقبال المجتمع للغة المفروضة، وفيما يأخذ به نفسه من المداراة والمصانعة، حين يتناول اللغة الوافدة على أنها ضرورية، ويظل يلتوي بها وينحرف، حتى ينتزع من كيانها لباب دلالتها، واضعا مكان هذا اللباب ما يلتئم مع الفطرة المصرية، ويلتقي بملابساتها الإقليمية، مفهوما وإحساسا. ومن أعراض هذه الحكمة المصرية ما حدث للعربية الفصيحة، حين جاءت المصريين محفوفة بسلطان الدين، وسيف السياسة، فتناولتها الروح المصرية المستترة بالملاطفة والمسايرة، حتى أفقدتها خصائصها الجذرية، وأفعمتها من ذات شخصيتها وأجوائها؛ ما أدى إلى انشعاب العربية إلى لغتين: عامية وفصيحة، وانزواء الفصيحة مكتفية بظاهر من الحياة في أجواء البيئة التعليمية، وفي الرسميات المفروضة على الملكات والألسنة، تاركة للعامية خصائصها المرهفة، في رصد الأعماق الشعبية، وفي تسجيل النزعات المتراجعة إلى هذه الأعماق، بما تحمل من آلام وآمال، وجعلت أمواج العامية والفصيحة تلتقي وتتنافر، وتتقارب وتتدافع، حتى أصبح الكيان المصري، في هذه الحالة الأخيرة، على وضع فني ممسوخ، لا يتميز بلون ولا طعم ولا رائحة، وأصبح الفن القومي على وضعه ذلك يستقبل الحياة من نوافذ العقل بلغة تغاير كل المغايرة وتختلف كل الاختلاف مع هذه اللغة التي يضطر إليها حين يعبر عما استقبل من نوافذ الحياة، وتلك هي المحنة القومية البالغة، التي أمسكت بالفن المصري وأصابته بالتيبس والجمود، وحالت بينه وبين أسباب النشاط، التي من شأنها أن تعمل على خلق الإحساس بالكرامة القومية، وتنمية العقيدة التي تحمي هذه الكرامة، وتتكفل بتنظيم وسائلها، وتشخيص مقوماتها، وتكون مسئولة أمام الوعي الجماعي عن استرخاء الملكات الفنية وميوعة الضمير.»
10 (3) انسداد طرق التطور
لا نحن نحيي الفصحى بالاستعمال والتعريب، ولا نحن نترك العامية تنمو وتكتمل وتنحيها.
إن حالنا في الثنائية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية
Romance languages (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا) في نهاية العصور الوسطى وفي عصر النهضة وبداية العصر الحديث، فقد كان هؤلاء ثنائيين: لغة كتابتهم لاتينية ولغة حياتهم عاميات تنمو على ظهر اللاتينية، وكانت عاميتهم مختلفة عن اللاتينية اختلافا جوهريا في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، «حتى إن الفرنسي مثلا الذي لم يكن قد تعلم اللاتينية ما كان يستطيع أن يفهم شيئا يعتد به من اللغة التي كان يكتب بها الناس في بلده وهي اللاتينية. وقد ظلت اللاتينية القديمة لغة كتابة حتى نضجت لهجات محادثاتهم وكمل نموها؛ فاستطاعت أن تنحي اللاتينية عن وظيفتها وتحتل مكانها، فأصبحت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا، التي كانت لهجات عامية تستخدم في المحادثة العادية فحسب، أصبحت لغات كتابة وآداب، وقد تم ذلك حوالي القرن السابع عشر الميلادي.»
11
ثم بدأت لغة الكتابة هذه تتباعد رويدا رويدا عن لهجات الحديث، ولكنا نرى أنها لا تختلف حتى الآن اختلافا نوعيا عن اللهجات، ولا نحسبها تختلف في المستقبل المنظور نظرا لارتفاع نسبة التعليم ومستواه في هذه البلاد، وبالنظر إلى ثورة الاتصالات التي تحول دون انعزال اللهجات وتحولها.
غير أن د. وافي سار بتقديراته في طريق آخر، ولا ننسى أنه كتب هذا الكتاب عام 1945، فهو يرى أن الهوة بين عاميتهم وفصحاهم ستزداد اتساعا «حتى تصل هذه الأمم إلى حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها وقت أن كانت لغة الكتابة فيها هي اللاتينية. فاختلاف لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرا شاذا حتى نتلمس علاجا له، بل هو السنة الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسنة الله تبديلا.» ولعل من الواضح الآن أن حديث الدكتور وافي، في أحسن تقدير، لم يكن متسقا مع ذاته، فهو من جهة يقول إن الانشعاب وانفصال العاميات إلى لغات كتابة هو مآل محتوم تفرضه سنة التطور، ومن جهة أخرى يحذر من كوارث الكتابة بالعامية، وينعى عليها اضطرابها وفقرها: «فاللغة العامية التي يرى هؤلاء استخدامها في الشئون التي تستخدم فيها الآن العربية الفصحى لغة فقيرة كل الفقر في مفرداتها، ولا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي إلى ذلك مضطربة كل الاضطراب في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملها وربط الألفاظ والجمل بعضها ببعض، وأداة هذا شأنها لا تقوى مطلقا على التعبير عن المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق العلوم والآداب والإنتاج الفكري المنظم.»
12
وإننا لنضطر اضطرارا في أحاديثنا العادية إلى اتخاذ الفصحى كلما احتجنا إلى التعبير عن حقائق منظمة وأفكار مسلسلة لا تسعفنا فيها مفردات العامية ولا قواعدها، «فإذا لم نجد أمامنا لا قدر الله إلا اللغة العامية نستخدمها في جميع شئون تفكيرنا وتعبيرنا لتقطعت بنا أسباب الثقافة ونكصنا إلى الوراء قرونا عديدة، وقضي على نشاطنا الفكري قضاء مبرما؛ لأن الفكر إذا لم تسعفه أداة مواتية في التعبير خمدت جذوته، وضعف شأنه، وضاق نطاقه، واقتصر نشاطه على توافه البحوث وسفساف التأملات، فاللغة هي القالب الذي يصب فيه التفكير: فكلما ضاق هذا القالب واضطربت أوضاعه ضاق نطاق الفكر واختل إنتاجه.»
13
ويمضي د. وافي في رصد الكوارث التي يمكن أن تلحقها الكتابة بالعامية، فيذكر منها انعزال الأجيال القادمة عن تراث أمتها وعجزها عن فهمه والانتفاع به، والضرر القومي البليغ المتمثل في تشرذم الأمة إلى جماعات لكل منها لغته الخاصة التي لا تفهمها الجماعات الأخرى، كما أن العامية نفسها في كل بلد غير ثابتة على حال واحدة بل عرضة للتطور السريع في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام المشكلة نفسها التي التجأنا في حلها إلى اتخاذ العامية لغة كتابة، «وذلك أن لغة الحديث سوف تتطور وسوف ينالها كثير من التغير في أصواتها ودلالاتها وقواعدها وأساليبها، ولن تزال كذلك حتى تبعد بعدا كبيرا عن لغة الكتابة؛ فنصبح وإذا بنا نكتب بلغة ونتخاطب بلغة أخرى ، فإذا صبرنا على هذا الازدواج ذهب كل ما عملناه في هذا السبيل أدراج الرياح، وإذا أخذنا على أنفسنا العمل على القضاء عليه كلما ظهر باستخدام الوسيلة نفسها التي استخدمناها في المرة الأولى، كان معنى ذلك أننا نضطر على رأس كل خمسين سنة أو كل قرن على أكثر تقدير إلى تغيير لغة الكتابة بلغة أخرى: وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه الفوضى في شعب إنساني.»
14
يضاف إلى هذا كله أن العامية تختلف داخل الشعب الواحد إلى عاميات بعدد المناطق والطوائف، فالقضاء على الازدواج لا يكون إلا بأن تصطنع كل منطقة لغة كتابة تتفق مع لغة حديثها، «وبذلك يصبح في البلاد العربية آلاف من لغات الكتابة بمقدار ما فيها من مناطق ومدن وقرى، ولا أظن عاقلا ينصح بمثل هذه الفوضى.»
ويرى د. وافي أن حل الازدواجية بالصعود بلهجة الحديث إلى العربية الفصحى هي أمنية غالية ولكنها غير ممكنة التحقيق؛ وذلك لسببين: الأول أن لغة المحادثة لا تفرض فرضا ولا يمكن النكوص بها إلى الوراء لأن من سنتها التطور والتبدل وفقا لنواميس قاهرة لا تخضع لإرادة الأفراد، والسبب الثاني أننا حتى لو افترضنا جدلا أننا نجحنا في تعميم الفصحى وجعلنا كل العرب يتحدثون بالفصحى، فإن هذه اللغة المفترضة لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية، وسرعان ما تختلف هذه اللغة من جماعة إلى أخرى وفقا للظروف الجغرافية والاجتماعية والجينية الخاصة بكل منها، وسرعان ما تختلف من جيل إلى جيل، وسرعان ما تنشعب هذه الفصحى الخيالية إلى لهجات وتتسع الهوة بين هذه اللهجات «ولا بد أن تسير في المراحل نفسها التي سارت فيها العربية الفصحى من القرن السابع الميلادي إلى الوقت الحاضر، وتنتهي إلى النتيجة نفسها التي انتهت إليها. وهكذا لن يمضي زمن قصير أو طويل حتى تنبعث مرة أخرى المشكلة نفسها التي حاولنا القضاء عليها، وحتى نرى الناس يتحدثون بلهجات تبعد بعدا كبيرا عن لغة الكتابة.»
15
تعاني تنظيرات د. وافي من عدم اتساق واضح؛ فقد أسهب في تبيان قوانين التطور وحتميته، وحدد اتجاهه: من لغة كتابة تنشعب عنها عاميات ما تلبث أن تنضج وتنحي الفصحى القديمة وتحل محلها ... ثم يحذر في الوقت نفسه من تبني العامية كلغة كتابة لأن مآلها التطوري معلوم ووخيم! ومن البين أنه بذلك يسد الطرق أمام اللغة، ويتركنا في موقف أشبه بالتوقف اللغوي: فلا نحن نملك إحياء الفصحى وتعميمها، ولا نحن ننصح بتبني العامية وإنضاجها والكتابة بها!
وهناك موقف آخر يبدو متناقضا للوهلة الأولى ولكنه في الحقيقة متسق (مع ذاته على أقل تقدير)، وهو موقف د. رمضان عبد التواب إذ أسهب في كتابيه «التطور اللغوي» و«بحوث في فقه اللغة» في تبيان نواميس التطور وحتميته: «تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات يشهد بهذا، ولا نعرف لغة على ظهر الأرض جمدت على شكل واحد مئات السنين»، ثم يعود ويستثني العربية من هذه السنن لأن لها «ظرفا خاصا لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، وهذا الظرف يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين، عن حسن نية أو سوء نية أحيانا، من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى، لكي تتفاعل مع العاميات، تأخذ منها وتعطي، كما يحدث في اللغات كلها ... لأنها ارتبطت بالقرآن منذ أربعة عشر قرنا، ودون بها التراث العربي الضخم ...»
16
ويدعم د. عبد التواب رأيه بقوله: «هذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر، لا يتعدى قرنين من الزمان، فهي دائمة التطور والتغير، وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة، تأخذ منها وتعطي، ولا تجد حرجا؛ لأنها لم ترتبط في فترة من فترات حياتها بكتاب مقدس، كما هو الحال في العربية.»
17
ويزيد د. عبد التواب موقفه قوة واتساقا (ذاتيا) بقوله: «إن العربية تحمل في طبيعة تكوينها عنصر التجدد والحياة، إن أفاد أهلها من منهجها العظيم في القياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب.»
18
غير أن الاحتضار المشهود للفصحى اليوم ربما ينال من «الاتساق الخارجي» لنظرية د. عبد التواب، ويتركها بحاجة إلى اكتمال، ونحن نخشى أن تكون الغيرة المفرطة على الفصحى عاطفة انتحارية أفضت إلى هذا الاحتضار المشهود. ويبدو أننا قد تجاوزنا مرحلة الكراهة والبغض للفصحى إلى مرحلة السخرية والضحك، وهل تعد حية لغة يضحك منها أهلها ولا يفهمونها ولا يتحدثون بها في جد ولا هزل؟ أرى أن الفصحى في موقف لا يحتمل أي نعرة أو تصلب أو نرجسية جريحة، ويليق بنا أن نأخذ أمرها بشيء من اللين والحصافة والقصد.
لقد استنفد المحافظون جهدهم طوال قرن في مهاجمة العامية
19
وتتبع لحن العامية والتنديد به، بينما كانت العامية «تلقى هذا كله بقوة خفية، توشك أن تكون سحرية، هي قوة الحياة، وقوة المجتمع، فهي من الحياة وفي الحياة، وهي تستجيب لسنن الاجتماع مرنة طيعة، فلا تتأثر بتلك المهاجمة، بل مضت تنمو نموا مطردا، فتثري في مفرداتها، وتزيد طاقاتها الفنية، فتتخذ أوزانا للفن القولي جديدة، غير تلك التي عرفتها الفصحى، وبهذه القوة تقدمت فألزمت الفصحى مكانها المحدود، في الحياة الرسمية، دينية وحكومية، ومبلغ أمرها، في أحسن تصوير، أنها لغة القلم، والعامية لغة اللسان، وإنما اللغات صناعة الألسنة.»
20 (4) دانتي وفصاحة العامية
قلنا: إن حالنا في الازدواجية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية (الرومانسية/الشعبية)
Romance languages
في عصر النهضة، وكان دانتي واحدا من هؤلاء. في بداية القرن الرابع عشر كتب دانتي دراسة (لم يكملها ولم تصدر إلا بعد قرنين من كتابتها) بعنوان «في فصاحة العامية»
De Vulgari Eloquentia
21
مدح فيها مزايا اللغات المحكية التي يتعلمها الطفل تلقائيا وبشكل لا شعوري، وقابل بينها وبين اللاتينية المكتوبة التي تكتسب بشكل واع في المدارس عن طريق الأحكام القواعدية بوصفها لغة ثانية. لقد تمت دراسة التغيرات الصوتية وتم التعامل مع ظاهرة التغير اللغوي بطريقة منهجية، وربما كانت هذه هي البداية الحقيقية لعلم اللغة التاريخي كما نفهمه اليوم. لم تكن العاميات الرومانية مجرد لاتينية فاسدة بل لغات ذات جدارة وقائمة بذاتها، ومرتبطة تاريخيا باللاتينية بطرق مثيرة. تمت مناقشة هذا التغير اللغوي، وقد عزاه الكتاب إلى عوامل الاحتكاك والاختلاط اللغوي، وإلى التغيرات التدريجية المستقلة التي تحدث مع انتقال اللغة المنطوقة من جيل إلى جيل.
22
يقول دانتي في كتابه «في فصاحة العامية»: «إنني أعرف العامية بأنها اللغة التي يكتسبها الأطفال ممن حولهم عندما يبدءون في نطق الكلمات، وباختصار أكبر، هي اللغة التي نتعلمها بدون أي قواعد على الإطلاق من خلال تقليدنا لمربياتنا.»
23
ويقارن دانتي هذا النوع من اللغة ب «النحو»
24
الذي يعني به اللغة الرسمية؛ لغة الكتابة، وهو ما يصطلح عليه الآن باللغة الفصحى أو المعيارية (اللاتينية في زمن دانتي): «ولدينا بعدئذ كلام ثانوي آخر، سماه الرومان النحو، وإن لدى اليونانيين وغيرهم أيضا هذا الشكل الثانوي للغة ... ولكن قلما يكتسبها أحد لأن التمكن من قواعدها وفنها يتطلب وقتا طويلا ودراسة مثابرة.» وبين اللغتين (العامية والفصحى) يعتبر دانتي أن العامية هي الأنبل: «والآن بين اللغتين فالأنبل العامية: أولا لأنها اللغة الأولى التي نطق بها الجنس البشري، وثانيا لأن العالم كله يستخدمها وإن بضروب متباينة من النطق والشكل، وثالثا لأنها طبيعية بالنسبة لنا، بينما الأخرى أكثر اصطناعا وتعملا.»
وإن اللاتينية هي لغة الكنيسة، وهي لغة مقدسة، وسيبدو أقرب إلى الهرطقة إذا ما اقترحنا أن اللغة العامية هي الأنبل، ولكن دانتي يعرب عن إعجابه بما هو «طبيعي» في مقابل ما هو «اصطناعي»، أي كل ما يصنعه الفن
25 ... فالفن إنساني في جوهره، في حين أن الطبيعة إلهية في مصدرها. وفي كتابه «المأدبة»
Il Convito
الذي كتبه في نفس الفترة التي كتب فيها «في فصاحة العامية»، يدعو دانتي إلى أن يستعمل الناس لغتهم الخاصة لأن ذلك هو الأقرب والأوقع.
والحق أن العامية مغبونة، حتى في اسمها، الذي يومئ إلى تدنيها وسوقيتها، بينما هي في الواقع «فصحى الحياة»، ويغلب الاعتقاد بأنها «انحراف» عن اللغة المعيارية، أو تدهور لها أو فساد، بينما هي في أحيان كثيرة «تطور» نحو المرونة والسهولة والاقتصاد والنجاعة الاتصالية، يقول الشيخ أمين الخولي: «كلما بذلت محاولة لتمكين العربية من ابتلاع العاميات قيل إننا ندعو إلى العامية، وبناء على هذا تضيع جهود التيسير وتبقى الفصحى في عزلتها عن لغة الحياة وتبتلعها العامية.»
26
لقد آن لنا أن نفرق بين ما هو عبث وتحلل لغوي و«لحن»، وما هو ارتقاء وإبداع وحيوية ... أن نقاوم العبث والتحلل ونشجع الابتكار والتجديد، ونواكب كل ذلك بالتنظير اللغوي الحصيف، وإلى جانب تيار «لحن العوام» و«قل ولا تقل» نشجع أيضا تيار «صواب العامة» و«رفع الإصر» و«بحر العوام»،
27
فلا نتحرج من اعتماد الألفاظ المولدة واستلهام العامية واسترفادها والإفادة مما صح منها وفصح وساغ، وأن ننزل هذا العامي الفصيح في معاجم رسمية مصدقة معتمدة،
28
وندرجه في مناهج اللغة بالمدارس؛ حتى يحس أبناؤنا أنهم لا يتعلمون لغة أجنبية بل لغة حياتهم المألوفة لهم الرفيقة بهم، وتزول تلك الجفوة العتيدة بين الدرس والدارس، ويصير التعلم جهدا ممتعا ولا يعود كابوسا ثقيلا وعذابا نكرا، هنالك تكون هذه العامية المزدراة هي حبل نجاة الفصحى ومجددة دمائها وباعثتها إلى الحياة من جديد!
الفصل الثامن
تعريب العلم
تعليم الأمة بلغتها ينقل العلم بكليته إليها، أما تعليمها إياه بلغة غيرها فإنه ينقل أفرادا منها إلى العلم.
الشيخ علي يوسف
تعليم المرء بغير لغته أمر شاذ بالغ الشذوذ، ومضاد لطبيعة الأشياء، ومضاد للبيولوجيا، ولا تلجأ إليه الأمم إلا اضطراريا، ومرحليا. ليس في العالم، شرقه وغربه، أمة تعلم العلم بغير لغتها القومية، باستثناء شعوب بدائية اللغة كالغجر والإسكيمو والأفريقيين، وشعوب متعددة اللغات كالهنود. جميع دول العالم على اختلاف حجمها، وتعدادها، وعائلتها اللغوية، ودرجة تقدمها، تعلم العلم بلغتها: ألبانيا، تركيا، بلغاريا، هولندا، فنلندا، اليونان، إيطاليا، روسيا، الصين، كوريا، اليابان، إيران، إسرائيل ... «يروي د. إسحاق الفرحان عضو مجمع اللغة العربية الأردني أنه كان بصحبة وزير التربية الأردني يحضران حفلا للسفارة الكورية في عمان، فسأل وزير التربية السفير الكوري: بأي لغة تدرسون الطب والهندسة والعلوم في بلادكم؟ فلم يجبه السفير، ولما كررت عليه أنا السؤال نظر إلي السفير قائلا: وهل هذا سؤال يسأل؟ بالكورية طبعا!»
1
لم يفهم الرجل السؤال أول مرة، وظن أن في الأمر «لعبة»؛ فالسؤال غريب عنده غرابة التعريب عندنا! لقد نشأنا نرى العلم يدرس عندنا بالإنجليزية فحسبنا ذلك أمرا طبيعيا، وما هو بالطبيعي، وإنما «أعمانا الإلف فلم نعد نرى في الغريب غرابته» باستعارة تعبير د. زكي نجيب محمود (في مقام آخر)، و«اكتسب المؤقت والاستثنائي (عندنا) ديمومة بل شرعية» باستعارة تعبير د. مفيد أبو مراد. يبدو أن في جبلة العقل البشري، بوصفه رهين الثقافة وصنيعتها، أن يعبر «فجوة هيوم» وثبا؛ فيقفز مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، ويميل إلى أن يرى أوضاعه التي نشأ عليها، مهما بلغت من سوء وشذوذ، لا كمجرد أوضاع معطاة «للوصف» و«النقد» و«التغيير»، بل كمقاييس للصواب والسواء والخير و«معايير» للقيمة. هذا ما جعل أستاذا في الطب مثل د. نادر عبد الدايم يصف دعوة تعريب الطب ب «النكبة» و«الكارثة»، وكأن تسمية «الهارت» ب «القلب» ستصيبه بأزمة، أو أن تسمية «الأبدومن» ب «البطن» ستحول دون فتحه!
الحق أن ما نحن فيه هو النكبة، وليتها نكبة واحدة أو ذات بعد واحد، ولكنها نكبة تساقط نكبات، نكبة مركبة مطبقة ذات أبعاد أربعة، ذلك أن التعريب
2 (التعريب بحد ذاته) ضرورة قومية، وضرورة علمية، وضرورة نفسية/اجتماعية، وضرورة لغوية! (1) التعريب ضرورة قومية
لغة الأمة هي وعيها وضميرها، وكبرياؤها وعرضها، والأمة التي لا تصون لغتها من العبث والتحلل لن يبقى لها شيء تصونه.
كان من روابط وحدة اليونانيين في مقاومة الغزاة الفرس أن المجتمع اليوناني بأكمله تربطه صلة الدم الواحد واللسان الواحد.
هيرودوت
من شأن التعريب أن يقوي الشعور بالانتماء والنخوة القومية، ويعزز الثقة بالنفس والاعتزاز بالهوية. يقول د. كمال بشر: «ليس من المقبول شكلا وموضوعا أن يظل العلم (أو بعض فروعه) في البلاد العربية أسيرا للغات أجنبية تفكيرا وتناولا وتحصيلا حتى هذه اللحظة، ذلك أن إيثار اللغات الأجنبية على لغتنا القومية فيه تقليل لشأنها وإضعاف لمنزلتها بين الناس، وربما يؤدي ذلك في النهاية إلى خلق جو علمي ثقافي مضطرب لا هو إلى الأجنبي ينتمي، ولا إلى العروبة ينتسب، وإنما هو جو فاقد الهوية مشتت السمات مشرد القسمات، ليس له حدود ضابطة ولا أصول ثابتة ، وهذا هو الضياع القومي والانهيار الفكري الذي ينذر بمحو روح الانتماء التي تعد اللغة قطبها الذي يتجمع وتتمثل فيه كل القيم والمثل وأنماط السلوك الفارقة بين قوم وقوم والمميزة لأمة عن أخرى.»
3
ويقول د. محمود فوزي المناوي: «... وتعليم أجنبي بلغة يزهو بها أصحابها وتزيد من تغريب شبابنا وعدم انتمائه. إن العرب يعيشون الآن مرحلة العولمة وهم يعانون الضعف والوهن الواضح، إننا أمام تحد خطير، فنحن في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المستقبل بأمل المشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية نضع أيدينا على قلوبنا خشية ضياع هويتنا، والخوف كل الخوف من عدم استعمال الأسلوب العلمي في مواجهة العولمة، وأن يكون رد الفعل عندنا يفتقر إلى العقلانية فيتحه إما إلى تطرف يتبنى الثقافة الغربية (التغريب) أو تطرف ينحو نحو الانغلاق ورفض التعامل، وكلاهما كارثتان محققتان.»
4
تلك أصداء معاصرة لنذر تاريخية أقدم: يقول ابن حزم في «الإحكام»: «وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم.»
5
وفي «المقدمة» يقول ابن خلدون: «... وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس بالمغرب لبقاء الدين طلبا لها، فانحفظت بعض الشيء، وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين، حتى إن كتب العلوم
6
صارت تكتب باللسان العجمي، وكذا تدريسه في المجالس.»
7
مهددون نحن بالذوبان في عصر العولمة إذا لم نحكم قبضتنا على جمرة اللغة.
لم يعد الاحتلال احتلال أرض أو موارد مادية، إذن لكان الخلاص منه أيسر بما لا يقاس، الاحتلال اليوم هو احتلال العقل، احتلال الوعي، يتأتى بالمعلومة وبالمخترع وباللغة، ولا يتم الاحتلال اليوم بالقهر والإرغام، وإنما بالرضا والوفاق وطيب الخاطر، وربما برغبة من المهزوم ولهفة وولوع. لم تعد كلمة «محتل» اسم فاعل بل اسم مفعول. يذكرنا هذا الاحتلال الجديد بقصر اللابرنت الذي صنعه ديدالوس لمينوس ملك كريت، ومن خصائصه أن من دخله لا يستطيع أن يجد منه مخرجا. في رواية «ثيسيوس» لأندريه جيد، يقول ديدالوس مخاطبا ثيسيوس: «وقد قدرت أن ليس هناك سجن يستطيع أن يمتنع على رغبة السجين في الفرار، وأن ليس هناك أسوار ولا خنادق تستعصي على الجراءة والعزم، فرأيت أن الخير أن أقيم البناء وأنظمه بحيث لا يكون معجزا لساكنه عن الهرب بل مانعا له من التفكير في الهرب، فجمعت في هذا البناء ما يستجيب لشهوات الناس على اختلافها ... وكان يجب أيضا بل قبل كل شيء أن أضعف إرادتهم ... فاتخذت مواقد لا تخمد نارها في ليل أو في نهار ... والأبخرة التي تصاعد منها لا تنيم الإرادة وحدها، ولكنها تشيع سكرا خلابا، وتدفع إلى فنون من الخطأ المغري، وإلى ضروب من النشاط الفارغ ... ولكن أشد من هذا كله غرابة أن هذه العطور إذا استنشقها الإنسان حينا لم يستطع أن يستغني عنها؛ لأن الجسم والعقل قد اتخذ منها متاعا لا قيمة بإزائه للحياة الواقعة ولا رغبة في العودة إليها، وإنما هو البقاء المتصل باللابرنت.»
8
هذا هو حالنا اليوم في سجن العولمة، وفي لابرنت التبعية الاختيارية، والتنفج
9
والاستهلاك والتغريب.
كان غاندي يولي أهمية عظمى لقضية اللغة الوطنية، وينظر إليها باعتبارها رمزا سياسيا، «وكان مما أعلنه غاندي عام 1920 أن الأمة قد عانت كثيرا من استخدام اللغة الإنجليزية؛ مما حرم الأجيال من اكتساب الخبرات المتراكمة بلغة وطنية، وضرب غاندي مثلا باليابان التي لا توجد بها لغة أجنبية تحل محل اللغة الوطنية في البحث والتعليم؛ مما مكنها من تقديم كل شيء منافس للغربيين بلغتهم اليابانية، وقد تطلب منهم ذلك ترجمة المفيد إلى اللغة الوطنية فحولوا التراث الغربي بذلك إلى تراث وطني.»
10
ومن نكد الدنيا على الحر أن يعظه خصمه، ويهديه عدوه سبل الرشاد: فها هي اللغة العبرية تكشف إصداراتها من الكتب عن اعتزاز باللغة الوطنية: فمن بين 1147 عنوانا طبعت عام 86 - 87 ظهر 84٪ منها ابتداء بالعبرية، و16٪ ترجمة إلى العبرية، دون إصدار شيء بلغة أخرى.
11 «لم تحقق اللغة العبرية ما حققته من مكانة عن طريق القسر أو الضغط أو الإكراه من أفراد أو مؤسسات، وإنما قامت من مرقدها، ودبت فيها الحياة في الأعوام الأخيرة لتكون اللغة الوطنية لإسرائيل نتيجة لتنامي الشعور الوطني، والإرادة الجماعية لليهود سواء المتكلمون منهم باللغة العبرية أو المتكلمون بغيرها من المهاجرين الجدد، والاعتزاز بالذات من أفراد المجتمع الذي يستخدمها. وما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها، وفاعليتها وشمولها بدرجة جعلت هذه اللغة شبه الميتة - في وقت قصير لا يزيد على مائة سنة - هي لغة الحياة، ووسيلة الاتصال داخل الدولة الحديثة، ووافية بالمراد لكل الأفراد من كل الجنسيات، ولجميع الأغراض، سواء كانت اجتماعية أو تقنية في مجتمع متقدم. وقد تم إحياء اللغة العبرية من خلال إرادة جماعة المتكلمين بها، وليس من خلال القرارات المجمعية (أنشئت أكاديمية اللغة العبرية في إسرائيل عام 1953)، أو المراسيم الحكومية، أو سياسة الأمر الواقع. وحين كانت اللغة العبرية تصادف بعض المقاومة، كان الانتصار لها يأتي من الأفراد، ومن ضغط الرأي العام الذي يتحيز للغة العبرية، ويعتبرها جزءا أساسيا من كيانه ووجوده، وقد حدث هذا عند إنشاء «معهد التكنولوجيا» في حيفا، فقد ثار جدل حول استخدام اللغة الألمانية في البحث والتدريس فيه، ولكن انتصرت اللغة العبرية لا بتشريع، ولا بقوة قانون، ولكن بقوة الضغط الجماهيري، وبخاصة ضغط «اتحاد المعلمين».»
12
يخلص د. يحيى الرخاوي في مقاله «اللغة العربية وتشكيل الوعي القومي» إلى أن «لسان كل أمة هو تاريخها الحيوي المتراكم في عمق وجودها الآني، ولغتها بالتالي هي منطلق معارفها في مجال ما هو ظاهرة بشرية معرفية/وجدانية. إن اللغة الأصل (اللغة العربية هنا) في حركيتها الموحية، لا تميز لساننا فحسب، بل تسهم بفاعلية أولية في تحديد طريقة تواجدنا في الحياة، وطريقة منهجنا للمعرفة، وطريقة تشكيلنا للوعي. إن اللغة الأصل هي المسئولة، من واقع صحتها وحركيتها، عن الإسهام الحقيقي في إبداع متميز لأي مجموعة من البشر. إن اللغة العربية، بإيحاءاتها المنهجية يمكن أن تحتل مركزها المحوري في أي محاولة للتعرف على حركية نمونا وإمكانية بعثنا، وبالتالي تصبح البدايات منها (لا مجرد الترجمة إليها) هي أكبر إلزام مفروض على ضمائرنا ومحرك لفعل معرفتنا، وعلينا أن نتوقع إذا أحسنا استلهامها أن تقف في مواجهة اللغات الأخرى والمناهج الأخرى، في حوار حضاري يعود على الجميع بالتكامل المحتمل بل الحتمي.»
13
في كتابه «الشعرية العربية» يقول أدونيس: «والمشكلة هنا هي أن هذه اللغة التي ينظر إليها بوصفها جوهر الكائن العربي، تبدو في الممارسة العملية ركاما من الألفاظ: هذا لا يتقنها، وذاك يهجرها إلى لغة أخرى عامية أو أجنبية، وذلك لا يعرف أن يستخدمها إبداعيا، فكأنها «مستودع» ضخم، ينفر منه بشكل أو آخر، بحجة أو أخرى، كل من يدخل إليه ويغترف حاجته منه، فهناك مسافة بينها وبين من ينطق بها. وهذا يعني أن ما كان غاية يبدو الآن مجرد وسيلة، وكيف يمكن التوفيق بين ماض يجعل من اللغة جوهر الإنسان، وحاضر لا يرى فيها إلا أداة، ولا يتردد في الدعوة إلى تغيير بنائها، وإحلال العاميات محلها؟ وإذا تذكرنا صلتها في الوعي العربي الأصلي بالمقدس، وتحديدا بالقرآن - أفلا نرى أن في جهلها أو الدعوة إلى تغيير بنائها وإحلال العاميات محلها، نوعا من القول بوعي آخر وهوية مغايرة؟»
14 (2) التعريب ضرورة علمية
كذلك لغة المرء هي الأقرب إليه؛ لأنها الألصق به إذ هي اللغة التي تحضر وحدها، وقبل كل الأخريات، في عقله.
دانتي: المأدبة
إني لأعجب لمن يريد أن يتضلع في الفلسفة والعلم وهو لا يعرف العربية.
روجر بيكون (القرن 13)
إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، ولا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه.
كلوت بك
من الحقائق المقررة في العلم
15
نفسه أن التعليم المثالي ينبغي أن يكون باللغة الأم؛ اللغة التي تشكل بها العقل وصبت بها مقولات الفهم؛ وذلك لكي يكتمل الفهم والاستيعاب، والهضم والتمثل، بدقة وسهولة واقتصاد ذهني، وحتى تعمل ملكة التحليل والجدل والنقد والتساؤل في أعلى مستوى لها، وحتى يمكن إحالة المادة المدروسة إلى الكيان العضوي للمرء بما يسمح بالإضافة إليها والإبداع فيها، تقول الأستاذة ليلى الشربيني الباحثة في معهد الإحصاء في اللغويات الكمية، جامعة القاهرة: «اللغة هي نظام الترميز داخل الذاكرة، وهي التي تعطي بنية داخل الذهن البشري ، والإبداع هو إعادة تنظيم المعلومات داخل الذاكرة. نخلص من ذلك إلى أن من يملك لغته امتلاكا جيدا تتاح له فرصة الإبداع حيث هي أول من ولد في ذهنه نظاما له بنية.»
16
وقد قام عدد من خبراء منظمة اليونسكو بإعداد تقرير شامل عن قضية استخدام اللغات الوطنية في التعليم، يوصي باستخدام اللغة الأم في التعليم لأعلى مرحلة ممكنة، وشدد التقرير على ضرورة تعليم التلاميذ في المراحل المدرسية الأولى بلغتهم الوطنية؛ لأنهم يفهمون تلك اللغة ويتقنونها أكثر من غيرها. يقول د. عبد الحافظ حلمي العميد الأسبق لكلية العلوم بجامعة عين شمس ورئيس الجمعية المصرية لتعريب العلوم وعضو مجمع اللغة العربية: «إن تعريب لغة العلوم في بلادنا تعليما وتثقيفا قضية بالغة الخطر، وتنبع أهميتها من الدور الجوهري الذي يؤديه العلم واللغة في حياة الأفراد والأمم. والدعوة لتعريب العلوم مطلب قومي، والدافع لذلك أمران: «ضرورات ملزمة» و«منافع مؤكدة» ويقف في سبيلهما «اعتراضات مفندة» و«تسويفات مفتعلة». ويشير د. عبد الحافظ حلمي إلى أن المشكلة في العالم العربي في المعاهد والجامعات التي ما زال العلم يدرس فيها بلغات أجنبية، وهذا يؤثر سلبيا على المستوى العلمي للطلاب فنجدهم في مواقف النقاش العلمي ملجمي اللسان ومحجمين عن السؤال والجواب، هذا في الوقت الذي نجد فيه مزايا متعددة حين نعلم أبناءنا باللغة العربية، كما تفعل أمم أخرى حين تعلم أبناءها بلغتها الأصلية، ومن هذه المزايا جعل عملية التعليم عند الطالب أقرب إلى التمثيل البيولوجي الصحيح للغذاء، ويحيل العلم جزءا من صحيح بنائه الذهني، له آثار أبقى وأقوى وأعمق، فتتجمع عنده أدوات المقدرة على التحليل والمناقشة والنقد والفهم الدقيق، وكذلك يصبح تعلم العلم عنده معرفة وثقافة، فضلا عن كونه تخصصا أو مهنة، ومن تعلم بالعربية سوف يكون قادرا على أن يعلم بالعربية ويمارس عمله ويفكر بها.»
17
وخير مثال على ما نقول: تجربة اليابان في ترجمة العلوم إلى اليابانية وتعليمها العلم بلغتها الوطنية، لقد بدأت اليابان نهضتها في القرن التاسع عشر، بعدنا بعدة عقود، واستطاعت أن تحدث طفرة صناعية كبرى خلال نصف قرن، واستطاعت بعد الحرب العالمية الثانية أن تقوم من كبوتها في زمن قياسي، ذلك أن اليابان وضعت بين أيدي عمالها وفنييها أحدث النظريات التطبيقية في الصناعة الأمريكية والأوروبية بلغتهم القومية. جاء في تقرير المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب والإعلام 2004: «إن الموازنة بين بداية التعليم العالي والنهضة الحديثة في مصر في عهد محمد علي، وبين المحاولات التي كانت تترسم خطاها في اليابان لهي موازنة ذات مغزى عميق لمن يتدبرها، ولا شك أن العامل الأساسي الذي ساعد اليابان على أن ترقى بصناعتها في خلال نصف قرن هو أنها وضعت أحدث النظريات التطبيقية في الصناعة الأمريكية والأوروبية بين أيدي العمال والفنيين في اليابان بلغتهم القومية.»
18
وللدكتور عبد الملك عبد الرحمن أبو عوف تجربة تستحق التسجيل، فقد اضطر عندما انتدب إلى جامعة دمشق أن يدرس الكيمياء العضوية باللغة العربية، فاستطاع أن يفعل ذلك بعد أسابيع، ثم قارن بين عمله في القاهرة وفي دمشق في قوله: «وما أحب أن أركز عليه ... هو حسن النتائج التي أحرزها الطلاب مقارنة بنتائج كلية الصيدلة بالقاهرة، وضخامة التحصيل وحسن الاستيعاب الذي توصلوا إليه؛ لأن الطالب هناك كان يفهم دقائق الموضوع؛ مما كان يتيح له فرصة استيعاب قدر أكبر من معلومات المادة المعطاة، فتفهم الطالب للغة المحاضرة والشرح كان يعفيه من بذل مجهود مضاعف ينصرف نصفه لفهم اللغة والتعرف على المفردات الصعبة في اللغة الجنبية التي يدرس بها، وذلك مهما تحرز المحاضر وتبسط، وينصرف النصف الآخر من الجهد لاستيعاب المادة نفسها، فضلا عما يعتري ذهن الطالب أحيانا من غموض في المعنى أو نقص فيه، يختل معه بناء المعلومات أو تنقل إليه بغير الصورة المقصودة من المحاضر والمتفقة مع حقائق العلم الذي يدرسه الطالب. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه إلى قطع الصلة بين الأستاذ والطالب، فإن كثيرا من الطلبة يخشون ألا يستطيعوا التعبير عما يريدون أمام أساتذتهم وزملائهم، فيمتنعون عن السؤال والمناقشة، ولو كانت العربية أداة التعليم ما وقع هذا، ويزيد هذا الأمر سوءا الأعداد الغفيرة التي تمتلئ بها الجامعات العربية، وتجعل التفاهم بلغة أجنبية قريبا من المحال.»
19 (2-1) اللغة الأجنبية تشجع الحفظ دون الفهم
تتساءل الأستاذة مديحة دوس أستاذة اللغة الفرنسية: «كيف يمكن لطفل في السادسة أو السابعة من عمره أن يحصل على معلومات علمية بلغة أجنبية لم يكن قد اكتسبها بعد؟ هل يمكن أن يصل إلى المعلومات فهمه وإدراكه من خلال لغة لا يملك منها إلا عناصرها الأولية؟ أظن أن الرد هو بالطبع لا، ونتيجة لذلك فلم يعد أمام التلميذ سوى حل واحد: هو الحفظ والاعتماد على الذاكرة في تعامله مع المواد العلمية، ومن هنا يلجأ التلميذ إلى وسيلة الحفظ كحل وحيد. وقد أشار كل من اهتم بأمور التعليم وكل من شارك في محاولات تقييمه إلى التعارض بين تنمية مهارات النقد والتحليل من ناحية وعادة الحفظ أو الاستظهار من جهة أخرى. ثمة خطورة أخرى لعادة الاستظهار، وهي خلق عقلية شفاهية عند التلميذ، وعند المجتمع بدرجة ما.»
20
وقد جاء في تقرير المجلس القومي للثقافة والفنون والآداب والإعلام 2004 أن «المناداة بأن تكون اللغة العربية لغة تلقي العلوم في المرحلة الجامعية الأولى ليس مبعثه نعرة قومية أو اعتزازا باللغة العربية وغيرة عليها - وهي جديرة بهما ولا ريب - وإنما هو استجابة لضرورات ملزمة يكابدها المعلمون والمتعلمون، وليست خيارا يجوز تركه، فالكثرة الغالبة من طلاب الجامعات المصرية قد أصبحت - منذ عقود - بعيدة كل البعد عن التمكن من اللغة الإنجليزية؛ ولذلك يضطر الأستاذ المحاضر إلى صرف جزء كبير من وقت المحاضرة في تفسير ألفاظ وتراكيب إنجليزية عادية، وإلى اللجوء إلى الشرح والتعليق باللغة العربية - أو بالأحرى العامية - مضمنا كلامه عددا من الألفاظ المفككة والجمل البتراء باللغة الإنجليزية، ومتجنبا على قدر الإمكان الألفاظ والعبارات الدقيقة، ويعلم الطالب أن المذكرة الرديئة الطباعة والإعداد، أو الكتاب المدرسي المقرر - إن وجدا - ستعصيان عليه، فيلهث وراء المحاضر محاولا تسجيل كل كلمة يتسقطها منه، في بنيان غير محكم، ولأنه يدرك أيضا عجزه الكامل عن طلاقة التعبير باللغة الإنجليزية، يلجأ إلى استظهار ما دونه أو قرأه - على علاته - استظهارا دون فهم حقيقي أو استيعاب عميق، وهكذا حين ينبغي للطالب الجامعي أن يحلق ببصره إلى آفاق واسعة، ويتعمق في أغوار بعيدة، نجد اللغة الإنجليزية قيدا محددا لأبعاد دراسته كما وكيفا، ومهددا التعليم الجامعي بالضحالة وعدم الدقة. هذا عن أثر اللغة الإنجليزية على التحصيل والاستيعاب، أما عن وظيفة اللغة الإنجليزية من حيث اكتساب الطالب مقدرة التعبير البين الصحيح والمحاجة وتقليب الآراء، وإعمال الفكر، فيتجلى كونها قيدا على الطالب - في هذا كله - حين نجد الطالب ملجم اللسان يعجز عن النقاش ويحجم عن الاستفسار أو الإجابة.»
21 «واللغة ليست أمرا ثانويا في حياة الإنسان، أو مجرد أداة تواصل في مجتمعه، بل هي قوام فكره وخياله ووجدانه، وصيغة قيمه وعقائده، ودراسة العلوم بلغة أجنبية تضفي هذا الوصف (الأجنبي) على العلوم نفسها، فما يحس الطالب إحساسا عميقا بأنها شيء ينتمي إليه أو إلى بني قومه، بل إنها أقحمت على ذاكرته وفكره إقحاما، فآثارها سرعان ما تزول، وحتى إذا احتاج الخريج إلى استعمال ما تعلم استعمله فنيا ومهنيا، ولا يكون العلم والأسلوب العلمي جزءا عضويا من كيانه الفكري والسلوكي.»
22 «ومما يساق من الاعتراضات أن الإنجليزية تتخذ لغة لتدريس العلوم لأنها توفر لقارئها مددا غنيا من المراجع، فضلا عن مصادر المعلومات الأخرى. ولكننا إذا تأملنا واقع الحال وجدنا أن اللغة الإنجليزية تصبح - لقدرة الطالب المحدودة فيها - أغلالا يرسف فيها الطالب مقيدا في متن واحد ضيق، حاول أستاذه جاهدا أن يذلله له، ولا تمكنه قدراته اللغوية من ارتياد سواه، وعلى نقيض ذلك تماما لن تكون اللغة عائقا أمامه للاستزادة من مراجع متعددة باللغة العربية لو أنه تعلم بها.»
23 (2-2) شهادة التاريخ للعربية
لقد سجل التاريخ للعربية كفاءتها التامة للوفاء بمتطلبات العلم والحضارة، ولدينا شاهدا عدل فوق مظنة التحيز، أولهما الدكتور
G. A. Russell (1981) الأستاذ بمعهد ولكوم لتاريخ الطب في لندن، في معجم حديث لتاريخ العلوم باللغة الإنجليزية. فبعد أن استعرض الأستاذ المعالم الجوهرية للعلم الإسلامي قال ما ترجمته: «... وكانت العربية هي أداة هذا النشاط العلمي كله، فلما كانت اللغة العربية لغة القرآن أصبح لها أهمية خاصة في الإسلام، بيد أن طبيعة اللغة العربية نفسها هي التي قامت بالدور الحاسم، فمرونتها الرائعة قد مكنت المترجمين من دمغ مفردات محكمة دقيقة للمصطلحات العلمية والتكنولوجية أو ابتكارها، وهكذا اتخذت لغة الشعر اللغة العالمية للعلم والحضارة» (
p. 215 ) 215)، وأما الشهادة الثانية فهي شهادة
Stephen Gaukroger
الأستاذ بكلية الفلسفة بجامعة سيدني في مجلة
Metascience
إذ يصدر عرضه لموسوعة عن العلم العربي صدرت في لندن عام 1996 بقوله: «كانت اللغة العربية لغة العلم من القرن التاسع حتى نهاية القرن الحادي عشر، بمعنى أنها كانت اللغة العالمية لعلماء المسلمين من سمرقند إلى غرناطة، أيا كانت لغاتهم الأصلية، وبمعنى أن الحضارة العربية كانت مستودع العلم الكلاسيكي والمبتكرات العلمية المعاصرة في ذلك الزمان.» يقول د. عبد الحافظ حلمي: «ولي تحفظ على مدى الزمن الذي أشار إليه الأستاذ، فكثير من مؤرخي العلم يبدءونه من القرن الثامن ويمدونه حتى نهاية القرن الخامس عشر الذي ظهر فيه ابن خلدون.»
24 (2-3) تحفظ د. فؤاد زكريا
في كتابه «خطاب إلى العقل العربي» يسجل د. فؤاد زكريا بعض التحفظات الوجيهة تجاه مسألة التعريب، ويكشف عن الصعوبات التي تقف في طريقها، وينوه إلى الخطأ الكبير في تشبيه حركة التعريب المعاصر بنظيرتها التي تمت في العصر العباسي، ويحذر من التأثيرات العكسية التي يمكن أن يفضي إليها التعريب في ظروف التراجع والانهزام التي نمر بها في الزمن الراهن. يقول د. فؤاد زكريا: «أول ما تنبغي ملاحظته، في صدر المقارنة بين الحركتين القديمة والحديثة، أن الأولى كانت لنتاج ثقافي ينتمي إلى حضارة كانت قد توقفت عن العطاء في الوقت الذي اهتدت فيه الثقافة العربية إليها ... أما اتصالنا المعاصر بالحضارة الغربية وسعينا إلى تعريب نواتجها، فهو اتصال بحضارة دائمة التغير، تتخذ في كل يوم موقعا جديدا، وتفاجئنا دائما بتحولات وثورات غير متوقعة في ميادين العلم والفكر والأدب. وهكذا انقلبت الأدوار اليوم، فأصبحنا نحن أصحاب التراث المحدد الذي توقف منذ وقت طويل عن التجدد والعطاء، وأصبحوا هم أصحاب الثقافة المتوثبة الطموح، التي لا تظل لحظة واحدة في موقع ثابت. ويترتب على هذا اختلاف آخر أساسي بين الحالتين: فقد حدثت حركة التعريب القديمة في إطار تفوق عربي شامل، كانت فيه الشعوب التي نقلنا ثقافتها قد تدهورت، ولم يكن واحد منها ندا للأمة العربية التي كانت صاحبة الكلمة العليا في تلك المرحلة من تاريخها، ولا جدال في أن حركة التعريب التي تتم في ظل السيادة والتفوق تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تتم في ظروف التراجع والانهزام، وهي الظروف التي تميز موقفنا الراهن إزاء الحضارة الغربية. هذه الأوضاع تشكل فوراق هامة ينبغي أن نعمل حسابها قبل أن نتسرع بتشبيه حركة التعريب في أيامنا هذه بنظيرتها في عهد الخليفة المأمون. ففي عصرنا الراهن يصنع التقدم العلمي والفكري عندهم، لا عندنا، وتظهر الكتابات والأبحاث التي تقف في الصف الأول من إنتاج العقل البشري في بلادهم لا في بلادنا، وتظهر بلغاتهم لا بلغتنا، وهذه الحقيقة البسيطة، والأليمة في نفس الوقت تضفي على حركة التعريب في عصرنا الراهن سمات ينبغي أن نواجهها بصراحة وشجاعة؛ ذلك لأنها تفرض على التعريب حدودا لا يستطيع أن يتعداها، فإذا كان التعريب على مستوى التعليم العام، وربما على مستوى التعليم الجامعي أيضا، ضرورة قومية، فإنه لا يستطيع أن يمتد إلى المستويات العليا من البحث العلمي المتخصص؛ وذلك لأنه من المستحيل عمليا تعريب ذلك الفيض الهائل من الأبحاث التي تنتجها الدول المتقدمة علميا بمعدل متزايد، ومن ثم يتعين على من يريد متابعة أعلى صور التقدم في ميدان تخصصه أن يقرأ ما يكتب بلغة أخرى غير العربية. وفضلا عن ذلك فإن الفجوة بيننا وبينهم، في ظل أوضاعنا المتردية الراهنة، تزداد اتساعا على الدوام، وفي كل عام يتدفق كم هائل من التعبيرات والمصطلحات الجديدة، وتطرق ميادين لم تكن معروفة من قبل، وتتراكم خبرات لم نكتسبها وتجارب لم نعشها. كل ذلك يضع أمام حركة التعريب صعوبات عملية ونظرية يكاد يكون من المستحيل التغلب عليها ... وهكذا أصبحنا الآن نعيش في ظل أوضاع ثقافية تحتم علينا أن ندقق ونعيد النظر في المفاهيم التي اعتدنا أن نتداولها على ألسنتنا، وأعني بها أن التعريب هو في كل الأحوال طريقنا إلى خلق ثقافة قومية متميزة؛ ذلك لأن أمورا كثيرة تتوقف على الجو العقلي والثقافي الذي يتم فيه التعريب، ففي كثير من الأحيان قد يؤدي التعريب، إذا ما حدث في إطار من التدهور الثقافي، إلى مزيد من الاعتماد على الثقافات الأجنبية، وأيا كان الأمر، فليس من الحكمة أن نسارع إلى تشبيه حركة التعريب في عصرنا الراهن بما حدث في فترة ازدهار الحضارة العربية، وإنما ينبغي علينا أن نضع حركة التعريب المعاصرة في إطارها الخاص، ونتنبه إلى الظروف المميزة التي تتسم بها هذه الحركة، والتي تضع عقبات كأداء أمام تحقق الهدف المنشود للتعريب، وأعني به خلق ثقافة قومية أصيلة.»
25
ليس من الحكمة أن نستهين بهذه المحاذير، ومن الحصافة أن نأخذها بعين الاعتبار وأن نتركها تتفاعل جدليا مع دعوى التعريب، فنخلص إلى جماع رأي أقرب إلى الرشد بسطه د. محمود محفوظ حين ألح على ضرورة إتقان اللغة الأجنبية و«التعلم» بها. يقول د. محفوظ: إن العلوم ثابتة الأصل تنتقل بلغة ناقلها ومستخدمها؛ فالطب في الصين باللغة الصينية وفي ألمانيا بالألمانية وفي فرنسا بالفرنسية، وهذا ما يعرف ب «التعليم»، إنما التقدم العلمي هو الذي يتطلب القدرة والتمكن من لغة أجنبية شائعة في ربوع المعرفة العلمية، فكما كانت العربية هي الشائعة في العصر الوسيط، واللاتينية في عصر النهضة، فإن الإنجليزية هي الشائعة في عالمنا المعاصر، وعن طريق التمكن من اللغة الأجنبية تأتي القدرة على استيعاب المعرفة والمعلومات، وسرعة نقلها من اللغة الأجنبية إلى اللغة الوطنية، وهو ما يعرف ب «التعلم». على ذلك يكون «التعليم» باللغة الأم، وأما «التعلم» والتقدم العلمي والتكنولوجي فيكون بالتمكن من اللغة الأجنبية نطقا وكتابة؛ لأن الاطلاع على المراجع الأجنبية لا يتحقق بغيرها.
26
ومن الحجج الرئيسية التي يستند إليها مناهضو التعريب ضخامة المادة العلمية الوافدة، والانفجار المعرفي، وسرعة تدفق المعلومات العلمية الجديدة وغزارتها، بحيث تجعل من المستحيل ملاحقتها واستيعابها باللغة الأم. والحق أن مقدمة (Premise)
هؤلاء، على صدقها، لا تفضي إلى النتيجة
Conclusion
التي خلصوا إليها، وربما كان العكس أقرب إلى الصواب! يقول د. نبيل علي، خبير المعلوماتية، «تزداد أهمية تعريب العلوم مع تضخم المادة العلمية، حيث تساعد اللغة الأم على زيادة معدل الاستيعاب ورسوخ المفاهيم.»
27 (بشرط تنشيط الترجمة بجميع مستوياتها وطرائقها).
ومن جانب آخر فإن اكتساب المتخصصين لمعارفهم بلغات أجنبية دون رابط من اللغة الأم، يجعل من الصعوبة بمكان إقامة حوار بينهم، وهو الوضع الذي يتناقض في جوهره مع تزايد النزعة الاندماجية لفروع العلوم المختلفة وانهيار كثير من الحواجز المنهجية التي تفصل بينها (وميلاد الكثير من الأفرع التكاملية البينية
Interdisciplinary
وتزايد أهميتها)، وهو ما أدى بدوره إلى الانتقال من تربية قائمة على التخصص الضيق إلى تربية تسعى إلى تنوع المعارف والمهارات. وقد جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 2003 أن قضية تعريب التعليم العالي لم تعد قضية قومية فقط، وإنما باتت شرطا أساسيا لتنمية أدوات التفكير وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية، فضلا عن استيعاب المعرفة المتسارعة المتجددة؛ لذا فإن عدم التسارع في تعريب العلوم يمثل عقبة أساسية في طريق إقامة جسور التواصل بين التخصصات العلمية المختلفة، ذلك أن اللغة هي «رابطة العقد» في منظومة المعرفة الإنسانية.
وكما تكون اللغة واسطة العقد أفقيا بين التخصصات المختلفة، فإنها واسطة العقد بين مختلف المستويات العاملة في التخصص الواحد: بين العامل والفني والتكنولوجي والمهندس، أو بين الفنيين الصحيين والممرضين والأطباء ... إلخ. (2-4) المصطلحات ليست مشكلة «ينغلق المصطلح على حاله ويتدرع بأقواسه؛ لكي يضمن ثباته في كل سياق، ويتفادى ما في اللغة الطبيعية من غموض وتلون وتحول وسيولة.»
الانفجار المعرفي إذن هو شيء أدعى إلى التعريب، يعزز من ذلك أن المصطلحات العلمية ليست هي المشكلة، فالمصطلحات هي:
قوالب لفظية متواضع عليها لكي تستوعب معاني محددة.
تنحو إلى التركيز والترميز لا إلى الحشو والإطناب المضادين للغة العلوم.
نوعية في دقتها وترميزها، أي من طراز رياضي.
تواضعية صرف، للعلماء كامل الحرية في وضعها.
لا يعدو المصطلح أن يكون عنوانا أو رمزا لفكرة شاملة أو صورة مملوءة بالتفاصيل التي لا يعبر عنها المعنى الحرفي إلا لماما، وقد يتجاوز المصطلح معناه الحرفي تماما، على أن خاصة التواضع فيه تحول دون الخلاف حوله ومن هنا قال القدماء: «لا مشاحة
28
في المصطلح.»
تحتاج إلى الشرح ولو كانت عربية.
عالمية مشاع بين الأمم على اختلاف لغاتها.
اصطناعية بالأساس، ولا شأن لها بالوساد اللغوي الطبيعي الذي يحتويها.
من الممكن إذن، إذا فشلت الترجمة والتوليد والنحت، أن نعرب المصطلح، أي نجعله عربيا بإخضاعه لمقتضيات العربية الصوتية والصرفية، ومن الممكن حتى إبقاؤه باللغة التي وضع بها حتى يتم (أو لا يتم) الاتفاق على مقابل له بالعربية، فلا حياة للمصطلح بدون استعماله، والمصطلح أيا كانت لغته ليس هو جوهر المشكلة وإنما المشكلة هي اللغة من حيث هي وسيلة الطالب في التلقي والاستيعاب والتعبير، بل وفي التفكير والتصور، والنص العلمي ليس مجموعة من المصطلحات بل هو وصف وشرح وعرض وتحليل تتخللها المصطلحات، ولسنا في هذا الأمر بدعا بين الأمم؛ فإن روسيا تأخذ المصطلحات الغربية وتكتبها بحروف سلافية، والصين تأخذ مصطلحات الفريقين وتكتبها بحروف صينية، ولا ننس أن أسلافنا العرب في العصر العباسي عند بدء تعريبهم العلوم اليونانية القديمة استعلموا الكثير من المصطلحات اليونانية كما هي فقالوا: قاطيغورياس، إيساغوجي، طوبيقا، أنالوطيقا، أريتيميتي، الدوسانتر، المالينخوليا، الديابيطس ... إلخ. لم يكن السلف في صعودهم يعانون عقدة النقاوة اللغوية؛ فأقبلوا بثقة على تعريب المصطلحات التي تعذرت ترجمتها بمقابل عربي دقيق من السريانية والإغريقية والفارسية. ومن المعلوم أن ابن سينا قد عرب ثلث المصطلحات التي استخدمها في الفلسفة والطب.
للأستاذ محمد علي زيد، الرئيس السابق لشعبة الترجمة العربية باليونسكو، خبرة خاصة بهذه المسألة يليق بنا أن نفيد منها. يقول سيادته: «ومن تجربتي في الترجمة على مدى أكثر من أربعين عاما، أسجل هنا أن الترجمة الدقيقة تقتضي من المترجم في أحوال كثرة أن يتبنى اللفظ الأجنبي بحروف عربية، وإلا اضطر إلى مقابلة اللفظ الواحد بعبارة طويلة عديدة الكلمات فيما يمكن تسميته ب «الترجمة التفسيرية» التي يندر أن يسمح بها السياق، في حين أن تبني اللفظ نفسه - مع شرح مدلوله في هامش مرة أو مرتين - يحل المشكلة ويثري اللغة.»
29
ومنذ زمن مبكر (1945) عرض الأستاذ سلامة موسى لمشكلة المصطلح العلمي ورأى فيها رأيا يجمع بين البساطة والعمق: «فالعلم تفكير جديد يحتاج إلى لغة جديدة، وهذا ما حدث في أوروبا، فإن الأوروبيين حين شرعوا يفكرون تفكير المنطق والتجربة، تفكير الذهن واليد، أي التفكير العلمي، وجدوا أن دقة التعبير تحتاج إلى كلمات جديدة ليست لها أية ملابسات قديمة؛ فاخترعوا هذه الكلمات ليس من لغاتهم بل من لغات قديمة لا يعرفها الجمهور، وبذلك أصبح لكل علم لغته الخاصة التي لا يمكن أن يقال: إنها إنجليزية أو فرنسية أو روسية، بل هي لغة العلم، فكلمة «بيولوجية» لا يعرفها رجل الشارع في لندن أو باريس أو نيويورك؛ لأنها كلمة مشتقة من اللاتينية، كي تعبر عن معنى لم يكن الجمهور في حاجة إليه قبل مئتي سنة مثلا. وقس على هذا كلمات كثيرة مثل: المندلية في الوراثة، اليوجينية في إصلاح النسل، السيميائية في المنطق اللغوي، والإسبكتروسكوب، والتلسكوب، والميكروسكوب ... والتلغراف، والهرمونات من الغدد والفيتامينات ... إلخ.»
30
كتب الأستاذ سلامة موسى هذا الكلام منذ ثلثي قرن، فلمس لب المشكلة وقدم حلا لو انتبه إليه الأكاديميون في ذلك الوقت، وقدروه حق قدره، لعربوا العلم دون تردد ووفروا على الجميع سنوات طوالا من التهيب والتوجس والمماحكة، فجميع هذه الكلمات العلمية، وآلاف غيرها «يعرفها الياباني والإنجليزي والهندوكي والأرجنتيني، ولا يحاول واحد منهم أن يترجمها إلى لغته؛ أولا: لأنه يحس أنه إذا اختار كلمة من لغته فإنها تحمل معها ملابسات
31
لا يعرف كيف يتخلص منها، وثانيا: لأنه عندئذ ينعزل بكلمة خاصة ليست في لغة هذا العلم التي يعرفها العلميون في الأقطار الأخرى ... وكلمات العلم أجنبية في جميع اللغات، وليس علينا حرج أن تكون كذلك أجنبية في لغتنا، بل إن رجال العلم الأوروبيين يأخذون كلمات المتوحشين حين تكون لها دلالة في الأنثروبولوجيا مثلا، كما نرى في كلمتي «طبو» و«طوطم».»
32 «والمصري الذي يتخصص في علم ما، يحتاج إلى متابعة الدراسة مدى حياته لهذا العلم، ولا غنى له عن كلمات هذا العلم التي يستعملها جميع المتخصصين فيه في القارات الخمس، وهو يفكر بهذه الكلمات، ومن التكليف المرهق أن نطالبه بترجمة هذه الكلمات إلى لغتنا؛ لأن كل ما نحتاج إليه أن نعرف هذه الكلمات وأن نصوغها في صيغة عربية إذا كنا سنؤلف بها في لغتنا الدارجة، أو لا نصوغها إذا كانت ستبقى مقصورة على المتخصصين.»
33
نستثني من ذلك بالطبع كل ما له في العربية أصل رائج راسخ غير ملتبس، ومن مناقب هذه النظرة إلى المصطلح أنها تعجل بالتعريب وتسد الطريق على الذين يشترطون توافر المصطلحات والكتب العربية قبل بدء التعريب، واضعين العربة أمام الحصان، بل مغلقين حلقة موبقة وفاتحين مجال التسويف إلى غير حد. يقول د. عبد الحافظ حلمي محمد، عضو المجمع اللغوي: «إن تعويق مسيرة التعريب تحت دعاوى استكمال المصطلحات، والتي تزيد يوما بعد يوم، لفرية سخيفة يراد لنا بها أن نوقف مسيرة التعريب، خاصة إذا علمنا أن نسبة الكلمات العلمية في المراجع العلمية محدودة؛ فهي في مراجع الطب على سبيل المثال لا تزيد عن 3,3٪، إن خير وسيلة لاستكمال مقومات تعريب التعليم هي الشروع فيه، دون تسويف أو توان.»
34
والدكتور خليل النعيمي خير من يؤخذ رأيه في قضية كهذه، والدكتور النعيمي طبيب وجراح سوري درس الطب في دمشق بالعربية ويعمل في فرنسا. يقول النعيمي: «عندما كنا نتعلم الطب في جامعة دمشق باللغة العربية لم يكن يخطر لنا أن اللغة التي تتفتح عليها مداركنا، والتي تملأ أرواحنا باشتقاقاتها البديعة يمكن أن تكون عائقا (كما يزعم بعضهم) أمام تطورنا العقلي والمهني فيما بعد (وهي لم تكن كذلك أبدا). وللحقيقة أؤكد، بعد هذه السنين من تخرجي، أن الفضل الأساسي الذي أحسبني مدينا به لأساتذتي الكرام، هو «فضل اللغة»: «لغة علمتني، وسمحت لي أن أعبر عما يدور في رأسي بلا تلعثم، لغة علمتني أن «القرحة» أسهل بالنسبة للعربي (طبيبا ومريضا) من (الألسر)
Ulcer ، وأن الشاعر العربي قال قديما:
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح
وأن «العصب المبهم» أقرب إلينا من «لونير فاغ»
Vagus Nerve ، وأن «الخثرة» كذلك أقرب إلينا وأسهل استيعابا من «الترمبوز»
Thrombus ، وأن «الأبهر» أقرب إلى فهمنا من «الأورطة »
Aorta ، فهو أبهر لأنه الشريان الأساسي في الجسد، ولأن نزفه باهر ومخيف (الأبهر ألا يعبر الاسم نفسه، عن قوة العضو وطاقته؟!) وأن الوريد «الأجوف» أسهل على الفهم أيضا من «لا فين كاف»
Vena Cava ، إنه أجوف لأنه يستقبل كامل الدم تقريبا، ليوصله إلى القلب، إنه نوع من الجوف الوعائي الهائل، وهو أيضا غامض ومخيف لأنه «أجوف»، ومعروف أن إصابته من أخطر الإصابات الوعائية على الحياة وأصعبها إصلاحا. التعريب ليس دائما تخريبا، كما ترون، إنه على العكس سلاح إضافي بالنسبة للطبيب العربي (مثلا) لأن لغة الدراسة ولغة الممارسة هي نفسها، وإذا ما قرر أن يتخصص فإنه بالتأكيد سيكون قادرا على تخطي عوائق تعلم لغة جديدة (وبخاصة عندما يكون قد تعلم أثناء دراسته الجامعية المصطلحات الأساسية باللغة الأجنبية كما هي الحال في دمشق).»
35
يقول د. يحيى الرخاوي: «المسألة هي أن اللغة العربية تعلن عن، وتمثل، حضارة راسخة سجلت بلسان عربي، وظلت نفس اللغة قائمة كما هي بأقل قدر من التشويه، أرسخ من كل لغات العالم الحالية ... فهي تاريخ بشري قائم بيننا/فينا، وربما هو قادر على أن يلحق بنا ينبهنا ولعله يسعفنا ونحن نتشوه بلغات جزئية نشأت في ظروف حضارية مشكوك في بعض أوجه عطائها. ومسألة دراسة الطب بالعربية إن كانت مجرد ترجمة من لسان إلى لسان فلا فرق ولا مبرر ولا تغيير، أما إذا كانت الدعوة هي انطلاقا من اللغة العربية بما تعنيه من «كلية الحضور»، وفنية الترابط، ودفء العلاقات، والتناغم مع الطبيعة، فلا بد أن تختلف ممارسة الطب، عامة، من واقع العربية ليصبح أقرب إلى العلوم الإنسانية التي تستعمل مفردات العلم، وليس مجرد صيانة أجزاء إنسان لها عمرها الافتراضي لا أكثر ... وأهمية الطب بوجه خاص ليكون بلغة من يمارسه هو أن تاريخ هذا الفن يقول إنه كان دائما من علامات حضارة أي أمة، فتقدم الطب هو من أول النشاطات الدالة على نهضة أمة من الأمم، وهو يأتي في ذيل قائمة التدهور عند انحلال الأمم، أي أنه أول من ينشط تقدما وآخر ما يضمحل تدهورا، أفلا ينبهنا هذا إلى أهمية أن يكون بلغة قومه بأي ثمن؟»
36 (3) التعريب ضرورة لغوية
إن لغة لا تسقى بماء العلوم هي لغة في طريقها إلى الموت.
د. خليل النعيمي
أن نعرب العلم يعني أن نعلمن
37
العربية، أي نعلمن عقولنا وأطرنا الذهنية ومورفولوجيتنا الدماغية، أما أن نتحدث العلم بالإنجليزية وعقولنا مصبوبة بلغة كهفية حرمت قرونا من النور فتعاطت الوهم وتقولبت بالخرافة، فذاك انفصام معوق يجعلنا غرباء عن العلم مهما حفظناه وتقولناه، ويجعلنا عاجزين عن الإضافة الحقيقية إليه والإبداع الأصيل فيه، وهو واقع صلب لا محل فيه لجدل ولا نملك وجها لنقاشه.
إن جميع الألسن قد لحقت بركب العلم وامتزجت بنوره، «إلا لساننا الذي فاته قطار التحديث فبقي يجتر ذاكرته التراثية كبديل عن الالتحاق بقافلة المعارف والعلوم التي أقلعت في القرن السابع عشر بدونه.»
38
يقول شبلي شميل: «تحيا اللغة بحياة الأمم، وحياة الأمم إنما تكون بعلومها وصناعاتها، وحياة العلوم والصناعات بالعلماء والصناع منها؛ فإذا خلت أمة منهم ذهب استقلالها وكان القضاء عليها أمرا محتوما. ومن يوم تحول علم الطب في مدارس مصر وسورية إلى الإنجليزية والفرنسية فقدت اللغة أقوى أركانها العلمية حتى صار من الصعب عليها جدا اللحاق بالعلوم الطبيعية في سيرها السريع.»
39
وما لنا لا نقتدي بأسلافنا في العصر العباسي، الذين سادوا زمانهم، وملكوا لغتهم فتصرفوا تصرف السادة الأحرار، لم تملكهم اللغة التي عشقوها وأجلوها، ولو أن ذلك حدث لجمدوا وجمدوها، ولكنهم أحسنوا توظيفها في الحضارة الجديدة المتفتحة أمامهم، فطوعوها وأغنوها، وجعلوها - كما رأينا - عنصرا أساسيا في قيام هذه الحضارة، بل في صياغة علم عالمي ما زالت الإنسانية تجني ثماره المتجددة.
40
لقد أدى هذا السلف العظيم مهمته على خير وجه، وها نحن نقف على محك مماثل، وقد عرضت علينا أمانة تاريخية فهل نحن حاملوها؟ أمانة خدمة اللغة وإثرائها وتجديد دمائها، وعصرنتها بحيث يمكنها أن تكون لغة بحق: تعبر عن قضايا العصر وعلومه، وتسهم في بناء الحضارة بسهم. (3-1) تعريب العلم أفتك سلاح ضد الإرهاب
لا تعشش الخرافة وتفرخ إلا في خراب لغوي.
حين تجري الحداثة والمفاهيم العلمية والفلسفية الجديدة في عروق اللغة، فإنها بالفعل ذاته تجري في العقول التي تشكلها اللغة. العلم حق، ويوم يتحدث العلم بالعربية ستتبدد من عقولنا، تلقائيا، قطع الظلام وتفر الخرافة التي لا تعشش ولا تفرخ إلا في العقول المظلمة الكسولة. تعريب العلم خروج بنا من كهفنا التاريخي، وحل لكل ما نعانيه من موات واستنامة وانكفاء، العلم حق، وتعريب العلوم بمثابة جيش من جند الله الحقيقيين كفيل مع الزمن بدحر قوى الظلام في عقولنا دون إراقة نقطة دم واحدة، لماذا لا نجرب هذا الحل؟
يسيء الظن بالعربية من يخشى على العربية من لغة العلوم، العربية لغة شديدة المرونة هائلة الجرم تتطور «من داخلها»، تهضم العلم ولا يهضمها العلم، وكل ما يتم في العربية من ترجمة أو تعريب هو رصيد يضاف إلى العربية ويثريها، ويفتق فيها عوالم جديدة، وينقل إليها أجواء ومناخات مغايرة، ولا ضير البتة من أخذ اللفظ الأجنبي كما هو وتعليمه العربية! أعني «تعريبه»: أي تطويعه للمقتضيات الصوتية والصرفية للغة العربية، بحيث «يستعرب» ويصبح عربيا ونكاد ننسى أصله الأجنبي: فنقول: «أكسجين»، «أكسيد»، «هدرجة»، «بلمرة»، «بروتون»، «بروتين»، «هرمون»، «إنزيم»، «برلمان»، «فلسفة»، «جيولوجيا»، «جغرافيا»، «بيولوجيا» ... من شأن ذلك أن يحيي العربية ويضيف إليها البعد العلمي، ويبعثها من رقادها لتكون لغة حياة ولا تعود لغة موت، هنالك يتعذر على الكهفيين اختطافها واختطاف «تراثها» المجيد وإخراسه وتسخيره لخدمة الظلام والتخلف. (3-2) النبوءة المحققة لذاتها
لا يزال الناعي الكاذب ينعب حتى يصدق نعيه!
ثمة صنف من النبوءات يتصف بصفة عجيبة: أنه يصدق إذا صدقناه! «العربية عاجزة عن نقل العلوم» - تنتمي إلى هذا الصنف، فكيف كان ذلك:
النبوءة المحققة لذاتها هي تنبؤ يؤدي بنفسه، على نحو مباشر أو غير مباشر، إلى أن يصبح حقا، فرغم أنه في البداية تحديد زائف للموقف، إلا أنه يحفز سلوكا جديدا من شأنه أن يجعل التصور الزائف الأصلي يتحقق ويصير واقعا، يعمل هذا الصواب الخادع للنبوءة على استتباب الخطأ ودوامه؛ لأن المتنبئ سوف يستشهد بالمجرى الفعلي للأحداث كبرهان على أنه كان صادقا منذ البداية، وبعبارة أخرى: فإن تنبؤا معلنا على أنه صادق (بينما هو في الحقيقة كاذب) قد يؤثر في الناس (من خلال الخوف، أو الخلط المنطقي، أو الإحجام، أو الإقدام، أو الحماس، أو الفتور، أو التشجيع، أو التثبيط ...) بحيث تفضي استجاباتهم في النهاية إلى تحقيق التنبؤ الذي كان كاذبا من قبل.
41
ونحن حين نتنبأ بأن العربية عاجزة عن نقل العلوم فإننا نتردد ونتلكأ في التعريب، ويطول هجرنا وإهمالنا للعربية؛ فتجف وتضمر، وتهزل وتذبل، وتعجز عن العطاء لأنها حرمت من الأخذ! ومن ثم يرفع نذر الشؤم عقيرتهم ويعلنون عجزها وقد جعله تنبؤنا حقا!
يقول الأستاذ ساطع الحصري (رائد القومية العربية): «لا شك أنها إن أمست اليوم عاجزة وفقيرة، بعد أن كانت بالأمس غنية وقديرة، فما ذلك إلا لأن المتكلمين بها قد انقطعوا عن مزاولة العلوم منذ قرون، ولأنهم حبسوا أذهانهم في دائرة ضيقة من الأدبيات والشرعيات، منصرفين إليها عن كل ما سواها، وكأني باللغة العربية قد ظلت داخل هذه الشرنقة المعنوية جامدة خامدة، لا تتحول ولا تتكيف، ولا تنمو ولا تتطور.»
42
ويقول أ. حسام الخطيب: «إن اللغة العربية غير مخدومة لغويا وعلميا وتربويا وإعلاميا، وإنها تحتاج إلى جهود علمية - عملية حتى تنتقل من عبء نفسي عند مستخدميها إلى بهجة ويسر ودافع إيجابي.»
43
ويقول الأستاذ إبراهيم اليازجي: «اللغة بأهلها، تشب بشبابهم وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألسنتهم إلا صور ما في أذهانهم؛ ولذلك فإن كان ثمة هرم فإنما هو في الأمة لا في اللغة، لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاحق بها ولا ملحق بها وهنا وعجزا، وإنما هو عجز في ألسنة الأمة ومداركها وتأخر في أحوالها واستعدادها.»
44 (4) التعريب ضرورة نفسية/اجتماعية
ولخزيهم الأبدي وبؤسهم أولئك الأوغاد من الإيطاليين الذين يمدحون لغة الأغيار ويحتقرون لغتهم، أود أن أقول إن لديهم في ذلك خمسة بواعث مقيتة هي: عمى فكري، وأعذار خبيثة، وتوق إلى الاختيار، وحجة قائمة على الحسد، وأخيرا وهن الروح أي الجبن. ولكل من هذه الشرور أتباع كثر، وقلما يبرأ منها أحد.
دانتي: المأدبة
بدايات القرن الرابع عشر
يتنفج بلغة الغير
أصبح مستهلكا حتى للغة - بيت الوجود؛ مطبخ الخبرة
ومستعيرا حتى لدرجات صوته، وزفرات صدره، وخلجات ضميره
أصبح ذيلا بامتياز. (4-1) التبعية اللغوية مظهر جديد للاستعمار العقلي
الإنسان الذي يتحدث لغة غيره دون ضرورة هو إنسان مستعمر، إنسان محتل، وليته محتل في أرضه أو داره، إنه محتل في عمق أعماق وعيه، وقدس أقداس روحه، وإذا وجدت أمة تتباهى بالحديث بلغة غيرها فاعلم أنها شاخت، وهانت على نفسها، وصارت على غيرها أهون.
من السواء النفسي والاجتماعي أن يتحدث كل قوم بلغتهم، وأن يتحدث كل فرد بلغته، مثلما يزفر بصدره ويصرخ بفمه ويمشي بقدميه، وإن قوما يجتمعون لكي يتحدثوا بلغة غريبة لا يجيدونها هم قوم بلغ بهم الشذوذ والضعة والهوان مبلغا عظيما. ليست لهم هذه اللغة التي يرتضخونها
45
وإنما لآخرين هم الذين يبدعونها ويطورونها ويعدلونها ويغيرونها، وهي تتفتق من شئونهم وشجونهم، وتتخلق من أغوار تاريخهم وتضاريس إقليمهم ونزوات طقسهم، وتتحلب من ميازيب أزقتهم ومسام جلودهم وأطراف أناملهم، التنفج بلغة الغير إثم جماعي لا يمر بغير عقاب، وعقابه مزيد من التبعية والدونية والنقص، وشلل الإرادة وعقم الخواطر.
للتعريب فوائد ليس أقلها استرداد الهوية واستعادة الثقة وانطلاق الإبداع، «خذ أطفالنا في المدارس الأجنبية مثلا، خذ ما يدرسون ثم ما يصلهم من خلال المتاح في وسائل الإعلام، تجدهم يبرمجون بأبجدية بعيدة عن خبراتهم الذاتية، فيضطرون إلى أن يتشكلوا تبعا لها، وليس تبعا لما يعيشونه من واقع تركيبهم اللغوي المتجذر، فيترتب على ذلك نوع مقابل من الاختزال والتشويه، إذ يتشكل الوعي مائعا مهتزا ومغتربا عن أصله بما لا يسمح بإضافة أو إبداع.»
46 (4-2) جذور عقدة النقص «بدأت محنة هذه اللغة العظيمة مع العصر العباسي الثاني حين كتب النصر للمعسكر الداعي إلى التشبث بالقديم وعدم الحيدة عنه، على المعسكر الداعي إلى التجديد والتطوير والمرونة، بفضل قوة اتصال الأول بالخلفاء وكثرة الأتباع والأشياع ولجوئه إلى المكر ؛ إذ صبغ دعوته صبغة دينية. وقد أثرت هذه الدعوة تأثيرا ضارا لا في اللغة العربية فحسب، بل وفي الأدب العربي كله، وفي تكييف العقلية العربية. والغريب الشائق أن الغالبية العظمى من أصحاب الاتجاه المحافظ الرافض للتطوير والمرونة كانت من الأعاجم المستعربين، فالأعجمي إذا استعرب كان قصارى همه وغايته أن يصل فنه إلى العربي الأصيل، ولا تحدثه نفسه أن يبتكر في القديم، أو يجدد في الشيء الأصلي،
47
فكان أن قضي على المرونة باعتبارها مستنكرة، وأغلق باب الاجتهاد في اللغة باعتباره بدعة.»
48
يشير ابن منظور في مقدمة معجمه «لسان العرب» إلى شيوع الخطأ على الألسنة في عصره (القرن السابع الهجري)، وتراجع مكانة العربية، واتجاه الناس إلى النطق باللغات الأجنبية، وما أشبه الليلة بالبارحة! فيقول: «فإنني لم أقصد بتأليفه سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها؛ وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية. فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»
في مؤتمر المجمع اللغوي المنعقد في أبريل 1994 يستعرض الدكتور أحمد شفيق الخطيب، عضو المجمع المراسل من فلسطين، جذور عقدة النقص، ويؤكد أن اللغة العربية لا تفتقر إلى خصائص اللغة العلمية ولا مقوماتها، وأن الذين يتهمون العربية بالعجز عن مجاراة التطورات الحضارية العلمية إنما يعترفون بعجزهم هم، وبعجزنا نحن أو غالبيتنا في دنيا العرب. «أيام صدقت النية وشمخت المعنويات، عامرة بالثقة والإيمان، لم يجبن السلف أمام تيارات الحضارة اليونانية والفارسية والهندية، فأخذوا وأعطوا وعربوا وترجموا وألفوا وأبدعوا، وانطاعت لهم العربية فكان لهم جامعاتهم في بغداد وفاس وقرطبة والقاهرة ودمشق وتونس. ثم دارت على العرب والعربية الدوائر؛ فركد العلم وخمد البحث العلمي في دنيانا طوال عصر الانحطاط المديد فركدت اللغة العربية وخمدت. العجز الذي يعزونه إلى اللغة العربية إذن ليس في العربية بل في أهلها اليوم، في بيئة الجمود الاتكالية الغيبية والكسل العقلي والانهزامية والقصور؛ التي سادت نتيجة لسياسات القهر والتجهيل طوال عهود الظلمة والانحطاط، قبيل السيطرة العثمانية وخلالها، ثم استمرت بعدها، بدرجات وأشكال متباينة متفاوتة في مختلف أرجاء الوطن العربي، بفضل المخططات الغربية الخبيثة السلسة الاندساس حينا والشرسة أحيانا، ولم تنج حركة تعريب العلوم وتعريب التعليم إجمالا، منذ فواتحها، من بعض هذه المخططات.»
49
ويمضي د. الخطيب في تتبع المسار التاريخي للنهضة العربية الحديثة وموقفها من التعريب، فيقول: «مع بدايات عصر النهضة العربية الحديثة أوائل القرن الماضي انطلقت العربية تأخذ طريقها مجددا إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، وكان طبيعيا أن تتخذ مدارس محمد علي القاهرية منذ تأسيسها عام 1825، في الطب والهندسة والزراعة والعسكريات، اللغة العربية وسيلة لها في تعليم المناهج على كل المستويات - مدعمة بمدرسة الألسن وجهود المبعوثين في مختلف فروع العلم. وكذلك كانت الحال في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقا) أواسط القرن الماضي أيضا، حيث مؤلفات المستشرقين الأمريكان تغطي برامج الدراسة في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك وسواها بلغة عربية سليمة ومستوى علمي جيد، ولم يكن يخطر ببال رواد النهضة الحديثة، عربا أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربية - تطبيقا لمنطق علمي براجماتي بسيط ما زال هو المنطق العلمي الصحيح اليوم كما سيكون غدا.»
فماذا كانت استجابة العربية لمناخ العلم؟ انتعشت ونمت وأصدرت المعاجم التراثية وجدد بعضها، وأصدرت معاجم علمية مترجمة، وقد كان يرجى للغة العربية في هذا العهد أن تبلغ درجات الرقي لو أتيح لها أن تكون وتستمر لسان حال النهضة العلمية العصرية، ولكن سياسات الغرب الاستعمارية حالت دون ذلك، فما إن ثبت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة - أولا بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام 1887، ثم إغلاق مدرسة الألسن ونفي رفاعة الطهطاوي ومؤيديه إلى السودان، وتوجيه البعثات إلى إنجلترا (بدل فرنسا وإيطاليا)، «وما هو إلا عام أو بعضه حتى حذا الأمريكيون في الكلية السورية الإنجيلية حذو البريطانيين، فتحول التدريس فيها، للأسف، من العربية إلى الإنجليزية بدءا من 1890 (بعد حوالي ربع قرن من تدريس الطب والصيدلة والعلوم الطبيعية الأخرى فيها بالعربية بمستوى راق مرموق)، وهكذا حرمت اللغة العربية من فرصتها الذهبية وغرست بذور الشك والريبة في نفوس أبناء العربية بلغتهم - بأهم مقومات أصالتهم وحضارتهم.»
ويوجز الأستاذ حسين أحمد أمين القصة بقوله: «... أغلق باب الاجتهاد في العصر العباسي الثاني، ثم توالت المحن بتدهور حال الأمة، وحال الثقافة عند أبنائها، ثم بالغزو العسكري فالغزو الفكري الأجنبيين، مما تسبب في انحسار ثقة العرب - خاصة من الشباب - بأنفسهم، وبتراثهم ولغتهم ونظمهم، فضعفت حصيلة الشباب من اللغة العربية، وكذا قدرتهم على التعبير بها عما يدور بنفوسهم من مشاعر، وبأذهانهم من أفكار. وقد حرمهم فساد منهج تعليم اللغة العربية في مدارسنا من القدرة على النظر في كتب التراث العربي القديم لعجزهم عن فهم لغتها، فإن نظروا فيها كان ذلك من قبيل الرغبة في التندر على سخافة نظرة الأسلاف، خاصة من جانب المتفرنجين المبالغين في النظرة إلى الغربيين وكأنهم أنصاف آلهة، والمبالغين في التحقير من شأن تراث أمتهم الذي حسبوه المسئول عن التخلف الذي صرنا إليه. وبانقطاع صلتهم بتراثهم وماضيهم، تلاشت القدرة على الاستعانة بالجانب الحي الإيجابي من التراث في مواجهة تحديات المستقبل.»
50
ونعود للدكتور أحمد شفيق الخطيب في بحثه العميق الشائق أمام مؤتمر المجمع، الذي يمزج بين رصانة المادة وحرارة العاطفة، يقول سيادته: «إن العقبات التي كان يقال باعتراضها سبيل التعليم باللغة العربية ممكن التغلب عليها، فقد تيسر ذلك للأتراك مع أن لغتهم أحدث عهدا بالعلوم من اللغة العربية ودونها في غزارة المادة، أليس مؤسفا ومذلا أن الأكثر من عشرين بلدا من بلاد العرب، مفردة ومجتمعة، تتعاجز عن تجاوز صعوبات موهومة في معظمها، في حين نجح في تجاوزها قرابة المائتي بلد في عالمنا اليوم، عدد سكان الكثير منها لا يتجاوز بضعة ملايين؟ قالوا هكذا عن تعليم العلوم بالعربية في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم طبق تعريب هذه المواد في مختلف هذه المراحل ولم ينخفض مستوى تعليم العلوم بسبب ذلك
51 ... كذلك ثبت بطلان هذه المقولة في إنجازات الأطباء السوريين الذين يتابعون دراساتهم في الخارج
52 ... مشكلة الكتب والدوريات والمراجع والمصطلحات العلمية أيضا مشكلة واحدة مترابطة، وهي في الواقع مشكلة كل لغة وليست خاصة باللغة العربية، وإلا ماذا كان يقول الكوري والألباني والبلغاري واليوغوسلافي والإيراني والتركي والخمسون ثقافة التي كانت تؤلف الاتحاد السوفيتي؟ وكلهم طبقوا توطين العلوم واستنباتها بلغاتهم القومية بإمكانات لغوية ومادية وبشرية تتقزم أمام الإمكانات اللغوية والمادية والبشرية العربية. الذين يطلبون توافر الكتب والمراجع والمصطلحات قبل التعريب يضعون العربة أمام الحصان، ويقيني أنهم أدرى الناس بذلك، والتعريب حتى يتجاوز كل ذلك لأنه قضية كرامة؛ كرامة لغة وكرامة أمة. والذين اغتصبوا أرضنا، يا سادتي، ألم يعبرنوا العلوم على اختلافها، والأبحاث بمختلف تقاناتها، بلغة موات؟ باللغة التي أقاموها من العدم، بعد دثور دام عشرين قرنا، فجعلوا منها لا لغة التدريس في شتى العلوم والتقانات فقط، ولا أداة حضارية تقام بها الندوات العلمية في علم الذرة وتقانة الإلكترونيات فحسب، بل جعلوا منها أيضا وسيلة ترابط جامعة أسهمت في خلق الكيان الصهيوني وتوحيد شراذم المهاجرين إليه، المتعددي المشارب واللغات.»
53
في كتابه «في التعريب والتغريب» يتساءل د. محمود فوزي المناوي حول التنفج المتفشي بالكلمات الأجنبية، فيقول: «ويمكن لأي مواطن عندنا الآن أن يلحظ طوفان الكلمات الدخيلة التي يستملحها البعض ويرددونها على ألسنتهم، بينما يوجد لها مقابل أجمل وأوضح في التعبير تتمتع به لغتنا، ولا يعرف أحد على وجه اليقين لماذا يفضلون الدخيل على الأصيل: أهي هجمة «التفرنج» عادت من جديد؟ أم هي اتجاه إلى نبذ أصالتنا وهجر انتمائنا؟»
54
ولعل القارئ الآن قد عرف على وجه اليقين لماذا كان ذلك: لعقدة الدونية المزروعة في أعماقنا منذ قرون وقد اشتد عودها واستوت على سوقها، وجعلتنا بعد رحيل الاستعمار المادي نهفو إلى الاستعمال العقلي وننشده طوعا واختيارا، وننشئ مزيدا من المدارس الأجنبية ومدارس اللغات والأقسام الجامعية الأجنبية، ونحشر فيها الأنبغ والأقدر من أبنائنا ليجري مسخه حثيثا، ونفتح سوق العمل ونمنح أعلى الأجور لمن يجيد الرطانة ويحسن التنفج. «هذا التباعد بين الإنسان العربي الحالي ولغته الأصيلة جعلها عبئا عليه، فراح يتعامل معها كجسم غريب ناشز، أو في أحسن الأحوال كأثر تاريخي يوهم بفخر زائف: أحدهما راح يندب حظها ويرثي مآلها، ثم يتمادى في تثبيت مواقعها في سجون معاجمها وكهوف نحوها، أما الآخر فقد انصرف هربا منها وهو يتخلى عنها سرا وعلانية، إهمالا أو تشويها، حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها: إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلا. لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانا عما آل إليه حالنا كله في أكثر من مجال، هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادي، ورطان اجتماعي، ورطان سياسي بشكل أو بآخر.»
55 «فما كان العلامة الأولى على حضور العرب، كيانيا وإبداعيا، يفسد ويتراجع. فالعربي اليوم، بعبارة أخرى، لا «يعرف» الأساس الأول الذي عرف به الوجود، وأسس حضوره في التاريخ. لقد فقد حس اللغة، بالمغنى الذي يتحدث عنه ابن خلدون، وفي ذلك يبدو كأنه يجهل ما أعطاه هويته، أو يجهل ما هو.»
56
صفوة القول أن ما نفعله بأنفسنا هو انتحار جماعي بشع، يتضاءل بجانبه كل ما عانيناه من كروب وحروب، وأن تعريب التعليم، العام والجامعي، قد أصبح ضرورة بقاء، تستدعي منا استنفار كل جهودنا وتجنيد كل طاقاتنا.
الفصل التاسع
مزايا العربية
لا يطالب العربي بحماية لسانه فحسب، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال.
عباس محمود العقاد «اللغة الشاعرة»
تتمتع اللغة العربية بمرونة هائلة، واتتها بفضل الاشتقاق الذي لم يبلغ في لغة من اللغات مبلغه في العربية من سعة وانضباط واطراد، «وتمتلك العربية، فضلا عن ضمائم محدودة تجتمع أحرفها في لفظة «سألتمونيها»، أسلوبا آخر للتوالد تفتقر إلى مثله المجموعة الأوروبية، ويقوم على زيادة الأحرف والحركات أو الانتقاص منها في داخل الكلمة الواحدة، فالعربية لغة عمودية، تدور ألفاظها من حول الجذر أو «الجد» وفي داخل أحشائه، فيما تكتفي اللغات الأوروبية بالتفرع الخارجي من خلال الضمائم وحسب، فتظل أفقية المنحى.»
1 «هذه المرونة التامة في اللغة العربية، وهذه القدرة على الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت، هما اللتان مكنتا اللغة العربية من أن تكون لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما فيهما من معان رفيعة سامية، وتعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية، ولم يكن للعرب بها عهد في جاهليتهم، كما استطاعت بعد ذلك أن تكون أداة لكل ما نقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم، ففي نحو ثمانين عاما من بدء العصر العباسي، كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية، على الرغم من أن العرب لم يكونوا يعرفون شيئا من مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئا من منطق أرسطو وفلسفة أفلاطون، فإذا هم وقد أصبحوا يعبرون بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وطب جالينوس، وحكم بزرجمهر، وسياسة كسرى، وما كانت تستطيع ذلك كله لولا ما بلسانهم من حياة ومرونة ورقي، وبذا خرجت العربية من هذا المأزق سليمة قوية واسعة، هي لغة الدين، ولغة العلم والفلسفة، ولغة الأدب، واضمحلت بجانبها كل لغات البلاد المفتوحة، فاللغة السريانية التي ترجمت إليها الكتب اليونانية، أخذت تتدهور بعد أن نقل ما فيها إلى اللغة العربية. والفرس في ذلك العصر أصبحت لغتهم العلمية والأدبية هي اللغة العربية، إن ألفوا وشعروا أو كتبوا فبالعربية، أما اللغة الفارسية فإنما كانت تستخدم في الحديث بين عامة الناس، أو في طقوس الديانة المجوسية. وكذلك اللغات الأخرى، من يونانية في الشام، أو قبطية في مصر. وكسبت اللغة العربية من ذلك أنها أصبحت في تأليفها وأدبها وعلومها نتاج كل هذه الأمم، تعبر عن كل أفكارهم، ويكسبون هم منها ما أفرزته من ثقافة دينية وأدبية.»
2 «كانت العربية لغة العولمة في خلال العصور الوسطى، وفرس الرهان لأعظم حضارات تلك الفترة المديدة، مما لين مفصلاتها وأثرى عدتها الدلالية واللفظية، وأتاح إغناءها بالتعريب والاشتقاق والنحت وتوليد المعاني والأساليب ، فإذا أريد بالصعوبة (أي صعوبة العربية) الغنى، جراء امتداد المدى الثقافي لأكثر من خمسة عشر قرنا، وفوق رقعة فسيحة من العالم القديم، فتهمة الصعوبة هذه تشكل مدحا في باب الذم!»
3 (1) مزايا صوتية
تستخدم العربية جهاز النطق في الإنسان على أكمل نحو وأقومه، ولا تهمل منه أي شيء بوسعه أن يؤديه. «إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية، لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية؛ لأنها انتفعت بجميع المخارج الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها، وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة والتثقيل تارة أخرى، كما فعل المتكلمون بسائر اللغات المعروفة.»
4 «العربية هي أوفر اللغات عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد، كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي يميزونها بثلاث نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة، أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث، أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها. وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانا ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة.»
5
ليس هناك لبس بين مخارج الحروف في اللغة العربية، ولا إهمال لمخرج منها، ولا تكرار نطق من مخرج واحد. والفصاحة هي امتناع اللبس، وهذه هي الخاصة النطقية التي تحققت في العربية لمخارج الحروف كما تحققت للحروف، فليس في العربية حرف يلتبس بين مخرجين، وليس في النطق العربي مخرج ينطبق فيه حرفان، ليس في العربية حرف يستخدم مخرجين كحرف «بسي» في اليونانية وهو مختلط من الباء الثقيلة والسين، ولا كحرف «تشي» في تلك اللغة وهو خليط من التاء والشين. لا تزدحم أصوات الحروف في العربية على مخرج واحد، كما قلنا، مع ترك مخارج الحلق مهملة، وهي تتسع من أقصى الحلق إلى أدناه لسبعة حروف هي الهمزة والهاء والألف والعين والحاء والغين والخاء، وهي مميزة في النطق والسمع بغير التباس ولا ازدواج في الأداء.»
6 «واللسان العربي المبين يتجنب اللبس في الحركات الأصلية كما يتجنب اللبس في الحروف الساكنة، فلا لبس بين الفتح والضم والكسر والسكون، وإذا وقعت الإمالة بين حركتين لم تكن وجوبا قاطعا تثبته الحروف، بل كان قصاراه أنه نمط من أنماط النطق يشبه العادات الخاصة عند بعض الأفراد أو بعض الجماعات في أداء الحركة وإشباعها أو قصرها، كيفما كان رسم الحرف في الكلام المكتوب، وكيفما كان جوهره المميز في الكلام المسموع.»
7 (2) معاني الأبنية
من أهم مميزات العربية أن «الأصل الواحد فيها يتوارد عليه مئات من المعاني، بدون أن يقتضي ذلك أكثر من تغيرات في حركات أصواته الأصلية نفسها مع زيادة بعض أصوات عليها أو بدون زيادة، وأن كل ذلك يجري وفق قواعد مضبوطة دقيقة نادرة الشذوذ، ولم تصل أية لغة سامية أخرى في ذلك إلى ما وصلت إليه العربية من ثراء ودقة: تقول علم علمنا ... أعلم يعلم نعلم ... اعلم اعلمي ... علم نعلم ... تعلم ... تعالم ... علم يعلم ... علم علم علامة علوم أعلام علامات عالم عليم علامة علماء عالمون متعلم معلم معلم معلوم، عالم عالمون ... إلخ»،
8
ترى كم كلمة في الإنجليزية عليك أن تستظهرها بحقها الشخصي لكي تؤدي كل هذه الألوان المتفاوتة من المعاني؟ أليس هذا أمرا يحسب في جانب السهولة
9
في العربية لا في جانب العسر؟
ويطرد ورود بعض الأوزان في العربية للدلالة على معان خاصة، من ذلك أوزان أفعال الماضي والمضارع والأمر وأوزان اسم الفاعل وصيغ المبالغة والصفة المشبهة واسم المفعول وأفعل التفضيل والتعجب واسم الآلة والمصدر واسم الزمان والمكان وجموع التكسير.
الوزن في العربية هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام، ولم تبلغ لغة مبلغ العربية في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفق أحسن التوفيق المستطاع بين المبنى والمعنى. بعض هذه الأوزان لا يقتصر على الإشارة إلى مجمل مدلول الكلمة، بل يشير كذلك إلى بعض تفاصيل تتعلق بهذا المدلول، الأمر الذي يمنح العربية دقة خاصة في الدلالة والإمساك بالظلال الدقيقة للمعاني، ويتسنى به للكاتب بالعربية أن يطمح للتعبير العلمي الأدق والتعبير الفني الأكثر إيحاء وأسرا، كل ذلك ببساطة وسهولة واطراد، واقتصاد ذهني ورفق بالذهن والحافظة.
فصيغة «فعالة» تدل على حرفة أو ولاية، مثل: حياكة، نجارة، تجارة، عرافة، خلافة، إمارة، سياسة، صناعة. وصيغة «فعال» تدل على الأدواء، مثل: سعال، زكام، سبات، فواق، صداع، دوار؛ وعلى الأصوات، مثل: صراخ، نباح، ثغاء، خوار، رغاء. وصيغة «فعيل» تدل على الأصوات أيضا، مثل: صهيل، هدير، هديل، هرير، زئير، خرير، صليل، نعيق، صرير، نهيق، ضجيج، نعيب. وصفة «فعيل» تدل على الأوصاف الثابتة الملازمة للنفوس كشريف ونبيل وكبير وحقير ووضيع وصغير. ووزن «فعلان» يدل على صفات من أحوال، مثل: عطشان، شبعان، ريان، سكران، غضبان، حران، ظمآن. ووزن «فعول» يدل على الأدوية، مثل: اللعوق، والسعوط، والنشوق، والقطور والذرور. ووزن «تفعال» يكون للتكثير والمبالغة: كالتجوال، والتطواف، والتسيار، والترداد، والتهدار، والتلعاب، والتعداد، والتهداد. ووزن «فعيلة» للأطعمة: كالعصيدة، والسخينة، والبسيسة، والنقيعة. ووزن فعللة يدل على حكاية الأصوات، مثل: صرصرة، قرقرة، خشخشة، قعقعة، جلجلة، غرغرة. ووزن «أفعل» يدل على صفات بالألوان، مثل: أبيض، أحمر، أسود، أصفر، أخضر، وكذلك على العيوب، مثل: أحول، أعور، أقرع، أعرج، أخنف. وأكثر العادات في الاستكثار على «مفعال»، مثل: مضياف، مهذار، معطار. ووزن «فعلة» من الثلاثي يدل على المرة كضرب ضربة. أما «فعلة» فيدل على الهيئة كجلس جلسة (جلسة الأسد مثلا)، و«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»، و«مات ميتة تقوم مقام النصر». وصيغة «فعال» في غير المبالغة من اسم الفاعل تدل على الاحتراف أو ملازمة الشيء كالبقال والنجار والحداد.
وصيغ الأفعال وأوزانها في العربية عامل من عوامل ثروة اللغة وقدرتها على الدلالة على فروق وظلال تنضاف إلى المعنى الأصلي، دون زيادة في اللفظ ومع الاحتفاظ بطابع التركيز الذي تميزت به لغة القرآن: فصيغة «فعل» ترد بمعنى المبالغة، كقوله تعالى:
يذبحون أبناءكم ،
وغلقت الأبواب ، وبمعنى النسبة ، مثل: «جهله» إذا نسبه إلى الجهل، و«ظلمه» إذا نسبه إلى الظلم، وبالمثل خطأ، أله، سفهه ... إلخ، وصيغة «فاعل » تدل على المبادلة، مثل: ضاربه، وبارزه، وخاصمه، وحاربه، وقاتله. وصيغة «تفعل» ترد بمعنى التكلف، مثل: تشجع، وتجلد، وتحلم، أي تكلف الشجاعة والجلد والحلم، وترد بمعنى أخذ الشيء أو تلقيه، مثل: تأدب، وتفقه، وتعلم، أي تلقى الأدب والفقه والعلم.
10
وصيغة «استفعل» تكون بمعنى التكلف، نحو استعظم، أي تعظم، واستكبر، أي تكبر، ويكون استفعل أيضا بمعنى الاستدعاء والطلب، نحو استطعم، استسقى، استوهب، ويكون استفعل أيضا بمعنى فعل، نحو استقر أي قر، ويكون بمعنى صار، نحو استنوق الجمل، واستنسر البغاث. وصيغة «انفعل» فعل مطاوعة، نحو كسرته فانكسر، وجبرته فانجبر، وقلبته فانقلب، وسحبته فانسحب، شققته فانشق. ووزن «أفعل» تفيد التعدية، كأقام الدنيا وأقعدها، وملكية الشيء، كألبن وأتمر، والدخول في المكان والزمان، كأشأم وأعرق وأصبح وأمسى، والاستحقاق، كأحصد الزرع (استحق الحصاد)، وتعريض الشيء لأمر ما، كأرهنت المتاع وأبعته (عرضته للرهن والبيع)، والتمكين، كأحفرته الأرض أي مكنته من حفرها. وصيغة «افتعل» تفيد الاتخاذ، كاختتم واختدم أي اتخذ خاتما وخادما، والاجتهاد والطلب كاكتسب واكتتب، والتشارك كاخصتم فلان وفلان واختلفا، والإظهار كاعتظم أي أظهر العظمة، والمبالغة في معنى الفعل كاقتدر أي بالغ في القدرة، ومطاوعة الثلاثي، كعدلته فاعتدل وجمعته فاجتمع. وصيغة «تفاعل» تفيد التشريك بين اثنين فأكثر كتجاذبا وتخاصما، والتظاهر بالفعل كتجاهل وتمارض وتعالم وتصابى وتغابى، وحصول الشيء بالتدريج كتزايد الدخل وتواردت الأخبار، ومطاوعة فاعل، كباعدته فتباعد. ووزن «افعوعل» تفيد المبالغة والتوكيد، مثل اخشوشن الرجل في معيشته إذا بالغ في خشونة مأكله وملبسه ونحوهما، واعشوشبت الأرض إذا كثر عشبها وعمها فلم يترك بها مكانا خاليا، واحلولى الزمان إذا ذهبت منغصاته وبدت مسراته. وصيغة «فعال» المبني على الكسر للدلالة على الأمر (اسم فعل أمر) كحذار وتراك
11 ... (3) الاشتقاق
العربية أكثر اللغات قبولا للاشتقاق، وهو مما يجعلها أكثر اللغات مرونة وتمثلا للمعاني الجديدة. يعرف السيوطي الاشتقاق بأنه «أخذ صيغة من أخرى، مع اتفاقهما معنى ومادة وهيئة تركيب؛ ليدل بالثانية على معنى الأصل بزيادة مفيدة لأجلها اختلفا حروفا أو هيئة.» والاشتقاق في العربية يقوم بدور كبير في تنويع المعنى الأصلي وتلوينه، إذ يكسبه خواص مختلفة، بين طبع، وتطبع، ومبالغة، وتعدية، ومطاوعة، ومشاركة، ومبادلة، مما لا يتيسر التعبير عنه في اللغات الآرية مثلا إلا بألفاظ خاصة ذات معان مستقلة.
12
هذا المنهج الاشتقاقي أتاح للعربية ذخيرة من المعاني لا يسهل أداؤها في اللغات الأخرى، ومن شأنه أن يتيح لها أن تؤدي معاني الحضارة الحديثة على اختلافها. «إن هذه الطريقة في توليد الألفاظ بعضها مع بعض تجعل من اللغة جسما حيا، تتوالد أجزاؤه ويتصل بعضها ببعض بأواصر قوية واضحة، وتغني عن عدد ضخم من المفردات المفككة المنعزلة التي كان لا بد منها لو عدم الاشتقاق. وإن هذا الارتباط بين ألفاظ العربية الذي يقوم على ثبات عناصر مادية ظاهرة، وهي الحروف أو الأصوات الثلاثة، وثبات قدر من المعنى، سواء كان ماديا ظاهرا أو مختفيا مستترا، خصيصة عظيمة من خصائص هذه اللغة، تشعر متعلمها بما بين معانيها من صلات حية، تسمح لنا بالقول بأن ارتباطها حيوي وأن طريقتها حيوية توليدية، وليست آلية جامدة.»
13
خذ مثالا كلمة «العيد»: فكلمة العيد مصدر من مصادر كثيرة، يدل على صفة العودة أو على هيئتها، ومن فعل «عاد» تؤخذ «العودة» للمرة من «العود»، وتؤخذ «العادة» للفعل أو الخلق الذي يكثر الرجوع إليه، ويؤخذ «المعاد» لمكان البعث أو زمانه، وتؤخذ «العيادة» للزيارة المتكررة، وتؤخذ «العائدة» لما «يعود» على الإنسان من نتائج عمله على معنى قريب من معنى التبعة أو الجزاء، وتستعار «العوائد» لما يعطى أو يؤخذ مع التكرار والتوقيت؛ لأن الإعطاء والأخذ معنى واحد من جانبين، فما يأخذه هذا هو عطاء من ذاك. ويأتي المضاعف والمزيد فيوسع دلالة المادة اللفظية أو يسري منها إلى معان تناسبها وقد تخالفها في بعض عوارضها. وهنا مجال واسع لمعاني الإعادة والاستعادة والتعويد والتعييد، ومجال واسع للتفرقة بين المعيد والمستعيد وبين العود والمعاودة، والمعاد والمستعاد، ولا لبس في موضع لفظ من هذه الألفاظ لأنه وزن دليل على موضعه من التعبير.»
14
لا يقارن الاشتقاق في العربية بالاشتقاق في غيرها من اللغات السامية من حيث السعة وتقسيم القاعدة وتحكيم المتكلم في التعبير عن أغراضه على حسب كل احتمال معقول، «فالاشتقاق العربي يعطي المتكلم من الأوزان بمقدار ما يحتاج إليه من المعاني المحتملة على جميع الوجوه، والمتكلم هو صاحب الشأن في اختيار الكلمة وليست الكلمة هي العبارة المفروضة عليه لأنها وضعت من أصلها ارتجالا أو محاكاة لصوت أو تلفيقا للأجزاء من مختلف المواد، ولا يحتاج العقل المعبر صيغة للاشتقاق بعد استيفاء صيغ المصدر للمرة أو للهيئة أو للدلالة على الجمع أو الجنس المجموع، ولا احتمال لصيغة مطلوبة بعد صيغ المبالغة والتضعيف واسم الفاعل واسم المفعول والصفة الملازمة والصفة المرتهنة بالحدث والزمان. فالمتكلم المعبر هنا هو صاحب الشأن في تصريف المشتقات على حسب أغراضه واحتمالات تفكيره، واللغة قد وصلت على ألسنة المتكلمين بها إلى خلق القواعد التي يتبعها تكوين المفردات، قبل أن تعرض لهم الحاجة إلى استخدام جميع تلك المفردات أو إنشاء الكلمات المرتجلة مع كل مشاهدة تأتي للمتكلم بشيء جديد يحتاج إلى لفظ جديد.»
15 (4) الثراء الدلالي في تراكيب العربية
الجملة في العربية فعلية واسمية، وبخلاف الشائع من أن الجملة العربية فعلية أساسا فإن الجملة الاسمية موجودة وكثيرة الاستعمال (الله يتوفى الأنفس/الشيطان يعدكم/ والعمل الصالح يرفعه/الحزن يقلق والتجمل يردع/العبد يقرع بالعصا ...)، «فليس تقديم الفعل على الفاعل فيها عجزا عن التركيب الذي يتقدم فيه الفاعل على الفعل، ولكنه تقسيم الكلام على حسب مواضعه، وتصحيح لموقع الفعل وموقع الفاعل من إرادة المتكلم وفهم السامع، ومتى ثبت لنا الفرق بين موقع الفعل والفاعل في الجملتين الاسمية والفعلية فالاكتفاء بالجملة الاسمية كما تقع في كلام الأوروبيين نقص منتقد وليس بالمزية التي تدل على الكمال والارتقاء، وليس في وسع من يفهم مواقع الكلم أن يجهل الفارق بين قولنا «محمد حضر» وقولنا «حضر محمد»: فإننا نقول: «محمد حضر» إذا كنا ننتظر خبرا عن محمد أو عن حضوره على الخصوص، ولكننا نقول: «حضر محمد» لمن يسمع خبرا من الأخبار على إطلاقه ولا يلزم أن يكون الخبر عن محمد ولا عن الحضور بل لعل السامع كان ينتظر كلاما عن حسن وعن علي كما ينتظره عن محمد، أو لعله خبر سفر وليس بخبر حضور منتظر أو غير منتظر.»
16
وصيغة المجهول في العربية أوسع منها في اللغات الأخرى، وتنفرد العربية باستعداد لإثبات الفاعل على حسب درجاته من الأثر أو درجات العلم به عند السامع: فبالإضافة إلى صيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول تزيد العربية بصيغة لا وجود لها في اللغات الأخرى، هي صيغة الفعل المطاوع، «فيقول القائل (انفتح الباب)، ويعبر بذلك عن معنى لا تدل عليه دلالته الدقيقة كل من صيغة المبني للمعلوم وصيغة المبني للمجهول، ويظهر الفارق في الدلالة على المعاني المختلفة في استخدام الفعل في الجمل المفيدة على حسب دلالتها: فإذا قلنا: «فتح محمد الباب» فهذا لمن يهمه أن يعرف من الذي فتح الباب، وإذا قلنا: «فتح الباب» فقد يكون الخبر موجها أيضا إلى سامع يهمه أن يعلم شيئا عن الفاعل، ولكن المتكلم يخبره بأنه لا يعرفه أو يخبره بأنه يعرفه ولا يريد أن يذكره. ولكن هناك حالة غير هذه وتلك، وهي حالة إنسان ينتظر فتح الباب ولا يعنيه من الذي فتحه كما لا يعنيه أن يقول له المتكلم إنه يجهله أو يسكت عنه، في هذه الحالة يقول العربي: «انفتح الباب» فيؤدي المعنى المطلوب بغير خلط بينه وبين الحالات التي ينتظر السامعون فيها خبرا عن فاعل الفتح، معلوما كان أو مجهولا أو مسكوتا عنه مع علم السامع به تعمدا لإخفائه أو لإهماله. واللغة الدقيقة التي استوفت وجوه الدلالة هي اللغة التي تلاحظ مقتضى الحال في كل عبارة من العبارات الثلاث، ولا تستخدم عبارة واحدة لموضعين ملتبسين، بل تستخدم كل عبارة لموضعها الذي لا لبس فيه.»
17 «على أن درجة الفاعلية في الاسم تثبت في اللغة العربية باستخدام صيغ أخرى تتمم هذه الصيغة من صيغ البناء للمعلوم أو البناء للمجهول أو فعل المطاوعة، فهناك صيغة المبالغة من مادة الفعل نفسه بغير حاجة إلى مادة مستعارة من غيرها، ففي اللغة العربية صيغ للمبالغة تعطينا من مادة الفتح كلمة «فتاح» بمعنى الكثير الفتح والمقتدر على الفتح على السواء، ولا مقابل لهذه الصيغة في اللغات الهندية الجرمانية إلا باستخدام جملة أو عبارة مركبة من عدة كلمات. وفي اللغة العربية صيغة من صيغ المبالغة تحكي الصفة المشبهة باسم الفاعل؛ لأنها تدل على حالة ملازمة بغير اعتبار للحدث والزمان ... مثال ذلك أننا نقول: «كريم»، ولا نقول: «كارم»؛ لأننا نريد التعبير عن صفة ملازمة وعن خلق ثابت لا يتوقف على حدث في زمن محدود ...»
18
تلك مزايا تستحق التنبيه إليها «في زمان يكثر فيه من يتحدثون من العرب أنفسهم عن اللغات التي تصلح أو لا تصلح للتعبير السليم أو الفصيح في أبواب العلوم والآداب.»
19
يقول د. عبد السلام المسدي: «لأول مرة في تاريخ البشرية - على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به - يكتب للسان طبيعي أن يعمر حوالي سبعة عشر قرنا محتفظا بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيطوعها جميعا ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله، بينما يشهد العلم في اللسانيات التاريخية والمقارنة أن الأربعة قرون كانت فيما مضى هي الحد الأقصى الذي يبدأ بعده التغير التدريجي لمكونات المنظومة اللغوية.»
20 (5) الإعراب
الإعراب مطلب العقل في اللغة.
د. عثمان أمين
العربية لغة إفصاح وإبانة، والإعراب، أي تغير نهايات الكلمة وفقا للمعنى المقصود، من آلياتها الرئيسة لتحقيق الدقة في الدلالة والوضوح في المعنى.
روي أن رجلا دخل على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، فقال من غير إعراب: «قتل الناس عثمان»، فقال له أمير المؤمنين: «بين الفاعل من المفعول رض الله فاك». وروي أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته وهي تتأمل السماء: «ما أجمل السماء»، فقال لها: «نجومها»، فقالت: «ما عن هذا أسأل، وإنما أنا أتعجب» فقال: «إذن فقولي: ما أجمل السماء»، وسواء أصحت هذه الروايات أم كانت من خيال واضعيها، فإنها تكشف عن الوظيفة الدلالية للإعراب. الإعراب ضروري للإفادة والإبانة وتماسك المعنى، والإعراب ضروري للكتابة البليغة والشعر الرفيع؛ لأنه يتيح للكاتب التقديم والتأخير وهو بمأمن من اللبس والغموض، فيكون حرا في الارتكاز على ما يشاء من عناصر الجملة، ويقدم الأهم على المهم، ويحقق في السبك قيما تشكيلية وموسيقية ما كانت تتأتى لولا الإعراب الذي يضم حبات الجملة في سمط واحد ويضمن لها ألا تنفرط مهما اختلف ترتيبها وتتابعها. واللغات التي تتنازل عن الإعراب (مثل العامية، ومثل اللغات الأوروبية الحديثة بعامة) تضطر إلى تقييد الترتيب في عناصر الجملة لكي يؤدي وظيفة الإعراب. مثل هذه اللغات أسهل من لغة الإعراب بما لا يقاس، غير أنها تشتري السهولة بثمن باهظ: بالغل والقيد وتصلب الفقرات، والثقلة الموسيقية والدلالية والبيانية.
وفي فن الشعر بخاصة تتجلى أهمية حركات الإعراب، «فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية وتستقر في مواضعها المقدورة على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع، ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير في كل وزن من أوزان البحور؛ لأن علامات الإعراب تدل على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة، فلا يصعب على الشاعر أن يتصرف بها دون أن يتغير معناها، إذ كان هذا المعنى موقوفا على حركتها المستقلة الملازمة لها، وليس هو بالموقوف على رص الكلمات كما ترص الجمادات.»
21
قلنا: إن حركات الإعراب تدل على المعاني دلالة تسمح بالتقديم والتأخير ووضع الكلمة في الموضع الذي يناسب مبنى البيت ولا يخل بمعناه، انظر هذا البيت للمتنبي:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
وانظر هذا البيت:
سوى وجع الحساد داو فإنه
إذا حل في قلب فليس يحول
وهذا:
قمرا نرى وسحابتين بموضع
من وجهه ويمينه وشماله
مثل هذه الطواعية وهذه الحرية لا تتاح للغة غير معربة، ومثل هذا النسق لا يستقيم لشاعر ينظم بغير العربية؛ «لأن الترتيب الآلي يقيده بموضع لا يتعداه، حيث يطلقه الإعراب «العربي» المعدود في عرف أعدائه الجهلاء قيدا من القيود!»
22
لا شك أن الإعراب يمثل صعوبة معينة، ولولا ذلك لما قال عبد الملك بن مروان: «شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن »، ولكن لا يماري أحد في أن لغة الإعراب تهيب بالقارئ أن يستجمع قواه الفكرية، وتدعوه إلى حسن التأهب لقطع أشواط الفهم. إن المران على صحة الإعراب هو في الوقت نفسه مران على يقظة الوعي وجودة الفهم، فالعربية بحكم تركيبها وبنائها تتطلب من المرء يقظة واعية وجهدا موصولا وبعدا عن الآلية، ومتى تعود المرء بذل الجهد لاستجماع الفكر قبل أن يقرأ أو يكتب أو يسمع نشأ لديه استعداد للفهم يلازمه طول حياته، وكان في أحكامه أقرب إلى الروية والتدبر وأبعد عن التهور والتحيز،
23
وهذه فضائل مستفادة أثمن بكثير مما بذل فيها وأنفق من أجلها. (6) العروض
العربية لغة عروضية: «فالتركيب الموسيقي أصل من أصول هذه اللغة لا ينفصل عن تقسيم مخارجها، ولا عن تقسيم أبواب الكلمات فيها، ولا عن دلالة الحركات على معانيها ومبانيها بالإعراب أو بالاشتقاق.»
24
وهذا ما يسر النظم لأصحاب السليقة الشعرية من العرب منذ أقدم عصور الجاهلية. كان الشاعر الجاهلي ينظم الشعر في مختلف بحوره بغير علم بهذه البحور، ثم جاء الخليل بن أحمد فاستخلص الوزن الموسيقي الكامن في هذا الشعر، وقعد له قواعده وأحصى بحوره، فإذا نحن بإزاء موازين دقيقة دقة رياضية، لا تقل عن دقة الموسيقى الخالصة ومقاماتها وإيقاعاتها وسلمها، «لا حاجة بالشعر العربي إلى إيقاع الرقص الذي يصاحب إنشاد الشعر في اللغات الأخرى؛ لأن أشعار تلك اللغات تستعير الحركة المنتظمة من دقات الأقدام وحركات الأجسام في حلقات الرقص أو اللعب المنسق على حسب خطوات الإقبال والإدبار والدوران، ولا حاجة بالشعر العربي إلى ملازمة الإيقاع المستعار من الرقص واللعب؛ لأن أوزانه مستقلة بإيقاعها الذي يميز أقسامها وحدودها ويغنيها عن الأقسام والحدود الأخرى، ولا حاجة بالشعر العربي إلى مصاحبة الغناء لترتيب أوقاته (أزمنته) وضبط مواقع المد والسكون في كلماته؛ لأنه مرتب مضبوط في كل كلمة، بل في كل جزء من أجزاء الكلمة، ويجمع بين الحركة والسكون، وما من وزن على وضع من الأوضاع لا تضبطه حركة الشعر المسموع بغير حاجة إلى الغناء.»
25
وأبلغ من كل ما تقدم في الإبانة عن معدن اللغة العربية وعن هذه الخاصة الفنية فيها أن أوزانها تتفق في كل ترتيل فصيح، ولو لم يكن شعرا مقصودا، كما اتفقت في الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، رغم أن القرآن ليس شعرا وما هو بقول شاعر:
مما يوافق وزن البحر الطويل:
يحلون فيها من أساور من ذهب ،
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
ومما يوافق وزن الكامل:
صلوا عليه وسلموا تسليما ،
إن الذين يبايعونك إنما ،
ويتم نعمته عليك ويهديك .
ومما يوافق البسيط:
فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ،
وعندهم قاصرات الطرف أتراب .
ومما يوافق الخفيف:
وتوكل على العزيز الرحيم ،
ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ،
إن قارون كان من قوم موسى .
26
ومما يوافق الرمل:
إنهم رجس ومأواهم جهنم ،
قل هو الرحمن آمنا به ،
ولقد راودته عن نفسه .
ومما يوافق الوافر:
ويشف صدور قوم مؤمنين ،
فهم في ريبهم يترددون ،
وإذا مروا بهم يتغامزون .
ومما يوافق المتقارب:
وأخرجت الأرض أثقالها ،
وينصرك الله نصرا عزيزا ،
وإن يستغيثوا يغاثوا بماء .
والسريع:
يا قوم إنما فتنتم به ،
يا أيها الناس اتقوا ربكم .
الرجز:
وذللت قطوفها تذليلا ،
كأنهم أعجاز نخل خاوية ،
كأنهم أعجاز نخل منقعر ،
اذهب إلى فرعون إنه طغى .
المتدارك:
إنا أعطيناك الكوثر .
المجتث:
واصبر على ما أصابك ،
فما استطاعوا مضيا ،
وهو العلي العظيم .
الهزج:
لقد آثرك الله ،
على الله توكلنا ،
وقالوا حسبنا الله .
مخلع البسيط:
يقدر الليل والنهار .
مجزوء الرمل:
وجفان كالجواب وقدور راسيات ،
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون .
مجزوء الخفيف:
ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه .
وتوكيدا لفكرة أن لغتنا استمدت أوزانها من صميم تكوينها، فقد نظرنا إلى الصفحة نفسها التي كتب فيها العقاد ما يوافق البحور من الآيات (الصفحة 24 من كتاب اللغة الشاعرة)، وأمكننا أن نحصي أربعة أشطر موزونة جاءت في حديثه النثري اتفاقا خلال بضعة أسطر! «وكما جاء في كلام الرسول» (الخفيف). «ومما يوافق بحر الرمل» (المتقارب). «مبلغ أوزان العروض العربية» (الرجز). «من دقة التقسيم والتفصيل» (الرجز أو الكامل).
27
عروض النثر: للعربية عروضها وموسيقاها، حتى في النثر! النثر في العربية «موزون» بمعنى ما، ويعرف كل ناثر عربي كبير أنه لا يكتب كيفما اتفق، ولكنه يعمد إلى ضرب من التحكم النغمي المقصود، وأنه كثيرا ما يغير مواضع ألفاظه وينتقي مرادفات ويستبعد أخرى تلبية لدواع نغمية خالصة، وكثيرا ما تقلقه عبارات صحيحة من جهة النحو والصرف والمعجم، ولكنه يحس لها نشازا ما، فهو لا يسيغها صوتيا أو لا يستريح لها نغميا: لكأن بها «كسرا» ما في عروض النثر! ولا يزال بها حتى يقوم زيغها ويسلس نغمها، عساها أن تقع في سمع القارئ موقعا حسنا وتؤتي فيه أثرا. (7) غياب فعل الكينونة
لكأن المثالية برمتها حاضرة في هذا الغياب.
في كتاب «الحروف» لاحظ الفارابي أن «فعل الكينونة»
To be
لا يظهر في اللغة العربية لأن الوجود متضمن في الكلام ولا يحتاج إلى إثبات، لكأن الديكارتية، بل المثالية الفلسفية بأسرها متضمنة في هذا الحذف.
وقد يذهب البعض بعيدا في تفسير تجاهل فعل الكينونة في الجملة الاسمية، ويراه قصورا ناجما عن طبيعة حياة الصحراء الساكنة الساجية الرتيبة، حيث لا شيء هناك وراء الأشياء الواقعية البسيطة المحدودة، ليس ثمة فعل كلي، ليس ثمة فاعلية بشرية حضارية متراكمة، ليس ثمة غير «وعي جماعي لم يتعرف على الأفعال الكبرى الفيزيقية للحضارات القديمة، لم يدرب عقله للنظر إلى ما وراء الطبيعة من خلال علاقاته الإنتاجية التي يعرف من خلالها عالمه الميتافيزيقي؛ لهذا غاب عنه أن يكون الوجود نتاجا لفعلي الكينونة والصيرورة، واكتفى فقرا وعيا وثقافة وحضارة بالنبأ أو الخبر؛ لهذا فالسماء الممتدة مجرد مبتدأ وخبر، وليست موضوعا أو جوهرا وفعل صيرورة مضمرا وصفة أو محمولا ... أخبار بني ... أخبار القدماء ... أخبار الحروب القديمة ... ليس ثمة غير الخبر يحرك بركته الراكدة، خبر عن الحب، السطو، الإغارة، المطر، الرياح، العواصف، الغائبين ... الصحراوي مستلب من الفعل المركب العميق، الفعل الإنساني للحضارات الكبرى، الذي يستشف منه فعل الصيرورة الكامن في الوجود والكون، الفاعلية البشرية المتراكمة، تفاعلها مع الطبيعية إلى القدر الذي يتمايز في عقلها البشري، وفعلا الكينونة والصيرورة في الأشياء الكبرى التي تمس الوجود، حتى لو كان فعل الآلهة، حيث المحيط الأزلي ... النطفة الأولى ... ومن ثم التكون والصيرورة.»
28
وباختصار، ليس ثمة غير خبر، أو انتظار لخبر.
أما د. حسن حنفي فيرى أن «فعل الكينونة ليس مجرد فعل، بل هو الوجود المتضمن فيه، يظهر في اللغات الأجنبية ولا يظهر في اللغة العربية لأن الوجود متضمن في الكلام ولا يحتاج إلى إثبات كما لاحظ الفارابي من قبل في كتاب الحروف.»
29
وأما د. عثمان أمين فيقف وقفة طويلة عند غياب فعل الكينونة في العربية، ويستكشف فيه فلسفة بتمامها! يرى د. عثمان أمين أن لغتنا العربية في طبيعة بنيتها وتركيبها لا تحتاج الجملة الخبرية فيها إلى إثبات فعل الكينونة، فنحن نقول في العربية، على سبيل الإخبار: «فلان شجاع» دون حاجة إلى أن نقول: «فلان يكون شجاعا»، ونقول: «كل إنسان فان» دون حاجة إلى أن نقول: «كل إنسان يكون فانيا». وإذا قلنا في العربية مثلا: إن «الأمة العربية واحدة» ثبت هذا المعنى في نفوسنا ثبوتا لا يحتاج بعده إلى شيء من الخارج، لا فعل الكينونة ولا أي رمز آخر من رموز اللغة أو أي أمر من أمور الحس. والفكرة المفهومة من الارتباط واضحة ماثلة دائما في نفس العربي، يلتفت إليها حين يواجه المعنى، فإذا أراد أن يبرزها أو أن يؤكدها مثلها بلفظ مثل قوله: «إنه هو الحق»، ومعنى هذا أن الإسناد في اللغة العربية يكفي فيه إنشاء علاقة ذهنية بين «موضوع» و«محمول» أو مسند إليه ومسند، دون حاجة إلى التصريح بهذه العلاقة نطقا أو كتابة، في حين أن هذا الإسناد الذهني لا يكفي في اللغات الهندوأوروبية إلا بوجود لفظ صريح مسموع أو مقروء، يشير إلى هذه العلاقة في كل مرة، وهو فعل الكينونة في اصطلاحهم، ويسمونه في تلك اللغات «رابطة»
Copula
من شأنها أن تربط بين الموضوع والمحمول إثباتا أو نفيا، وقد التفت بعض المناطقة الغربيين في العصور الحديثة إلى تكلف هذه «الرابطة» اللفظية في أكثر اللغات الهندوأوروبية: فقد بين جون ستيوارت مل في كتابه «نسق في المنطق» أننا لا نحتاج في الحقيقة إلى شيء سوى «الموضوع» و«المحمول»، وأن «الرابطة» إنما هي مجرد علامة على ارتباطهما من حيث هما موضوع ومحمول.
30
يرى د. عثمان أمين أن غياب فعل الكينونة ميزة فلسفية امتازت بها لغتنا على غيرها من اللغات: فالعربية ترى من نافلة القول أن نضطر إلى إثبات فعل الكينونة في كل قضية كيما نصدق بها، بل أكثر من هذا، أن العربية تفترض «أولانيا»
31
وابتداء أن مجرد إخطار المعنى في الذهن، ومجرد «ثبوت الإنية» - كما يقول الفارابي وابن سينا - أو وجود الذات العارفة التي تقرر المعنى، كاف وحده لإثبات هذا المعنى، وبعبارة أخرى إن العربية تفترض دائما أن شهادة الفكر أصدق من شهادة الحس أو، بتعبير فلسفي شائع لدى فلاسفة العرب ومتكلميهم، أن العربية بطبيعة بنيتها وصياغتها تقرر أن «الماهية متقدمة على الوجود» (تقدم رتبة وحيثية لا تقدم زمان أو وضع في المكان).
ويعلم كل دراس للفلسفة الديكارتية أن فعل الكينونة هذا قد أحدث خلطا في فهم الكثيرين للكوجيتو الديكارتي، وأدى إلى ارتباك ذهني كبير في الغرب في مستهل الفلسفة الحديثة. مثل هذا الخلط لا يمكن أن يقع في اللغة العربية لأنها استغنت أولانيا عن فعل الكينونة، ولم تسلم بأن له وظيفة منطقية، فضلا عن عدم التسليم بأنه «فعل» من الأفعال اللغوية. «إن «الكينونة»، تبعا لمنطق اللغة العربية، هي في الوجود الذهني، والوجود الذهني متضمن في كل قضية صادقة كانت أو كاذبة، ومن أجل ذلك وجدت اللغة العربية من نافلة القول أن تؤكد هذا الوجود بفعل الكينونة (الذي ليس في الحقيقة فعلا): فهذه اللغة ترى أن كل ما يعرض للذهن، كل فكر، «كائن»، وهذا يصير بديهيا لمجرد كونه مفكرا فيه. وها هنا مزية الذهن على المادة. إن الفلسفة الديكارتية التي تبدأ بالكوجيتو، ومنه تستخلص التمييز الحاسم بين النفس والبدن، تسير سيرا مطردا في الطريق الذي رسمته فلسفة اللغة العربية، وإن شئنا قلنا: إن اللغة العربية «مثالية» قبل مثالية ديكارت بمئات السنين، والفلسفة الديكارتية تجد ولا ريب سندا لها راسخا في مطالب اللغة العربية التي تفترض الوجود في الأذهان تحت كل فعل من أفعال العقل، وهي بهذا تقيم صدارة الفكر على كل ما عداه.»
32 (8) لغة تحتضن منهجا
يقول د. عثمان أمين في كتابه «فلسفة اللغة العربية»: «فقد أظهرتنا بحوث الأستاذ لوي ماسينيون على أن اللغة العربية قد امتازت بخصائص قل أن نجد لها مثيلا في اللغات الأخرى؛ ففي حين أن اللغات الهندوأوروبية إنما جعلت للتعبير عن نظام العالم الخارجي، نجد اللغة العربية وكأنها هي لغة التأمل الداخلي؛ تأمل الفكر والروح. العربية «تملك ديالكتيك المعجزة» التي ترنو إلى الأبدي، وتصرف النظر عن المتغير وعن كل ما هو زائل، إن في العربية استعدادا للرؤية الجوانية يتذوقه من نشئوا على التحدث بها، وفي العربية، بفضل تركيبها الداخلي وطراز الخلوة التي توحي به، قدرة خاصة على التجريد والنزوع إلى الكلية والشمول، ومن هنا كان للعرب الفضل في استكشاف رموز الجبر وصيغ الكيمياء والمسلسلات الحسابية. ويذكر ماسينيون أن «واحدا من الأوروبيين المساكين» قال له مرة في معرض الزراية على العرب: «ليس لهؤلاء الناس أدب» فأجابه: «لم نقل في ثلاثمائة جملة ما يمكن أن يقال في سطر واحد؟»، يقول ماسينيون: «إن الشعوبية المتزمتة، شعوبية دولة إسرائيل الجديدة، لا تؤمن بشيء قدر إيمانها بلغتها العبرية، وإن مدارسها الأولية تعلم العبرية وفقا للإعراب العبري التقليدي المنقول عن اللغة العربية، ووفقا للأبجدية القديمة. اللغة العربية لغة وعي، ولغة شهادة، وينبغي إنقاذها سليمة بأي ثمن، للتأثير في اللغة الدولية المستقبلية، واللغة العربية بوجه خاص هي شهادة دولية يرجع تاريخها إلى ثلاثة عشر قرنا.»
33
ويقول المستشرق الفرنسي هنري لوسل في مقال له بعنوان «اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية تزودان الدارس لهما بنظرة جديدة إلى العالم»: «... يجد الطالب في العربية معاني لغوية تختلف اختلافا كبيرا عن معاني الفرنسية أو اللاتينية أو أي لغة أوروبية ... ويستوقف نظره في الوقت نفسه سير الكتابة العربية من اليمين إلى الشمال، ولكن هذا السير يبدو مطابقا لحركة فزيولوجية أكثر اتفاقا مع الطبيعة. ثم إذا به يكتشف كلمات ذات أصول ملحنة واضحة ونسقا صرفيا مبتكرا داخل الكلمة يستبعد كل إضافة خارجية من المقاطع لأوائل الكلمات أو أواخرها، ويتيح ثروة من الاشتقاق من الأصل الواحد، وتقدم العربية أيضا نسقا من قواعد الإعراب بسيطا وفيه قدر كبير من المرونة، كما تقدم أساليب من تركيب الكلام تجمع بين البساطة والدقة، ونسقا من الأفعال يتسم بالبساطة، ويحير الناظر أول الأمر ولكنه مع ذلك قد بلغ من التمام في منطقه ما بلغه النسق الفرنسي، ومع العربية ينفتح أمام نظر التلميذ عالم جديد يخالف العوالم التقليدية المأثورة. لقد ذهب التعليم الفرنسي إلى البلاد العربية، ولكنه عجز عن أن يفيد منها لنفسه نظرة جديدة عن الإنسان يعود بها إلى فرنسا. إن دراسة القرآن، ولو كانت دراسة سطحية، تكشف للتلاميذ شيئا فشيئا تصورا جديدا للعالم.»
34
وللأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي خواطر وتساؤلات طليعية جريئة بشأن العربية والمنهج العلمي الذي تضمره في داخلها، وعلينا نحن أن نستكشفه ونفيد منه، يتساءل د. الرخاوي: «هل يتغير المنهج العلمي بتغير اللغة أم أن المسألة هي مجرد تغيير ألفاظ؟» ولا يفوته أن يشير بسهم إلى إجابة: «... ولعل اللغة العربية بثباتها كل هذه القرون هي التي حافظت على علاقتنا بالطبيعة، ولعلها توحي لنا مؤخرا - إذ نحاول الإفاقة - أن للحياة هدفا آخر، وأن الإنسان ليس إلها وأن المنهج القائم الغالب والمحتكر لما يسمى علما لا يفي بسبر غور الحقيقة كل الحقيقة، أو أغلبها، وأن لنا علاقة متصلة بالطبيعة غير الاقتحام والسيطرة والاستنزاف ... إن الانطلاق من لغتنا العربية، تركيبا له بنيته الخاصة، وليس ترجمة عاجزة عن الحركة المستقلة، لهو من العوامل الأساسية التي قد تتيح لنا الفرصة لاختبار منهج آخر أكثر قدرة على سبر غور الحقيقة والإلمام بأبعاد المعرفة، وليس هنا مجال لتفصيل أكثر، وإنما أكتفي بمجرد الإشارة إلى ما سبق أن أشرت إليه من أفول نجم هذا المنهج التجريبي المعتمد على الرصد السلوكي كأساس يكاد يحتكر ما يسمى موضوعية المعرفة؛ الأمر الذي يتواكب مع مناهج وطريقة تفكير تصبغ الطبيعة الحديثة والرياضة الحديثة، وتفتح الأفق إلى مناهج ومنطق أكثر قدرة وكلية وإحاطة وتداخلا، وكلها مناهج أقرب إلى بنية اللغة العربية القادرة منها إلى التنظيم الخطي المنفصل بعضه عن بعض في لغات أخرى مسطحة بشكل أو بآخر. لو تبينا أننا نتميز عن غيرنا، ليس بالضرورة تفوقا فقط، مجرد تميز، وأن هذا يسمح لنا بالحركة في مساحة أخرى، من منطلق آخر، وأن هذا وذاك يتيح لنا فرصة اقتحام مجاهل المعرفة بشكل آخر في مسار آخر، وأن كل هذا يعني أن لنا توجها آخر؛ لو حدث كل هذا فإنه يحتاج إلى أن نفعله من خلال بنيتنا العربية المتدينة الغائرة التي بعض صورها النطق بهذا اللسان العربي. فالعقل العربي لا يستعيد استقلاله وحريته باستعادة النطق بلسانه، وإنما تتاح له الفرصة من خلال استعمال لغته - تركيبا غائرا - بما يتيح تجديدها، ثم هو يستعيد أو لا يستعيد - بحسب مسئوليته وإسهامه - دوره، فريادته على طريق المعرفة/الحضارة/التطور، فإذا فعل عادت لغته إلى الحياة ثم تطورت بدورها فأعطت وتحاورت، وإذا لم يفعل فهو الخاسر نفسه ولغته وعطاء غيره في آن، ولا يبقى له إلا أن يتبع ويطيع (ويسمع الكلام)!»
35
الفصل العاشر
ضرورة الإصلاح
نحن بين اثنتين: إما أن نيسر علوم اللغة العربية لتحيا، وإما أن نحتفظ بها كما هي لتموت.
طه حسين
مستقبل الثقافة في مصر
في كتابه الذي صدر عام 1954 يقول الأستاذ سعيد عقل: «معضلة اللغة عرضت وستعرض لكل الشعوب المتمدنة؛ لأن اللغة بطبيعتها تخلق لنفسها هذه المعضلة كل نحو من ألف عام، أما مبدأ الحل فقد استخرج من الحياة: اللغة هي ما في الفم لا ما في الكتاب، ولو أن رقعة العالم الغربي، على سعتها، من اسكتلندا إلى صقلية، مضافا إليها رومانيا، بقيت مسايرة عاطفية الشعب وما تتوهمه من وحدة لغوية تربط بين أجزائه، لما كانت إيطاليا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا اليوم زعيمات العقل الغربي، ولما أطلعن عباقرة الشعر والفلسفة.»
1 ... «معضلتان (اللغة والتدوين) على حلهما في الشرق يتوقف إيجاد اللغة التي هي حق كل المؤسسات، وما بقي الحق خربا فعبثا نفكر باقتناء العطور ، لا نهضة لنا في الشرق ما لم نحل معضلتي اللغة والتدوين.»
2
وإذا كنا لا نتفق مع الأستاذ سعيد عقل في الحل الذي خلص إليه، فنحن نذكر له التفاته المبكر للمشكلة وإدراكه العميق لخطرها.
موت اللغات هو ألا تعود تستعمل.
وما تعانيه العربية اليوم ليس محلا للجدل بل للملاحظة.
ما تعانيه العربية اليوم أشبه بالموت السريري: لكأنها ماتت ونحن نتكتم الخبر ونحفظ حياتها اصطناعيا بمضخات التنفس والتقطير الوريدي.
وما أوصلنا لهذه الحال سوى سلف أغلق باب الاجتهاد، وخلف لج في التزمت، ومجمع تردد في العلاج، وأساتذة ترددوا في التعريب، ومرفق تعليمي باع التعليم وأكل من خبز الهيكل، وشعراء اغتربوا وأغربوا وآثروا أن يكتبوا لأنفسهم لا للناس، وعقل عربي عقم عن الإبداع وهو مشطور بين فصحى لا يجيدها وعامية لا تجيده! (1) تشبيه دورة الحياة
هذا جاثوم ما قصصته إلا لكي أنذر بحجم الخطر الذي يتهددنا، وحرج الموقف الذي نعيشه؛ فاللغة وسيط التفكير والحس والشعور والإبداع، وموت اللغة يعني موت هذه الأشياء جميعا. على أن الأمر لا يعدو أن يكون «تشبيها» أو «مماثلة» (أنالوجي): فالحق أن اللغة «تشبه» الكائن الحي ولكنها ليست كائنا حيا، وقد سبق لفلاسفة التاريخ أن شبهوا الحضارات بالكائن الحي وأخذوا ب «مماثلة دورة الحياة»
Life Cycle Analogy ، فارتكبوا مغالطة، وبلغ الغلو بالبعض أن يمتد بالتشبيه إلى تبرير الاستعمار!
3
وفاته أن الشبه غير الهوية، وأن التشبيه وسيلة إيضاح لا برهان، وأن التشبيه قد ينطبق في جوانب ولا ينطبق في أخرى؛ وعليه فإذا كانت اللغة مثل الكائن الحي تنشأ وتنمو وتشيخ وتموت، فإنها بعكس الكائن الحي قد تحتفظ بالحياة بل قد تعاد إلى الحياة إذا شاء أهلها ذلك: فقد اختار اليابانيون الاحتفاظ بلغتهم في أحلك الظروف كأداة للعلم وعنوان للهوية، وقد بعث جيراننا الألداء العبرية من مرقدها لتكون لغة حياة وأدب وعلم، وإن مهمتنا تجاه العربية لأيسر بكثير من مهمتهم التي بدأوها وأكملوها! وإن لدينا من الدواعي القومية والروحية مثل ما لديهم وزيادة. (2) بين الحتمية الاجتماعية والمذهب العملي
تخضع اللغة في سيرها، كما يقول د. علي عبد الواحد وافي، لقوانين مطردة ثابتة، لا يد لأحد على وقف عملها أو تغيير ما تؤدي إليه ، ولا نقصد بذلك أن نقرر مبدأ الجبرية المطلقة في حياة اللغة، ولا أن ننكر إمكان التدخل في شئونها، ولكننا نقصد بذلك أن نبين أن كل تدخل يتنافر مع القوانين الطبيعية التي تسير عليها اللغة في حياتها لن يغير شيئا مما تقضي به هذه القوانين، وأن التدخل المنتج هو الذي يساير هذه القوانين، ويهيئ الظروف المواتية لتحققها في الناحية المقصودة.»
4 «فما ذهب إليه فرنسيس بيكون بصدد التدخل في الظواهر الطبيعية إذ يقرر أنها «لا تمكن السيطرة على ظواهر الطبيعة إلا بطاعتها ومسايرتها» يصدق كذلك على ظواهر اللغة وما إليها من الظواهر الاجتماعية الأخرى.»
5
وفي المجال الاجتماعي والتاريخي يقول ماركس في «رأس المال»: «حتى إذا اهتدى مجتمع ما إلى الطريق الصحيح لاكتشاف القوانين الطبيعية لحركته، فما هو بمستطيع، لا بقفزات جريئة ولا بتشريعات قانونية، أن يزيل العقبات التي تفرضها المراحل المتعاقبة لنموه الطبيعي ... فذلك أمر يتوقف على هذه القوانين نفسها، وعلى هذه الميول وهي تمضي بضرورة لا تلين إلى نتائج محتومة» ... وبعبارة أخرى فإن معرفة المجتمع لقانونه الطبيعي الذي يعين حركته لن تمكنه من تخطي المراحل الطبيعية لتطوره أو حذفها من الوجود بجرة قلم، وليس باستطاعته أن يفعل إلا شيئا واحدا: هو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها، غير أن الماركسية، وكل نزعة تاريخية حقيقية، لا تستلزم القول بالقدرية ولا تؤدي إلى التكاسل عن العمل، بل الصحيح خلاف ذلك تماما، فكثير من التاريخانيين تظهر عندهم ميول واضحة نحو «النزعة العملية»
Activism ، والمذهب التاريخاني يعلم تمام العلم أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا واستدلالاتنا، ومخاوفنا ومعارفنا، ومصالحنا وأعمالنا، هي كلها قوى مؤثرة في تطور المجتمع. ولا يقول المذهب بعجزنا عن إحداث أي شيء كان، وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئا بأحلامك أو بما يركبه عقلك طبقا لخطة مرسومة، فلا تأثير إلا للخطط التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي. ونرى الآن على وجه الدقة أي نوع من العمل يعتبره التاريخانيون معقولا؛ فالأعمال المعقولة ليست إلا ما يتلاءم مع التغيرات الوشيكة الوقوع ويساعد على تحقيقها ؛ إذن فالتوليد الاجتماعي هو العمل الوحيد الذي يمكن أن يعتمد عليه على أساس من بعد النظر العلمي. إن المجتمع متغير بالضرورة، ولكنه يسير في طريق مرسوم لا يمكن أن يتغير، ويمر بمراحل عينتها من قبل ضرورة لا تلين، ومن ثم فالنزعة العملية لا يمكن تبريرها إلا إذا سايرت التغيرات الوشيكة الوقوع وساعدت على تحقيقها. إن خضوعنا لقوانين التطور القائمة هو كخضوعنا لقانون الجاذبية أمر لا مفر منه، وإن أكثر المواقف مطابقة للعقل هو أن يعدل المرء مجموع القيم التي يأخذ بها بحيث تصير موافقة للتغيرات الموشكة على الوقوع.
6
هذا إسهاب مقصود حتى يعلم كل من يحاول إصلاحا لغويا أن عليه «أن يعمد قبل كل شيء إلى دراسة حياة اللغة، ومناهج تطورها، وما تخضع له في حياتها من قوانين؛ حتى يتميز له الممكن من المستحيل، ويستبين له ما يتفق مع السنن الكونية وما يتنافر مع طبيعة الأشياء، وحتى تأتي إصلاحاته مسايرة لهذه الطبيعة، فتؤتي أكلها وتكلل بالنجاح.»
7
من هنا يأتي إلحاح المجددين في اللغة على معرفة السنن الخاصة بتطور العربية من أجل تطويرها على نحو صحيح ناجح، يقول الأستاذ أمين الخولي: «هذا التطور يقتضينا عملا جليلا جبارا في الدرس اللغوي للعربية، كشفا لمسارب سيره ومسالك تنقله، ليكون حديثنا عن هذه العربية حديثا صحيح الأصل سديد الخطوات، وليكون عملنا في خدمتها أو إصلاح شيء من أمرها صحيح الأساس، موفق الاتجاه، محققا لغاية ... حين يأخذ الوجهة التي يدل التطور على اتجاهها إليها.»
8
وفي كتابه «مقدمة لدرس لغة العرب» يقول الأستاذ عبد الله العلايلي: «إن اللغة العربية أخذت طريقها التطوري في الحياة، تمر من دور إلى دور، وتتغير تغيرا شاملا في أصولها وكلماتها ودلالاتها وأسلوبها ومنهجها البياني، وحتى ظهور الإسلام لم تكن قد استقرت على وجه التمام، بل ظلت غير خالصة من علائق الفوضى في غير ناحية، كالموازين وصيغ الجموع وأبواب الأفعال ... إلخ، وذلك النقص لأسباب انقلابية مفاجئة، وقفت بها عند حد ما نراها مسطورة في الكتب العجمية ... وقفت اللغة، ولم تنته، فكان لها انجذار مفاجئ أوقف ما فيها من عناصر فعالة ... وقد بقي فيها شيء من مظاهر الطفولية، اجتهدت العربية بالتخلص منه، ولكن بقي على بعض صوره، والمسافات الواسعة التي بقيت واضحة في منطق القبائل الشتى، ومنطق القبيلة الواحدة، حتى ذهل من كثرتها علماء اللغة جميعا، وراحوا في تعليلها على مذاهب متباينة، وابتدعوا لها وجوها من الاختلاف القبلي وتداخل اللغات والضرائر والشذوذ والغلط، وهي في حقيقة الأمر ليست غير أثر من آثار التطور العامة، الذي تخضع له كل لغة في سيرها الارتقائي، وتبقى هذه البواقي والمتخلفات؛ لأسباب مكانية وظرفية، أو لأن التطور لم يتم دورته، والذي لا شك فيه أن العربية لم تستقر لعهد القرآن على وجه نهائي ... وكانت تصل إلى مستوى بعد ذلك لو ظلت في محيطها بجزيرتها دون خروج، لكن خروج العرب من الجزيرة في الحركة الإسلامية منع ذلك.»
9
لقد مضت العربية في تطورها على مذهب خاص ومعقول عربي لو أدركناه لاستطعنا أن نجعل العربية تتابع نماءها، وتحقق ما اتجه إليه ارتقاؤها، ولكنه توقف بخروج العرب من الجزيرة عند الفتح الإسلامي وتوزعهم في الأنحاء، ثم تناول اللغويون للعربية تناولا طابعه الجمع فقط، وفقدان النظرة العامة إلى اللغة، والوقوف في وجه كل اجتهاد.
10
يشيد الشيخ أمين الخولي بمحاولة العلايلي النظرية (مقدمة لدرس لغة العرب) والتطبيقية (المعجم)، ويرى أن العلايلي لا يقف عند بيان هذا التطور، بل يمضي إلى ما وراء ذلك من اهتداء بهذا التطور في دفع العربية اليوم إلى السير استئنافا لتطورها الذي أوقفه خروجها من الجزيرة عند الفتح الإسلامي، فهو يهتدي بهذا التطور إلى معرفة «معقول» العربي ووجهته في السير بلغته، أو سير الحياة بها، وما كان ينتظر أن ينتهي إليه الأمر في رقيها واستقرار أمرها، والتخلص من ظواهر الفوضى أو الاضطراب في مادتها وصورتها، وبهذا الهدي التطوري يرى أننا نستطيع رد الحياة إلى العربية، ودفعها إلى استكمال ما عوقتها الظروف عن استكماله فتقرر اليوم النتائج التي دلنا التطور على أنها كانت تتجه إلى تقريرها، وتبسط رقعة الوضع أمام الواضع الجديد اليوم، وبهذا تستبدل العربية بضمورها نماء، وزيادة، على أنها ستنمو نموا داخليا ذاتيا بمواد من كيانها لا بمعربات من غيرها، ولا منحوتات مصطنعة من كلمها.
11
من النتائج التي رتبها العلايلي على ما قال إنه معقول العربي ووجهته في السير بلغته، والتي يرى أن علينا نحن أن نتابع تحقيقها لنصل بالعربية إلى الاستقرار والاستكمال والتخلص من ظواهر الفوضى والاضطراب:
اختلاف أبواب الفعل الثلاثي مثل من عدم الاستقرار، ويظن العلايلي أن العربي قصد طرد الأفعال المضارعة على الكسر دون تخلف، فالماضي يكون على وزن «فعل» - بفتح العين مطلقا، إلا لحاجة معنوية فينقل قياسا إلى بابي «طرب» و«كرم»، وهذا في غير الحلقي فيكون من باب «فتح» مطلقا؛ وعليه فكل ماض بالفتح مطلقا، وكل مضارع بالكسر مطلقا، وكل حلقي بفتحتها مطلقا، وكل اشتقاق مستقبل يلزم هذا السبيل وينطرد عليه، على أنه لا يخرق بهذا حرمة النص، بل يتقيد بما مضت به المعاجم إذا كان محل وفاق، فإن اختلفت فيه فالراجح الكسر (مقدمة لدرس لغة العرب).
المصادر من الثلاثي بقيت قلقة كذلك، وكذلك الجموع لم تستقر إلا في قلة من الكلمات، غير أن العربي أخذ بصورة جدية لإقرارها.
لم تتحدد للصيغة دلالة على اطراد، فتحمل الكلمة معنيين أو معنى مؤلفا مما تقيده الصيغة والمادة التي منها الاشتقاق، على أن العربية مع كل ما ترى فيها من فوضى هذه الناحية لا ينكر أنها أخذت في سيطرة الاشتقاق وغلبته بهذا النحو، وبقاء الموازين على فوضاها لا يتناسب مع المفاهيم العلمية الدقيقة، التي تضطرنا لأن نجعل دلالة لازمة أبدا للهيئة الميزانية، ومن ثم لا يكون عناء الوضع كبيرا، كما ترتسم للميزان أيضا صورة عند السامع، تكون على مقدار من المعنى. فعلى الواضع الجديد أن يتوفر على تخصيص الموازين بما يقارب أن يكون جامعا لشتى المشتقات عليها.
12
تلك مجرد شواهد على أن محاولة فهم التطور اللغوي للعربية تنتهي بالباحثين إلى نتائج بعيدة وهامة، وأنه لا سبيل إلى رد الحياة على العربية وتيسير النماء الحي لها إلا إذا عرف كيف دبت الحياة في هذه العربية، وكيف سارت الحياة بها لنعرف من ذلك كيف تتابع سيرها في هذه الحياة. (3) التزمت يخلق الثورة
مات الكسائي شيخ الكوفيين وهو لا يحسن «نعم» و«بئس»، وفارق تلميذه الفراء الدنيا وفي نفسه شيء من «حتى».
الضغط يولد الانفجار، والتصلب الانكسار، والتزمت الثورة. ويوشك المحافظون الغيورون أن يقتلوا العربية اختناقا، وفيما يلي أورد قطوفا من أقوال حقيقية لمجمعيين حقيقيين، ثقات أئمة، في مناقشاتهم في دورات المجمع: «... ولنقف عند هذا خشية أن ينتهي الأمر إلى اعتراف كامل بها (العامية) له أخطاره ومغبته.» (د. بيومي مدكور) «ومجمع اللغة العربية لا يؤخذ بأخطاء الناس، ولكنه يؤخذ إذا هو وضع خاتمه الشرعي على أخطاء الناس، ولا يجوز لنا أن نجيز أخطاء الناس وإن كنا أحيانا نسكت عنها. لعل إخواننا في مصر لا يدركون مدى الحملة على اللغة العربية في أقطار أخرى، ولم يحسوا بالخطر الكامن وراء الدعوة إلى التمهيل والتبديل في اللغة العربية، فرجاؤنا أن يشعروا معنا بذلك، وأن يظلوا السور الذي يحمي لغتنا فلا يفتحوا فيه ثغرة جديدة.» (د. عمر فروخ) «... يجب ألا نفتح ثغرة مهما كانت صغيرة ينفذ منها من يريدون القضاء على العربية.» (أ. زكي المهندس) «... فأما حملة د. محمد كامل حسين على اللغة العربية وأنها يجب أن تساير العصر ويتساهل فيها فهذا غير ما بني عليه المجمع من المحافظة على سلامة اللغة العربية، وحملته على الأشموني والألفية فيها تجن كثير، فهذه الكتب حفظت لنا اللغة بدقائقها وتفاصيلها، وإذا كان فيها شيء من الصعوبة فلها من يستسيغها ويفهمها.» (الشيخ محمد علي النجار) «يجب أن تقوم الألسنة المعوجة لتستقيم على منهاجها الواضح المبين، لا أن تعوج هي لتطاوع الألسنة المعوجة بحجة التيسير عليها لتبقي على اعوجاجها.» (أ. عبد الفتاح الصعيدي) «لا أرى أن نتخذ من القواعد ما نقر به المخطئ على خطئه، ومن الخير أن نلتزم اللغة الفصحى، وننبه على أن المستعمل بخلافها في الصحف أو غيرها غير مقبول، وليس من الخير أن نضع خاتم الشرع على أخطاء الكاتب أو المتحدث، ولو أجزنا لكل مخطئ أن يخطئ فسينتهي بنا الأمر إلى تسويد لغة العامة.» (د. عمر فروخ)
تلك أقوال محافظة اجتزأتها اجتزاء وانتقاء لكي تمثل المنطق المحافظ، مع كل الإجلال للقائلين ونياتهم الطيبة. إنهم يتحدثون كأن المعيار هو التراث لا العرف، أو كأن السلطة هي المجمع لا الحياة، ويصدرون الأحكام من غير سدة الحكم! ولقد تركتهم اللغة يحافظون عليها في عالمهم الافتراضي ومضت في سبيلها لا تلوي على شيء.
لقد أتت جهودكم بعكس الذي توسموه، وها هي شواهد احتضار العربية تكاد تفقأ عين أوديب. التطور لا يغالب بل يوجه ويضبط، وقديما قال ماكيافيللي للأمير «إذا أردت أن تتفادى ثورة فاصنعها بنفسك!»، وقريب من ذلك قول د. محمد كامل حسين في مؤتمر المجمع، الدورة 28، 1961: «فيما يتعلق بالثورة على اللغة في لبنان أرى أن الطريقة إلى منع الثورة في كل العالم هو التطور التدريجي، فلو تطور الروس ما قامت الثورة الروسية، والمحافظة الشديدة على تفاصيل اللغة العربية الفصحى على صعوبتها ستؤدي إلى الثورة عليها وانتصار العامية، والطريقة الوحيدة لتلافي ذلك هو التطور بالفصحى، وأؤكد أن التطور يكون إلى التقدم، والتقدم أميل إلى التبسيط» (مجلة المجمع، ج15، ص80).
نعم، التبسيط يماشي سنن التطور ويساير اتجاهاته وميوله، وقد سبق أن قلنا: إن مبدأ «الاقتصاد» من أهم السنن المسيرة للتطور اللغوي، وكذلك مبدأ «القياس» بمعنى الاطراد والتجانس، ينبغي أن نعترف أن الفصحى على حالها الراهن صعبة عسيرة الدراسة والتمثل. وهذا طه حسين، وهو سيد من سادة الفصحى، يقول في «مستقبل الثقافة في مصر»: «معنى ذلك أن تيسيره (أي تعليم العربية) قد أصبح فرضا لا محيد عنه، وضرورة لا خلاص منها، فليس كل الناس قادرا على أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة وفهما مع ما تمتاز به قراءتها وكتابتها وعلومها من الصعوبة والتعقيد، وليس كل الناس مستعدا لأن ينفق من حياته الأعوام الطوال ليدرس أبواب النحو والصرف كما يريد هؤلاء السادة أن يحتفظوا بها، حتى إذا أنفق من وقته ما أنفق، وبذل من جهده ما بذل.»
13 ... «وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة بواسطة العلماء القادرين إصلاح علومها وتيسيرها والملاءمة بينها وبين الحياة الحديثة والعقل الحديث، وأنا نذير للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطر منكر ما أرى أنهم يحبونه أو يطيقونه أو يسعون إليه أو يرغبون فيه، وهو أن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح صائرة، سواء أردنا أم لم نرد، إلى أن تصبح لغة دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين وحدهم ويعجز عن فهمها وذوقها فضلا عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس ... فاللغة العربية في مصر لغة إن لم تكن أجنبية فهي قريبة من الأجنبية، لا يتكلمها الناس في البيوت، ولا يتكلمها الناس في الشوارع، ولا يتكلمها الناس في الأندية، ولا يتكلمها الناس في المدارس، ولا يتكلمونها في الأزهر نفسه أيضا ... فالخطر الذي أنذر به إذا لم نتدارك اللغة وعلومها بالإصلاح والتيسير؛ إن لم يكن واقعا فهو قريب الوقوع، وتبعة هذا كله إنما تقع على الذين يمانعون في الإصلاح والتيسير ... وينسون أن الذين أنشئوا هذه العلوم (علوم اللغة) إنما أنشئوها لأسباب منها حماية اللغة من أن تفسد أو تضيع، كما أننا نريد أن نصلحها ونيسرها لنحميها من أن تفسد أو تضيع ... أريد كما يقول بهي الدين باشا بركات في هذه الأيام، وكما قال غيره من قبله، أن يقرأ الناس ليفهموا لا أن يفهموا ليقرءوا ... والخير كل الخير أن نقبل على هذا الإصلاح عن رغبة ورضا، لا أن نعرض عنه حتى تفرضه علينا الظروف إن انتصر، أو تموت اللغة العربية إن كتبت لها الهزيمة لا قدر الله.»
14
وها هو الأستاذ محمود تيمور، وهو أديب كبير وعضو مجمع، يقول: «لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة أمر يتعذر على المثقفين عامة، بل إن المختصين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها لا يستطيعون ذلك إلا باطراد اليقظة ومتابعة الملاحظة، وإن أحدا منهم إذا حرص على ألا يخطئ لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني وإرهاف الذاكرة وإجهاد الأعصاب.»
15
ويقول حسام الخطيب: «ولا نعرف أناسا في الدنيا يستخدمون لغتهم بمثل ما يصاحب استخدام اللغة العربية لدى أبنائها من تهيب وتحفز وتردد وتوتر نفسي ورهق.»
16
وها هو الدكتور محمد كامل حسين، وهو ضليع في اللغة وعضو مجمع، يقول في واحدة من مداولات المجمع عام 1961: «أما فيما يتعلق بالإبقاء على اللغة العربية، فإننا نعمل جهد الطاقة للحفاظ عليها، غير أننا لا نريد أن نبقيها متحجرة حتى لا يبعد عنها المثقفون، وهذا لا يتأتى إلا بأن نغير منها بحيث تصبح مقبولة عند المحدثين، أما التمسك بجميع تفاصيل قواعد النحو والصرف فهذا يتطلب أمة متفرغة للغة وقواعد اللغة، وهذا زمن انتهى فلم يعد في الإمكان أن تكون جميع الحركات الفكرية العربية متعلقة باللغة وحدها، فوقتنا لا يسمح مطلقا بأن تكون الثقافة العربية محصورة في اللغة وإلا احتاج الأمر إلى أن نتفرغ لها مدى الحياة لكي نعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وحتى علماء اللغة دائمو الرجوع إلى معاجمها، ونحن نفعل ذلك هنا (في المجمع) دائما وبيننا صفوة من علماء اللغة، فمن يريد المحافظة على اللغة العربية لا يرضى لها أن تبقى متحجرة أو محنطة، بل يجعلها مسايرة للحياة، ولمطالب المحدثين الذين يريدون لغة عربية مقبولة ... هذا النوع من التفكير أصبح لا يطيقه العصر الحاضر، نريد أن نسهل هذه القواعد بحيث تصبح في متناول المتكلمين؛ حتى لا يشعروا بالعجز وبأنهم دائما مخطئون، فكل منا مهما كان علمه سيجد من يخطئه.»
17
يقول أدونيس: «إن ما ينبغي أن نتمسك به ونحاكيه هو، بالأحرى، ذلك اللهب الذي حرك أسلافنا، لهب السؤال، والبحث والمعرفة، من أجل أن ننتج ما يكمل نتاجهم، برؤية جديدة للإنسان والكون، وبمقاربات معرفية جديدة، وهذا يقتضي تفكيك معارفهم ونظراتهم وتمثلها نقديا، بحيث يبدو الجديد كأنه طالع من القديم، لكنه في الوقت نفسه، شيء آخر، مختلف كليا، وفي هذا سر التواصل العميق الخلاق بين القديم والحديث.»
18 (4) الإصلاح لا يكون إلا جزئيا
هناك اعتبار آخر ينبغي أن يراعيه كل مصلح، لغوي أو غير لغوي، يريد لعمله أن يبلغ غايته ولا يذهب أدراج الرياح، ذلك أنك لا تبدأ إصلاحك من «نقطة أرشيميدية» تقع خارج العالم! ولا تبدأ من «رسم»
Blueprint
يوتوبي مثالي كامل تريد أن تطبقه على واقع عنيد صلب له تعاريجه وتضارسه، وله ميوله واتجاهاته، وله مقتضياته وإملاءاته، ثمة معطيات قائمة عليك أن تبدأ منها وبها، ومن ثم فإن الإصلاح الحقيقي لا يكون إلا جزئيا متدرجا. إن البشر، كما يصفهم أوتو نويرات في تشبيه شهير، «أشبه ببحارة سفينة في عرض البحر: يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءا جزءا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعة واحدة».
أول خطوة إصلاحية هي إعادة اختراع «الدولة»! وهي، إن شئت الدقة، ليست خطوة بل هي شرط كل خطوة وأرضيتها: ثمة «أمر» لا بد له من «ولاة»!
ثمة علوم يجب أن تعرب، فلنبدأ بالتعريب أولا ثم نتناقش في أمر النتوءات العابرة التي ستصادفنا والتي يذللها السير نفسه: لنبدأ، «اختباريا»
Tentatively
بقسم من الطلاب يدرسون بعض المواد بالعربية، مع كتابة المصطلح الأجنبي إجباريا والإلمام به والسؤال فيه، لا معنى لتسويف هذه التجربة البسيطة التي نوقن بنجاحها: بمنطق العقل، ومنطق الأشياء، وخبرة الأمم الأخرى، ثم نتدرج في التعريب، وأول الغيث قطرة.
ثمة قنوات فضائية للأطفال، فلندبلج، وننتج، لهم أجود الرسوم والأفلام بعربية شائقة ميسرة، ولنجند لذلك أقدر الممثلين والمخرجين، بإشراف المجمع، ورعاية الدولة وإغداقها.
ثمة قنوات فضائية مرموقة وسابقة، كالجزيرة، تعمل بالعربية بنجاح تام وجاذبية مشهودة، فلنعمم التجربة عندنا ونفرد قنوات تنطق بفصحى ميسرة، ترفرف كالعرب على الإعراب ولا تتفيهق فيه وننتدب لها أكفأ الإعلاميين ونغدق.
ثمة ندوب وبثور في وجه القاهرة والمدن الأخرى: لافتات وإعلانات وواجهات بالإنجليزية والعامية، لها أن تمهل للإزالة؛ حفاظا على الهوية القومية والذوق العام، ولسنا في ذلك بدعا بين الأمم.
لنشجع حفظ القرآن، بغض النظر عن الديانة وبمعزل عن المسألة الدينية، ونجعل لحفظته مزية كالتي لأبطال الرياضة في الشهادات العامة، وإن سلامة اللغة لمزية علمية كبيرة يحق لصاحبها، من أي ديانة، أن يتميز على أقرانه.
لنتوقف عن السخرية من العربية ومن أستاذ العربية في أفلامنا وإعلامنا، ماذا يضحكنا في ذلك؟ إنما يضحكنا جهلنا واغترابنا عن ذاتنا وخزينا في أنفسنا! إننا لفي غنى عن ضحكة تباع لنا بثمن باهظ، وإن مجال الضحك من بعد ذلك لممدود ذو سعة. (5) الاستعمال
وصفة شاملة للإصلاح اللغوي:
نريد لغة نستعملها لا لغة تستعملنا.
اللغة استعمال.
وهناك وجه شبه كبير بين اللغة والعملة التي يستعملها الناس في البيع والشراء (النقد/النقود)، فالنقود، كما لاحظ ماريوباي، لا تعدو أن تكون «رمزا» لقوة شرائية تواضع عليها الناس، ليس لورق النقود (أو معدنها) بحد ذاته قيمة تذكر بجانب قوتهما الشرائية، ومن ثم فالقيمة الحقيقية للنقود هي خاصة يسبغها عليها المجتمع الذي يتعامل بهذه العملة. وكذلك الأمر في اللغة: «فقيمة اللغة في التزام أهلها بها وبطريقتها في التعبير، ورواجها بينهم، وتداولها على ألسنتهم، واحترامهم لها، وثقتهم بها في حمل أفكارهم ومعتقداتهم والتعبير عن انفعالاتهم وعواطفهم.» وبالتالي فما من لغة إلا وهي قادرة على التعبير عن أية فكرة متى قامت في نفوس أصحابها، وليس هناك معنى لأن تكون لغة ما عاجزة عن التعبير عن أي معنى من المعاني متى قام هذا المعنى في نفوس المتكلمين بها، «فالفكرة متى قامت في ذهن الإنسان استطاع التعبير عنها بلغته إن كان متمكنا من هذه اللغة، وعاملا على رفعة شأنها.»
19
حياة اللغة أن تستعمل وموت اللغة ألا تستعمل ... الاستعمال يحيي ويميت.
مفتاح بسيط لمشكلة العربية، ولكنه عمومي شامل يسعفنا في مجال تقعيدها، وتعليمها، والتعلم بها. (5-1) في مجال التقعيد
التضخم علامة مرضية، هي دائما نتاج شيخوخة ونذير موت.
تضخم القوانين في التشريع،
وتضخم الطقوس في الديانة،
وتضخم القواعد في اللغة،
كلها تعبر عن ضمور الجوهر واللباب، وغلبة اللحاء والقشور،
وكلها دليل على الترهل والضعف،
وعبء على الحيوية،
وأذان بالزوال.
أسرف النحاة الأوائل في تضخيم قواعد اللغة وإثقالها بكل ما لا يفيد الاستعمال الحقيقي للغة: من حذف وتأويل وقياس واستتار وتقدير، فلا يخلص المرء إلى تعلم ما يفيده إلا وقد تعلم ما لا يفيده! يحكي الجاحظ أنه قال لأبي حسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال الأخفش: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إلي فيها ... وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت،
20
وقد تفطن ابن مضاء القرطبي لهذه المأساة منذ ثمانية قرون، ودعا إلى دراسة اللغة كما ينطقها العرب، لا كما تخيلها النحاة.
لسنا نتنازل عن درهم من زبدة اللغة، وإنما نريد إزالة هذا اللحاء اليابس المتراكم الذي يخنقها ويثقل على حاملها فيصرفه عن قشرها ولبابها معا، ليبقى جاهلا بها أبد الدهر.
ليكن مبدؤنا في استخلاص القواعد: كيف نستعمل اللغة كما استعملها العرب وكيف نربي السليقة ونكونها، لا كيف نحفظ ألاعيب النحاة ونخب في كل لون من التعليل والتأويل والتشذيذ ... إلخ مما لم يعرفه الأوائل سادة اللغة أنفسهم ولا خطر لهم في بال! نريد قواعد تعيد إلينا سليقة هؤلاء، أو سليقة قريبة من سليقتهم، نريد لغة نستعملها لا لغة تستعملنا!
وسأضرب مثالين على هذا اللحاء الثقيل الذي يمكن للطالب المبتدئ أن يستغني عنه دون أن يفوته شيء من زبدة العربية أو من منطق العرب:
أسلوب التعجب: من قبيل «ما أجمل السماء».
21
الإعراب القياسي الحالي:
ما: نكرة تامة بمعنى شيء عظيم.
أجمل: فعل ماض/جامد/مبني على الفتح/فاعله مستتر/وجوبا/تقديره هو/يعود على «ما».
السماء: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة.
يكفي هنا، كما يقول د. أحمد مختار عمر، أن يعرف الطالب شيئين: (1)
أن هذا الأسلوب يبدأ ب «ما» متلوة بكلمة على وزن «أفعل» يليها المتعجب منه. (2)
أن الكلمة التي على وزن أفعل، والمتعجب منه يكونان دائما منصوبين، (مع التجاوز عن أن الفتحة الأولى عند النحاة فتحة بناء والثانية فتحة إعراب؛ لأنه لا أثر لذلك في تصحيح النطق أو تقويم اللسان).
22
أسلوب لا سيما: مثل: «أكثروا من الضحك لا سيما خالد.»
في «تجديد النحو» يقول د. شوقي ضيف: «تكلف النحاة في إعراب صيغة لا سيما صورا كثيرة من التكلف البعيد، فقد ذهب أبو علي الفارسي إلى أن «سي» حال، وذهب ابن هشام في كتابه المغني إلى أن «لا» نافية للجنس، و«سي» اسمها، و«ما» زائدة، و«خالد» بعدها مضاف إلى سي مجرور، أو مرفوع على أنه خبر لمضمر محذوف أي «لا سيما هو خالد»، و«ما» حينئذ - إما موصولة وإما نكرة موصوفة بالجملة بعدها، وذهب بعض النحاة إلى أن «لا سيما» أداة استثناء وما بعدها منصوب. ويستخلص من هذه الآراء أن ما بعد «لا سيما» يمكن أن يكون مجرورا أو منصوبا أو مرفوعا، وإذن ففيم كل هذا العناء في الإعراب وما بعدها يجوز فيه الرفع والنصب والجر؟ طبيعي لذلك أن يلغى إعراب لا سيما من الكتاب».
23
وهكذا نختصر قاعدة لا سيما في كلمات أربع: «ما/بعد/لا سيما/مثلثة»
فلا يفوتنا شيء مما يتصل بالنطق العربي السليم،
24
وهكذا يتبين لنا أي نزيف للجهد يحيق بالطالب فيما لا طائل منه إلا النهج والدوار، وثأر لا شعوري من هذا العلم الثقيل وهذا الكتاب المضجر. (5-2) في مجال التعليم
توجز الدكتورة بنت الشاطئ أزمة تعليم العربية في فقرة مأثورة:
ليست عقدة الأزمة في اللغة ذاتها، العقدة فيما أتصور هي أن أبناءنا لا يتعلمون أن اللغة لسان أمة ولغة حياة، وإنما يتعلمونها بمعزل عن سليقتهم اللغوية، قواعد صنعة وقوالب صماء، تجهد المعلم تلقينا والتلميذ حفظا، دون أن تكسبه ذوق العربية ومنطقها وبيانها.
ويقول أ. إبراهيم اللبان عضو المجمع اللغوي: «... ويهمني أن أشير إلى حل خاص كرجل اشتغل بالتعليم في مصر وخارجها، وفي الشرق وفي إنجلترا: ذلك أن اللغة عادة؛ عادة لسانية، وعلماء النفس يقولون إن العادة تتكون بالتكرار؛ لذلك يجب أن يعاد النظر في أمر تعليم اللغة العربية، فهذا التعليم إذا اتجه إلى تكوين العادات المثالية بكل عناية أمكن تذليل الكثير من العقبات.» (مجلة المجمع، ج15، ص80)
وفي كتابه «مشكلة اللغة العربية» يقترح الأستاذ محمد عرفة إلغاء تعليم القواعد في المدارس الابتدائية، والتشديد على تعلم اللغة بالتكرار، والحفظ، والإكثار من المطالعة، وحفظ الكثير من أدب العرب.
25
وللأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني حديث شائق عن قصته مع النحو، يخلص منها إلى ضرورة تعليم اللغة كسليقة لا كعلم منفصل. والمازني من أساتذة النثر العربي في كل العصور، وهو شاعر أيضا ومؤسس مدرسة شعرية (مدرسة الديوان مع رفيقيه العقاد وشكري). يقول المازني: «كنت أقرأ ورقة الأسئلة (في الامتحان) وأترك النحو إلى آخر الوقت ثم أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. هذه كانت طريقتي، وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو، وأراني الآن أصبحت كاتبا، وكنت في زماني شاعرا كذلك، وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة النحو!»
26
ويحدثنا المازني عن الأسئلة التي كانت توجه إليه في الامتحانات الشفهية فيقول: «وشرع يسألني عن كلمة (العدوان) ما فعلها الثلاثي؟ ولماذا يقال اعتديا بفتح الدال للماضي واعتديا بكسرها للأمر؟ فلم أعرف لهذا جوابا؛ فقلت هكذا نطق العرب وعنهم أخذنا. فألح في طلب الجواب المرضي؛ فقلت إن اللغة نشأت قبل القواعد، وأنا أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدة أو حكما، فساءه جوابي ونهرني ...» ويقترح المازني أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو، وأن يتم وضع مختارات صالحة لكل سن، وإذا كان لا بد من النحو فليكن ذلك عرضا وأثناء القراءة وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم، وعلى ألا يكون ذلك درسا مستقلا يؤدى فيه امتحان. وينتقل المازني إلى نقد طريقة تدريس العربية فيقول: «أما الطريقة التي يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبة لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه.» ويعلق على طريقته المقترحة فيقول: «والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على خلاف ما هو حاصل الآن، فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم، وكثيرا ما يتفق أن يخرج التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية، وليس بعد هذا فشل والعياذ بالله.»
27
تعليم اللغة باستعمالها. تماما مثلما يتعلم الطفل لغة الحياة، وهي تطرق سمعه آناء الليل وأطراف النهار فيقلدها ويحاكيها، وكم ذا يقع في التعثر و«القياس الخاطئ» فيقوم بإعادة الصواب على سمعه وليس بتلقينه قاعدة صماء، وهكذا ينبغي أن يكون تعليم العربية بالمدارس: أن يقرأ التلميذ ويقرأ، ويسمع ويستمع، ويجول مستطلعا دهشا في النصوص الشائقة الممتعة. أن يبدأ بكل ما هو وظيفي تطبيقي عملي، ثم تأتي القواعد والأصول في المحل الثاني، ويأتي التنظير والحكمة في المرحلة الآخرة (مثل بومة منرفا لا تشرع في التحليق إلا عندما يحل الغسق)، هكذا تواتيه القاعدة وتسقط في يده كتفاحة ناضجة، فيراها بعينيه بعد أن كان يراها بأشواقه. «معرفة أن» و«معرفة كيف»
ثمة تمييز شهير في نظرية المعرفة بين «معرفة أن»
Knowing that
و«معرفة كيف»
Knowing how ، «فأن نعرف كيف نقود سيارة أو كيف نخبز كعكة الأناناس المقلوبة، أو كيف نقف على أيدينا؛ تلك معرفة كيف، أو المعرفة كمهارة أو مقدرة، ونحن عادة ما نعجز عن أن نعبر عنها بالألفاظ، فمثل تلك المعرفة تعلم بالتمثيل لا بالكلام، ويطلق على المعرفة حين نعني بها «معرفة أن» اسم «معرفة قضوية»
، ومن المفترض عامة أن المعرفة القضوية يمكن أن يعبر عنها لفظيا تعبيرا تاما، بعكس «معرفة كيف».»
28
وفي ضوء هذا التمييز الإبستمولوجي بين «معرفة أن» و«معرفة كيف»، يمكننا أن نقول بحسم: إن معرفة اللغة تنتمي إلى مقولة «معرفة كيف» أكثر مما تنتمي إلى «معرفة أن»: فتعليم اللغة ليس عرضا لكم من المعلومات أو القضايا
، ولكنه بالدرجة الأولى «مهارة». وإن تعليم النحو، كما يقول د. أحمد مختار عمر، لا يتحقق إلا إذا حول القاعدة إلى مهارة، ومكن الدارس من استعمال العبارات استعمالا سليما دون تفكير أو وعي بالقاعدة. وقد جاء عن ابن خلدون في «المقدمة» ما يشير إلى التفاته لهذه المسألة، وسبقه في كل ما هو تحليلي علمي. يقول ابن خلدون في الفصل الخمسين المعنون «في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربي ومستغنية عنها في التعليم»: «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية (أي هو معلومات عن الطريقة وليس الطريقة نفسها)، فليست نفس الملكة وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل ويعطي صورة الحبك والتثبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا، وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب، فيقول هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر، وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة، وهو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه، وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده؛ أخطأ فيها عن الصواب وأكثر من اللحن.»
29 (5-3) في مجال التعليم باللغة «لا توجد لغة يمكن أن تتهم - في ذاتها - بالقصور أو العجز؛ لأن أي لغة، على حد تعبير هلمسليف، «تملك القوة الكامنة للتعبير عن الحاجات الضرورية لأي حضارة ... بمعنى أنه لا توجد لغة يمكن أن يقال عنها إنها بدائية، أو إنها ناقصة التكوين.»
30
وليس هناك معنى لأن نقول: إن العربية عاجزة عن نقل العلوم بينما نحن لا نستخدمها في نقل العلوم ! فاللغة لا تنمو في فراغ، وإنما تنمو نتيجة نمو أصحابها، وتزداد ثروتها اللغوية بازدياد خبرات أهلها وتجاربهم، والدراسة النظرية وحدها لا تخلق لغة، وإنما يخلقها الاستخدام والممارسة، وربطها باحتياجات أهلها وخبراتهم وحياتهم العلمية واليومية.»
31
وقد أثبتت العربية قديما، وهي قريبة عهد بالبداوة وحياة الصحراء، قدرتها الهائلة على نقل العلوم والفلسفات وهضمها والإضافة إليها، وكم بالحري أن تكون قادرة اليوم على نقل العلوم بعد كل ما اكتسبته واختزنته، والعود أحمد. (6) الفرصة السانحة
مما يدعو للاستبشار ويجعل الإصلاح المنشود أمرا ممكنا أننا في كدحنا الإصلاحي المقترح إنما تظاهرنا قوة عارمة لم تكن تخطر ببال أحد من السلف: العولمة، وقوى العولمة وبخاصة وسائط الاتصال. من شأن هذا الاندماج الجديد أن يعكس السنن القديمة للتطور اللغوي! فلم تعد هناك «عزلة» تسبب انشعاب اللغة إلى لهجات ثم تبلور اللهجات إلى لغات منفصلة. تؤدي قوى العولمة على العكس إلى تقريب اللهجات ثم توحيدها في النهاية، ويبقى أن نسخر ذلك لخدمة فصحى جديدة تنشرها الفضائيات وتلقيها على سمع الناس بكرة وعشيا، فصحى قريبة من عقول الناس وقلوبهم، ومعايشة لعصرهم وجيلهم، ومترجمة لشئونهم وشجونهم، فصحى تسترفد العامية والأجنبية ولا تنفصل عنهما تمام الانفصال، فصحى يستعرب فيها كل جديد ابتلعته وهضمته وأحالته إلى كيانها وبنيتها، فصحى جديدة نتآزر جميعا على تأسيسها كما أسس دانتي الإيطالية، غير أنها لا تعزب عن فصحى التراث لأنها امتداد لعربية أصيلة تتطور من داخلها ولا تفقد جذرها الثلاثي أبدا، فصحى تفهمنا وتفهم حياتنا الجديدة العجيبة، ولا نزال نفهم بها حياة الأعشى والشنفري وتأبط شرا!
تذييل
مقدمة كتاب: تجديد لا تبديد
1
بقلم د. عادل مصطفى
العربية في أزمة؛ يجفوها أهلها ويهجرها بنوها، ولا يكاد يتقنها سدنتها وأحبارها.
العربية على فراش المرض، تعاني من تضخم في القواعد والأصول، وفقر في المصطلح، وعجز عن مواكبة الجديد ومجاراة العصر.
الداء واضح للعيان، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه، فبئس الدواء إنكار المرض، وبئس الحل إنكار المشكلة.
وقد رأيت الناس في هذا الأمر واحدا من اثنين: إما كاره للعربية بطبيعته ومستصعب بها وراغب في أن يسمع نعيها في أسرع وقت، وإما متزمت يريد أن يحنطها كما هي ويقف بها حيث وقف الأسلاف منذ أكثر من ألف عام، وفي الكتاب الذي بين يديك يخط الدكتور سليمان جبران طريقا ثالثا أكثر واقعية وحصافة ونبلا.
هذا الحزب الثاني، حزب الغلاة الغيورين المحافظين، ليس بعيدا في مآله عن الأول: يوشك تنطعهم القائم على أساس مغلوط ومصادرات باطلة أن يترك مركب اللغة يغرق بحمله، وتوشك العربية في قبضتهم المتشنجة أن تموت اختناقا.
ينسى المحافظون، هواة قل ولا تقل، أن اللغة ليست كيانا كلسيا نهائيا، إنما اللغة في سيولة دائمة، وفي تحول دائب وإن كان بطيئا لا يكاد يدرك إلا بمر العقود أو القرون. علوم اللغة كانت تقعيدا للغة في لحظة زمنية معينة، وفي لحظة أخرى ينبغي أن تكون هناك علوم أخرى.
ينسى هؤلاء أن اللغة في سيرورتها في الزمان تعتريها تغيرات كثيرة: منها التغير الصوتي والتغير النحوي والتغير الدلالي أو «السيمانتي».
2 (1) العربية لا هي عاجزة ولا معجزة
يقوم الدرس اللغوي العربي على مصادرة نهائية، سواء صرح بها أو لم يصرح، مفادها أن اللغة البشرية هبطت من السماء، وظهرت فجأة، بطريقة إعجازية خارقة، في لحظة زمنية واحدة، مستوية مكتملة، كما ولدت منرفا من رأس زيوس! اللغة عند هؤلاء هي «توقيف» أو وحي أو إلهام من الله، وحتى القلة من اللغويين العرب التي ذهب إلى أن اللغة «اصطلاح» أو عرف أو تواضع بين ثلة من الحكماء (من البشر أو غير البشر)؛ حتى هذه القلة
3
لا تحيد كثيرا عن فكرة التوقيف في صميمها ولبابها: فاللغة، بعد كل شيء، هي كيان نهائي ثابت محكم، خلاب الصورة مذهل البنيان، أتى بتدبير مدبر وفعل فاعل.
لم يكن العقل الإنساني في هذه المرحلة التاريخية من تطوره، لحظة تأسيس علوم اللغة، لم يكن قد تخلص بعد من آثار الشفاهية والبدائية وسذاجة الطفولة البشرية، كان عقلا قديما يهيمن عليه «باردايم»
4
قديم بائد، وما يزال يتلقط رواية من هنا وأسطورة من هناك يسد بها الثغرة وينفي الحيرة. وكان التاريخ عنده لا يتجاوز بضعة آلاف من السنين، ومن ثم لم يكن بوسع الإنسان في هذا التاريخ المقزم أن يصنع شيئا هائلا كاللغة؛ من هنا تنفذ الأسطورة وتستوي وتتربع.
وجه الأمر أن كفاح الإنسان على الأرض بدأ منذ ملايين السنين، كما تدلنا علوم الأنثروبولوجيا والجيولوجيا، وأن اللغة ظاهرة اجتماعية نشأت على رسلها كنتيجة حتمية للحياة في جماعة أفرادها يجدون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ وسيلة للتواصل والتعبير وتبادل الأفكار والخواطر، اللغة ظاهرة اجتماعية تظهر بظهور المجتمع وتتأثر بعاداته وتقاليده وطرائق سلوكه وتفكيره، وتخضع لسنن التطور الذي يخضع لها المجتمع، فترتقي بارتقائه وتنحط بانحطاطه.
لم يكن العرب نسيج وحدهم حين نسبوا لغتهم إلى قوة عليا خارقة وأضفوا عليها صفة الكمال وقالوا بأسبقيتها على بقية اللغات وبأفضليتها على سواها وباستحالة البيان بأي لغة أخرى، تلك هي «مركزية العرق» أو «المركزية الإثنية»
Ethnocentrism
التي تسم كل المجتمعات البشرية، وبخاصة في مراحل تطورها الأولى، وتحمل كل شعب على أن يغلو ويتشدد في أية عناصر يجدها خاصة به وحده ومميزة له عن الآخرين: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ ... هي الحق وغيرها الباطل.
الحق أن جميع الثقافات القديمة ذهبت إلى أن لغتها كانت هي اللغة الأولى، وكانت من صنع الآلهة، وكانت أفضل اللغات. يقول جالينوس: «لغة اليونانيين هي أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات تشبه إما نباح الكلاب وإما نقيق الضفادع»، وقد ذهب المصريون القدماء إلى أن اللغة الأولى هي اللغة المصرية، وأن أسلافهم الآلهة قد أنعموا بها على أهل مصر القديمة،
5
وكما قال أول فرعون مصري بإحضار اللغة للإنسان، كذلك قام الإمبراطور الصيني تين تسو، ابن السماء، بفعل الشيء نفسه. أما في اليابان فقد كانت الإلهة إماتراسو، إلهة الشمس، هي خالقة الإنسان ولغته، بينما قام إنليل بهذا الدور في الشرق الأوسط،
6
وقد ادعى اليهود أن لغة الرب ولغة الملائكة هي العبرية، وأن أول شيء كتب على صفحة السماء السابعة بيد الله هو حروف هذه اللغة، كما ادعى الفرس أن لغتهم ستكون لغة التخاطب في الجنة، وقبلهم قال السريان إن لغة أهل الجنة ولغة الحساب في الآخرة هي السريانية.
7
ليست العربية أم اللغات، ولا هي لغة مقدسة لا تتغير ولا تتبدل، ومثل هذه الدعاوى المتعصبة لا تخدم اللغة في شيء، بل تؤدي إلى جمودها وموتها، ومن جهة أخرى ليست العربية عاجزة، والحق أنه ليست هناك لغة عاجزة، وليس هناك معنى لقولك: «اللغة س عاجزة»، إنما العجز صفة لأصحاب اللغة، فاللغة مرآة أصحابها كيفما كانوا، وأنت حين تقول: «اللغة س عاجزة» تقع في «خطأ مقولي»
Category Mistake
خفي وتصف الأشياء بما لا توصف به. والصواب أن تقول «الجماعة ص عاجزة لغويا في اللحظة ن»، فإذا ما شب هؤلاء عن الطوق وأرادوا أن يرتقوا بقدراتهم الاتصالية والتعبيرية فلن يعجزهم هنالك أن يجدوا الغطاء الرمزي اللازم، ستواكبهم لغتهم في تطورهم وترتقي بارتقائهم، وليست العربية فاشلة في نقل العلوم، وإنما نحن من تحكمنا عقدة الفشل فنتردد في التعريب ونتهيب التجربة ونسوفها، لتبقى العربية في مجال العلوم ضامرة هزيلة، وتحقق النبوءة ذاتها: «العربية عاجزة عن نقل العلوم». (2) الترادف، غنى أم ثرثرة؟
في مقالة «الترادف: غنى أم ثرثرة؟» تجد تحليلا عميقا لنشأة الترادف في اللغة العربية واتساع مداه، ونقدا سديدا لأثره وجدواه، وأود أن أفيض بعض الشيء فيما أشار إليه المؤلف باقتضاب وهو يعرض لأسباب نشأة الترادف المفرط في اللغة العربية، أفيض في ذلك لا لشيء إلا لأنه يلقي الضوء أيضا على نشأة العربية الفصحى بصفة عامة: إن من أسباب الترادف عملية جمع المادة اللغوية على أيدي قدماء النحاة.
لقد قام قدماء النحاة بالخلط بين اللهجات العربية جميعا خلطا أدى إلى اضطراب القواعد اللغوية بصورة تصل إلى حد التناقض، وقدموا لنا في النهاية وصفا لا ينطبق على أي لهجة من اللهجات التي كان يتحدث بها العرب في ذلك الوقت. لقد كانوا يحتالون لجمع المادة اللغوية من كل سبيل، بالارتحال إلى البادية، وباستقبال البدو في الحواضر والأخذ عنهم، وهم في ذلك الأخذ لم يفرقوا بين قبيلة وأخرى، أو بين فرد وآخر، أو بين النثر (وهو اللغة المعيارية المنضبطة) والشعر (وهو المدلل بالضرورات والرخص)،
8
ولم يفرقوا بين المثقفين والأجلاف، وربما أخذوا عن النساء (كذا) والصبيان والمجانين دون تفطن منهم إلى وجود فوارق تركيبية ودلالية بين المستويات اللهجية ومستوى اللغة الفصحى، لعل هذا الخلط في الأخذ والتلقي كان من الأسباب التي أدت إلى اضطراب بعض القواعد، وإلى ظاهرة الترادف وكثرة المترادفات بدرجة غير معقولة، وإلى الاضطراب الواضح في أوزان الفعل الثلاثي وصيغه المختلفة، بل إن كثيرا من المواد التي استندت إليها أحكام قدماء النحاة هو من اختراع هؤلاء النحاة أنفسهم، ومن اختراع الأعراب نتيجة لضغط النحاة،
9
ونتيجة لما صار إليه أمر الرواية إذ أصبحت حرفة مكتسبة تدر على صاحبها دخلا وفيرا، فتحمله على أن يختلق الروايات من أجل الكسب المادي،
10
لقد آن لنا، كما يقول العلايلي في مقدمة «المعجم»: «أن نأخذ بمذهب الجد، وإلا وضعت العربية في الموضع القلق والمحل المتهافت والمضمار الضيق، وتبعة كل أولئك إنما تقع على كاهل اللغويين وحدهم حين وقفوا موقفا لا يحيد عما تواضعه سالفو اللغويين، من قوانين لم تكن في أولها إلا وهما خاطئا، أو نتيجة درس غير مستقيم ولا محقق، كأكثر ما نرزح تحته من تقاليد وعادات، لم تكن في الواقع البعيد الماضي أكثر من مغالط صيرها التاريخ عقائد.» (3) تصحيح الصحيح
يوشك هواة قل ولا تقل أن يغادروا الناس وهي لا تقول ولا تقول.
في فصل «تصحيح الصحيح» يعرض المؤلف لصنيع المحافظين هواة «قل ولا تقل»، الذين يؤذون العربية من حيث يريدون أن يصلحوها، يتكلف هؤلاء تسقط الأخطاء ويجعلون منه حرفة تذكرنا بتصيد الساحرات في القرون الوسطى، يتناسى هؤلاء ظاهرة التطور اللغوي والتحول الدلالي، ويعرضون الاستخدام الجديد على المحك القديم - المحك الخطأ، فاللغة هي، ببساطة، ما يقوله الناس، وما يقوله الناس يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة وتبدل الأحوال والأوضاع.
حين يشيع خطأ لغوي شيوعا تاما، وتختلف عليه حقب وعقود ، يتحول عنصره وتتبدل صفته، ويغدو قاعدة «بوضع اليد»، لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق، على أن باطن الأمر أعمق من ذلك: فما كان لهذا الخطأ أن يشيع كل الشيوع وينتشر كل الانتشار ويلقى كل القبول لو لم يكن يقدم للغة خدمة ما، ويفي للفكر بحاجة ما، ويملأ فراغا اتصاليا كان شاغرا قبله، ومن الخسران أن نضحي به ونفقد خدماته بدعوى الأخطاء الشائعة وحجة قل ولا تقل.
يقول لك المتزمت: قل «متحف» بضم الميم، فلماذا أباح العرب لأنفسهم تجنب اللفظة الثقيلة حتى لو جرت على القاعدة، بينما نجعل نحن ذوقنا مطية؟ والله ما أنا قائل إلا «متحف» الدارجة الرائجة المحكية صديقة لساني حتى لو شذت عن القاعدة، فما بالك إذا كانت «متحف»، في حقيقة الأمر، صائبة بقاعدة الاشتقاق الثانوي من «تحفة»؟! والشيء نفسه ينسحب على كلمة «تقييم»
Evaluation
التي يخطئها الغلاة ويردوننا أن نقول: «تقويم»؛ لأن الأصل الواو، فلا يورثنا تصويبهم إلا خلطا والتباسا مجانيا، ولا تدري أنعني من الكلمة: التصحيح أم العقاب أم حساب الزمن أم مواقع البلدان أم تحديد القيمة! وما بالك إذا كانت «تقييم» صحيحة بالاشتقاق الثانوي من «القيمة»؟
يقول لك الزميت لا تقل «هام» وقل «مهم»، أو لو كانت «مهم» ثقيلة الظل بل مضحكة في بعض السياقات؟ ثم تحقق في الأمر علميا فتجد أن لا خطأ هناك ولا خطية: فهناك فعلان «هم» و«أهم» والاثنان بمعنى أحزن وأقلق، فتكون «هام» و«مهم» (اسما الفاعل) كلتاهما صحيحة. (4) على هامش التجديد والتقييد
في هذا الفصل الذي يعد الفصل الرئيسي في الكتاب يقدم المؤلف خطرات ثاقبة وتطبيقات حية لأفكاره النظرية، ونماذج لما يجب أن يكون عليه العمل العلمي اللغوي كحارس للمسار وضابط لإيقاع التحول، وعاصم للغة من الجمود والتحجر، ومن التنكس أيضا والتحلل والميوعة، أنت هنا بإزاء لغوي خبير، باقعة حجة، محنك مجرب، عرك اللغة وسبر أغوارها وأفنى في درسها وتدريسها زهرة العمر، يرفدك بتحليلات موضوعية عميقة، وتخريجات أمينة سديدة، بعيدة عن خواطر الهواة الذين يتجرءون على اللغة ولم يمتلكوا أدواتها، فتفضحهم عجمتهم وترد عليهم ركاكتهم ذاتها وتكفي خصومهم الرد، وتجرح كل ما قيل منهم وكل ما سيقال. أنت، باختصار، أمام حكم من بيت اللغة، وشاهد من أهلها. (5) دفاع عن اللغة العامية (المحكية)
لعله أهم مقالات الكتاب، أو المقال المفتاح؛ لأنه يفتح لنا الطريق إلى الإصلاح اللغوي الواقعي، مؤلم هو في قراءته، لأنه يفتح جرحا أيضا، بل خراجا لا مفر من فتحه قبل أن نتحدث عن أي إصلاح لغوي حقيقي.
ينبغي أن نعترف أن محكيتنا هي لغة قائمة بذاتها، وأننا، من ثم، شعب «ثنائي اللغة»
Bilingual ! وأن التزمت وانغلاق باب الاجتهاد والتجديد عبر القرون هو ما أوصلنا إلى هذه الحال، لدينا لغة طبيعية هي المحكية (العامية)، ولغة أخرى، صناعية بمعنى ما، هي ما يسمى الفصحى، لا يتحدث بها أحد في حياته اليومية، وإنما هي مقصورة على الصحف والكتب والمؤتمرات والخطب المنبرية ونشرات الأخبار والأفلام التسجيلية، نسمعها، أو نكاد، كلغة أجنبية، ونكتسبها كلغة أجنبية، ونكتبها كلغة أجنبية.
نحن شعب معطوب لغويا قبل أي عطب آخر، فالطبيعي في كل المجتمعات الناطقة أن تكون الفصحى والعامية امتدادا ومتصلا واحدا فردا، يتدرج من اللغة اليومية البسيطة إلى اللغة الرسمية المركبة تدرجا سلسا لا خلجان فيه ولا صدوع ولا فجوات، بحيث إن الطفل ليدرس في معهده تلك اللغة نفسها التي يتحدث بها في الطريق، ويقرأ ويكتب باللغة نفسها التي يدهش بها ويضحك، ويحلم بها ويحب، أما نحن فذهننا منفصم مشطور بين لغتين بينهما قطيعة تاريخية وثأر قديم، إن بين عاميتنا وفصحانا هوة فاغرة، بحيث يصح أنهما لغتان منفصلتان، وأننا في واقع الحال شعب «ثنائي اللغة»، غير أنها ثنائية هولية شائهة: عاميتها هي المركبة المتطورة الحية الجريئة، وفصحاها هي الهزيلة الضامرة الذابلة المنطوية، وهي بهذا الوضع المقلوب ثنائية إفقار لا إثراء، ربما لذلك لا نبدع ولا نضيف، ولا نعرف لذة العمق وعزاءه، ربما لذلك نبغض لغتنا ونضحك منها، ونطرب لكل أعجمي ألكن، وننبطح لكي أجنبي أشقر، ونوشك أن نكفر بلغتنا ونعتنق لغة غيرنا ونكبرها ونتنفج بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، هذا هو العطب الصميم، ولا أحسبنا تقوم لنا قائمة ما لم نقتحم هذه المشكلة ونر فيها رأيا. (6) وصفة للإصلاح اللغوي
قلت: إن مقال «دفاع عن اللغة المحكية» يفتح لنا طريق الإصلاح اللغوي الواقعي، فليأذن لي الدكتور سليمان أن أنطلق من مقاله إلى ما أظنه الإصلاح الحقيقي الحصيف. تتلخص وصفتي في كلمة واحدة: «الاستعمال»، فإن استزدتني قلت «والاستعمال»، فما الخطب؟
اللغة، جوهريا
Ultimately ، استعمال، منشأ اللغة الاستعمال، واستواء اللغة بالاستعمال، وتطور اللغة في الاستعمال، تموت اللغة حين تهجر اللسان، نحن لا نستعمل العربية، وبمنطق «النبوءة المحققة لذاتها»
Self-Fulfilling Prophecy
فإننا نهملها فتذبل، ونستصعبها فتصعب، ونجفوها فتشحب وتنسحب، ولا يزال الناعي الكاذب ينعب حتى يصدق نعيه!
ثمة أشياء في الحياة، كاللغة (والديمقراطية، والحرية، والتعريب)، تأتي إلى الوجود مثل «درب هيدجر» الذي «يخط لا من أجل السير وإنما بفعله»! إنه طريق تعبده الأقدام نفسها، ومن ثم فلا وجه ولا مبرر ولا معنى لتسويف السير،
11
لا بديل لنا عن «السعي اللغوي»، أو «الكدح اللغوي»: أن نضع لغتنا على ألسنتنا، أن نستعمل لغتنا في كل مناشط الحياة، أن نعرب العلم ونوطنه في لغتنا،
12
فلا نكون عالة على غيرنا في القول؛ أن نلاحق كل جديد بالترجمة والتعريب، وأن نعجل بذلك ولا نتمهله (في التأني اللغوي الندامة كما يقول العفيف الأخضر) والأهم بعد ذلك أن نستعمل هذا المعرب والمترجم ونلح في استعماله حتى يهذبه الإلف ويصقله وينفي عنه النبوة المعهودة في كل طارف مستجد، فنستسيغه، ولا نعود نستوحشه وننفر منه (ذائقتك على ما عودتها)، ستقابلنا النتوءات والعقبات، ولن نعدم حلولا، سنشق الطريق بالسير نفسه، ونستخلص الدواء من الداء.
تعريب العلوم، ممارسة التصنيع والتحديث، ممارسة الإبداع العلمي والفكري والفني والشعري بخاصة (الشعر يغسل اللغة، يخلخل التراكيب، يفرغ الألفاظ من ماضيها ويعلمها أن تقول ما لم تتعود قوله ...)، ممارسة الحرية (وهذه وصفة أدونيس)،
13
كل أولئك خطوط علاجية مهمة لتجديد العربية وإصلاح حالها.
سنسلم، مرحليا، بثنائية اللغة، وعلينا أثناء سيرنا على درب العربية الجديدة أن نطاوع الضغطين: الخارجي (ضغط اللغة الأجنبية - الإنجليزية بخاصة)، والداخلي (ضغط اللغة المحكية - العامية)، أن نهادن، مرحليا، ونعترف بسلطان هاتين اللغتين ونتعامل معهما بود، ونسترفدهما بحيث تقترب لغتنا العربية من الثنتين وتفيد من مزاياهما، تأخذ عنهما وتستوعب وتتمثل، ثم تحيل إلى كيانها وبنيتها، مثلما فعلت على مر العصور السابقة على سيبويه والخليل. علينا أن نقرب الفصحى من المحكية (في الصحافة والإذاعة والفضائيات كالجزيرة، والإنترنت، وبقية الوسائط)، وأن نقرب المحكية من الفصحى، كما يحدث تلقائيا مع انتشار التعليم والثقافة، وكما يحدث حين نشجع الأدب المحكي الذي يماس الفصحى ولا يكاد يختلف عنها اختلافا نوعيا (مثل أغنيات أحمد رامي في السابق، وأشعار ماجد يوسف في الحاضر).
شيئا فشيئا ستنمو الفصحى وتنتعش، ولا تزال تذوب العامية في بطن الفصحى الجديدة حتى تتقلص الفجوة الفاصلة بينهما وتصبح الفصحى الجديدة لغة محكية لا تفارق اللسان، تصبح «لغة حية».
ثم علينا مواكبة التحول اللغوي أكاديميا، مع تقنينه وتقعيده أولا بأول، مثلما تفعل الأمم المتطورة لغويا، إنه ضبط لإيقاع التحول حتى لا تسير الأمور كيفما اتفق ويذهب القوم شذر مذر. «إن اللغة لفي سيرورة دائمة وتحول دائب، وهناك ألف سبب يلح على الألفاظ أن تخرج من جلدها وتكتسي معاني جديدة غير ذات صلة بمعناها القديم، وما دامت اللغة في تغير مستمر فمن الطبيعي أن تواكبها في ذلك علوم اللغة المنوط بها رصد الظاهرة اللغوية وضبط حركتها، وأن يكون نهج العلوم اللغوية توترا محسوبا بين «المعيارية» و«الوصفية»: معيارية تحفظ اللغة من التحلل والانهيار، ووصفية تفتح له آفاقا للتطور والارتقاء.»
14 (7) هل العربية لغة صعبة؟
لعل السؤال الصحيح في هذا المقام هو: هل هي صعوبة مجانية؟ صعوبة بلا مقابل؟! الحق أنها إن كانت صعبة فإنما هي الصعوبة الناشئة عن الثراء كما يقول د. مفيد أبو مراد، «والواقع أن العربية غنية جدا بفضل مؤهلات للغنى اللامحدود، أشهرها أربعة: (أ) الغنى الاشتقاقي ... حتى إن المادة اللغوية الواحدة (الجذر الثلاثي) يمكن أن يتولد منها عشرات بل مئات من المشتقات، التي لا يستعمل منها إلا جزء قليل، فهي أشبه برصيد مصرفي مفتوح، لك أن تبقيه على حاله الأصلي، أو أن تسحب منه ما تشاء، مستخدما وسائل متنوعة وأساليب عديدة للتنفيذ أو للإعمال. (ب) الغنى الجغرافي أو الأفقي، وينجم من تأثر اللسان بالبيئتين الطبيعية والاجتماعية، ونظرا لاتساع رقعة الناطقين بالعربية، والمتعاملين بها من مسلمين أعاجم ومستعربين غير مسلمين، فمن الطبيعي أن تتنوع أساليب النطق، والتراكيب التعبيرية، والاصطلاحات ... إلخ. (ج) الغنى التاريخي أو العمودي الناجم من تعاقب الاستعمالات والحضارات والمؤثرات. (د) الغنى الاقتباسي، بحيث يمكن توظيف ألفاظ عربية لتأدية معنى مضاف كالملاءة المصرفية، والبرق، والتحويلات ... أو إدخال ألفاظ أعجمية، تعرب فتجري مجرى المادة اللغوية العربية، كالفلسفة والفلم والفردوس والكلية والهدرجة والأكسدة ... إلخ، ومن الطبيعي أن يتعذر على طالب العربية أن يحيط بجماع هذه الثروة اللسانية المعجزة، ولكن أليس من الطبيعي أيضا أن يقصر الطالب همه اللساني على ما يعنيه من أمر اللغة، فيكتسب ما تيسر من عناصر المادة الأولية اللغوية وأوليات النحو والصرف، وأوليات البلاغة والعروض والألسنية؟ وهي عدة كافية لتوفير الحد الأدنى من التراكيب والمفردات الضروري له للتعامل مع محيطه الاجتماعي والمهني، وللتصرف باللسان كأحد أبنائه، بل كسيد من سادته، وهل يحتاج غير المتخصصين باللغة إلى أكثر من هذا؟!»
15
أما حركات الإعراب (أي اختلاف الحرف الأخير أو الأحرف الأخيرة في الكلمة حسب موقعها من الإعراب) ونجد مثله في اللاتينية وفي اللغات السامية القديمة وفي كثير من اللغات القديمة، فهو بغير شك صعوبة كبرى، غير أنه صعوبة مجزية، ووجوده في اللغة العربية يمنحها مزايا تعبيرية وطاقات بيانية وموسيقية هائلة، هل الموقع من الإعراب سوى موقع من المعنى؟ الإعراب يضمن تماسك المعنى فيتيح للعربية مراغما كثيرا للقيم الشكلية الدالة،
16
يتيح لها التقديم والتأخير (كأن عظامها من خيزران كما يقول مارون عبود)، ويتيح تبديل الصدارة والخلفية بما يقتضي الحال («الله أعبد» غير «أعبد الله»، معنويا وعروضيا)، وتيسير التقفية في الشعر وحشد الدلالة عند القافية بحيث تؤتي أثرا شعريا جماليا وتنتزع السامع من نفسه وترمي به في الوجد. إنه الخاصة البوليفونية الكامنة في العربية، والتي تجعلها مغردة بالطبيعة شعرية بالوراثة، وتسمح لها أن تتأود دون أن تنقصف، وتتمايد دون أن تنخسف، وتتيح لها أن تتراقص بليونة وأرجلها ثابتة على الأرض (بل لعله يتيح لها أن تكون أكثر دقة علمية وإبانة فكرية).
الكاتب بالعربية كالعازف على البيانو: لديه أكثر من اعتبار يراعيه في الوقت الواحد وأكثر من إصبع ينقرها في ذات اللحظة! إنه لأمر عسير وخطة صعبة، ولكنها صعوبة الثراء، صعوبة الجمال.
وحركات الكتابة صعوبة بلا ريب، ولكنا نعلم أنه بالنسبة للقارئ المتمرس لا لزوم للتحريك في أغلب الكلام، وأما لغير المتمرس فإن تقنيات الطباعة الحديثة قد حلت هذه المشكلة المزمنة من حيث لا نحتسب. العربية لغة تكتب على ثلاثة أسطر، وتقرأ مثلما تكتب (بمراعاة قواعد بسيطة) بدقة تامة وكمال عجيب.
والمثنى وتصريفاته وإعرابه صعوبة بلا شك تكاد تنفرد بها العربية، ولكن أليس «اثنان» عددا ذا وضع خاص؟ ثمة في الوجود علاقات لا تكون إلا «ثنائية»، وتنبئنا السيكولوجية الحديثة أن «الجماعة» تبدأ من العدد «ثلاثة»، أما «الاثنان» فليسا «جماعة» بأي حال، وفي العلاج النفسي الجمعي تمر الجماعة بمرحلة غير ناضجة تظهر فيها الثنائيات أو «الأزواج»
، ولا تصبح الجماعة جماعة بحق إلا بعد تلاشي هذه الثنائيات، الاثنان إذن تصنيف عددي قائم بذاته، واللغة التي تغطي ذلك دلاليا هي، على صعوبتها، لغة أكثر إبانة وأدق تصويرا.
صفوة القول أن العربية، بعد كل الذي قلناه عن منشئها العشوائي الغامض والملتبس، وعن «صناعيتها» و«لاطبيعيتها»، قد تجاوزت منشأها ولم تعد تنجرح بانجراحه،
17
هي لغة بديعة خلابة البنيان، وأنت مع العربية بإزاء وحش خرافي جسيم، لو أمكنك أن تروضه وتستأنسه لفعلت به الأفاعيل، هي ثروة طائلة تركها لنا الأجداد سادة الأرض في تجليهم، ومن السفه أن نتنازل عنها ببساطة. إنها بحاجة إلى هندسة إصلاحية «جزئية»
«فابية»
Fabian
لا إلى ثورة عارمة هادمة لا تبقي ولا تذر، بحاجة إلى العلاج لا البتر. بحاجة إلى أن نقتدي بالسلف في الخصلة التي جعلتهم سادة الأرض يوما، في روحهم الاجتهادية ذاتها وليس في أي شيء آخر، فنفكر مثلما فكروا، ونجتهد مثلما اجتهدوا.
لنعترف أن العربية تعاني من بعض الصعوبات المجانية، وأشهرها تمييز العدد، وبعض العيوب البنيوية مثل :
غياب خاصية اللصق الأفقي (التركيب أو إدخال الضمائم - البادئة واللاحقة أو البوادئ واللواحق)، وهي خاصية مهمة في لغة العلم والفكر.
عدم وجود كلمة تربط المضاف بالمضاف إليه، الأمر الذي يورث لبسا.
عدم السماح بأكثر من مضاف للمضاف إليه الواحد،
18
وهو عثرة بلا ضرورة.
تعذر النسبة إلى التسميات المركبة الطويلة ...
إلى غير ذلك من العيوب وأوجه القصور التي ينبغي أن نتناولها بالإصلاح والتعديل، ونجعل منها مادة للتجديد اللغوي ومضمارا للسعي الإصلاحي الحثيث، والتي يعرض هذا الكتاب لنماذج طليعية مهمة منها.
لا أتوقع ولا أنتظر أن يلبي شيوخنا المحافظون نداء التجديد، ومن يدري لعل وجود حزبهم الغيور المحافظ أن يخدم مسيرة التجديد ويعصمها من الميل والشطط!
عادل مصطفى
7 / 4 / 2009
من مراجع الكتاب ومصادره
د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1991. --- : من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط8، 2001. --- : موسيقى الشعر، مكتبة الأنجلو المصرية، ط6، 1988. --- : مستقبل اللغة العربية المشتركة، معهد الدراسات العربية العالية، مطبعة الرسالة، القاهرة، 1960. --- : في اللهجات العربية، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1952.
إبراهيم عبد القادر المازني: أحاديث المازني، الدار القومية للطباعة والنشر، 1961.
ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، 1999. --- : التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري، تحقيق ناجي القيسي، بغداد، 1962.
ابن خلدون: المقدمة، دار صادر، بيروت، ط1، 2000.
ابن رشيق: العمدة، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، 1972.
ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر، القاهرة، 1973.
ابن فارس: الصاحبي في فقه اللغة، تحقيق السيد أحمد صقر، مطبعة الحلبي، القاهرة، بدون تاريخ.
ابن مضاء القرطبي: الرد على النحاة، تحقيق د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1982.
ابن النديم: الفهرست، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1997.
أبو حيان التوحيدي: المقابسات، شرح وتحقيق حسن السندوبي، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006. --- : الإمتاع والمؤانسة، صححه وضبطه أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، بدون تاريخ.
حفني ناصف: الأسماء العربية لمحدثات الحضارة والمدنية، مطبعة جامعة القاهرة، 1956.
د. رمضان عبد التواب: «التطور اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه»، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1995. --- : بحوث في فقه اللغة، جامعة عين شمس، القاهرة، بدون تاريخ.
ر. ه. روبنز: موجز تاريخ علم اللغة، ترجمة د. أحمد عوض، عالم المعرفة، الكويت، العدد 227، نوفمبر 1997.
الزجاجي: الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، دار النفائس، بيروت، 1972.
د. زكريا إبراهيم: مشكلة البنية، مكتبة مصر، القاهرة، 1976.
د. الزواوي بغورة: «الفلسفة واللغة: نقد «المنعطف اللغوي» في الفلسفة المعاصرة»، دار الطليعة، بيروت، 2005.
ساطع الحصري: في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية، بيروت، 1985.
ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة د. كمال بشر، القاهرة، 1962.
د. سعيد حسن بحيري: المدخل إلى مصادر اللغة العربية، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000.
سعيد عقل: «غد النخبة»، في: «سعيد عقل: شعره والنثر»، المجلد الثاني، نوبليس، بيروت، 1991.
سلامة موسى: البلاغة العصرية واللغة العربية، سلامة موسى للنشر والتوزيع، القاهرة، ط3، 1964.
السيوطي (جلال الدين): المزهر في علوم اللغة، المكتبة العصرية، صيدا، 1987. --- : الأشباه والنظائر، حيدر أباد، ط2، 1359ه. --- : الاقتراح في علم أصول النحو، تحقيق أحمد الحمصي ومحمد قاسم، جروس برس، 1988.
شعبان العبيدي: النحو العربي ومناهج التأليف والتحليل، جامعة قاريونس، ليبيا، 1989.
د. شوقي ضيف: تجديد النحو، دار المعارف، القاهرة، ط5، 2003.
د. طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر (1938)، دار المعارف، القاهرة، 1993.
د. عادل مصطفى: «كارل بوبر: مائة عام من التنوير ونصرة العقل»، دار النهضة العربية، بيروت، 2002. --- : دلالة الشكل، دار النهضة العربية، بيروت، 2001. --- : «المغالطات المنطقية: فصول في المنطق غير الصوري»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2007.
عباس حسن: اللغة والنحو بين القديم والحديث، دار المعارف، القاهرة، 1966.
عباس محمود العقاد: اللغة الشاعرة، منشورات المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، بدون تاريخ. --- : أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، دار المعارف، القاهرة، ط6، 1988.
د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط5، 1981.
د. عبد الصبور شاهين: في علم اللغة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1988.
د. عبد الفتاح سليم: «موسوعة اللحن في اللغة: مظاهره ومقاييسه»، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 2006.
عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز في علم المعاني، صححه الإمام محمد عبده والشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، وعلق عليه محمد رشيد الرضا، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1998.
د. عثمان أمين: فلسفة اللغة العربية، المكتبة الثقافية، عدد 144، نوفمبر 1965.
علي أبو المكارم: تقويم الفكر النحوي ، دار الثقافة، بيروت، بدون تاريخ.
د. علي عبد الواحد وافي: فقه اللغة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1998. --- : اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1971.
د. فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي، مكتبة مصر، القاهرة، 1990.
الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، 1970.
فرديناند دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز، بيت الموصل، 1988.
قضايا معاصرة، الكتاب 17-18، دار قضايا معاصرة، القاهرة، 1997.
كامل صالح: «يوسف الخال: حياته ودعوته اللغوية»، دار الحداثة، بيروت، 1998.
د. لطفي عبد البديع: عبقرية العربية في رؤية الإنسان والحيوان والسماء والكواكب، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط2، 1986.
د. مجدي إبراهيم محمد إبراهيم: بحوث ودراسات في علم اللغة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 2004.
مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، جمهورية مصر العربية، 1980.
محمد بن سهل بن السراج: الأصول في النحو، تحقيق عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996.
محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي: اللغة، دفاتر فلسفية (5)، دار توبقال للنشر، المغرب، ط2، 1998.
محمد العدناني: معجم الأخطاء الشائعة، مكتبة لبنان ناشرون، ط2، 1980.
محمد عرفة: مشكلة اللغة العربية، مطبعة الرسالة، القاهرة، بدون تاريخ.
د. محمد عيد: أصول النحو العربي، عالم الكتب، القاهرة، ط5، 2006. --- : المستوى اللغوي للفصحى واللهجات، عالم الكتب، القاهرة، 1981.
محمد المبارك: فقه اللغة وخصائص العربية، دار الفكر، بيروت، 1968.
د. محمد محمد يونس علي: مدخل إلى اللسانيات، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004.
د. محمود فهمي حجازي: مدخل إلى علم اللغة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1978.
د. محمود فوزي المناوي: أزمة التعريب، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2003. --- : في التعريب والتغريب، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2005.
د. مراد وهبة: المعجم الفلسفي، دار مأمون للطباعة، ط2، 1979.
د. مصطفى جواد: قل ولا تقل، الدار العربية للموسوعات، بيروت، 2010.
The Cambridge Encyclopedia of Language. David Crystal, Cambridge University press, 2
nd
Edition, 1977.
Ernst Cassirer: Language and Myth, trans. Susanne Langer, Dover
Fred West: the Way to language: an Introduction. Harcourt., 1975.
John Lyons: Language and Linguistics, an Introduction, Cambridge University press, 1981.
Dante Alighieri: De Vulgari Eloquentia., Dante's semiotic workshop., free online library, Gale, Cengage Learning. 2009.
William James Earle: Philosophy of language, In: Introduction to Philosophy; McGraw-Hill, Inc., 1992.
صفحه نامشخص