إلى القارئ
نشأتي الأولى
في الوظائف الحكومية
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
اشتراكي في الجهاد الوطني
لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
لماذا حللنا مجلس نواب سنة 1925؟
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
صفحه نامشخص
دستور سنة 1930
عيوب في دستور سنة 1923
الملك فؤاد كما عرفته
تنازل الخديوي عباس عن العرش
طلقت الحزبية ...
مفاوضاتي سنة 1946
أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
الجلاء قبل المفاوضات
أثر الروس والمحافظين في المفاوضات
أميركا تدخل في الخلاف
صفحه نامشخص
لجنة الدفاع المشترك
بين الوفدين المصري والبريطاني
الباب المفتوح ...
أطماع الإنجليز في السودان
الحزبية تعرقل سير المفاوضات
استئناف المفاوضات
المسائل الكبرى في المفاوضات
مفاوضاتي في لندن
معاهدة صدقي - بيفن
وحدة الوادي في المفاوضات
صفحه نامشخص
ردي على المعارضين
ختام المفاوضات
بحث مقارن
إلى القارئ
نشأتي الأولى
في الوظائف الحكومية
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
اشتراكي في الجهاد الوطني
لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
صفحه نامشخص
لماذا حللنا مجلس نواب سنة 1925؟
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
دستور سنة 1930
عيوب في دستور سنة 1923
الملك فؤاد كما عرفته
تنازل الخديوي عباس عن العرش
طلقت الحزبية ...
مفاوضاتي سنة 1946
أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
صفحه نامشخص
الجلاء قبل المفاوضات
أثر الروس والمحافظين في المفاوضات
أميركا تدخل في الخلاف
لجنة الدفاع المشترك
بين الوفدين المصري والبريطاني
الباب المفتوح ...
أطماع الإنجليز في السودان
الحزبية تعرقل سير المفاوضات
استئناف المفاوضات
المسائل الكبرى في المفاوضات
صفحه نامشخص
مفاوضاتي في لندن
معاهدة صدقي - بيفن
وحدة الوادي في المفاوضات
ردي على المعارضين
ختام المفاوضات
بحث مقارن
مذكراتي
مذكراتي
تأليف
إسماعيل صدقي
صفحه نامشخص
إلى القارئ
عندما طلب مني «المصور» نشر هذه المذكرات لم أكن دونت منها شيئا؛ لأني لم أهتم بنفسي طول حياتي، ولم أفكر في أن أدون مذكرات لي، أو - على الأصح - لم يكن لدي من الوقت فسحة لأن أكتب عن نفسي، أو أجمع صورا لصباي وشبابي وكهولتي، وما اشتركت فيه من أحداث على نحو ما يفعل البعض، إلا ما سجلته لي الصحف؛ لأن هدفي في الحياة أن أعمل في الميادين العامة، وأن أؤدي واجبي، وأصرف نشاطي فيما ينفع وفيما يعود بالخير على المجموع؛ ولهذا طويت خمسين عاما في هذه الميادين دون أن أجلس إلى مكتبي لأكتب عن حياتي، وأشغل الناس بشخصي.
لكن حياتي العامة هي مادة من حياة الأمة التي خدمتها طيلة هذه السنين ... وقد يكون في تدوين حوادثها ما يساعد المؤرخ الذي يريد تحقيق تاريخ مصر الحديث، ويكشف اللثام عن أسرارها؛ لأني اشتركت في الكثير من الأحداث الكبرى، وفي مراحل التطور المصري منذ فجر القرن العشرين إلى اليوم ... وقد اعتاد رجال الغرب أن يدونوا مذكراتهم، واعتبروها فرضا على الجيل الحاضر للأجيال المقبلة، وجزءا متمما لتاريخ الأمة ... ولذلك استجبت لدعوة «المصور»، وبدأت أملي هذه المذكرات بقدر ما تسمح به الذاكرة، وأنا جد حريص على تدوين الحقائق.
إسماعيل صدقي
نشأتي الأولى
ولدت في 15 يونيو سنة 1875 بالإسكندرية في عهد الخديو إسماعيل، فأنا الآن في الخامسة والسبعين من عمري، وقد مرت هذه السنون بحوادثها الكثيرة، سريعة شأن كل زمان، على نحو ما قال المرحوم أحمد شوقي بك:
إن سبعين تقضت
لم تكن غير ثوان
هي كاللحظة إن قي
ست إلى عمر الزمان!
صفحه نامشخص
وكان إسماعيل صديق باشا المفتش، ووزير الخديو إسماعيل وقت ولادتي، في أوج مجده وسلطانه، فسماني والدي باسمه، كما هي عادة الناس حين يسمون أبناءهم بأسماء العظماء والوزراء المشهورين، وهو اسم يجمع بين اسمي الخديو، ووزيره المعروف ...
وحدث بعد ذلك بقليل أن غضب ولي الأمر على وزيره، كما غضب هارون الرشيد على جعفر البرمكي، وعبثت به الأيام، ووقعت الواقعة، وذهب ولم يعرف إلى أين ذهب، فخشي والدي أن يكون في اسمي وقتئذ ما يشعر بولائه للوزير المنكوب، فأسرع بتحويره من «إسماعيل صديق» إلى «إسماعيل صدقي»!
ومن ذلك العهد عرفت بهذا الاسم.
والدي ... ووالدتي
نشأت في بيت مصري، بل في بيت من صميم الريف المصري، اشتغل منذ أواسط القرن التاسع عشر بالحكم وسياسة الدولة، وكان أفراده على حظ من العلم والتعليم والثروة والجاه، فكان والدي «أحمد شكري باشا» من كبار رجال الحكومة في عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق، وكانت والدتي «فاطمة هانم» كريمة محمد سيد أحمد باشا رئيس ديوان الأمير محمد سعيد باشا ابن الأمير محمد علي باشا الكبير.
وقد درس والدي في مدرسة القلعة، وتلقى فيها علم الإدارة الملكية «الحقوق»، ثم انتخب للسفر إلى فرنسا في أول بعثة أرسلها الأمير سعيد باشا للتخصص في العلوم السياسية، وكان عدد أعضاء هذه البعثة واحدا وعشرين تلميذا، ومن زملائه فيها محمد راتب باشا سردار الجيش المصري المشهور في عهد الخديو إسماعيل، والقائد أحمد راشد حسني باشا ويوسف النبراوي باشا.
وهو من بلدة الغريب التابعة لمركز زفتى، ولما أتم دروسه في فرنسا عاد إلى مصر سنة 1861 والتحق بخدمة الحكومة، وتقلب في وظائفها إلى أن أصبح محافظا للقاهرة، فوكيلا لوزارة الداخلية، ومن الوظائف التي تقلدها «مدير إدارة عموم السودان وملحقاته» أيام الثورة المهدية. وكانت هذه الوظيفة موجودة حتى ذلك الحين، وقد تقلد منصب مدير أسيوط، وأحيل إلى المعاش وهو وكيل للداخلية، وظل به عشر سنوات، ثم أدركته الوفاة سنة 1895.
سعيد باشا يعتقل جدي!
كان جدي محمد سيد أحمد باشا «أبو والدتي» وابن عم أبي من أصحاب المكانة والحظوة عند الأمير سعيد باشا، وكان يجيد اللغة العربية إلى جانب إجادته التركية، ويعتمد عليه سعيد باشا في تحرير رسائله الرسمية والخاصة، وكان يسكن قصرا فخما بشبرا، وعنده من الخدم والحشم الكثيرون، وأذكر أني رأيت في طفولتي بهذا القصر ثلاثين جارية سوداء، وثلاثين جارية بيضاء، عدا الطهاة والخدم الآخرين، بعضهم ممن يسمونهم المماليك وهم من أصل شركسي.
وكان الأمير سعيد باشا يؤثر جدي بالكثير من عطفه ورعايته، فأثار ذلك كوامن الحقد والحسد في نفوس بعض رجال الحاشية. وكان الأمير مع طيبة قلبه، وميله للخير ضعيف الإرادة، كثير التقلب والتردد، ينصاع إلى آراء مخالطيه، سريع التأثر بما يسمعه، سريع الغضب، قريب الرضا ... وحدث أن وشى عنده أحدهم بجدي، فغضب عليه ذات يوم، وهو لم يعرف لماذا غضب، ولكنه يعرف أنه فوجئ بالقبض عليه واعتقاله في قلعة أبي قير بلا تحقيق، فمكث معتقلا بها تسعة أشهر، حتى أشفق عليه أصدقاؤه ومريدوه، وظنوا أن الأمير لكثرة مشاغله قد نسيه في معتقله، فأوعزوا إلى نجليه الصغيرين: «أمين والد عباس سيد أحمد باشا»، ومحمود، بأن ينتظرا سمو الأمير عند خروجه من القصر، ويرتميا على قدميه ضارعين له بأن يفرج عن أبيهما.
صفحه نامشخص
وذات يوم خرج سموه من قصر رأس التين، وحوله رجال الحاشية، فتقدم الصبيان، وارتميا على قدميه يقبلانهما، ويتلمسان العفو عن أبيهما المعتقل، فسأل سعيد باشا عن أمرهما فقيل له: إنهما نجلا محمد سيد أحمد بك «باشا»، فاستدرت حالة الصبيين عطفه، فأمر توا بالإفراج عنه!
بركة غطاس
كان جدي جالسا في القلعة لا يدري شيئا مما حدث وقد بلغ به اليأس مبلغه، وإنه لكذلك إذا برسل الأمير يأتون إليه ويطرقون معتقله، فأوجس منهم خيفة، ولكنهم ما لبثوا أن بشروه بعفو الأمير، وأمروه بأن يذهب لمقابلته بقصر رأس التين.
خرج سيد أحمد باشا مغتبطا بهذا العطف الكريم، وذهب لتقديم الشكر لسمو الأمير، فقابله سموه مقابلة حسنة، وشمله برعايته، ومنحه «حجة» تتضمن تبرع سموه له بضيعة من أملاكه الخاصة بمديرية البحيرة مساحتها تسعمائة فدان في «بركة غطاس»؛ أي عن كل شهر قضاه في المعتقل «مائة فدان» ...! وهذه الضيعة هي التي أقضي فيها بعض أوقات راحتي إلى الآن ...!
وبمناسبة «بركة غطاس» أذكر أنني قرأت في مذكرات نابليون أنه عند مغادرته لمصر في نهاية الحملة الفرنسية بات فيها تلك الليلة، التي سبقت يوم إقلاعه من البلاد المصرية إلى فرنسا.
دخولي مدرسة الحقوق
كانت الثقافة الفرنسية هي أولى الثقافات الأجنبية التي يقبل عليها الناس في ذلك الحين، ولما كان والدي قد أتم دراسته في فرنسا، وتثقف بثقافتها، فكان طبيعيا أن يختار لنجله هذه الثقافة، فأرسلني في السادسة من عمري إلى مدرسة الفرير، فكان لها الفضل في إتقاني للغة الفرنسية، وقد مكثت بها حتى حصلت منها على «البكالوريا» سنة 1889.
ولما لم تكن المدارس الأجنبية تعنى بدراسة العربية يومئذ عنايتها بها في الوقت الحاضر، فقد كنت أشعر بقصوري في هذه اللغة أثناء وجودي بها، حتى إذا انتقلت منها إلى مدرسة الحقوق بدأت عنايتي بإتقان اللغة العربية، خصوصا وقد كان من أساتذتي بعض فطاحل هذه اللغة وآدابها أمثال المرحومين حفني بك ناصف، وسلطان محمد بك.
وعلى ذكر التحاقي بمدرسة الحقوق، أذكر هنا فضلا للمرحوم علي مبارك باشا ناظر المعارف، فقد كانت سني وقت حصولي على «البكالوريا» لا تتجاوز الرابعة عشرة، وكانت السن القانونية للملتحقين بالسنة الأولى في هذه المدرسة لا تقل عن الخامسة عشرة، فكان القانون يقضي بحرماني من دخولها حتى أبلغ هذه السن، فلما اتصل ذلك بناظر المعارف أذن باستثنائي من هذه القاعدة، وأصدر أمرا خاصا بقبولي في هذه المدرسة.
مع مصطفى كامل
صفحه نامشخص
دخلت مدرسة الحقوق، وكان من زملائي في «الفصل» محمد توفيق نسيم وأحمد لطفي السيد، ومن زملائي في المدرسة مصطفى كامل، وعبد الخالق ثروت.
وكنت وتوفيق نسيم طول سني الدراسة نتناوب الأولية في الامتحانات، فسنة أكون الأول وهو الثاني، وأخرى بالعكس، حتى كان امتحان ليسانس الحقوق سنة 1894 فظفرت بالأولية، وكان ترتيبه الثاني.
وقد اشتغلت بالصحافة أثناء دراستي بهذه المدرسة، فحررت مع مصطفى كامل في مجلة «المدرسة» التي أنشأناها، ثم أنشأت مع لطفي السيد مجلة «الشرائع»، وهي مجلة قانونية فكنت أحرر فيها فصولا في القانون والاقتصاد، وكنت ميالا بطبعي إلى المسائل الاقتصادية.
الهتاف بالدستور
وأذكر أنني وأنا بالسنة الثالثة بالحقوق اشتركت مع مصطفى كامل في تنظيم مظاهرة للطلبة للمطالبة بمنح البلاد الدستور، فاجتمعنا أثناء مرور الخديو عباس حلمي أمام المدرسة، وكانت وقتئذ في بنائها بشارع عبد العزيز، فحييناه، وهتفنا منادين بالدستور فلم يغضب الخديو لهذه المظاهرة، ولا لهذا الهتاف، بل ابتسم ورد التحية، واعتبر ذلك تشجيعا خفيا من سموه للطلبة، وللحركة الوطنية التي كان يرعاها.
وقد كان الخديو عباس في ذلك الحين شابا ميالا لتشجيع الشباب، وقد طبع على تشجيع الحركة الوطنية؛ ولذلك لم يكن غريبا أن يبتسم، وألا يغضب، بل على العكس كان يرى في تقوية الحركة الوطنية تقوية لعرشه، وتدعيما لسلطته الشرعية، إذ كان الهدف هو جلاء المحتلين عن مصر، وحصولها على حريتها واستقلالها.
وكذلك نشأنا ونحن طلبة نشعر بأن واجبنا الأول حب وطننا وخدمة بلادنا، وحب الوطن يكون بشيئين: (1) أن نتمسك بحقوقه ونسعى للحصول عليها. (2) وأن نعمل لتحصيل العلم لنكون جديرين بالاستقلال، بل لنصل بالعلم إلى الاستقلال الحقيقي.
في الوظائف الحكومية
تخرجت في مدرسة الحقوق سنة 1894، ومع أني كنت أول فرقتي فقد عينت في وظيفة كاتب بالنيابة بمرتب خمسة جنيهات!
وكان النائب العمومي في ذلك العهد مسيو لوجريل، وكان وكيله مصريا معروفا بوطنيته وسمو أخلاقه يدعى حسن عاصم بك «باشا»، فمكثت بهذه الوظيفة زمن التمرين، ولم أستنكف من ممارستي لوظيفة صغيرة يمارسها من هم أقل مني تعليما وثقافة، بل كانت لي تجربة من تجارب الحياة التي لا بد منها.
صفحه نامشخص
وكان صديقي وزميلي عبد الخالق ثروت الذي كان يسبقني بسنة قد عين سكرتيرا للجنة المراقبة القضائية، وسكرتيرا للمستشار القضائي، وكان مرتبه 15 جنيها، فنقلت بمساعدته إلى هذه اللجنة بمرتب «ثمانية جنيهات»، فقضيت في هذه الوظيفة سنتين لم يزد مرتبي فيهما شيئا، ولم أتبرم بالحياة على الرغم من أن هذا المرتب لم يكن يكفيني. ثم عينت في بلدة إيتاي البارود في وظيفة مساعد نيابة بعشرة جنيهات، وكنت أسكن منزلا بسيطا أعيش فيه عيشة متواضعة، مع ثلاثة غيري من خريجي الحقوق أحدهم صديقي الأستاذ عزيز بك خانكي، ونقلت منها إلى طنطا، ثم إلى المحلة، ثم عدت إلى طنطا.
كانت هذه التنقلات في هذه البلاد الريفية بلا ترقية، وبمرتب لم يزد عن عشرة جنيهات خلال أربع سنوات. ومع ذلك لم أضق بنفسي معتمدا على الله وعلى انتهاز الفرص!
من 10 جنيهات إلى 30 جنيها
وذات يوم كنت واقفا في محطة طنطا، فسمعت صوت محمد سعيد بك «دولة سعيد باشا رئيس الوزارة فيما بعد» يناديني، وكان وقتئذ رئيس نيابة الإسكندرية، وعضوا في مجلس البلدية بهذه المدينة بحكم وظيفته، فعرض علي أن أنقل معه بالإسكندرية في وظيفتي التي أشغلها بطنطا، فوافقت، ونقلت في وظيفة «مساعد نيابة» وبمرتبي وهو عشرة جنيهات.
وبينما كنت أقوم بعملي يوما قرأت إعلانا في الجرائد أن وظيفة سكرتير إداري مجلس بلدية الإسكندرية، ورئيس قسم القضايا فيها معروضة لمسابقة بعد عشرة أيام، ومرتب هذه الوظيفة ثلاثون جنيها في الشهر، فتقدمت إلى هذه المسابقة، وكان سني وقتئذ 23 عاما، وقد تقدم فيها أكثر من خمسين شخصا أكثرهم من المحامين الأجانب، وكان موضوع المسابقة الكتابة باللغة الفرنسية فيما يأتي: «هل الأفضل أن تكون مواصلات المدينة في يد الحكومة أم في يد شركة أهلية؟!»
فكتبت في هذا الموضوع بإسهاب، ورجحت أفضلية الإدارة الأهلية؛ لأنها تؤدي إلى إتقان العمل والشعور بالمسئولية، وبينت أيضا وجهة النظر الخاصة بإدارة الحكومة كما فصلت كلتا النظريتين.
وفي اليوم التالي لهذه المسابقة سمعت أن اللجنة أعجبت بكتابتي، وأوصت بتعييني في الوظيفة، وبذلك ارتفع مرتبي من عشرة جنيهات إلى ثلاثين جنيها ...!
مقتل بطرس غالي باشا
مكثت في هذه الوظيفة عشر سنوات عينت خلالها سكرتيرا عاما للبلدية يحل محل المدير عند غيابه، وقد كانت مدة وظيفتي كسكرتير لمجلس البلدية مدة أفادتني الشيء الكثير وساعدتني على شق طريقي بعد ذلك، فما البلدية إلا حكومة مصغرة تشمل كل فروع الإدارة التي لها نظائر في الحكومة، وكانت سنة 1908 فاختير محمد سعيد باشا وزيرا للداخلية في وزارة بطرس غالي باشا، وكان سعد زغلول وزيرا للمعارف في هذه الوزارة، وحسين رشدي وزيرا للحقانية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وفخري باشا للمالية، وبطرس باشا للرياسة والخارجية.
كانت سني وقتئذ 33 عاما، وكان محمد سعيد باشا يوليني ثقته وصداقته، فأنشأ في الداخلية منصب سكرتير عام الوزارة، ونقلني إليه، وأسند إلي اختصاصات الوكيل، وبذلك أصبحت رئيسا لكبار الإنجليز التابعين للداخلية كمدير السجون، ومدير مصلحة الصحة والبلديات، وكان لهذه الوزارة مجالس منها المجلس الأعلى للبلديات، وكان ينعقد تحت رياستي، فكبر على هؤلاء الإنجليز أن يحضروا جلسات المجلس على هذا الوضع بعد أن كنت مرءوسا لبعضهم، فلما حان موعد الجلسة الأولى بعثوا بوكلائهم لحضورها، وأدركت ما يرمون إليه، فأجلت الجلسة لهذا السبب، وحددت موعدا آخر وبعثت إلى كل منهم بخطاب لحضور الجلسة القادمة .
صفحه نامشخص
وكان مستشار الداخلية وقتئذ رجلا يدعى «مستر شتى»، وكان من عقلاء الإنجليز، يحب صداقة المصريين، ويميل إلى تشجيعهم، ويرى في هذه السياسة مصلحة لإنجلترا، فاجتمعت به، وأخبرته بما حدث وهددت بالاستقالة إن لم يحضر هؤلاء الموظفون جلسة المجلس القادمة التي حددتها، فاهتم الرجل بالأمر، وبعث إليهم ولامهم على ما فعلوا، ومن ذلك اليوم لم يتخلفوا عن حضور الجلسات.
قضيت سنتين في هذه الوظيفة، وفي 20 فبراير سنة 1910 كنت جالسا ظهرا بمكتبي، فأخطرت بمقتل رئيس الوزارة بطرس غالي باشا على سلم وزارة الخارجية بمبنى وزارة الحقانية.
أشفقت من خطر هذا النبأ، ووقع عندي موقعا سيئا، وأسرعت إلى مكان الحادث، فوجدت الرئيس منطرحا في فناء الوزارة، وحوله حسين رشدي باشا وعبد الخالق ثروت باشا النائب العام، وأحمد فتحي زغلول وكيل الحقانية. ووجدت إبراهيم الورداني، وقد قبض عليه، واستدعي الدكتور سعد الخادم، فأخذ يسعف الجريح وكان في النزع الأخير، فحمل إلى مستشفى الدكتور ملتون.
ويلخص الحادث في أن بطرس باشا اعتاد أن يخرج من النظارة في الساعة الواحدة بعد الظهر، فخرج في ذلك اليوم، وكان يصحبه حسين رشدي باشا، وثروت باشا وفتحي زغلول باشا، ثم فارقهم عند السلم الخارجي، وعندما هم بركوب العربة دنا منه الورداني متظاهرا بأنه يريد أن يرفع إليه عريضة، وأطلق عليه رصاصتين، وما كاد يلتفت حتى أطلق عليه أربع رصاصات، فسقط مضرجا بدمائه بجوار عربته، وحمل إلى داخل الوزارة.
وكان محمد سعيد ناظر الداخلية «وزير الداخلية» قد ركب قطار الظهر إلى الإسكندرية؛ ليقضي راحته الأسبوعية، فاتصلت توا بمحمد محب باشا مدير الغربية إذ ذاك، وطلبت إليه أن يبلغه بالحادث عند وصوله إلى طنطا ليعود إلى القاهرة فورا ... ففعل.
وقد عز على الخديو عباس أن يقتل رئيس وزرائه، لما كان يتمتع به من ثقته ومحبته، وذهب إلى المستشفى يستفسر عن حالته، ودخل عليه في غرفته وقبله في وجهه والدموع تملأ عينيه، وكان المصاب قد تنبه قليلا، فجعل يقول: العفو يا أفندينا ... متشكر ... العفو يا أفندينا ... متشكر ...!
وأجريت له عملية جراحية، ولكن لم تأت الساعة الثامنة مساء حتى قضى نحبه ...
وزارة محمد سعيد
جلست في تلك الليلة - ليلة وفاة رئيس النظار - مع محمد سعيد باشا في منزله، فقال لي: والله طارت الوزارة يا إسماعيل ...!
فقلت له: بالعكس ... فإنني أتنبأ بأنك رئيس النظار المقبل ...
صفحه نامشخص
وقد حدث في اليوم التالي ما تنبأت به، فعهد إليه الخديو عباس تأليف الوزارة الجديدة، فكان هو للرياسة والخارجية والداخلية، وأحمد حشمت باشا للحقانية، ويوسف سابا باشا للمالية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وخرج سعد زغلول باشا وفخري باشا من الوزارة.
وعين نجيب غالي نجل بطرس باشا وكيلا للخارجية، وأنعم عليه بالباشوية، وعينت أنا وكيلا للداخلية، وأنعم علي بالباشوية أيضا، وألغيت وظيفة السكرتير العام لهذه النظارة.
كتشنر وخطابه أمام الخديو
كان السير الدون غورست في ذلك الحين معتمدا لبريطانيا في مصر، وقد ساءت صحته في أواخر عهده، فتوفي يوم 13 يوليو سنة 1911، وجاءتنا الأنباء على إثر وفاته بتعيين اللورد كتشنر في مصر خلفا له، وكان وقتئذ في لندن، فأثار تعيينه قلقا في الدوائر السياسية والوطنية؛ لأنه كان رجلا عسكريا، جاف الطبع، ويميل إلى التدخل في شئون مصر الداخلية.
وقبل حضوره إلى مصر في سفينة حربية أرسلت الوكالة البريطانية صورة من الخطاب الذي كان ينوي إلقاءه أمام الخديو، وإذا به يشتمل على معان تفيد رغبته في التدخل في صميم شئون مصر.
كان هذا الخطاب غريبا ومحرجا للخديو وللوزارة، فدعا محمد سعيد باشا رئيس الوزارة حسين رشدي باشا وسعد زغلول باشا في منزله برمل الإسكندرية؛ للتشاور فيما يكتب للرد على المعتمد البريطاني، ثم استدعاني سعيد باشا فذهبت إليه، وأخذنا نتشاور في الأمر لمعالجة الموقف بطريقة لا تضر مصلحة البلاد، ولا تحملها فوق ما حملت من أعباء الاحتلال وسياسة المحتلين ... وكلفني سعيد باشا بكتابة الرد، فوضعته بالفرنسية، وكان هذا الرد هو الذي ألقاه الخديو، واشتمل على كل ما اقتضته الحال من بيان لموقف مصر فيما يختص بمحافظتها على كيانها الداخلي.
كتشنر يهدد الخديو بالعزل
على الرغم من رفضنا لتدخل اللورد كتشنر، وخطابه الذي ألقاه أمام الخديو، فإنه كان لا يأبه بذلك، وكان يتدخل في شئون مصر الداخلية، وقد كان تدخله مقصودا لمحاربة الخديو وتوطيد سياسة الاحتلال، وأذكر أنه على إثر تعيينه كتبت جريدة المورننج بوست تقول:
إن اللورد كتشنر قد عين في هذا المنصب؛ لأنه من أعظم الذين وضعوا أساس مركزنا في مصر، واشتغل في عمل عظماء رجال الإدارة الذين كانوا قبله ... إن مهمة اللورد كتشنر أن يعيد النظام، وأن ينشر التمدن مع محو الارتباك، وإيجاد حكومة جديدة ...
والحقيقة أن الرجل كان ينزع إلى الإصلاح، ولكنه يتخذ الإصلاح وسيلة لتدعيم الاحتلال، ونشر النفوذ البريطاني في البلاد.
صفحه نامشخص
وكانت الأوقاف الأهلية وقتئذ تابعة لديوان يدعى «ديوان الأوقاف»، ولم تكن «نظارة» لها ناظر مسئول، بل كانت تابعة للخديو رأسا، وكان كتشنر قد علم بشراء الأوقاف أرض المطاعنة من ملك الخديو بمبلغ ستين ألف جنيه، وقيل إذ ذاك: إن هذه الصفقة فيها غبن، وفيها محاباة للخديو، فاهتم بالأمر، ولما كانت المسألة دينية شرعية، فقد سعى كتشنر لدى الباب العالي بمساعدة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في ذلك الحين، حتى حصل على موافقته، وموافقة شيخ الإسلام، وكان هذا الأمير معروفا بعدائه للخديو ... وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد تركت لكتشنر حرية التصرف في الموقف، فبعث برأيه إلى رئيس النظار في تحويل ديوان الأوقاف إلى نظارة، فلما بلغ الخديو ما بعث به المعتمد البريطاني، قال: هذه مسألة دينية، لا يحق لكتشنر ولا لحكومته التدخل فيها.
فكان رد كتشنر: إذا كان الخديو لا يريد الموافقة، فأنا أسلم العرش للأمير سعيد حليم الصدر الأعظم ...!
واستدعاني اللورد كتشنر لمقابلته في دار الوكالة البريطانية؛ بسبب غياب محمد سعيد باشا في ذلك اليوم بالإسكندرية، فذهبت إليه، فما كدت أدخل غرفته، حتى وجدت القائد العام لجيوش الاحتلال في مصر خارجا من عنده، فقال لي كتشنر: «هل تدري لماذا كان القائد عندي؟!» فسكت، وأدركت ما يعنيه من أن ذلك من أجل توقف الخديو في الأمر ومعارضته لإنشاء النظارة المطلوبة ...
ولما عدت من عنده أخبرت سعيد باشا بما حدث، ودارت المخاطبات بين مصر واستانبول بوساطة سعيد باشا، وحسين رشدي باشا، وانتهى الأمر بتحويلها إلى «نظارة أوقاف» في نوفمبر سنة 1913، واختير أحمد حشمت باشا أول ناظر للأوقاف، ومحمد شفيق باشا وكيلا لها، وألف لها مجلس أعلى، وعدلت الوزارة فاختير أحمد حلمي للمعارف، وسعيد ذو الفقار للمالية، ومحمد محب باشا للزراعة.
كيف عينت وزيرا لأول مرة
كانت السياسة البريطانية ترمي إلى فصل مصر عن تركيا، لا حبا في المصريين، بل خدمة للسياسة الاستعمارية وتدعيما لسياسة الاحتلال.
لذلك عمل اللورد كتشنر على توسيع اختصاص مجلس شورى القوانين، وإعداد قانون نظامي جديد يحل محل النظام القديم الذي وضع سنة 1883.
وقد صدر القانون الجديد سنة 1913، وهو يقضي بإنشاء جمعية تشريعية تحل محل مجلس الشورى، وتأليف مجلس في كل مديرية، واختير مظلوم باشا رئيسا لهذه الجمعية، وعدلي يكن باشا وكيلا معينا، وسعد زغلول باشا وكيلا منتخبا.
وفي 22 ديسمبر من تلك السنة افتتح الخديو عباس الجمعية بخطاب ألقاه بنفسه!
وفي 5 فبراير سنة 1914 سقطت وزارة سعيد باشا، وكان الخديو قد غضب عليه بسبب سكة حديد مريوط التي كانت ملكا لسموه، والتي باعها سعيد باشا للحكومة المصرية بمبلغ «390 ألف جنيه» فقط ... وكان الخديو يعتبر هذه الصفقة غير مربحة، وقد اتهمه بأنه كان يسير تبعا لمشورة كتشنر، ولا يحفل برأيه. وكانت الحكومة الإيطالية قد عرضت على سموه أن تشتريها بمبلغ أكبر من هذا المبلغ، لولا موقف سعيد باشا واللورد كتشنر.
صفحه نامشخص
وقد تولى النظارة بعده حسين رشدي باشا، فاختارني ناظرا للزراعة، فأنشأت بها المجلس الفني الأعلى، وكان الخلاف بين الخديو عباس، واللورد كتشنر قد بلغ مداه، وهدده عدة مرات بإقصائه عن العرش، وضيق الخناق عليه، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فكانت الفرصة سانحة للحكومة البريطانية لإعلان عزله، وأرسلت إليه في إستانبول تمنعه من الحضور إلى مصر.
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
تحدثت عن مقتل بطرس غالي باشا رئيس النظار سنة 1910، وكيف كانت مكانته عند الخديو عباس حتى إنه بكى لمصرعه، وذهب بنفسه إلى المستشفى لزيارته وقبله في وجهه وهو يعاني سكرات الموت.
والحق أن بطرس باشا لم يكن خائنا لبلاده، كما يصوره حادث مقتله، أو على الأقل في اعتقاد قاتله، فقد كان - رحمه الله - مخلصا لوطنه محبا لحرية بلاده، وكانت له مواقف في الوزارة تدل على مبلغ إيمانه بحقوق أمته، ورغبته في خلاصها من الأجنبي.
ولو لم يكن بهذه الصفة لما حاز ثقة الخديو عباس، الذي كان يشجع الحركة الوطنية والعاملين لها، ويتمنى أن يكون على رأس أمة حرة مستقلة لا يسومها الاحتلال الهوان، ولا يهدده المحتلون بالخلع عن أريكة البلاد بين حين وآخر ...!
كانت السياسة الإنجليزية تهدف من زمن بعيد إلى التدخل في شئون السودان، والاشتراك في حكمه، أو على الأصح التفرد بحكمه دون مصر، فعلى أثر انتهاء الحملة السودانية التي أقحم الإنجليز أنفسهم فيها مع الجيش المصري، وكان على المصريين العبء الأعظم من تضحيات في الأنفس والأموال، كما كان الحال دائما، إذ لا يمكن أن ننسى أن الجيش المصري قد أبيد في حوادث الدراويش، وهو تحت إمرة قواد من البريطانيين لم يحسنوا تصريف الأمور - وعلى أثر انتهاء تلك الحملة سافر اللورد كرومر سنة 1898 إلى السودان، وخطب في «أم درمان» وفي «الخرطوم» خطبتين وضحت فيهما أغراض الحكومة البريطانية - تلك الأغراض، التي تضمنتها فيما بعد «اتفاقية السودان»، فقد قال اللورد كرومر:
إني أعد نفسي سعيدا بمقابلتي لكم لأهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش، بفضل ما أظهره السردار كتشنر وضباطه من الحذق في تدبير القتال، وما برهنت عليه الجنود البريطانية والمصرية من الشهامة والثبات.
وقد شاهدتم العلمين الإنجليزي والمصري يخفقان على هذا المكان، وفي هذا إشارة إلى أنكم ستحكمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر.
والنائب الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية، سيكون سعادة السردار الذي أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما.
واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن، بل إن السردار وحده هو الذي سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحد غيره، ولست أشك في أنه يحقق أمانيكم ، ويحقق لكم كل ما ترجون.
صفحه نامشخص
هذا ما قاله اللورد كرومر قبل اتفاقية السودان بعام، وكان لهذه التصريحات الخطيرة وقع شديد في جميع الأوساط المصرية، وأحدثت دهشة عند الخديو وسائر الوطنيين والمسئولين عن مصير مصر والسودان.
اتفاقية السودان
ظهرت آثار تلك التصريحات في مشروع اتفاقية السودان فيما بعد، وكانت إنجلترا في ذلك الحين أقوى دولة في العالم، وهي الدولة الوحيدة وقتئذ في توجيه السياسة العالمية، والتحكم في مصير الأمم، ولم تكن المبادئ الحديثة التي نسمعها الآن قد خرجت إلى الوجود، وكان احتلالها لمصر ما زال له سلطانه وخطره، وكان المعتمد البريطاني له السلطة الفعلية في البلاد، وكان يتدخل في الكثير من الشئون، كما كان المستشار المالي الإنجليزي يحضر جلسات مجلس النظار.
وكانت تركيا صاحبة السيادة في ذلك الزمان في دور الاحتضار، وكانت سيادتها اسمية وكان نفوذ إنجلترا على ضفاف البسفور يماثل نفوذها على ضفاف النيل، فكان من الطبيعي أن تطمع بريطانيا في مصر، وأن تجرؤ على التصرف في أقدارها إن طوعا، وإن كرها ... ولذلك كانت اتفاقية السودان بمثابة إملاء من الغاصب القاهر على المغصوب العاجز، ومن القوي الجبار على الضعيف المكبل.
وحدث أن زار اللورد كرومر الخديو عباس بعد رحلته في السودان، وبعد تلك التصريحات الخطيرة التي ألقاها على أهاليه، فأشار في حديثه معه إلى أن اللورد سالسبوري وزير الخارجية البريطانية بعث إليه بمشروع اتفاق إنجليزي مصري يختص بالسودان، وأنه سلم نسخة منه لوزير الخارجية المصرية بطرس غالي باشا.
ومع أن عقد اتفاق سياسي مع مصر على هذا الوجه فيه اعتداء على السيادة التركية، إلا أن الإنجليز لم يأبهوا بها؛ لأنها كانت اسمية، وكانت صاحبة هذه السيادة واهنة القوى ضعيفة الشأن أمام الإنجليز الأقوياء.
وكان مشروع هذه الاتفاقية قد جاء من لندن مكتوبا مهيأ للتنفيذ، واستطاعت بريطانيا في هذه الظروف أن تجبر مصر على قبوله بحذافيره، وأن يضطر مجلس النظار إلى قبوله سنة 1899.
ومن الغريب أن الإنجليز بعد عقد هذه الاتفاقية، التي حصلوا فيها على إقحامهم في حكم السودان، قد طالبوا مصر بأن تدفع لهم نفقات الجنود الإنجليزية في الحملة السودانية، وقد دفعتها مصر مرغمة ...!
ذكرت كل ما تقدم للتاريخ؛ لأني لم أكن إذ ذاك قد بدأت حياتي العامة، ولكني إذا ما ذكرت ذلك، وذكرت اتفاقية السودان، أشعر بأن سعيي الأخير لبعث سيادة مصر على السودان، وجعلها وحدة كاملة تحت التاج المصري - مما كان قاب قوسين أو أدنى - هو سعي يشرفني، إذا ما قارن القارئ ما كنا فيه في ذلك الحين بما كنا سنفوز به في مفاوضاتي الأخيرة ...!
اتصالي بالملك فؤاد
صفحه نامشخص
كانت سياسة الإنجليز في مصر ترمي إلى محاربة التعليم، وبخاصة التعليم العالي؛ لأنه ينير البصائر، ويدفع المصريين إلى محاربة الاحتلال والتمسك بالحرية والاستقلال.
ولهذا عندما نجح مشروع إنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة 1906، لم يصادف هوى في نفوسهم، وقام اللورد كرومر يحاربه، ويدعو إلى إنشاء الكتاتيب، وينادي بأن الأمة في حاجة إلى التعليم الأولي قبل التعليم العالي، ولكن القائمين بهذا المشروع لم يعبئوا بذلك، وساروا في طريقهم، بل إنهم استفادوا من الدعوة إلى نشر التعليم الأولي.
وقد تألف مجلس إدارة الجامعة الأهلية، وكنت أحد أعضائه، وكان من زملائي فيه المرحومون عبد الخالق ثروت باشا، ومحمد علوي باشا، وإسماعيل حسنين باشا ومرقس حنا باشا، وعلي بهجت بك وغيرهم.
وأجمع اختيارنا لرياسة الجامعة على «الأمير» أحمد فؤاد «الملك فؤاد الأول»، وقد صادف ذلك ارتياحا عاما، لما عرف به من تشجيع المشروعات العلمية والعمرانية، وكان له الفضل في نجاح الجامعة المصرية قبل أن تضم إلى الحكومة، ثم بعد أن ضمت، وأصبحت بجهوده المشكورة من أكبر الجامعات، ومن جهتي الشخصية يسرني أن أقول: إنه كان أول اتصال لي بالمرحوم الملك فؤاد، هذا الاتصال الذي نما، وكان له أثره العظيم فيما بعد.
سياسة الخديو عباس
تولى الخديو عباس أريكة مصر وهو شاب، وكان ولا شك وطنيا صميما، ولكن بعض نواحي سياسته وتصرفاته أتاحت للإنجليز زيادة التدخل في شئون مصر.
وقد رأيت كيف أنه مكن اللورد كتشنر من التدخل في الأوقاف، حتى تحولت من ديوان إلى وزارة ، وكيف أدى به السعي وراء المادة في مسألة سكة حديد مريوط إلى أزمة بينه وبين الإنجليز ... وقد كانت الإشاعات عن تقرب الخديو من الألمان، ومساعدته للطليان وتشجيعه للحركات المعادية للإنجليز، وجمع الطوائف حوله، مما أخافهم منه، وكان له أثره بعد ذلك في إقصائه عن العرش.
وكان مما نبه الإنجليز إلى الخديو عباس، وزاد في حذرهم منه تلك الرحلة التي قام بها في الوجه البحري سنة 1914، وكنت وقتئذ ناظرا «وزيرا» للزراعة في وزارة رشدي باشا. فقد أعدت هذه الرحلة إعدادا ضخما، ووضع لها برنامج حافل بالاستقبالات والمظاهرات في كثير من المدن، وتقرر أن يتناوب النظار «الوزراء»، ورئيسهم مرافقة الخديو، وقسمت الرحلة إلى مناطق، وكان من نصيبي أن أكون في معيته من إيتاي البارود إلى الإسكندرية وكنت وقتئذ أتمتع بثقته، بل بعطفه.
وحدث قبيل هذه الرحلة أن عرض مشروع قانون الجمعيات التعاونية الزراعية على الجمعية التشريعية، وكان فريق من الأعضاء على رأسهم المرحوم سعد زغلول باشا معارضين في هذا المشروع، وكانت وجهة الخلاف في تقرير رقابة الحكومة على الجمعيات التعاونية، فذهبت للدفاع عن رأي الحكومة في وجوب رقابتها على هذه الجمعيات، كما هو الشأن في البلاد الأخرى، واستطعت أن أفوز بموافقة الأغلبية.
كان هذا الفوز مما اغتبطت به كثيرا لاعتقادي بفائدته للمصلحة العامة؛ ولأن الرأي العام كان قد اهتم الاهتمام كله للموضوع، وقد ظهرت آثار هذا الاغتباط على وجهي عند مقابلتي للخديو في إيتاي البارود، فسألني سموه عن سبب انشراحي واغتباطي، فأجبت: ذلك يا أفندينا؛ لأن حكومتكم قد فازت اليوم بمطلبها فيما يتعلق برقابتها على الجمعيات التعاونية.
صفحه نامشخص
وكنت أنتظر من سموه أن يبتهج بهذا الفوز، وأن يهنئ وزيره على نجاحه، ولكنه كان على العكس من ذلك، ما كدت أتم عبارتي حتى عبس في وجهي، وقال: وماذا فعل سعد زغلول؟
وسكت ... وأدركت من ذلك أنه كان عالما بما بيتته المعارضة في هذا الموضوع، وقد بقي عابسا فترة من الزمان ...!
أغا خان وعرش مصر
سافر الخديو عباس إلى استانبول في صيف ذلك العام، وقبل أن تقوم الحرب العالمية بقليل، وسافرت إلى فيشى، وصادف أن كان معي سعد زغلول باشا ومصطفى فهمي باشا وكثيرون غيرهما، وأعلنت الحرب الكبرى وقتئذ، فبعث الخديو يستدعيني من فيشى إلى استانبول، فلم أستطع السفر إليه في هذه الظروف، وتوقعت أن الإنجليز سوف ينتهزون فرصة قيام الحرب لإقصائه عن عرش مصر، وقد صح بعد ذلك ما توقعته، فمنعوه من العودة ثم أعلنوا خلعه، وكان أغا خان قد حضر لمصر في ذلك الحين، فأشيع أنه هو المرشح لعرش البلاد، وأن الإنجليز سيختارونه ملكا عليها ولكن هذه الإشاعة لم يكن لها نصيب من الصحة، واختير السلطان حسين كامل، وأعلنت الحماية على مصر، على نحو ما هو معروف.
الرقي الصناعي
وكان المرحوم حسين رشدي باشا صديقا لي، وقد زاملته في الوزارة في المدة التي توليت فيها وزارة الزراعة، ثم وزارة الأوقاف. فلما استقلت منها أثناء الحرب وصرت بعيدا عن قيود الحكومة أراد أن يستفيد من تجاربي، فاختارني رئيسا للجنة التجارة والصناعة، وكان الغرض منها ترقية الشئون الاقتصادية وفي مقدمتها الصناعة؛ لأن مصر في ذلك الحين كانت مكتفية بثروتها الزراعية، وقد قامت هذه اللجنة بمهمتها على الرغم من أن الإنجليز كانوا يضعون في سبيلها العقبات، وقد وضعت تقريرا هاما عن الصناعة والتجارة في مصر، والنظام الذي يجب أن يقوم لإحياء الصناعات المصرية وترقيتها، وكان هذا التقرير هو الدستور الذي قامت عليه مصلحة التجارة والصناعة، ثم وزارة التجارة والصناعة فيما بعد.
وقد تضمن نظاما جديدا للضريبة الجمركية جعلها على صورة تحمي الصناعات المصرية من المنافسة الأجنبية، وكانت هذه الحماية هي أساس الرقي الباهر الذي وصلت إليه هذه الصناعات؛ حتى أصبحت الثروة الصناعية في مصر ذات مكانة لا تقل في أهميتها عن مكانة الثروة الزراعية، وقد كانت مصر إلى ذلك الحين بلدا زراعيا فقط.
محمد سيد أحمد باشا جد إسماعيل صدقي باشا لوالدته، ورئيس ديوان الأمير محمد سعيد.
أحمد شكري باشا والد إسماعيل صدقي باشا ... كان وكيلا لوزارة الداخلية في عهدي إسماعيل وتوفيق.
إسماعيل صدقي باشا في سن العشرين ... حينما كان في وظيفة مساعد نيابة في بلدة إيتاي البارود.
صفحه نامشخص
صدقي باشا بين طلبة السنة الثانية من مدرسة الحقوق، الجالسون من اليسار: محمد توفيق نسيم، فمحمد زكي، فأحمد لطفي السيد، فمحمد بيومي، فمحمد عبد الهادي الجندي ... والواقفون من اليسار: محمود الطوير، فمحمد فهمي، فإسماعيل صدقي، فبيومي محمد، فتوفيق حقي، فإسماعيل الحكيم.
إسماعيل صدقي باشا في سنة 1894 حين نال ليسانس الحقوق، وقد وقف بين بعض زملائه، وهم الواقفون من اليسار إلى اليمين: محمود عبد الغفار، فإسماعيل صدقي، فمحمد عبد الهادي الجندي، فمحمود الطوير، فمحمد بيومي ... والجالسون من اليسار: أحمد لطفي السيد، فمحمد زكي، فتوفيق حقي.
اشتراكي في الجهاد الوطني
وقفت رحى الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وخمدت نيرانها بعد أن اشتعلت أربع سنوات دكت فيها عامر المدن والقرى، وأهلكت ملايين الأنفس، وأذيعت مبادئ ولسون الأربعة عشر - تلك المبادئ الحرة، التي تنص على أن كل أمة مهما صغرت لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.
لبثت مصر في انتظار تطبيق هذه المبادئ عليها بعد أن زالت غمة الحرب، ورفرف السلام على العالم، وكانت قد قامت بمساعداتها العظيمة للحلفاء في خلال الحرب، ومنيت بسببهم بمتاعب شتى. وعلى الرغم من اعتراف الإنجليز بهذه المساعدات، فإنهم لم يفوا بوعودهم لها، ولم تتغير الحال.
كنت وقتئذ خارج الحكم أشتغل بالاقتصاد العام، فوجدت من واجبي نحو وطني في هذه الظروف أن أتقدم لخدمته، وأسعى مع الساعين للحصول على حقوقه، فبدأت بوضع مذكرة ضافية باللغة الفرنسية بلغت ستين صفحة، ضمنتها مطالب مصر من إنجلترا، وعززتها بالوثائق والمستندات ... وكان الوفد المصري وقتئذ في دور التأليف، وحدث أنني كنت في الإسكندرية مع دولة محمد سعيد باشا، فاجتمعنا بالأمير عمر طوسون، وفكرنا فيما يجب أن يعمل، ورأينا من جهتنا أن نقوم بواجب الجهاد، فاتصل بالمرحوم سعد زغلول باشا ما اعتزمناه، فبعث إلينا، واجتمعنا به في فندق شبرد بالقاهرة، وتم الاتفاق على أن نتعاون معا في الوفد المصري.
أصبحت منذ ذلك الحين عضوا في الوفد، فقدمت إليه المذكرة الفرنسية، فناقشها ووافق عليها، وكانت هذه المذكرة بعد شيء من التنقيح في بعض نواحيها، وتلخيصها هي التي قدمها الوفد المصري بعدئذ إلى مؤتمر الصلح بفرساي.
لا بد من قارعة
كانت أعمالنا في مبدأ الحركة الوطنية مقصورة على تحرير الاحتجاجات والبيانات، وكان الشعور الوطني متحفزا، ولكن لم تكن هناك أية حركة منا تلفت أنظار العالم، ففي إحدى جلسات الوفد قلت لإخواني: إني أشعر أن مساعينا الحالية لا نتيجة لها ما لم يصحبها شيء يلفت الأنظار ...
فقال سعد باشا: وماذا تعني ...؟
صفحه نامشخص