مصر ليست أوروبا
ولا شك في أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية العامة في مصر، خصوصا من حيث التعليم ونوع الثروة العامة وتوزيعها، لا تشبه في كثير أحوال البلاد، التي نقل عنها الدستور المصري سنة 1923، ولا يجهل أحد أن هذا الدستور وضع في وقت بلغ فيه الخلاف بين المشتغلين بالمسائل العامة، والمشايعين لهم حد الفتنة؛ ولهذا كان من الواجب أن يفرق بين دساتير البلاد، التي عالجت النظام النيابي دهرا طويلا وبين ما يوضع لنا، بقدر ما يقتضيه اختلاف الشبه بين أحوالنا وأحوالها، كما كان من الواجب أن يجعل الدستور، بحيث لا تعلق به آثار الفتنة التي ولد في جوها.
ليس يعنينا، بل يعني التاريخ وحده، أن نعرف ماذا كانت هذه الغاية الأخيرة مما كان يمكن أن يحققها الذين وضعوا الدستور، وإنما الذي يعنينا أن نقرره هو أن دستور سنة 1923 لم يحقق في تلك السنين ما عقد عليه من الآمال من أنه خير ما تمتعت، وتتمتع به البلاد من صور الحكم وأكفلها بإقرار النظام والسلام، وتوجيه الأمور العامة إلى خير الغايات، على يد الصالحين لذلك، القادرين عليه.
أوتوقراطية الوفد البرلمانية!
والدليل على ما تقدم أنه منذ جرت الانتخابات لأول مرة استعملت في سبيل النجاح فيها طرق لم تألفها البلاد، ودعايات بعيدة عن أن تكون مقبولة في شرعة الدساتير، وأخرج كثير من أحكام قانون الانتخاب عن غرضه، وعن وضعه الأصلي، كما حدث ذلك في أحكام تزكية المرشحين، واستغل تاريخ النهضة لمصلحة فريق أحسن ذلك النوع من الاستغلال، فجاءت نتيجة الانتخابات، سواء في مجلس الشيوخ أو في مجلس النواب، موافقة لشهوات ذلك الفريق في الظفر بالغلبة، وقد تم له الظفر بحيث لم يترك مكانا لمعارضة قيمة، وفات الظافرون أنهم خالفوا بذلك مصلحتهم الحقيقية، كما خالفوا لب النظام البرلماني وجوهره، وأسست من ذلك اليوم في مصر «أوتوقراطية جديدة في صورة برلمانية»!
وأرادت تلك الأوتوقراطية أن تستديم لنفسها سلطانا أوتيته بفضل تلك الطوارئ العارضة، فكان أول ما اتجه إليه نظرها تحويل الانتخاب ذي الدرجتين إلى انتخاب مباشر، موهمة أن هذا النوع من الانتخاب هو خير نظام أخرج للناس!
وفي الحق أنه لا يمكن أن يوصف نظام من أنظمة الحكم بأنه خير الأنظمة، فليس في طبيعة أي نظام أن يكون صالحا لكل زمان ومكان ما دامت الأمم، بل الأمة الواحدة على توالي العصور هي ما نعرف من الاختلاف طباعا وعادات وأسباب حياة، حتى لقد قال بحق أحد الحكماء: «جرت سنة الاجتماع وطبائع الشعوب بأن الأنظمة مهما تبلغ من الكمال ليست في الواقع إلا حسابا وتقديرا، مرماه ونتيجته تفضيل أخف الضررين»!
والانتخاب المباشر إن شاع العمل به ليس في نظر محبذيه أنفسهم أكثر من صورة من صور الحكم، أفضى إليها تطور الأحوال الاجتماعية في أوروبا، وجعل منها ضرورة حاضرة من ضرورات النظام النيابي فيها، ومع ذلك فأهل الرأي في أمره على خلاف، وكثير ممن كتبوا في أزمة الأنظمة البرلمانية يؤثرون عليه نظام الانتخاب ذي الدرجتين، ويقولون: إنه «كالمرشح يعطيك ماء أشد نقاء وصفاء دون أن يغير ينبوعه.»
الأوتوقراطية في الحكم
لا أراني مسرفا إذا قلت إن فريق الأوتوقراطية كان قد جرب عدة مرات في الحكم، فأبدى فيها عجزا، وأوشك أن يلحق في كل مرة بالبلاد وسمعتها ضررا بليغا ... ذلك أنه لم يسلك في الحكم السبيل المستقيم، فقد شغل باستدامة أسباب النفوذ والسلطان لنفسه، وبتوفير وجوه المنافع لأنصاره والثأر من خصومه، عما يقتضيه الحكم من توفر على النظر في حاجات البلاد وضروب الإصلاح، وتضحية في سبيل إسعاد البلاد ورقيها.
صفحه نامشخص