إلى القارئ
نشأتي الأولى
في الوظائف الحكومية
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
اشتراكي في الجهاد الوطني
لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
لماذا حللنا مجلس نواب سنة 1925؟
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
دستور سنة 1930
عيوب في دستور سنة 1923
الملك فؤاد كما عرفته
تنازل الخديوي عباس عن العرش
طلقت الحزبية ...
مفاوضاتي سنة 1946
أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
الجلاء قبل المفاوضات
أثر الروس والمحافظين في المفاوضات
أميركا تدخل في الخلاف
لجنة الدفاع المشترك
بين الوفدين المصري والبريطاني
الباب المفتوح ...
أطماع الإنجليز في السودان
الحزبية تعرقل سير المفاوضات
استئناف المفاوضات
المسائل الكبرى في المفاوضات
مفاوضاتي في لندن
معاهدة صدقي - بيفن
وحدة الوادي في المفاوضات
ردي على المعارضين
ختام المفاوضات
بحث مقارن
إلى القارئ
نشأتي الأولى
في الوظائف الحكومية
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
اشتراكي في الجهاد الوطني
لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
لماذا حللنا مجلس نواب سنة 1925؟
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
دستور سنة 1930
عيوب في دستور سنة 1923
الملك فؤاد كما عرفته
تنازل الخديوي عباس عن العرش
طلقت الحزبية ...
مفاوضاتي سنة 1946
أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
الجلاء قبل المفاوضات
أثر الروس والمحافظين في المفاوضات
أميركا تدخل في الخلاف
لجنة الدفاع المشترك
بين الوفدين المصري والبريطاني
الباب المفتوح ...
أطماع الإنجليز في السودان
الحزبية تعرقل سير المفاوضات
استئناف المفاوضات
المسائل الكبرى في المفاوضات
مفاوضاتي في لندن
معاهدة صدقي - بيفن
وحدة الوادي في المفاوضات
ردي على المعارضين
ختام المفاوضات
بحث مقارن
مذكراتي
مذكراتي
تأليف
إسماعيل صدقي
إلى القارئ
عندما طلب مني «المصور» نشر هذه المذكرات لم أكن دونت منها شيئا؛ لأني لم أهتم بنفسي طول حياتي، ولم أفكر في أن أدون مذكرات لي، أو - على الأصح - لم يكن لدي من الوقت فسحة لأن أكتب عن نفسي، أو أجمع صورا لصباي وشبابي وكهولتي، وما اشتركت فيه من أحداث على نحو ما يفعل البعض، إلا ما سجلته لي الصحف؛ لأن هدفي في الحياة أن أعمل في الميادين العامة، وأن أؤدي واجبي، وأصرف نشاطي فيما ينفع وفيما يعود بالخير على المجموع؛ ولهذا طويت خمسين عاما في هذه الميادين دون أن أجلس إلى مكتبي لأكتب عن حياتي، وأشغل الناس بشخصي.
لكن حياتي العامة هي مادة من حياة الأمة التي خدمتها طيلة هذه السنين ... وقد يكون في تدوين حوادثها ما يساعد المؤرخ الذي يريد تحقيق تاريخ مصر الحديث، ويكشف اللثام عن أسرارها؛ لأني اشتركت في الكثير من الأحداث الكبرى، وفي مراحل التطور المصري منذ فجر القرن العشرين إلى اليوم ... وقد اعتاد رجال الغرب أن يدونوا مذكراتهم، واعتبروها فرضا على الجيل الحاضر للأجيال المقبلة، وجزءا متمما لتاريخ الأمة ... ولذلك استجبت لدعوة «المصور»، وبدأت أملي هذه المذكرات بقدر ما تسمح به الذاكرة، وأنا جد حريص على تدوين الحقائق.
إسماعيل صدقي
نشأتي الأولى
ولدت في 15 يونيو سنة 1875 بالإسكندرية في عهد الخديو إسماعيل، فأنا الآن في الخامسة والسبعين من عمري، وقد مرت هذه السنون بحوادثها الكثيرة، سريعة شأن كل زمان، على نحو ما قال المرحوم أحمد شوقي بك:
إن سبعين تقضت
لم تكن غير ثوان
هي كاللحظة إن قي
ست إلى عمر الزمان!
وكان إسماعيل صديق باشا المفتش، ووزير الخديو إسماعيل وقت ولادتي، في أوج مجده وسلطانه، فسماني والدي باسمه، كما هي عادة الناس حين يسمون أبناءهم بأسماء العظماء والوزراء المشهورين، وهو اسم يجمع بين اسمي الخديو، ووزيره المعروف ...
وحدث بعد ذلك بقليل أن غضب ولي الأمر على وزيره، كما غضب هارون الرشيد على جعفر البرمكي، وعبثت به الأيام، ووقعت الواقعة، وذهب ولم يعرف إلى أين ذهب، فخشي والدي أن يكون في اسمي وقتئذ ما يشعر بولائه للوزير المنكوب، فأسرع بتحويره من «إسماعيل صديق» إلى «إسماعيل صدقي»!
ومن ذلك العهد عرفت بهذا الاسم.
والدي ... ووالدتي
نشأت في بيت مصري، بل في بيت من صميم الريف المصري، اشتغل منذ أواسط القرن التاسع عشر بالحكم وسياسة الدولة، وكان أفراده على حظ من العلم والتعليم والثروة والجاه، فكان والدي «أحمد شكري باشا» من كبار رجال الحكومة في عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق، وكانت والدتي «فاطمة هانم» كريمة محمد سيد أحمد باشا رئيس ديوان الأمير محمد سعيد باشا ابن الأمير محمد علي باشا الكبير.
وقد درس والدي في مدرسة القلعة، وتلقى فيها علم الإدارة الملكية «الحقوق»، ثم انتخب للسفر إلى فرنسا في أول بعثة أرسلها الأمير سعيد باشا للتخصص في العلوم السياسية، وكان عدد أعضاء هذه البعثة واحدا وعشرين تلميذا، ومن زملائه فيها محمد راتب باشا سردار الجيش المصري المشهور في عهد الخديو إسماعيل، والقائد أحمد راشد حسني باشا ويوسف النبراوي باشا.
وهو من بلدة الغريب التابعة لمركز زفتى، ولما أتم دروسه في فرنسا عاد إلى مصر سنة 1861 والتحق بخدمة الحكومة، وتقلب في وظائفها إلى أن أصبح محافظا للقاهرة، فوكيلا لوزارة الداخلية، ومن الوظائف التي تقلدها «مدير إدارة عموم السودان وملحقاته» أيام الثورة المهدية. وكانت هذه الوظيفة موجودة حتى ذلك الحين، وقد تقلد منصب مدير أسيوط، وأحيل إلى المعاش وهو وكيل للداخلية، وظل به عشر سنوات، ثم أدركته الوفاة سنة 1895.
سعيد باشا يعتقل جدي!
كان جدي محمد سيد أحمد باشا «أبو والدتي» وابن عم أبي من أصحاب المكانة والحظوة عند الأمير سعيد باشا، وكان يجيد اللغة العربية إلى جانب إجادته التركية، ويعتمد عليه سعيد باشا في تحرير رسائله الرسمية والخاصة، وكان يسكن قصرا فخما بشبرا، وعنده من الخدم والحشم الكثيرون، وأذكر أني رأيت في طفولتي بهذا القصر ثلاثين جارية سوداء، وثلاثين جارية بيضاء، عدا الطهاة والخدم الآخرين، بعضهم ممن يسمونهم المماليك وهم من أصل شركسي.
وكان الأمير سعيد باشا يؤثر جدي بالكثير من عطفه ورعايته، فأثار ذلك كوامن الحقد والحسد في نفوس بعض رجال الحاشية. وكان الأمير مع طيبة قلبه، وميله للخير ضعيف الإرادة، كثير التقلب والتردد، ينصاع إلى آراء مخالطيه، سريع التأثر بما يسمعه، سريع الغضب، قريب الرضا ... وحدث أن وشى عنده أحدهم بجدي، فغضب عليه ذات يوم، وهو لم يعرف لماذا غضب، ولكنه يعرف أنه فوجئ بالقبض عليه واعتقاله في قلعة أبي قير بلا تحقيق، فمكث معتقلا بها تسعة أشهر، حتى أشفق عليه أصدقاؤه ومريدوه، وظنوا أن الأمير لكثرة مشاغله قد نسيه في معتقله، فأوعزوا إلى نجليه الصغيرين: «أمين والد عباس سيد أحمد باشا»، ومحمود، بأن ينتظرا سمو الأمير عند خروجه من القصر، ويرتميا على قدميه ضارعين له بأن يفرج عن أبيهما.
وذات يوم خرج سموه من قصر رأس التين، وحوله رجال الحاشية، فتقدم الصبيان، وارتميا على قدميه يقبلانهما، ويتلمسان العفو عن أبيهما المعتقل، فسأل سعيد باشا عن أمرهما فقيل له: إنهما نجلا محمد سيد أحمد بك «باشا»، فاستدرت حالة الصبيين عطفه، فأمر توا بالإفراج عنه!
بركة غطاس
كان جدي جالسا في القلعة لا يدري شيئا مما حدث وقد بلغ به اليأس مبلغه، وإنه لكذلك إذا برسل الأمير يأتون إليه ويطرقون معتقله، فأوجس منهم خيفة، ولكنهم ما لبثوا أن بشروه بعفو الأمير، وأمروه بأن يذهب لمقابلته بقصر رأس التين.
خرج سيد أحمد باشا مغتبطا بهذا العطف الكريم، وذهب لتقديم الشكر لسمو الأمير، فقابله سموه مقابلة حسنة، وشمله برعايته، ومنحه «حجة» تتضمن تبرع سموه له بضيعة من أملاكه الخاصة بمديرية البحيرة مساحتها تسعمائة فدان في «بركة غطاس»؛ أي عن كل شهر قضاه في المعتقل «مائة فدان» ...! وهذه الضيعة هي التي أقضي فيها بعض أوقات راحتي إلى الآن ...!
وبمناسبة «بركة غطاس» أذكر أنني قرأت في مذكرات نابليون أنه عند مغادرته لمصر في نهاية الحملة الفرنسية بات فيها تلك الليلة، التي سبقت يوم إقلاعه من البلاد المصرية إلى فرنسا.
دخولي مدرسة الحقوق
كانت الثقافة الفرنسية هي أولى الثقافات الأجنبية التي يقبل عليها الناس في ذلك الحين، ولما كان والدي قد أتم دراسته في فرنسا، وتثقف بثقافتها، فكان طبيعيا أن يختار لنجله هذه الثقافة، فأرسلني في السادسة من عمري إلى مدرسة الفرير، فكان لها الفضل في إتقاني للغة الفرنسية، وقد مكثت بها حتى حصلت منها على «البكالوريا» سنة 1889.
ولما لم تكن المدارس الأجنبية تعنى بدراسة العربية يومئذ عنايتها بها في الوقت الحاضر، فقد كنت أشعر بقصوري في هذه اللغة أثناء وجودي بها، حتى إذا انتقلت منها إلى مدرسة الحقوق بدأت عنايتي بإتقان اللغة العربية، خصوصا وقد كان من أساتذتي بعض فطاحل هذه اللغة وآدابها أمثال المرحومين حفني بك ناصف، وسلطان محمد بك.
وعلى ذكر التحاقي بمدرسة الحقوق، أذكر هنا فضلا للمرحوم علي مبارك باشا ناظر المعارف، فقد كانت سني وقت حصولي على «البكالوريا» لا تتجاوز الرابعة عشرة، وكانت السن القانونية للملتحقين بالسنة الأولى في هذه المدرسة لا تقل عن الخامسة عشرة، فكان القانون يقضي بحرماني من دخولها حتى أبلغ هذه السن، فلما اتصل ذلك بناظر المعارف أذن باستثنائي من هذه القاعدة، وأصدر أمرا خاصا بقبولي في هذه المدرسة.
مع مصطفى كامل
دخلت مدرسة الحقوق، وكان من زملائي في «الفصل» محمد توفيق نسيم وأحمد لطفي السيد، ومن زملائي في المدرسة مصطفى كامل، وعبد الخالق ثروت.
وكنت وتوفيق نسيم طول سني الدراسة نتناوب الأولية في الامتحانات، فسنة أكون الأول وهو الثاني، وأخرى بالعكس، حتى كان امتحان ليسانس الحقوق سنة 1894 فظفرت بالأولية، وكان ترتيبه الثاني.
وقد اشتغلت بالصحافة أثناء دراستي بهذه المدرسة، فحررت مع مصطفى كامل في مجلة «المدرسة» التي أنشأناها، ثم أنشأت مع لطفي السيد مجلة «الشرائع»، وهي مجلة قانونية فكنت أحرر فيها فصولا في القانون والاقتصاد، وكنت ميالا بطبعي إلى المسائل الاقتصادية.
الهتاف بالدستور
وأذكر أنني وأنا بالسنة الثالثة بالحقوق اشتركت مع مصطفى كامل في تنظيم مظاهرة للطلبة للمطالبة بمنح البلاد الدستور، فاجتمعنا أثناء مرور الخديو عباس حلمي أمام المدرسة، وكانت وقتئذ في بنائها بشارع عبد العزيز، فحييناه، وهتفنا منادين بالدستور فلم يغضب الخديو لهذه المظاهرة، ولا لهذا الهتاف، بل ابتسم ورد التحية، واعتبر ذلك تشجيعا خفيا من سموه للطلبة، وللحركة الوطنية التي كان يرعاها.
وقد كان الخديو عباس في ذلك الحين شابا ميالا لتشجيع الشباب، وقد طبع على تشجيع الحركة الوطنية؛ ولذلك لم يكن غريبا أن يبتسم، وألا يغضب، بل على العكس كان يرى في تقوية الحركة الوطنية تقوية لعرشه، وتدعيما لسلطته الشرعية، إذ كان الهدف هو جلاء المحتلين عن مصر، وحصولها على حريتها واستقلالها.
وكذلك نشأنا ونحن طلبة نشعر بأن واجبنا الأول حب وطننا وخدمة بلادنا، وحب الوطن يكون بشيئين: (1) أن نتمسك بحقوقه ونسعى للحصول عليها. (2) وأن نعمل لتحصيل العلم لنكون جديرين بالاستقلال، بل لنصل بالعلم إلى الاستقلال الحقيقي.
في الوظائف الحكومية
تخرجت في مدرسة الحقوق سنة 1894، ومع أني كنت أول فرقتي فقد عينت في وظيفة كاتب بالنيابة بمرتب خمسة جنيهات!
وكان النائب العمومي في ذلك العهد مسيو لوجريل، وكان وكيله مصريا معروفا بوطنيته وسمو أخلاقه يدعى حسن عاصم بك «باشا»، فمكثت بهذه الوظيفة زمن التمرين، ولم أستنكف من ممارستي لوظيفة صغيرة يمارسها من هم أقل مني تعليما وثقافة، بل كانت لي تجربة من تجارب الحياة التي لا بد منها.
وكان صديقي وزميلي عبد الخالق ثروت الذي كان يسبقني بسنة قد عين سكرتيرا للجنة المراقبة القضائية، وسكرتيرا للمستشار القضائي، وكان مرتبه 15 جنيها، فنقلت بمساعدته إلى هذه اللجنة بمرتب «ثمانية جنيهات»، فقضيت في هذه الوظيفة سنتين لم يزد مرتبي فيهما شيئا، ولم أتبرم بالحياة على الرغم من أن هذا المرتب لم يكن يكفيني. ثم عينت في بلدة إيتاي البارود في وظيفة مساعد نيابة بعشرة جنيهات، وكنت أسكن منزلا بسيطا أعيش فيه عيشة متواضعة، مع ثلاثة غيري من خريجي الحقوق أحدهم صديقي الأستاذ عزيز بك خانكي، ونقلت منها إلى طنطا، ثم إلى المحلة، ثم عدت إلى طنطا.
كانت هذه التنقلات في هذه البلاد الريفية بلا ترقية، وبمرتب لم يزد عن عشرة جنيهات خلال أربع سنوات. ومع ذلك لم أضق بنفسي معتمدا على الله وعلى انتهاز الفرص!
من 10 جنيهات إلى 30 جنيها
وذات يوم كنت واقفا في محطة طنطا، فسمعت صوت محمد سعيد بك «دولة سعيد باشا رئيس الوزارة فيما بعد» يناديني، وكان وقتئذ رئيس نيابة الإسكندرية، وعضوا في مجلس البلدية بهذه المدينة بحكم وظيفته، فعرض علي أن أنقل معه بالإسكندرية في وظيفتي التي أشغلها بطنطا، فوافقت، ونقلت في وظيفة «مساعد نيابة» وبمرتبي وهو عشرة جنيهات.
وبينما كنت أقوم بعملي يوما قرأت إعلانا في الجرائد أن وظيفة سكرتير إداري مجلس بلدية الإسكندرية، ورئيس قسم القضايا فيها معروضة لمسابقة بعد عشرة أيام، ومرتب هذه الوظيفة ثلاثون جنيها في الشهر، فتقدمت إلى هذه المسابقة، وكان سني وقتئذ 23 عاما، وقد تقدم فيها أكثر من خمسين شخصا أكثرهم من المحامين الأجانب، وكان موضوع المسابقة الكتابة باللغة الفرنسية فيما يأتي: «هل الأفضل أن تكون مواصلات المدينة في يد الحكومة أم في يد شركة أهلية؟!»
فكتبت في هذا الموضوع بإسهاب، ورجحت أفضلية الإدارة الأهلية؛ لأنها تؤدي إلى إتقان العمل والشعور بالمسئولية، وبينت أيضا وجهة النظر الخاصة بإدارة الحكومة كما فصلت كلتا النظريتين.
وفي اليوم التالي لهذه المسابقة سمعت أن اللجنة أعجبت بكتابتي، وأوصت بتعييني في الوظيفة، وبذلك ارتفع مرتبي من عشرة جنيهات إلى ثلاثين جنيها ...!
مقتل بطرس غالي باشا
مكثت في هذه الوظيفة عشر سنوات عينت خلالها سكرتيرا عاما للبلدية يحل محل المدير عند غيابه، وقد كانت مدة وظيفتي كسكرتير لمجلس البلدية مدة أفادتني الشيء الكثير وساعدتني على شق طريقي بعد ذلك، فما البلدية إلا حكومة مصغرة تشمل كل فروع الإدارة التي لها نظائر في الحكومة، وكانت سنة 1908 فاختير محمد سعيد باشا وزيرا للداخلية في وزارة بطرس غالي باشا، وكان سعد زغلول وزيرا للمعارف في هذه الوزارة، وحسين رشدي وزيرا للحقانية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وفخري باشا للمالية، وبطرس باشا للرياسة والخارجية.
كانت سني وقتئذ 33 عاما، وكان محمد سعيد باشا يوليني ثقته وصداقته، فأنشأ في الداخلية منصب سكرتير عام الوزارة، ونقلني إليه، وأسند إلي اختصاصات الوكيل، وبذلك أصبحت رئيسا لكبار الإنجليز التابعين للداخلية كمدير السجون، ومدير مصلحة الصحة والبلديات، وكان لهذه الوزارة مجالس منها المجلس الأعلى للبلديات، وكان ينعقد تحت رياستي، فكبر على هؤلاء الإنجليز أن يحضروا جلسات المجلس على هذا الوضع بعد أن كنت مرءوسا لبعضهم، فلما حان موعد الجلسة الأولى بعثوا بوكلائهم لحضورها، وأدركت ما يرمون إليه، فأجلت الجلسة لهذا السبب، وحددت موعدا آخر وبعثت إلى كل منهم بخطاب لحضور الجلسة القادمة .
وكان مستشار الداخلية وقتئذ رجلا يدعى «مستر شتى»، وكان من عقلاء الإنجليز، يحب صداقة المصريين، ويميل إلى تشجيعهم، ويرى في هذه السياسة مصلحة لإنجلترا، فاجتمعت به، وأخبرته بما حدث وهددت بالاستقالة إن لم يحضر هؤلاء الموظفون جلسة المجلس القادمة التي حددتها، فاهتم الرجل بالأمر، وبعث إليهم ولامهم على ما فعلوا، ومن ذلك اليوم لم يتخلفوا عن حضور الجلسات.
قضيت سنتين في هذه الوظيفة، وفي 20 فبراير سنة 1910 كنت جالسا ظهرا بمكتبي، فأخطرت بمقتل رئيس الوزارة بطرس غالي باشا على سلم وزارة الخارجية بمبنى وزارة الحقانية.
أشفقت من خطر هذا النبأ، ووقع عندي موقعا سيئا، وأسرعت إلى مكان الحادث، فوجدت الرئيس منطرحا في فناء الوزارة، وحوله حسين رشدي باشا وعبد الخالق ثروت باشا النائب العام، وأحمد فتحي زغلول وكيل الحقانية. ووجدت إبراهيم الورداني، وقد قبض عليه، واستدعي الدكتور سعد الخادم، فأخذ يسعف الجريح وكان في النزع الأخير، فحمل إلى مستشفى الدكتور ملتون.
ويلخص الحادث في أن بطرس باشا اعتاد أن يخرج من النظارة في الساعة الواحدة بعد الظهر، فخرج في ذلك اليوم، وكان يصحبه حسين رشدي باشا، وثروت باشا وفتحي زغلول باشا، ثم فارقهم عند السلم الخارجي، وعندما هم بركوب العربة دنا منه الورداني متظاهرا بأنه يريد أن يرفع إليه عريضة، وأطلق عليه رصاصتين، وما كاد يلتفت حتى أطلق عليه أربع رصاصات، فسقط مضرجا بدمائه بجوار عربته، وحمل إلى داخل الوزارة.
وكان محمد سعيد ناظر الداخلية «وزير الداخلية» قد ركب قطار الظهر إلى الإسكندرية؛ ليقضي راحته الأسبوعية، فاتصلت توا بمحمد محب باشا مدير الغربية إذ ذاك، وطلبت إليه أن يبلغه بالحادث عند وصوله إلى طنطا ليعود إلى القاهرة فورا ... ففعل.
وقد عز على الخديو عباس أن يقتل رئيس وزرائه، لما كان يتمتع به من ثقته ومحبته، وذهب إلى المستشفى يستفسر عن حالته، ودخل عليه في غرفته وقبله في وجهه والدموع تملأ عينيه، وكان المصاب قد تنبه قليلا، فجعل يقول: العفو يا أفندينا ... متشكر ... العفو يا أفندينا ... متشكر ...!
وأجريت له عملية جراحية، ولكن لم تأت الساعة الثامنة مساء حتى قضى نحبه ...
وزارة محمد سعيد
جلست في تلك الليلة - ليلة وفاة رئيس النظار - مع محمد سعيد باشا في منزله، فقال لي: والله طارت الوزارة يا إسماعيل ...!
فقلت له: بالعكس ... فإنني أتنبأ بأنك رئيس النظار المقبل ...
وقد حدث في اليوم التالي ما تنبأت به، فعهد إليه الخديو عباس تأليف الوزارة الجديدة، فكان هو للرياسة والخارجية والداخلية، وأحمد حشمت باشا للحقانية، ويوسف سابا باشا للمالية، وإسماعيل سري باشا للأشغال والحربية، وخرج سعد زغلول باشا وفخري باشا من الوزارة.
وعين نجيب غالي نجل بطرس باشا وكيلا للخارجية، وأنعم عليه بالباشوية، وعينت أنا وكيلا للداخلية، وأنعم علي بالباشوية أيضا، وألغيت وظيفة السكرتير العام لهذه النظارة.
كتشنر وخطابه أمام الخديو
كان السير الدون غورست في ذلك الحين معتمدا لبريطانيا في مصر، وقد ساءت صحته في أواخر عهده، فتوفي يوم 13 يوليو سنة 1911، وجاءتنا الأنباء على إثر وفاته بتعيين اللورد كتشنر في مصر خلفا له، وكان وقتئذ في لندن، فأثار تعيينه قلقا في الدوائر السياسية والوطنية؛ لأنه كان رجلا عسكريا، جاف الطبع، ويميل إلى التدخل في شئون مصر الداخلية.
وقبل حضوره إلى مصر في سفينة حربية أرسلت الوكالة البريطانية صورة من الخطاب الذي كان ينوي إلقاءه أمام الخديو، وإذا به يشتمل على معان تفيد رغبته في التدخل في صميم شئون مصر.
كان هذا الخطاب غريبا ومحرجا للخديو وللوزارة، فدعا محمد سعيد باشا رئيس الوزارة حسين رشدي باشا وسعد زغلول باشا في منزله برمل الإسكندرية؛ للتشاور فيما يكتب للرد على المعتمد البريطاني، ثم استدعاني سعيد باشا فذهبت إليه، وأخذنا نتشاور في الأمر لمعالجة الموقف بطريقة لا تضر مصلحة البلاد، ولا تحملها فوق ما حملت من أعباء الاحتلال وسياسة المحتلين ... وكلفني سعيد باشا بكتابة الرد، فوضعته بالفرنسية، وكان هذا الرد هو الذي ألقاه الخديو، واشتمل على كل ما اقتضته الحال من بيان لموقف مصر فيما يختص بمحافظتها على كيانها الداخلي.
كتشنر يهدد الخديو بالعزل
على الرغم من رفضنا لتدخل اللورد كتشنر، وخطابه الذي ألقاه أمام الخديو، فإنه كان لا يأبه بذلك، وكان يتدخل في شئون مصر الداخلية، وقد كان تدخله مقصودا لمحاربة الخديو وتوطيد سياسة الاحتلال، وأذكر أنه على إثر تعيينه كتبت جريدة المورننج بوست تقول:
إن اللورد كتشنر قد عين في هذا المنصب؛ لأنه من أعظم الذين وضعوا أساس مركزنا في مصر، واشتغل في عمل عظماء رجال الإدارة الذين كانوا قبله ... إن مهمة اللورد كتشنر أن يعيد النظام، وأن ينشر التمدن مع محو الارتباك، وإيجاد حكومة جديدة ...
والحقيقة أن الرجل كان ينزع إلى الإصلاح، ولكنه يتخذ الإصلاح وسيلة لتدعيم الاحتلال، ونشر النفوذ البريطاني في البلاد.
وكانت الأوقاف الأهلية وقتئذ تابعة لديوان يدعى «ديوان الأوقاف»، ولم تكن «نظارة» لها ناظر مسئول، بل كانت تابعة للخديو رأسا، وكان كتشنر قد علم بشراء الأوقاف أرض المطاعنة من ملك الخديو بمبلغ ستين ألف جنيه، وقيل إذ ذاك: إن هذه الصفقة فيها غبن، وفيها محاباة للخديو، فاهتم بالأمر، ولما كانت المسألة دينية شرعية، فقد سعى كتشنر لدى الباب العالي بمساعدة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في ذلك الحين، حتى حصل على موافقته، وموافقة شيخ الإسلام، وكان هذا الأمير معروفا بعدائه للخديو ... وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد تركت لكتشنر حرية التصرف في الموقف، فبعث برأيه إلى رئيس النظار في تحويل ديوان الأوقاف إلى نظارة، فلما بلغ الخديو ما بعث به المعتمد البريطاني، قال: هذه مسألة دينية، لا يحق لكتشنر ولا لحكومته التدخل فيها.
فكان رد كتشنر: إذا كان الخديو لا يريد الموافقة، فأنا أسلم العرش للأمير سعيد حليم الصدر الأعظم ...!
واستدعاني اللورد كتشنر لمقابلته في دار الوكالة البريطانية؛ بسبب غياب محمد سعيد باشا في ذلك اليوم بالإسكندرية، فذهبت إليه، فما كدت أدخل غرفته، حتى وجدت القائد العام لجيوش الاحتلال في مصر خارجا من عنده، فقال لي كتشنر: «هل تدري لماذا كان القائد عندي؟!» فسكت، وأدركت ما يعنيه من أن ذلك من أجل توقف الخديو في الأمر ومعارضته لإنشاء النظارة المطلوبة ...
ولما عدت من عنده أخبرت سعيد باشا بما حدث، ودارت المخاطبات بين مصر واستانبول بوساطة سعيد باشا، وحسين رشدي باشا، وانتهى الأمر بتحويلها إلى «نظارة أوقاف» في نوفمبر سنة 1913، واختير أحمد حشمت باشا أول ناظر للأوقاف، ومحمد شفيق باشا وكيلا لها، وألف لها مجلس أعلى، وعدلت الوزارة فاختير أحمد حلمي للمعارف، وسعيد ذو الفقار للمالية، ومحمد محب باشا للزراعة.
كيف عينت وزيرا لأول مرة
كانت السياسة البريطانية ترمي إلى فصل مصر عن تركيا، لا حبا في المصريين، بل خدمة للسياسة الاستعمارية وتدعيما لسياسة الاحتلال.
لذلك عمل اللورد كتشنر على توسيع اختصاص مجلس شورى القوانين، وإعداد قانون نظامي جديد يحل محل النظام القديم الذي وضع سنة 1883.
وقد صدر القانون الجديد سنة 1913، وهو يقضي بإنشاء جمعية تشريعية تحل محل مجلس الشورى، وتأليف مجلس في كل مديرية، واختير مظلوم باشا رئيسا لهذه الجمعية، وعدلي يكن باشا وكيلا معينا، وسعد زغلول باشا وكيلا منتخبا.
وفي 22 ديسمبر من تلك السنة افتتح الخديو عباس الجمعية بخطاب ألقاه بنفسه!
وفي 5 فبراير سنة 1914 سقطت وزارة سعيد باشا، وكان الخديو قد غضب عليه بسبب سكة حديد مريوط التي كانت ملكا لسموه، والتي باعها سعيد باشا للحكومة المصرية بمبلغ «390 ألف جنيه» فقط ... وكان الخديو يعتبر هذه الصفقة غير مربحة، وقد اتهمه بأنه كان يسير تبعا لمشورة كتشنر، ولا يحفل برأيه. وكانت الحكومة الإيطالية قد عرضت على سموه أن تشتريها بمبلغ أكبر من هذا المبلغ، لولا موقف سعيد باشا واللورد كتشنر.
وقد تولى النظارة بعده حسين رشدي باشا، فاختارني ناظرا للزراعة، فأنشأت بها المجلس الفني الأعلى، وكان الخلاف بين الخديو عباس، واللورد كتشنر قد بلغ مداه، وهدده عدة مرات بإقصائه عن العرش، وضيق الخناق عليه، حتى كانت الحرب العالمية الأولى، فكانت الفرصة سانحة للحكومة البريطانية لإعلان عزله، وأرسلت إليه في إستانبول تمنعه من الحضور إلى مصر.
السودان بين الإنجليز والخديو عباس
تحدثت عن مقتل بطرس غالي باشا رئيس النظار سنة 1910، وكيف كانت مكانته عند الخديو عباس حتى إنه بكى لمصرعه، وذهب بنفسه إلى المستشفى لزيارته وقبله في وجهه وهو يعاني سكرات الموت.
والحق أن بطرس باشا لم يكن خائنا لبلاده، كما يصوره حادث مقتله، أو على الأقل في اعتقاد قاتله، فقد كان - رحمه الله - مخلصا لوطنه محبا لحرية بلاده، وكانت له مواقف في الوزارة تدل على مبلغ إيمانه بحقوق أمته، ورغبته في خلاصها من الأجنبي.
ولو لم يكن بهذه الصفة لما حاز ثقة الخديو عباس، الذي كان يشجع الحركة الوطنية والعاملين لها، ويتمنى أن يكون على رأس أمة حرة مستقلة لا يسومها الاحتلال الهوان، ولا يهدده المحتلون بالخلع عن أريكة البلاد بين حين وآخر ...!
كانت السياسة الإنجليزية تهدف من زمن بعيد إلى التدخل في شئون السودان، والاشتراك في حكمه، أو على الأصح التفرد بحكمه دون مصر، فعلى أثر انتهاء الحملة السودانية التي أقحم الإنجليز أنفسهم فيها مع الجيش المصري، وكان على المصريين العبء الأعظم من تضحيات في الأنفس والأموال، كما كان الحال دائما، إذ لا يمكن أن ننسى أن الجيش المصري قد أبيد في حوادث الدراويش، وهو تحت إمرة قواد من البريطانيين لم يحسنوا تصريف الأمور - وعلى أثر انتهاء تلك الحملة سافر اللورد كرومر سنة 1898 إلى السودان، وخطب في «أم درمان» وفي «الخرطوم» خطبتين وضحت فيهما أغراض الحكومة البريطانية - تلك الأغراض، التي تضمنتها فيما بعد «اتفاقية السودان»، فقد قال اللورد كرومر:
إني أعد نفسي سعيدا بمقابلتي لكم لأهنئكم على الخلاص من استبداد حكومة الدراويش، بفضل ما أظهره السردار كتشنر وضباطه من الحذق في تدبير القتال، وما برهنت عليه الجنود البريطانية والمصرية من الشهامة والثبات.
وقد شاهدتم العلمين الإنجليزي والمصري يخفقان على هذا المكان، وفي هذا إشارة إلى أنكم ستحكمون في المستقبل بملكة إنجلترا وخديو مصر.
والنائب الوحيد في السودان عن الحكومتين البريطانية والمصرية، سيكون سعادة السردار الذي أودعت فيه جلالة الملكة وسمو الخديو تمام ثقتهما.
واعلموا أن البلاد السودانية لا تستمد أحكامها من القاهرة ولا من لندن، بل إن السردار وحده هو الذي سيقوم بالعدل فيما بينكم، فلا يجب التعويل على أحد غيره، ولست أشك في أنه يحقق أمانيكم ، ويحقق لكم كل ما ترجون.
هذا ما قاله اللورد كرومر قبل اتفاقية السودان بعام، وكان لهذه التصريحات الخطيرة وقع شديد في جميع الأوساط المصرية، وأحدثت دهشة عند الخديو وسائر الوطنيين والمسئولين عن مصير مصر والسودان.
اتفاقية السودان
ظهرت آثار تلك التصريحات في مشروع اتفاقية السودان فيما بعد، وكانت إنجلترا في ذلك الحين أقوى دولة في العالم، وهي الدولة الوحيدة وقتئذ في توجيه السياسة العالمية، والتحكم في مصير الأمم، ولم تكن المبادئ الحديثة التي نسمعها الآن قد خرجت إلى الوجود، وكان احتلالها لمصر ما زال له سلطانه وخطره، وكان المعتمد البريطاني له السلطة الفعلية في البلاد، وكان يتدخل في الكثير من الشئون، كما كان المستشار المالي الإنجليزي يحضر جلسات مجلس النظار.
وكانت تركيا صاحبة السيادة في ذلك الزمان في دور الاحتضار، وكانت سيادتها اسمية وكان نفوذ إنجلترا على ضفاف البسفور يماثل نفوذها على ضفاف النيل، فكان من الطبيعي أن تطمع بريطانيا في مصر، وأن تجرؤ على التصرف في أقدارها إن طوعا، وإن كرها ... ولذلك كانت اتفاقية السودان بمثابة إملاء من الغاصب القاهر على المغصوب العاجز، ومن القوي الجبار على الضعيف المكبل.
وحدث أن زار اللورد كرومر الخديو عباس بعد رحلته في السودان، وبعد تلك التصريحات الخطيرة التي ألقاها على أهاليه، فأشار في حديثه معه إلى أن اللورد سالسبوري وزير الخارجية البريطانية بعث إليه بمشروع اتفاق إنجليزي مصري يختص بالسودان، وأنه سلم نسخة منه لوزير الخارجية المصرية بطرس غالي باشا.
ومع أن عقد اتفاق سياسي مع مصر على هذا الوجه فيه اعتداء على السيادة التركية، إلا أن الإنجليز لم يأبهوا بها؛ لأنها كانت اسمية، وكانت صاحبة هذه السيادة واهنة القوى ضعيفة الشأن أمام الإنجليز الأقوياء.
وكان مشروع هذه الاتفاقية قد جاء من لندن مكتوبا مهيأ للتنفيذ، واستطاعت بريطانيا في هذه الظروف أن تجبر مصر على قبوله بحذافيره، وأن يضطر مجلس النظار إلى قبوله سنة 1899.
ومن الغريب أن الإنجليز بعد عقد هذه الاتفاقية، التي حصلوا فيها على إقحامهم في حكم السودان، قد طالبوا مصر بأن تدفع لهم نفقات الجنود الإنجليزية في الحملة السودانية، وقد دفعتها مصر مرغمة ...!
ذكرت كل ما تقدم للتاريخ؛ لأني لم أكن إذ ذاك قد بدأت حياتي العامة، ولكني إذا ما ذكرت ذلك، وذكرت اتفاقية السودان، أشعر بأن سعيي الأخير لبعث سيادة مصر على السودان، وجعلها وحدة كاملة تحت التاج المصري - مما كان قاب قوسين أو أدنى - هو سعي يشرفني، إذا ما قارن القارئ ما كنا فيه في ذلك الحين بما كنا سنفوز به في مفاوضاتي الأخيرة ...!
اتصالي بالملك فؤاد
كانت سياسة الإنجليز في مصر ترمي إلى محاربة التعليم، وبخاصة التعليم العالي؛ لأنه ينير البصائر، ويدفع المصريين إلى محاربة الاحتلال والتمسك بالحرية والاستقلال.
ولهذا عندما نجح مشروع إنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة 1906، لم يصادف هوى في نفوسهم، وقام اللورد كرومر يحاربه، ويدعو إلى إنشاء الكتاتيب، وينادي بأن الأمة في حاجة إلى التعليم الأولي قبل التعليم العالي، ولكن القائمين بهذا المشروع لم يعبئوا بذلك، وساروا في طريقهم، بل إنهم استفادوا من الدعوة إلى نشر التعليم الأولي.
وقد تألف مجلس إدارة الجامعة الأهلية، وكنت أحد أعضائه، وكان من زملائي فيه المرحومون عبد الخالق ثروت باشا، ومحمد علوي باشا، وإسماعيل حسنين باشا ومرقس حنا باشا، وعلي بهجت بك وغيرهم.
وأجمع اختيارنا لرياسة الجامعة على «الأمير» أحمد فؤاد «الملك فؤاد الأول»، وقد صادف ذلك ارتياحا عاما، لما عرف به من تشجيع المشروعات العلمية والعمرانية، وكان له الفضل في نجاح الجامعة المصرية قبل أن تضم إلى الحكومة، ثم بعد أن ضمت، وأصبحت بجهوده المشكورة من أكبر الجامعات، ومن جهتي الشخصية يسرني أن أقول: إنه كان أول اتصال لي بالمرحوم الملك فؤاد، هذا الاتصال الذي نما، وكان له أثره العظيم فيما بعد.
سياسة الخديو عباس
تولى الخديو عباس أريكة مصر وهو شاب، وكان ولا شك وطنيا صميما، ولكن بعض نواحي سياسته وتصرفاته أتاحت للإنجليز زيادة التدخل في شئون مصر.
وقد رأيت كيف أنه مكن اللورد كتشنر من التدخل في الأوقاف، حتى تحولت من ديوان إلى وزارة ، وكيف أدى به السعي وراء المادة في مسألة سكة حديد مريوط إلى أزمة بينه وبين الإنجليز ... وقد كانت الإشاعات عن تقرب الخديو من الألمان، ومساعدته للطليان وتشجيعه للحركات المعادية للإنجليز، وجمع الطوائف حوله، مما أخافهم منه، وكان له أثره بعد ذلك في إقصائه عن العرش.
وكان مما نبه الإنجليز إلى الخديو عباس، وزاد في حذرهم منه تلك الرحلة التي قام بها في الوجه البحري سنة 1914، وكنت وقتئذ ناظرا «وزيرا» للزراعة في وزارة رشدي باشا. فقد أعدت هذه الرحلة إعدادا ضخما، ووضع لها برنامج حافل بالاستقبالات والمظاهرات في كثير من المدن، وتقرر أن يتناوب النظار «الوزراء»، ورئيسهم مرافقة الخديو، وقسمت الرحلة إلى مناطق، وكان من نصيبي أن أكون في معيته من إيتاي البارود إلى الإسكندرية وكنت وقتئذ أتمتع بثقته، بل بعطفه.
وحدث قبيل هذه الرحلة أن عرض مشروع قانون الجمعيات التعاونية الزراعية على الجمعية التشريعية، وكان فريق من الأعضاء على رأسهم المرحوم سعد زغلول باشا معارضين في هذا المشروع، وكانت وجهة الخلاف في تقرير رقابة الحكومة على الجمعيات التعاونية، فذهبت للدفاع عن رأي الحكومة في وجوب رقابتها على هذه الجمعيات، كما هو الشأن في البلاد الأخرى، واستطعت أن أفوز بموافقة الأغلبية.
كان هذا الفوز مما اغتبطت به كثيرا لاعتقادي بفائدته للمصلحة العامة؛ ولأن الرأي العام كان قد اهتم الاهتمام كله للموضوع، وقد ظهرت آثار هذا الاغتباط على وجهي عند مقابلتي للخديو في إيتاي البارود، فسألني سموه عن سبب انشراحي واغتباطي، فأجبت: ذلك يا أفندينا؛ لأن حكومتكم قد فازت اليوم بمطلبها فيما يتعلق برقابتها على الجمعيات التعاونية.
وكنت أنتظر من سموه أن يبتهج بهذا الفوز، وأن يهنئ وزيره على نجاحه، ولكنه كان على العكس من ذلك، ما كدت أتم عبارتي حتى عبس في وجهي، وقال: وماذا فعل سعد زغلول؟
وسكت ... وأدركت من ذلك أنه كان عالما بما بيتته المعارضة في هذا الموضوع، وقد بقي عابسا فترة من الزمان ...!
أغا خان وعرش مصر
سافر الخديو عباس إلى استانبول في صيف ذلك العام، وقبل أن تقوم الحرب العالمية بقليل، وسافرت إلى فيشى، وصادف أن كان معي سعد زغلول باشا ومصطفى فهمي باشا وكثيرون غيرهما، وأعلنت الحرب الكبرى وقتئذ، فبعث الخديو يستدعيني من فيشى إلى استانبول، فلم أستطع السفر إليه في هذه الظروف، وتوقعت أن الإنجليز سوف ينتهزون فرصة قيام الحرب لإقصائه عن عرش مصر، وقد صح بعد ذلك ما توقعته، فمنعوه من العودة ثم أعلنوا خلعه، وكان أغا خان قد حضر لمصر في ذلك الحين، فأشيع أنه هو المرشح لعرش البلاد، وأن الإنجليز سيختارونه ملكا عليها ولكن هذه الإشاعة لم يكن لها نصيب من الصحة، واختير السلطان حسين كامل، وأعلنت الحماية على مصر، على نحو ما هو معروف.
الرقي الصناعي
وكان المرحوم حسين رشدي باشا صديقا لي، وقد زاملته في الوزارة في المدة التي توليت فيها وزارة الزراعة، ثم وزارة الأوقاف. فلما استقلت منها أثناء الحرب وصرت بعيدا عن قيود الحكومة أراد أن يستفيد من تجاربي، فاختارني رئيسا للجنة التجارة والصناعة، وكان الغرض منها ترقية الشئون الاقتصادية وفي مقدمتها الصناعة؛ لأن مصر في ذلك الحين كانت مكتفية بثروتها الزراعية، وقد قامت هذه اللجنة بمهمتها على الرغم من أن الإنجليز كانوا يضعون في سبيلها العقبات، وقد وضعت تقريرا هاما عن الصناعة والتجارة في مصر، والنظام الذي يجب أن يقوم لإحياء الصناعات المصرية وترقيتها، وكان هذا التقرير هو الدستور الذي قامت عليه مصلحة التجارة والصناعة، ثم وزارة التجارة والصناعة فيما بعد.
وقد تضمن نظاما جديدا للضريبة الجمركية جعلها على صورة تحمي الصناعات المصرية من المنافسة الأجنبية، وكانت هذه الحماية هي أساس الرقي الباهر الذي وصلت إليه هذه الصناعات؛ حتى أصبحت الثروة الصناعية في مصر ذات مكانة لا تقل في أهميتها عن مكانة الثروة الزراعية، وقد كانت مصر إلى ذلك الحين بلدا زراعيا فقط.
محمد سيد أحمد باشا جد إسماعيل صدقي باشا لوالدته، ورئيس ديوان الأمير محمد سعيد.
أحمد شكري باشا والد إسماعيل صدقي باشا ... كان وكيلا لوزارة الداخلية في عهدي إسماعيل وتوفيق.
إسماعيل صدقي باشا في سن العشرين ... حينما كان في وظيفة مساعد نيابة في بلدة إيتاي البارود.
صدقي باشا بين طلبة السنة الثانية من مدرسة الحقوق، الجالسون من اليسار: محمد توفيق نسيم، فمحمد زكي، فأحمد لطفي السيد، فمحمد بيومي، فمحمد عبد الهادي الجندي ... والواقفون من اليسار: محمود الطوير، فمحمد فهمي، فإسماعيل صدقي، فبيومي محمد، فتوفيق حقي، فإسماعيل الحكيم.
إسماعيل صدقي باشا في سنة 1894 حين نال ليسانس الحقوق، وقد وقف بين بعض زملائه، وهم الواقفون من اليسار إلى اليمين: محمود عبد الغفار، فإسماعيل صدقي، فمحمد عبد الهادي الجندي، فمحمود الطوير، فمحمد بيومي ... والجالسون من اليسار: أحمد لطفي السيد، فمحمد زكي، فتوفيق حقي.
اشتراكي في الجهاد الوطني
وقفت رحى الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وخمدت نيرانها بعد أن اشتعلت أربع سنوات دكت فيها عامر المدن والقرى، وأهلكت ملايين الأنفس، وأذيعت مبادئ ولسون الأربعة عشر - تلك المبادئ الحرة، التي تنص على أن كل أمة مهما صغرت لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.
لبثت مصر في انتظار تطبيق هذه المبادئ عليها بعد أن زالت غمة الحرب، ورفرف السلام على العالم، وكانت قد قامت بمساعداتها العظيمة للحلفاء في خلال الحرب، ومنيت بسببهم بمتاعب شتى. وعلى الرغم من اعتراف الإنجليز بهذه المساعدات، فإنهم لم يفوا بوعودهم لها، ولم تتغير الحال.
كنت وقتئذ خارج الحكم أشتغل بالاقتصاد العام، فوجدت من واجبي نحو وطني في هذه الظروف أن أتقدم لخدمته، وأسعى مع الساعين للحصول على حقوقه، فبدأت بوضع مذكرة ضافية باللغة الفرنسية بلغت ستين صفحة، ضمنتها مطالب مصر من إنجلترا، وعززتها بالوثائق والمستندات ... وكان الوفد المصري وقتئذ في دور التأليف، وحدث أنني كنت في الإسكندرية مع دولة محمد سعيد باشا، فاجتمعنا بالأمير عمر طوسون، وفكرنا فيما يجب أن يعمل، ورأينا من جهتنا أن نقوم بواجب الجهاد، فاتصل بالمرحوم سعد زغلول باشا ما اعتزمناه، فبعث إلينا، واجتمعنا به في فندق شبرد بالقاهرة، وتم الاتفاق على أن نتعاون معا في الوفد المصري.
أصبحت منذ ذلك الحين عضوا في الوفد، فقدمت إليه المذكرة الفرنسية، فناقشها ووافق عليها، وكانت هذه المذكرة بعد شيء من التنقيح في بعض نواحيها، وتلخيصها هي التي قدمها الوفد المصري بعدئذ إلى مؤتمر الصلح بفرساي.
لا بد من قارعة
كانت أعمالنا في مبدأ الحركة الوطنية مقصورة على تحرير الاحتجاجات والبيانات، وكان الشعور الوطني متحفزا، ولكن لم تكن هناك أية حركة منا تلفت أنظار العالم، ففي إحدى جلسات الوفد قلت لإخواني: إني أشعر أن مساعينا الحالية لا نتيجة لها ما لم يصحبها شيء يلفت الأنظار ...
فقال سعد باشا: وماذا تعني ...؟
قال لطفي السيد: يعني أن تقوم في البلاد قارعة!
فقال سعد بلهجته المعهودة التي كان يقلب فيها القاف كافا: كارعة ... ماذا؟
قلت: أعتقد يا باشا أننا لا نصل إلى حقوقنا بالكلام ...
فسكت - رحمه الله ... وحدث في نفس اليوم أننا كنا مدعوين إلى حفلة خيرية بالأوبرا الملكية، وكنا وسائر أعضاء الوفد في تلك الأيام نتغدى معه على مائدته يوميا، وكان معاشرا أنيسا لطيفا، وكان عطفه علينا كبيرا، وفي المساء ذهبنا معا إلى الأوبرا، وما كدنا نهل عليها، وندخل بابها حتى دوت أرجاؤها بالهتاف والتصفيق، واستقبلنا استقبالا باهرا دهش منه سعد باشا، وقال لي في المقصورة التي كنت فيها معه: بارك الله في هذه الأمة ... حقا يا إسماعيل ... لا بد من قارعة ...!
ومن هذه الليلة بدأت الثورة الوطنية.
إنذار بريطاني!
كانت وزارة دولة حسين رشدي باشا في الحكم، وقد طلبت التصريح لنا بالسفر لمؤتمر الصلح فلم يوافق الإنجليز، ورأت الوزارة أن تستقيل لهذا السبب، وظل الوفد يحاول السماح له بالسفر، فلم يظفر بنتيجة، وتضامن مع الوفد المصري جميع الوزراء السابقين، وسائر الرجال ذوي الكفاية لإدارة البلاد، وامتنعوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة، وبقيت البلاد بلا حكومة مدة من الزمان، وكان لثروت باشا في ذلك موقف رائع، وإن لم يكن موقفه الأوحد.
وقد كانت مصر وقتئذ تحت الأحكام العسكرية، فاستدعانا - نحن رجال الوفد المصري - القائد العام للقوات البريطانية بفندق سافوي يوم 6 مارس سنة 1919، وكان هذا الفندق في المكان الذي تقوم فيه عمارة بهلر في شارع قصر النيل، وألقى علينا البلاغ التالي بالإنجليزية:
علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تأليف الوزارة.
وحيث إن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لهذا يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم، يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب هذه الأحكام.
وبعد أن أتم جنابه تلاوة هذا البلاغ هم سعد زغلول باشا بمناقشته، فصاح: لا مناقشة
No discussion .
وتركنا، وانصرف ...
انصرفنا من «سافوي» وعدنا مع سعد إلى منزله، وحررنا برقية إلى «رئيس الحكومة البريطانية» ردا على هذا الإنذار جاء فيها:
تعلمون أن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد قبلت استقالتها نهائيا، وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام، وقد نتج من هذه السياسة أن أعظم رجال مصر أهلية لإدارة البلاد في هذه الأيام قد رفضوا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة، التي أجمعت على طلب الاستقلال.
فالنتيجة الطبيعية لذلك أن تقع مسئولية بقاء البلاد بلا حكومة على الذين وضعوا هؤلاء في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمتهم، غير أن السلطة العسكرية عمدت إلى تحميلنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها، وقد أنذرتنا السلطة اليوم، وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري، وهي لا تجهل أننا نطلب لبلادنا الاستقلال التام، ونرى الحماية غير مشروعة، كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا على عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك!
وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر، الذي يجلب سخط العالم المتمدين حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد، فيرتاح بال الشعب!
الاعتقال في مالطة
اتخذت السلطة العسكرية البريطانية في مصر من رفع هذه البرقية إلى رئيس حكومة لندن مبررا لاستعمال القوة، وظنت أنها بذلك ترهب المصريين، وتزعزع عقيدتهم في عدالة قضيتهم ...
وفي يوم 8 مارس سنة 1919 كنت أجلس إلى مكتبي في غرفة مجاورة لمكتب سعد زغلول بمنزله، وكنت مشغولا بالكتابة، فجاءني خادم الدار ينبئني بحضور ضابط إنجليزي، فأبلغت سعد باشا، ثم قابلت الضابط فسألني عن اسمي، ثم سأل عن سعد باشا فأوصلته إليه، ثم سرت إلى مكتبي، وأسررت إلى جورج أفندي دوماني بجمع الأوراق وإخفائها.
وكان الضابط قد طلب من سعد باشا أن يركب عربة عسكرية، ثم دعاني إلى ركوب عربة أخرى، وذهب بنا إلى ثكنة قصر النيل، وفي الوقت نفسه كانوا قد قبضوا على محمد محمود باشا، وحمد الباسل باشا، وخصصوا لكل منا غرفة.
أمضينا ليلتنا في هذه الثكنة، وفي الصباح طلبوا منا أن نستحضر من منازلنا ما يلزم لبضعة أشهر من أمتعة وملابس، وسمحوا لكل منا باصطحاب خادم ... وأركبونا سيارات عسكرية نقلتنا إلى المحطة، حيث كانت عربة خاصة في انتظارنا، فسار بنا القطار إلى الناحية الشرقية.
التدريب على الغرق
لم نكن نعلم أين يكون منفانا، فلما وصلنا إلى الإسماعيلية، واتجه بنا القطار نحو بورسعيد تنفسنا الصعداء؛ لأننا كنا نخشى أن يذهبوا بنا إلى الهند أو جزر الأوقيانوس أو جنوب أفريقا، ثم أركبونا الباخرة «كاليدونيا» فسارت بنا حتى اجتازت تمثال ديلسبس، ودخلت البحر الأبيض ... وفي هذه الأثناء صعد إلينا الضابط المكلف بحراستنا، وأفهمنا أن وجهتنا «مالطة».
سارت بنا الباخرة، وفي الساعة التي اجتزنا فيها المياه المصرية قيل لنا: إن البحر الأبيض المتوسط مملوء بالألغام التي بثها الألمان لبواخر الحلفاء، كما قيل لنا: إنه يجب أن نكون دائما على استعداد؛ لكي ننجو بأنفسنا في حالة حدوث انفجار، وأخذوا يدربوننا مع الجنود على طرق النجاة، فكانوا يعطون كلا منا طوقا من الفلين، ويرشدونه إلى مكانه في قارب النجاة المعين لنزوله في حالة حدوث انفجار في الباخرة، ثم يمثلون لنا رواية الغرق بجميع أدوارها.
مرت رحلة البحر في أمان ... ووصلنا إلى مالطة، فنقلنا إلى حصن عسكري ...
وقد كانت حياتنا في هذه الجزيرة محوطة بالاحترام والتكريم، وقد سمحوا لنا بالرياضة والقراءة، وأعطونا نوعا من الحرية لم يكن لغيرنا من المعتقلين، واخترنا لنا طاهيا ألمانيا يدعى «ماربورج» كان له مطعم معروف بالقاهرة، واعتقل خلال الحرب مع غيره من الألمان، ولم نكن ندري ما حدث في مصر بعد خروجنا منها، ولكن في آخر الأمر وبعد اشتداد الحال علمنا بها من بعض التلغرافات، التي كانت تنتشر في مالطة فتفاءلنا بما سيكون إليه المصير.
الإفراج عنا
رأت إنجلترا أن لا سبيل إلى الاستمرار في هذه السياسة، التي نتج عنها قيام ثورة خطيرة في البلاد، فعدلت عنها، وأعلنت الإفراج عنا يوم 7 أبريل سنة 1919 ... وكنا وقتئذ جالسين نحن الأربعة في معتقلنا نتجاذب أطراف الحديث، فدخل علينا ضابط بريطاني، وقال لنا:
استعدوا للسفر غدا، فقد أطلق سراحكم، وسمح لكم بالذهاب إلى باريس.
اغتبطنا بهذه البشرى أيما اغتباط، وحزمنا أمتعتنا ... وكم كانت دهشتنا حينما صعدنا الباخرة، فوجدنا إخواننا من أعضاء الوفد المصري الذين خلفناهم وراءنا في مصر موجودين على ظهر الباخرة، ومتأهبين لاصطحابنا إلى باريس، فتعانقنا وسافرنا لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح.
لماذا اختلفت مع الوفد في باريس؟
ذهبنا إلى باريس بعد الإفراج عنا من معتقلنا في مالطة في 7 أبريل سنة 1919؛ لنشترك في مؤتمر السلام، وقد قدمنا طلبا إليه فرفضه، وقد استقبلنا هذا المؤتمر بنشر بيان جاء فيه أنه من ضمن ما سيفرض على ألمانيا اعترافها بالحماية البريطانية على مصر، وكان استقبال غير كريم أشعرنا لأول وهلة بنذير الفشل.
ومن غريب ما يذكر هنا أن سعد باشا رئيس الوفد المصري ذهب عند وصولنا بنفسه إلى مقر كل عضو من أعضاء هذا المؤتمر، وترك له بطاقة باسمه، فلم يجيبوا على هذه المجاملة ما عدا واحدا منهم هو السنيور أورلاندو، رئيس الحكومة الإيطالية وقتئذ.
ومع أن خطة هؤلاء المؤتمرين كانت تجاهلنا، فإن ذلك لم يمنعنا من تقديم المذكرة الفرنسية، التي تحدثت عنها في المقال السابق، والتي تتضمن عدالة مطالبنا.
وقد اتجهت خطتنا على أثر ذلك إلى نشر الدعاية الواسعة النطاق، سواء أكان ذلك عن طريق الصحف أم عن طريق التعرف إلى رجال السياسة حتى من غير أعضاء المؤتمر، وكان لي في ذلك دور ذو شأن رشحتني له معرفتي بباريس وإجادتي للغة الفرنسية، وكثرة اتصالي بالغربيين ومعرفتي للكثيرين منهم.
وفي ذلك الحين كانت الصحافة في فرنسا مقيدة بتعليمات وزارة الخارجية الفرنسية أو - بعبارة أصح - بتعليمات وزارة الخارجية البريطانية.
وقد تذكرت هذا الوضع بمناسبة ما صادفه دولة محمود فهمي النقراشي باشا ووفده في نيويورك!
ولذلك لما كتبت وقتئذ مقالا في جريدة الطان الفرنسية، التي هي لسان حال وزارة الخارجية الفرنسية اعتبر ذلك فوزا عظيما، وعلمت من بعض الفرنسيين، الذين هنأوني على المقال أنه أحدث أثرا بالغا في أروقة مؤتمر السلام.
ومكثت في باريس أعمل في الوفد المصري برياسة سعد باشا، إلى أن وجدت آرائي في تصريف الأمور تخالف آراء بعض أعضائه؛ لأني كنت وما زلت لا أميل إلى تحكيم العواطف، بل إن خطتي على الدوام تتجه نحو الواقع المفيد، وترمي إلى الوصول إلى النتائج، فانفصلت عن الوفد، وعدت إلى مصر، وتبعني بعض أعضائه.
قيل وقتئذ إنني فصلت من الوفد ولم أستقل، ونسبوا إلي أنني ذهبت إلى لندن، واتفقت مع بعض الساسة الإنجليز، والواقع أن ذلك لم يحصل، بدليل أنه على أثر عودتي إلى القاهرة، واشتراكي بلا تردد في الحركة الوطنية، بعث إلي القائد العام لجيش الاحتلال، وألزمني بأن أسافر إلى إحدى ضياعي بعيدا عن القاهرة، بحيث تكون إقامتي في إحدى القرى التي تبعد عن أية مدينة بما لا يقل عن ستة كيلومترات، فاخترت الإقامة في بلدي (الغريب)، وبقيت معتقلا بها إلى أن طلب عدلي باشا من اللورد ملنر حينما جاء في لجنة التحقيق، الإفراج عني ... وقد أذعت في هذه الأثناء تكذيبا لما نسبه البعض، قلت فيه:
إن الخبر الذي من مقتضاه أنني ذهبت إلى لندن، وقابلت فيه السر رونالد جراهام مكذوب، فضلا عن كوني لم أكن عضوا في اللجنة الفرعية، التي كان الوفد قد رأى إيفادها إلى لندن بناء على طلب الرئيس.
وأما الخبر القائل: بأنني طلبت المفاوضة مع إنجلترا على أساس الاستقلال الداخلي، وطرقت أبوابا كان الوفد يرى عدم طرقها، وأن لدى معالي الرئيس مستندات قوية تثبت ذلك فقول غير صحيح، وإني أنتظر نشر هذه المستندات بطمأنينة.
مفاوضات عدلي - كرزون
في 16 مارس سنة 1921 تألفت وزارة عدلي يكن باشا الأولى، وكانت أول وزارة سياسية منذ استقالة وزارة رشدي باشا الرابعة سنة 1919، وقد اختير عدلي باشا رئيسا، وحسين رشدي باشا نائبا للرئيس، وعبد الخالق ثروت باشا وزيرا للداخلية، واخترت أنا وزيرا للمالية، وجعفر ولي باشا وزيرا للمعارف، وأحمد مدحت يكن باشا وزيرا للأوقاف، ومحمد شفيق باشا وزيرا للأشغال والحربية والبحرية، وأحمد زيور باشا وزيرا للمواصلات، وعبد الفتاح يحيى باشا وزيرا للحقانية، ونجيب بطرس غالي باشا وزيرا للزراعة.
وأهم ما جاء في برنامج هذه الوزارة أنها «ستقوم بتحديد العلاقات الجديدة بين مصر وبريطانيا للوصول إلى اتفاق يحقق استقلال مصر.»
قوبل تأليف هذه الوزارة من سعد باشا وأعضاء الوفد وسائر أفراد الأمة بالتأييد، وعاد اتحاد الأمة إلى ما كان عليه، وعاد سعد وإخوانه من باريس، واستقبل استقبالا وطنيا حافلا لا نظير له، وأخذت الوزارة في الاستعداد لمفاوضة الإنجليز، وذلك بتأليف وفد رسمي برياسة رئيس الحكومة وعضوية زعماء الأمة.
الخلاف على الرياسة!
وهنا كان الخلاف بين الوزارة وسعد باشا، فقد طلب سعد أولا؛ أن تكون رياسة الوفد المفاوض له، وأن تكون أغلبية هذا الوفد من فريقه.
وكان ردنا على سعد باشا وقتئذ في هاتين المسألتين، أن التقاليد السياسية في جميع البلاد لا تسمح بحال من الأحوال أن يكون رئيس الحكومة مرءوسا في هيئة تتفاوض مع حكومة أخرى، فضلا عن أن التصرف في المفاوضات ليس من حق الرئيس بل من حق الهيئة.
وأما من جهة أغلبية الوفد، فإن المسألة ليست تحقيق أغلبية لجانب على جانب آخر؛ لأننا نمضي في المفاوضات لتقرير مستقبل مصر متفقين على خطة واحدة متشبعين بمبدأ واحد، وما دام الأمر كذلك فمن السهل الاتفاق على الأشخاص، الذين تتألف منهم هيئة المفاوضات.
ولكن سعد باشا لم يقتنع بهذا الرأي، واختلفنا معا، وانقسمت الأمة بعد اتحادها، وقد كانت تكسب من هذا الاتحاد الكثير، والكثير جدا ...
مضت الوزارة في خطتها، وتألف وفد المفاوضة مع اللورد كرزون، وكان مقسما إلى عدة لجان: (1)
اللجنة السياسية برياسة عدلي باشا وعضوية: حسين رشدي باشا، وإسماعيل صدقي، ومحمد شفيق باشا، وطلعت باشا، ويوسف سليمان باشا. (2)
اللجنة المالية برياسة إسماعيل صدقي، وعضوية: محمد أبو الفتوح باشا، وفؤاد سلطان بك، ويوسف نحاس بك. (3)
اللجنة القضائية برياسة حسين رشدي باشا، وعضوية: طلعت باشا، ويوسف سليمان باشا، وعبد الحميد بدوي بك، وعبد الحميد مصطفى بك، وأحمد أمين بك، ومحمد محمود خليل بك، وتوفيق دوس بك. (4)
اللجنة الحربية، وقوامها: محمود عزمي باشا، ومحمود حلمي بك. (5)
اللجنة الهندسية برياسة محمد شفيق باشا، وأعضاؤها: عبد المجيد عمر بك ومحمود سامي بك، ومحمود فايد بك، وسكرتيرها عبد القوي أفندي أحمد.
لماذا قطعنا المفاوضة؟
سافر هذا الوفد الرسمي المصري إلى لندن، وجرت المفاوضات بينه وبين اللورد كرزون أربعة أشهر ... وبعد هذه المفاوضات الطويلة خرج علينا الإنجليز بمشروع لا يحقق مطالب مصر، ولا يحل المسألة المصرية، فرفضناه وقطعنا المفاوضة، وكان ردنا عليه في 15 نوفمبر سنة 1921 بما يتلخص في الوثيقة المشرفة الآتية: «اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921، ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل، التي تناولتها مناقشاتنا والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة أشهر؛ نفس النصوص والصيغ التي عرضت علينا عند بدء المفاوضات ولم نقبلها حينئذ.
فعن المسألة العسكرية، وهي ذات أهمية كبرى، استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد المقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة.
أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى، التي كانت وزارة الخارجية البريطانية قد وضعتها، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي، إذ لا يتصور أن تتوافر الحرية لوزير الخارجية المصرية إذا كان ملزما بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعا لمراقبة مباشرة في إدارة الأمور الخارجية ... ومن جهة أخرى، فإن تأجيل مسألة الامتيازات دعانا إلى الاعتقاد بأنه لم تبق حاجة إلى النص عليها في المعاهدة.
وأما فيما يتعلق بالمندوبين «القومسيرين» المالي والقضائي، وبتدخلهما في إدارة الشئون الداخلية كلها باسم حماية المصالح الأجنبية تدخلا قد يصل إلى شل سلطة الحكومة والبرلمان، فإننا لا نريد هنا أن نكرر ما سبق لنا إبداؤه من الاعتراضات في مذكراتنا.
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا بتاتا، فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه، وحق السيطرة على مياه النيل. ... وإن روح المسالمة التي سادت مناقشاتنا كانت تسمح لنا بالتفاؤل بنجاح المفاوضات، ولكن المشروع الذي أمامنا لم يحقق الأمل في الوصول إلى اتفاق يحقق أماني مصر الوطنية.»
هذا هو ملخص الوثيقة التي رددنا بها على مشروع كرزون، وهي إحدى الوثائق المشرفة التي تترجم عن موقفنا في هذه المفاوضات، وتنفي كل ما يقال عنا من أننا كنا نمالئ الإنجليز ...!
وربما يكون الطريف أن أذكر هنا المقارنة بين نوعين من الاستقبال الوطني؛ أحدهما خصصنا به من جانب طلبة البعثات المصرية في لندن أثناء هذه المفاوضات، والثاني استقبال الجالية الأيرلندية للوفد الأيرلندي، الذي كان يتفاوض في نفس الوقت مع لويد جورج على مصير أيرلندا، فقد كان استقبال هؤلاء الطلبة المصريين لنا استقبالا سيئا، بينما كان استقبال الأيرلنديين لديفاليرا وصحبه الذين رأيناه بعد أيام في شارع وايت هول، استقبالا وطنيا مشجعا، فقد اكتظ هذا الشارع والشوارع المجاورة له بجماهير من الجالية الأيرلندية نساء ورجالا، كانوا راكعين على ركبهم في خشوع يتلون الدعوات والصلوات بنغمات عالية لنجاح ديفاليرا، ولإفهام لويد جورج ما يعلقه الأيرلنديون على مطالب أيرلندا، ولم تكن مطالبنا نحن إلا تلك التي اتفق عليها في مصر، ولكن هؤلاء الأيرلنديين كانوا - على خلاف ما في مصر - يعنون بالمبادئ لا بالأشخاص!
كيف وضعنا تصريح 28 فبراير؟
استقالت وزارة عدلي باشا بعد عودتنا من لندن على أثر فشل المفاوضات مع كرزون، وبقيت البلاد مدة بلا وزارة ، ورأى اللورد اللنبي المندوب السامي وقتئذ أن لا بد من تغيير السياسة البريطانية في مصر، التي تقوم على العنف، واغتصاب حقوق البلاد، ونزع إلى سياسة المسالمة والتفاهم، واتصل بعدلي باشا وثروت باشا وبي هذا الاتجاه الجديد، واجتمعنا نحن الثلاثة وتشاورنا في الأمر، ثم حدثت مقابلات بيننا وبين اللورد اللنبي ووجدنا منه استعدادا طيبا لوضع مشروع يمكن أن يكون أساسا للمفاوضات المقبلة، ولاتفاق مقبل بيننا وبين الإنجليز دون أن يقيد مصر بشيء.
وأخفى سعادته عن الموظفين الإنجليز في مصر ما يدور بيننا وبينه؛ لعلمه أنهم يعارضون في كل سياسة ترمي إلى إضعاف النفوذ البريطاني في مصر؛ لأنها خطر على وظائفهم، ولكنه وجد ضالته في ثلاثة منهم كانوا محل ثقته، واستطاع أن يستعين بمشورتهم وهم: السير موريس شلدن أيموس مستشار الحقانية، والسير رجنلد باترسون مستشار المالية، والجنرال كلايتن مستشار الداخلية.
وبعد ما كفل سعادته مساعدة هؤلاء الثلاثة اتجه إلى البحث عن عقلاء كبار الأوروبيين، الذين يستطيع أن يعتمد عليهم في تأييد سياسته؛ لأنه كان موقنا أن كل عمل يعمله في مصر لا يكلل بالنجاح الذي يبغيه إلا إذا رضي عنه الأوروبيون من أصحاب المصالح، فبدأ جنابه بالبارون «فرمن فان دي بوش»، الذي كان نائبا عموميا بالمحاكم المختلطة يومئذ، فدعاه إلى زيارته، وأفضى إليه برغبته في السياسة الجديدة التي يود انتهاجها في مصر، فوافقه البارون فرمن، وارتاح اللورد إلى هذه الموافقة، وكان البارون فرمن يتمتع بثقة «السلطان فؤاد» وصداقته.
ودارت المحادثات بيننا نحن الاثنين: «ثروت، وصدقي» من جهة، وبين اللورد اللنبي، وإذا ما قلت «ثروت وصدقي» فإني أقول: إننا كنا على اتصال بعدلي باشا وإرشاد منه في كل الأدوار، وقد وضعنا مشروع تصريح 28 فبراير، وتوليت تحرير هذا المشروع باللغة الفرنسية.
وقد اتفقنا مع اللورد اللنبي على أن يقدمه إلى حكومته، وأن تصرح به على أن يكون هذا التصريح من جانب إنجلترا وحدها، حتى إذا ما تفاهمنا بعد ذلك على أوضاع جديدة تحقق أهداف البلد تماما، دخلنا عليها أحرارا غير مقيدين.
وأهم ما جاء في هذا المشروع: (1)
إعلان رفع الحماية عن مصر، والاعتراف باستقلالها، وما يترتب عليه من نتائج دولية وداخلية. (2)
إلغاء الأحكام العرفية التي أعلنت في نوفمبر سنة 1914.
كل هذا مع احتفاظ إنجلترا بتأمين المواصلات البريطانية، والدفاع عن مصر من كل اعتداء خارجي، وحماية الأجانب، ومسألة السودان، وذلك إلى حين يتسنى إبرام اتفاقية بين مصر وإنجلترا ...
وفي أوائل يناير سنة 1922 سافر اللورد اللنبي إلى لندن، وبرفقته المستشارون الإنجليز الثلاثة لإقناع حكومتهم بهذه الخطوة، وقد صادف سعي اللنبي مقاومة في أروقة رياسة الحكومة البريطانية ووزارة الخارجية، وبعد تباطؤ وتردد وافقت الحكومة البريطانية على إعلانه في 28 فبراير من تلك السنة، ثم قدمته إلى مجلس العموم، فناقشته. وفي يوم 15 مارس سنة 1922 أعلن استقلال مصر، الذي ترتب عليه أن أصبح السلطان فؤاد ملكا ...
التآمر على حياة ثروت
لما سافر اللورد اللنبي إلى لندن مع المستشارين الإنجليز لعرض مشروع تصريح 28 فبراير، كنا نترقب أخبار لندن؛ لنطمئن على هذا المشروع، الذي نود له النجاح، وذات ليلة، كنت جالسا في نادي محمد علي ليلا، فخاطبني بالتليفون ثروت باشا، وطلب مني أن أحضر إليه، فقلت له: ليس عندي عربة، فإما أن تحضر أنت أو ترسل إلي بعربتك، فقال: إن عربتي غير موجودة معي، ولا بد من حضورك لأمر هام، فخرجت من النادي، وركبت عربة أجرة، ووصلت إليه، فأنبأني بأن الوزير المفوض وهو وكيل اللنبي جاءه بآخر الأنباء، وهي تتلخص في أن اللورد اللنبي انتهى تقريبا إلى اليأس من النجاح في مهمته، وأنه حتى هذه الساعة لم يستطع مقابلة لويد جورج ... وطلب مني أن أذهب إلى سراي عابدين لإبلاغ ذلك لعظمة السلطان فؤاد، فقلت له: «بل اذهب أنت؛ لأنك أقدم مني وأنت المقدم» فرفض، فأصررت، وأصر هو على ذهابي إلى عابدين، ولم أكن أعلم شيئا، وقال: سأخبرك فيما بعد بشيء من التفصيل يتعلق بما نحن فيه، وأخبرني أن العربة التي وصلت بها ستحملني إلى عابدين؛ لأنه أمر ببقائها.
وصلت إلى عابدين، والتمست مقابلة عظمة «السلطان» فؤاد فسمح لي بها حالا، وأخبرته ما أبلغني إياه ثروت باشا فقال لي: «لعل الحكومة البريطانية استكثرت المطالب التي تطلبونها ...!»
وخرجت من عنده، وعدت إلى ثروت باشا، فعلمت أنه في الوقت الذي كنت أقابل فيه السلطان قبض البوليس على جماعة كانت تريد اغتيال ثروت باشا عند كوبري قصر النيل حينما يمر بعربته، وقد اتصل به نبأ هذه المؤامرة؛ ولذلك طلبني إليه، ولم يرسل عربته، وبعثني إلى «عابدين» دون أن يذهب هو لهذا السبب مطمئنا إلى أن الجناة لا يرشدهم إلى القيام بتنفيذ مؤامرتهم، إلا معرفتهم لشكل عربة ثروت باشا ...!
اشتراكي في وزارة ثروت
كان لي الشرف أن أكون أحد واضعي تصريح 28 فبراير، ثم كان لي الشرف أن أكون عضوا في وزارة ثروت باشا، التي أعلنت استقلال مصر، بعد إعلان هذا التصريح بخمسة عشر يوما.
فقد صدر أمر عظمة السلطان إلى المرحوم عبد الخالق ثروت باشا بتأليف الوزارة في أول مارس من تلك السنة، فتألفت برياسته، ومن حضرات الآتية أسماؤهم: «إسماعيل صدقي باشا «وزيرا للمالية»، وإبراهيم فتحي باشا «وزيرا للحربية والبحرية» وجعفر ولي باشا «وزيرا للأوقاف»، ومصطفى ماهر باشا «وزيرا للمعارف»، ومحمد شكري باشا «وزيرا للزراعة» ومصطفى فتحي باشا «وزيرا للحقانية» وحسين واصف باشا «وزيرا للأشغال» وواصف سميكة باشا «وزيرا للمواصلات» ... وكان الأساس الذي قبلنا عليه الوزارة في ذلك الحين هو تصريح 28 فبراير، الذي أحدث في الحالة السياسية تغييرا كليا.»
ومما يجب أن يسجل للتاريخ أن جميع المحبين لمصلحة البلاد قد وقع منهم هذا التصريح موقعا حسنا، إذ اجتازت مصر بمقتضاه طورا جديدا من أطوار حياتها السياسية، وقطعت مرحلة من مراحل جهادها الوطني كان لها أثرها، ودلت الحوادث فيما بعد على أن هذا التصريح ساعد مصر على دخول المفاوضات، وأتاح للوزارة أن تبدأ عهدا جديدا، وأن تضع لنفسها دستورا على أحدث المبادئ الدستورية، وأن تتصرف في شئونها كدولة مستقلة ذات سيادة.
لجنة الدستور
ومع أننا قمنا بما قمنا به في هذا السبيل من خدمة وطنية دفعت المسألة المصرية مرحلة إلى الأمام، فإن وزارة ثروت باشا لقيت نقدا من خصومها السياسيين، على أنها لم تكترث بنقد الناقدين، ولا معارضة المعارضين، فسارت في طريقها، وأخذت تدعو ذوي الكفايات من جميع الهيئات للاشتراك في وضع الدستور، فأبى فريق المعارضة تلبية الدعوة، فمضت الوزارة في خطتها، واختارت لجنة من الوزراء السابقين، ومن رجال العلم والقانون، والرؤساء الروحانيين والأعيان، وكان رئيس هذه اللجنة حسين رشدي باشا ونائب الرئيس أحمد حشمت باشا.
وعلى الرغم من مكانة أعضاء هذه اللجنة، فقد سمتها المعارضة «لجنة الأشقياء»، وكانوا يرون أن يتولى وضع الدستور «جمعية وطنية» تنتخب لهذا الغرض.
وهنا أحب أن أقول: إن فكرة الجمعية الوطنية لم نأخذ بها؛ لأن البلاد التي وضعت دساتيرها جمعية مثل هذه الجمعية كانت في ظروف استثنائية زالت فيها السلطة الشرعية، وحلت محلها سلطة مؤقتة على نحو ما حدث في الثورة الفرنسية، وقد جرى العرف في مصر على أن تصدر القوانين من ولي الأمر وحده، سواء أكان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء، وهو أول حجر في وضع النظام الديمقراطي في مصر أم فيما تلا ذلك من النظم ... على أن بلادا كثيرة كاليابان، وإيطاليا، والبرتغال، والنمسا وضعت دساتيرها بالطرق العادية، ولم تضعها جمعيات وطنية.
أعمال وزارة ثروت
بقيت وزارة ثروت باشا حتى انتهت لجنة الدستور من وضعه، وكانت هذه اللجنة قد وضعت في نص الدستور مادة بتلقيب جلالة الملك «ملك مصر والسودان»، فقامت قيامة الإنجليز، وقالت صحفهم: بأن مسألة السودان من المسائل المحتفظ بها للمفاوضة المقبلة بين الحكومتين المصرية والبريطانية، ولكننا كنا نرى رأي اللجنة، وأرسلت الوزارة مشروع الدستور، كما هو إلى اللجنة التشريعية ولما تعبأ بأية معارضة، واستمرت في حمل أعبائها بشجاعة.
وتتلخص أعمالها فيما يأتي: (1)
ألغت الحماية، وأعلنت أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة. (2)
ألفت لجنة الدستور، وتم في عهدها وضعه وإحالته إلى اللجنة التشريعية. (3)
نجحت في وضع أساس إدارة البلاد بوساطة حكومتها الوطنية دون غيرها. (4)
ألغت وظائف المستشارين الإنجليز في وزارات الحكومة، ولم تستبق منهم إلا مستشاري المالية، والحقانية، مع قصر مهمتهما على إبداء الرأي والمشورة. (5)
أبطلت ما جرى عليه العمل من حضور المستشار المالي جلسات مجلس الوزراء. (6)
أخذت في إحلال المصريين محل الأجانب في وظائف الحكومة، وأرسلت بعثات لأوروبا للتخصص. (7)
أصبح الموظفون الأجانب تابعين لسلطة الوزير المصري دون سواه. (8)
وضعت قانون الإجراءات العسكرية، التي اشترط إلغاء الأحكام العسكرية.
ولو أن وزارة ثروت باشا أتيح لها أن تبقى مدة أطول في الحكم لأنتجت أكثر من هذا الإنتاج، مع جلاله وعظمته في تلك الظروف العصيبة.
ومما يؤسف له أن البلاد في ذلك الحين قد سممت بدعايات ضد تصريح 28 فبراير كانت من أهم ما سبب استقالتها، وتذكرني هذه الدعايات بمثلها مما جرى بعد إمضاء المشروع الأخير المسمى «مشروع صدقي - بيفن».
وقد استقالت وزارة ثروت في 29 نوفمبر سنة 1922، وتركت لخلفها تراثا سياسيا مجيدا ...
لماذا حللنا مجلس نواب سنة 1925؟
استقالت وزارة عبد الخالق باشا، التي كنت أحد أعضائها في نوفمبر سنة 1922 ... وكانت هذه الوزارة هي التي ألغت الحماية، وأعلنت استقلال مصر، وألفت لجنة الدستور، وتم في عهدها وضعه، وأحالته إلى اللجنة التشريعية، ونجحت في صيانته أثناء وجودها من أن تعبث به العناصر الرجعية، التي كانت ممثلة في بعض رجال السياسة والمستوزرين ...!
وكان همنا نحن الثلاثة - عدلي، وثروت، وأنا - بعد استقالة هذه الوزارة أن يصان الدستور من أي عبث، وأن يصدر سريعا، وألا تنجح تلك العناصر في الحيلولة دون إصداره، أو تعمل لتأخيره أو تعديله، بحيث تضعف فيه الصبغة الديمقراطية ... وكان الإنجليز وقتئذ متفاهمين معنا على الدستور، إذ كان كل خوفهم من الطابع الاستبدادي للحكم ... ولم يكن بيننا وبينهم خلاف إلا على المادة الخاصة بلقب «ملك مصر والسودان»؛ لأنهم كانوا يرون أن مسألة السودان من المسائل المحتفظ بها في تصريح 28 فبراير.
وفي هذا الوقت بذلت جهود في سبيل جمع كلمة الأمة للقضاء على المساعي الرجعية، التي كانت ترمي إلى تأخير إصدار الدستور، وعلى الرغم من أن هذه الجهود لم تصل إلى تحقيق جميع أغراضها، إلا أنها أوجدت تفاهما عاما بين جميع الهيئات على محاربة الرجعيين والقضاء على محاولاتهم!
كيف سقطت في الانتخابات؟
وقد نجحت مساعينا في الوصول إلى إصدار الدستور سنة 1923، ثم أعلنت الانتخابات لبرلمان سنة 1924 فرشحت نفسي لمجلس النواب في دائرة سندا بسط، التي تتبعها بلدتي «الغريب»، وإذ ذاك نشأت فكرة الأغلبية الساحقة برياسة سعد زغلول باشا، فرشح الوفد أمامي الأستاذ نجيب الغرابلي «نجيب الغرابلي باشا»، وعلى الرغم من كونه رجلا فاضلا فإنه لم يكن ابن الدائرة، ولم يكن معروفا بها.
وكنت أعتقد أنني سأنجح في دائرتي؛ لأن جهودي في خدمة بلادي، وماضي في الجهاد واشتراكي في الفوز باستقلال مصر بتصريح 28 فبراير، كان كل ذلك مما يضمن النجاح. ولكن شخصية سعد زغلول في ذلك الحين كانت شخصية جبارة، وفي الوقت نفسه جذابة غمرت البلاد بقوتها، وشدة تأثيرها، واجتاحت أمامها كل شيء، وأصبح الاعتقاد فيها يشبه الاعتقاد بالأنبياء، فلم أفز في الانتخابات إلا بأقل من ثلث الأصوات، وسقطت أمام منافسي الوفدي غير المعروف إذ ذاك لأهل الدائرة ...!
ومن هنا أستطيع أن أقول: إن الانتخابات لم تكن حرة ... ولا أقصد من ذلك أنه كان هناك ضغط إداري استعمل ضدي، بل أعني أنه كان هناك ضغط نفساني أوجدته شخصية سعد زغلول القوية، وهو والضغط الإداري سواء، في بلد لم تصل بعد إلى درجة النضوج السياسي، ولم تتكون فيها الروح الدستورية.
وربما يسأل سائل هذا السؤال: لماذا لم أعين في مجلس الشيوخ ما دمت قد سقطت في انتخابات النواب؟ وجوابي عن هذا السؤال هو: أنه لو حدث ذلك وعينت في الشيوخ بعد سقوطي في النواب لحمل هذا التعيين على أنه تحد للرأي العام ... ثم لا تنس أنه كان هناك فريق رجعي ذو نفوذ، لا يحب أولئك الذين كانوا السبب في قيام الدستور ...!
في وزارة زيور باشا
على الرغم من سقوطي في الانتخابات، وعدم اشتراكي في البرلمان، أنا والذين حصلوا على الاستقلال والدستور، فإنني كنت مرتاحا لهذه المرحلة الأولى التي فازت بها البلاد ... وقد لزمت وقتئذ الحياد، فلم أشترك في أي نشاط سياسي طوال مدة قيام وزارة المغفور له سعد زغلول باشا في الحكم، حتى وقعت كارثة مقتل السردار - وأقول «كارثة» - لأنها كادت تعصف باستقلال البلاد، وتضيع علينا ما كسبناه؛ ولهذا حين دعيت للاشتراك في وزارة زيور باشا، التي خلفت وزارة سعد لم أتردد في القبول؛ لأني شعرت أن من واجبي في هذه الظروف أن أساهم في إنقاذ البلاد من ورطتها، وأن أعمل على صيانة استقلالها.
وقد توليت في تلك الوزارة شئون وزارة الداخلية، وكانت مسئوليتها عظيمة بعد تلك الكارثة، وفي إبان الاضطرابات الشديدة، وكان همي أن يعود الأمن إلى نصابه، كما كان من أول واجباتي أن أعنى بالقبض على قتلة السردار؛ لأنه لو لم نفعل، أو لو قصرنا في ذلك، لازدادت الحالة سوءا بيننا وبين الإنجليز ... خصوصا وقد نص عليه الإنذار البريطاني الموجه لسعد باشا، فضلا عن أنه كانت هناك أيد أجنبية تعمل لهدم الاستقلال، وضياع حقوق مصر والسودان.
حفظت لمصر سودانها!
وقد كان الإنجليز يريدون أن يتخذوا من مقتل السردار ذريعة لفصل السودان عن مصر فصلا تاما، وقد تضمن إنذارهم لحكومة سعد باشا «صدور الأمر في خلال 24 ساعة بإرجاع جميع الضباط المصريين، ووحدات الجيش المصري من السودان، وتحويل الوحدات السودانية التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية، تكون خاضعة ووالية للحكومة السودانية وحدها، وتحت قيادة الحاكم العام العليا، وباسمه تصدر البراءات للضباط!»
ورأى زيور باشا أن يوكل إلي وقتئذ بعض المهام خصوصا «السودان»، وكان الإنجليز يريدون أن يتمادوا في فصله عن مصر، علاوة على ما فعلوا من طرد الجيش المصري، وقطع علاقاتنا العسكرية به، والاستقلال بإدارة شئونه، فلم يبق لنا من العلاقات معه إلا تلك العلاقة المالية الخاصة بمبلغ العجز في ميزانية السودان، الذي تدفعه مصر سنويا، ومفروض أن ميزانية السودان شيء مقرر لمصلحة إخواننا السودانيين، فأراد الإنجليز قطع هذه العلاقة أيضا حتى لا تصبح لمصر أية صلة به، ولا أية حجة لها للتدخل في شئونه!
خفت من عاقبة هذا العمل الذي ينظر إليه في ظاهره كأنه لمصلحة مصر، وهو في الواقع حجة عليها، ومضر بمستقبل مصالحها وحقوقها في هذا القطر، فعملت على بقاء هذا المبلغ الذي تدفعه مصر للسودان، والذي لا يؤثر في ميزانيتها تأثيرا يذكر، وقد نجحت في ذلك، واعتبرته فوزا لمصر ولو أنه نظر إلى هذه المسألة من الآخرين بالنظرة الحزبية، التي تقلب الحق باطلا، والباطل حقا ...!
مصر والري في السودان
وكان الإنجليز في إنذارهم البريطاني قد طلبوا فيما يختص بالسودان توسيع مساحة الأطيان، التي تزرع في الجزيرة من ثلاثمائة ألف فدان إلى مقدار غير محدود تبعا لما تقتضيه الحاجة ...!
فردت وزارة سعد باشا قبل استقالتها على هذا الطلب بأنه سابق لأوانه؛ لأنه طبقا للتصريحات المتكررة يجب أن تحل هذه المسألة باتفاق الطرفين، وقد بعث المندوب السامي اللورد اللنبي إلى الوزارة في نفس اليوم بمذكرة ينبئها بأنه قد أرسل إلى حكومة السودان، بأنها أصبحت مطلقة الحرية في زيادة المساحة، التي تروى في الجزيرة إلى مقدار غير محدود ...!
وقد كانت مهمتي التي وكلها إلي زيور باشا صعبة، وكانت مسألة السودان شائكة، وكلما خرجنا من صعوبات وضعوا أمامنا صعوبات أخرى، ولكنني استطعت في تلك الظروف العصيبة أن أحصل على تأكيد من الحكومة البريطانية بأنها لا تنوي مطلقا الافتئات على ما لمصر من حقوق تاريخية وطبيعية في مياه النيل، وبعث اللورد اللنبي إلى الوزارة بخطاب رسمي يعترف بهذه الحقوق، ويقول فيه:
على أن الحكومة البريطانية إثباتا لحسن نيتها، مستعدة لإصدار تعليمات إلى حكومة السودان بألا تنفذ ما سبق إرساله إليها من التعليمات، فيما يتعلق بتوسيع نطاق ري الجزيرة توسعا لا حد له، على أن تؤلف لجنة خبراء من المستر كانتر كريمر رئيسا، وقد وقع الاختيار عليه باتفاق الحكومتين، والمستر ر. م. ماك جريجور مندوب بريطانيا المعين من قبل حكومة حضرة صاحب الجلالة، ومن عبد الحميد سليمان باشا مندوب مصر المعين من الحكومة المصرية ...
وقد اجتمعت اللجنة باتفاق الحكومتين في 15 فبراير سنة 1925 للدرس، واقتراح القواعد التي يمكن إجراء الري بمقتضاها ...
والنتيجة من كل ذلك أن حقوق مصر في مياه النيل تم بشأنها اتفاق حفظ لمصر كل هذه الحقوق، ووقع في ذلك معاهدة هي القائمة حتى الآن.
لماذا حللنا مجلس النواب سنة 1925؟
لا أنكر أننا في وزارة زيور باشا قد أقدمنا على إجراءات جريئة أملتها علينا الظروف العصيبة في ذلك الحين، وشجعنا عليها خوفنا على استقلال البلاد من أن يعصف به عاصف، أو تنتهز الفرصة - فرصة الاضطرابات - لهدمه، وكنا نرغب بكل إخلاص أن ندخل في دور من الهدوء، وتحسين العلاقات بيننا وبين الدولة المحتلة.
وكان الوفد يعتبر في ذلك الحين عدوا متحديا لهذه الدولة خصوصا بعد مقتل السردار، الذي اتهم فيه بعض المنتسبين إلى الوفد؛ لذلك أقدمنا على تعديل قانون الانتخابات، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت شخصية سعد كما قلت شخصية جبارة غمرت البلاد، ففاز الوفد في هذه الانتخابات بالأغلبية، ولو أنها لم تكن ذات خطر، ولما انعقد مجلس النواب وأجريت انتخابات الرياسة فاز سعد زغلول بمائة وثلاثة وعشرين صوتا ضد عبد الخالق ثروت باشا، الذي فاز بخمسة وثمانين صوتا، فرأينا أن هذه النتيجة في المجلس ستدفعنا إلى سياسة بعيدة عن أن تحقق الهدوء، الذي كنا ننشده في ذلك الحين.
لهذا أقدمنا على حل هذا المجلس رعاية للمصلحة الوطنية العليا؛ ولكي نعيد العلاقات الحسنة إلى نصابها حتى نصل بالبلاد إلى ما ننشده لها من خير في جو هادئ يسوده التفاهم، وعدم العنف.
ومن ذلك يتبين أن هذا الإجراء لم يكن إنجليزيا، بل كان إجراء من الجانب المصري فقط.
واحة جغبوب
الخديو عباس خارجا من سراي الحاكم العام للسودان، حين زيارته للسودان 1902.
صورة تاريخية تجمع بين الزعماء الأربعة: سعد زغلول باشا، وإلى يساره إسماعيل صدقي باشا، فمحمد محمود باشا، وحمد الباسل باشا ... وهم معتقلون في جزيرة مالطة في فجر الحركة الوطنية.
أعضاء الوفد المصري أثناء وجودهم في باريس، ويرى سعد زغلول باشا، وقد جلس إلى يساره محمد علي علوبة باشا، فمحمد الباسل باشا، فسينوت حنا بك ... والواقفون - في الصف الأول - من اليمين: مصطفى النحاس باشا، فإسماعيل صدقي باشا، فحافظ عفيفي باشا، فعلي رمضان بك، فمحمد محمود باشا، فعبد اللطيف المكباتي بك، فأحمد لطفي السيد باشا، فجورج خياط بك، فعلي شعراوي باشا.
في أواخر سنة 1925 جرت بيننا وبين الطليان مفاوضة لإنهاء مسألة الحدود الغربية والبت في أمر واحة جغبوب، فتألفت من الجانب المصري لجنة برياستي، وتألفت لجنة من الجانب الإيطالي برياسة المركيز نجروتو كامبيازو، وقد توقفت المفاوضات غير مرة بسبب اختلاف وجهتي نظر الفريقين ... وبعد خروجي بالاستقالة من وزارة زيور باشا، رأت الحكومة أن أمضي في مفاوضاتي الخاصة بالحدود ما بين إيطاليا ومصر؛ لأني كنت قد ألممت بأطرافها، بل ذهبت إلى إيطاليا لمقابلة موسوليني بشأنها، فكانت النتيجة في آخر الأمر أن جرى الاتفاق، الذي صورته السياسة الحزبية بصورة سوداء كعادتها.
كان هم مصر في هذا الاتفاق أن تحصل على خليج السلوم، وعلى الهضبة التي تعلو السلوم، والمنطقة التي حولها إلى بلدة بردية غربا، وكان الإيطاليون قد احتلوا هذا المكان الذي يشرف على هذه المدينة المصرية، فكانت هذه المنطقة هي التي تهم مصر؛ لأنها تشرف على أراضيها؛ ولأنها هي الطريق الذي يستطيع أي غاصب أن يدخل منه البلاد المصرية من جهة الغرب، أما الطليان فقد كان يهمهم أن يحتفظوا بواحة جغبوب، التي بها ضريح للسنوسيين تنبعث منه حسب اعتقادهم تعاليم ضد سياستهم، وحكمهم في طرابلس تخلق لهم المشكلات، وهذه الواحة لا تزيد مساحتها عن عشرة أفدنة، وكان من حججنا في ملكية مصر لها أن إنجلترا نفسها اعترفت في مدة الحرب العالمية الأولى بملكيتها لمصر في معاهدة شاليوت، التي عقدتها مع السنوسيين.
أما حجة الطليان فهي أنهم ورثة الأتراك في ولاية طرابلس، وواحة جغبوب داخلة ضمن هذه الولاية، وأنه بينما كان السنوسيون يدينون بالولاء للدولة العلية كان الولاة الأتراك يعدونها ضمن أعمال طرابلس، بل إن بعض الكتب الجغرافية المقررة في مدارس وزارة المعارف المصرية وضعت جغبوب في خريطة طرابلس، وتلك الكتب راجعتها لجنة من هذه الوزارة واعتمدتها ... ولست أريد الخوض في تفاصيل هذه المفاوضات لطولها، واحتدام مناقشاتها، ولكن المهم في النتيجة، فقد كانت هذه الواحة غير ذات أهمية من الوجهة العسكرية، ولكن الأهمية كلها في الشمال، وفي المنطقة المشرفة على السلوم.
وقد نجحنا في الحصول عليها من الطليان، الذين كانوا يحتفظون بها حتى ذلك الحين، وقد برهنت الحرب العالمية الأخيرة على أهميتها العسكرية، وعلى صدق نظريتنا في هذا الاتفاق، ولو أنه نظر إليه في حينه بالنظرة الحزبية التي تعكس الأوضاع.
صداقتي لسعد باشا
لم تستمر وزارة زيور باشا طويلا، فقد استقالت في 7 يونيو سنة 1926، وكنت قد بعثت باستقالتي منها قبل ذلك، وأنا في مصيفي بفيشى على أثر الخلاف الذي وقع بين نائب رئيسها يحيى إبراهيم باشا، وعبد العزيز فهمي باشا بسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أهم العوامل في استقالتها قيام الائتلاف بين الوفد برياسة سعد زغلول، والأحرار الدستوريين برياسة عدلي باشا، وقد أسفر هذا الائتلاف عن قيام برلمان سنة 1926، وكنت أحد أعضائه، وعهد إلي برياسة اللجنة المالية فيه، فبذلت مجهودا نال تقدير رئيس المجلس سعد زغلول باشا وأعضائه، حتى إنه - رحمه الله - شرفني بأن نزل من كرسي الرئاسة إلى منصة الخطابة، ووقف يمتدح هذا المجهود طويلا.
والواقع أن زمالتي بالمرحوم سعد باشا في مجلس النواب، وفي فجر الحركة الوطنية وأثناء اعتقالنا في مالطة كانت تمتاز بالصداقة وحسن التقدير، وكما كنت أعترف بشخصيته العظيمة، كان يشرفني دائما بعطفه وتقديره، ولما سافر للاصطياف في مسجد وصيف، وكانت «محادثات ثروت باشا-تشمبرلين» قائمة، كان يبعث إلي دائما للتشاور فيما يصله من أنباء هذه المحادثات، وإذا ما انقطعت عنه الأنباء سألني عنها نظرا لعلاقاتي الخاصة بثروت باشا، وكنت وقتئذ في بلدي «الغريب» المتاخمة لمسجد وصيف، فكان يصر على أن أزوره يوميا، وإذا ما تأخرت عنه دعاني بالتليفون.
وقد توفي - رحمه الله - ونحن أصدقاء، يغمرني بتقديره، وأضمر له كل حب وإعجاب، وأحتفظ له حتى الآن بأجمل الذكريات.
سعد ... عدلي ... ثروت ... كما عرفتهم
انتهيت في الكلمة السابقة إلى سنة 1927، وأهم حادث فيها كان فقد البلاد لزعيمها العظيم سعد زغلول، وقد مر بك كيف كان اتصالي به، وصداقتي له، كما مرت بك زمالتي للمرحومين عدلي يكن باشا وثروت باشا وصداقتي لهما، واشتراكي معهما في الحكم والمفاوضات، وتصريح 28 فبراير، ولعل من المفيد للجيل الحاضر، وقد وصلت إلى هذه المرحلة من الذكريات أن أقول كلمة في كل من هؤلاء العظماء الثلاثة.
سعد زغلول
كان سعد زغلول عندما عرفته أكبر مني سنا، وأعلى مركزا، فكانت علاقتي به في بادئ الأمر علاقة صغير بكبير، فقد كنت في أوائل حياتي مساعدا للنيابة بينما كان هو مستشارا في الاستئناف، ثم اتصلت به في الحركة الوطنية ورافقته في الأسر، بل تمتعت بتقديره وعرفت من صفاته ما يعرفه الصديق عن صديقه، فشهدت فيه من كرم النفس ولطف الشمائل، والترفع عن الصغائر ما جعله محل احترام أصدقائه، وحبهم له وتعلقهم به، هذا إلى شخصيته القوية، وزعامته الوطنية التي كانت تسيطر على الجميع.
كان سعد زعيما وطنيا بكل ما تؤديه هذه الكلمة من المعاني؛ ولو أن كلمة «زعيم» لا تمنع أنه كان سياسيا قديرا، وقائدا ماهرا في أوقات الشدائد، وربانا بارعا صارع الأنواء والأمواج، وواجه الأخطار، فلم تؤثر في عزيمته، ولم تزعزع من جبروت نفسه وإرادته.
وكانت شجاعته وبلاغته وسعة إطلاعه، وكثرة تجاربه مما هيأ له التأثير العميق بين الجماهير، فاشتد حبها له، وإعجابها به، وانقيادها لكل ما يبديه من رأي، وإصغاؤها لكل ما يهتف به من قول، فامتلك الأفئدة والنفوس، وبقي طول حياته الزعيم الأكبر.
صحيح أنني اختلفت معه، وصحيح أنه كان للرجل أخطاء - ومن ذا الذي لا يخطئ - وصحيح أنه كانت فيه عيوب، ولكنها كما يقول الفرنسيون، العيوب التي تلازم الصفات الكبيرة، وقد قيل عني في باريس ما دعاه إلى تصديق عبارات ألقاها إليه بعض الواشين، ولكن عندما تلاقينا ووقف على الحقيقة لم نلبث أن تفاهمنا، ولم يكن بيني وبينه في بعض المواقف إلا ما يكون بين رجلين مختلفين في الرأي لمصلحة بلدهما، فكنت أجله كل الإجلال، وكان يشملني بتقديره، حتى إذا زالت أسباب الخلاف عاد اتصالنا وتعاوننا معا، وقد بقي الاحترام والإجلال من جانبي، والعطف والتقدير من جانبه حتى توفي - رحمه الله - وكانت أخريات أيامه تمتاز فيما يختص بشخصي بعطف شامل، بل بمحبة فائقة ، فإذا ذكرته تمثلت أمامي مواهبه العظيمة التي فقدناها وخسرتها مصر من كل الوجوه.
عدلي يكن
شرفني عدلي باشا بصداقته ومحبته، وكان كسعد باشا يكبرني سنا ومركزا، وقد كان وكيلا معينا للجمعية التشريعية، وكان سعد وكيلا منتخبا، وكان رئيسا للوزارة التي فاوضت اللورد كرزون، وكنت وزيرا في تلك الوزارة، ومع أنه رجل تعلم تعليم أولاد الذوات في القرن التاسع عشر، ولم يكن يحمل شهادات عالية، ولكنه عاش طويلا في فرنسا، ومرت به تجارب كثيرة، وخالط كبار القوم، وكان في مبدأ حياته سكرتيرا لنوبار باشا رئيس الوزارة المصرية في عهد الخديوين، وتقلب في عدة مناصب مما أتاح له أن يشهد حوادث عدة، ويستفيد منها في سداد الرأي وقوة الحكم وبعد النظر.
كان عدلي باشا سياسيا حكيما، بل هو في رأيي من أكبر رجال السياسة، وكان على الرغم من ترفعه ومظهره الذي لا يدل على عزم وهمة، صاحب إرادة قوية، وهمة عالية ... وكانت صفته الكبرى اتزانه وصحة حكمه على الأشياء؛ لأنه كان كثير التفكير يوازن بين كل الاعتبارات إذا شرع في اتخاذ قرار في أي موضوع.
وقد امتاز عدلي - رحمه الله - بالترفع عن الخصومات الحزبية الرخيصة، ومع أنه ترأس حزبا، فلم يكن رجلا حزبيا بل كان رجلا قوميا عاما، ولم تدفعه حزبيته في يوم من الأيام إلى مخاصمة أحد، أو إلى الدخول في جدال شخصي، هذا إلى نزاهته، وقدرته الكبيرة على التوجيه والإرشاد، وكان يؤثر العمل المفيد الهادئ بعيدا عن التأثر بالعواطف، أو الاندفاع مع أهواء الجماهير، ولم تكن وطنيته تسمح بالتفريط في أي حق من حقوق بلاده، وقد رأيت كيف كان موقفه من مفاوضاته مع اللورد كرزون، وكيف رفضها وطلق الوزارة بإباء وشمم.
عبد الخالق ثروت
أما المرحوم ثروت باشا، فماذا أقول فيه، وقد كان زميلا وصديقا لي منذ الصبا، ومنذ كنا تلميذين في مدرسة الحقوق؟! كان يسبقني بسنتين، وقد عشنا صديقين ورفيقين طول الحياة، وكان شعلة متوقدة من الذكاء والنبوغ، ولا أذكر أنني رأيت شخصا في ذكائه وألمعيته، وقد أتاحت له ثقافته العالية وسعة اطلاعه أن يكون على جانب عظيم من الإلمام باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، وأن يكون كاتبا بليغا، ومشرعا قانونيا من الطبقة الأولى، ودستوريا من الطراز الأول.
ولي أن أقول اليوم: إنه لما قبلت الحكم في سنة 1930، كان قد سبق لي التفاهم معه قبل وفاته في شأن تعديل الدستور، حتى نتفادى ما يسمح به هذا الدستور من طغيان الأكثريات على الأقليات، وقد وافقني على ذلك، وأعتقد أنه لو كان حيا في ذلك الحين لكان أميل إلى التعديل منه إلى الإجراء، الذي قامت به وزارة محمد محمود باشا من وقف الدستور والحياة النيابية لعدة سنوات.
وكان ثروت باشا إلى علمه وفضله جم التواضع، راغبا عن المظاهر، وكان من طبقة أولئك الرجال ذوي الكرامة الذين لا يسعون وراء الحكم، بل إن الحكم هو الذي يبحث عنهم ويسعى إليهم ...
وكانت وطنيته صافية صريحة لا شائبة فيها، بل كان متعصبا في وطنيته، وفي التمسك بحقوق أمته ودستور بلاده، وقد لاقت وزارته الأولى نهايتها في نوفمبر سنة 1922 بسبب موقفه الوطني الحازم أمام العناصر الرجعية، التي كانت تحاول الكيد للدستور، وكادت وزارته الثانية تستقيل بسبب أزمة المفتش العام الإنجليزي للجيش المصري وإصرار ثروت باشا على موقفه من إلغاء منصب هذا المفتش، حتى إن المرحوم سعد زغلول باشا - وكان وقتئذ رئيسا لمجلس النواب أيام الائتلاف - طلب مني أن أسعى لديه بما لي من صداقة معه ليخفف من غلوائه في هذا الظرف الدقيق.
ولصديقي المرحوم ثروت باشا من المواقف الوطنية الأخرى ما يشهد بحرصه الشديد على مصلحة بلاده، وتضحياته في سبيل خدمتها، وأذكر أنه رفض رياسة الوزارة حين عرضت عليه في فجر الثورة الوطنية سنة 1919 بعد استقالة رشدي باشا؛ لعدم سماح الإنجليز للوفد المصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وذلك على الرغم من صغر سنه، وعلى الرغم مما لهذا المركز من مقام عظيم، وبخاصة في نظر الشباب مما كان محل إعجاب سعد باشا في ذلك الحين.
أزمة المفتش العام
ولا بد لي من أن أقول كلمة عن أزمة المفتش العام لعلاقتها بثروت باشا، وبتصريح 28 فبراير الذي كان لي شرف الاشتراك فيه، فقد حدث أن لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت عند نظرها لميزانية الجيش إلغاء منصب السردار سبنكس باشا؛ لتنافيه مع مسئولية الوزير أمام البرلمان، وتحسين أسلحة الجيش وأدواته، وترقية التعليم في المدرسة الحربية، واقترح بعض أعضائها تعديل قانون مجلس الجيش، بحيث لا يكون سبنكس باشا عضوا فيه على مثال مجلس الجيش الإنجليزي، فاتصل نبأ هذه الاقتراحات بدار المندوب السامي، وكان وقتئذ اللورد جورج لويد، فاعتبر ذلك تحديا لسلطة بريطانيا الحربية في مصر، وحظي بمقابلة جلالة الملك فؤاد، وتبودلت بينه وبين ثروت باشا المقابلات، ثم قدم مذكرة إلى الحكومة المصرية يشرح فيها وجهة النظر البريطانية، وتتلخص هذه المذكرة في أن أحد تحفظات تصريح 28 فبراير، الذي منع تدخل أية دولة أجنبية في شئون مصر يجعل لإنجلترا حق الإشراف على الجيش المصري، ورد ثروت باشا بأنه كان من الذين اشتغلوا في جميع أدوار تصريح 28 فبراير، ولم ترد مسألة الجيش البتة في أي نص منه، ولا في أية مفاوضة من مفاوضاته؛ ولهذا السبب ترى الحكومة المصرية أن هذه المسألة من المسائل الخاصة بها. فلم ترتح بريطانيا إلى هذا الرد، ولم يتزحزح ثروت باشا عن موقفه، فأرسلت بريطانيا ثلاث بوارج إلى المياه المصرية بقصد التهديد، والحقيقة أن هذه المظاهرة البحرية لم تكن تنطوي على شيء من الكياسة السياسية!
وقد ألقى السير أوستن تشمبرلن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم تصريحا عن مسألة الجيش المصري في ذلك الحين، فرأيت من واجبي أن أوجه إلى رئيس الحكومة المصرية سؤالا في هذا الشأن، وفي شأن البوارج الإنجليزية، ولا أفشي سرا إذا ما قلت الآن إنه سؤال متفق عليه مع ثروت باشا، وقد قلت فيه: «... إني أشعر بأن الشعب المصري - وقد أظهر بلسان ممثليه المرة بعد المرة شدة رغبته في دوام حسن التفاهم مع الدولة الإنجليزية - يتولاه الألم كله؛ إذ يرى أن حرصه على ذلك التفاهم قد قوبل من الحكومة البريطانية بذلك الإجراء، الذي لم تجر العادة به إلا بين المتخاصمين.
وأما بيان وزير الخارجية البريطانية، فلا يخفف من وقعه غير الشعور بأنه لم تصل إليه بعد كل الحقائق، التي يمكن أن يبني عليها حكم صحيح ... والذي زاد من ألم كل مصري في الآونة الحاضرة، ما جاء في بيان وزير الخارجية من أن إرسال البوارج الحربية قد بني على ما اعتقدوه من أن هناك مجهودات، ومساع تبذل لإثارة اضطراب سياسي، يعرض أرواح الأجانب ومصالحهم لأكبر الخطر ...
وإذا كان في هذه المأساة - كما هو الشأن في أكثر النوازل - ما يبعث على بعض التسلية، فقد يكون فيما صرح به وزير الخارجية البريطانية من الرغبة في أن تسوى المشكلة الحاضرة بطريقة ودية، تصون مصالح الحكومتين ... وإني إذا وجهت اليوم سؤالي إلى دولة رئيس الوزراء بشأن ما تنويه الحكومة تلقاء الحوادث الحاضرة، فإني لا أشك لحظة في أن الموقف الذي ستتخذه حكومتنا الدستورية، سيكون كما عودتنا موقف حزم وحكمة يتجلى فيه التصميم الأكيد على المحافظة على مصالح البلاد.»
وقد رد ثروت باشا على ذلك ردا سياسيا حكيما، ثم أعقبت هذه الأزمة زيارة جلالة الملك لإنجلترا، فكان من شأن هذه الزيارة أن تبددت السحب، التي ظهرت في جو العلاقات المصرية الإنجليزية، وساعدت ثروت باشا على الدخول في محادثات شخصية مع السير أوستن تشمبرلن للوصول إلى اتفاق يصلح أساسا لمفاوضات رسمية؛ لتسوية المسألة المصرية من جميع الوجوه، وقد أدت هذه المحادثات إلى ما سمي «مشروع ثروت-تشمبرلن»، وكان رأيي فيه وقتئذ أنه خطوة إلى الأمام بعد تصريح 28 فبراير، وكانت السيطرة الإنجليزية ما زالت مهيمنة على البلاد، والإنجليز هم أصحاب الحل والعقد، ولم تكن المسألة المصرية - في هذا الوضع - بالتي تحل طفرة واحدة، بل بتفاهم يتلوه تفاهم ...
وكانت سياسة ثروت باشا ستؤدي إلى أفول نجم اللورد جورج لويد - وقد كان نجمه ساطعا - ولكن مع الأسف فقد كانت السياسة الحزبية له بالمرصاد!
كيف توليت الوزارة سنة 1930؟
وقفت بكم في الكلمة السابقة عند استقالة المرحوم عبد الخالق ثروت باشا؛ بسبب فشل مشروع ثروت-تشمبرلن، وقد كان من أهم أسباب هذا الفشل موقف أصدقائه الأحرار الدستوريين منه وخذلانهم له، حتى لقد عقدوا في ذلك مؤتمرهم الإداري كما هي العادة، وقد خلفه في الوزارة الائتلافية مصطفى النحاس باشا، ولكن وزارته لم تعمر غير أربعة أشهر وتسعة أيام، وأقيلت في أزمة قانون محاكمة الوزراء.
صدقي لا محمد محمود
كانت الرغبة متجهة إلى اختياري لتأليف الوزارة على أثر إقالة النحاس باشا في يوليو سنة 1928، وخوطبت في ذلك خطابا شبه رسمي، وتهيأت لتأليفها، بل وضعت أسماء الوزراء الذين وقع عليهم اختياري ليتعاونوا معي، وكان المندوب السامي البريطاني في ذلك الحين هو اللورد جورج لويد، وكان من الطبيعي أن يكون أميل إلى شخص تربى في إنجلترا كمحمد محمود باشا بتأثير البيئة العلمية الواحدة، والمدرسة الإنجليزية الواحدة، وقد أدت المشاورات العليا إلى اختيار محمد محمود باشا لتأليف الوزارة.
وفي مساء 26 يوليو من تلك السنة، بينما كنت منتظرا في بيتي الدعوة إلى القصر خوطبت بالتليفون بالقرار الجديد.
جاءت وزارة محمد محمود باشا، وكان هدفها أن تقضي على الأوتوقراطية البرلمانية، التي أتاحها دستور سنة 1923 بطغيان الأكثرية على الأقلية، فاستقر الرأي عندها على أن تؤجل الحياة النيابية، وتوقف الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، فأصبحت البلاد بذلك تحكم حكما غير برلماني. •••
لم تعمر وزارة محمد محمود باشا طويلا، فقد استقالت في أكتوبر سنة 1929، وخلفتها وزارة المرحوم عدلي يكن باشا الثالثة، وكانت وزارة انتقال أعقبتها وزارة النحاس باشا، ولكن هذه الوزارة لم تلبث غير خمسة أشهر و18 يوما، واستقالت في يونيو سنة 1930 على أثر عدم نجاحها في مفاوضات هندرسون.
شروطي لتأليف الوزارة
كان اللورد جورج لويد قد نقل إلى إنجلترا، وحل محله في مصر سير برسي لورين، وكان المندوب السامي الجديد يختلف عن سلفه بأنه سياسي ممتاز بالمرونة ... وفي اليوم الذي استقالت فيه وزارة النحاس باشا قابلني زكي الإبراشي باشا في نادي محمد علي، ونقل لي رغبة الملك فؤاد في دعوتي لتأليف الوزارة الجديدة، فرجوته أن يبلغ جلالته ما يأتي:
إنني أفخر بثقة جلالته بي، ولكني أود أن أخبره أنه إذا تم اختياري لهذا المركز الخطير، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية تنظيما جديدا يتفق ورأيي في الدستور واستقرار الحكم.
فنقل زكي الإبراشي باشا ذلك إلى جلالة الملك، ثم عاد فأبلغني ارتياح جلالته إلى هذه السياسة، وتم تعييني لتأليف الوزارة، فأخذت في اختيار زملائي، وخاطبت بعض أصدقائي من المستقلين والأحرار الدستوريين، وحزب الاتحاد، وكنت أنتظر من الأحرار الدستوريين أن يتعاونوا معي، فرفض محمد محمود باشا، فذهبت إليه أنا وعلي ماهر باشا، وتحدثت معه في ذلك، وأفضيت إليه بأنني جئت لنفس الغرض الذي ألف هو وزارته من أجله سنة 1928 مع اختلاف في الطريقة والأسلوب، وعاهدته أمام بعض زملائنا على أن أترك الحكم بعد أداء رسالتي، وتحقيق هذا الغرض، وقلت له بالنص:
إني عابر سبيل، ومتى انتهت مهمتي في القضاء على الفوضى تخليت عن الوزارة.
فأصر محمد محمود على موقفه، وأبى أن يتعاون معي، فسمحت لنفسي أن أتجه إلى بعض رجاله، فانضم إلي منهم حافظ عفيفي باشا مستقلا عن الأحزاب، وتألفت وزارتي في 19 يونيو سنة 1930 مني للرياسة والداخلية والمالية، ومن حضرات الآتية أسماؤهم: «محمد توفيق رفعت باشا للحربية والبحرية» و«عبد الفتاح يحيى باشا للحقانية» و«حافظ حسن باشا للأشغال والزراعة» و«علي ماهر باشا للمعارف العمومية» و«محمد حلمي عيسى باشا للأوقاف» و«حافظ عفيفي باشا للخارجية».
بيني وبين سير برسي لورين
وبعد أن اخترت زملائي استأذنتهم، وتركتهم في منزلي ريثما أقابل المندوب السامي البريطاني سير برسي لورين، للتحدث معه في بعض الشئون السياسية، وقد أبلغته في هذه المقابلة نبأ تكليفي بتأليف الوزارة، ولم يكن حتى هذه الساعة قد وصله هذا النبأ، فقال سعادته: إنني لا أعلم شيئا قبل الآن عن هذا التكليف، ولكني أرى أنك أتيت في وقت غير مناسب!
فقلت له: ولماذا؟
فأجاب: لأنني أمضيت نحو شهر في مفاوضة زعماء الأغلبية لوضع مشروع اتفاق بين مصر وبريطانيا، وكان أملي أن نجد المخرج للوصول إلى اتفاق.
فقلت له: إنني مكلف من الملك بتأليف الوزارة، وقد ساهمت في تصريح 28 فبراير، بل إني أحد واضعيه، وقد سبق لي أن كنت المفاوض الثاني مع عدلي باشا سنة 1921، وفي الإمكان أن أستأنف معكم المفاوضات التي انقطع حبلها ...
قال: ما دام الملك فؤاد قد كلفكم بتأليف الوزارة، فلا اعتراض لي على ذلك!
وخرجت من دار المندوب السامي إلى حيث زملائي في منزلي، وكنت قد تغيبت عنهم مدة طويلة حتى قلقوا، ولما عدت أخبرتهم بما حدث.
المعارضة وتأجيل البرلمان
كان لا بد لي لأمهد للنظام الجديد الذي جئت لإنشائه أن أؤجل البرلمان، فأجلته شهرا كما يسمح بذلك الدستور، وكان من المنتظر أن يقابل هذا الإجراء بمعارضة شديدة من جانب الأغلبية المسيطرة على المجلسين في ذلك الحين، ولم أكن أنتظر أن تكون هذه المعارضة تشبه حربا أهلية مبعثها كراسي الحكم، ولكن حدثت للأسف حوادث مؤلمة، سواء في مصر أو في الإسكندرية أو بعض مدن الريف، ولم يكن للحكومة حيلة فيها إلا المحافظة على النظام، ومنع العابثين من الإخلال بالأمن، وتحدي القوانين، وعلى الرغم مما كان يدبره البعض من أعمال لا تتفق ومصلحة البلاد، فقد استطعت وقتئذ أن أحافظ على هيبة الحكومة، وأن أقضي على الاضطراب.
موقفي من الإنجليز
ومع أن الاضطرابات التي حدثت في أوائل هذا العهد كانت فرصة سانحة لبعض المغرضين للحط من كفاية الحكومة المصرية، والعمل على الاستفادة منها بتحريض بريطانيا على التدخل بحجة حماية أرواح الأجانب وأموالهم، فقد استطعت أن أعالج الموقف بما حفظ للبلاد حقها وكرامتها، وأذكر في ذلك أنه في خلال هذه الاضطرابات بعث المستر بيلي رئيس الاتحاد البريطاني في مصر خطابا إلى المستر رمزي ماكدونالد، رئيس الوزارة البريطانية يندد فيه بسياسة اللين مع مصر، ويشير إلى أن هذه السياسة قد أفقدت بريطانيا هيبتها بين المصريين، ويطالب بقفل باب المفاوضات، وبتعين مجلس استشاري لتقوية مركز المندوب السامي البريطاني.
وقد أعقب ذلك أن سأل المستر بلدوين زعيم المحافظين المستر ماكدونالد في 16 يوليو بمجلس العموم، عما إذا كان لديه تصريح يلقيه عن الحالة في مصر ، فألقى تصريحا جاء فيه:
لما ظهرت بوادر الأزمة الدستورية الحالية في مصر أرسلت حكومة صاحب الجلالة تعليماتها إلى المندوب السامي، أن يراعي في خطته الحياد الدقيق التام، وإن كانت قد تركت له الحرية - دون الخروج عن هذا الموقف - أن يذكر الفريقين بالجو الطيب، الذي انتهت فيه مفاوضات المعاهدة.
وقبل أن تصل إلى لندن الأنباء، التي يؤسف لها عن حوادث الإسكندرية كانت التعليمات قد أرسلت إلى المندوب السامي؛ لكي يبين بصريح العبارة أن حكومة جلالته لا تنوي أن تتخذ أداة ما للاعتداء على الدستور المصري، وعلى ذلك لا يمكن أن يكون لها ضلع في تغيير قانون الانتخاب.
ونظرا للحوادث التي وقعت أمس أرسلت التعليمات إلى المندوب السامي؛ ليبلغ دولة صدقي باشا أننا لا بد أن نعده مسئولا عن حماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم في مصر، وقد كلف السير برسي لورين أيضا بأن يبلغ النحاس باشا أنه يجب أن تحل مشاكل مصر الداخلية، دون أن تتعرض أرواح الأجانب للخطر، وأننا نعده كذلك مسئولا مع الحكومة ...!
ردي على التبليغ
عجبت لهذا التصريح من رئيس وزارة مسئول، وزاد عجبي لهذا التبليغ الذي أرسلته إلى الحكومة البريطانية عن طريق المندوب السامي، وأشركت فيه النحاس باشا في المسئولية مع أنه بعيد عن الحكم، فأسرعت بالرد على هذا التبليغ بما أسجل للتاريخ خلاصته فيما يلي:
ترى الحكومة المصرية في التبليغ الذي تفضلتم بإرساله إلي، أن الموقف الذي اتخذته الحكومة البريطانية أخيرا لا يكاد يتفق مع تصريحاتها المتكررة، بأنها ستراعي بالنسبة لمسائل مصر الداخلية، مقتضيات الحياد الدقيق، فإن ذلك التبليغ في الحين الذي يشير فيه إلى تصريح 28 فبراير، ويراه مانعا كل تدخل في مسألة داخلية محضة كالمسألة الدستورية يعقب بأن الحكومة لا تنوي أن تكون أداة للاعتداء على الدستور، وقد يكون لإعلان نية الحكومة البريطانية محل لو أن الحكومة المصرية التمست معونتها في تنفيذ ذلك الغرض، ولكنها لم تفعل وما كان لها ومصر دولة مستقلة أن تفعل ذلك.
فذلك الإعلان من جانب الحكومة البريطانية لا يمكن أن يؤول إلا على أنه تدخل بمعنى معين في تلك الشئون الداخلية، التي لم ينكر تصريح 28 فبراير نفسه حق مصر المطلق في التصرف فيها.
وقد ذكرت لسعادتكم - وأتشرف بأن أعيد ما ذكرت - بأن المحافظة على أرواح الأجانب في مصر، وعلى طمأنينتهم ومصالحهم كانت منذ الساعة الأولى في صدر ما عنيت به وزارتي من الشاغل ... وتلقاء شعوري بواجب حمايتهم، وثقتي بما أملك من الوسائل، لم تحدثني نفسي لحظة بأن أتخلى عن المسئوليات التي أشار إليها تبليغ الحكومة البريطانية، وإن لم يكن من شأن ذلك التبليغ أن يسهل علي أداء مهمة اعتزمت على أي حال القيام بها إلى النهاية ...
ولم يبق إلا أن أرجو سعادتكم أن تعربوا للحكومة البريطانية عما تراه الحكومة المصرية في عبارة التبليغ، التي تشير إلى مسئولية غيرها، فإنها وإن كانت لم يهمها طبعا إلا الحرص على المحافظة على أرواح الأجانب وأموالهم قد تحمل على أنها غض من سلطان الحكومة القائمة، وتشكيك في انفرادها بالمسئولية، وهي وحدها التي تسأل عن حالة البلاد، وتخاطب في هذا الشأن، فيجر ذلك إلى غير ما قصد إليه من تلك الإشارة مما قد يعيق من قوة التدابير التي تقضي بها إعادة النظام.
وقد كان لهذا الرد شأن كبير جدا في إنجلترا، بل في العالم كله حتى قالت الصحف الإنجليزية: إن الحكومة البريطانية قد لطمت لطمة تحس بصداها الولايات البريطانية من لندن لغاية هونج كونغ، وقد أمرت إذ ذاك بعودة البوارج التي كانت أرسلتها للتهديد من وسط الطريق ... ولكن تأثيرها في مصر - بالأسف - كان أن المعارضة اتهمت هذا الرد القوي بأنه لا يمكن إلا أن يكون متفقا عليه مع الإنجليز، وكانوا منذ سنوات قليلة قد قالوا عن تصريح 28 فبراير إنه تسميم للآبار.
دستور سنة 1930
لما نقل إلى المرحوم زكي الإبراشي باشا رغبة المغفور له جلالة الملك فؤاد في اختياري لتأليف الوزارة سنة 1930، رجوته أن يبلغ جلالته أنه إذا تم ذلك، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية والدستورية تنظيما جديدا يتفق ورأيي في الدستور، واستقرار الحكم والقضاء على الفوضى، والسعي الجدي للإصلاح القومي ... وقد وافق جلالة الملك فؤاد على هذه السياسة، بل إنه كان راغبا فيها بعد ما مرت تجارب سبع سنوات كاملة، دون أن تتقدم البلاد خطوة إلى الأمام، بل لعلها تأخرت إلى الخلف ...
ولذلك ما كدت أنتهي من تأليف الوزارة حتى أخذت أفكر فيما يجب أن يعمل لعلاج الحالة الحاضرة، ولم أرغب في القيام بإجراء غير دستوري - على نحو ما فعل صديقي المرحوم محمد محمود باشا من وقف الدستور، وتأجيل البرلمان ثلاث سنوات قابلة للتجديد - بل رأيت أن أسلك طريق التعديل، الذي رسمه دستور سنة 1923، حتى لا أحرم البلاد من الحياة الدستورية.
لماذا أبدلت دستورا بدستور؟
ولعل مما يهم الجيل الحاضر أن أبين له لماذا نقحت دستور سنة 1923، أو بعبارة أخرى لماذا استبدلت به دستورا جديدا؟
وضع الدستور المصري سنة 1923 منقطع الصلة بالماضي، فإنه على وجه العموم، وفيما عدا ما أحتفظ به من الانتخاب بدرجتين، ليس بينه وبين نظام الجمعية التشريعية، أو ما سبقه من نظام مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية سبب أو نسب.
وضع هذا الدستور على نظام الدستور البلجيكي، مستعيرا من غيره من الدساتير الحديثة أحكاما مختلفة من هنا وهناك، فكان من ذلك كله مجموعة يصح بحق أن تعتبر صورة صادقة، لما بلغته الديموقراطية في أوروبا في العصر الحديث ... ويعلم المطلع على تاريخ الدساتير الأوروبية أن هذه الصورة الأخيرة لم يبلغها طفرة واحدة أي بلد من البلاد، التي نشأ وترعرع فيها النظام النيابي، وأن الدساتير وضعت في كل بلد وفق أحوالها المعاصرة لها، وأن التطورات الاقتصادية والاجتماعية بعد أن تبلغ مداها يكون لها أثرها في تعديل تلك الدساتير، تعديلا يجيء تارة بطريق قلب الدستور وتغييره، وطورا بالطرق التي رسمها الدستور نفسه.
ومن يستقرئ أخبار وضع الدساتير لن تفوته ملاحظة، أن كثيرا من واضعي الدساتير الحديثة يعمدون إلى الانتفاع بخبرة الغير في الأمور الدستورية، دون مراعاة ما بين بلد وبلد من الفوارق في الخلق، والطباع والنظم الاجتماعية. ويظنون خطأ أن آخر الأوضاع خيرها إطلاقا، كما أن أحدث المخترعات أكملها، أو أن ما نجح في بلد لا بد ناجح في غيره من البلاد، ويرون أن النقل عن الغير أقل كلفة وأهون نصبا، إذ كان البحث والاستقراء فيما يناسب ويلابس حال كل بلد أمرا صعب المسلك طويل الشقة.
مصر ليست أوروبا
ولا شك في أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية العامة في مصر، خصوصا من حيث التعليم ونوع الثروة العامة وتوزيعها، لا تشبه في كثير أحوال البلاد، التي نقل عنها الدستور المصري سنة 1923، ولا يجهل أحد أن هذا الدستور وضع في وقت بلغ فيه الخلاف بين المشتغلين بالمسائل العامة، والمشايعين لهم حد الفتنة؛ ولهذا كان من الواجب أن يفرق بين دساتير البلاد، التي عالجت النظام النيابي دهرا طويلا وبين ما يوضع لنا، بقدر ما يقتضيه اختلاف الشبه بين أحوالنا وأحوالها، كما كان من الواجب أن يجعل الدستور، بحيث لا تعلق به آثار الفتنة التي ولد في جوها.
ليس يعنينا، بل يعني التاريخ وحده، أن نعرف ماذا كانت هذه الغاية الأخيرة مما كان يمكن أن يحققها الذين وضعوا الدستور، وإنما الذي يعنينا أن نقرره هو أن دستور سنة 1923 لم يحقق في تلك السنين ما عقد عليه من الآمال من أنه خير ما تمتعت، وتتمتع به البلاد من صور الحكم وأكفلها بإقرار النظام والسلام، وتوجيه الأمور العامة إلى خير الغايات، على يد الصالحين لذلك، القادرين عليه.
أوتوقراطية الوفد البرلمانية!
والدليل على ما تقدم أنه منذ جرت الانتخابات لأول مرة استعملت في سبيل النجاح فيها طرق لم تألفها البلاد، ودعايات بعيدة عن أن تكون مقبولة في شرعة الدساتير، وأخرج كثير من أحكام قانون الانتخاب عن غرضه، وعن وضعه الأصلي، كما حدث ذلك في أحكام تزكية المرشحين، واستغل تاريخ النهضة لمصلحة فريق أحسن ذلك النوع من الاستغلال، فجاءت نتيجة الانتخابات، سواء في مجلس الشيوخ أو في مجلس النواب، موافقة لشهوات ذلك الفريق في الظفر بالغلبة، وقد تم له الظفر بحيث لم يترك مكانا لمعارضة قيمة، وفات الظافرون أنهم خالفوا بذلك مصلحتهم الحقيقية، كما خالفوا لب النظام البرلماني وجوهره، وأسست من ذلك اليوم في مصر «أوتوقراطية جديدة في صورة برلمانية»!
وأرادت تلك الأوتوقراطية أن تستديم لنفسها سلطانا أوتيته بفضل تلك الطوارئ العارضة، فكان أول ما اتجه إليه نظرها تحويل الانتخاب ذي الدرجتين إلى انتخاب مباشر، موهمة أن هذا النوع من الانتخاب هو خير نظام أخرج للناس!
وفي الحق أنه لا يمكن أن يوصف نظام من أنظمة الحكم بأنه خير الأنظمة، فليس في طبيعة أي نظام أن يكون صالحا لكل زمان ومكان ما دامت الأمم، بل الأمة الواحدة على توالي العصور هي ما نعرف من الاختلاف طباعا وعادات وأسباب حياة، حتى لقد قال بحق أحد الحكماء: «جرت سنة الاجتماع وطبائع الشعوب بأن الأنظمة مهما تبلغ من الكمال ليست في الواقع إلا حسابا وتقديرا، مرماه ونتيجته تفضيل أخف الضررين»!
والانتخاب المباشر إن شاع العمل به ليس في نظر محبذيه أنفسهم أكثر من صورة من صور الحكم، أفضى إليها تطور الأحوال الاجتماعية في أوروبا، وجعل منها ضرورة حاضرة من ضرورات النظام النيابي فيها، ومع ذلك فأهل الرأي في أمره على خلاف، وكثير ممن كتبوا في أزمة الأنظمة البرلمانية يؤثرون عليه نظام الانتخاب ذي الدرجتين، ويقولون: إنه «كالمرشح يعطيك ماء أشد نقاء وصفاء دون أن يغير ينبوعه.»
الأوتوقراطية في الحكم
لا أراني مسرفا إذا قلت إن فريق الأوتوقراطية كان قد جرب عدة مرات في الحكم، فأبدى فيها عجزا، وأوشك أن يلحق في كل مرة بالبلاد وسمعتها ضررا بليغا ... ذلك أنه لم يسلك في الحكم السبيل المستقيم، فقد شغل باستدامة أسباب النفوذ والسلطان لنفسه، وبتوفير وجوه المنافع لأنصاره والثأر من خصومه، عما يقتضيه الحكم من توفر على النظر في حاجات البلاد وضروب الإصلاح، وتضحية في سبيل إسعاد البلاد ورقيها.
ولا شك في أن داء البلاد الوبيل كان في ذلك الحين طغيان فئة اتخذت من الدعاية، التي تنشرها بين الناخبين والنواب جميعا سببا ممدودا للحكم والتحكم، فإن هي أقصيت عن الحكم حاولت استثارة عطف الجماهير بدعوى اضطهادها لدفاعها تارة عن استقلال البلاد، ثم عن الدستور تارة أخرى! فهي في سبيل مصلحتها الخاصة كانت تصرف البلاد عن سبيل الخير، وتشغلها عن حل مشاكلها وإصلاح شئونها.
لذلك رأيت أن مصلحة البلاد الكبرى تفرض على القائمين على أقدارها أن يمحوا الماضي بما له وما عليه، وأن يصدر دستور جديد تستفتح به صفحة جديدة في تاريخها الحديث ... وإذا كانت الضرورات ألجأتني إلى انتهاج هذه السبيل، فالتاريخ العام للحياة النيابية حافل بمثل هذه الظاهرة، ظاهرة إبدال دستور بدستور ...
رئيس الديوان والدستور الجديد
كان رئيس الديوان الملكي في ذلك الحين المرحوم محمد توفيق نسيم باشا، فلما رفعت إلى جلالة الملك فؤاد مشروع الدستور الجديد، وضع نسيم باشا مذكرة ضمنها عدة ملاحظات على بعض مواده، وعارض في إصدارها على الصورة التي اقترحتها، ولكن الملك فؤاد لم يوافقه على هذه الملاحظات، وكان يميل إلى استقرار الحكم، وقد عز عليه أن يرى بلاده واقفة حيث هي يضيع العجز مصالحها، وتقطع الحزبية الجامحة أوصالها، ويهمل العمل فيها للإصلاح، ولا تجد من يتولى شئونها بعزم وحزم ونزاهة، للسير بها إلى الأمام، في حين نرى الأمم الأخرى - حتى الأمم التي هي أقل شأنا من مصر - تتسابق في معالجة مشاكلها، وتجد في السير للرقي والمجد؛ ولذلك ارتاح جلالته لهذا الدستور وشجعني عليه، فمضيت فيه، واستطعت في خلال الفترة التي حكمت فيها بعد صدور الدستور الجديد أن أقوم بأعمال هامة في الإصلاح العام، ما زالت آثارها باقية حتى الآن، سواء في نواحي الإصلاح الزراعي كمشروعات الصرف والري، وتعلية خزان أسوان، أو في الإصلاح العمراني كإقامة الجسور، وتجميل المدن، وإنشاء طريق الكورنيش بالإسكندرية، أو في الإصلاح الاقتصادي كمعالجة الأزمة الاقتصادية، والعمل لتخفيف وطأتها في مصر بعدة تدابير لا تزال باقية آثارها ... ولا يخفى أن الأزمة التي كانت قائمة لم تكن مصرية فحسب، بل كانت أزمة عالمية لم يشهد العالم مثلها، فعملت على الأخذ بيد السكان فقراء وموسرين ممن كان أثر هذه الأزمة واقعا عليهم أكثر من غيرهم وهم المزارعون ، فعملت على إبعاد أيدي المرابين عنهم، فأقرضتهم وجعلتهم يتخطون الأزمة بسلام ... وهنا يصح أن أذكر بنك التسليف الزراعي الذي أنشأته، وكان رحمة بالفلاح المصري، ونقمة على المرابين وأكثرهم من الأجانب، وقد دام أثره الطيب الصالح حتى وقتنا الحاضر ...
حزب الشعب
أنا من الذين لا يميلون إلى الحزبية، ولا يحبون التقيد بالأحزاب؛ ولذلك لم أنضم طول حياتي السياسية قبل سنة 1930 إلى حزب ولم أؤلف حزبا، وقد تألف حزب الأحرار الدستوريين برياسة عدلي يكن باشا، واشترك فيه زميلي ثروت باشا، وكلاهما كان صديقا حميما لي، ومع ذلك لم أنضم إليهما، ولم أشترك يوما في عضوية هذا الحزب.
ولكن بعد تأليفي للوزارة، ووضع دستور سنة 1930، وإعلان الانتخابات لقيام برلمان جديد في ظل هذا الدستور رأيت أن لا بد للوزارة من استنادها إلى أغلبية برلمانية، وقد كنت أؤمل أن يؤيدني حزب الأحرار الدستوريين، كما أيدني حزب الاتحاد؛ نظرا لصداقتي لأعضائه الذين شعروا بأني سلكت الطريق القويم، ومما يؤسف له أن المسائل الشخصية لعبت في ذلك دورها الممقوت، ولم يعمل حساب لما قلته بإخلاص عندما توليت الحكم وهو: «إني عابر سبيل»!
ومن العجيب، أن الباقين من الأحرار الدستوريين ائتلفوا مع الوفد - وكانوا قد عانوا منه ما عانوه بحجة أنني اعتديت على دستور سنة 1923 - وفاتهم أنهم هم الذين أجلوا الحياة النيابية، وأوقفوا الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وحكموا البلاد أربعة عشر شهرا حكما؛ وصفوه هم بأنه حكم ديكتاتوري!
لذلك رأيت في تلك الظروف أن أؤلف «حزب الشعب»، ورؤي في أول الأمر أن يسمى «حزب الإصلاح»، وقد انضم إليه عدد من أعضاء حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد والمستقلين.
وقد ظفر هذا الحزب بالأغلبية في الانتخابات، وبقي مؤيدا لي طول بقائي في الحكم، على أنه عندما استقلت من الوزارة، وعهد بها إلى دولة عبد الفتاح يحيى باشا تخليت عن رياسته، ثم استقلت من عضويته، ورأيت أن أعود إلى طريقتي في البعد عن الحزبية والأحزاب.
عيوب في دستور سنة 1923
تحدثت فيما سبق عن العيوب العامة لدستور سنة 1923، وعن الأوتوقراطية البرلمانية والحكومية التي نشأت عنه، ووجهت البلاد توجيها خاصا، صرفها عن خدمة المصلحة العامة والاهتمام بحل مشاكلها، وترقية شئونها إلى خدمة المصالح الحزبية، والالتفاف حول الأشخاص، ونشر النفوذ والسلطان بين الناخبين مما دعاني إلى تنقيحه، وإخراجه في شكل جديد.
وهنا أحدث القراء عما يوجد في هذا الدستور من عيوب خاصة أعانت على استفحال هذا الداء، وماذا خلا منه مما يعين على مكافحته، ليمكن تعديله أو إضافته دون المساس بأصوله الثابتة.
كثرة عدد النواب
جاء دستور سنة 1923 بعدد لأعضاء مجلس النواب أكثر مما تقتضيه ضرورات الحكم، وحالة البلاد الحاضرة، فقد جعل التمثيل بنسبة نائب إلى ستين ألفا من الأهالي، فكان عدد النواب 214 نائبا قبل سنة 1927، فلما ظهرت نتيجة الإحصاء الذي أجري في ذلك العام أصبح ذلك العدد 235 نائبا، ولا يزال ذلك العدد يزداد بتلك النسبة على اطراد كل عشر سنوات حتى أربى الآن على ثلاثمائة.
وقد كان عدد أعضاء مجلس شورى القوانين 30، وعدد أعضاء الجمعية التشريعية 38، فما شكا أحد من الأخيرة قلة أو ضآلة، والمعروف في علوم الاجتماع والمشاهد في المجالس الكبيرة العدد أنه كلما ازداد العدد كانت المناقشات أقل جدوى، واستقلال الرأي ونضوجه أضعف سببا، وقد حددت لجنة الدستور هذا العدد احتذاء لمثال بعض الدول الأجنبية.
على أن الاستكثار من عدد النواب في تلك الدول يلحظ فيه رقى التربية السياسية، وتعدد المصالح واختلافها؛ لكي يكون للآراء المتباينة، والمصالح المختلفة ممثل ينطق بلسانها.
وقد وجد «فريق الأوتوقراطية» في هذا العدد الكبير أداة مستحبة لاستهواء الأنصار أو إرضائهم، وطريقا معبدا لاستدامة نفوذه وسلطانه بما نشأ بينه وبين هؤلاء الأنصار من الاتفاق والتعاون: هم يؤيدونه بالاستسلام له في المجلس، وهو يجزيهم على ذلك تعضيدا، ومنافع أخرى تجعلهم أكثر حرصا على الاحتفاظ به، وتفانيا في الدفاع عنه، بل لم يكفه هذا العدد الكبير، فزاد من عدد أعضاء مجالس المديريات زيادة لا تقضي بها ضرورة، ولا تبررها مصلحة جعلت من أعضاء هذه المجالس ضعفي عدد النواب.
تحسين مستوى النواب
وليس من شك في أنه مع غلبة الشبه في نواحي الحياة المصرية، وقلة وجوه الاختلاف ودرجة التربية السياسية، يكفي عدد أقل من ذلك العدد بكثير لقضاء كل حاجات التمثيل في مجلس النواب، بل إن هذا العدد الأقل الذي سينتخب عن دوائر أوسع يكون بطبيعة الحال أرفع مستوى، وأكثر جدارة من متوسط النواب.
والأمثل في هذا الشأن أن يكون العدد ثابتا، بحيث لا تعرض له الزيادة كلما زاد عدد الأهالي بحسب ما يثبته الإحصاء كل عشر سنوات، إذ زيادة عدد الأعضاء على وجه الاطراد تسبب الارتباك في العمل، وليست في ذلك ضرورة إذا روعي بقدر الإمكان في توزيع عدد الأعضاء على دوائر الانتخاب، تساويها في عدد السكان.
وبما أن ازدياد عدد السكان يحصل على وجه العموم بنسبة واحدة في كل دائرة، فالتمثيل يظل بذلك عادلا لاطراد التساوي فيه.
على أن المألوف أيضا في أغلب البلاد الدستورية كإنجلترا، وفرنسا، والولايات المتحدة، أن للنواب عددا ثابتا يوزع على أقسامها الإدارية لا يتغير بتغير عدد السكان، بل لقد عرف عن بعضها تفاوت ظاهر بين الدوائر المختلفة، من حيث ذلك العدد - وهذا التفاوت الذي كثيرا ما يكون نتيجة العمران اللازم عن رقي الصناعة، واتساع نطاقها، هو وحده الذي يدعو إلى إعادة النظر في التوزيع بين فترات طويلة.
ولهذا رأيت أن أحدد عدد أعضاء مجلس النواب في دستور سنة 1930، بحيث لا يزيد عن 150 نائبا، وقد وزع هذا العدد على المديريات والمحافظات بمقتضى قانون حدد الدوائر الانتخابية في ذلك الحين.
الانتخاب المباشر وذو الدرجتين
كانت لجنة الدستور سنة 1923 قد جعلت طريقة الانتخاب على درجتين، وصدر بذلك قانون، فلما تولى الوفد الحكم حول هذا الانتخاب ذا الدرجتين إلى انتخاب مباشر، بدعوى أنه حق طبيعي وأصدق للتعبير عن رغبة الأمة.
والصحيح أن الانتخاب وظيفة، لا حق يتمتع به الكافة على السواء، وأنه لذلك يجب أن تكون لدى الناخب الكفاية اللازمة لما يناط به من حسن الاختيار.
وما نحتاج إلى دليل على أن هيئة الناخبين في مصر تعوزها أسباب التربية السياسية، التي تمكن الناخب من الحكم في قضايا السياسة، ومشاكل الحكم؛ ليؤثر من يراه أدنى إلى قلبه وفهمه.
وليس من يجهل أن مصر بلد زراعية، وفيما عدا المجاميع التي تسكن المحافظات، وعواصم المديريات والمراكز، والتي لا تبلغ ربع عدد السكان، فإن أساس الحياة العامة، والخلية الأولى في عمليات الانتخاب هي القرية، ومعظم القرى يتراوح سكانها بين حوالي الألف وأربعة الآلاف، وعلى القرية وطبائع سكانها يبنى الحكم ويجري القياس، ولو أن أهل القرية سئلوا أن يختاروا من بينهم من يثقون بذمتهم لكانوا خليقين بأن يحسنوا الاختيار؛ لأن ما يقتضيه ذلك من معرفة الخلق والمقدرة موفور الأسباب في هذا المجتمع الضيق، لكنهم لو سئلوا أن يتجاوزوا أفق القرية، لاختيار رجل يتحدث عنهم، وعن أمثالهم ممن يكون مجموعهم دائرة انتخابية «ستين ألفا» أو نحو «مائة ألف» لأعوزتهم المعرفة المباشرة بلا شك ... فلم يبق إذن إلا أن يعتمدوا على العلم بشيء مما يتجادل فيه المرشحون، وعلى الإلمام بطرف من ماضي أحزابهم، ومبادئها ونزعاتها والتميز بينها.
فهل يستطيع ذلك سواد الناخبين في مصر؟!
مثل هذا يكون مستطاعا لو أنه يتصل بأسباب حياة الناخب اليومية، أو لو أنه شيء يرتجل ولا حاجة فيه إلى إعداد وتربية، ومن أجل ذلك كان الانتخاب ذو الدرجتين أدعى إلى التعبير السليم بين المرشحين، فإن من شأنه أن ينتج أفضل أهل القرية وأكثرهم غشيانا للمدن، ومعرفة بالرجال، وبالتالي أقربهم إلى العلم بالشئون العامة.
ونلخص ما تقدم في كلمتين: أن الانتخاب المباشر يجعل الفلاح ينتخب نائبا لا يعرفه ...!
عيوب مجلس الشيوخ
وما يقال في عدد أعضاء مجلس النواب من حيث الثبات، وطريقة الانتخاب يقال في مجلس الشيوخ؛ ولهذا نص دستور سنة 1930 على أن عدد الشيوخ يكون ثابتا لا يتجاوز المائة، وعلى أن انتخاب المنتخبين يكون على درجتين.
الجزء الأول ... والجزء الأخير من مسودة تصريح 28 فبراير بخط إسماعيل صدقي باشا.
أعضاء لجنة الدستور يتوسطهم حسين رشدي باشا رئيس اللجنة.
بقيت مسألة التعيين والانتخاب، ونسبة كل منهما للآخر، فقد روعي في مجلس الشيوخ أن يكون بعض أعضائه معينين، والبعض الآخر منتخبين، غير أن دستور سنة 1923 آثر الانتخاب بالعدد الأكبر، فجعل له ثلاثة أخماس الأعضاء، وترك لتعيين الملك الخمسين.
وقد كان وما يزال أخص ما يعاب على الأنظمة النيابية أنها جعلت السياسة صناعة يحترفها، ويحذقها عدد غير قليل.
وإذا كان ذلك مما لا يستطاع تجنبه للحاجة إلى أمثالهم في تكوين صفوف الأحزاب، فإنه مما يقوم الأداة السياسية للبلاد أن يكون إلى جانب هؤلاء أشخاص يستطيعون بمكانتهم الاجتماعية، أو بسابق خدماتهم أن يكونوا مستقلين عن الأحزاب كل الاستقلال أو بعضه، كما يستطيعون بما اجتمع لهم من علم أو تجربة في الصناعات، والأعمال التي زاولوها أن يدخلوا في الحياة السياسية آراء ناضجة، ومشاعر ونزعات خلت من النعرة الحزبية.
ولكن كثيرا من هؤلاء يأبون أن يخوضوا معامع الانتخاب؛ صونا لكرامتهم عن المنازعات والمناضلات؛ لذلك تفتح لهم في كثير من البلاد أبواب مجلس الشيوخ، وسواء أكان الدخول فيه بطريق التعيين أو بطريق الانتخاب، فإنه لإبعاد مزاحمة طوائف محترفي السياسة، رأيت أن يشترط فيمن يدخله شروط خاصة من الوظائف أو الأعمال، أو الصناعات أو الثروة، وزدت في الدستور نسبة المعينين في هذا المجلس من خمسيه إلى ثلاثة أخماسه، فأصبحت نسبة المعينين من الشيوخ أكثر من المنتخبين، حتى لا تحرم البلاد من خدمات عدد من رجالها الأكفاء.
لا أريد أن أخوض في عيوب دستور سنة 1923، التي دلت تجارب السنوات الماضية على وجوب إصلاحها، وحملتني على تنقيحه دون المساس بأصوله الثابتة، ولكني أشير هنا إلى أنه ما كادت تبدو الرغبة في إصلاح الدستور، وما كاد دستور سنة 1930 يظهر للوجود حتى شن الوفد على هذا الإصلاح حملات شعواء! وكان طبيعيا أن يشن الوفد هذه الحملات؛ لأنه وجد في الدستور الجديد حدا من سلطانه الحزبي والبرلماني، ولكن لم يكن من الطبيعي في ذلك الحين أن يقف الأحرار الدستوريون من الدستور الجديد موقف المعارضة، فقد كانوا يشكون كما يشكو سائر العقلاء والمحبين لمصلحة البلاد من الطغيان الحزبي، وكانوا يبحثون كما أبحث عن طرق العلاج، وقد هدى التفكير إلى صنفين من العلاج لا مندوحة من اختيار أحدهما إذا أريد المخرج؛ الأول: علاج يقضي بإلغاء الحياة النيابية إلغاء تاما، أو تعطيلها إلى أجل غير مسمى، حتى تجري الأمور في مجاريها الطبيعية، ويلتفت رجال السياسة إلى مصالح البلاد، ويتعهدوها بالخدمة الخالصة.
إسماعيل صدقي باشا، وعبد الخالق ثروت باشا بطلا تصريح 28 فبراير سنة 1922.
وأما الثاني، فعلاج يراد به تلمس أرفق الوسائل لإصلاح ما ظهر من عيوب النظم النيابية في مصر، إصلاحا يتم في هوادة وفق ناموس التطور، وتنعدم منه كل أسباب الشكوى، وتستقر به الأمور.
كان علينا أن نختار أحد هذين العلاجين، وكانت أمامنا تجربة الأحرار الدستوريين، وهم الذين فضلوا العلاج الأول، وطبقوه سنة 1928، ولكنه كان علاجا قاسيا، وظالما في الوقت نفسه؛ لأنه أشبه شيء بعملية البتر التي لا يجوز الالتجاء إليها إلا عند الضرورة القصوى، حين لا تكون هناك مندوحة عنها.
ولذلك اخترت أنا العلاج الثاني، وهدفي إنقاذ الوطن من سوء المصير، وكان موقف الأحرار الدستوريين من هذا العلاج من أعجب المواقف!
الملك فؤاد كما عرفته
عرفت المرحوم الملك فؤاد أميرا، وسلطانا، وملكا ... فعرفت فيه صفات الإمارة والقيادة، والعظمة، والملك، وعرفت فيه حبه للعلم، وإيمانه برسالته في تقدم الأمم، وتعشقه للرقي والحضارة، وتشجيعه للعلماء، وميله للتعرف بكبار النابهين من رجال العلم والسياسة.
وقد كان أول اتصالي به - كما بينت في كلمة سابقة - حينما اخترناه رئيسا للجامعة المصرية الأهلية بعيد تأسيسها في سنة 1906، وهو يومئذ أمير معروف بهذه الشمائل الغراء التي أكسبته تقدير العلماء، واحترام رجال السياسة في مصر والخارج، ذلك الاحترام الذي هيأ له مركزا ممتازا في الأندية السياسية في أوروبا، وجعله من الأمراء المعدودين الذين تتجه إليهم الأنظار إذا ما أريد لبلد أن يتبوأ عرشها ملك، حتى في البلاد الأوروبية؛ أي إن منزلة الأمير فؤاد ومواهبه كانت تسمو على منزلة الأمراء العاديين ... ولكن الله أراد ألا يكون عرشه غريبا عن بلده، بل عرش مصر.
ومن حسن الطالع أنه لما مات السلطان حسين كامل تنحى نجله الأمير كمال الدين حسين عن العرش، على الرغم من إلحاح الإنجليز عليه بتبوئه، فانتقل إلى فؤاد، وكان ذلك من فضل الله عليه؛ لأن مواهبه كلها لم تكن معروفة، ومن فضل الله على مصر؛ لأنه - رحمه الله - نهض بها في طريق الحضارة نهضة مباركة موفقة، وكان يميل إلى تقليد والده المرحوم الخديو إسماعيل في هذه الناحية المفيدة، التي تجعل بلاده في الطليعة، متجنبا ما وقع فيه غيره من أخطاء أو عيوب.
ويشرفني أن أعود بالذكريات إلى هذا الحادث السعيد - حادث تولي الأمير فؤاد عرش مصر بعد وفاة السلطان حسين - فقد كان مقيما بمحطة جليمونوبلو برمل الإسكندرية في ذلك الحين، وكنت أقطن أنا بمنزلي بمحطة قريبة، وكنا نتقابل على الدوام للحديث في مختلف الشئون ... وذات يوم، وقد انتهيت من الغداء، دق جرس التليفون، وإذا بالمتكلم «الأمير»، وإذا به يقول: أود أن أراك.
فقلت: في أي وقت تريدون؟
قال: الآن ... أريدك لمسألة هامة!
فخرجت مسرعا إليه فاستقبلني بمكتبه المكتظ بالكتب النفسية قديمة وحديثة، فقد كان مولعا بالكتب والقراءة ... وقال لي: يا إسماعيل باشا ... أنا طلبت اليوم في القاهرة ... وأردت أن تكون أنت أول من أنبئه هذا النبأ ...
قلت: لعله خير يا أفندينا ...!
قال: إنه على أثر وفاة أخي السلطان حسين يراد عرض العرش علي ... فما رأيك؟
فقلت له: إن صفاتك العظيمة ومواهبك الممتازة تجعل اختيارك لهذا المركز خيرا لمصر، ونعمة لأهلها ... ويسرني أن أكون أول من يهنئك، وأسأل الله أن يكون عهدك عهد يمن وبركة على البلاد.
فقال: ألا تريد أن تسافر معي الآن؟
قلت: أرجو أن تؤخر هذا للوقت الذي ترى فيه أن لوجودي بعض الفائدة! وقد حصل، وطلبني بعد ذلك بأيام، وكان عطفه علي عطفا لا أنساه.
ملك أنموذجي!
تولى فؤاد الأول الأريكة المصرية في ظروف دقيقة، فكان عليه أن يحافظ على تراث آبائه، وكان عليه أن يوطد دعائم العرش، ويذلل الصعوبات، ويحل مشاكل الأمة المصرية الرازحة وقتئذ تحت نير الحماية والاحتلال، الذي امتد إلى عهده خمسة وثلاثين عاما.
تولى فؤاد الأول هذه الأريكة والحرب العالمية الأولى ما زالت قائمة، ثم كانت الاضطرابات في مصر وفي بعض أنحاء العالم، ولم تكن هناك أمة تعرف مصيرها أو تتكهن بما تأتي به الأيام، فاضطلع - رحمه الله - بمهام الحكم والسلطان في ذلك الوقت العصيب، وقبض بيد حكيمة على أزمة البلاد، وساعدته مواهبه الفطرية، وثقافته الواسعة المتنوعة في قيادة أمته قيادة حازمة في كل ناحية من نواحي نهضتها السياسية والعلمية والعمرانية.
وكانت المسألة المصرية أهم ما يشغل جلالته، وكان موقفه فيها موقف القائد المرشد الذي يوجه توجيها صالحا، ويؤثر الروية وانتهاز الفرص لتحقيق مطالب الأمة، وقد انتفعت أنا وثروت باشا بإرشاداته وحسن توجيهاته السديدة في تصريح 28 فبراير سنة 1922، الذي كان متتبعا لأدواره منذ بدأ حتى انتهى.
وقد مرت به أزمات كثيرة، فكان يلقاها على الدوام بصبر وثبات، ونفس قوية لا تعرف اليأس والملل، وكان أحسن مثل في التفاؤل والأمل بالمستقبل، غير أنه كان كثير التأثر لما يصيب بلده من متاعب، وكان يضيق بمواقف رجال السياسة المصريين إذا ما آنس منهم الجنوح إلى الاشتغال بمجد الأشخاص بلا فائدة لمصر، وكذلك عندما كان يرى أحقاد البعض تسيطر على موقفه من المسائل الكبرى.
وأذكر بهذه المناسبة أن ولاية العرش لم تكن مما يحرص عليه لخدمة نفسه أو لمنفعة شخصية، حتى إنه مكث مدة في سراي البستان التي كان يقيم بها أيام إمارته، وقبل أن يصبح سلطانا وملكا، ولم يكن ينتقل إلى عابدين إلا للأعمال الرسمية، وكنت أتحدث إليه في ذلك، فكان يقول: إنني أحب أن أبقى حيث أنا حتى إذا لم أنجح في خدمة بلادي تخليت عن العرش!
الملك فؤاد وكرامة العرش
وكان الملك فؤاد وطنيا صميما متعصبا لوطنه ولمصريته، مع أنه عاش طويلا في الخارج، وأعجب بحضارة البلاد الغربية، ولكن إعجابه كان مقصورا على رغبته في الإفادة من حضارة الغرب بما يدفع مصر خطوات في طريق الرقي والنجاح.
وكان إلى سماحة نفسه ونزاهته وتواضعه الكبير، عظيم الترفع عن الصغائر، حريصا على المحافظة على كرامته وكرامة العرش؛ لأنه كان يرى العرش رمزا لعظمة الأمة ومجدها ، فكان ينأى به عن أن يمسه شيء من قريب أو بعيد خصوصا في بلد شرقي.
وكان الحكم في نظره ينبغي أن يبنى على العلم والعرفان، وقد عنى منذ كان أميرا بتقدم مصر العلمي، ووقف جهوده على ترقية الحياة العقلية للأمة، ولما تولى العرش اهتم بالجامعة المصرية - التي كان رئيسها والعامل الأول لرقيها - فيما اهتم به من جلائل الأعمال، ونقلها إلى الحكومة وأصبحت من كبريات الجامعات، كما اهتم بالجمعيات العلمية، فأحيا الجمعية الجغرافية وجدد نشاطها، وتأسست من جديد جمعية الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، وأنشأ معهد الأحياء المائية، وأنشأ متحف فؤاد الصحي، ومعهد البحوث الصحراوية، وأمر - رحمه الله - بإنشاء مجلس الأبحاث، الذي تم تأليفه بعد وفاته، وأسندت إلي رئاسته بأمر من نجله الملك فارق الأول.
وأذكر أنه دعاني لزيارة المتحف الزراعي ببودابست عاصمة المجر، وهو أعظم متحف من نوعه في العالم، وأحب أن يكون في مصر متحف على مثاله، فصدعت بأمره، وزرت هذا المتحف، ولما عدت عملت على تحقيق رغبة جلالته بإنشاء متحف فؤاد الزراعي على غرار هذا المتحف العظيم.
وقد كان للملك فؤاد من الأثر العمراني ما نهضت به الحياة الاقتصادية والعمرانية في مصر، فقد اهتم جلالته برقي الصناعة والزراعة، فأنشئت في عهده: وزارة التجارة والصناعة لمساعدة المنتجين، وتشجيع الصناع والأخذ بيدهم؛ لتبلغ الصناعات الوطنية المكانة، التي بلغتها صناعات الأمم الراقية، وقد تألف في عهده وبإرشاده الاتحاد المصري للصناعات، وتأسيس بنك التسليف الزراعي، وكان هذا البنك رحمة للمزارعين المصريين، وتقدمت أنواع الزراعات المصرية في عهد الملك فؤاد، وتألفت الجمعيات التعاونية، إلى غير ذلك مما كان له أكبر الأثر في التقدم الاجتماعي والاقتصادي بمصر.
كل وقته للعمل
وكان الملك فؤاد عجيب الأطوار، إلى حد أنه لما تولى الحكم، كان كأنه تسلم رسالة من المولى - سبحانه وتعالى - بأن يكون نعمة على البلد، فكان كل وقته مكرسا للعمل ... وربما كان غريبا لبعض الناس أن الملك فؤاد كان يعلم من أعمال الحكومة ما لا يعلمه الوزراء أنفسهم، وكنا نحن الوزراء نذهب للاجتماع معه، ونحن نعلم أنه قد درس المسائل التي سنتناقش فيها دراسة ضافية، وزاد على ما قدم له من مذكرات، وبيانات بمراجع وأبحاث من عنده.
وكم يرتاح من هو في سني في الوقت الحاضر، إذ يرى أكبر هم لمليكنا المحبوب فاروق أن يقتدي بوالده، ويحب - لو استطاع - أن يعمل كما كان يعمل سلفه العظيم.
تنازل الخديوي عباس عن العرش
لعل من محاسن الاتفاق أني كنت أول من هنأ الملك فؤاد بالعرش سنة 1917، وأول من عمل لتوطيد عرشه بالاتفاق مع الخديو السابق عباس حلمي الثاني على التنازل عن عرش مصر سنة 1931.
وقد مر بك في الكلمة السابقة، كيف أنبأني جلالته بنبأ عرض العرش عليه بعد وفاة السلطان حسين كامل، وكيف هنأته لهذا النبأ السعيد. واليوم أتحدث عن اتفاقي مع الخديو عباس على التنازل عن عرش مصر لجلالة عمه الملك فؤاد ...
حق لا ينازع!
كان الخديو عباس قد سافر إلى الآستانة في صيف سنة 1914، فلما قامت الحرب العالمية الأولى وأراد العودة إلى مصر، انتهز الإنجليز فرصة قيام تلك الحرب، ومنعوه من العودة إلى بلاده بحجة انضمامه إلى أعدائهم، ثم أعلنوا خلعه في 19 ديسمبر سنة 1914، فآل الحكم إلى السلطان حسين كامل باعتباره أكبر أمراء الأسرة العلوية، عملا بفرمان سلطان تركيا الذي صدر في مايو سنة 1841، والذي ينص على أن ولاية مصر تنتقل لأكبر أولاد محمد علي باشا الذكور وأولاد أولاده.
ولكن الخديو عباس لم يعترف بهذا الخلع؛ لأنه لم يصدر من سلطان تركيا؛ ولأن ذلك الفرمان قد ألغي بفرمان سنة 1866، الذي حصل عليه الخديو إسماعيل باشا من السلطان، وينص على أن ولاية مصر تكون لأكبر أنجال الوالي طبقة بعد طبقة، وقد تولى والده الخديو توفيق باشا بهذا الفرمان، كما تولى هو العرش بمقتضاه، فهو صاحب الحق الذي لا ينازع!
وقد أعلن استقلال مصر في 15 مارس سنة 1922، واعترفت بريطانيا بأحمد فؤاد الأول ملكا على مصر، كما اعترفت بولاية العهد «للأمير فاروق»، ووضع الملك فؤاد نظاما لتوارث عرش المملكة المصرية، وصدر به أمر ملكي، ولم يكن الخديو قد تنازل من جهته عن حقه، ولم يعترف بهذا النظام، فكان من المهم تسوية هذه المسألة تسوية نهائية حتى لا تبقى معلقة إلى ما شاء الله.
ولما توليت الحكم سنة 1930 كانت هذه المسألة من أهم ما شغلني، وقد عاصرت الخديو عباس، وعملت معه في شبابي إلى أن أصبحت وزيرا للزراعة في عهده، ودامت علاقتي به حتى بعد خلعه أثناء زياراتي لأوروبا، وكان كثير المودة والعطف علي، كما عاصرت الملك فؤاد وتعاونت معه في شبابي وكهولتي، وتمتعت بصداقته وثقته، وكنت أعرف تقدير الخديو عباس لعمه الملك فؤاد وحبه له وإعجابه به، كما كنت أشعر باهتمام جلالته بحل هذه المسألة، ورغبته في وضع حد نهائي لها يمحو ما صنعته الظروف من غشاوة بينه وبين ابن أخيه.
سر على بركة الله!
وبينما كنت أفكر في هذا الموضوع اتفق أن وصل إلى مصر من سويسرا عبد الله البشري بك، سكرتير الخديو عباس موفدا من سموه لمقابلتي، وكان ذلك في يناير سنة 1931، فاجتمعت به في منزلي، وأفضى إلي بأن سمو الخديو قد آنس ضجرا من هذه الحال، وأنه يود أن يزيل ما بينه وبين عمه من خلاف على العرش، وأنه يعرب عن صادق إخلاصه، ويود له التوفيق في خدمة مصر، كما يود أن يتم ذلك على يد صديق له مثلك.
وارتحت أنا لهذا العرض، بل تفاءلت وحمدت الله عليه، ورجوته أن يوفقني فيه لخدمة مليكي وعرش بلادي.
وبعد الاجتماع استأذنت جلالة الملك، وقابلته، ووضعت بين يدي جلالته ما حمله رسول الخديو، فابتهج به، وقال لي: «سر على بركة الله ...»
مجلس الوزراء لا يعلم!
وتعددت المقابلات بيني وبين البشري بك، ولم يكن أحد يعلم بها في مصر - بعد جلالة الملك فؤاد - غيرنا نحن الاثنين، وروعي الكتمان الشديد، حتى إن مجلس الوزراء لم يكن يعلم بهذه المفاوضات، وكنت أجتمع به في منزلي.
وفي 10 فبراير سنة 1931 سافر البشري بك لمقابلة الخديو، وكان سموه في تونس، ثم تركها إلى الجزائر، فلحق به، ومكث معه بضعة أيام عرض عليه فيها تفاصيل ما جرى بيني وبينه، ثم عاد إلى مصر في أول مارس مزودا بتعليمات سموه، واستأنف البحث معي وأبلغني أن الخديو عباس قبل مبدئيا التنازل، فأخذت أضع معه نصوص الاتفاق، وكنت قد طلبت إلى عبد الحميد بدوي باشا أن يضع الصيغ النهائية، ففعل إلى أن انتهينا منها، ثم اتفقت معه على أن توفد الحكومة المصرية مندوبين لها لمقابلة سموه وإنجاز الاتفاق، وذلك في موعد يخبرني به تلغرافيا بعد مقابلته للخديو بسويسرا.
وفي 26 مارس سافر البشري بك، ثم وصلني منه تلغراف يقول فيه: إن سمو الخديو سيكون بلوزان في 15 أبريل، فانتدبت سعادة أمين أنيس باشا المستشار الملكي في ذلك الحين، والأستاذ بتسي بك المحامي، كوفد من قبل الحكومة المصرية، وصحبهما يوسف جلاد بك (باشا) رئيس الإدارة الإفرنجية بسراي عابدين ... وجرت المقابلات مع الخديو السابق في فندق سافوي تارة، وفي فندق لوزان بالاس تارة أخرى، وكان سموه يقصد إلى لوزان يوميا بسيارته للإشراف على الاتفاق، إذ كان مقيما في ديفون، حتى تم وضع الصيغ النهائية، وأمضى سموه الوثيقة في 6 مايو سنة 1931.
وأبلغني الوفد نبأ التوقيع تلغرافيا، فأبلغته لجلالة الملك، وكان اليوم الثاني من عيد الأضحى المبارك، فاجتمع مجلس الوزراء برياسة الملك فؤاد في قصر القبة العامر، وأفضيت إلى زملائي بهذا النبأ، وأعلناه رسميا في البلاد.
وثيقة التنازل
لم يكن في هذا الاتفاق أية مساومة، وقد قبل الخديو عباس التنازل عن العرش بدافع الوطنية، والحب لعمه ولأسرته التي خدمها 23 عاما، ورضي عن طيب خاطر أن يتخلى عن حقه بدون قيد ولا شرط؛ لأن الجالس على العرش هو أكبر أنجال محمد علي باشا الكبير، كما أنه أكبر أنجال الخديو إسماعيل، ولم تدفع الحكومة المصرية تعويضا، ولكن رؤي أن تصان كرامة الخديو في أوروبا وكرامة البلاد التي كان يتولى عرشها، فتقرر أن تدفع الحكومة له سنويا مبلغ ثلاثين ألف جنيه لا تنسحب على الماضي، ولا يصرف منها شيء لأحد من ورثته بعد الوفاة، ولم يكن هذا ثمنا للتنازل، ولا امتيازا على غيره من ذوي العروش المخلوعة، أما وثيقة التنازل، فهذا نصها:
إني موقن بأني خدمت بلادي بأمانة وإخلاص، وأني كرست لها مدى ثلاث وعشرين سنة - بالرغم من دقة الظروف - كل قواي وخير أيام حياتي.
وقد تتبعت عن كثب ما أحرزته البلاد، وما لا زالت تحرزه من أسباب التقدم في جميع النواحي.
وإني مغتبط بما أراه من خطاها الثابتة في سبيل توثيق استقلالها، والتوفيق بين نظامها السياسي، وبين حاجاتها وأمانيها.
ورغبة مني في تحديد موقفي حيال نظام مصر السياسي، وتأكيد إخلاصي نحو ذات ملكها المعظم، فإني أعلن اتباعي للدستور المقرر بالأمر الملكي رقم 70 لسنة 1930، وأصرح بأني سأتوخى في جميع الظروف خطة مطابقة للنظام المقرر لقوانين البلاد.
وعلى وجه الخصوص أعلن احترامي للأمر الملكي الصادر في 13 أبريل سنة 1922، بوضع نظام لتوارث عرش المملكة المصرية، والقانون نمرة 28 سنة 1922 الخاص بإقرار تصفية أملاكي، وهما جزءان لا يتجزءان من الدستور المصري، وقانون التضمينات نمرة 25 سنة 1923، وأعلن اتباعي لها جميعا.
ولما كنت أقر لحضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بن إسماعيل بأنه ملك مصر الشرعي، فإني أعلن بهذا تنازلي عن كل دعوى على عرش مصر، كما أعلن تنازلي عن كل مطالبة ناشئة عن أني كنت خديويا لمصر أيا كان وجهها، سواء عن الماضي أم عن المستقبل.
ومع تأكيد ولائي المطلق الدائم لجلالة الملك فؤاد الأول أعرب لجلالته عن صادق إخلاصي، وأتوجه إلى الله بصالح الدعوات ليحوط جلالته والأمير فاروق ولي عهد المملكة بعين عنايته، ليزيد في إسعاد مصر في حاضرها ومستقبلها.
وقد رفعت هذه الوثيقة إلى جلالة الملك فؤاد بعد عودة مندوبي الحكومة من سويسرا، مع خطاب شخصي من الخديو إلى جلالته، فسر جلالته بهذه النتيجة، وأراد أن يعرب عن تقديره لشخصي الضعيف بالإنعام على المرحومة السيدة حرمي بالوشاح الأكبر من نيشان الكمال، ولما ذهبت لرفع آيات الشكر لهذا الإنعام السامي، وعلم بوجودها في الحرملك انتقل - رحمه الله - إليها، وقال لها: «إن زوجك قد حاز كل أوسمة الدولة، وقد فكرت أن أقدم لك وسام الكمال ليكون المكافأة، التي أستطيع أن أقدمها إليه في شخصك .»
خطاب من الخديو
وعلى أثر هذا الاتفاق وصلني خطاب من سمو الخديو قال فيه: ... نشكر دولتكم عظيم الشكر ... وبمناسبة انتهاء المفاوضات، وإمضاء العقد نخبر دولتكم برضانا وارتياحنا، ونرجو لدولتكم دوام التوفيق في كل ما قمتم وتقومون به من صالح العمل الكثير لسعادة مصر سياسيا، واقتصاديا وإداريا، بما عرف عن دولتكم من القدرة والكفاية، وما اشتهرتم به من الحكمة، وأصالة الرأي وحبكم للبلاد.
ونخص بالذكر علاجكم الحكيم لإنقاذ مصر من هذه الأزمة العالمية الطاحنة، وتخفيف وطأتها على مصر العزيزة، وتثبيت ماليتها، كذلك إصداركم للدستور الجديد الذي نرجو أن تمنح البلاد في ظله طمأنينة وحياة كلها تقدم ورخاء، حتى تصل بحسن سعيكم، وسعي المخلصين من أبنائها، إلى ما تصبو إليه من إتمام استقلالها وتوثيق مجدها ...
عباس حلمي
وقد كان هذا الخطاب مكتوبا بخط يده؛ رحمه الله رحمة واسعة.
طلقت الحزبية ...
لم أكن أريد أن أؤلف حزبا، أو أصبح رئيسا لحزب يوما من الأيام؛ لأني لا أميل إلى الحزبية، وليس من طبيعتي التشيع لشخص من الأشخاص، ولو كان شخصي، أو لفكرة من الأفكار إلا إذا كنت مؤمنا بها إيمانا مطلقا عن كل غرض أو قيد من القيود ... ولكن ظروف الحكم والحياة الدستورية اضطرتني إلى تأليف «حزب الشعب»؛ لأستند إلى تأييده بعدما تخلى عني جانب ذو شأن من حزب الأحرار، وانضم إلى الوفد لمعارضتي، ومحاربة دستور سنة 1930، حتى إذا تركت الحكم، وسايرت التيار الحزبي بعض الوقت، لمست أن لا فائدة من اتصالي بحزب معين، واستقلت استقالة مسببة بينت فيها أن الحزبية في مصر ليست من النوع الذي يتحقق منه للبلاد نفع؛ لأنها عندنا ذات صفة شخصية؛ أي إنها تتصل بالأشخاص لا بالمبادئ، وذلك شأنها في البلاد التي لم تنضج فيها الحياة النيابية، ولم تستقر فيها مبادئ الحكم الديموقراطي، حيث يجتمع الناس حول أشخاص لا حول مبادئ ... وقد كانت هذه هي حال بلاد اليونان في زمن مضى، بل لقد وصلت هذه البلاد في ذلك الاتجاه إلى أن كانت تسمى الأحزاب بأسماء رؤسائها.
والواقع أننا في مصر لا نختلف عن ذلك في شيء، فالأحزاب عندنا أفراد جمعتهم وحدة حال، أو صداقة، أو ذكريات مشتركة، أو أقسام من أحزاب انفصلت عن حزبها الأول لاختلاف في بعض وجهات النظر، فكونوا من الأحزاب أحزابا، ولست أدري لهذا كله من فائدة غير تلك التي تهيئ للمتحزبين أسباب الحكم ...! وأنت إذا استعرضت جميع الأحزاب المصرية، واستطلعت اتجاهاتها العامة، لم تفز بأي فارق بينها ... وإذا كان لي أن أبذل نصحا، فهو أن تعمل الأحزاب على وضع برامجها، وأن تعرض هذه البرامج على البلاد؛ لتتكون حول الأحزاب جمهرة مريديها العاملين على نصرتها ... وهناك من شئون الحكم مسائل كثيرة لا بد أن يفهم الحكام اتجاه البلاد نحوها، فإننا في مصر لم تتكون لنا حتى الآن فكرة عامة تتعلق بكنه ما نريده من الاستقلال ... هل هو استقلال مجرد عن الاتصال بالغير؛ أي ضيق في مراميه، أم استقلال مبني على التعاون مع باقي الدول، ولم نكون رأيا في سياستنا الخارجية بعد ما انقسم العالم إلى كتلتين شرقية وغربية، ولم نحدد موقفنا من كل منهما، أو نقرر أي الكتلتين هي الأصلح للانضمام إليها لصيانة استقلالنا، وتحقيق أهدافنا ... لم نفعل ذلك ... بل لم نكون خطة صالحة في القضايا الاجتماعية، وهي ذات خطر كبير في الوقت الحاضر، ولا في القضايا المالية والاقتصادية وسياسة التعليم، تلك القضايا التي هي مثار الأبحاث الدقيقة في البلاد الأخرى، وإنما الذي نراه من حكامنا هو الارتجال، كلما عرض لهم شيء من هذه المسائل!
وأملى كله في الهيئة البرلمانية أن يتكون لها من المران، ومن الشعور بالواجب ما يدفعها إلى نهج جديد تسير فيه على غرار البلاد الأخرى، التي نرى نتائج بحوثها ومساعيها الطيبة نحو رقي البلاد، وإسعاد الشعب.
مقابلتي لموسوليني!
أشرت في كلمة سابقة إلى مقابلتي لموسوليني بروما سنة 1925 وأنا وزير، وقد قابلت هذا الزعيم السابق مرة ثانية في أغسطس سنة 1932، وأنا رئيس للوزارة، وكانت المقابلة الأولى غير رسمية، أما الثانية فقد كانت مقابلة رسمية في قصر البندقية، وحينما دخلت عليه استقبلني من أول الغرفة، وأخذ يتحدث معي حديثا شعرت منه بأن الرجل شديد المقت للنظم النيابية التي تحول - في رأيه - دون رقي البلاد، بسبب ما ينجم عنها من خلافات شخصية بين المشتغلين بالسياسة ... والذي لفت نظري في شكله عيناه اللتان كان ينبعث منهما بريق عظيم، وتكاد نظراتهما تخترق الحجب ... وقد بادلني الزيارة في المفوضية المصرية، وقدم لي بيده باسم ملك إيطاليا أرفع وسام إيطالي.
وقد استمر حديثنا طويلا، وأذكر أن اشتغاله بالإصلاح كان شديدا إلى درجة أنه سألني عن الطريق، الذي سرت فيه بين نابلي وروما، وهل كان معبدا، فأخبرته أنه عظيم عدا مخارج مدينة نابلي، فإنها تشعر بقلق بسيط، فأجاب: أتعشم أن تعود في اصطيافك من نفس الطريق، فتجده معبدا ... وقد كان!
وهنا كلمني عن تقدم إيطاليا وقوتها، والرقي في كافة نواحي الحياة السياسية والقومية، فسألته: ولكن هل استطعت أن ترقى بأخلاق الإيطاليين إلى ما تتوق أنت إليه؟ ... فقال لي: إني أعني بتربية الشبيبة، وهي التي ستكون إيطاليا الجديدة ... وإني أعتقد أن الشبيبة الإيطالية الآن لا تقل في قوة الأخلاق، وفي العلم عن الشبيبة الألمانية ...!
ولكن موسوليني على ما يظهر كان واهما حينما قال لي هذا الكلام، ولم يكن قد قدر استعداد أهل بلاده للرقي الأخلاقي ... وهذا هو سر الانقلاب، وسر الفشل الذريع في مشروعاته السياسية والحربية!
الصحافة أقوى سلاح حوربت به!
إن الصحافة قوة تستطيع أن تبني، وتستطيع أن تهدم، واستطاعتها في الهدم أشد منها في البناء، خصوصا في بلد لم ينضج بعد النضوج الكافي ولم يتعود التفكير الذاتي. ولو أنه كان جواري صحافة مؤيدة قوية لما استطاع خصومي أن ينجحوا في محاربة دستور سنة 1930، ذلك الدستور الذي بينت كيف وضع بعناية وروية ودقة، والذي كان من أرقى دساتير العالم، وأقلها عيوبا بالنسبة لدستور سنة 1923، بل إنه كان خاليا من تلك العيوب التي عانتها البلاد في الماضي، وتعانيها الآن! ولكن خصومي استطاعوا أن يحاربوني بأقوى سلاح، وهو «الصحافة»، وقد كانت لهم صحافة ذات دعايات حزبية تنشرها في البلاد، وكانت حرة من كل قيد، فأمكنها أن تشوه أغراض هذا الدستور الجديد، ومبادئه الحقة، ووجدت من قرائها من يصدق هذه الدعايات، أو من يجاريها تحت أهواء السياسة، وأقدار الظروف.
تدخل الإبراشي باشا!
وعلى الرغم من هذه الحرب الشعواء، التي كانت تشنها الصحافة، ويشنها خصومي فإني لم أعبأ بذلك أثناء توليتي للحكم؛ لأنها كانت حربا حزبية أو قل إنها شخصية لا تهدف إلى المصلحة العامة، بل تهدف إلى مصلحة شخص أو حزب معين، ولو أنها كانت لوجه الوطن ولمصلحة البلاد العليا بعيدة عن الشهوة لما أخذت هذه الصفة التي كانت تتسم بها طول مدة وجودي في الحكم ... على أنني مكثت ثلاث سنوات أعمل لخدمة بلادي، ومليكي وبنظام الحكم الجديد، وكنت رئيسا للوزارة ووزيرا للمالية، ووزيرا للداخلية، وقد حملت أعباء السياسة والإدارة، وشغلت نفسي ليلا ونهارا غير مدخر وسعا في القيام بواجباتي، وغير مشفق على صحتي حتى مرضت، واعتكفت في مينا هوس.
وهنا برز المرحوم زكي الإبراشي باشا، وأخذ يبث نفوذه، ويتدخل في شئون الحكم والسياسة ... وسافرت إلى أوروبا للاستشفاء، فزاد نفوذ الإبراشي باشا واتسع نطاقه، ولما عدت من أوروبا، وجدت الحال لا تطاق فاعتزمت الاستقالة، ولكني لما قابلت جلالة الملك فؤاد إذ ذاك رأيت من عطفه ورعايته ما جعلني أعدل عن الاستقالة.
على أنه لم تمض إلا فترة قصيرة، حتى كانت أزمة تعيين المرحوم حسن صبري باشا وزيرا في وزارتي، فقد رؤي أنه يعين وزيرا للمالية، ورأيت أن يعين في وزارة المواصلات أو في وزارة أخرى، على أن يعين حافظ عفيفي باشا وزيرا للمالية، فلم يصادف ذلك قبولا، فرأيت عندئذ أن أتخلى عن الحكم في 4 يناير سنة 1933، بعد أن أديت واجبي لوطني بالطريقة، وبالسياسة التي كنت أراهما خيرا للبلاد.
مفاوضاتي سنة 1946
في منتصف فبراير سنة 1946 دعيت لتولي الوزارة بعد أن استقال منها دولة محمود فهمي النقراشي باشا، وقد ترددت كثيرا قبل القبول؛ لتقدم سني من جهة؛ ولأن النظام الحزبي - وهو وليد النظام البرلماني - كان في رأيي مما يصرف أداة الحكم عن كليات الأمور إلى جزئياتها، وذلك بسبب اشتغال الأحزاب بما يهم كيانها قبل اشتغالها بمصلحة المجموع ... على أن حبي لبلدي دفعني آخر الأمر إلى القبول لاعتبارين: أولهما أنني كنت أتوق إلى المساهمة في محاربة الأعداء الثلاثة التي حالت دون تقدم بلادنا العزيزة، وقضت على نشاط الطبقات الفقيرة، وبالأخص في أوساط الريف ... وأقصد: الجهل، والفقر، والمرض، والثاني أن همي أن أرى بلادي قد استفادت من نتائج الحرب - وقد ساهمنا في كسبها بشتى الجهود - فنصل إلى تحقيق أهدافنا القومية بمفاوضة الدولة المحتلة فيما هو معلق بيننا من شئون.
وقد كان المتتبعون لمناقشاتي لخطاب العرش في مجلس النواب أثناء كنت عضوا به، يرون أن أهم غرض لي منها هو دعوة الحكومة إلى العمل لحل المسألة المصرية، إذ كان هذا أوانها لتحقيق أهداف البلاد في الجلاء، ووحدة وادي النيل ... وتذكرون أني لما كنت في حيفا مستشفيا، وحلت الوزارة الاشتراكية في إنجلترا محل وزارة المحافظين بعثت ببرقية طويلة لرئيس مجلس النواب (أظنها لم تعرض على المجلس، وقد نشرت في الصحف) نبهت فيها إلى الفرصة السانحة بحلول قوم مشهود لهم بحب الحرية، بدل قوم ربوا على حب الاستعمار للبدء في حل القضية المصرية ...
لما تقدم من الاعتبارات كان قبولي للحكم فرصة للوصول إلى أغراض طالما نشدتها، وهي تحقيق أهداف البلاد السياسية، والعمل لتحسين حال الطبقات الفقيرة، موطنا النفس على أن أتركه في اليوم الذي أشعر فيه بأن مهمتي قد صادفها النجاح - فليس من داع إذ ذاك لبقائي - أو منيت بالخذلان، فأصبح من حق البلاد أن يعمل لها من هو أكثر استعدادا مني ... ومن أجل ذلك، ومع المحافظة على التقاليد، طلبت المعاونة من غير رجال الأحزاب من أنست فيهم القدرة على الإنتاج، وقد قاموا برسالتهم خير قيام.
والآن أشعر بأني لم أقصر في أداء الرسالة ... أما من ناحية الإصلاح الاجتماعي، فقد وضعت الوزارة التي ألفتها أسسه ولم يبق إلا البناء، وأما من ناحية تحقيق الأهداف القومية، فنظرة منصفة إلى «المشروع» الذي أمضى مني ومن وزير خارجية إنجلترا، تدل على أن مصر كانت قاب قوسين من مطالبها، وسيتبين ذلك مما يأتي من فصول وتفاصيل.
محادثات تمهيدية
ألفت وزارتي في 16 فبراير سنة 1946، ووضعت في رأس مهمتها السعي لتحقيق الأهداف الوطنية، وأشرت في الكتاب الذي رفعته لجلالة الملك، إلى تأليف الوفد المصري الذي يقوم بمفاوضة بريطانيا العظمى مفاوضة حرة طليقة من كل قيد، تحقيقا لإرادة الأمة التي أعلنتها إعلانا.
وقد تألف هذا الوفد في 8 مارس، أي: بعد تأليف الوزارة بثمانية عشر يوما، برياستي وعضوية حضرات: محمد شريف صبري باشا، وعلي ماهر باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، وحسين سري باشا، ومحمود فهمي النقراشي باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، وعلي الشمسي باشا، ومكرم عبيد باشا، وحافظ عفيفي باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا.
وانفردت في أول الأمر بمحادثة السفير البريطاني في منزلي تارة، أو في منزل أحد الأصدقاء لكلينا، أو في السفارة البريطانية أو في رياسة مجلس الوزراء؛ لأن المحادثات كانت تمهيدية للمفاوضات، وكان من شأنها إعداد العدة، وتقريب مسافة الخلف على المبادئ الرئيسية ... والسفير البريطاني سير رونالد كامبل، صديق قديم، يرجع عهدي به إلى وقت اشتغاله وزيرا بدار المندوب السامي حين كنت رئيسا للوزارة في الفترة بين سنة 1930 و1933، فقد تحدثنا كصديقين في اجتماعاتنا الخاصة، ولم يكن وفد المفاوضات البريطاني قد تألف بعد ...
ومضت ثلاثة أسابيع، ولم تؤلف بريطانيا وفدها للمفاوضات المصرية، وقلق الرأي العام من جراء هذا الانتظار، فلما كان يوم السبت 30 مارس سنة 1946 حضر السفير البريطاني لرياسة مجلس الوزراء في زيارة رسمية، فانتهزت هذه الفرصة، وسألته: «متى تبدأ رسميا في مفاوضاتنا؟»
قال: «وعدتكم يوم مقابلتنا أول مرة أنني سأتصل فورا بمستر بيفن لأسأله، وقد اتصلت به فعلا، ولكن - مع الأسف - لم تصل إلي حتى الآن تعليمات منه، وعند ورود هذه التعليمات سأحيطكم علما بها حالا ...» ثم قال: «وعلمت أن عمرو باشا تكلم مع مستر بيفن في شأن المفاوضين البريطانيين، وأن هذا كان بناء على طلب منك ...»
فقلت: «أجل كنت أريد أن أحدثك في هذا الموضوع، ولكنك سبقتني إليه، ولعلك تذكر أني قلت لك في مقابلتنا الخاصة إن مسألة المفاوضين من الجانب البريطاني ما زالت «غامضة» علي، وكان يحسن أن أتبينها تماما؛ لأن التأخير في ذلك من شأنه أن يخلق في مصر جوا لا يتفق مع مصلحة المفاوضة، إذ هي كما لا يخفى يجب أن تجري في جو تسوده الطمأنينة لا في جو تحيط به الريب والظنون ... وآسف أن أقول لك إن ريبا وظنونا قد نبتت، وبدأت في الظهور بالنسبة لمسألة المفاوضين من الجانب البريطاني، وأنت تعلم أن مصر قد عينت هيئة المفاوضين، واستعدت للمفاوضة من مدة كانت تكفي لأن يظهر من جانبكم مثل هذا الاهتمام، الذي ظهر من جانبنا»، فقال: «الواقع أن المفاوضين، أو بعبارة أخرى الخبراء العسكريين، وكانوا قد عينوا أو وقع عليهم الاختيار، ولكن حديثك الماضي معي أفهمني أنك لا تريد أن تثار المسألة العسكرية قبل المسألة السياسية، التي لها المقام الأول، وهذا قد غير الوضع بالنسبة للترتيبات التي كنا قد أعددناها، وهي تتلخص في أن يكون معاوني من العسكريين ... ولهذا رأيت أنه يحسن أن أتبع طريقة سنة 1936، وهي أن يكون معاوني من كبار موظفي السفارة.»
فقلت: «اسمح لي أن أكلمك بصراحة في هذا الموضوع، أنه إذا عرف أن معاونيك الرسميين في المسائل السياسية هم موظفو السفارة، فلن يكون لذلك أثر طيب في الرأي العام في مصر، وذلك لاعتبارات ثلاثة:
الأول:
أن الشعور بعدم الارتياح ينتشر لا محالة من جراء هذا التصرف؛ لأن مصر جمعت خير رجالها لهذه المفاوضة، وكان أحدهم وصيا على العرش، وكثير منهم رؤساء حكومات سابقة؛ وقد فعلنا ذلك لأننا نعلق على نتائج هذه المفاوضات أعظم الأهمية، فمن غير المعقول أن يواجه الفريق المصري وهو مكون على هذه الصورة؛ بموظفين من السفارة!
الثاني:
أن الناس في مصر يعتقدون، ولا ينسون أن السياسة التي اتبعت في العهد الأخير لا سيما في زمن الحرب (وهي سياسة لم تترك في نفوسهم أثرا طيبا)، قد اشترك في وضعها وتنفيذها رجال السفارة، الذين تريدهم معاونيك السياسيين ...
إني أعرفهم شخصيا وأقدرهم، ولكن هذه العقيدة سائدة عنهم في نفوس المصريين، ومن الصعب جدا إزالتها؛ فضلا عن أني كنت قد سمعت من عمرو باشا أنه سيكون معكم في المفاوضة رجال من ذوي الخبرة والعلم بشئون الشرق، وأذكر أنه ذكر لي أن مستر هاو وكيل وزارة الخارجية لشئون الشرق الأوسط، قد فكر في تعيينه مفاوضا معكم؛ ولهذا أرجو أن تعيدوا النظر في الموضوع كله حتى تسهل مهمتي.
الثالث:
أنه لا تجوز المقارنة بين مفاوضات سنة 1936، والمفاوضات التي تجري في سنة 1946 ... ذلك لأن الأولى كانت تجري على أسس مباحثات، ومشروعات اعتبرناها خطوة، أو مرحلة في طريق الاستقلال، لا الاستقلال نفسه، أما اليوم فنحن في نهاية المراحل، ولهذه المفاوضات نتائج حاسمة، ومن أجل ذلك يحسن جدا أن يعطيها الجانب البريطاني الاهتمام الذي يتفق وطبيعتها وخطر آثارها، كما أعطيناها نحن من جانبنا.»
ثم قلت: «هل تريد أن أتصل عن طريق عمرو باشا بمستر بيفن؟ أم يكفي أني أدليت إليك بهذه الاعتبارات كلها؛ لتعمل من جانبك على علاج الأمور، ووضعها في نصابها الصحيح؟»
قال السفير: «الواقع أن مستر بيفن غير مسئول عن الوضع الحالي للأمور، بل أنا المسئول عنه؛ لأن التعليمات التي أعطيت لي كانت تقضي بأن يكون إلى جانبي عدد من كبار العسكريين، فلما فهمت منك أنك تحب أن يكون معي سياسيون في المفاوضة، ورأيت عندي موظفين يعاونونني في السفارة، ويفهمون تماما المسألة المصرية، فكرت فيهم، أما وقد بينت لي وجهة نظرك والاعتبارات التي تلابس الموقف، فإني سأتصل بمستر بيفن وأحيطه علما بالتفاصيل، وأتلقى منه تعليماته الجديدة التي سأبلغها إليك»، فقلت: «حسن، وأرجو ألا يتأخر ورود هذه التعليمات، إني في الواقع أرتاح إلى المفاوضة معك وحدك، ولكني أفضل أن يرسل إليك من وزارة الخارجية البريطانية من يمثل الناحية السياسية، ويتفق وأهمية المفاوضة.»
قال: «سيكون هذا ما أعرضه.»
قلت: «ورجائي أن يكون الرد سريعا؛ لأنك تعلم أن وقتا طويلا قد ضاع في الانتظار.»
فقال: «أرجو هذا، ولكن هل ترى أن كبيرا واحدا من وزارة الخارجية يكفي.»
قلت : «لا بأس عندي ...»
هذا ما جرى بيني وبين السفير البريطاني في 30 مارس، وقد فهم سعادته من هذا الحديث أن الحكومة البريطانية لا يمكن أن تثبت لمصر احترامها إياها، إلا إذا عينت فورا وفدا كبير الشأن لمفاوضة وفدها المصري، وإلا إذا أظهرت لها عنايتها واهتمامها، وحسن نواياها في الوصول إلى حل المسألة المصرية حلا عادلا.
اقتراحات بريطانية قبل المفاوضات
توجهت في صباح يوم 2 أبريل سنة 1946 إلى السفارة البريطانية لأرد الزيارة للسفير البريطاني، فبادرني سعادته بأن لديه خبرا سارا، ذلك أنني كنت أبديت له في زيارته الأخيرة لي، الامتعاض الذي سببه عدم تعيين المفاوضين البريطانيين، فلما اقترح أن يكون المفاوضون السياسيون من موظفي السفارة اعترضت على ذلك، فقام بمساع لدى مستر بيفن في هذا الشأن، واستطاع أن يخبرني أن مستر بيفن سيلقي هذا المساء في مجلس العموم تصريحا يعلن فيه تعيين المفاوضين البريطانيين، وأنه سيحتفظ لنفسه برياسة الوفد البريطاني، غير أنه سيعتذر في الوقت الحاضر بسبب الحالة السياسية، وسينتهز مستر بيفن أقرب فرصة للحضور بنفسه إلى مصر.
أما المفاوضون الآخرون فعلمت أنهم سيكونون حضرات: لورد ستانسجيت وزير الطيران، وسير رونالد كامبل، وسير كيناهان كورنواليس السفير السابق، والمتولي الشئون الاقتصادية للشرق الأوسط، ومستر رونالد أوفرتون مدير إدارة الشرق الأوسط بالسفارة، والأميرال تينانت القائد العام لأسطول الشرق الأوسط، والجنرال باجت القائد العام لجيش الشرق الأوسط، وماريشال الطيران ميدهرست، وربما زيد عليهم الجنرال جاكوب من هيئة أركان الحرب العامة (وقد ضم فعلا إلى الوفد واشترك فيه.)
وأضاف السفير أن التعليمات التي وصلته تقضي عليه بالاتصال برئيس الحكومة المصرية، على أن يكون ذلك شخصيا بحتا في الوقت الحاضر، وأن يرمي إلى الغرض الآتي بيانه:
درست المسألة المصرية في لندن من جميع وجوهها كما سيشرحه لي الآن، ويرغب مستر بيفن في أن يبين له السفير رأيي في الاقتراحات البريطانية؛ لأنه يريد ألا يتصل الوفد البريطاني بالوفد الرسمي المصري قبل أن يعرف شيئا عن وجهة النظر المصرية، مما قد يؤدي إلى صعوبات لا مخرج منها؛ لذلك عني السفير بناء على تعليمات لندن بأن يبين لي وجهة النظر البريطانية، راجيا الوقوف على رأيي التمهيدي في هذا الموضوع بدون ارتباط أحد الطرفين، على أن تدرس هذه المسائل بصفة رسمية فيما بعد.
وها هو ذا منقولا حرفيا على وجه التقريب البيان، الذي أدلى به السفير إذ كان يرجع إلى مذكرات مكتوبة:
إن الحكومة البريطانية لا تفكر في اتفاق ثنائي يرمي إلى استخدام قواعد في الأراضي المصرية للدفاع عن الإمبراطورية البريطانية، أو لمواجهة اعتداء يقع على مصر فقط، بل هي تفكر في تدابير مشتركة على أساس سلامة جميع الدول، التي لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط، وبخاصة بلادينا.
فسألته: «هل تدخل البلاد العربية في منطوق كلمة «الدول» التي ذكرها، فأجاب: «هو كذلك»، ثم استمر السفير في بيانه، فقال:
إن بريطانيا العظمى مستعدة لبحث مسألة العلاقات بين البلادين من الوجهة الاستراتيجية بطريقة جديدة، من شأنها إلغاء معاهدة سنة 1936؛ ليحل محلها اتفاق أوسع في نطاق هيئة الأمم المتحدة.
والغرض المحدد الذي ترمي إليه بريطانيا العظمى في كل اتفاق من هذا القبيل سيكون موضوع مفاوضات عملية، وقد يكون ضروريا إيجاد الفرصة لدول الشرق الأوسط الأخرى؛ للانضمام إلى هذا الاتفاق الذي يرمي إلى المحافظة على السلامة.
وهذا الاتفاق يقضي بالطبع أن ترابط القوات البريطانية في جهات تمكنها من مراقبة كل تهديد بالاعتداء على الشرق الأوسط، وهذا يعني - في رأي الحكومة البريطانية - أنه يجب في أيام السلم العادية، إبقاء قاعدة تكون نواة لقوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، فينبغي الوصول إلى وسيلة من شأنها تحقيق هذا الوضع، أو حل المشكلة دون مساس بسيادة مصر أو بكرامتها القومية.
وقد درست الحكومة البريطانية بعناية خاصة هذه المسألة؛ لأن لها أهمية أساسية من الوجهة الاستراتيجية لسلامة مصر والشرق الأوسط؛ ولأن الحكومة البريطانية ترغب في إجابة مصر إلى تعديل معاهدة سنة 1936 بدون إبطاء.
ولذلك تقترح الحكومة البريطانية سحب الوحدات، والمنشآت العسكرية والبحرية والجوية من القاهرة والإسكندرية.
وبعد دراسة عميقة للموضوع، واستشارة الرؤساء العسكريين للأسلحة الثلاثة، رأت الحكومة البريطانية أنه لا يمكن صد أي اعتداء موجه إلى الشرق الأوسط دون وجود قاعدة مناسبة في جوار قناة السويس مما يقتضي إبقاء منشأة عسكرية في منطقة القناة لتكون نواة، ويتوقف تحقيق هذا الغرض إلى درجة كبرى على مصر نفسها.
لذلك فإن الحكومة البريطانية شديدة الرغبة في الوقوف على رأي رئيس الحكومة المصرية شخصيا قبل البدء في المفاوضات الرسمية.
وهناك حل يجوز اقتراحه على رئيس الوزارة المصرية، من شأنه أن تؤجر مصر لبريطانيا العظمى قطعة من الأرض في منطقة قناة السويس، تبقى تحت السيادة المصرية بموجب اتفاق يوضع على غرار الاتفاق، الذي خول الولايات المتحدة قواعد في النصف الغربي من الكرة الأرضية، مثل القواعد القائمة في جزائر برمودا، ونيوفوندلاند.
ومن الممكن أيضا الوصول إلى اتفاق إقليمي على اعتبار إبقاء القاعدة البريطانية؛ بناء على طلب مشترك من دول الشرق الأوسط صاحبة الشأن.
ثم قال السفير: إن هذه الحلول ليست سوى اقتراحات من الجانب البريطاني، وإذا كانت لي اقتراحات في هذا الشأن، فإن الحكومة البريطانية يسرها الوقوف عليها، وأكد السفير أن الجانب البريطاني لا يرمي إلى تقييد رئيس الحكومة المصرية بأي قيد، من الآن، بل يرى أن مصلحة الطرفين الكبرى هي الوصول إلى تفاهم مشترك في هذا الشأن قبل بدء المفاوضات الرسمية.
وسألني السفير إذا كان في استطاعتي أن أفضي إليه برأي في الحال، إذ إنه من المهم البدء في العمل في أقرب وقت ممكن ... فأجبته بأن أهمية بيانه لا تسمح لي بأن أبدي له رأيي في الحال، وتدعوني للرد عليه كتابة؛ لأن الموضوع يتناول اقتراحات في صلب المفاوضات، وهذا لا يمنعني من القول الآن: إن اعتزام الجانب البريطاني احترام سيادة مصر وكرامتها من شأنه أن يساعد على إيجاد حلول، تتفق ومطالبنا القومية، بالرغم من صعوبة التوفيق بين هذا الاعتزام والاقتراحات الآنفة الذكر.
واتفقت مع السفير على أن أوافيه بإجابة شخصية حين يزورني في رياسة مجلس الوزراء يوم الإثنين المقبل؛ لنتبادل وجهات النظر، وقال السفير: «إن هذا الحديث شخصي بحت»، فأجبته بأني سأعتبره كذلك إلا فيما يختص بشخصين يجب إطلاعهما عليه، وهما: جلالة مليكي الذي يجب أن يكون على علم به، ووزير الخارجية المصرية الذي له الحق في أن يكون أول من يحاط به علما، والذي يجب علي استطلاع رأيه.
ردي على المقترحات البريطانية
وزارني السير رونالد كامبل يوم 4 أبريل سنة 1946، فسلمته مذكرة تحوي ردي على اقتراحات الحكومة البريطانية، التي أفضى بها سعادته إلي في الحديث السابق ...
وتتضمن هذه المذكرة الرد على مسألتين هامتين: الأولى مسألة بقاء قوات عسكرية بريطانية في منطقة القنال بطريق منحها قواعد داخل حدودها، أو بطريق تأجيرها جزءا من أراضيها لهذا الغرض.
لم تعمر وزارة زيور باشا التي قامت على أنقاض الوزارة الشعبية الأولى، فقد اتفقت الأحزاب المصرية، وهذه هي الحفلة الكبرى التي أقيمت لتدعيم أركان الائتلاف، وقد تصدرها سعد زغلول باشا، وإلى يمينه عدلي باشا، وإلى يساره ثروت باشا، ففتح الله بركات باشا، فإسماعيل صدقي باشا.
وزارة أحمد زيور باشا أثناء اجتماعها سنة 1925 ويرى إسماعيل صدقي باشا إلى يمين رئيس الوزراء.
وزارة إسماعيل صدقي باشا بعد تعديلها سنة 1930 ... وقد ظهر من اليمين إلى اليسار: إبراهيم فهمي كريم باشا وزير الأشغال، وحلمي عيسى باشا وزير الأوقاف، وعلي ماهر باشا وزير المعارف، وعبد الفتاح يحيى باشا وزير الحقانية، وإسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء، وتوفيق رفعت باشا وزير الحربية، وحافظ حسن باشا وزير الزراعة، وتوفيق دوس باشا وزير المواصلات، ومراد سيد أحمد باشا.
والمسألة الثانية هي ما تناولته الاقتراحات البريطانية من الرغبة في إشراك بعض بلاد الشرق الأوسط، التي يهمها أمر الدفاع عن هذه المنطقة في معاهدة جديدة تكون أوسع مدى من اتفاق ثنائي تعقده بريطانيا ومصر وحدهما.
ويتلخص الرد عن المسألة الأولى فيما يأتي: «مهما كان الوصف القانوني الذي يمكن أن يسبغ على بقاء قوات أجنبية في أوقات السلم في مصر، فإن مجرد وجودها على هذه الحالة هو رمز للسيطرة مباشرة أو غير مباشرة، على أن تلك النظريات القديمة التي كان التسليم بها في الماضي أمرا عسيرا قد أصبحت اليوم مما لا يمكن التسامح فيه، بعد حرب كان من أغراضها الرئيسية ضمان حرية الشعوب.
ولا يمكن أن يتصور المرء وجود اتفاق يحقق رغبات الشعب المصري، ثم يسجل هذا الاتفاق في صورة ما بقاء قوات أجنبية في الأراضي المصرية!
نعم إنه مما لا شك فيه أن الحكومة البريطانية قد منحت الولايات المتحدة الأميركية قواعد حربية في جزر نائية عن أرض الوطن الأصلي (الجزر البريطانية)، ولكن لو أن اتفاقا من هذا القبيل المبرم بين هاتين الدولتين العظيمتين عقد بين مصر وبريطانيا، وشمل جزءا من أرض الوطن، لكان له مدى ومعنى مختلفان كل الاختلاف!
ثم إن مبدأ الأمن المشترك الذي قررته هيئة الأمم المتحدة لا يشمل تدابير عسكرية وقائية، كأن ترابط قوة عسكرية أجنبية في أرض دولة أخرى في وقت السلم ... فإن على كل دولة أن تحقق الأمن في أرضها بواسطة قواتها الوطنية المسلحة ...
ثم إن اتفاقية سنة 1888 تنسجم تماما مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فيجب احترامها وتطبيقها من جديد ضمن حدود هذا الميثاق تحت إشراف مجلس الأمن ... على أن مصر سوف لا تقصر في أن تتخذ بنفسها كافة وسائل الدفاع الضرورية عن قناة السويس، متى استردت حريتها التامة، وذلك بأن تهيئ لقواتها العسكرية النمو الذي يدعو إليه مركزها ...»
أما المسألة الثانية، وهي الخاصة باتفاق يشمل مصر وبعض بلاد الشرق الأوسط، فيتلخص ردي عليها في تلك المذكرة بأن رأى الجانب المصري كان منصبا دائما على عقد اتفاق ثنائي بين بريطانيا ومصر، وإني أفضل هذه الطريقة على الطريقة المعروضة الآن التي تتضمن اشتراك بعض دول الشرق الأوسط في المحالفة البريطانية المصرية، وإني شخصيا لا أؤيد فكرة إنشاء اتفاقات تشمل تعهدات سياسية وعسكرية بين مصر، وبلاد جامعة الدول العربية، فإن هذه الجامعة إنما أنشئت في الواقع على أساس رابطة الأخوة بين أعضائها، الناتجة من التشابه في الجنس واللغة والتاريخ المشترك، وموقع البلاد الجغرافي، وهذه الأخوة تعفي الدول المذكورة من الالتزام بأن تبرم بينها معاهدات سياسية أو عسكرية معينة.
وإني أرى - ولو أن مصر تتمتع في هذه الجامعة بنفوذ خاص ، ومركز أدبي ممتاز - أن يتعين عليها أن تعمل مستقلة عن غيرها من هذه الدول الصديقة؛ لتسوية علاقاتها مع بريطانيا العظمى، وذلك لاعتبارات لا محل للتحدث عنها الآن ... وأن العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر إذا استقرت على قواعد سليمة ومرضية، فإن نفوذ مصر في الشرق الأوسط سيعمل في هذه الحالة بكيفية من شأنها أن تجلب لبريطانيا، بل للدول العربية نفسها كثيرا من المنافع والمزايا.
هذا وقد أعربت في هذه المذكرة عن أن الجانب المصري يرى أن تكون العلاقات بين مصر وبريطانيا في حالة، تسمح بتحقيق تحالف بين البلدين يكون مشبعا بروح الصداقة المتبادلة، وأنه لا يمكن تحقيق هذا التحالف إلا بعقد معاهدة جديدة على نمط المعاهدات، التي أبرمت منذ سنة 1941 بين دول مختلفة، وأن تشمل هذه المعاهدة التزاما من الطرفين بأن يقدم كل منهما للآخر في حالة نشوب حرب لم يثرها أحدهما كل تعضيد حربي وغيره، وذلك إلى أن تنشأ الوسائل التي يقررها مجلس الأمن من أجل المحافظة على السلام.
ورأيت أن تتفق السلطات العسكرية في كلا البلدين على كيفية تبادل هذا التعضيد، وتلك المساعدة، وعلى ذلك يجب أن تهيأ في أوقات السلم وسيلة لتحقيق التعاون بين هيئتي أركان حرب الدولتين، وأن مصر لم تغفل عما لبريطانيا من خبرة في هذا الشأن، وما لها من وسائل لتنفيذه، ولكن يجب أن يكون مفهوما أن هذا الاستعداد لن يؤدي بأية حال إلى مرابطة قوات أجنبية في الأراضي المصرية في أوقات السلم، بل بالعكس «يجب أن يشمل الاتفاق الجديد نصا يتضمن انتهاء الموقف الحالي، وذلك بجلاء القوات البريطانية جلاء تاما عن مصر.»
هذه هي خلاصة المذكرة التي قدمتها إلى السفير البريطاني ردا على اقتراحات الحكومة البريطانية قبل البدء في المفاوضات، وقد فهم السفير أن لا أمل في اتفاق مع مصر إذا لم يكن أساسه الجلاء التام برا وبحرا وجوا، في غير احتفاظ على أرض مصر بأية قوة بريطانية مدنية كانت أم عسكرية ...
أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
18 أبريل سنة 1946
تحدثت في المقال الماضي عن تأليف الوفد البريطاني ، وكيف نقل لي سعادة السفير نبأ تأليفه على أثر اعتراضي على تأخيره نحو ثلاثة أسابيع عن تأليف وفد المفاوضة المصري ... وفي 15 أبريل حضر الوفد البريطاني بالطائرة، وقد تخلف رئيسه مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية لمشاغله الدولية الأخرى، وأناب عنه اللورد ستانسجيت.
وبعد يومين من حضور هذا الوفد زارني بمنزلي بالزيتون اللورد ستانسجيت والسير رونالد كامبل، فقلت لهما: «أحييكما في بلد صديق، ومنزل صديق»، فشكرا هذه العبارة.
ثم قلت للورد: «أسمع عنك منذ سنة 1919 بعد الحرب الماضية، حينما كنت وسعد زغلول وباقي أعضاء الوفد المصري بباريس نسعى للاستقلال، وربما يدهشك أننا إذ ذاك وضعنا بعض آمالنا فيك إذ كنت تخطب في مجلس العموم مدافعا عن مصر، وعن مبادئ الحرية»، فقال: «نعم حصل أن كنت مدافعا عن حق الشعوب، وكنت قد زرت مصر إذ ذاك محاربا.»
فقلت له: «إذن، فأنت تفهم كيف كنا نعلق بك الآمال، والآن لست مناط آمال فحسب، بل أنت مناط حقائق بتوليك المفاوضة.»
فتأثر لهذه الجملة، وشكر ... وهنا سلمته وسلمت السفير مذكرة كنت أعددتها في 25 مارس باسم الوفد الرسمي المصري قبل اضطلاعه بأعباء المفاوضات، تتضمن وجهة النظر المصرية في معاهدة سنة 1936، وفي الوضع السياسي للمسألة المصرية بالنسبة لميثاق هيئة الأمم المتحدة، وما يوجبه هذا الميثاق من وضع حد للحالة الحاضرة بسحب القوات البريطانية من مصر سحبا نهائيا كاملا ... وقلت للورد: «لقد سبق لي أن أخبرت السفير بأني سوف أقدم هذه المذكرة، فها هي ما دمت قد حضرت للمفاوضة الرسمية.»
ثم استأنفت الحديث قائلا: «لقد تبادلت مع السفير مذكرات أخرى، بل لقد حدثته في أول مقابلة بيننا عن الوضع الإنساني والنفسي للمسألة المصرية، أما المذكرة الحالية، فهي عن الوضع القانوني والسياسي لمطالب مصر، وقد سبق للسفير أن عرض علي وجهة نظر حكومتكم مما دونه في مذكرة رددت عليها بمذكرة أخرى، وقال لي السفير: أن رد الفعل الذي نتج من مذكرتي ستفضون به أنتم إلي ... وها أنا ذا في الانتظار.»
فقال اللورد ستانسجيت: «هي فرصة أتيحت لي؛ لكي أعبر لكم عن تقديرنا، فقد اطلعت على تلك المذكرة، وأدركت الروح الطيبة التي تملي عليكم شعوركم.»
ثم قال اللورد: «وكيف ترون أن يكون ترتيب عملنا وطريقته؟»
قلت: «كنت أود أن أعرف أولا رد الفعل الذي نجم عن مذكرتي الأولى، وهو ما لا أزال أنتظره ... والآن وقد أصبح لديكم مذكرتان لا مذكرة واحدة، كنت أحب قبل أن ندخل في الدور الرسمي من المفاوضات أن أظفر منكم برأي فيها، وقد سبق للسفير أن قال لي: إن حكومتكم تود لو أن أعمالنا لا تؤدي إلى مأزق - وهذا حق - ومن أجل ذلك أطلب إليكم حديثا خاصا، نتفاهم في غضونه عما إذا كان مبدأ المفاوضة يحقق أو لا يحقق هدف مصر الأساسي وهو: الجلاء.»
فقال اللورد: «إني أرى أن ذلك من حقك، وإني مستعد لهذا الحديث، ويبدو لي من الروح السائدة أننا سنتفق.»
فقلت: «إذن فلنحدد الوقت، والوقت رهن بك إن كنت مستعجلا أو غير مستعجل»، فقال: «أنا لست بمستعجل، وليس عندي من المشاغل إلا القضية المصرية.»
قلت: «هذا هو أيضا شأني، فإنني كرست جهودي كلها لهذه القضية، وأملي معقود بنجاحها في مفاوضة ودية معكم، فلا شك أن رفع الأمر إلى جمعية الأمم فيه تحقيق لأهداف مصر.»
وهنا تفاهمنا على أن يكون الاجتماع بعد يومي الأحد والإثنين؛ لأنهما من أيام الأعياد، واتفقنا على أن يكون الاجتماع يوم الثلاثاء المقبل، وقلت له: «ومع هذا فإني مستعد للتكلم معك في أي وقت قبل ذلك؛ لأني لا أريد أن أطيل الوقت الذي يسبق الإفضاء بحقيقة المركز، والموقف لزملائي أعضاء الوفد الرسمي.»
وهنا كرر اللورد ستانسجيت أن المسألة في نظره هينة؛ لأننا إذا كنا متفاهمين على النقطة الآتية، وهي: «أن نكون صديقين متحالفين»، فلم يبق إلا كيف يؤدي كل منا واجباته، وتصبح المسألة مسألة خبراء يبدون آراءهم في كيف يؤدى واجب الدفاع من جانبنا.
فقلت له: «إن المسألة ليست فقط مسألة دفاع، بل مسألة صداقة، والصداقة إذا أردتموها من جانب مصر، لن تكون إلا مع احترام كرامة مصر، وقد أجمع المصريون على أن احترام كرامتهم لن يكون إلا إذا جلت القوات الأجنبية جلاء تاما من أرضهم!»
فقال: «نعم، نعم، أنا أفهم ذلك»، وقال للسفير بجواره: «ألا تفهم ذلك مثلي؟» فهز السفير رأسه، ولم يجاوب!
فقلت للورد مشيرا إلى صحن بجانبي به
Marrons glacés : «لا بد أن هذا الجسم ينقل من هنا حيث هو إلى مكان خارج هذه الغرفة!» إشارة إلى ضرورة إزالة الأثر المادي للاحتلال.
فقال اللورد ضاحكا: «خذ بالك، فإن الصحن به حلوى، ولا أظن أنك تنظر إلى الاحتلال كأنه صحن حلوى!»
وضحكنا جميعا ... وكانت هذه العبارة مثارا لبعض المرح، ثم عدنا إلى عبارته إذ تكلم عن الخبراء، فقلت: إن لخبرائك أن يبحثوا عن وسائل ضمان الدفاع، ولكن يجب أيضا من جانبكم وأنتم السياسيون أن تتنبهوا إلى أن المسألة ليست مسألة دفاع فقط، بل مسألة تفاهم وصداقة، فإذا كانت وسيلة الدفاع في نظركم بقاء قوة أجنبية، فقد تظفرون بالدفاع، ولا تظفرون بالصداقة. «يجب أن يفهم الخبراء ذلك، حتى لا يرتبوا وسائلهم على أي وضع من أوضاع الاحتلال.»
فقال اللورد: «فهمتك جيدا، وإن خبراءنا هم من جنود الزمن الحديث، الذين يدركون كل الحقائق إلى جانب حقائقهم.»
وهنا أسهبت فيما سبق أن نبهت إليه السفير من أنه كما لبريطانيا أن تتبين واجباتها، فإن لمصر أن تتبينها أيضا، ومصر قد وطدت العزم على أن تؤدي واجب الدفاع عن نفسها في نطاق هيئة الأمم المتحدة، وسوف تقوم بهذا الواجب إذا لم تتعثر كما كان الشأن في الماضي في سياسة لا تستند إلى الحقائق.
وقلت له أيضا: «إن مصر دلتكم على حسن نياتها في الحرب الماضية ...» فقاطع اللورد وقال: «إنكم قمتم بنصيبكم أحسن قيام.»
واستأنفت عبارتي قائلا: «إن من دلائل حسن نيتنا أننا كنا نستطيع - وهذا رأي الكثيرين - أن نتحلل من كل الواجبات نحوكم، ونكتفي بالواجبات التي فرضتها علينا وعليكم جمعية الأمم المتحدة، ولكن المسئولين في بلادنا يرون أن نحتفظ بصداقة بريطانيا وحلفها، وأن نجعل منها احتياطا للمستقبل، خصوصا وأن بيننا من الأواصر ما يجعل كل حلف بين دولتينا مؤديا لنفع محقق.»
فأبدى اللورد ارتياحه للروح، التي أملت رغبة المصريين في الاستمرار في التحالف مع إنجلترا، وقال: «إن روحا كهذه سوف تؤدي إلى الخير ...»
منطقة القنال
رغب اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني في مقابلتي من جديد، وهي رغبة أبديت باسميهما تليفونيا مساء الأمس بعد أن قابلاني في اليوم نفسه.
زارني الاثنان في الساعة الحادية عشرة من صباح 19 أبريل زيارة خاصة بمنزلي بالزيتون، ودامت المقابلة حتى الساعة الثانية عشرة والثلث، وتناول السفير الكلام قائلا: «قد جاء في مذكرتك المؤرخة 4 أبريل أن مصر إذ تطلب الجلاء التام، لا تغفل عن أن المحالفة التي تقوم بينها وبين إنجلترا تستدعي في وقت السلم أن يكون هناك تفاهم بين أركان حرب الدولتين في الوسائل، التي تضمن أن يكون الدفاع محققا تماما لأغراضه»، ثم قال: «وقد زدت على ذلك أن مصر ستحرص على الاستفادة من خبرة بريطانيا، ومن وسائلها الكبرى ...» ثم أضاف السفير: «ولقد كانت هذه الجملة محل بحثنا عسكريين وسياسيين، وبذلنا الجهد حتى نوفق بين آرائكم الشخصية، وما تقتضيه واجبات الدفاع بالنسبة لنا ... ومن أجل ذلك أعددنا المذكرة التي أسلمها الآن لكم، والتي نرجو أن تقرأها الآن (وهي مذكرة من صفحتين مكتوبة بالإنجليزية)، وقد قرأنا نحن الثلاثة المذكرة في اجتماعنا، وكانت محل بحثنا الشفوي، ومحل أخذ ورد من كل منا، وتتلخص هذه المذكرة البريطانية فيما يأتي: «إن الغرض الذي تسعى إليه بريطانيا في معاهدة التحالف الجديدة هي توطيد الصداقة، التي نشأت بين البلدين منذ أمد بعيد ... وإنه لمن الممكن أن يهدد أمن مصر، ومجموعة الأمم البريطانية تهديدا حيويا بهجوم يشن على منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما تبين بشكل نهائي خلال حربين ... وأن الأمم الصغيرة مهما دافعت عن نفسها بصلابة، لا تتاح لها فرصة في الحرب الحديثة ضد دولة معتدية قوية ما لم يكن في مكنتها أن تتلقى عونا كاملا ومباشرا، لا بد أن تعد له العدة في وقت السلم، من دولة ذات قوة حربية واقتصادية فعالة بالقياس إلى الدولة المعتدية؛ ولذلك ينبغي أن تتحقق مصر من معونة مباشرة أمام تهديد خطير.
وأن الوفد البريطاني في سبيل الوصول إلى هذا الغرض سيتقدم باقتراحات تقوم على القواعد الآتية: (1)
ستسحب كافة القوات البريطانية البحرية المقاتلة، وكافة القوات المحاربة التابعة للجيش البريطاني من مصر كلية، وسينفذ هذا الانسحاب وفق برنامج، وستسحب كافة أسراب سلاح الطيران الملكي البريطاني، ولو أنه يقترح بقاء عدد قليل من أسراب الطائرات المقاتلة في منطقة القناة؛ للتعاون مع سلاح الطيران الملكي المصري في إعداد دفاع جوي. (2)
ينبغي أن ينص في المعاهدة على تقديم المعونة المشتركة، وأن تتعهد الحكومة المصرية بإيجاد التسهيلات لقاعدة إدارية متحالفة ... (3)
سيكون من الجوهري وجود مركز قيادة متحالفة؛ لتنسيق تدابير الأمن في كافة أنحاء الشرق الأوسط، ويقترح أن يكون مركز هذه القيادة في منطقة القناة، وأن تقدم الحكومة المصرية لقوات الحكومة البريطانية تسهيلات للمرور في هذه المنطقة كلما دعت الحاجة.»
تلك هي خلاصة المذكرة البريطانية، التي قدمها اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني، فقلت لهما: «يلوح لي أن الإجراءات التي تشير إليها هذه المذكرة يمكن أن تنفذ خارج مصر، وعندكم حول البلاد المصرية أراض وبلاد، إما تحت حكمكم أو تستطيعون بنفوذكم أن ترتبوا فيها مثل هذه الإجراءات، فهل لم تفكروا في ذلك؟»
قال السفير: «يعتبر العسكريون عندنا أن النقطة التي يجب أن تكون عصب الدفاع هي منطقة القنال، وهذا رأى خبرائنا، وهو رأي تقره الحكومة البريطانية.»
قلت: «أليست فلسطين، وهي في حدود منطقة القناة تصلح للأغراض التي تتوخونها؟ وبينما هذه الأغراض ستكون بطبيعة الحال في نطاق ضيق إذا ما نفذت في أراضينا، فإنها ستكون في نطاق واسع في بلد تسيطرون عليه كفلسطين.»
قال السفير: «يرى الخبراء أن الغرض ليس حماية القناة نفسها بقدر اعتبارهم منطقة القناة من الناحية الاستراتيجية، كمنطقة صالحة لتركيز الدفاع كله.»
وقال اللورد ستانسجيت: «إن نقطة القناة هي الوحيدة التي تحكم الشمال والجنوب، ولها منافذ على البحرين.»
قلت: «لا أفهم، وقد عبرتم عن نقطة الطيران بأنها معدة لإيواء عدد قليل من الطائرات المقاتلة، أن يكون هذا العدد هو الذي يدفع الاعتداء، بل لا بد من أن يأتي العدد الأكبر من الطائرات، التي تتولى الدفاع عن مطاراتكم الأخرى الموجودة في غير مصر.»
قال السفير: «الغرض هو أن طائراتنا الأخرى تجد المكان اللائق عند حضورها لاستقبالها.»
قلت: «أليست مطاراتنا المصرية - ونحن حلفاء - ستستقبل طائراتكم القادمة في حالة الحرب، وهذه المطارات ستعد بالاتفاق معكم، وبآراء متبادلة بين أركان حرب الدولتين؟ فما الفائدة من هذا الوضع الذي لا يفهم منه إلا الرغبة في أن تكون لكم قواعد عسكرية في الأراضي المصرية؟ يضاف إلى ذلك أنكم تتكلمون أيضا عن قاعدة تسمونها «قاعدة إدارية للحليفتين»، وتشمل هذه القاعدة التي تسمونها «إدارية» مطارات، وإشارات، واستعدادات رادار، ودورا للصناعة ... إلخ ولو أنكم تقولون: إن هذه القاعدة الإدارية ستغذى بالخبراء، فإن لها كل صفات القاعدة العسكرية، خصوصا وأنتم تتكلمون أيضا عن استعدادات لبعض التسهيلات الحربية.»
وهنا قال السفير واللورد: «الحقيقة أن خبراءنا العسكريين حريصون الحرص كله على أنه في حالة وقوع الحرب، تجد القوى البريطانية استعدادا قائما لاستقبالها وتلقيها، وهذا حاصل الآن في نطاق واسع، ونود أن يكون مفهوما أن هذا ليس احتلالا، بل هو استعداد تقوم به الحليفتان يقتضيه الموقف الحربي الذي يمكن أن يكون كبير الخطر.»
قلت: «إني لا أرى فرقا يذكر بين مذكرة اليوم ومذكرة السفير السابقة، وإن كانت مذكرة اليوم ذات صبغة فنية تدعوني إلى استشارة الخبراء المصريين، ومهما يكن من أمر أحاديثنا التي سميت خاصة، فإنني الآن في اضطرار لمكاشفة خبرائنا.»
قال السفير واللورد: «إننا نفهم ذلك تماما، على أن نظل نحن وأنت في النطاق الخاص للأحاديث.»
قلت: «إن هذا الطابع «الخاص» للأحاديث لا أستطيع استبقاءه طويلا، وأنا في حاجة لمكاشفة زملائي.»
قال السفير: «نحن نرجو أن تؤخر هذه المكاشفة حتى يكون لنا معك حديث آخر.»
قلت: «إذن ستتلقون مني ردا يوم الأحد أو الإثنين بعد استشارة الخبراء؛ حتى لا أؤخر كثيرا مكاشفة الزملاء.»
وهنا انتقلت من الحديث الفني العسكري إلى الوضع السياسي، وقلت لهما: «أنتم لا تدركون تماما - على ما يظهر لي - الوضع السياسي في البلاد، وكيف يتأثر تأثرا خطرا وخطيرا بالتصميم على أوضاع هي مهما صورتموها، وحاولتم صبغها بصبغة تظنونها مقبولة، فهي الاحتلال بعينه، بل الاحتلال الذي لا لزوم له! إن البلاد الآن في حالة غليان فكري، وإذا كان هذا الغليان لم ينتقل بعد إلى حالة من العنف، فالفضل في ذلك للإجراءات والتدابير التي تقوم بها الحكومة. «نعم إن بالبلاد الآن هيئات متعددة متنوعة، وكلها في حالة تحفز، ومن هذه الهيئات ما هو سياسي، ومنها ما هو لطوائف صاخبة، كالطلبة، والعمال، ومنها هيئات متعددة اشتراكية واجتماعية من أولئك الراغبين في تحسين أحوال الطوائف الفقيرة، ومنها الهيئات السرية للشيوعيين وغير الشيوعيين - كل هذا ينذر بانفجار إذا لم تجب مطالب البلاد، وإني لمندهش كيف لا تزالون تصرون على أوضاع أرى شخصيا أنها أوضاع لا لزوم لها، بينما في استطاعة مصر أن تقوم بواجبها من ناحية الدفاع في أحسن ما يمكن من الأوضاع؟!»
وكان هذا نهاية الحديث، وقد تأثر اللورد ستانسجيت، والسفير من وصفي للحالة الفكرية التي عليها مصر الآن.
22 أبريل سنة 1946
ذهبت إلى قصر الزعفران في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحا - وأذكر أنه كان يوم شم النسيم - فوجدت السفير واللورد في انتظاري، وبعد تبادل التحيات سلمتهما مذكرة الخبراء المصريين العسكريين ومذكرتي السياسية، وكلتاهما بتاريخ 21 أبريل، وقد أمضيا وقتا في قراءة المذكرتين، وهما قاطعتان في رفض جميع المقترحات البريطانية التي اشتملت عليها مذكرة 19 أبريل، وكان عجيبا أنه على الرغم من جنوحي إلى بعض الشدة في عبارات المذكرة السياسية لم يحاولا مناقشتها، بل اكتفى اللورد بأن اعترض على ما جاء بمذكرة الخبراء المصريين خاصا بفرقة الطيران، فقال: «إن اقتراحنا وجود هذا الفرقة بالأراضي المصرية هو؛ لأن مجيئها من مسافات بعيدة قد يرهقها، ويوهن قوتها قبل أن تنزل إلى الميدان»، فقلت: «إن خبراءنا لا يقصدون إلا أن تبقى هذه الطائرات في طريق الغزو؛ لتعترض سبيل الطائرات المعادية إلى مصر.»
فقال اللورد: «ولكن طائرات الغزو قد تحضر إليكم من مكان ليس ببعيد، فهم يتحدثون الآن عن إنشاء قاعدة لروسيا بالدردنيل، وهي البقعة التي تستطيع روسيا أن تشرف منها على البحر المتوسط.»
فقلت: «إن مطالب روسيا بحسب ما يلوح لي إطلاق حرية المضايق، وليس إنشاء سيطرة عليها تعطى لدولة من الدول، وهذا هو موقفها على ما يقولون بالنسبة للقناة، ولا شك عندي أن تركيا - فوق معارضتكم ومعارضة الولايات المتحدة - لا تقبل أن تكون لروسيا قاعدة حربية على الدردنيل، وسياسة روسيا قائمة على الإيهام والتهويش، لا على التنفيذ والعنف!»
وبعد ذلك انتقل الحديث إلى موضوع القاعدة التي يسمونها «إدارية»، وكان المتحدث في الغالب هو السفير، فقال: «إنه ظاهر من حديثك أول أمس، ومن مذكرتك الحالية، أنكم لا تزالون تعتقدون أن لإنجلترا بعض النوايا غير الواضحة، وأنها قد تعتدي على سيادتكم، والواقع أننا لا نقصد إلا إلى شيء واحد هو: «تأمين مصر ضد الغزو، واخترنا لذلك كل حل بعيد عن فكرة التشبث بفكرة الاحتلال، وها أنتم ترون أن لب التدابير يرجع إلى شئون فنية، واحتياطات بعيدة عن أن تمثل السيطرة في شيء.»
قلت: «إذن أنتم لا تتشبثون بفرقة الطيران، وهي مظهر احتلال بحت.»
قال: «نحن نتكلم الآن عن القاعدة الإدارية ...»
قلت: «إن القاعدة تشتمل على ضباط وجنود تابعين للقوى البريطانية، فهي إذن من عناصر الاحتلال العسكري!»
فقال: «إذن هل يرضيك ألا يظهروا ببزتهم العسكرية، وأن يرتدوا الملابس المدنية؟»
فقلت: «ليس الغرض أن يكونوا متنكرين إذا كانت حقيقة أمرهم أنهم عسكريون!»
فقال: «هل يرضيك أن يتحولوا في الواقع مدنيين؟!»
قلت: «إن المسألة هي مسألة السلطة التي يتبعونها، فإذا كانت السلطة مصرية جاز النظر في الموضوع، أما إذا كانت سلطة بريطانية، فلا نكون قد تقدمنا كثيرا، فإن في ذلك اعتداء على سيادتنا، إن مثل المطالب التي بدت اليوم تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق.»
قال اللورد ستانسجيت: «هذا صحيح، ونحن لا نريد أن نمس سيادتكم.»
فشكرته، وقلت: «أرجو أن تصوروا لي الوضع الجديد إذا ما سلمتم بالعدول عن فرقة الطيران.»
فقال السفير: «قد نجاريكم لنثبت لكم أن ليس لدينا من مقاصد موجهة ضد استقلالكم وسيادتكم، ومن الممكن حصر الموضوع في كلمة: خبراء.»
فقلت: قد نقبل بعض خبراء بريطانيين إذا كانوا في خدمة الحكومة المصرية، شأنهم شأن باقي من عندنا من هذا الصنف، على ألا يبقوا في هذه الخدمة إلا الزمن الذي يتفق الطرفان على أن الحاجة ماسة فيه إليهم، وأن يكون من العمال المصريين من يدرب معهم للحلول محلهم، إلخ. وليكن في علم اللورد والسفير أن مصر تعتزم إقامة المصانع الحربية، وقد نحتاج لخبرائكم، فليست الشقة بعيدة بيننا، وسأفكر في كل ذلك.»
فقال اللورد: «ونحن أيضا قد نحتاج إلى المراجعة، وقد تأخذ بعض أيام.»
قلت: «وأنا أيضا في حاجة لمراجعة زملائي.»
قال اللورد: «إني أرجو ألا تجعل لحديثنا اليوم إلا وجها واحدا، هو رغبة الجانب البريطاني في احترام سيادة مصر عند عرض أي حل من الحلول ...!»
وانتهى الحديث عند ذلك، وقد دام ساعة ونصف الساعة.
وقد فاتني أن أذكر أنه في أثناء الحديث قلت: إن مثل المطالب التي بدت اليوم لا تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق، على أن تكون التدابير والاشتراطات من الجانبين محل مكاتبات تدور بين ممثلي الدولتين؛ لأنها ترتيبات مؤقتة لا تمس الموضوع الأساسي.
الجلاء قبل المفاوضات
إذا تحدثت عن نجاحي في حمل الحكومة البريطانية على إصدار بيان قبل المفاوضات، تعرض فيه موافقتها على الجلاء التام برا وبحرا وجوا عن الأراضي المصرية، فلست أريد أن أفاخر بجهودي، أو أمن على بلادي بأني أول من ظفر بذلك من الحكومة البريطانية، وأن مبدأ «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء» قد وافق عليه القوم لا على أنه شرط لا مناص من قبوله؛ بل لأنه النتيجة الحتمية للاعتبارات، والضرورات السياسية والعسكرية التي كنا بصدد معالجتها.
والواقع أن محادثاتي مع السفير البريطاني واللورد ستانسجيت، كانت تهدف على الدوام إلى ذلك، وقد صارحتهما منذ اللحظة الأولى بأنه لا أمل في اتفاق، أو محالفة مع مصر إذا لم يكن أساسها الجلاء التام برا وبحرا وجوا، في غير احتفاظ على أرض مصر أو مياهها أو هوائها بأية بقية من بقايا القوات البرية أو البحرية أو الجوية مهما ضؤلت، وبأي مظهر ظهرت، وبأي لباس بدت ... وقلت في محادثاتي معهما في 22 أبريل: «إن مثل المطالب التي بدت اليوم لا تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق، على أن تكون التدابير والاشتراطات من الجانبين محل مكاتبات تدور بين ممثلي الدولتين؛ لأنها ترتيبات مؤقتة.» (1) 30 أبريل سنة 1946
وفي صباح ذلك اليوم زارني برياسة مجلس الوزراء اللورد ستانسجيت، والسفير البريطاني، وبدأ السفير حديثه قائلا:
نحن مشبعون بواجبات المحالفة، ومع أنها تقتضي تحملنا أعباء؛ فإننا جئناكم اليوم لنقبل إخلاء القوات البريطانية، لأرض مصر كلها.
وقد قبلنا ذلك لثقتنا بأن الحكومة المصرية ستؤدي واجبها من ناحيتها، فتقيم الاستعدادات اللازمة للدفاع عن أرض مصر. ويسر الحكومة البريطانية أن تقدم هذا العرض، وهي تعتمد عليكم من أجل القيام بالإجراءات التي جاء ذكرها في مذكرة الضباط المصريين، كما تعتمد عليكم في تسهيل تقبل الخبراء، وفقا للمشروع الذي كان محل حديثنا في الجلسة الماضية.
وإنه ليحتاج الحال لبعض الوقت لإتمام عملية الجلاء؛ لأنها مرهونة بالاستطاعة المادية ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد ما يسمح بالاعتماد على أماكن في مصر لنقل جيوشنا الموجودة في المدن ما دام الجلاء سيكون تاما، ويلزم لنا وقت لإعداد أماكن خارج أراضيكم لإيواء قواتنا، ونحن نقدر أن للجلاء مرحلتين: المرحلة الأولى، هي النقل من المدن ومن الدلتا، والمرحلة الثانية، هي نقل باقي القوات، وباقي ما عندنا من استعدادات هائلة موجودة بالقطر المصري. (2) مذكرة بريطانية
وهنا سلمني اللورد ستانسجيت مذكرة مكتوبة باللغة الإنجليزية، وهي رد من الجانب البريطاني على مذكرتي، ومذكرة العسكريين المصريين، كما أن فيها التأييد من جانب حكومة لندن لما اشتمل عليه حديث يوم 22 أبريل.
فاستأذنت في أن أطلع على المذكرة حتى أستفيد من وجودهما، إذا ما عنت لي بعض الأسئلة ... وقلت: «أود أن أعرف هل هذه المذكرة معدة لهيئة المفاوضات باعتبار أنها للدخول في المفاوضة الرسمية؟»
فأجاب اللورد: «إنها معدة لذلك »، فسألت عن الغرض مما هو مذكور في الفقرة الرابعة من أنه: «لكي يتسنى لبريطانيا العظمى أن تساعد مصر في الاضطلاع بهذه التبعة، تقترح حكومة جلالة الملك وضع تدابير للتشاور الوثيق بين الحكومتين، وبين أركان حرب الدولتين، وأن تقوم بريطانيا لتقديم ما تدعو إليه الضرورة من المعونة الفنية لمصر على أساس يتفق عليه الطرفان؟!» وقلت: «إن المسألة هنا لا تخرج عن أنها مسألة عسكرية»، فأجاب السفير: «قد لا يصل العسكريون إلى تفاهم، وإذ ذاك لا بد من تفاهم الحكومتين، وقد يكون الأفق ملبدا، وتحتاج الحكومتان إلى تفاهم فيما يجب أن تعملا.»
فقلت: «إني أفهم الوضع الأول، ولكن لي اعتراضا على الوضع الثاني، وسيجيء ذكره ...» ثم قلت: «اسمحوا لي أن أعترض الاعتراض كله على الزمن الذي اقترحتموه للجلاء، وهو خمس سنوات فإنه لا يمكن أن يقبله أحد في مصر، وسيعترض عليه المفاوضون المصريون كل الاعتراض ... كنت أفهم أن تقولوا إنكم ستعملون على تقصير أمد الجلاء، وتربطونه بالضرورات المعقولة.»
فقال اللورد: «إن الزمن الذي طلبناه هو الزمن الأقصى، وقد يكون أقل، ومع ذلك فإن المذكرة تبين أسباب احتياجنا لهذه المدة، وعلى كل حال ستكون هذه المسألة موضع تفاهم بيننا وبينكم.»
فسألته: «إنكم تتكلمون عن مساعدة من جانب الحكومة المصرية في شئون الجلاء، فماذا تقصدون؟»
فقال اللورد بعد تردد: «ربما كان الغرض هو المساعدة في النقل.»
فسألت: «المفهوم من مدة الجلاء أن تحديدها مترتب على الاستطاعة، ولكن أرى في المذكرة أنكم استعملتم كلمة
events ، فهل لي أن أفهم أنه قد تؤثر الحوادث السياسية في موعد الجلاء ...؟ إذا كان الأمر كذلك، فأقول إنه لا يمكن قبول تأثر المدة بالحوادث السياسية، وقد يحدث أن يطرأ على هذه الحوادث ما يجعلكم تحتجون بها لطلب البقاء وفقا لخطر ترونه، وهذا لا يمكن قبوله، فإن تقدير هذا الخطر يفتح بابا واسعا للأخذ والرد.»
فقال اللورد: «إنها مسألة حسن نية ...» فأجبت «لا يمكن متى اتفقنا على موعد أن يكون هناك مجال لطلب تغييره؛ بسبب أن أحوال العالم تقتضي ذلك ، وأرى ألا تبنى مدة الجلاء إلا على ما يحتاج إليه من الوقت ماديا.»
فأجاب اللورد: «إني أقبل هذا الوضع ...» «قلت: أعود إلى مسألة السنوات الخمس، فألاحظ أن إخلاء المدن والدلتا، مسألة أشهر لا سنوات، في حين أن إخلاءكم لمنطقة القناة قد يسهله إسراعنا في إقامة المنشئات والقواعد اللازمة للدفاع.»
فقال السفير: «إنها من المسائل التي أود أن يتفاهم فيها العسكريون من الجانبين.»
وهنا سأل اللورد: «ما هو برنامجكم بشأن الاجتماعات منذ الآن؟»
فأجبت: «إني سأدعو زملائي للاجتماع غدا، وعليهم هم أن يقرروا متى تجتمع الهيئتان.»
فقال اللورد: «إن هيئة المفاوضات البريطانية مستعدة للاجتماع بالهيئة المصرية كذلك، فإن العسكريين البريطانيين مستعدون لمقابلة مندوبيكم العسكريين.»
فقلت: «إن كل هذا يرجع إلى اجتماعنا غدا نحن المصريين، وقد يمتد اجتماعنا إلى يوم آخر، أما العسكريون، فقد يرى المفاوضون المصريون أن يكون اجتماعهم بزملائهم البريطانيين بحضور هيئة المفاوضة المصرية.» (3) رد هيئة المفاوضة
1 مايو سنة 1946
اجتمعت بزملائي المفاوضين المصريين، وأفضيت إليهم بكل ما جرى من أحاديث، وأطلعتهم على إلهام من المذكرات ومنها المذكرة البريطانية الأخيرة، وقد دام العرض زهاء ساعتين حظيت في نهايتها بحسن تقدير الزملاء وتهنئتهم، وقد اتفقت كلمتنا على الرد عليها بمذكرة قدمت باسم الهيئة إلى الوفد البريطاني في 7 مايو، تتلخص في النقط الآتية:
يشاطر الوفد المصري الوفد البريطاني رأيه في أن المعاهدة الجديدة يجب أن تكون اتفاقا على تبادل المعونة ضمن نطاق هيئة الأمم المتحدة.
ويجب أن تكون المعاهدة اتفاقا بين دولتين متساويتين تساويا تاما في السيادة.
إن المعاهدة الجديدة هي للتعاون المشترك ضد كل اعتداء مسلح، إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لصون السلام والأمن الدولي.
يتعين أن تتجنب المعاهدة كل نص يمكن أن يؤول بأنه يدل على نية بريطانيا في التدخل في شئون مصر.
تتكفل مصر وحدها بقواعد إدارية تشمل مطارات ومنشآت؛ للدفاع البري والجوي والبحري.
يوافق الوفد المصري على قيام تعاون وثيق بين هيئتي أركان حرب الدولتين، بشرط ألا تتضمن المعاهدة أية إشارة إلى استخدام الحكومة لخبراء، أو فنيين في الشئون العسكرية من البريطانيين.
أن مدة السنوات الخمس لسحب القوات البريطانية - وإن اعتبرت حدا أقصى - هي مدة أطول كثيرا مما يجب، ويمكن أن يتم الجلاء في مدى عام واحد.
يوافق الوفد المصري على أن تبذل السلطات المصرية كل ما في وسعها لمعاونة السلطات البريطانية في نقل القوات البريطانية عند جلائها، وعلى تكليف الخبراء العسكريين في الوفدين إعداد برنامج لتصفية الهيئة الإدارية في مصر، وسحب القوات البريطانية. (4) تصريح الجلاء
وفي 7 مايو سنة 1946 اجتمعت باللورد ستانسجيت والسفير البريطاني، وسلمتهما المذكرة المصرية، وجرى حديث بيننا عن موعد المفاوضات، فأبلغتهما استعداد الهيئة المصرية لافتتاح المفاوضات الرسمية في يوم 9 مايو، فأبلغاني أن الوفد البريطاني يوافق على هذا الموعد، ثم أطلعاني على البيان البريطاني عن الجلاء، الذي كلفا بإعلانه من الحكومة البريطانية بعد موافقتي.
8 مايو سنة 1946
وفي صبيحة هذا اليوم أذاعت السفارة البريطانية في الصحف ما يأتي:
قرر الوفد البريطاني للمفاوضات بموافقة دولة إسماعيل صدقي باشا أن يصدر بيانا عن السياسة البريطانية في هذه المفاوضات، التي كثرت التكهنات حولها في الآونة الأخيرة، وفيما يلي نص البيان: «إن السياسة المقررة لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة (بريطانيا)، هي توطيد محالفتها مع مصر على أساس المساواة بين أمتين تجمع بينهما مصالح مشتركة.
وعملا بهذه السياسة بدأت المفاوضات في جو من المودة وحسن النية، فعرضت الحكومة البريطانية أن تسحب جميع قواتها البحرية والبرية والجوية من الأراضي المصرية، وأن يتقرر بالمفاوضات تحديد مراحل جلائها، والموعد الذي يتم فيه والتدابير التي تتخذها الحكومة المصرية لتحقيق التعاون في حالة الحرب، أو خطر حرب وشيك الوقوع طبقا للمحالفة.»
هذا هو البيان الذي صرحت به الحكومة البريطانية على لسان وفدها، وهو أول بيان من نوعه، ويدلك على أهميته وخطره أنه لم يقابل من حزب المحافظين البريطانيين، وعلى رأسهم مستر تشرشل بالارتياح، وأذكر أنه وقف في مجلس العموم معترضا عليه كل الاعتراض عندما ألقاه مستر آتلي، فقد نهض في اهتمام قائلا: «إن هذا البيان خطير الشأن، وهو من أخطر ما ألقي في هذا المجلس من بيانات ... إذ يعرض على مصر سحب جميع قواتنا البرية والبحرية والجوية من أراضيها، عند الشروع في المفاوضات معها ... وإني أرى من الواجب أن أسجل في هذه اللحظة أنها لم تستشر أحدا في هذه البلاد بأية طريقة كانت، وإني شخصيا لم أعرف هذا القرار إلا قبل تلاوته بنصف ساعة ... إنها خطة وضعتها الحكومة من تلقاء نفسها، فيجب أن تقع المسئولية عليها، ومن جهة أخرى يبدو لي أن المعارضة ترى من الواجب عليها الإشارة إلى خطورة الحالة.
إن ذلك العمل العظيم الذي قمنا به في تلك البلاد خلال ستين سنة من الدبلوماسية والإدارة، قد ألقي به في كثير من الخزي والهوس!» •••
هذا بعض ما قوبل به هذا البيان من المعارضة البريطانية، وهو يدلك على أهميته، وعلى أنه بالنسبة لمصر كان فاتحة سعيدة ومباركة للمفاوضات.
أثر الروس والمحافظين في المفاوضات
قبل افتتاح المفاوضات ببضعة أيام وصلت إلي رسالة بالشفرة من عمرو باشا سفير مصر بلندن، جاء فيها: «طلب إلى مستر بيفن أن أقابله في الحادية عشرة من صباح اليوم (19 أبريل) بوزارة الخارجية، وابتدرني قائلا إنه أتى من الريف خصيصا ليتحدث إلي، وأعرب عن رغبته الجدية في أن تبدأ المحادثات في القاهرة بداية حسنة، ويرى في هذا ما يبرر دعوته إياي من الريف في يوم عطلة عامة، فأجبته قائلا: «إني وأنا في بكهام كنت على استعداد للمساعدة بكل ما في وسعي ...» وعندئذ بدأ بيفن يتحدث عن الصعاب الجمة التي تواجهه، وأقلها على سبيل المثال مؤتمر باريس (مؤتمر وزراء الخارجية) الذي سيعقد قريبا، ثم مجلس الأمم المتحدة، إلى الأعباء الأخرى التي يضطلع بها، ثم قال: إنه لا يرغب أن يخفي قلقه من جراء مسلك روسيا مما شهدناه في الأسابيع القليلة الأخيرة، وما يمكن أن يلخص في الكلمات الآتية «شراهة الروس في احتكار البترول، وحرصهم على السيطرة». وأسر إلى مستر بيفن قائلا: إن سفير تركيا زاره أمس، وأعرب له عن القلق العظيم الذي يساور تركيا أيضا في هذا الشأن: وهذا نص ما طلب إلى مستر بيفن أن أنقله إلى الحكومة المصرية:
يقول وزير الخارجية البريطانية إنه يحرص على أن تبدأ المفاوضات في جو صالح من الصداقة، ويرى أنه يجب أن تبحث علاقاتنا في المستقبل على أساس أننا ندان مستقلان، وفي هذا الجو يجب أن تدرس صداقاتنا المستقبلة التي نرجو أن تتناول مسألتين؛ الأولى: التحالف، والثانية: التعاون المشترك للمحافظة على الأمن في الشرق الأوسط ...
ثم قال:
وإن لنا حقوقا بمقتضى معاهدة سنة 1936 قد ننزل عنها إزاء التدبير الواسع المدى الذي وصفته آنفا، والذي يتعين أن تشتمل عليه المعاهدة الجديدة، فإذا كان لنا أن نعمل معا في نظام أوسع نطاقا للشرق الأوسط كان من الضروري أن يكون لنا مركز نستطيع به أن ننفذ هذا التدبير، وأن نحافظ عليه ... وهذا المركز يشترط فيه أن يكون في أكثر الأمكنة ملاءمة للقيام بالتزاماتنا المشتركة في شئون الدفاع.
ووزير الخارجية شديد الاهتمام بأن يسود منذ البداية جو من الود المكين، بين وفدين متساويين مهما تقم في سبيلهما من العقبات الوقتية، وإنه ليدرك أن أية صعوبة قد تنشأ في أثناء المحادثة بسبب طرف آخر، يحاول الاصطياد في الماء العكر، فإنها تستغل فورا؛ ولذلك فإن من مصلحتنا أن نتجنب بأي ثمن حدوث مثل ذلك في الوقت الحاضر ...
وهنا انتهت كلمات مستر بيفن، وقد أخبرته أني سررت لإثارته هذه النقطة؛ لأنه من جانب الحكومة المصرية قد فعلنا كل ما في وسعنا لخلق علاقة ودية، وتهيئة جو صالح مما أكد لي أهميته، بيد أني بعد أن قرأت في الصحف الإنجليزية التصريح، الذي يدعو إلى الذهول - ذلك التصريح المعزو إلى الحاكم العام للسودان - لا أستطيع أن أرى أن مثل هذه الملاحظات، التي أبداها أشخاص مسئولون أو نسبت إليهم، من شأنها خلق الأثر المطلوب الذي يرغب مستر بيفن في وجوده.
فرد مستر بيفن قائلا: إنه لم تصدر منه للحاكم العام تعليمات بأن يفضي بهذا التصريح، الذي لم يحط به علما، ثم استدعى فورا مستر «هاو» وكيل الخارجية المساعد، الذي أعرب بدوره عن جهله التام بهذا التصريح ... وطلب مستر بيفن من «هاو» أن يحقق في هذا الأمر، وأن يأمر كل من يعنيهم هذا الشأن أن يلتزموا الصمت، وإن كان هناك داع لأي تصريح، فإن مستر بيفن وحده هو الذي سيدلي به.
هذا هو نص رسالة عمرو باشا، وما تضمنته من آراء ورغبات لوزير الخارجية البريطانية؛ كي تسير المفاوضات في جو صالح للوصول إلى اتفاق مرض بين مصر وبريطانيا كأمتين متساويتين، لهما مصالح مشتركة.
أما تصريح حاكم السودان العام المشار إليه، فهو الذي أدلى به في 17 أبريل سنة 1946 عند افتتاح المجلس الاستشاري، ويتلخص في «أن الحكومة السودانية معنية بإقامة الحكم الذاتي في السودان بقصد الوصول إلى الاستقلال، وأنها ألفت لجنة من الموظفين البريطانيين والسودانيين لبحث مشروعات السودنة، وأن هذه الحكومة تهدف إلى سودان حر مستقل يستطيع أن يحدد بنفسه نوع علاقاته مع بريطانيا ومصر، وأنه واثق من أن فترة عشرين سنة تكفي السودانيين؛ للوصول إلى ذلك بمعاونة عدد من الخبراء من غير السودانيين.»
ذلك تصريح الحاكم العام ونحن على أبواب المفاوضات، وقد رددت عليه في حينه بأن الحكومة المصرية لا تتقيد به، وأنه لا يعبر عن رأي مصر في مسألة السودان، وقد نفاه مستر بيفن كما رأيت في رسالة عمرو باشا، وأكد أنه يجهله ولا يعبر عن رأيه.
على أن هذا التصريح إن هو إلا المعبر الصادق عن حقيقة السياسة، التي كان حكام السودان من البريطانيين يعملون على اتباعها؛ أي سياسة الفصل بين البلدين، وقد ظهرت آثارها في شتى المناسبات، وأخيرا عند ظهور نتائج مفاوضات «صدقي - بيفن»، إذ طالبوا بحق السودان في الاستقلال عن مصر، مما كان محل الأخذ والرد الذي انتهى بضياع آثار الاتفاق.
المفاوضات الرسمية
اتفق الوفدان المصري والبريطاني على أن تفتتح المفاوضات الرسمية في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الخميس 9 مايو سنة 1946، وكنت مع اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني قد قطعنا شوطا كبيرا في المحادثات التمهيدية، التي أشار بها مستر بيفن لذليل بعض الصعوبات. وقد كان للبيان الذي أعلنه الوفد البريطاني قبل المفاوضات عن الجلاء التام - ونشر في الفصل الماضي «بالمصور» - أبلغ الأثر في تهيئة جو صالح، وافتتاح سعيد.
وفي الموعد المحدد من ذلك اليوم التاريخي - يوم افتتاح المفاوضات - اجتمع الوفدان في وزارة الخارجية المصرية، وألقيت كلمة الوفد المصري التي أسجلها هنا للتاريخ وللأهمية في هذه المذكرات:
عزيزي اللورد، سادتي
لي الشرف العظيم - كرئيس للحكومة ولوفد المفاوضات المصري - أن أرحب بكم بيننا، وهو شرف سيكون من أغلى وأبقى ما أعتز به في حياتي العملية الطويلة.
وإنه لمن حظي الكبير بصفتي المفاوض المصري الأول، أنني خلال محادثاتي التمهيدية مع الممثلين الممتازين للبلد العظيم صديقنا وحليفنا؛ وجدت في متناول يدي تلك الأفكار الجديدة، التي ولدتها الحرب الأخيرة، والتي كفلت قدسيتها الروح الجديدة المنبعثة في الشعوب، أعني بذلك المبدأ المسلم به من العالم أجمع من أن يكون كل شعب سيدا في بلده، وأن حق الأفراد والشعوب على السواء في الحرية ينبغي أن يوضع في الكفالة الاجتماعية لمجموعة الأمم، وقد قربت الحرب من أقدارها، ونسقت غاياتها.
وتحت لواء هذا الاتفاق في المبادئ استطاع ممثلو مصر، والمملكة المتحدة في محادثاتهم الأولى أن يتقابلوا في ميدان، يجب أن يتحقق فيه الاتفاق بغير كبير عناء، ولقد قبلت حكومة المملكة المتحدة فعلا، كما أعلن ذلك في البيان الذي نشره الوفد البريطاني أن تسحب من الأراضي المصرية جميع قواتها البحرية والبرية والجوية، وصرحت فوق هذا أن سياستها ترمي إلى أن تبرم مع مصر محالفة على غرار المحالفات، التي تعقد بين أمتين متساويتين لهما مصالح مشتركة.
وإنه لأمر يتعلق بكم أيها السادة أن تشيدوا بناءكم فوق هذه الأسس، وإني لكبير الأمل في أن نتيجة محادثاتكم، إذ تحدوكم - سواء أكنتم من هذا الجانب أم ذلك - الرغبة الصادقة في أن تعملوا على إكمال استقلال وطننا العزيز، ذلك الاستقلال الذي يعد احترامه الكامل شرطا أساسيا لصداقة دائمة مثمرة.
وأود أن أقول لزملائي المصريين قبل أن أختتم هذه الكلمة: إنهم سيجدون في صديقي لورد ستانسجيت وسير رونالد كامبل - اللذين كان لي شرف الاشتراك معهما في مناقشات طويلة شاقة - إدراكا يمتاز بالوضوح ، وتقدير الحقائق لموقف كل من البلدين ومصالحهما، وإني لعلى ثقة من أننا واصلون بذلك إلى أسعد النتائج.
وعلى أثر إلقائي هذه الكلمة، وقف اللورد ستانسجيت، وألقى كلمة الوفد البريطاني، فقال:
إني مدين بالشكر لدولتكم على حفاوتكم الودية بنا في هذا الاجتماع الرسمي الأول لوفدي المفاوضات الإنجليزي والمصري، وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأعبر عن امتناني أنا وزملائي، الذين حضروا معي من بريطانيا لما قوبلنا به في كل مكان من حفاوة لا حد لها وحسن ضيافة، وذلك منذ وصولنا إلى بلادكم من أربعة أسابيع.
ولقد كنت على الدوام أفخر بأن أعد نفسي كما أنا الآن الصديق الوفي لمصر ... وأنه ليشرفني أن أترأس الوفد البريطاني في هذه المحادثات الهامة، التي هي بلا شك مؤذنة بعهد جديد من الاستقرار والتناسق في العلاقات البريطانية المصرية، وإنه لمن دواعي الفخر أن نستطيع بحث هذه المسائل العظيمة مع وفد ممتاز رفيع القدر كوفدكم.
ولا شك أننا جميعا نأسف على أن المستر بيفن لا يستطيع أن يكون في هذه الآونة بيننا ليأخذ مكانه على رأس الوفد البريطاني، ولكنكم تقدرون ما يقع على عاتقه من مسئوليات جسيمة أخرى في لندن وباريس.
إن المحادثات غير الرسمية التي تبادلناها وإياكم؛ تمهيدا لهذا الاجتماع الرسمي الأول كانت كما ذكرتم دولتكم يسودها الود وحسن التفاهم، وكان هذا مصدر غبطة كبرى للحكومة البريطانية ...
وقد أعلنا على الملأ اقتراحنا للحكومة المصرية أن نسحب من الأراضي المصرية جميع القوات البحرية والبرية والجوية البريطانية.
يبقى علينا أن نصفي الماضي، وذلك بأن نضع برنامجا لهذا الانسحاب، وأن نتفق على الترتيبات اللازمة لجعل استمرار تحالفنا مثمرا - وهذا بالنسبة للمستقبل أمر ذو أهمية قصوى.
وإني لعلى ثقة بأن هذه الأمور يمكن حلها، بل إني واثق من أنها ستحل بما يرضي الطرفين، وأن روابط الصداقة والمصلحة المشتركة الوثيقة التي تربط بلادينا ستبقى وتزداد قوة في السنوات المقبلة، وذلك على أساس معاهدة جديدة قوامها هذه المحادثات، وإننا لندعم اليوم حلفا عسكريا جلب لنا النصر باتحاد صادق بين قلوبنا.
مشروع بريطاني أولي
بدأنا مفاوضاتنا في هذا الجو الصالح الذي كان يسوده التفاهم، وقطعت المفاوضات شوطا بعيدا، ولعل أكبر دليل على تقدمها استدعاء مستر «بيكيت» الخبير البريطاني المتخصص في كتابة المعاهدات لوضع النصوص القانونية ... وقد سارت المباحثات سيرا حسنا، فاقتنع الوفد الإنجليزي والحكومة الإنجليزية بالعدول عن مطالبهما بشأن قاعدة حربية دائمة في مصر، وعدلوا عن إنشاء مطارات في الأراضي المصرية، وعن أن يحتفظوا بالإسكندرية كقاعدة حربية، ودارت محادثات في مسألة السودان، وفي مدة المحالفة وفي مركز السفير البريطاني، كان الطرفان يلتقيان في هذه المسائل.
ثم وضع الوفد المصري مشروعا للمعاهدة الجديدة في 19 مايو، سيأتي نصه في آخر هذا المقال ... وقد درسه الوفد البريطاني ثم رفضه، وعلمت أن هذا المشروع كان في نظره كأنه وثيقة تسليم بلا قيد ولا شرط! ولم يمض يوم حتى رد الإنجليز بمشروع بريطاني لا يختلف كثيرا عن معاهدة سنة 1936 ... وكنا قد بعثنا لهم قبل ذلك في 25 مارس بمذكرة ضافية، أبنا فيها وجهة نظر المصريين في تلك المعاهدة بعد الأحداث، التي تعاقبت في خلال عشر سنوات ماضية، وقلبت الأوضاع الدولية رأسا على عقب من الناحيتين السياسية والعسكرية، وقد أمضيت في ظروف طواها الزمن، ولم يبق سليما من أحكامها إلا مبدأ التحالف كما حددته المادة الرابعة.
إسماعيل صدقي باشا يرأس أحد اجتماعات حزب الشعب الذي ألفه أثناء وزارته الأولي، وقد جلس إلي يمينه إبراهيم فهمي كريم باشا، وعبد الله الملوم باشا، وظهر خلفهما أحمد كامل باشا، وعبد الرحمن البيلي، ومن حولهم لفيف من أعضاء الحزب.
إسماعيل صدقي باشا في طريقه إلي قبر الجندي المجهول في مدينة روما بعد زيارته للسنيور موسوليني.
جلالة الملك فاروق يتوسط وفد المفاوضة سنة 1946 ... وقد وقف يمين جلالته إسماعيل صدقي باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، ومحمد حسين هيكل باشا وإلى يسار جلالته شريف صبري باشا، وحسين سري باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، ومكرم عبيد باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، وعلي الشمسي باشا.
ويتفق هذا المشروع البريطاني الجديد ومعاهدة سنة 1936 في كثير من المسائل منها: (1)
أن تلتزم مصر بأن تضع تحت تصرف بريطانيا جميع التسهيلات والمساعدات، التي في وسعها في حالة خطر حرب داهم، أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها. (2)
وأن يكون للقوات البريطانية في هذه الحالة المشار إليها كامل الحرية في دخول مصر والتنقل فيها، وأن تستخدم الموانئ والطرق والسكك الحديدية المصرية، وسائر وسائل المواصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية. (3)
وأن تتخذ الحكومة المصرية جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، بما في ذلك إعلان الأحكام العرفية. (4)
يقوم جلالة ملك مصر في وقت السلم بإنشاء وصيانة منشآت معينة، تكون ضرورية لخدمة قوات الحكومة البريطانية والحكومة المصرية.
وينص المشروع البريطاني فضلا عن ذلك على أن تتسلم مصر الثكنات والمنشآت العسكرية، ولكن بشرط أن تبقى الأسلحة والمهمات التي ترى بريطانيا الاحتفاظ بها من أجل الطوارئ للمملكة المتحدة (إنجلترا)، وتتعهد مصر بالمحافظة عليها، بحيث تكون دائما في حالة جيدة، وبأن تفتح أبواب ثكناتها لخبراء إنجليز ترسلهم بريطانيا في أي وقت لاختبار هذه الأسلحة، والمهمات التي تعين مصر موظفين بريطانيين للمحافظة عليها؛ ولتدريب المصريين على استعمالها.
وقد كانت معاهدة سنة 1936 مقصودا بها حماية قناة السويس باعتبارها جزءا لا يتجزأ من مصر، وهو في نفس الوقت طريق عالمي للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية ... ولكن المشروع البريطاني رأى أن يكون التحالف في نطاق أوسع، فقد أشار إلى ضرورة استتباب السلام في البلاد المجاورة لمصر والشرق الأوسط، بمعنى فهم منه الجانب المصري أن المرغوب فيه هو إيجاد قاعدة في مصر تتولى فيها بريطانيا وقت العدوان حماية مصر والبلاد المجاورة، والشرق الأوسط.
ويستنتج من النص الإنجليزي أن أي عدوان يحدث في الشرق الأوسط - أي في إيران وفي تركيا أو حدود العراق أو غير ذلك - يجعل مصر تتحول أوتوماتيكيا إلى قاعدة حربية، ويكون من حق الحكومة البريطانية المطالبة بإعلان الأحكام العرفية، وإصدار التشريعات الاستثنائية لحماية ظهر قوات الحلفاء. •••
وكانت مدة المحالفة في المشروع الذي قدمه الوفد المصري 15 عاما، ولكن وجهة النظر الإنجليزية في بادئ الأمر كانت متجهة لأن تكون أبدية، ثم جاءت هذه المدة في المشروع البريطاني 25 سنة من تاريخ بدء سريانها، وتظل بعد ذلك سارية إلى أن ينقضي عام على إعلان أحد الطرفين المتعاقدين للآخر بإنهائها بالطرق الدبلوماسية.
وقف المفاوضات
لم تلتق إذن وجهتا النظر المصرية والبريطانية في هذه المسائل المشار إليها في المشروع البريطاني الجديد، وتأكد لي ولزملائي أعضاء الوفد المصري بعد الاطلاع على هذا المشروع أن قبولنا له رجوع إلى الوراء، وتسليم ضمني ببقاء معاهدة سنة 1936، ولما أصر الجانب البريطاني على موقفه، وتمسكه بكل صغيرة وكبيرة في مشروعه، أبلغت لورد ستانسجيت استحالة قبول المسائل الواردة في هذا المشروع، فوعدني باستشارة مستر بيفن، واتفقت معه على إصدار البيان الآتي يوم 23 مايو سنة 1946:
إن تبادل الآراء بين الوفدين قد أظهر أن هناك بعض المسائل، التي رأى الوفد البريطاني ضرورة الرجوع فيها إلى المستر بيفن ... ويتطلب هذا بعض الوقت.
وجدت من ذلك أن هناك تغيرا في روح المفاوضات، سواء تلك التي تجري هنا أم التي تجري في إنجلترا بين مستر بيفن وعمرو باشا، وأظهرت المرارة التي شملتني من هذه الأوضاع، ولاحظت منها الضغط الواقع على وزارة الخارجية البريطانية من رجال السياسة القديمة فيها، وفهمت أنه لن يستطيع الفوز بمساعدتي للوصول إلى النهاية، إلا إذا كانت هذه الروح تتقلص، والحق أن اللورد ستانسجيت في كل هذا كان يقوم بدور الوسيط المملوء بالعطف، وحسن الرغبة في الوصول إلى نتائج طيبة ...
ونحن إذا كنا بعد ذلك قد عدنا إلى المفاوضات، فلم يكن ذلك اعتمادا على ألفاظ بلا تعبيرات، بل بناء على التأكيد بأن هذه الروح لا بد أن يقضى عليها، غير أن مما يؤسف له أنها لم تزل باقية، وأنها كانت تظهر من وقت لآخر في تصرفات وزارة الخارجية البريطانية، ولم يكن يكسر من حدتها إلا وجود مستر بيفن في هذه الوزارة؛ وهي تلك الروح، التي أوجدت المصاعب أيضا بعد إمضائي مع مستر بيفن الوثيقة المعروفة، ثم هي التي ترتب عليها فيما بعد قطع المفاوضات!
حزب المحافظين والمفاوضات
وقد كان من الصعوبات التي عانتها المفاوضات المصرية البريطانية موقف المحافظين منها، وقد كشفوا عن كوامن نياتهم نحو مصر باعتراضهم على مسلك حكومة العمال، إذ كانوا وما يزالون دعاة معاهدة سنة 1936؛ تلك المعاهدة التي كان لها ما يبررها عند توقيعها؛ لأنها وليدة حالة سياسية وأخطار حربية تهدد مصر كما تهدد الإمبراطورية البريطانية، فكان مستساغا أن تتخذ بسبب تلك الحالة ضمانات، ولكن المحافظين وهم يعلمون علم اليقين أن الخطر الناجم عن المحور قد زال إلى غير رجعة، ما زالوا يعملون على الاحتفاظ بمعاهدة سنة 1936، إن لم تكن بنصها فبروحها، لا يبغون عنها حولا؛ لأنهم رأوا فيها إلى جانب الأغراض الحربية ما يحقق السيطرة على مصر، والتدخل في شئونها، وهم مسوقون بنزعاتهم الاستعمارية المشهورة.
وليس منا من يجهل نيات بعض المحافظين، وآية ذلك موقف مستر تشرشل ومستر أيدن من إنحائهما باللائمة على حكومة العمال، كلما ورد على ألسنة رجالها ذكر «الجلاء»، ولديهما أنه كان يجب أن يكتفي بالجلاء عن المدن المصرية الكبرى فقط؛ حتى لا يتألم المصريون لرؤية الجنود المتغلغلين في أوساطهم، فهما وأمثالهما من رجال العهد القديم يظنون أن مصر تنظر إلى الأمور نظرة سطحية لا تدرك المعنويات! وقد قال مستر أيدن في خطاب له: إنه لم يسمع من محدثيه عند زيارته لمصر في غضون الحرب أية عبارة تشير إلى أن المعاهدة المبرمة سنة 1936، تسيء إلى كرامة المصريين بأية حال، بل كان المصريون يعربون له عن ارتياحهم إلى هذه المعاهدة! فيا ليت شعري من هم أولئك المصريون، الذين أظهروا للمستر أيدن ارتياحهم للمعاهدة القائمة، التي إذا صح أنها لم تكن محل السخط أثناء الحرب، فإن المصريين ما كانوا لينظروا إليها إلا على أنها خطوة تتلوها خطوات في سبيل الاستقلال، حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها هبوا للمطالبة بأهدافهم كاملة، معتمدين بعد الله على حقهم الواضح وحجتهم القوية.
وإني لأربأ بوطنية القوم في بلدنا أن يكون من بين أولئك المحبذين لآثار معاهدة سنة 1936، نفس السادة الذين قاموا في وجه «معاهدة صدقي - بيفن» لأنهم رأوها أقل من أن تحقق المثل العليا لما كانوا يبتغون لمصر ...
وبينما مستر أيدن يصرح بما صرح به، إذا بمستر تشرشل يشيع الريب والظنون في مقدرتنا على التمسك بتعهداتنا، وهو الذي طالما امتدح لمصر موقفها الرائع في مساعدتها الحلفاء!
والواقع أن المحافظين لا يريدون جلاء؛ لأن في الجلاء فقدانا لأداة السيطرة، وبسط السيادة، وهم لا يعنون بصداقة المصريين إلا بالقدر الذي لا يمس نفوذهم. وهم في سبيل محاربة قضية مصر يستعملون من العبارات ما هو غاية في الغلو والتطرف، إذ يقولون عن رغبة العمال في التعاقد مع مصر إن من شأن هذا التعاقد تعريض المصالح البريطانية للدمار!
أمل لم ينقطع
وعلى الرغم من حملة حزب المحافظين على وزير الخارجية البريطانية مستر بيفن، واعتراضهم على مسلكه، نراه يقف في مجلس العموم يصرح بأن من حق مصر، ومن حق بريطانيا معها في الحالة الجديدة التي أعقبت الحرب أن تصلا إلى حل سليم عادل، وأنه ليس من المألوف أن يكون الدفاع تبعة تلقى على كاهل دولة واحدة، بل الدفاع من حق الأمم متفاهمة متعاونة، وقد أصبح هذا إيمان الجميع، وليس من المألوف في العلاقات الدولية أن تبقى قوات أجنبية في بلاد شعوب أخرى، ويقول: «إن الأساليب المؤسسة على مثل ذلك قد أصبحت عتيقة بالية، وأنه يكون طيبا إذا استطاع أعضاء مجلس العموم تحقيق ذلك ... وأن مهمة رؤساء أركان الحرب أن ينفذوا ما تقرره الحكومة، وأن هناك بعض خلاف في الرأي، ولكن على الوزارة البريطانية أن تزن الأسباب بميزان البحث والتمحيص، ويجب عليها أن تتخذ القرارات السياسية، وأن تقبل التبعة الناجمة عنها.» ولقد كانت هذه العبارات التي أدلى بها مستر بيفن تنطوي على الشجاعة، وقد بعثت في نفسي التفاؤل والأمل وقتذاك؛ أولا: لأن الشقة بيننا وبين البريطانيين قد ضاقت بسبب تفاهمنا في أكثر المسائل التي يعالجها الطرفان ... وثانيا: لأن روح حكومة العمال، وروح مستر بيفن بصفة خاصة، هي روح كنت أعتقد أنها ستؤدي في نهاية الأمر، ومهما طال جدلنا إلى الوصول إلى الغرض الذي يتوق كل منا إلى تحقيقه.
وقد صرح مستر بيفن في مناقشة له بمجلس العموم: «إن بريطانيا في سياستها بالشرق الأوسط كان عليها أن تختار إما القوة، وإما الصداقة، وإنها اختارت الصداقة.»
لذلك لم أقطع الأمل حين وقفت المفاوضات؛ لأنها لم تنقطع، ولأن هذه الروح كانت ما تزال سائدة، ولأنه مهما كانت رغبة العمال في التخلص من مهاجمة المحافظين لهم في مجلس العموم، فلن يصلوا إلى درجة نقض تعهداتهم والإخلال بمبادئهم؛ ولهذا لم تلبث أن استؤنفت المفاوضات فيما بعد.
المشروع المصري
وهذا هو نص المشروع المصري الذي رفضه الوفد البريطاني، وجاء ذكره في هذا الفصل من المذكرات:
المادة الأولى:
في حالة الاعتداء المسلح الموجه ضد بريطانيا العظمى في البلاد المتاخمة لمصر، تتعهد هذه الأخيرة أن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للمحافظة على السلم والأمن الدولتين.
وفي حالة ما إذا تعرضت مصر لاعتداء مسلح تتعهد بريطانيا العظمى بأن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للمحافظة على السلم والأمن الدوليين.
وإذا كان الاعتداء الموجه ضد بريطانيا العظمى لم يقع في البلاد المتاخمة لمصر، فإن الطرفين الساميين المتعاقدين يتشاوران في الحال؛ للنظر في القيام بأي عمل مشترك، يريان أنه لازم للمحافظة على السلم.
نص آخر للمادة الأولى:
في حالة الاعتداء المسلح الموجه ضد بريطانيا العظمى في البلاد المتاخمة لمصر، يتشاور الطرفان الساميان المتعاقدان في الحال للنظر في القيام بأي عمل مشترك، يريان أنه لازم للمحافظة على السلم.
وفي حالة ما إذا تعرضت مصر لاعتداء مسلح تتعهد بريطانيا العظمى أن تبذل لها كل تأييد عسكري وغيره، وكل المعونة التي في وسعها، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة؛ للمحافظة على السلم والأمن الدوليين.
المادة الثانية:
يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان أن لا يبرما تحالفا، أو يشتركا في أي حلف موجه ضد أحدهما.
المادة الثالثة:
لا يخل أي حكم من أحكام المعاهدة الحالية بالحقوق والالتزامات المترتبة، أو التي يمكن أن تترتب لأحد الطرفين الساميين المتعاقدين بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة، ولا أن يفسر أو يطبق على نحو لا يتفق مع أغراض ومبادئ الأمم المتحدة.
المادة الرابعة:
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما بصدد تطبيق أحكام المعاهدة الحالية، أو تفسيرها، ولا يتسنى لهما حله بمفاوضات مباشرة يسوى وفقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
المادة الخامسة:
تلغي المعاهدة الحالية كل الاتفاقات القائمة، أو غيرها من الوثائق التي تتعارض مع أحكامها.
المادة السادسة:
مدة المعاهدة الحالية هي خمس عشرة سنة من تاريخ تبادل التصديق عليها، فإذا لم ير أحد الطرفين الساميين المتعاقدين تجديدها، وأعلن الطرف الآخر بذلك قبل انقضاء تلك المدة باثني عشر شهرا على الأقل، تعتبر مجددة تجديدا ضمنيا لمدة خمس سنوات وهلم جرا.
المادة السابعة:
يصدق على المعاهدة الحالية، التي تعتبر نصوصها الإنجليزية والعربية على السواء أصلا لها، وتتبادل وثائق التصديق في أقرب وقت ممكن، ويبدأ تنفيذها مباشرة عقب تبادل وثائق التصديق عليها.
وتسجل المعاهدة الحالية في سكرتيرة هيئة الأمم المتحدة.
وإقرارا بما تقدم، وقع المفوضون السابق ذكرهم هذه المعاهدة، ووضعوا أختامهم عليها.
بروتوكول
يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بالدخول فورا في مفاوضات؛ لتقرير نظام الحكم في السودان، وذلك في نطاق مصالح الأهالي السودانيين، وعلى أساس وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.
أميركا تدخل في الخلاف
انتهينا في الفصل الماضي إلى أن المفاوضات - وإن لم تكن قد قطعت رسميا - إلا أنها كانت في حكم الموقوفة، وقبل الدخول في تفصيل ما جرى من المسائل بعد ذلك تحسن الإشارة إلى الروح، التي أملت على الوفد المصري النص الذي ترتب عليه وقف المفاوضات، فإن هذا النص لم يأت بسهولة، إذ كان هناك خلاف بين أعضاء هذا الوفد في وجهة النظر إلى نوع المساعدة، التي تقدمها مصر لبريطانيا الحليفة، فقد كان بعض حضرات الأعضاء يرى أن مصر لا يطلب منها في هذه المحالفة القيام بإجراء عسكري من جانبها في مساعدة إنجلترا، بل تكون المساعدة مقصورة - كما كانت في الحرب الماضية - على مساعدات لا تعرض كيان البلاد ، ولا أرواح سكانها للخطر، ولولا أن اللجنة السياسية في عهد المرحوم أحمد ماهر باشا كانت قد قررت بإجماع الآراء أنه لا بد من بقاء مصر حليفة لدولة كبرى، على الرغم من وجود هيئة الأمم المتحدة، لكان البعض - ولو أنه قليل العدد جدا - أميل إلى عدم الارتباط، والاكتفاء بالمفاوضة من أجل الجلاء، وسيادة مصر على السودان ووحدتهما ... على أنه في نهاية الأمر تغلب الفريق القائل - كما كان منتظرا - بأن المحالفة تقضي صونا لكرامة مصر بظهورها في مظهر الند لإنجلترا، لا بمظهر التابع، ومن أجل ذلك يجب أن تتحمل جانبا من الأعباء العسكرية، وقد رأى هذا الفريق وهو أغلبية الوفد المصري الساحقة، حلا وسطا هو أن تكون مساعدة مصر لبريطانيا مقصورة في وقت الحرب على وقوع الاعتداء على البلاد المتاخمة لمصر، ويبرر ذلك أن البلاد المصرية تكون في هذه الحالة قد تعرضت للخطر ...
وهذا النص هو الذي بقي حتى آخر المفاوضات، وقبله الوفد البريطاني.
محالفة دفاعية
وأحب هنا أن أشير إلى أن المحالفة، التي كنا نتفاوض فيها كانت من الوجهة العسكرية «دفاعية»، وليست «هجومية» كما شاء البعض أن يصفها، ولم يكن من شأنها دفع جيوش مصر إلى غير الأقطار المتاخمة، لا كما قيل وقتئذ من أن هذه الجيوش قد يطلب منها أن تدافع عن إنجلترا نفسها، أو عن مستعمراتها وتشتت في أقطار الأرض، وهي في حدود ميثاق الأمم المتحدة، ولم تتجاوز حدوده، ومدى الالتزام فيها مقصور على التعاون لدفع الاعتداء عن مصر، أو عن البلاد المتاخمة لها إذا اشتركت إنجلترا في حرب دفاعية عن هذه البلاد، وجلي أن المقصود بالبلاد المتاخمة لمصر في نص مشروع المعاهدة، إنما هي فلسطين وشرق الأردن وليبيا، ومركز إنجلترا في فلسطين، وشرق الأردن معروف باعتبار ما كان الأمر عليه في ذلك الحين، أما ليبيا فقد كانت على الاعتبار السابق في الوضع الدولي بمنجاة من الحروب العدوانية.
وهنا أقرر أن الإنجليز لم يتعرضوا لموضوع مدى التدخل العسكري لمصر، أثناء حرب تشهر على إنجلترا، كما هو الوضع في معاهدة سنة 1936، ولكن هيئة المفاوضة رأت بحق أن هذا الوضع يجعل من مصر منطقة نفوذ بريطاني، وينفي فيما بين الدولتين فكرة التكافؤ والتعادل، الأمر الذي يقدح في استقلال البلاد، ويظهرها في مظهر البلاد الواقعة تحت نفوذ الغير، فتمسكت بأن تكون لمعاونة مصر دائرة تنتهي في حدود الأقطار المتاخمة، مما يتفق مع قدرتها الحالية كدولة مستقلة، فضلا عن أن مصر يسرها، ولا شك، أن يتاح لها الدفاع عن أقطار شقيقة داخلة في الوحدة العربية، ومن المفاوضين الفضلاء من ذهب إلى إشراك البلاد العربية جميعا في نطاق هذا الدفاع.
على أن هدفنا على الدوام من محالفة بريطانيا هو أن تكون محالفة الند للند، والعمل لهذه المحالفة إنما هو أساس السياسة المصرية، منذ كانت المفاوضات مع بريطانيا في أعقاب حرب سنة 1914، وقد استمر كذلك حتى أخذت به الهيئة السياسية في مداولاتها، وأخذ به وفد المفاوضات الرسمي ... ولعلكم تذكرون أن مجلس الشيوخ تناول هذه المسألة بجلسة 27 مايو سنة 1946، وناقش الحكومة في اجتماع سري، فوضحت الحكومة سياستها، وهي عقد معاهدة ومحالفة مع بريطانيا على أساس الجلاء التام، على أن تعقبها مباشرة المفاوضة بشأن السودان، فأصدر المجلس القرار الآتي:
بعد سماع البيان الذي ألقاه دولة رئيس الحكومة، والمناقشات التي دارت حوله، يوافق المجلس على تقرير لجنة الخارجية بما تضمنه من تأييد المفاوضين المصريين، وتقرير سلامة موقفهم، والاطمئنان إلى ما قاموا به؛ لتحقيق إرادة الأمة وتمسكهم بالجلاء التام ووحدة وادي النيل.
تدخل أميركا في الخلاف
لما توقفت المفاوضات بين مصر وبريطانيا؛ بسبب مشروع المعاهدة الأولي الذي قدمه الوفد البريطاني إلى الوفد المصري في 19 مايو، وكان مشبعا بروح معاهدة سنة 1936 - كما بينا في الفصل السابق - طلب سعادة وزير أميركا في مصر مقابلة جلالة الملك، ولكن هذه المقابلة تعذرت في ذلك الوقت؛ بسبب غياب جلالته وعلمت من الوزير أنه يحمل رسالة من الرئيس ترومان عن طريق وزير الخارجية الأميركية؛ ليبلغها إلى جلالة الملك فاروق ... وقد بعث إلى سعادة الوزير الأميركي المفوض بهذه الرسالة؛ لأرفعها إلى جلالته ... وهذا هو نص تلك الرسالة التي أسمح لنفسي بالإفضاء بها، إذ قد سبق للجرائد أن خاضت في أمرها، ومن المصلحة للبلدين أن تعلم على حقيقتها:
عزيزي رئيس الوزراء
تلقيت أمس رسالة سرية شخصية من وزير الخارجية المستر جيمس بيرنز، يطلب إلي أن ألتمس مقابلة صاحب الجلالة الملك، وأن أفضي إلى جلالته بطريقة غير رسمية باهتمام حكومة الولايات المتحدة بكافة مسائل الدفاع عن الشرق الأوسط، وأمن البلاد العربية. أما وقد تعذر لجلالته استقبالي نظرا لضيق الوقت وسفره، فقد أنبأني القصر أن جلالة الملك يرحب بأن أفضي برسالتي إليه كتابة.
ورغب وزير الخارجية إلي في أن أبلغ جلالته أنه نظرا للصداقة، التي تشعر بها حكومتي نحو مصر وبريطانيا العظمى، واهتمامها البالغ برفاهية كل شعوب الشرق الأوسط، فهي تتابع عن كثب تقدم المفاوضات بين بريطانيا ومصر، وأن حكومتي وهي تعبر عن رغبتها في نجاح هذه المفاوضات، تأمل أنه ما زال ممكنا أن تنتهي بطريقة تكفل لمصر الضمانات المرضية لسيادتها التامة، دون أن تخاطر في سبيل ذلك بالقضاء على أمن الشرق الأوسط، أو تضعف الدفاع عن هذه المنطقة ضد اعتداء محتمل الوقوع.
هذا وقد أبلغتني حكومتي في هذا الشأن أن أوضح بجلاء أن الولايات المتحدة، تعتبر أمن الشرق الأوسط كله مسألة ذات أهمية أساسية بالنسبة لأمنها خاصة.
وفي الختام كلفت أن أنهي لدولتكم أن حكومتي مقتنعة بأن الحكومة البريطانية الحالية، ترغب رغبة صادقة في الوصول إلى حل لمسألة أمن الشرق الأوسط حلا، يمكن البلاد الواقعة في تلك المنطقة من التمتع باستقلال غير مقيد؛ استقلال لا يفضي في نفس الوقت إلى خلق موقف، من شأنه أن يشجع وقوع اعتداء من الخارج.
وإني أرجو دولتكم أن ترفعوا إلى جلالته في أنشاص بطريق الاستعجال، المعلومات التي احتوتها رسالتي هذه، وهي في واقع الأمر ما تلقيته من وزير الخارجية.
ردي على وزير الخارجية الأمريكية
هذه هي الرسالة التي بعث بها وزير أميركا المفوض في 27 مايو سنة 1946؛ لأرفع مضمونها إلى جلالة الملك، وهي تنم عن تأييد إنجلترا في موقفها حيال المسألة المصرية، وتشددها في المفاوضات خوفا من الخطر الروسي على الشرق الأوسط، وقد رددت على رسالة وزير أميركا برسالة أسجل نصها فيما يأتي:
إن الرسالة التي سلمها سعادة وزير الولايات المتحدة إلى رئيس الوزراء لرفعها إلى حضرة صاحب الجلالة الملك، قد لقيت كل العناية من قبل العرش والحكومة ...
وليس مبعث الاهتمام الذي تثيره هذه الرسالة أنها تتعلق بمفاوضات ذات أهمية حيوية لمصر فحسب؛ بل لأن الأمر يتعلق أيضا بتوسط الولايات المتحدة، ومصر تعلق عليها دائما أكبر الآمال، لما عرف عنها من البعد عن الأنانية والسمو في أغراض سياستها الخارجية ...
وجدير بهذا الاهتمام أن يكون الرد وليد إدراك الوقائع - كما هي - إدراكا سليما خالصا - إذ تحرص مصر على المبادرة إلى «تطمين» حكومة الولايات المتحدة على حقيقة نواياها.
فمصر - باعتبارها من بلاد الشرق الأوسط - تشارك الولايات المتحدة ما تبديه من الاهتمام بأمر تلك المنطقة، ولكن مصر تود أن توضح أن حرصها على هذا الأمر، مرتبط لديها بضرورة استعادة حرياتها كاملة غير منقوصة.
وهي تدرك دائما أنه يجدر ألا يغيب عن النظر تلك الضمانات المترتبة على معاهدة سنة 1936 مع بريطانيا العظمى، ولكنها تسارع إلى التصريح بأن هذه الضمانات لن يكون من شأنها، إلا أن تزداد ثباتا لو استند التحالف المراد عقده مع بريطانيا العظمى على أساس من الثقة والصداقة، ولا يتوافر هذا إلا باحترام استقلال مصر.
وبهذا الشرط وحده - وهو شرط مستمد أيضا من أحكام ميثاق الأمم المتحدة، وكانت مصر في طليعة الدول التي انضمت إليه - يتسنى لمصر أن تساهم مساهمة جدية في توطيد السلم العالمي ... وهي ستعمل ذلك بفضل مواردها الخاصة، وشعورها العميق بواجباتها الجديدة، التي تقع على عاتقها كدولة مستقلة.
وأن تجاهل هذه الحالة والتسويف في علاجها لمما يخلق جوا من القلق - إن لم نقل جوا من التوتر - فيه إضرار بالغرض المنشود، ألا وهو تهيئة الانسجام والتفاهم المتبادل اللازمين لاستقرار السلم في الشرق الأوسط استقرارا نهائيا.
وإن مصر تتقبل بارتياح تلك الفرصة المتاحة لها، فتطلب من حكومة الولايات المتحدة أن تضم جهودها القوية إلى كافة الجهود الأخرى المبذولة؛ لتهيئة ذلك الانسجام.
هذا هو ردي على الرسالة الأميركية ...
وقد أبرقت إلى وزيرنا بأميركا؛ ليعرف وجهة نظري؛ وليقابل المسئولين في وزارة الخارجية الأميركية، ويتعرف آراءهم في الموقف، فجاءتني منه برقية تتضمن حديثه في هذا الشأن مع رجال تلك الوزارة يقول فيها:
رغبت في تعرف مدى مشاركة حكومة الولايات المتحدة للحكومة البريطانية في مطالبها من مصر، فتحادثت طويلا مع المسئولين عن السياسة في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، فبدأت بقولي: إنني آسف لتعضيد الحكومة الأميركية للمطالب البريطانية، مما ساعد على إيجاد المصاعب الحالية في سبيل المفاوضات، فردت الدوائر الرسمية على قول هذا محتجة بقولها إن موقف الحكومة الأميركية في هذا الشأن معروف، ولا يتعدى ما ورد في الرسالة التي بعث بها رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس وزراء مصر، عن طريق وزير أميركا - ومؤداها أن أميركا تهتم بأن يسود الأمن في هذه المنطقة ... فلما قلت إن هذه الرسالة غامضة، وهي تشجع الإنجليز على التشدد مع ترك المسألة المصرية من غير حل، وبالتالي، فإن السلم في هذه المنطقة يظل مهددا، أجابتني الدوائر الرسمية بأن هذا لم يكن الغرض الذي ترمي إليه من الرسالة، وأضافت أن هذا الاعتقاد لو كان قائما في ذهني، فإنها لا تتوانى عن إيضاح موقفها مرة أخرى للإنجليز - ولا يخامرني الشك في أنها ستفعل.
وبطبيعة الحال تناولت أحاديثي مسألة الخطر الروسي، فأفضى إلي من حادثتهم باعتقادهم أن النفوذ الروسي سيجد في مصر مرعى خصيبا؛ نظرا للفوارق الهائلة بين طبقتي الشعب فيها، فقلت: إن الحكومة آخذة في معالجة هذه الحالة بمعاضدة حضرة صاحب الجلالة الملك، ولكن السبب فيها راجع إلى عامل خارجي أكثر خطورة، أعني الضغط الواقع من إنجلترا - ذلك الضغط الذي قد يؤدي بمرور الزمن إلى حمل بعض العناصر، على مصافحة اليد الممدودة إليها؛ ولهذا ينبغي للديمقراطيات أن تكف عن هذا الضغط، وأن تسعى وراء كسب صداقة شعوب الشرق الأوسط، فإن هذه الشعوب لا ترحب بشيء ترحيبها بأن ترى الصداقة بينها متبادلة.
وعلاوة على ذلك ، فبالرغم من المجهودات المستمرة التي بذلتها الحكومات المصرية المتعاقبة للنهوض بالشعب، فإن كل عنايتها وعناية بقية الأحزاب السياسية كانت منصرفة إلى مقاومة السيطرة الأجنبية، وإنني واثق أنه متى زال هذا العامل الخارجي، فإن الإصلاحات الداخلية التي يرجوها الجميع ستتحقق، وستسير بخطى سريعة.
لقد أكدت لهذه الدوائر مرة أخرى استعداد مصر للمناقشة في مسألة القواعد الاستراتيجية اللازمة للدفاع المشترك في حدود ميثاق هيئة الأمم المتحدة، غير أنه لا يمكنها بحال أن تمنح امتيازا خاصا لدولة بمفردها كبريطانيا العظمى.
من هذه البرقية، والخطاب الذي سبقها يتبين مدى ما كان يعلقه القوم في أميركا على نجاح المفاوضات المصرية البريطانية، وكيف كانوا - على ما يظهر - مقتنعين بالنظرية الإنجليزية، التي تضمنها مشروع المعاهدة البريطاني الذي رفضه الوفد المصري، وكان رفضه سببا في وقف المفاوضات، وهو المشروع الذي يحقق السيطرة على مصر، ويحولها إلى منطقة لإنجلترا وأميركا، وحلفائهما في زمن الحرب.
لجنة الدفاع المشترك
لما توقفت المفاوضات المصرية البريطانية، كان واجب الفريقين أن يعملا على تذليل الصعوبات لإعادتها واستئنافها؛ لأن من مصلحة بريطانيا ومصر الوصول إلى حل، وإقامة علاقتهما في المستقبل على أساس من الثقة والتفاهم ... ولقد كنت على اتصال دائم بسفيرنا في لندن وسفير إنجلترا في مصر، وحدثت عدة اتصالات بيني وبين هذا الأخير، كان الغرض منها التغلب على العقبات القائمة. ولم يمض وقت حتى ظهرت في الأفق رغبة قوية في الاقتراب من آمال مصر، فيما يتعلق باشتمال المعاهدة على ما يضمن سيادتها القومية، والابتعاد عن أي تدخل أو سيطرة من جانب إنجلترا ... ومع تسليم الجانب الإنجليزي بأن ما تنتويه مصر هو أن تضع قواها في المستوى اللائق بها، كحليفة لإنجلترا، فإنهم أبدوا تخوفا من أن هناك فترة من الوقت قد تطول بعد إمضاء المعاهدة - وهي الفترة التي لم تكن مصر قد استعدت فيها استعدادا حربيا كافيا، يلائم الوضع الدولي الجديد المبني على استقلالها من جهة، وعلى إخلائها من الجيش البريطاني من جهة أخرى - وعبروا عن هذه الفترة بكلمة فراغ
vacuum
على لسان بيفن وغيره من رجالهم ...
وبعد أخذ ورد طويلين، وعودة الإنجليز إلى المبدأ الذي كنت قد سلمت به، وهو مبدأ التشاور بين الرؤساء العسكريين في كلا البلدين، اقترحوا النظام الموجود فعلا بين إنجلترا وكندا المرتبطين بمعاهدة عسكرية - وهو نظام «لجنة الدفاع المشترك».
وفي يوم الثلاثاء 18 يونيو سنة 1946، قابلني السفير البريطاني سير رونالد كامبل، ومعه مستر بوكر، وقدما إلي هذا الاقتراح، وأبلغاني أنه إذا وافق الجانب المصري على مبدأ إنشاء هذه اللجنة، فإن اللورد ستانسجيت سيحضر إلى مصر ثانية، وتستأنف المفاوضات.
وقد عرضت هذا الاقتراح على زملائي، فوافقوا عليه من حيث المبدأ بشبه إجماع، وعاد ستانسجيت، واستؤنفت المفاوضات، وأخذ الوفدان المصري والبريطاني يتناقشان في التفاصيل.
لجنة الدفاع المشترك
على أثر عودة اللورد ستانسجيت قدم الوفد البريطاني مذكرة بالمقترحات الجديدة.
وهي تتناول تعديل المواد الرابعة والخامسة والسادسة من مشروع المعاهدة البريطاني السابق، الذي رفضه الوفد المصري وتوقفت من أجله المفاوضات، وقد تضمنت في وضعها الجديد ما يأتي:
المادة الرابعة: (وهي الخاصة بلجنة الدفاع المشترك) يكون واجبا مشتركا على الطرفين الساميين المتعاقدين أن يكفلا سلامتهما المشتركة، وأن يدافعا فعلا عن أراضيهما، وأن يحميا مواصلاتهما، ولكفالة التعاون والمساعدة المتبادلة بين الطرفين الساميين المتعاقدين، ومساهمة كل منهما في الواجب المشترك وافق حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى، وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر على إنشاء «لجنة للدفاع»، تؤلف من السلطات العسكرية المختصة للطرفين الساميين المتعاقدين، يعاونهما الممثلون الآخرون الذين ترى الحكومتان تعيينهم.
وتكون اختصاصات اللجنة: (1)
تنسيق التدابير التي تكفل من كل الوجوه الدفاع المشترك عنهما في مصر والأراضي المجاورة بما في ذلك حماية مواصلاتهما المشتركة. (2)
دراسة المسائل البرية والبحرية والجوية، وما يتصل بها من مسائل الموظفين والعتاد، وإعداد الخطط التي ينظر فيها الطرفان الساميان المتعاقدان.
وتجتمع اللجنة - كلما احتاج الأمر - للاضطلاع بهذه الاختصاصات المنصوص عليها؛ ولمواصلة استعراض الموقف الدولي، وتتشاور بقصد إسداء النصح للحكومتين، وتوصيتهما بما تقومان به من العمل المناسب في كل الحالات التي تهدد سلامة الشرق الأوسط، بما في ذلك كافة الأراضي المتاخمة لمصر.
المادة الخامسة: (وهي الخاصة بالتعرض لخطر الحرب) مع مراعاة أحكام ميثاق الأمم المتحدة، اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن تتخذ قواتهما المسلحة - في حالة حرب يشتبك فيها أحدهما، ويكون من شأنها تعريض سلامتهما للخطر في الشرق الأوسط، بما في ذلك الأراضي المجاورة لمصر - التدابير اللازمة بالتعاون الوثيق بينهما لأغراض المساعدة المتبادلة، وحالما يتولى مجلس الأمن للأمم المتحدة العمل الواجب اتخاذه للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، أو إعادتهما إلى نصابهما، فإن التدابير التي اتخذتها القوات المسلحة للطرفين الساميين المتعاقدين يجري تنسيقها مع العمل الذي يقوم به مجلس الأمن.
المادة السادسة: (الخاصة بالتسهيلات اللازمة) من المتفق عليه أن الطريقة التي يقوم بها أحد الطرفين الساميين المتعاقدين المساعدة للطرف الآخر، وعلى الأخص الأوضاع الفنية للتعاون المشار إليه في المادة السابقة، والخطوات التي يجب اتخاذها لتمكين قوات الطرفين الساميين من أن تكون في مركز تستطيع فيه مقاومة الاعتداء بطريقة فعالة، بما في ذلك القيام بالتسهيلات اللازمة، وهي من الأمور التي تسوى بالاتفاق بين السلطات العسكرية المختصة في حكومتي المملكة المتحدة ومصر.
النظرية البريطانية في اللجنة المشتركة
هذه هي المقترحات البريطانية الجديدة التي تقدم بها الوفد البريطاني عند استئناف المفاوضات، وأهم ما فيها الاقتراح الخاص بلجنة الدفاع المشترك، وقد أرفق هذا الوفد اقتراحاته بمذكرة ضافية يشرح فيها نظرية الإنجليز في هذه اللجنة، وتتلخص فيما يأتي:
تقضي كل محالفة لتبادل المساعدة التزام العمل لمصلحة طرف المعاهدة، الذي يقع عليه الاعتداء أو يشتبك في حرب، وذلك بقيام الحكومتين بعمل مشترك، وبتآزر قواتهما المسلحة بمجرد نشوب الحرب.
يجب التمهيد للدفاع المشترك منذ وقت السلم، بل إن قيام الجيش الوطني وحده بالدفاع عن أراضي الدولة، سيستلزم استعدادا طويلا ومستمرا، فيجب على هيئة أركان الحرب وضع الخطط الاستراتيجية لتوزيع القوات، وتحديد المواقع.
الجيش الحليف مدد، يأتي بصفته هذه ويقاتل على أرض ليست أرضه، فينبغي لهيئة أركان حربه أن تألف معالم البلد والترتيبات التي اتخذها الجيش الوطني، ويجب أن تحدد بدقة من قبل بزمن طويل مواقع الجيشين اللذين سيتعاونان في الحرب.
ويفقد العمل المشترك بين دولتين كثيرا من جدواه إذا لم توضع هذه الترتيبات، ولا ينازع أحد اليوم في أن من أسباب هزيمة الجيوش البريطانية الفرنسية في بلجيكا وهولاندا في مايو 1940، انعدام الاستعداد الحربي اللازم لتلك الحملة، واضطرار قيادة الحلفاء إلى ارتجال وسائل تعاونهما مع الجيوش البلجيكية والهولاندية في أراض لم يسبق لهما دراستها ... وكذلك في سنة 1941 أدى انعدام التنسيق التمهيدي بين القوات المتحالفة، والجيش اليوجوسلافي إلى تعذر اعتماد هذا الجيش على إمداد الحلفاء.
أنشئت اللجنة المشتركة للدفاع بين الولايات المتحدة وكندا سنة 1940، مع أنه لم تكن هناك بينهما معاهدة أو اتفاق مساعدة، إذ كانت كندا مشتركة في الحرب والولايات المتحدة في ذلك الوقت على الحياد، فلم تتردد الأخيرة في أن تنشئ هذه اللجنة المشتركة للدفاع، بقصد تنسيق التدابير العسكرية الواجب على البلدين اتخاذها تأمينا لدفاعهما المشترك.
من باب أولى إذا ارتبطت دولتان بمعاهدة صريحة أصبح من المستساغ التمهيد للعمل المشترك، إذ تقضي المعاهدة بالتزام كل من الطرفين بمؤازرة الآخر في حالة الحرب.
أظهرت الحرب العالمية الأولى أهمية تنسيق العمل بين هيئات أركان الحرب، وكذلك بين الإدارات المدنية التي لها علاقة بالعمليات الحربية مثل مسائل النقل وصنع الذخيرة والتموين ... إلخ.
إن مشروع المعاهدة بين فرنسا وبريطانيا سنة 1922، قد احتفظ بالنص المعهود قديما، والذي يقضي في مادته الثانية بأن «يظل التفاهم قائما دواما بين هيئتي أركان الحرب للطرفين الساميين، بقصد أن يكفل للتدابير السابقة أن تكون فعالة إذا ما دعت الحالة إليها.»
إن جمهوريات أميركا الجنوبية (ما عدا الأرجنتين) قررت في سنة 1942 - أي بعد الاعتداء الياباني ببضعة أسابيع - أن تنشئ فورا لجنة مشتركة للدفاع عن جامعة الدول الأميركية، يوكل إليها دراسة التدابير اللازمة للدفاع عن القارة الأميركية، وتقديم توصياتها إلى حكومات هذه الدول.
حولت اللجنة الأميركية الكندية بعد الحرب إلى هيئة دفاع بمقتضى اتفاق بين البلدين.
قررت الولايات المتحدة والدول الأميركية الأخرى - بعد أن علمتها التجارب - ألا تعود إلى ارتكاب خطأ عدم الاستعداد للقيام بعمل مشترك في وقت الحرب؛ ولهذا قدم مشروع قانون إلى مجلس النواب في الولايات المتحدة في 6 مايو سنة 1946 عنوانه «قانون التعاون العسكري بين الدول الأميركية»؛ بقصد عقد اتفاقات بين هذه الدول وبين الدول الأميركية الأخرى.
أصبحت اللجنة المشتركة للدفاع في القارة الأميركية هي الهيئة الرئيسية؛ للتمهيد لعمل مشترك في زمن الحرب ولتنفيذه، كما أصبح نظام اللجان المشتركة سائدا إلا في هذه القارة.
إن ميثاق سان فرنسيسكو الذي هو بمثابة حلف واسع النطاق بين كافة الأمم المتحدة لمكافحة الاعتداء، قد أنشأ هيئة دائمة للدفاع موطدة الدعائم.
ملاحظات الوفد المصري
وقد لاحظ الوفد المصري على المقترحات البريطانية السابقة ما يمكن إجماله فيما يأتي:
تقرر المادة الخامسة مبدأ التآزر في وقت الحرب، بينما تقرر المادة الرابعة إنشاء لجنة مشتركة للدفاع، وهذه اللجنة ليست في الواقع إلا وسيلة لتحقيق التآزر، فيجب أن تأتي هذه المادة بعد المادة الخامسة.
تثير المادة الخامسة الاعتراض بأنه بمقتضى الدستور المصري يقع حق الاقتراح في معظم التدابير، وحمل تبعاتها على عاتق الحكومة دون غيرها؛ ولهذا لا تستطيع أن تنزل عن سلطانها في ذلك إلى هيئة عسكرية.
طبقا لميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يكون هناك محل للمساعدة إلا في حالة الحرب الدفاعية؛ ولهذا يجب أن تستبدل «حالة حرب يشتبك فيها إحداهما» بصيغة أخرى تتناول الحالة، التي تتعرض فيها مصر وبريطانيا في البلاد المتاخمة لمصر لاعتداء مسلح.
إن وجود المادة 4 و6 جنبا إلى جنب في معاهدة واحدة تكرار واضح، من شأنه أن يخلق لبسا في الإجراء الواجب اتباعه.
في حالة اللجنة المشتركة بين الولايات المتحدة وكندا، ولجنة دفاع الدول الأميركية، لا توجد هيئة أخرى، ولا منهاج آخر يماثلان ما تنص عليه المادة السادسة.
لا تبين المادة الرابعة بوضوح أن دور اللجنة المشتركة للدفاع، هو أن تقدم مقترحات للحكومتين اللتين تملكان سلطة البت فيها، فإن ذلك هو المبدأ الذي تقوم عليه اللجنة المشتركة للدفاع بين الولايات المتحدة وكندا، ولجنة دفاع الدول الأميركية.
كما أن الاختصاصات المنصوص عليها في المادة الرابعة هي اختصاصات سياسية، لا يمكن أن تملكها هيئة عسكرية؛ ولهذا يجب أن ينص بالتحديد على أن اللجنة فيما يتعلق بهذه الاختصاصات الاستثنائية، لا تجتمع إلا بناء عن دعوة الحكومتين.
وقد تحادثت مع اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني طويلا في هذه الملاحظات، وجرت بيني وبينهما عدة مقابلات استطعنا فيها أن نحدد اختصاصات لجنة الدفاع المشترك تحديدا يحقق وجهة النظر المصرية، سواء فيما يتعلق بالناحية العسكرية أم السياسية، بحيث قررنا بوضوح شكل تأليفها، وما تتناوله من مسائل عسكرية، أما المسائل السياسية فليس من حقها، بل هي من حق الحكومتين المصرية والبريطانية، إلا إذا دعتها هاتان الحكومتان إلى ذلك، ولكن ليس لها أن تبحث الموقف السياسي البحت، بل تبحث الآثار العسكرية المترتبة عليه.
وعلى ذلك اتفق الجانب المصري والبريطاني، وبعث الوفد البريطاني إلينا بمذكرة عن تأليف اللجنة واختصاصاتها، نصت على ما يأتي:
وتتألف اللجنة المشتركة من شعبتين: الأولى مصرية، والثانية بريطانية، والشعبتان متساويتان في عدد الأعضاء، وأغلبهم من العسكريين؛ ولكنه نظرا لأن المسائل العسكرية تتضمن أيضا مسائل فنية تدخل في عمل الإدارات المدنية، فقد ضم إلى اللجنة أعضاء مدنيون تختارهم الحكومتان لمساعدة السلطات العسكرية.
وأول اختصاصات اللجنة هو دراسة المسائل المتعلقة بالدفاع المتبادل للطرفين المتعاقدين في البر والبحر والجو، وما يتصل بذلك من مسائل العتاد والعمال، وبصفة خاصة الأوضاع الفنية لتعاونهما، والتدابير الواجب اتخاذها لكي يتاح للقوات المسلحة للطرفين أن تكون قادرة بالفعل على مقاومة الاعتداء.
ويجب أن تسفر هذه الدراسة - إذا أردنا أن تكون لها ثمرة ما - عن نتائج واقعية عملية ترفع إلى الحكومتين، ويجب من جهة أخرى أن يراعى في وضع الخطط والآثار الاستراتيجية، لحوادث سياسية معينة، كما إذا لاح أن دولة أخرى قد يقع منها العدوان، أو إذا زادت قوات هذه الدولة زيادة مفاجئة بسبب عقدها لمعاهدات تحالف جديدة، فإن هذه الحوادث قد يكون من شأنها أن تحمل اللجنة المشتركة على تعديل الخطط التي تكون قد وضعتها؛ لتجعلها مطابقة للأوضاع الجديدة.
ولهذا تجتمع اللجنة لتبحث - إذا اقتضت الحال - الآثار العسكرية للموقف الدولي، وكل الحوادث التي قد تهدد الأمن في الشرق الأوسط، وتقدم التوصيات المناسبة في هذا الشأن.
ولكن ليس للجنة أن تجتمع من تلقاء نفسها، إذ إن ذلك يتضمن ناحية سياسية هي من حق الحكومات وحدها؛ ولهذا فلن تبحث اللجنة هذه المسائل إلا بناء على دعوة من الحكومتين ... وعلاوة على ذلك فلن يكون لها أن تبحث الموقف السياسي البحت، وإنما تبحث الآثار العسكرية المترتبة عليه.
وليس للجنة في أية حال سلطة إصدار قرارات، فإن هي إلا هيئة فنية بحتة استشارية، أما الحكومتان فهما اللتان تحتفظان بموجب سيادتهما بحق اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالمسائل التي درستها اللجنة.
والطريقة التي ستجري بها العمل عادة كما يأتي: بعد أن تدرس اللجنة مسألة معينة تثبت النتائج التي انتهت إلى الاتفاق عليها، وتقوم كل من الشعبتين بعد ذلك برفع هذه القرارات إلى حكومتها فإذا أقرتها الحكومتان؛ فإنهما تتبادلان مذكرات أو خطابات تثبت تصديقها عليها كما قد يحدث أن تشرع الحكومتان ذاتهما في دراسة جديدة للمسألة، وأن ترفضا وتعدلا مقترحات اللجنة المشتركة.
والحالة الوحيدة التي يمكن فيها أن يوضع أي قرار موضع التنفيذ، هي الحالة التي يتحقق فيها الاتفاق التام بين الحكومتين بمقتضى مذكرات أو خطابات متبادلة، ومعنى هذا أنه لا يترتب على إنشاء اللجنة المشتركة - لا قانونا ولا فعلا - أي تعد على اختصاصات الحكومتين.
وبالتالي ليس فيها مساس باستقلال الدولتين المتعاقدتين.
لجنة الدفاع ... والحماية
يرى القارئ من اختصاصات لجنة الدفاع المشترك السالفة الذكر أنها لجنة استشارية بحتة، وليست لجنة لبسط الحماية البريطانية على مصر، كما أراد المغرضون في ذلك الوقت أن يشوهوها أمام الرأي العام، وهم يتجاهلون أن جلاء القوات البريطانية عن مصر سيتم برا وبحرا وجوا، وأن مصر ستسترد بذلك كامل حقوقها في السيادة والاستقلال دون أية شائبة تشوب هذه الحقوق، وإذن فلن تكون علاقة إنجلترا بمصر بعد ذلك إلا كعلاقة غيرها من الدول. وما اللجنة المشتركة سوى لجنة - كما رأيت - يتساوى فيها عدد المصريين والإنجليز، سواء منهم العسكريون أم المدنيون، وهي استشارية محضة كما قلنا، لكل من الدولتين أن تقبل مشورتها أو ترفضها أو تعدلها، وما المحالفة بين مصر وبريطانيا بما فيها اللجنة المشتركة إلا وثيقة خاضعة لنظام هيئة الأمم المتحدة، ولمجلس أركان حرب هذه الهيئة بمجرد أن يتم تشكيله أن يراجع أعمالها، ويوجه خطأها فيما يطابق ميثاق الهيئة.
فإذا ذكرت كل ذلك كان من حقي أن أقول لأولئك الذين سمموا في ذلك الوقت جو هذه البلاد، بزعم أن قبول هذه اللجنة هو قبول للحماية البريطانية: إنهم ألصقوا ببلادهم أشنع التهم، فهو توهموا أو أرادوا أن يوهموا أن ما يقوله الجانب البريطاني في هذه اللجنة سيقبله الجانب المصري لا محالة، كما توهموا أن توصيات اللجنة - رغم أنها استشارية - ستكون ملزمة لأية حكومة مصرية؛ لأن إنجلترا قوية ومصر ضعيفة، وهذا محض اتهام صادر عن هوى شخصي دفع به إلى تمني قطع المفاوضة، أملا في إحراج مركز الوزارة.
على أن هذا الإيهام أو الوهم صادر عن ضعف في الإيمان باستطاعة مصر المحافظة على حقها تاما في الاستقلال، ورميها بشبه مركب النقص
Inferiority complex ، كلما واجه المصري ممثلا إنجليزيا في أي عمل من الأعمال، أو كلما واجهت مصالح مصر مصالح إنجلترا في أي ميدان من الميادين.
وأذكر أنه قد زارني يوما مستر «لاجورديا» محافظ نيويورك، ورئيس الشعبة الأميركية للجنة الدفاع المشترك بين أميركا وكندا، وسألته عن شعوره وشعور الكنديين من ناحية وجوب المساواة بين الفريقين في أعمال اللجنة المشتركة، فقال لي بالنص:
أنت تسألني عن هذا وربما كان من حقي أن أقول لك إن الجانب الكندي في هذه اللجنة - وهو الذي يمثل الجانب الضعيف - أشد مطالبة وأكثر تصميما فيها ووصولا إلى غايته من الجانب الأميركي صاحب الحول والطول!
بين الوفدين المصري والبريطاني
بمدينة الإسكندرية، وفي قصر أنطونيادس، كانت المناقشات والمباحثات في الشئون التي اختلفنا عليها نحن والإنجليز، وإليكم مقتطفا من خطاب خاص بعثت به في 25 يوليو سنة 1946 إلى إحدى الجهات العليا؛ لتبيان الوضع الذي كنا فيه وهو كما يأتي:
قد جرى حديث بالأمس بيننا وبين اللورد والسفير دام ثلاث ساعات، يؤسفني أن أقول: إنه لم يؤد إلى تفاهم في أي موضوع، وقد تبين لي: (1) أن القوم هنا مرتبطون بتعليمات من لندن لا يستطيعون الخروج من نطاقها حتى بالوعد بإعادة النظر ... (2) أن فكرة جعل أو استمرار مصر قاعدة عسكرية لا تزال هي السائدة ... (3) إنهم لا يزالون بعيدين عن الاعتراف لمصر بمركز ولو معنوي في السودان ... (4) إنهم بعد مفاوضات دامت أربعة أشهر لم يدركوا العقلية المصرية في أية ناحية من نواحيها، وقد قالوا في نهاية الأمر إن تعليماتهم بشأن السودان لم تكن نهائية، ويستمدونها من لندن، وتلقاء ذلك كله رتبت الكلام مع عمرو باشا اليوم الساعة الواحدة؛ لأنبهه تليفونيا إلى أن البقاء في المركز الذي نحن فيه أي: (1) امتداد التزامات مصر الحربية إلى أكثر من البلاد المتاخمة ... (2) تعريض مصر لعودة الجيوش البريطانية في حالات الخطر بالشرق الأوسط ... (3) التلكؤ في الجلاء فيما عدا الجلاء عن المدينتين الكبيرتين، وهو ليس بجلاء، بل انتقال من مكان إلى آخر في داخل القطر المصري ... (4) السعي إلى أن تجري المفاوضة في مسألة السودان بغير تحفظ من جانبنا في شأن السيادة، كل ذلك لا يؤدي إلى تفاهم جدي في أمر التحالف، وسأطلب من عمرو باشا ردا سريعا ممن بيده تصريف الأمور، ويلوح أن القوم المفاوضين هنا يتجاهلون أن هناك جامعة للأمم لا يسلم ميثاقها بسيطرة من جانب على جانب.
بلاغ مصري للجانب البريطاني
وفي منتصف الساعة الثانية عشرة من صبيحة يوم الإثنين 29 يوليو سنة 1946، قصدت إلى سراي أنطونيادس وفاء لموعد سابق لمقابلة لورد ستانسجيت والسفير البريطاني، فقلت لهما: إنني حضرت لإبلاغهما قرار هيئة المفاوضات المصرية بشأن المقترحات البريطانية الأخيرة، وكنت قد أعددت ذلك كتابة فتلوته عليهما، وهذا نصه:
أعتقد أنني من أخلص المصريين مناصرة للاتفاق بين إنجلترا ومصر، وكنت آمل كذلك أن أكون في طليعة العاملين في بناء هذا الاتفاق.
ولهذا يشق علي أن أبلغكم أن الوفد المصري للمفاوضات في اجتماعه الأخير، قد قرر بإجماع الآراء اتخاذ موقف مضاد للموقف الأخير، الذي اتخذه الوفد البريطاني، وقرار الوفد المصري ينصب على ما يأتي: (1) المادة الثانية من مشروع المعاهدة المقدم من الوفد البريطاني الخاصة بالبلاد المجاورة وخطر الحرب ... (2) البيان الشفوي الخاص ببرنامج الجلاء ... (3) عدم وجود أية دلالة طيبة في شأن المبادئ الأساسية، التي طلبتها مصر للمفاوضات الخاصة بالسودان.
هذا وستقدم إليكم في خلال بضعة أيام مذكرة تشرح الأسباب، التي استند إليها الوفد المصري في إصدار قراره هذا.
وأضيف من جهتي شخصيا أنني لعلمي بما تكنونه من عواطف التقدير والود لمصر وقضيتها؛ تلك القضية التي لا نزاع في عدالتها، آمل أن دراسة جديدة منكم للموقف ستؤدي بكم إلى الأخذ بوجهة نظرنا.
فلما فرغت من تلاوة هذا البلاغ ظهر عليهما ما خيل إلي أنه شعور من تنسم الخلاص من مكروه كان يتوقعه، ثم قال السفير:
إنني آسف لمرض مستر بيفن في وقت كان يرجى فيه تعجيل السير بالأمور والرجوع إليه، ومما زاد في أسفي أن مستر بيفن كان ينوي أن يحضر إلى مصر، والمفاوضات قد آذنت نهايتها أو في طريقها إلى التمام.
ثم انتقل السفير إلى الكلام في موضوع زيارتي يومئذ، فتساءل: «ألم يكن للمعاني والاعتبارات التي ذكرناها؛ لتعديل المادة الثانية أي أثر في نفوس المفاوضين المصريين؟ إن كل غرضنا محصور في جعل هذه المعاهدة ذات قيمة فعالة
effective ، والمحالفة لا تكون كذلك إلا بالصورة التي عرضناها بها، ولا شك أنكم تدركون تماما أن الحروب الحديثة تستلزم السرعة الفائقة.»
قاعة الذكريات بمنزل إسماعيل صدقي باشا التي شهدت جانبا كبيرا من المفاوضات.
هيئة المفاوضين المصريين في أحد الاجتماعات التي عقدت في قصر أنطونيادس لدرس الاقتراحات التي تقدم بها الجانب البريطاني.
فقلت: «يا سعادة السفير هذه مسائل قتلناها بحثا فيما مضى، وكلام أطلنا فيه في فرص سابقة، وأوضحت لكم أن المادة بالصيغة التي تقترحونها لا يمكن إلا أن ترفض بالإجماع؛ لأنها من جهة تكاد تعود بنا إلى موضوع خطر الحرب الذي لا يمكن الموافقة عليه، ولأنها من جهة أخرى تدفعنا نحو الحالة الأتوماتيكية التي هي دائما في تفكيركم على ما يظهر، والتي من شأنها أن يمتنع أي تشاور بين الطرفين؛ ولأنها من جهة ثالثة تزيد من أعباء الالتزامات المفروضة على مصر بمقتضى المعاهدة، وكل هذا غير مقبول، وقد يكون من شأنه أن يمهد السبيل لدخول القوات البريطانية مصر مرة أخرى.»
هنا حاول اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني أن يبينا حسن نيتهما وأغراضهما السلمية إزاء مصر. وقال السفير «إنه رغبة منهما في إثبات ذلك قد وضعا صيغا جديدة للمادة الثانية التي هي محور المعاهدة، ولعل في إحداها ما يجمع بين الطرفين في منتصف الطريق.» وأطلعاني على الصيغ الثلاث، وهي صيغ متشابهة ترجع في الحقيقة إلى الأولى منها وهي كما يأتي:
مع مراعاة أحكام ميثاق الأمم المتحدة دائما اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان، على أنه في حالة حرب يشتبك فيها أحدهما، وتعرض للخطر سلامتهما في مصر أو الأراضي المجاورة، يتخذان بالتعاون الوثيق بينهما الإجراء الذي قد يسلم بضرورته، وذلك حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.
وقد قلت لهما بعد اطلاعي على هذه الصيغ: إني لا أرى فروقا تستحق الذكر؛ لأن أهدافها كلها واحدة، فقال اللورد ستانسجيت: «إنني أفكر في نص يبعد كل فكرة خاصة بخطر الحرب، وحتى لا تنصب المادة الثانية إلا على حالة الحرب الفعلية ...» فشكرته على هذا التفكير، فإنه دليل الرغبة في تحسين الموقف.
الجلاء والسودان
ثم انتقل الكلام بعد ذلك إلى مسألة الجلاء، فقال اللورد ستانسجيت: «وما هي اعتراضاتكم على تفصيلات الجلاء؟»
فقلت: «إن هذا الذي تعرضونه هو جلاء معاهدة سنة 1936، وليس الجلاء المطلوب اليوم، إنكم تنقلون قواتكم من الداخل إلى منطقة قناة السويس، فليس هذا جلاء، وإنما هو انتقال من أرض مصرية إلى أرض مصرية أخرى!»
فقال: «إن هذه مراحل الجلاء، وماذا يرضيكم في مسألة مدة الجلاء؟»
قلت: «إني أصارحك القول: إن هيئة المفاوضات قد تلقت بالرفض والامتعاض اقتراحكم المتضمن خمس سنوات لتنفيذ الجلاء، ولم أخف عليكم رأيي في ذلك قبل عرضه على هيئة المفاوضات المصرية، صدقني إننا قد وصلنا إلى آخر ما يمكن عرضه أو قبوله، أما خمس سنوات فهي فترة لا يمكن أن يقبلها مصري، إننا نعلم أن جلاء المحاربين لا يستغرق زمنا طويلا، ونحن لا نستعجلكم استعجال الأعداء، بل استعجال الأصدقاء، ولعل في سنة ونصف، أو سنتين على أكثر تقدير، الفترة المعقولة لإتمام الجلاء الكامل على مهل، فلسنا نضع السنج في ظهوركم حتى تخرجوا على عجل، بل أنتم تخرجون كما قلت على مهل خروجا كريما لا يترك وراءه مرارة.»
فلم يرد على ذلك ستانسجيت ولا السفير، بل أطرقا في صمت.
ثم فاتحتهما في مسألة السودان، فقال اللورد ستانسجيت: أنه قرأ كل ما كتب عن السودان في المفاوضات والمعاهدات الماضية أو مشروعات المعاهدات، فلم يجد في إحداها كلاما كهذا الذي يقترحه الجانب المصري الآن.
فقلت له: «لم تكن المفاوضات الماضية حاسمة في اتجاهاتها ولا في موضوعاتها، ونحن الآن نريد أن نفرغ من كل المشاكل على وجه يرضي، إن حق السيادة المصرية على السودان حق قديم اعترفتم به أنفسكم فيما مضى، ونحن نطلب التسليم بهذه السيادة، ونعتبرها في أقصى درجات الأهمية، وبدونها لا تتم المعاهدة.»
فقال ستانسجيت: «إن معاهدة سنة 1936 جاء فيها أن ليس في نصوصها أي مساس بمسألة السيادة على السودان، فلماذا لا نلجأ لنص كهذا الآن؟»
فقلت: «وما معنى تفادي البت في هذه المسألة؟ وما الغرض من تركها معلقة؟ إننا نريد أن تكون مفاوضات نهائية.»
فقال: «ألم نتفق على أنه بعد إمضاء المعاهدة المصرية الإنجليزية تجري مباحث بشأن الحالة في السودان؟! فما معنى التعجل في أمرها الآن؟»
قلت: «هذه مسألة بدهية لا نزاع فيها، ولسنا نحن الذين نتعجل البت في أمور السودان، وإنما رجالكم في السودان هم الذين يتعجلون رسم الخطط، ووضع سياسة المستقبل للسودان، مما اضطرني إلى الكتابة إلى الحاكم العام لافتا نظره إلى ما في ذلك من مخالفات، كما كتبت بذلك إلى السفير.»
قال اللورد ستانسجيت: «إن المسألة هي هل يحسن البت من الآن في مبدأ خاص بالسودان، أو يحسن ترك البت مؤقتا إلى ما بعد إتمام المباحثات المتفق عليها، وهذا هو الوضع الصحيح!»
فقلت: «إني آسف أن أصارحكم بأن المصريين قد فقدوا الثقة في نياتكم بشأن السودان، إن بين مصر والسودان أواصر كثيرة، ليس إلى فصمها من سبيل.»
وهنا أبديت أمنيتي في أن تتاح لي الفرصة قريبا لمقابلة مستر بيفن في مصر، أو في لندن إذا كانت مشاغله لا تمكنه من الحضور إلى هذه البلاد، فضحك اللورد ستانسجيت.
وقال: «ولكن الحكومة البريطانية لا تستطيع أن تقدم لكم قصر أنطونيادس في لندن!»
فقلت مبتسما: «لا حاجة إلى ذلك، ونحن نعرف كرمكم من قديم.»
بين عمرو باشا ومستر بيفن
أسلفت أنني اتصلت تليفونيا بسفيرنا في لندن سعادة عبد الفتاح عمرو باشا، وطلبت إليه أن يقابل من بيدهم تصريف الأمور، ويكاشفهم بالحرج الذي نجم عن موقف الوفد البريطاني الأخير في المفاوضات، ويبعث إلينا برد سريع.
وقد جرت بعد ذلك محادثات عدة بين عمرو باشا، ورجال وزارة الخارجية الإنجليزية أثناء مرض مستر بيفن، وكان مستر أتلي يتولى الشئون الخارجية، فلما قابله عمرو باشا وجده محنقا على الحالة التي وصلت إليها المفاوضات مع مصر، ولم يخف عمرو باشا أن مجلس الوزراء البريطاني مصمم على ألا يتراجع عن مشروعه الأخير، الذي قدمه ستانسجيت والسفير البريطاني، وقال عمرو باشا في رسالته التي بعث بها إلينا، إن النية كانت منصرفة إلى قطع المفاوضات مع مصر، وقد تجلى ذلك على ألسنة موظفي وزارة الخارجية، فلما وجد عمرو باشا هذه الروح، رأى من المصلحة أن يسعى لمقابلة مستر بيفن وهو معتكف لمرضه، وقد استعان في ذلك بعلاقاته الشخصية الطيبة معه، وقد قال له مستر بيفن: «أنت ترى أن مجلس الوزراء البريطاني، وفي طليعتهم مستر أتلي قد أصبحوا الآن ضدي في مسألة مصر، وكذلك العسكريون، ولولا أنني رجل قد اختمرت في رأسه فكرة أعمل لتحقيقها لما كان هناك مندوحة من قطع المفاوضات، وترك هذه المسألة، ولكني أرى أنه من مصلحة مصر وإنجلترا معا أن يقوم بينهما تفاهم؛ ولذلك أرجوك أن تتصل بصدقي باشا، وتبلغه هذا الحديث، ورجائي أن تكون رسول سلام وتوفيق، وإلا ضاع كل شيء.»
فلما قال له عمرو باشا: إن الجانب المصري مصمم على ما قدمه وأبداه، قال : «إن التصميم لا معنى له ولا جدوى فيه، والمسائل الكبرى لا تعالج بهذه الروح ولا على هذا الشكل ...» ثم قال: إنه قد بلغه أن مستر أتلي ذكر أن سنوات الجلاء يمكن إنقاصها من خمس سنوات إلى أربع!
وفي زيارة ثانية من عمرو باشا لمستر بيفن وجد عنده أحد محاميي وزارة الخارجية البريطانية - ولم يكن مستر بيكيت - فتحادث الثلاثة في شئون المفاوضات، التي انحصرت الآن في المادة الثانية فيما يتعلق بالمعاهدة ذاتها، وتفاهموا على النص الآتي لهذه المادة:
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان في حالة ما إذا أصبحت مصر، أو البلاد المتاخمة لها محل اعتداء مسلح - على أن يقوما بالتعاون الوثيق فيما بينهما بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.
واتفق الطرفان الساميان المتعاقدان في حالة تهديد سلامة أية دولة مجاورة لمصر، على أن يتشاورا بقصد القيام بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.
ثم قال عمرو باشا إن مستر بيفن صرح له بأن هذه الصيغة هي النتيجة المباشرة لمساعيه التي يقصد بها التقريب ما أمكن بين وجهات النظر المصرية البريطانية، وكان من شأن هذه الرغبة الصادقة إبقاء النص الخاص بالبلاد المتاخمة.
وفيما يختص بالبلاد المجاورة إذا تعرضت لخطر الحرب تكون العلاقة بين الحليفتين مقصورة على التشاور، وهذا التشاور لا ينطوي على التزامات جبرية، ولا يترتب عليها دخول الجيوش البريطانية مصر في غير حالات الاعتداء عليها.
ثلاث سنوات
وقال مستر بيفن عن مدة الجلاء: إنه سيأخذ على عاتقه أن تكون ثلاث سنوات لا خمسا - كما طلب أول الأمر - ولا أربعا - كما قال مستر أتلي، وهنا قال لعمرو باشا: «لا تظن أن الغرض من هذا كله كسب سنة، إن المسألة أهم من ذلك كثيرا، إننا في الواقع نجتاز مرحلة دقيقة يتهددنا فيها الخطر الروسي تهديدا شديدا، والمسألة حياة أو موت لنا ولكم، فليس من مصلحة مصر مطلقا في هذه المرحلة أن تكون خالية من الجيوش التي تدافع عنها وعن أنفسنا، وهذا ما قصدت إليه حين قلت: إننا لا نستطيع أن نترك وراءنا فراغا
vacuum »، ثم قال: «إنني سمعت أنكم تريدون الذهاب إلى مجلس الأمن، ولا مانع عندي إن اخترتم هذا الطريق، ولا أشعر بالحرج مطلقا أن أذهب بهذه القضية إلى هذا المجلس، فإن عندي حججا قوية أستطيع الإدلاء بها.
أما فيما يختص بالسودان، فإني أصارحك بأن مجلس الوزراء البريطاني لا يستطيع مطلقا الموافقة على النص الذي تريده مصر، وللجانب المصري أن يطلب ما يشاء، وأن يعلن ما يشاء، ولكن ليس له أن يصر على أن نسلم مقدما بما يريده وما يعلنه.
وأرجو أن تقول كل هذا لصدقي باشا، وتؤكد له أن هذه المسائل الثلاث تمثل وحدة لا يجوز قبول بعضها ورفض البعض الآخر، وأن هذا آخر ما عندنا.»
وهنا انتهى الحديث بين عمرو باشا ومستر بيفن ...
الباب المفتوح ...
لا شك أن الفكرة التي حدت بي إلى أن أتصل بمستر بيفن وزير الخارجية البريطانية عن طريق سعادة عمرو باشا سفيرنا بلندن، كانت فكرة موفقة، فإن الأحاديث التي جرت بينهما كانت لها نتائج طيبة، بل إنها أدخلت على الموقف تحسينات لا شك فيها.
فقد حدث أن المستر بيفن نزل على الرغبة البادية من الجانب المصري، في إبدال عبارة «البلاد المجاورة» في المادة الثانية من مشروع المعاهدة بعبارة «البلاد المتاخمة»، وبذلك يكون للمحالفة عمل إيجابي في حالة واحدة فقط هي الاعتداء المسلح على مصر مع خطر الحرب ... وقد أخذ مستر بيفن على عاتقه أن يخفض مدة الجلاء إلى ثلاث سنوات، بعد أن كان الإنجليز يرون أن تكون خمس سنوات أو أربعا على الأقل.
أما فيما يتعلق بالسودان فقد ظل الموقف كما كان، بمعنى أن لمصر أن تطلب ما تشاء، وأن تعلن ما تشاء دون أن تسلم إنجلترا مقدما، أو ترتبط بما تريده مصر أو تعلنه.
إذن أصبح الموقف بحيث يسمح بشيء من التفاؤل فيما عدا موضوع السودان ... وإذ كان الجانب الإنجليزي يربط الصيغ بعضها ببعض، كان من الصعوبة بمكان أن ننتهي إلى حل يصل بالمفاوضات إلى بر السلامة. •••
ويجدر بي قبل أن ننتقل إلى موضوع ما جرى بمصر بين الوفدين، أن أنوه مع كثير من الارتياح بما كان لجهود سفيرنا بلندن سعادة عمرو باشا من أثر طيب يرجع إلى لباقته، ومعرفته لدقائق العقلية الإنجليزية، وبالأخص ما له من نفوذ في الوسط البريطاني، وما كسبه من صداقة السياسي القدير مستر بيفن.
وإن ذكرت هنا آثار جهود عمرو باشا، فلي أن أستبق الحوادث، فأذكر أيضا ما كان له من شأن وأثر كبير فيما أدت إليه مفاوضات «صدقي - بيفن» بعد ذلك بنحو شهرين. •••
أما ما جرى في مصر حينذاك، فقد احتدمت المناقشات في الوفد المصري على الأوضاع الجديدة، وكان هذا الوفد قد مل طول الأخذ والرد، اللذين كانا المظهر البارز في هذه المفاوضات.
لقد سئم الوفد المصري ما كان يشعر به من ناحية الإنجليز من رغبة في ابتكار الصيغ، التي ربما أدت إلى وقوع مصر، من حيث لا تشعر فيما تحرص على أن تكون بمنأى عنه - وهو وجود البلاد في وضع يترتب عليه عودة الجيوش الإنجليزية إليها، بعد جلائها عنها لأقل الأسباب أو لأسباب وهمية ... فكانت لذلك المراشقة بالصيغ والمذكرات، وكانت الصيغة الأخيرة لمشروع المعاهدة، التي رأى الوفد المصري التمسك بها هي ما يأتي بعد الديباجة:
المادة الأولى:
ينتهي العمل بمعاهدة التحالف الموقع عليها في لندن في 26 أغسطس سنة 1936، وكذلك المحضر المتفق عليه والمذكرة والاتفاق الموقع عليه، والمذكرات والاتفاق الموقع عليه في 26 أغسطس سنة 1936 بشأن الإعفاء والميزات المرفقة بها، وذلك بمجرد سريان المعاهدة الحالية.
المادة الثانية:
في حالة ما إذا تعرضت مصر لاعتداء مسلح، أو في حالة وقوع اعتداء مسلح ضد بريطانيا العظمى في البلاد المتاخمة لمصر، يتشاور الطرفان الساميان المتعاقدان فورا لأجل اتخاذ أي عمل مشترك يسلم بضرورته، وذلك حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.
المادة الثالثة:
رغبة في كفالة التعاون والمساعدة المتبادلين بين الطرفين الساميين المتعاقدين؛ ولكي يتاح بصفة خاصة تنسيق التدابير الواجب اتخاذها للدفاع المشترك عنهما ، اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على إنشاء لجنة مشتركة للدفاع مؤلفة من السلطات العسكرية المختصة في الحكومتين، يساعدها الممثلون الآخرون الذين تعينهم الحكومتان.
ويكون اختصاص اللجنة أن تدرس - بقصد أن تقترح على الحكومتين التدابير الواجب اتخاذها - المسائل الخاصة بالدفاع المشترك للطرفين الساميين المتعاقدين في البر والبحر والجو، يتصل بذلك من مسائل العتاد والرجال، وبصفة خاصة الأوضاع الفنية لتعاونهما والتدابير الواجب اتخاذها؛ لكي يتاح للقوات المسلحة للطرفين الساميين المتعاقدين أن تكون قادرة بالفعل على مقاومة الاعتداء.
وتجتمع اللجنة كلما دعت الضرورة إلى قيامها بهذه المهام، وتجتمع أيضا بناء على دعوة الحكومتين لتبحث - إذا اقتضى الحال - الآثار العسكرية للموقف الدولي، وخاصة كل الحوادث التي قد تهدد الأمن في الشرق الأوسط، وتقدم للحكومتين التوصيات المناسبة في هذا الشأن.
المادة الرابعة:
يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بأن لا يبرما تحالفا، أو يشتركا في أي حلف موجه ضد إحداهما.
المادة الخامسة:
ليس في أحكام هذه المعاهدة ما يمكن أن يمس بأية حال من الأحوال الحقوق والالتزامات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الطرفين الساميين المتعاقدين، أو عليه بمقتضى ميثاق الأمم المتحدة.
المادة السادسة:
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما بصدد تطبيق المعاهدة الحالية، أو تفسيرها، ولا يتسنى لهما حله بمفاوضات مباشرة يسوى طبقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
المادة السابعة:
يصدق على المعاهدة الحالية، ويتبادل التصديق عليها في القاهرة في أقرب وقت، ويبدأ بتنفيذها من تاريخ تبادل التصديق عليها، وتبقى المعاهدة الحالية سارية لمدة عشرين عاما من تاريخ بدء سريانها، وتظل بعد ذلك سارية إلى أن ينقضي عام على إعلان أحد الطرفين الساميين المتعاقدين للآخر، بإنهائها بالطرق الدبلوماسية.
بروتوكول خاص بالسودان
يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بالدخول فورا في مفاوضات؛ بقصد تحديد نظام الحكم في السودان في نطاق مصالح الأهالي السودانيين على أساس وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.
هذه هي صيغة المشروع المصري للمعاهدة، وقد أرفقت بمذكرة ضافية لا محل لإيرادها هنا، فإن النصوص تدل على أغراضها وأهدافها، ولكن الجانب البريطاني لم يوافق عليها ، فاجتمع الوفد المصري للمفاوضات، وانتهى إلى إصدار قرار بالإجماع، كلفني بتسليمه إلى لورد ستانسجيت والسفير البريطاني، وهذا نصه:
لا يسع الوفد المصري إلا أن يعبر عن أسفه؛ لأن المفاوضات التي بدأها آملا في الوصول إلى حل يرضي البلدين، قد وصلت إلى نقطة لا يمكن معها إلا أن يستمسك بالمشروعات، التي تضمنتها النصوص الأخيرة في مشروعه المصري الذي سلم للوفد البريطاني.
حديث 21 أغسطس
على أثر هذا الموقف - موقف المعارضة من الجانب البريطاني للمشروع المصري، وتمسك الوفد المصري بهذا المشروع - ذهبت إلى قصر أنطونيادس، حيث قابلت لورد ستانسجيت والسفير البريطاني في الساعة الحادية عشرة صباحا يوم 21 أغسطس، وسلمتهما قرار الهيئة المصرية للمفاوضات، ثم أردفت تسليم القرار بعبارة شفهية هي ما يأتي:
يا صاحبي السعادة
أود أن أضيف بضع كلمات إلى المذكرة الشفهية التي قدمتها إليكما: «إن الحكومة التي أتشرف برياستها، وكذلك هيئة المفاوضات المصرية - وإني لواثق مما أقول - يتملكهما الشعور بمصلحة مصر في دعم علاقات الصداقة التي تربط بين بلدينا، إلى حد أنهما لا يعتبران القرار الخاص بالمرحلة الحالية للمفاوضات، والذي أبلغتكم إياه الآن، بمثابة قطع لها.
وإني لمقتنع كذلك بأن البلد العظيم، الذي تمثلونه يعلق على المحافظة على العلاقات الطيبة بيننا من الأهمية، ما يسوغ لي أن أنتظر منكم أن تقدروا على ضوء هذه الاعتبارات نفسها النقطة التي وصلنا إليها في المحادثات الحالية، كما قدرناها.
وإني لأرجوكم أن تقدروا في هذا الصدد أنه نظرا للعبارات الحاسمة، التي استعملها الجانب البريطاني في بياناته الأخيرة؛ ونظرا لأن نقطا أساسية من مطالبنا قد قوبلت، خلافا لما كنا ننتظر، مقابلة لم تقم وزنا لما لها من صبغة شرعية، أقول: إنه نظرا إلى كل ذلك أرجو أن تقدروا أنه لم يكن لنا بد من انتهاج المسلك الذي أوضحته لكما.
ولهذا فإني أنتظر من جانب حكومتكم أنها، بعد إعادة النظر في الموقف، سنجد وسيلة للاعتراف بالحقوق الشرعية لهذا الشعب الذي يحرص على صداقتكم، وستجدون دائما من الجانب المصري رغبة حارة في أن يبحث معكم الحلول، التي تؤدي إلى نتيجة تعاون على إنماء العلاقات بيننا نموا مطردا.
عن مدة الجلاء
ووجه لي اللورد الحديث قائلا: إنه استمع إلى عبارتي بكل عناية، ويود لو يستطيع أن يفهم مني - وقد تضمن قرار الهيئة المصرية التمسك بمذكرة أول أغسطس، وما صاحبها من صيغ للمواد - ما هو الحال بالنسبة لمسألة الجلاء التي لم يرد عنها نص من الجانب المصري ... فقلت له: «نعم لم يتضمن ما أرسل لكم صيغة لمدة الجلاء، ولكننا قلنا في المذكرة: إننا نرى أن مدة الجلاء يجب ألا تزيد على سنة ...» فقال: «إنكم قلتم لي أول أمس حيث قابلتكم: إن مشروع المستر بيفن في مادته الثانية يتضمن أخطاء، فهل لي أن أفهم أين هذه الأخطاء؟»
فقلت: «هذا واضح؛ لأن المادة الثانية التي صيغت أخيرا لم يرد فيها ذكر إنجلترا، بينما كنا على اتفاق من قبل على أن الدفاع المصري عن البلاد المتاخمة يكون حيث تشتبك إنجلترا في حرب بها، وقد أهمل ذلك في الصيغة الجديدة، وأنتم تعرفون أن مصر لا علاقة لها من الوجهة السياسية في هذه المعاهدة إلا بإنجلترا، وهي لا تستطيع التدخل إلا حيث تهاجم حليفتها، فالتعبير الجديد يخالف القواعد المرعية، فأنا لا أدافع عن فلسطين مثلا؛ إلا لأن حليفتي قد اشتبكت في حرب دفاعية، وقد سبق لكم أن أقررتم هذا المبدأ، بل هناك صيغ منكم تتضمنه.»
فلم يبد اعتراض من اللورد، ولا من السفير على هذه الملاحظة.
ثم انتقل اللورد إلى الفقرة الثانية من المادة الثانية، وقال: «ولكن أليس للفقرة الثانية من المادة الثانية محلها؟» فقلت: «إن الفقرة الثانية تتعلق بخطر الحرب على البلاد المجاورة، وخطر الحرب هذا ليس محله المادة الثانية التي تركز فيها الغرض الأساسي للمحالفة في حالة الحرب، والفقرة الجديدة أولى بها أن تكون في المادة الثالثة، التي تكلمت عن اللجنة المشتركة واختصاصاتها، وتكلمت أيضا عن تتبع أحوال الشرق، ومراقبة هذه الأحوال عن كثب، ومن أخطار الحرب المحتملة وما يتخذ بشأنها من مشاورات قد يعقبها إجراءات ... وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لأن يجيء ذكر خطر الحرب في مكانين من المعاهدة مختلفين، ويلاحظ أن المادة الثالثة المذكورة قد أعدت لأمر البحوث والاستعدادات، وليس لذكر أغراض المعاهدة، فالفقرة الثانية التي تقترحون إضافتها للمادة الثانية يغني عنها ما هو وارد فعلا في المادة الثالثة.»
فسألني اللورد: «وماذا يضيركم من تكرار ذكر الخطر في مادتين مختلفتين كل منهما لها غرضها، وأنتم تعرفون شدة حرصنا على أن نكون محتاطين للطوارئ، ساهرين على القيام بالتزاماتنا؟ وإذا كانت المادة الثانية هي مركز المعاهدة، فإنه تبدو لكم أهمية النص على هذا الخطر في تلك المادة ...» فقلت: «هو هذا التركيز الذي يخلق عندنا القلق والهواجس، التي لمستها في كل الدوائر، فإن اهتمامكم بخطر الحرب قد يؤدي إلى متاعب لمصر، نعم إن هناك مشاورة، ولكن المشاورة بين القوي والضعيف تثير عند المصري دائما فكرة استعمال الضغط من جانبكم، أضف إلى ذلك أن الالتزامات الناتجة من حرب فعلية من السهل الإشارة إليها؛ لأن الحرب عمل واقعي واضح الأثر، أما خطر الحرب فقد يكون وليد الوهم، وقد يستعمل للضغط، وقد يستعمل في كل وقت ... إنك قد تقول مثلا بناء على مقال متحمس في جريدة «برافدا»، وإذاعة متطرفة من راديو موسكو: إن الخطر قائم، فندخل في مناقشات لا نهاية لها، ويلتمس رجالكم كل الأسباب للتدليل على أن هناك ما يدعو لاتخاذ إجراءات، وهذا ما يخشاه جميع المصريين كل الخشية.»
فقال لورد ستانسجيت: «نعم إني أدرك هذا الوضع وأفهم أن الصياغة الحالية ربما تدعوكم إلى شيء من الحيطة، ولكني أود أن تفهموا موقف مستر بيفن، ومستر بيفن لا يقف من المسألة المصرية إلا موقف العطف وسلامة النية ...» ثم انتقل إلى مسألة الجلاء قائلا: «وهل تقفون أنتم مثل هذا الموقف في أمر مدة الجلاء، وظاهر من قرار الهيئة أنها تطالب بسنة فقط؟» فقلت: «أظنك تذكر أننا بعد معاودة البحث في أمر المدة اللازمة للجلاء كنت قد قلت لك، وقلت للسفير: إنني أعتقد أن الجانب المصري لا يعارض في أن تكون المدة سنتين.» وقال السفير: «بل إني أذكر أنك ذهبت إلى سنتين ونصف»، فقلت: «لا، لم أقل هذا، وربما اختلط عليك الأمر، على أني أظن أن طلب المستر بيفن بشأن مدة الجلاء، لا يثير مثل باقي مطالبه اعتراضا في قوة اعتراضنا على المطلبين الآخرين.»
عن مسألة السودان
وهنا قال لورد ستانسجيت: «هل تسمح أن نتكلم عن السودان؟ وهل اطلعت هيئة المفاوضة على النص الذي قدمته إليكم؟» فقلت: «لقد اطلعت هيئة المفاوضة على النص، ووصفته بأنه كتب بمهارة، على أننا لم نناقش المادة في مشتملاتها إذ اصطدمنا برفضها لمطلب السيادة، وهذا في نظرنا من أقدس المطالب.»
فقال اللورد وأيده السفير: «إن موقف إنجلترا موقف مبني على الحرص على مصالح السودانيين وحقوقهم، وليس من حقنا أن نقبل مقدما ما يمكن أن يصطدم بمطالبهم.» فقلت: «أشك أولا في أن مسألة السيادة المصرية ستثير اعتراضا جديا عند فريق ذي شأن من السودانيين، بل إني أعتقد بالعكس أن الفريق المثقف من السودانيين يرغب في أن يكون السودانيون من رعايا ملك مصر ... وأريد أن تفهما أن هذا المطلب المصري هو تقريبا جل ما نحرص عليه من حق في السودان، وهو حق معنوي قومي، وما عدا ذلك فليس لنا من المطالب في السودان إلا تلك الأغراض التي يتطلبها الجوار وجريان النيل وسط أراضي البلدين، وبعض الشئون الاقتصادية والثقافية والجنسية.
نحن لا نريد من السودانيين كسبا ماديا، لا نطمع في أن يكون لنا موظفون مصريون بالسودان، بل نود أن نرى قريبا اليوم الذي يتولى فيه السودانيون أمر أنفسهم ... فإذا ما ناقشتم أمر هذه السيادة الممثلة في التاج، فماذا بقي لنا من هذا السودان؟ وإذا ما اعترضتم على السيادة، فكأنكم اعترضتم على كل شيء بما فيه هذا الوضع الذي يترجم عن وحدة وادي النيل ... فإذا ما فكرتم مليا في هذا أنتظر أن تكون نتيجة التفكير التسليم بما نطلب، وهو أيضا في مصلحة السودانيين الذين لا يمكن أن يتمنى لهم صديق أن يكونوا بلا وطن، وأنا أعرف أنهم يغتبطون بانتسابهم للوطن المصري مع الاحتفاظ بكيانهم الخاص، وبكامل حقوقهم في إدارة شئونهم .»
فقال لورد ستانسجيت: «إني قرأت الكثير عن السودان، وصحيح قد جاءت عبارة السيادة على لسان بعض ساستنا مثل لورد كرومر، ولكن هناك في هذا الموضوع أخذ ورد طويل، وهناك أيضا أن العنوان الذي اتخذ لملك السودان، وهو الذي تسمى به الخديو إسماعيل لم يعد ينطبق على الواقع الآن، فهناك بلاد خرجت من السودان وبلاد أدخلت فيه، وهناك اعتداءات وقعت على السودان، وصدقني لو أننا لم نكن إلى جانبكم منذ سنة 1898 لكان السودان طعمة سائغة للفرنسيين، الذين كم حاولوا مد إمبراطوريتهم إلى هذه النواحي ونحن لهم بالمرصاد ...»
فقلت: «كل هذا كلام طيب، ولكن الأمر بالنسبة لنا أمر كرامة وأمر عاطفة، والمصريون في هذا الموضوع شديدو التمسك بما يعتبرونه وضعا مقدسا»، فقال: «كم أنا أخشى هذا التمسك! وكم أود أن تعالج هذه المسألة معالجة عملية، أساسها مصلحة السودانيين فقط، مع ابتعادنا نحن الاثنين عما يوجب التنازع، ونحن وأنتم مطالبون بأن نرعى مصلحة هذا الشعب السوداني الموكول أمره إلينا نحن الاثنين»، فقلت: «إني أخاطبك وقد فهمت أنك قرأت الكثير عن السودان، وتبينت حقيقة وضعه، وهذا الذي يطمعني أن أرى فيكم من يساعد على تحقيق غرض المصريين، وهو كما قلت لك غرض بعيد عن المادة، وعن الكسب وعن الأطماع الذاتية.»
الباب المفتوح
وإلى هنا انتهى الحديث، وفيه اختصار كبير ولو أن الحديث كما هو مدون يتضمن كل المعاني التي تبادلناها ... وهنا قلت: «إني أبنت في مستهل كلامي أن قرار هيئة المفاوضة المصرية ليس مما يدعو إلى القطع
rupture ، وأؤمل أن يكون هذا رأيكما.»
قال اللورد: «إني أول الراغبين في استمرار المفاوضة للوصول إلى تحقيق الغرض الذي قصدناه نحن الاثنين، ولكن كيف يكون الباب مفتوحا، وقد أوصدتموه بعبارتكم القاطعة؟»
فقلت: «إنه ما دام لكلينا غرض أساسي واحد، فلا يمكن إلا أن يتضافر جهدنا مهما اعترض سبيلنا من العقبات لتحقيقه، وأنا من جهتي كرئيس للحكومة المصرية أصرح لكما أن مصر تتوق إلى معاهدة مع إنجلترا، وقد فهمت أنكم تهدفون مثلي إلى هذه الغاية، فلا أدرك كيف لا ننتهي إلى النتائج المرجوة ما دامت الرغبتان متقابلتين؟»
فقال اللورد والسفير: «لقد علمتم أن مستر بيفن فرض علينا أن نعرض عليكم مقترحاته باعتبار أنها الرأي النهائي للحكومة البريطانية، بل ذهبنا إلى أن نوضح لكم أن الاقتراحات المذكورة تمثل وحدة غير قابلة للتجزئة، ونحن نشعر بأننا لا نستطيع التكلم عن إمكان المضي في المفاوضات، بعد أن لم تقبلوا مقترحات مستر بيفن، وبهذا يصبح التسليم منا بأن الباب مفتوح مختلف مع حقيقة الحال.»
فقلت: «هذا صحيح ولكنه لم يمنع من أن استوضحتموني أشياء كثيرة أجبتكم عنها، وبما أن ردودي هذه قد تثير لدى مستر بيفن رغبة في المضي في المناقشة، فأظن أنه من غير المستساغ أن تعتبروا باب المفاوضات غير مفتوح، فتحرموا مستر بيفن وحكومتكم من تبادلنا الرأي في المسائل التي جرى عليها الخلاف.»
فقال اللورد: «ولكن ألا ترى أننا إذا نشرنا اليوم أن قراركم سيبلغ للمستر بيفن، وله أن يرد بالموافقة أو عدمها؛ ألا ترى أن في ذلك الكفاية؟»
فقلت: «إنكم تهتمون الآن بمسألة شكلية، بينما أنظر لمصلحة بلادي وأثر قطع المفاوضات مع إنجلترا في الطبقات الكثيرة من أهلها، وبينهم صاحب الغرض، وبينهم المشاغب، وبينهم طوائف كثيرة من الأشخاص يتمنون قطع المفاوضات، وما دمتما تتمنيان اطراد التفاهم بين بلدينا وجب أن تعملا معي على تسهيل هذا التفاهم، بعدم إعطاء حجة جديدة لمن يرمونكم بسوء النية نحو مصر.»
وهنا جرى حديث طويل ظهر لي من ثناياه حرص المفاوضين البريطانيين على انتظار تعليمات، وتخوفهما من خروجهما على ما قد يكون للندن من رأي مخالف فيما إذا قبلا ما جرى، كأنه لم يترتب عليه قطع المفاوضة.
وانتهى الحال بعد المناقشة إلى قبول هذا البيان الذي عرضته عليهما، وتناقشنا أيضا فيه طويلا، وانتهينا منه إلى الصيغة الآتية:
إن مجلس الوزراء ورئيس الوفد المصري للمفاوضات قد سلم إلى لورد ستانسجيت وسير رونالد كامبل القرار، الذي اتخذه الوفد المذكور في العشرين من شهر أغسطس سنة 1946، وهذا نصه: «إن هيئة المفاوضات المصرية لا ترى في البيانات والصيغ، التي جاءتها من الجانب البريطاني ما يحملها على تعديل موقفها، وهي بناء على ذلك تتمسك بمذكرتها المقدمة في أول أغسطس، وما صاحبها من النصوص.
وقد دارت محادثة ذات طابع عام بين المفاوضين الثلاثة، انتهوا بها إلى اعتبار أن الباب ما يزال مفتوحا لتبادل جديد في الآراء؛ بقصد الوصول إلى نتيجة ملائمة لمصالح البلدين.»
وقد انتهت المقابلة حيث كانت الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والأربعين بعد الظهر.
أطماع الإنجليز في السودان
تحدثت في الفصل الماضي عن بعض ما جرى بيني وبين اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني من حديث حول مسألة السودان، وقد بدا من الإنجليز أنهم يقفون فيها موقف المعارضة الشديدة لسيادة مصر على هذه البلاد، وأود هنا أن أتحدث عن النظرية الإنجليزية في السودان، وكيف رددنا عليها.
إن نقطة الابتداء في النظرية الإنجليزية هي أنه لما أصبح المهدي في سنة 1884 مسيطرا على أراضي السودان، واضطرت الجيوش المصرية إلى مغادرته، انتقلت حقوق السيادة التي كانت لمصر إلى المهدي ... وهناك رواية أخرى لهذه النظرية، وهي أنه لما كان المهدي ثائرا، ولم يعترف به؛ فإنه لم يرث حقوق الخديوي، ولكن كان من نتيجة مغادرة السلطات العسكرية والمدنية المصرية لتلك البلاد، أن أصبح السودان «مالا لا مالك له.»
ويقول الإنجليز: إن غزو السودان أو إعادة غزوه لم يكن ممكنا إلا بفضل بريطانيا العظمى، ويلاحظون ما يأتي: (1)
إن بريطانيا قد أعادت تنظيم الجيش المصري، وزودته بأنظمة بريطانيا حولته إلى قوة أصبح في مقدورها أن تهزم المهدي. (2)
إن الوحدات البريطانية اشتركت فعلا في حملة السودان. (3)
إن البريطانيين هم الذين أعادوا تنظيم المالية المصرية، وأتاحوا للخزانة المصرية أن تتحمل مصاريف الحملة الموجهة ضد المهدي. (4)
إنه لو لم تكن إنجلترا قد تدخلت لكانت فرنسا قد استولت على فاشودة، وعلى جنوب السودان، (وقد أشار اللورد ستانسجيت إلى ذلك في حديث له معي.)
والواقع أن مصر صاحبة السيادة كانت في ذلك الحين مغلوبة على أمرها باحتلال بريطانيا عسكريا منذ سنة 1882، ولم يكن لبريطانيا قبل هذا الاحتلال أي اتصال بالسودان، وهي لم تتدخل في الشئون السودانية، ولم تشترك في إعادة فتح السودان؛ إلا لأن هذا الإقليم جزء من مصر؛ ولأن «إنجلترا - كما صرح بذلك سير إدوارد جراي في البرلمان البريطاني في 28 مارس سنة 1895 - تشغل مركزا خاصا هو مركز القيم للذود عن مصالح مصر.»
على أن بريطانيا لم تنازع قط في سيادة مصر على السودان، سواء قبل حملة السودان أو في خلالها أو بعدها، وعلى العكس أيدت هذه السيادة تجاه الدول الأجنبية، وحين وقعت حادثة فاشودة كتب «كتشنر» نفسه إلى «الكولونل مارشان» قائد الحملة الفرنسية يقول: إنه «تلقى تعليمات لإعادة السيادة المصرية على مديرية فاشودة»، وأنه «يحتج على ما وقع من رفع العلم الفرنسي على ممتلكات سمو الخديو»، وبعد ذلك أبلغ كتشنر القائد الفرنسي ما يأتي: «اعتبارا من اليوم استعادت مصر رسميا ولاية الحكم على هذه المنطقة؛ فاشودة.»
أما اتفاقيتا 19 يناير و10 يوليو سنة 1899، فلم تتناولا إلا موضوعا واحدا هو تنظيم الإدارة في السودان، وهما لم يمسا حق مصر في السيادة، وأن التنازل عن جزء من هذا الحق لا يمكن أن يقع إلا بموجب وثيقة خاصة وقاطعة، ولا يمكن أن يستفاد هذا التنازل من نصوص كنصوص اتفاقيتي سنة 1899 لا تتعرض للسيادة، بل للنظام الإداري في السودان. •••
وقد كانت تسوية مسألة السودان في مفاوضات سنة 1930 بين الحكومتين المصرية والبريطانية، هي المسألة التي قامت بشأنها أكثر المناقشات حدة وأهمية، وهي التي أدت إلى قطع المفاوضات، على أن مسألة سيادة مصر على السودان لم تكن من العقبات التي قامت في سبيل الاتفاق، بل الأمر على العكس من ذلك ... فقد تضمن المشروع الأول للمعاهدة الذي قدمه الوفد المصري يوم 3 أبريل سنة 1930 مادة هي المادة 13 نصها كالآتي:
إلى أن تحل مسألة السودان بمفاوضات مقبلة، ومع الاحتفاظ بجميع الحقوق، يباشر الطرفان المتعاقدان إدارة السودان بالاشتراك بينهما اشتراكا فعليا
الكتاب الأخضر - الطبعة العربية صفحة 28
وقد أثار هذا النص اعتراضات من قبل الوفد البريطاني، الذي كان يريد النص على ما يؤيد اتفاقيتي سنة 1899 والنظام الناشئ عنهما، كما عارض الوفد البريطاني من ناحية أخرى في منح مصر نصيبا فعليا في إدارة السودان، فقدم الوفد المصري في 14 أبريل سنة 1930 نصا جديدا للمادة 13 هو:
مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاق في مفاوضات مقبلة لتعديل اتفاقيتي سنة 1899، وحل مسألة السودان، وبدون إخلال بحق سيادة مصر على السودان، يتفق الطرفان المتعاقدان على أن يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من اتفاقيتي سنة 1899 المذكورتين.
وقد وردت الملاحظة الآتية بعد في الكتاب الأخضر بعد هذا النص (ص84 من الطبعة العربية).
ملاحظة: فيما يتعلق بالمادة 13، وهي الخاصة بمسألة السودان قبل الفريق المصري أن يشير إلى اتفاقيتي سنة 1899، بعد أن طلب مستر هندرسون من دولة النحاس باشا في حديث خاص أن يقبل ذكر اتفاقيتي سنة 1899 في المادة الخاصة بالسودان؛ تسهيلا لمهمته أمام مجلس العموم، حتى يستطيع أن يدافع عن طلب الاشتراك الفعلي في الإدارة، بأنه تطبيق لأحكام هاتين الاتفاقيتين، فقبل دولة النحاس باشا منه ذلك على شرط النص أيضا على حق السيادة المصرية الكاملة على السودان، فلم يعارض مستر هندرسون في ذلك.
وفي الجلسة العاشرة (14 و15 أبريل سنة 1930) اقترح الوفد البريطاني النص الآتي:
مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل؛ لتعديل اتفاقيتي سنة 1899 يتفق الطرفان المتعاقدان على أنه بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية، يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من اتفاقيتي سنة 1899 المذكورتين، وبناء على ذلك يظل الحاكم العام يباشر بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين السلطات التي خولتها إياه الاتفاقيتان المشار إليهما»، فقبل الفريق المصري هذه الإضافة على أن يقبل الفريق البريطاني في نفس الوقت المذكرة الآتي نصها: «المفهوم بتطبيق المادة 13 أن حقوق سيادة مصر على السودان تظل سليمة من غير نص، وأن الفريقين المتعاقدين يباشران إدارة السودان بالاشتراك بينهما اشتراكا فعليا ...
وبناء عليه يعين وكيل مصري للحاكم العام، وموظفون مصريون للتعاون مع الموظفين البريطانيين في إدارة السودان، وتعود الجنود المصرية إلى السودان بعد التصديق على المعاهدة، ولا يوضع أي قيد على المصريين فيما يتعلق بالهجرة، والتملك والمتاجرة»، (الكتاب الأخضر صفحة 90.)
والمسألة الوحيدة في هذه المذكرة التي لم تثر جدلا هي المسألة المتعلقة بحق مصر في السيادة، فإن باقي أحكام المذكرة قد أثارت معارضة قوية من جانب الوفد البريطاني، ودارت في الجلسات التالية مناقشات طويلة حولها، وكذلك حول الاقتراح المصري بالدخول في محادثات خلال السنة، التي يصدق فيها على المعاهدة، من أجل تنفيذ اتفاقيتي سنة 1899 وتطبيقهما.
أما عبارة «بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية»، فلم تكن - على العكس من ذلك - محل مناقشة، وأضيفت في جميع النصوص التالية التي قدمت من الوفدين، كما تضمنها النص الذي قبله كل من الطرفين في النهاية، وقد رفض مجلس الوزراء البريطاني هذا النص، ولكنه أعلن بأن معارضته تنصب فقط على التعهد بالدخول في محادثات ودية في بحر سنة؛ بشأن تطبيق اتفاقيتي سنة 1899، ويتبين من ذلك أن مجلس الوزراء البريطاني قد قبل الصيغة المتضمنة لحقوق مصر.
وزيادة على ذلك فإن قطع المفاوضات كان نتيجة لعدم الاتفاق على النقط الثلاث الآتية: (1)
الدخول في محادثات ودية بشأن تطبيق اتفاقيتي سنة 1899. (2)
رجوع كتيبة مصرية إلى السودان. (3)
إلغاء القيود المفروضة على المصريين في السودان، فيما يتعلق بالهجرة والتملك والمهاجرة.
ولم ترد مسألة سيادة مصر، التي لم يعد الجانب البريطاني يعارض فيها، بين النقط الثلاث التي تعذر الاتفاق عليها، كما لم تكن سببا لقطع المفاوضات. •••
وموقف الحكومة البريطانية في سنة 1930 يطابق موقف الحكومات السابقة لها، وخاصة تلك الحكومات التي كانت قائمة وقت إعادة فتح السودان، وعقد اتفاقيتي سنة 1899.
لم تنازع بريطانيا في سيادة مصر على السودان سواء قبل حملة السودان، أو في خلالها أو بعدها، وعلى العكس فإنها قد أيدت هذه السيادة تجاه الدول الأجنبية، وصرحت دائما بأنها لا تعمل في السودان إلا لإعادة سلطة الخديو ... ويكفي أن نشير في هذه المناسبة إلى الخطابات التي كتبها كتشنر إلى الكولونيل مارشان وقت حادث فاشودة، يخطره فيها أنه تلقى تعليمات لإعادة السيادة المصرية على مديرية فاشودة، وأن مصر قد استعادت رسميا ولاية الحكم على هذا الإقليم.
ولم يكن لبريطانيا العظمى قبل احتلال مصر عسكريا في سنة 1882 أي اتصال بالسودان، وهي لم تتدخل في إعادة فتحه؛ إلا لأنها - كما صرح بذلك سير إدوارد جراي في البرلمان البريطاني في 28 مارس سنة 1895 - تشغل مركزا خاصا، هو مركز القيم للذود عن مصالح مصر، فلم يكن في وسعها إذن - والحالة هذه - أن تتذرع بالمساعدة التي بذلتها لمصر في هذه الظروف؛ لتجردها من جزء من سيادتها على الأقاليم التي عاونتها على فتحها من جديد. وزيادة على ذلك لم يكن من المستطاع - طبقا لفرماني التولية في سنتي 1879 - التنازل عن جزء من هذه السيادة إلا بترخيص من الحكومة العثمانية.
بل على العكس فقد طالبت بريطانيا العظمى بأن تمنح نصيبا في الميدان الإداري؛ مكافأة لها على اشتراكها في حملة السودان.
ولم تتناول اتفاقيتا سنة 1899 إلا موضوعا واحدا هو تنظيم الإدارة في السودان، وهما لم يمسا حق مصر في السيادة ...
ولا شك في أن ديباجة اتفاقية سنة 1899 تبين الحقوق التي اكتسبتها الحكومة البريطانية بمقتضى حق الفتح، ولكن الذي طالبت به بريطانيا العظمى بمقتضى هذه الحقوق هو «الاشتراك في التسوية الحالية، وفي وضع النظام الإداري والتشريعي المذكور موضع التنفيذ والنهوض بها.»
وفوق ذلك فإن لورد كرومر، وهو من أقدر سياسي بريطاني وصاحب الشأن الأول فيما يتعلق بالموضوع الذي نعالجه، هو الذي يمكنه أن يوضح مدى اتفاقيتي سنة 1899، إذ إنهما كانتا من وضعه، فقد كتب في تقريره سنة 1901 ما يأتي: ألاحظ في تقرير المجلس التشريعي عن ميزانية هذا العام أن المجلس يوافق على المصروفات المخصصة للسودان؛ بناء على أنه يعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر ... وهذا الرأي صحيح في جوهره ... وإني أنتهز هذه الفرصة؛ لأبين أن الاتفاقية المبرمة سنة 1899 لم يقصد بوضعها الانتقاص من حقوق مصر الشرعية.
ومما أحتج به مرارا رفع العلم البريطاني إلى جانب العلم المصري في السودان، باعتبار أن في هذا مظهرا شاهدا على وجود البريطانيين في السودان، ولكن لورد كرومر ذاته تولى تفسير ذلك وتحديد مداه، فقد أوضح في تقريره عن سنة 1903 أنه سئل أحيانا: «لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية جزءا من مصاريف الإدارة في السودان، ما دام العلم البريطاني يخفق عليه إلى جانب العلم المصري؟» وقد ذكر أن الجواب على هذا السؤال سهل؛ لأن اتفاقية سنة 1899 قد وضعت للسودان نظاما سياسيا خاصا؛ لغرض مقصود هو تخليص السودان، ومن ثم تخليص مصر أيضا بصفتها حاكمة هذا الإقليم، من كل هذه الأنظمة الدولية المتعبة التي زادت تعقيد الإدارة المصرية»، ثم أضاف إلى ذلك: «ولولا هذا الاعتبار لما كان هنا ما يدعو، من وجهة النظر البريطانية البحتة، إلى أن يكون العلم البريطاني مرفوعا في الخرطوم، شأنها في ذلك شأن أسوان أو طنطا.»
فليس رفع العلم البريطاني في السودان إلا نتيجة لإقامة نظام إداري مصري - إنجليزي منفصل عن نظام مصر، وليس علامة على اشتراك في السيادة، فإن هذا الاشتراك ما كان ليتوفر لبريطانيا إلا بمقتضى وثيقة دولية صريحة.
وهكذا فإنه منذ حملة السودان إلى وقت مفاوضات معاهدة التحالف، لم تنازع بريطانيا في انفراد مصر بحق السيادة على السودان، وفي معاهدة سنة 1936 ذاتها تركت هذه المسألة لمباحثات تجري مستقبلا.
واليوم، وقد عزمت مصر وبريطانيا العظمى على السير معا في طريق جديد واضح، أصبح من غير المستطاع تجنب بحث هذا الموضوع، كما لا يجوز الاحتجاج بمصالح السودانيين لتأجيل الاعتراف بسيادة مصر، إذ الواقع أن مشروع البروتوكول المقدم من الوفد البريطاني يقدر أنه: «لن يكون السودانيون أحرارا في تقرير علاقاتهم المستقبلة مع الطرفين الساميين المتعاقدين، إلا حين يصبحون قادرين على القيام بإدارة شئونهم.» وفي هذا اعتراف بأن الشعب السوداني غير قادر في هذه اللحظة الراهنة على تقرير مصيره، فهو إذن غير قادر على رفض سيادة قائمة منذ سنين عديدة.
فليس في ذكر السيادة المصرية في بروتوكول المعاهدة مساس بأي حق يتمتع به الشعب السوداني في الوقت الحاضر، فلن يتسنى له اتخاذ موقف بمحض اختياره بالنسبة لهذه السيادة إلا في مستقبل الأيام، حينما تتوفر له الأهلية الكافية. •••
هذا هو تلخيص لموقف الجانب المصري أثناء المناقشات التي جرت مع الجانب البريطاني بشأن مصير السودان.
وهو تلخيص متخذ مما دار في بحوث شفهية، وفي مذكرات تبودلت بين الطرفين على أنه ليس كل ما عرض من الجانب المصري، بل إن هناك مناقشات أخرى سيأتي الكلام عنها بشأن بروتوكول السودان، وهي ضمن ما جرى عليه الحديث بيني وبين مستر بوكر وزير بريطانيا بمصر، في الوقت الذي سافر فيه السفير بالإجازة إلى إنجلترا مما سيرد ذكره في حينه، كما أن أقوالا أخرى تتعلق بموقفنا من السودان جرت أثناء المفاوضات مع مستر بيفن نفسه، مما سيرد ذكرها عند التحدث عن محادثات لندن، ومعروف أن هذه المحادثات الأخيرة كان كلها متعلقا بالسودان، ومسألة السيادة التي لم يقبل الإنجليز في الآونة الحاضرة أن يعترفوا بها كما سبق لهم الاعتراف.
الحزبية تعرقل سير المفاوضات
أوردنا نص البيان الذي كلفني الوفد المصري للمفاوضات بإبلاغه للجانب البريطاني، وفيه يصر الوفد على وجهة نظره، ويتمسك بمذكرته المقدمة في أول أغسطس، وما صاحبها من نصوص سبق نشرها. وقلنا: إنه بعد المناقشة والأخذ والرد بيني وبين رئيس الوفد البريطاني والسير رونالد كامبل، انتهينا إلى صيغة أعلنا بمقتضاها أن الباب لا يزال مفتوحا لتبادل جديد في الآراء بقصد الوصول إلى نتيجة ملائمة لمصالح البلدين ... وقد كان مفهوما - وهذا على الأقل من الناحية الرسمية - أن عقدة العقد هي مسألة السودان، وبالأخص مسألة «السيادة» عليه، التي بدأ الإنجليز ينازعون حق مصر الصريح فيها، على أنه قد تبين في غضون المناقشات الحادة التي تميز بها الدور الأخير من المفاوضات في النطاق المصري أن عوامل جديدة سيطرت على الموقف، بعضها يرجع إلى تحول في وجهة النظر العامة تلقاء أغراض المعاهدة، وبعضها إلى تيارات بدأت خفية - أو على الأقل غير واضحة - ثم أصبحت سافرة وأكثرها من صنع المؤثرات السياسية والحزبية، التي وجدت في مناقشات المعاهدة ومداولاتها المضنية، مرعى خصيبا تتغذى فيه المساعي والأطماع ذات الطابع الداخلي المحض ... ومن أسف أنها امتدت إلى دائرة المفاوضة نفسها، وهي التي كان يجب ألا تتطاول إلى حرمها المساعي والتدبيرات.
محاولة جديدة لتعكير الجو
وقد غدا أمر المحالفة مع بريطانيا ممقوتا لدى فريق من الرأي العام، الذي صوروا له هذه المحالفة في صورة قيد جديد تكبل به مصر، فترزح تحت نيره كما كان الحال في الزمن الغابر، وأصبح هذا الفريق يعتقد أنه بشيء من الضغط، ومن معاملة إنجلترا بالشدة والحزم نتخلص من المحالفة والتزاماتها، ونتخلص تبعا لذلك من لجنة الدفاع ومن مخاوفها وأخطارها، ونفرض نحن على إنجلترا الجلاء التام الناجز، ونضطرها اضطرارا إلى ترك السودان، وإلى الاعتراف بحقوقنا على هذا القطر من غير منازع ومن غير مقابل!
وإذا سألت: «كيف يكون الاعتراف من جانب بريطانيا وحدها، ونحن في حل من كل شيء؟» قالوا: حسبنا قوة الحق والعدل التي لا تقف في سبيلها قوة مهما عظم بطشها واشتد خطرها ... وقالوا أيضا: «ما لنا ولإنجلترا وعندنا حلفاؤنا الطبيعيون من العرب الذين تربطنا بهم الأواصر المتينة، والذين يهبون لنجدتنا متى حزب الأمر، وأحدقت بنا الأخطار ...!»
وكان كل ذلك - مع الأسف - وليد الأوهام والأفكار غير الناضجة، وبالأخص وليد سياسة المزايدة، التي كان الساسة يعملون لها ألف حساب، وهي السياسة التي طالما أفسدت على مصر ثمار جهودها وخيبت آمالها ...
وقد كان لبيان الوفد المصري بالاعتراض على كل محالفة مع إنجلترا الأثر الكبير في أذهان قوم تولاهم الملل والسأم، كما سبق لنا القول ... وهنا رأيت من حسن التصرف وضعا للأمور في نصابها الصحيح، أن أرفع استقالة الوزارة إلى السدة الملكية، ذاكرا في كتابي «أني قد مضيت وزملائي في القيام بمهمة المفاوضات، وقطعنا شوطا كبيرا منها، ولم تبق إلا مرحلة كنت وما زلت كبير الرجاء أن نجتازها في نجاح وتوفيق، غير أن متاعب داخلية قد نبتت، وتفاقم أمرها بغير مبرر له وزن، وأصبح من العسير علي أن أستمر في الاضطلاع بالعبء الجسيم في وجه هذه المتاعب؟ وقد رأيت أن أفتح الطريق لغيري، وأن أضع الأمر بين يديكم (مخاطبا جلالة الملك) لتتصرفوا فيه بحكمتكم السامية؛ وليستطيع من يخلفني أن يعالج البقية الباقية من شئون المفاوضات، بما يحقق للبلاد ما رجوناه لها من استقلال وحرية في ظل الكرامة القومية.»
على أن هذه الاستقالة لم تقبل ووجه إلى النطق السامي في أول أكتوبر سنة 1946، بأن استمر في العمل على «تحقيق أهداف البلاد الوطنية التي هي أعز أمانينا.»
التفاؤل
ويحسن هنا أن أشير إلى أسباب التفاؤل، التي حدت بي إلى المضي في المفاوضات وقتذاك رغم ما أحاط بها من متاعب، وما تولى القوم في مصر من ملل وسأم، ورغم محاولات العاملين على إفساد الجو السياسي بمصر بتغليب عناصر المزايدة، والتطرف على عناصر الحكمة والاعتدال ...
وقد كنت متفائلا؛ لأن المصاعب ليس معناها الفشل والإخفاق، بل قد توائم التفاؤل وقد تعالج، ويستعان عليها به ... ومن الذي كان يتصور من العقلاء أن قضية كبيرة الشأن كالقضية المصرية تنتهي في كلمات، أو في تبادل المذكرات، أو تحل بضيق الصدر وقلة الصبر من أحد الجانبين المتفاوضين أو من كليهما، ومع ذلك فقد كانت ثلاثة أرباع المسائل، التي تناولتها المفاوضة بين مصر وبريطانيا قد انتهت إلى التفاهم التام، بل وضعت لها الصيغ الملائمة، فصار مفروغا منها.
مسألة السيادة ... ووحدة الوادي
أما مسألة السودان، فهي التي أشعرت بوادرها بما تنطوي عليه من اختلاف بين وجهتي النظر واستعصاء الحل، غير أنني كنت كبير الأمل في أن الجانب المصري سوف يوفق إلى إقناع الجانب البريطاني، بأننا لا نطلب جديدا غير موجود، وإنما نطلب الاعتراف بحقوق قائمة لا شك فيها مستندة إلى مظاهرها القانونية والفعلية، فإن السيادة على وادي النيل ووحدة ذلك الوادي الممثلتين في التاج المصري، حقيقتان ملموستان برغم محاولة الحكام البريطانيين، وبالأخص المحليون منهم تجاهلهما، أو الغض من شأنهما.
لم يكن مطلب مصر في مسألة السودان مستندا إلى نزعة استعمارية، أو ميل إلى سيطرة يتولاها المصريون على شعب يعتبرونه شعبا شقيقا عزيزا على قلوبهم، وإنما يقصد المصريون أن يحفظوا لأهل السودان عهد الأخوة الكاملة الشاملة، المؤسسة على ما أوجدته الطبيعة من التعاطف والتحاب بين الأخ الكبير والأخ الصغير.
فإذا ما تبين الإنجليز هذه الحقائق كان الرجاء عظيما في ألا يتشبثوا بما يتجافى والأوضاع السليمة فيما يتعلق بالسودان، خصوصا وقد صار واضحا استمساك المصريين بهذه الأوضاع الأساسية، التي لا يستطيعون التغاضي عنها بأية حال في حين أنهم في استمساكهم هذا منزهون عن مظنة الشهوة والغرض.
أعضاء الوفد البريطاني في المفاوضات يتوسطهم لورد ستانسجيت، وإلى يمينه السير رونالد كامبل السفير البريطاني، وإلى يساره المستشاران العسكريان.
إسماعيل صدقي باشا رئيس المفاوضين المصريين، وإلى يمينه لورد ستانسجيت، رئيس وفد المفاوضين الإنجليز في جلسة هادئة بسراي الزعفران، عقب النقاش الذي دار بشأن مسألة السودان.
اختلى إسماعيل صدقي باشا بالسير رونالد كامبل السفير البريطاني طويلا في برج العرب ... وهو هنا يتحدث إلى السفير عن الإصلاحات التي أدخلت على منطقة برج العرب خلال فترة الاستراحة من المفاوضات.
التحالف قائم ... ولا بد منه
أما رغبتنا في التحالف معهم، فلم نكن بحاجة إلى التدليل عليها، كما أنه لم تكن بنا من حاجة للبحث عن أمة كبيرة تساعدها وتساعدنا عند وقوع الخطر ... فإن بيننا وبين بريطانيا العظمى حلفا قائما فعلا ظهر أثره في أثناء الحرب الأخيرة، وجنى الإنجليز من مزاياه بقدر ما جنى المصريون، فلم نكن ذوي مصلحة في النكول عن حلف الإنجليز، فتستفيد من ذلك دولة أخرى.
وقد أقرت مصر وجهة النظر هذه، جاعلة شرطها الأساسي في تجديد العهد مع بريطانيا العظمى ضرورة استقلال البلاد استقلالا صحيحا لا شائبة فيه، مظهره الجلاء التام، مستمسكة بأمنية غالية أخرى وهي حل مسألة السودان، والانتهاء من الوضع الشاذ الخاص به، وذلك على أساس وحدة الوادي في رعاية تامة لرفاهية الشعب السوداني الشقيق.
استئناف المفاوضات
في الفترة التي أعقبت بقاء الوزارة في مركزها مؤيدة برضى المليك وثقة البرلمان، وفي الوقت الذي كان شعوري برغبة غالبية هيئة المفاوضة في الوصول إلى إتمام الاتفاق مع إنجلترا، لا يزال قويا برغم المصاعب التي جاءت من الناحية البريطانية، التي كانت متأثرة بنزعة استعمارية قديمة، تركزت بنوع خاص في مسألة السودان، ورغم متاعبنا الداخلية والمعارضة الجامحة التي ما كان يغمض لها جفن أثناء هذه المفاوضات، فكرت طويلا فيما يجب أن تكون خطواتي المقبلة في سبيل تنفيذ البرنامج الوزاري بشأن أهداف البلاد ... وكان رئيس هيئة المفاوضة البريطانية والسفير البريطاني قد غادرا البلاد، مما كان يتوقع معه أن تمضي فترة طويلة تعمل في غضونها جميع القوى المتضافرة على إفشال مساعي التفاهم والتوفيق.
وقد هداني التفكير أولا إلى أنه من الخير أن نعدل عن الرأي السائد في الناحيتين البريطانية والمصرية، ومؤداه أن تكون تسوية مشكلة السودان على مرحلتين: الأولى يتقرر فيها المبدأ والثانية تشمل التحقيق، الذي يقوم به الجانبان للتفاهم على الأوضاع التي تهيئ للسودان أكبر قسط من الرفاهية والرقي ... وقد رأيت أن تكون المفاوضة الحالية مؤدية إلى إنهاء مسألة السودان دفعة واحدة، حتى لا تتعثر علاقاتنا مع الدولة البريطانية من جديد في أخذ ورد قد يودي بكل المصالح المشتركة، سواء ما كان منها متعلقا بالسودان، أو ما كان خاصا بمصر نفسها ... وقد يتحقق هذا الغرض بتضمين الاتفاق الخطوط الأساسية، والمبادئ التي تسمح للدولتين المصرية والإنجليزية عن طريق حكومتيهما، بمباشرة مهمتهما في هدوء وانسجام، مستعينين بشعور واحد هو وضع خبرتهما ومقدرتهما في خدمة السودان، حتى يأتي الزمن الذي تريان فيه أن تسليم مقاليد الحكم لأهله أصبح واجبا محتوما ...
وقد أدركت أن الدقة التي تحيط بأمور السودان، واختلاف وجهات النظر بين كل من تصدوا لمعالجة هذه الأمور، يقتضيان حصر المناقشة بين الجهتين اللتين تستطيعان توجيه النتائج إلى نهاية حاسمة؛ ولذلك نبتت عندي فكرة مقابلة مستر بيفن شخصيا، وهو - على ما فهمت - لم يكن قد أحاط تماما بأغراض مصر وبموقف مصر، ولم يكن قد اطمأن من ناحية نوايانا نحو هذا الإقليم ومركز إنجلترا منه، وكانت المسألة بحسب تقديري، لا تعدو أن تكون عند مستر بيفن مسألة ثقة، واطمئنان على مصالح رئيسية لإنجلترا، لا على أوضاع لا تهم السياسة العليا.
وإذ قابلت المستر بوكر الوزير المفوض النائب عن السفير البريطاني عند عودتي من مصيف الإسكندرية شافهته في أمر هذه المقابلة، فسألني عما إذا كنت قد حددت موضوعات الحديث مع مستر بيفن، فأخبرته أن الفكرة لم تختمر بعد، ولكنها مبنية على الرغبة في استعراض موضوعات الخلاف لعلنا نجد الحلول اللائقة والمريحة لضمائرنا جميعا ... ولم أخف على مستر بوكر أن مسألة السودان - ولو أنها شغلي الشاغل - ليست هي كل ما يثير هواجسي، فإن نصوص المعاهدة نفسها تحتاج لبعض التنقيح والتنوير مع السعي لإزالة الشبهات.
وإذا استعلم مني بعد أيام (ولعله أمضاها في مخابرات مع لندن)، عما إذا كنت أنتوي استئناف السعي في أمر الاعتراف بحق مصر في السيادة، أفهمته «أن هذا التسليم من ناحيتكم هو الغرض الأساسي لهذا السعي»، فقال: «إن هناك صعوبة كبرى تقف في سبيل الاعتراف بالسيادة، وهي تعهدنا للسودانيين بأننا سوف نعمل على منحهم الاستقلال.»
فقلت: «إنه تعهد ينصب على ما يأتي من الزمان وقد يكون طويلا، ومع ذلك فمصر لا تعترض على تحقيق رغائب الشعوب، التي تصبو للاستقلال متى آن أوانه ... على أنني - محافظة على شعور إخواننا السودانيين - لا أرى ما يمنع من أن تتمثل السيادة في التاج المشترك للبلدين وهو تاج مصر.»
ولقد كانت أحاديثي مع مستر بوكر أحاديث خاصة غير ذات صفة رسمية؛ ولذلك فإنها لم تدون في مذكرات أو محاضر، فلا يمكن أن يتمسك بها أحد الطرفين على الآخر.
وقد قابلني مستر بوكر بعد ذلك بأيام أخرى، وقال لي: إن الحكومة البريطانية ترحب بقدومي مع من أريد من الزملاء، وأنها ترجو أن أقبل ضيافتها.
وهكذا قررت بعد استئذان جلالة الملك، وبرضى تام من جلالته، وبعد أن عرضت الأمر على أعضاء هيئة المفاوضة الذين رحب أكثرهم بالفكرة، وعلى حضرات الوزراء الذين وافقوني كل الموافقة على ما كنت أنتويه من سعي جديد في سبيل القضية المصرية، أقوم به مع وزير خارجيتنا (معالي) إبراهيم عبد الهادي باشا، قررت أن أسافر وزميلي إلى لندن على طائرة خاصة أقلتنا إلى إنجلترا، وكان معنا بعض هيئة السكرتيرية المصرية والصحفيين ...
أما استقبالنا فقد أحاطته الحكومة البريطانية بالشيء الكثير من مظاهر التكريم والاحترام. •••
ويجدر بي قبل الانتقال إلى مجريات المفاوضة أن أنوه هنا بالروح العالية التي كان المستر بيفن، ذلك الرجل العصامي القدير، حريصا على أن تكون السائدة في المناقشة، وقد حرص جنابه على إثارة الشعور - بل العقيدة - لدينا بأننا وإياه أنداد متساوون ، على الرغم من أننا كنا طلاب حق لا سبيل لنا إلى انتزاعه بغير طريق الإقناع، ومن أيد طالما أحسسنا بشدة بأسها وبقوة وسائلها!
وإنه ليؤسفني أن كانت مفاوضاتنا مع الوزير البريطاني ومع أعوانه، ومنهم لورد ستانسجيت وسير رونالد كامبل قد أدت إذ ذاك إلى إقلاق كبير في راحتهم؛ لأن حالتي الصحية منذ اليوم التالي لوصولي لإنجلترا أدت إلى تجشم الجميع الكثير من التعب في مداومة الانتقال من «هوايت هول» إلى محل الضيافة، وقد تركت في نفسي مجاملتهم الكريمة لممثل مصر؛ الكثير من الأثر.
ولا بد لي أيضا من التنويه بمظاهر الإكرام، التي قابلنا بها مستر آتلي رئيس وزارة إنجلترا في مقر رئاسة الحكومة بداوننج ستريت، وهي مظاهر زاد في روعتها أن كان الاستقبال في ذلك المكان التاريخي المشهور، الذي شهد أهم أحداث إنجلترا السياسية ... وزاد في معانيها حرص رئيس الحكومة على دعوة أكبر رجالات الدولة البريطانية إلى مائدة الغداء ليشاركوه في تكريم ممثلي مصر.
ولا يسعني قبل الانتقال إلى موضوع المفاوضة وإلى نتائجها الطيبة، إلا الإشادة بصفات عمرو باشا، كرجل وكسفير ... وقد بدا لي سعادته كعنوان حي للهمة ولحسن التصرف، كما قدم من الخدمات لقضية مصر ما يستحق معه كل ثناء وكل تقدير.
وإذا نسيت فهل أنسى أن زميلي إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس حكومتنا الحالي، أثبت في مناسبة المفاوضات التي جرت بلندن أن رجل الثورة يستطيع متى آن أوان جني ثمراتها أن يكون السياسي الحازم الدقيق، وأن يفسح أمام ناظريه الأفق، فلا يستوقفه التافه من الأمر ويعطل جهوده، ولا يلهيه الخيال الكاذب عن الواقع المحسوس.
المسائل الكبرى في المفاوضات
في فصل سابق أشرت إلى أحاديثي مع المستر بوكر نائب السفير البريطاني، التي انتهت إلى اعتزامي السفر إلى إنجلترا، بعد أن أخبرني جنابه رسميا بما يفيد ارتياح المستر بيفن إلى لقائي ... ويجدر بي هنا وأنا أتحدث عن المباحثات، التي جرت بلندن أن أشير إلى الفوارق الكبيرة بين مفاوضة ومفاوضة ... فبينما كنا بمصر، وجو التحفظ والحذر يحيط بنا من كل جانب ، وبينما كانت كل صغيرة وكبيرة من الشئون، التي كنا نعالجها في المفاوضة مدعاة لأخذ ورد طويلين بين القاهرة ولندن إلى درجة إثارة القلق والسأم - بل التشاؤم من ناحية مصير المفاوضات - جئنا إلى لندن، وإذا الجو الذي صادفنا يتحول إلى الصفاء بعد التلبد، وإذا الصراحة تحل حيث كانت الريب والوساوس.
ولا غرو، فإن مستر بيفن من الطراز الجديد للسياسيين، الذين لا يضيعون الوقت في اللف والمداورة، ويهجمون على الموضوع مزودين بالحجة إذا ما أسعفتهم الحجة، فإذا شعروا بضعف موقفهم انتقلوا إلى موضوع آخر ريثما يعاودون البحث والتفكير في الموضوع الأول، أو يسلمون بوجهة نظر الطرف الآخر في غير تردد طويل أو «مناكفة» ... وكنت أشعر برغبة الوزير في الانتهاء السريع؛ لا لأن السرعة في ديدنه؛ بل لأن تزاحم القضايا العالمية كان يقتضي ذلك ... أضف إلى ما تقدم أن الرجل كان مرتبطا بموعد يحل بعد أيام قلائل في واشنجتون للمباحثة في بعض الشئون الهامة، التي رأى أن يعالجها بنفسه مع الساسة الأميركيين.
وقد وضحت نزعة مستر بيفن، إذ قال في أول جلسة لنا معه - بعد عبارات الترحيب والاستفسار عن الكيفية التي نرى أن تدار بها المناقشات - إنه يعمل دائما وفقا لنظريته المعروفة، وهي «وضع أوراق اللعب مكشوفة على المائدة، فإن ذلك أسهل وأدنى إلى تحقيق الأغراض.»
وفي الواقع أن محادثات لندن لم تدم طويلا، فهي لم تستغرق أكثر من ثمانية أيام، عقدنا فيها خمس جلسات، يضاف إليها بضع جلسات عقدها الخبراء أو هيئة التحرير، وحضرها من الجانب المصري إبراهيم عبد الهادي باشا، وعمرو باشا، وحسن سعيد بك مستشار السفارة، والأستاذ حنا سابا سكرتير هيئة المفاوضة، ويدعوني واجب الإنصاف أن أنوه بالروح الطيبة، التي سادت جميع المناقشات سواء السياسية أو الفنية، وأن أشير إلى المساعدات القيمة التي قدمها وكيل الخارجية «مستر هاو» الذي كان يبدو أنه المعاون الأول لمستر بيفن في شئون هذه المفاوضات ... و«مستر هاو» هذا هو الذي أصبح بعد ذلك «سير روبرت هاو» حاكم عام السودان.
كبرى المسائل التي تناولها البحث
ولقد تناول البحث في أحاديثنا على صورة خاصة مسألة السودان، التي كان لها النصيب الأوفى في المداولات، كما كان تحديد أغراض المعاهدة ولجنة الدفاع المشتركة ومسألة الجلاء من أهم ما دار بشأنه البحث ... وأستطيع أن أقرر هنا أن للجانب المصري أن يفخر بنجاح محقق واضح في كل هذه القضايا المتشعبة النواحي التي تعرض لمعالجتها، وإن نظرة منصفة لمشروع المعاهدة، الذي اتفق عليه الرأي بلندن كفيلة بتأييد ما ذهب إليه أولو الرأي، من أن «مشروع لندن» حقق من التحسين في الصيغ، التي انتهت إليها هيئة المفاوضة المصرية بالقاهرة ما جعله أفضل وأدنى إلى تحقيق الأهداف القومية من كل مشروع سواه ...
مسألة السودان
وإذ تحدثنا عن السودان أظهر مستر بيفن دهشته للاهتمام البالغ الذي يبديه الجانب المصري بشأن هذا الإقليم! فكان ردي عليه أن عدم الاهتمام هو الذي يدعو إلى الدهشة ... أليست مصر كما كتب «هيرودتس» من أكثر من ألفي سنة هي «هبة النيل»؟ أليست مصر هي التي رأت من مصلحتها الحيوية، ومن مقومات كيانها أن تضع يدها على السودان منذ ثلاثة آلاف سنة في عهد تحتمس الثالث، بينما كانت شقيقته الملكة «هتشبسوت» قد استولت على السودان الشرقي، وغزت بلاد الصومال؟
ولقد أدرك مستر بيفن في آخر الأمر أن سيادة مصر لا تحتمل الشك ولا الجدل، وقد سبق لغيره من الساسة البريطانيين - وأخصهم لورد كرومر - الاعتراف بها، غير أنني إذ لاحظت أن القوم سيستغلون مطالبتنا بالسيادة لإظهار مصر في صورة المستعمر الطامع، أوضحت أن مصر لا تقصد منها غير استظهار الوضع، الذي يسمح لها بتقديم جميع صنوف المعاونة، التي ينتظرها الشقيق الأصغر من شقيقه الكبير ذي الحول والخبرة الممتزجين بالعطف والحب. وقد تتمثل هذه المعاني وما يلازمها من تبعات في كلمة «الوحدة تحت تاج مصر المشترك»، وهو الرمز الذي يسعد السودان أن يعيش في ظله ...
ولقد طالت مناقشاتنا في أمر السودان، وتبادلنا بشأنه المذكرات، وعاد مستر بيفن إلى ما كان مستر بوكر وزيره بمصر قد أشار إليه من «وعود»، يقولون إن إنجلترا بذلتها للسودانيين بشأن استقلال بلادهم، متى حانت الساعة وجاء الوقت. وكان ردي أن البلد التواقة إلى الاستقلال - كما كانت مصر دائما - ليست هي التي تقوم في وجهه، وتضع في سبيله العراقيل، غير أن هذا الاستقلال ليس محله معاهدة تبرم بين مصر وإنجلترا، بل ستمنحه مصر يوما ما لشقيقتها الصغرى متى تفاهمنا على أن وقته قد حان، ومتى اتفقنا على الأوضاع التي تحقق مصالح الطرفين.
وقد انتهينا في آخر الأمر مع الجانب الإنجليزي، الذي سلم بوجهة نظرنا على الصيغ الأخيرة بشأن السودان، وكان بحثا احتاج إلى شيء كثير من التشدد المقترن بسلامة التقدير، ومن الإيمان بالحق، حتى إن الفراغ من وضع صيغة البروتوكول السوداني لم يتم إلا في الساعة التاسعة والربع من ليلة 25 أكتوبر سنة 1946؛ أي قبل إمضاء مشروع المعاهدة بفترة يسيرة.
وما كنت لأتصور وقد فزت باعتراف الجانب البريطاني بوحدة الوادي تحت تاج مصر، أن تقوم في وجه هذه النتيجة الباهرة الصعاب من كل فج، والاعتراض من كل ناحية، وإني إذ أفهم رد الفعل في الناحية البريطانية، وفي بعض الأوساط السودانية الواقعة تحت تأثير الفريق الاستعماري من موظفي حكومة السودان، لا أفهم كيف يكون الحل الذي وصلنا إليه محل الانتقاد - بل محل المقاومة - في بعض الأوساط المصرية!
وقد بلغ سروري لبلوغ هذه النتيجة إلى الدرجة، التي دفعتني للاتصال ليلا بالقصر الملكي بالإسكندرية؛ لإبلاغه بأن تاج مصر قد ازدان بدرة جديدة، وأن ملك مصر قد عاد إلى الحدود التي رسمتها الطبيعة وسجلها التاريخ!
وأستميح القارئ بمناسبة التكلم عن التاريخ أن أقول له: كم أنا آسف إذ أغفلت في ذلك الحين مستندا له قيمته بشأن إثبات حقوقنا في السودان؛ وذلك جهلا مني إذ ذاك بوجوده! فقد أرشدني الإخصائيون منذ أسبوعين فقط أثناء زيارة جديدة قمت بها لذلك الأثر الرائع المعلن عما بلغته مصر من عظمة ومن مجد وما أحرزته من إتقان في الفن، وأقصد به أثر الكرنك - أقول إنهم أرشدوني إلى واجهة المعبد الخاص بتحتمس الثالث في داخل المعبد الكبير، وإذا بالنقوش التي تعلو الواجهة المذكورة تمثل الملك الفاتح، ومن حوله الرموز التي تشير إلى فتوحاته، وإذا جانب كبير من هذه الرموز يتعلق بالمقاطعات السودانية، التي ضمت في عهده إلى الإمبراطورية المصرية، وهي تمتد في الجنوب إلى خط الاستواء!
أليس هذا المستند الذي يرجع إلى بضعة آلاف من السنوات، مما لم تفز به دولة أخرى غير مصر في صدد الدفاع عن حقها أمام شره الطامعين؟!
أغراض المعاهدة
كانت المادة الثانية من مشروع المعاهدة، وهي المتعلقة بالأغراض التي توخاها الطرفان من ربط بعضهما ببعض لدرء العدوان، محل بحث مستفيض في لندن، أدى بحمد الله إلى تحقيق وجهة النظر المصرية، وحصر التدخل البريطاني في أضيق الحدود، وقصر المعاونة المصرية على ما هو لازم لمصلحة مصر صونا لحقوقها هي وذودا عن حدودها ...
ويذكر القارئ أن الجانب البريطاني كان يلح قبل ذهابنا إلى لندن في قبول مصر لنظرية التدخل متى وجدت حالة الخطر، ولاحت نوايا المعتدين ... وكان هذا الجانب يلح أيضا في مد التزامات مصر إلى حالة الاعتداء على البلاد «المجاورة»، لا على البلاد «المتاخمة» ... أما الجانب المصري، فقد كان همه الأول عدم تعريض البلاد لعودة الجيوش البريطانية بعد جلائها؛ تذرعا بأسباب قد تكون من نسج الخيال، أو بناء على أوهام تقوم في أذهان البريطانيين نتيجة لانقلابات سياسية، أو نزاع دولي لا يمت إلى مصر بسبب. كذلك كان الجانب المصري شديد الرغبة في حصر التزاماته ضمن الحدود، التي رسمها ميثاق الأمم المتحدة، بمعنى أن لا تتعدى المحالفة العسكرية مع إنجلترا الزمن الذي تصبح فيه جامعة الأمم قادرة على درء العدوان بوسائلها الخاصة. وأخيرا كان الجانب المصري يرمي بشدة إلى ضرورة إجراء مشاورات بين الحليفتين، قبل أن تتحرك جيوشهما؛ وذلك تمكينا لمصر من أن تقترح، أو تعمل على إيجاد الحلول التي تباعد بينها وبين المخاطر التي تجرها الحروب ...
وقد نجحنا في حمل البريطانيين على قبول جميع رغائبنا هذه، وأصبحت المادة الثانية من مشروع المعاهدة، بحيث جنبت مصر مواطن الأخطار جميعا، وحصرت التزاماتها في أضيق الحدود، بل مكنت من تحديد الصيغ تحديدا أدخل التحسين على مركز مصر، ما سيأتي الكلام عنه متى انتقلنا إلى موضوع المناقشات، التي جرت بمصر بعد عودتنا من رحلة لندن.
وسنتحدث في المقال القادم عن «لجنة الدفاع المشتركة» و«موعد الجلاء»، ثم نأتي بعد ذلك على نصوص مشروع المعاهدة، كما صيغت بلندن وعلى ملابساتها.
مفاوضاتي في لندن
لجنة الدفاع المشترك
كان لا بد لنا من بذل الجهود المستطاعة؛ لإبعاد ما رسخ في ذهن الكثيرين من أن هذه اللجنة قد يؤدي وجودها إلى شبه سيطرة، يستمدها مندوبو الدولة البريطانية من قوة دولتهم وعظم وسائلها، فترهق مصر بالمطالب من طريق الضغط على المصريين من أعضاء اللجنة، وهم أقل خبرة من زملائهم البريطانيين، وأبعد عن إدراك الملابسات السياسية والحربية ... وقد خشي الوفد المصري للمفاوضات أثر اشتغال اللجنة بدراسة الأحوال القائمة في البلاد القريبة من مصر ومبلغ الخطر منها على السلام؛ مما قد يجرنا من حيث لا نشعر في مشكلات قد تؤدي إلى الوقوع في المصاعب والمخاطر.
أدرك الجانب البريطاني بغير عناء كبير أن من حسن السياسة العمل على إزالة الوساوس القائمة في نفوس المصريين من هذه الناحية، فقبل المفاوضون الإنجليز ما عرضناه من النص الصريح على الصفة الاستشارية للجنة، وقبلوا ما هو أهم من ذلك، وأعني به عدم تعرض اللجنة «لبحث الأثر المترتب على الحالة الدولية»، إلا إذا طلبت الحكومتان منها ذلك وقدمتا لها المعلومات التي تعين على هذا البحث ... وواضح من مثل هذا القيد أنه لم يبق مجال لأن تتعرض اللجنة لاقتراحات، أو لأن تشير بتدابير لا يكون مصدرها الحكومات نفسها. فإذا ما وثقنا أنها لن تعمل عملا أو تدبيرا أيان كان خطره، إلا إذا كان بوحي من حكومة مصر وبموافقتها، امتنع كل داع للريبة من ناحية تصرفات اللجنة، التي يصبح عملها مقصورا على البحث الفني، واختصاصها بعيدا عن صفة التنفيذ.
وسنتكلم فيما بعد؛ أي عندما ندخل في تفاصيل الاعتراضات التي واجهتها بمصر لدى عرض الصيغة الخاصة باللجنة المشتركة، عن قيمة هذه الاعتراضات وما قدمناه من أدلة على قلة أثرها، ويكفي أن أشير إلى أن هذه اللجنة - وقد أنشئ في كثير من البلاد التي ارتبطت بمحالفات عسكرية نتيجة لاتفاقات إقليمية - قد بلغت بها قوة هذه الارتباطات درجة روعي معها إنشاء إدارات مخصوصة خارجة عن نطاق الدولة، وتعيين قواد أجانب يقيمون في أحد البلاد الداخلة في الحلف مزودين باختصاصات ما كنا لنقبل مثلها أو شبيها بها ولو من بعيد!
الجلاء ... وموعده
لم يأت مستر بيفن بجديد فيما يتعلق بتقريب موعد الجلاء، واكتفى بأن يستدر العطف على الجندي البريطاني، الذي لا يزال بعد متاعب الحرب الضروس التي عانى أخطارها واكتوى بنارها يقيم بالخيام في فيافي مصر وصحاريها، بينما قد استحق الراحة التي تؤهله لها خدماته للإنسانية ولمصر بنوع خاص، وما تأخير سنة عن الموعد الذي يظهر أن مصر قد تقبله اتباعا لرأي الخبراء بالشيء الكثير؛ وهو لذلك يطلب أن يكون موعد الجلاء التام نهاية سنة 1950، إذ بذلك يمكن كسب الوقت الكافي لإقامة الأبنية اللازمة بالبلاد، التي تنتقل إليها الجنود بعد جلائها عن مصر ...
ويقول المستر بيفن: إن تأخير الجلاء لا ينبغي أن يعتبره المصريون مرهقا لهم وجارحا لشعورهم، بل إن له لنتائج تعود على مصر وعلى بلاد العالم التواقة للسلام بأعظم الفوائد، فقد يغري «الفراغ» الذي يحدثه الجلاء العاجل دولا عرفت بالعدوان، وباقتناص فرص السيطرة على العالم، فيستخدمه في قضاء الغايات التي جعلتها من أهدافها ... ولا شك أن كسب سنة في سبيل بقاء القوة، التي يعمل لها الخصوم ألف حساب لن يكون إلا في مصلحة السلام ...
وقد تحدثنا كثيرا في هذه المسألة، وذكرنا ما لها من تأثير في إحساس المصريين، الذين انتظروا طويلا الوفاء بالوعود التي بذلت لهم، فإذا دبت الشكوك من جديد في نفوسهم نحو حق استعداد البريطانيين للجلاء العاجل، أضعنا الكثير من الثقة التي ننشدها، باعتبارها الدعامة القوية التي تستند عليها المعاهدة ... وقد انتهينا في آخر الأمر إلى تحديد يوم أول سبتمبر سنة 1949؛ لإتمام عمليات الجلاء الشامل جوا وبحرا وبرا ، وأظنني في حل الآن من أن أقول: إن غالبية خبرائنا العسكريين ما كانوا ليقدروا لنهو الجلاء مدة أقل من تلك التي قبلناها بلندن، وكان رئيسهم قد أبدى في ذلك رأيا قاطعا ... وإنه لمما يدعو للأسف أن اليوم الذي أسطر فيه هذا الكلام لم يبق بينه وبين الموعد المتفق عليه للجلاء غير بضعة أشهر، وإني لأسائل نفسي: هل أصبحت الظروف السياسية والعسكرية السائدة على الموقف، مما يؤمل معه إنجاز الجلاء في الموعد الذي فزنا بتحديده؟
بيفن يقنع زملاءه
هذه هي المسائل التي دارت من أجلها مباحثات لندن، وهناك طائفة من المسائل الثانوية التي اتفقنا عليها أيضا، كما أن من المسائل ما أرجأنا بحثه؛ لأن موضوعاتها مما لا يحتاج لتدوين عاجل، بينما هي لا تؤثر على شروط المعاهدة.
وإذ جاءت الساعة التاسعة والربع مساء من يوم 25 أكتوبر سنة 1946، وكنا مجتمعين بغرفة الاستقبال المخصصة لنا بفندق «كلاردج» تلا المستر بيفن الوثيقة، التي اقترح أن تكون مرافقة لمشروع المعاهدة، وقال: إنه كان قد وعد صدقي باشا بأن يؤيد «بحرارة» هذا المشروع لدى مجلس الوزراء، ومضى قائلا: إنه ليكفي صدقي باشا أن يعلم أن جهوده - أي جهود مستر بيفن - ستبذل في سبيل إقرار المجلس للمشروع المعروض، فإذا لم يفز بهذا الإقرار استقال من منصبه ... هذا هو الذي قاله مستر بيفن أمام جميع الحاضرين، على أنه اختلى بي بعد ذلك، وأسر إلي بأنه قد أطلع مجلس الوزراء فعلا على المشروع، فوافق عليه بصفة غير رسمية.
وقد عملت صور للمشروع، وأمضيت بالأحرف الأولى من أسماء مستر بيفن ولورد ستانسجيت وإبراهيم عبد الهادي باشا وسير رونالد كمبل، واسمي ... وفيما يلي نص مشروع المعاهدة التي أطلق عليها اسم «معاهدة صدقي - بيفن.»
معاهدة صدقي - بيفن
هذا هو النص الرسمي لمشروع المعاهدة، الذي وضع في لندن باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ووقعته بالحروف الأولى من اسمي مع المستر أرنست بيفن، الذي وقعه بالحروف الأولى هو وبقية ممثلي الجانبين المصري والبريطاني، وقد ترجمت النص بنفسي، وأعتبر هذه الترجمة هي النص الرسمي الصحيح دون سواه :
صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندة والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
وصاحب الجلالة ملك مصر.
مدفوعين برغبتهما الخالصة في تمكين علاقات الصداقة، وحسن التفاهم فيما بينهما، وتأسيس هذه العلاقات على أسس أدعى لتقوية هذه الصداقة.
وراغبين في عقد معاهدة مساعدة متبادلة؛ هدفها تدعيم ما بينهما من روابط المودة، والعمل - بوساطة تبادل المعاونة والمساعدة - على تقوية النصيب، الذي يستطيع كل منهما الاضطلاع به في سبيل حفظ السلام، وصيانة الأمن الدولي، طبقا لميثاق هيئة الأمم المتحدة.
فقد عينا المذكورين بعد: ... بصفة كونهم مفاوضين عنهما.
المادة الأولى:
ينتهي العمل بمعاهدة التحالف الموقع عليها بلندن في 26 أغسطس سنة 1936، والمذكرة المقبولة الملحقة بها، وكذلك المذكرات والاتفاق المؤرخة في 26 أغسطس سنة 1936 بخصوص الإعفاءات والمزايا، الملحقة أيضا بهذه المعاهدة.
المادة الثانية:
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أنه في حالة ما إذا أصبحت مصر محل اعتداء مسلح، أو في حالة ما إذا اشتبكت المملكة المتحدة في حرب كنتيجة لوقوع اعتداء مسلح على البلاد المتاخمة لمصر، فإنهما يتخذان بالتعاون الوثيق، وبعد المشاورة؛ أي إجراء تتبين ضرورته، ريثما يتخذ مجلس الأمن الوسائل اللازمة لإعادة السلم.
المادة الثالثة:
تحقيقا للتعاون وتبادل المساعدة بين الطرفين الساميين المتعاقدين، وتمكينا من تنسيق التدابير التي تتخذ لدفاعهما المشترك، تنسيقا فعالا، قد اتفقا على تكوين لجنة دفاع مشتركة من السلطات الحربية المختصة لدى الحكومتين، يعاونها من ترى الحكومتان ضمه إليها من المندوبين.
وهذه اللجنة هي أداة استشارية مهمتها أن تدرس - لكي تقدم اقتراحاتها إلى الحكومتين عما توصي به من الإجراءات - المسائل الخاصة بالدفاع المشترك عن الطرفين الساميين المتعاقدين في البر والبحر والجو، بما في ذلك مسائل العتاد والرجال المتعلقة بها، وخصوصا ما يتعلق من الشروط الفنية بتعاون الفريقين، والتدابير التي تتمكن بها قواتهما المسلحة، بصفة فعالة، من مقاومة الاعتداء.
وتجتمع هذه اللجنة كلما اتضحت ضرورة ذلك لمزاولة مأموريتها، وعند الاقتضاء تدرس اللجنة أيضا - بناء على دعوة الحكومتين، وعلى أساس المعلومات المقدمة من كلتيهما - العواقب العسكرية للحالة الدولية، وبخاصة أية حوادث من شأنهما تهديد الأمن في الشرق الأوسط، وتقدم في هذا الصدد إلى الحكومتين التوصيات الملائمة، ويكون على الحكومتين في حالة وقوع حوادث مهددة لأمن أي بلد من البلدان المجاورة لمصر؛ أن تتشاورا لكي تتخذا بالاتفاق بينهما أية إجراءات قد ترى ضرورتها.
المادة الرابعة:
يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بأن لا يعقدا محالفة ما، ولا يندمجا في حلف قائم، تكون أغراضهما مضادة لمصالح أحدهما.
المادة الخامسة:
لا يجوز أن أي شرط من شروط هذه المعاهدة يحدث تأثيرا، بأية صورة كانت، في الحقوق والالتزامات المترتبة أو التي قد تترتب، لواحد أو الآخر من الطرفين الساميين المتعاقدين، على ميثاق هيئة الأمم المتحدة.
المادة السادسة:
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أنه - مع عدم المساس بما صار إعلانه من كليهما؛ تطبيقا للفقرة 2 من المادة 36 من نظام محكمة العدل الدولية - كل خلاف على تطبيق، أو تفسير نصوص هذه المعاهدة يكون قد تعذر عليهما حله بمفاوضات تجرى بينهما، يصفى طبقا لنصوص هيئة الأمم المتحدة.
المادة السابعة:
يجب التصديق على هذه المعاهدة (التي يعتبر نصاها الإنجليزي والعربي رسميين)، وتتبادل وثائق التصديق في القاهرة في أقرب وقت مستطاع، وتدخل المعاهدة في دور التنفيذ من تاريخ تبادل هذه الوثائق، وتبقى هذه المعاهدة نافذة المفعول لمدة عشرين عاما من تاريخ دخولها في دور التنفيذ، كما أنها تستمر بعد ذلك نافذة المفعول إلى أن تنقضي مدة عام، بعد أن يعلن عدم تجديدها من أحد الطرفين الساميين المتعاقدين إلى الطرف الآخر بالطرق الدبلوماسية.
وتأييدا لما تقدم ...
بروتوكول خاص بالسودان
إن السياسة التي يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان باتباعها في السودان، في نطاق الوحدة بين مصر والسودان تحت تاج مشترك هو تاج مصر، سيكون هدفها الأساسي رفاهية السودانيين، وتقدم مصالحهم وتهيئتهم تهيئة مجدة للحكم القانوني، ومزاولة ما يترتب عليه من حق اختيار نظام الحكم في السودان مستقبلا.
وانتظارا لأن يستطيع الطرفان الساميان المتعاقدان بالاتفاق بينهما، وبعد استشارة السودانيين تحقيق الهدف الأخير يحتفظ بمعاهدة سنة 1899، كما أن المادة 11 من معاهدة سنة 1936 وملحقاتها، والفقرتين 14 و16 من المذكرة المرفقة بالمعاهدة المذكورة تبقى نافذة المفعول ، دون اعتبار لحكم المادة الأولى من هذه المعاهدة.
بروتوكول خاص بالجلاء
اتفق الطرفان الساميان المتعاقدان على أن الجلاء التام عن الأراضي المصرية (مصر) بوساطة القوات البريطانية، يجب أن يكون قد تم في أول سبتمبر سنة 1949.
وأن مدينتي القاهرة والإسكندرية والدلتا يجب أن تكون قد أخليت قبل 31 مارس، سنة 1947، وأن يستمر في إخلاء باقي الأراضي المصرية، غير منقطعة أثناء المدة المنتهية بالتاريخ المقرر في الفقرة الأولى.
وتستمر نصوص اتفاقية 26 أغسطس سنة 1936 الخاصة بالإعفاءات والمزايا نافذة، بصفة انتقالية، لصالح القوات البريطانية أثناء سحبها من مصر، وكل تعديل للاتفاقية البادي ذكرها تتضح ضرورته لداعي لزوم إخلاء الدلتا والمدينتين، قبل 31 مارس سنة 1947 يصير تقريره باتفاق جديد تحصل المفاوضة فيه بين الحكومتين قبل ذلك التاريخ.
قد اتفق على أن المستندات المرفقة طيه لم توضع إلا على سبيل المراجعة، على أنه من المقرر أنه في حالة ما إذا لم يدخل عليها من جانب الحكومة المصرية أي تعديل بعد عرضها عليها رسميا، فإن المستر بيفن سيوصي الحكومة البريطانية بقبولها.
ملحقات (1)
مشروع معاهدة إنجليزية مصرية. (2)
مشروع بروتوكول خاص بالسودان. (3)
مشروع بروتوكول خاص بالجلاء.
وضعت الحروف الأولى الآتية على هذا المستند: (أ. س.) أي: دولة إسماعيل صدقي باشا. (أ. ب.) أي: سعادة المستر آرنست بيفن. (س.) أي: اللورد ستانسجيت. (ه.) أي: معالي إبراهيم عبد الهادي باشا. (ر. ك.) أي: سعادة السير رونالد كامبل.
وحدة الوادي في المفاوضات
في الجلسة قبل الأخيرة لمفاوضات لندن وجه لي مستر بيفن السؤال الآتي: «ماذا تنوون في أمر اللقب الذي يتخذه ملك مصر، متى اتفق على تمثيل وحدة الوادي في تاج مشترك؟ وهل يكون هو اللقب القديم الذي كان قد اتخذه لنفسه الخديو «إسماعيل»؟ فأجبته أن ذلك اللقب الذي اعترفت به إذ ذاك الدولة العثمانية، وهو «خديو» مصر وصاحب
souverain
بلاد النوبة والدارفور، وكردفان والسنار ... قد لا يتفق في تفاصيله مع بعض الأوضاع الحالية؛ ولذلك فإن النية تتجه إلى أن يكون اللقب «ملك مصر والسودان» وكفى ... وقد وضح أن مستر بيفن لم يكن له على هذا اللقب اعتراض، فقد قبل النص الذي يشير إلى ذلك ببروتوكول السودان، وهو نص التاج المشترك الموحد.
وقد بدا لبعض البريطانيين غريبا - حتى للرسميين منهم - أن يصدر مني بعد عودتي لمصر ما يفيد أنني وصلت إلى تحقيق الوحدة ممثلة في التاج ... ويقيني أن مغادرتي للندن فور انتهائي من المحادثات، ومن التوقيع على المشروع، ومغادرة مستر بيفن في الوقت نفسه للعاصمة البريطانية شاخصا إلى واشنجتون، كأن من شأنهما إفساح المجالات لشتى الدسائس، التي كان الغرض منها تصوير بريطانيا، سواء للبريطانيين غير الملمين بحقيقة الأغراض التي توخيناها نحن المفاوضين، أو لفريق السودانيين الواقعين تحت تأثير دعاة الاستعمار من موظفي حكومة السودان، في صورة الناقض للعهد، الجانح إلى خدمة الأطماع المصرية على حساب آمال «السودان»!
والواقع أن شيئا من ذلك لم يكن ليهدف إليه أحد من طرفي المتفاوضين، وقد سبق لي أن أوضحت ذلك بما لا يدع مجالا للبس ولا للريبة، فمحاضر المفاوضة ناطقة بأن مصر التواقة بفطرتها للاستقلال، لن تقف دون تحقيق الاستقلال لغيرها، وبالأخص إذا كان هذا الغير هو الشعب الشقيق، وإذا كان موعده هو متى آن أوانه، وبلغت الأمة السودانية الشأو الذي تنشده وننشده لها.
إذن لم يكن هناك ما يدعو للصيحة وللضجة اللتين رددهما المغرضون، سواء بالخرطوم أو بلندن، لما علموا بتحقيق الوحدة بين القطرين، وقد فهم مني مستر بيفن مما هو مدون في مضابط جلسات المفاوضة؛ أن مصر لن تعارض في استقلال السودان، على أن يتفق الجانبان على أن موعده قد حان، وأن هناك تفاهما وتوافقا على الأغراض والمصالح المشتركة بين القطرين، ولعمري ما كان لمستر بيفن أن يقبل النص الذي عرضه الجانب المصري - وهو نص واضح الأغراض مستكمل المرامي - ما كان ليقبله، ومسألة السودان هي النقطة الشائكة في محادثاتنا، النقطة التي تركزت فيها آراء بعض الدوائر البريطانية، فرفعوها إلى مصاف العقائد، ولكننا حرصنا - نحن المصريين - على أن تكون الصيغة، وما تؤدي إليه من معان صيغة بريئة محققة لكل الأهداف المشروعة، ومرضية قبل كل شيء لإخواننا السودانيين، فلما أيقن ذلك مستر بيفن - وهو الرجل الذي يوازن بين كل الاعتبارات غير عابئ بما يلقاه من عنت أو سوء إدراك حتى من مواطنيه - نزل على الرغبة المصرية، التي لا تتعارض مع أية مصلحة يسلم بها الحق ويقتضيها العدل. •••
لقد وصلت ومن معي إلى مطار ألماظة عائدين من لندن، وكانت حالتي الصحية من السوء، بحيث تسلم أمري الأطباء على الفور، ولم أتمكن من الاتصال إلا قليلا بأعضاء هيئة المفاوضة المصرية، بل وبالرأي العام ممثلا في طبقاته المستنيرة.
على أنني منذ غادرت مصر، وقبل ذلك بوقت ليس بالقصير، أدركت أن هناك من العوامل السافرة والخفية ما كان لا بد من أن يفعل فعله ويحدث أثره، فالمعارضة بالمرصاد، وقد غذاها طول الأخذ والرد، وشجعها ما كان قد عرف من اتجاهات بعض حضرات المفاوضين ...
يد شيوعية تلعب في الخفاء
وإذا ذكرت العوامل الخفية فلا بد، للحقيقة وللتاريخ، أن أذكر هنا أن مساعي إحدى الدول الشيوعية الكبرى، اتجهت بكل قوتها وبكل وسائلها، إلى إفشال كل محاولة للتقرب بين مصر وإنجلترا ... وقد نجحت هذه الدولة على الخصوص في إقناع الكثيرين منا، بأن قضية مصر ليس لها من حل إلا على يد مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة، وأنها كفيلة (أي: هذه الدولة) بتوجيه هذه الهيئات إلى ما يحقق أغراض مصر، دون تمكين لإنجلترا من أن تنفرد بمصر فتطلق لمطامعها العنان، وتستأثر بمزايا الحلف الذي سوف يمتد - بحسب تقديرها - إلى الشرق الأدنى جميعا!
وعلى الرغم من أن أنباء المفاوضة كانت قد سبقتني إلى مصر، وعرف منها المطلعون على الحقائق، بل وغير المطلعين أنها مرضية بوجه عام، فقد فهمت أنني لن ألقى تأييدا يتفق مع ما حصلنا عليه من نتائج، ووضح ذلك من تغيير آراء أولئك الذين كانوا إلى العهد الأخير متحمسين للمعاهدة، حتى قبل أن يدخل عليها ذلك التحسين الملموس، وكانت حجة البعض أن الرأي العام لم يعد يطيق المحالفة، وما تستتبعه من التزامات، وليس يرغب إلا في تحقيق الجلاء والاعتراف بسيادة مصر على السودان، وما على إنجلترا إلا أن تحزم أمتعتها، وتخلي المكان بغير إمهال!
وعبثا كنت تحاول مع أولئك المعارضين المستنيرين منهم وغير المستنيرين، أن تعود بهم إلى الرأي الإجماعي الذي صدر به قرار الهيئة السياسية في عهد المرحوم أحمد ماهر باشا، من أنه لا بد لمصر من أن يكون لها حليف ذو بأس، وذلك إلى أن يقوى ساعد جامعة الأمم الجديدة وينتظم حالها، فقد كان هذا القول يرتطم بدعوى نفور الرأي العام من كل اتفاق يظنون دائما أن الضغط الأجنبي كامن من خلفه!
خيبة أمل
ولقد رجوت إذ ذاك زميلي إبراهيم عبد الهادي باشا أن ينوب عني في إطلاع أعضاء هيئة المفاوضة المصرية، على ما وصلنا إليه من نتائج، فتفضل وقام بهذه المهمة، ولما عاد إلي وأنا على فراش المرض لحظت في عباراته ما يدل على شيء من خيبة الأمل!
ولما سمح لي الطبيب بأن أتصل بالهيئة دون أن أبرح منزلي، تبين لي من أول اجتماع أن الزملاء في غالبيتهم كانوا حريصين لا على استظهار مزايا المعاهدة الجديدة، ولكن على التنقيب وراء كل ما يمكن أن يكون محلا للنقد ... وهكذا كانت مناقشات هيئة المفاوضة مظهرا من المظاهر المخيبة لآمال جميع التواقين إلى تصفية ما بين مصر وإنجلترا، من مشكلات طال أمد حلها ... فلما وصلنا إلى هذا الحل وحققنا الأمنيتين الغاليتين العزيزتين - الجلاء ووحدة الوادي - اصطدمنا بالعراقيل وبالاعتراضات، وكلها غير ذات وزن يذكر أمام جدية النتائج، التي وصلنا إليها وقوتها مما سنقيم عليه الدليل، وقد أصبحنا في حالة من أغرب ما يمكن أن يصادف بلدا يسعى إلى تحقيق أهدافه ... حالة تقوم على مرأى من الخصوم، ومن الأصدقاء على السواء، والكل في حيرة من أمرنا: يفيق المستعمرون من الإنجليز، فيتبينون أن مصر أفادت فوق ما كان ينتظر أن تفيد من سخاء ساستهم، بينما يعمل البعض منا على تصوير مكاسبنا البارزة الواضحة في الصورة، التي تثير الريب وتبلبل أفكار المواطنين، فينتهي الحال بأن يكون الفائز، لا نحن - وقد كلل سعينا بالنجاح - ولكن المستعمر الذي كانت قد أفزعته مساعينا الناجحة، وما كان ليقدر أن يأتيه الفرج والخلاص من ناحيتنا نحن لا من ناحيته.
ردي على المعارضين
تحدثنا في الفصل السابق عن معارضة غالبية هيئة المفاوضة لمشروع المعاهدة المبرمة في لندن، وقلنا: إن هذه المعارضة لم تكن مبنية على أسباب لها وزن يذكر، ووعدنا بإقامة الدليل على سلامة موقفنا، وعلى ما قلناه من أن ما عدنا به من لندن يعتبر تحسينا ذا شأن حتى على مشروع الهيئة، الذي اعتبر بالإجماع المشروع الذي لا يمكن قبول ما هو أدنى منه ... ويقتضينا الإنصاف - وقد نشرنا فيما مضى المشروع الذي أقررناه أنا ومستر بيفن في 25 أكتوبر سنة 1946 - أن نورد هنا نص البيان، الذي نشرته غالبية هيئة المفاوضة المصرية، في 26 نوفمبر سنة 1946، وقد تضمن الأسباب التي دعت هذه الغالبية إلى عدم الموافقة على المشروع الجديد: (1)
بتاريخ 17 سبتمبر سنة 1946 تقدم الجانب البريطاني بمشروع اتفاق نص في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه على أنه «في حالة تهديد سلامة أية دولة من الدول المجاورة لمصر، اتفق الطرفان الساميان على أن يتشاورا معا؛ لأجل القيام بالعمل الذي تتبين ضرورته، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لإعادة السلم إلى نصابه.»
ولكن الهيئة رفضته في مذكرتها الإجماعية، التي أقرتها بجلسة 23 سبتمبر سنة 1946 لما تبين لها من أن الارتباط به قد يؤدي إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية، وما يستتبع ذلك من احتمال عودة القوات البريطانية إلى احتلال أراضيها، فضلا عن أن عبارة «تهديد السلامة» عبارة مطاطة تحتمل تأويلات متباينة.
وبمراجعة مشروع «بيفن - صدقي» يتبين أن هذا النص، وإن كان قد حذف من المادة الثانية إلا أنه أضيف بما يحقق كل معناه، ويكاد يتفق مع حرفه، إلى المادة الثالثة.
ولم يكن من المستطاع أن نقبل ما سبق أن تقرر رفضه بالإجماع، ولا أن نجيز نصا يجر البلاد إلى الاشتراك في اتخاذ تدابير غير محددة، قد يكون منها تعكير صفو العلاقات الودية بين مصر ودولة أخرى، أو تسليم مرافقنا أو بعضها إلى السلطات العسكرية البريطانية، مما يؤدي - كما سبق القول - إلى اتخاذ مصر قاعدة لأعمال حربية .
أما إبدال كلمة «عمل» بكلمة «تدابير»، فإنه لا يغير من الموقف شيئا؛ لأن من التدابير ما قد ينتهي إلى أعمال عدائية أو ذات نتائج خطيرة. (2)
أما عن مطلبي الأمة الأساسيين: الجلاء ووحدة وادي النيل، فقد وقع إجماع الهيئة - فيما يختص بالجلاء - على أن تقدير ثلاث سنوات أجلا لإتمامه تقدير مبالغ فيه، وأن الجلاء مستطاع في أقل من هذا الأجل بكثير من الناحية المادية، وخاصة إذا لوحظ أن العمليات الحربية توقفت توقفا تاما منذ أكثر من سنة، وكان من المفروض أن تبدأ القوات البريطانية، التي جلبت بسبب الحرب في الجلاء عن المدن والأراضي المصرية، عقب توقف العمليات الحربية مباشرة، لا سيما وأن معاهدة سنة 1936 نفسها لم تجز لهم إلا البقاء في منطقة محدودة، وبقوات محدودة العدد لا تزيد على عشرة آلاف جندي وأربعمائة طائرة.
الجلسة الأولى بين وفد المفاوضين المصريين والبريطانيين، وقد وقف اللورد ستانسجيت يلقي خطابه وإلى يمينه السفير البريطاني - سير رونالد كامبل.
وصل إسماعيل صدقي باشا إلى لندن في 17 أكتوبر سنة 1946 لاستئناف المفاوضات مع مستر أرنست بيفن - وزير الخارجية البريطانية - وقد وقفا في انتظار مستر كليمنت اتلي رئيس الوزارة. (3)
وقد كان البروتوكول الخاص بالسودان، طبقا للنص الذي اقترحته الهيئة يتضمن تعهد الطرفين «بالدخول فورا في مفاوضات بقصد تحديد نظام الحكم في السودان في نطاق مصالح الأهالي السودانيين، على أساس وحدة وادي النيل تحت تاج مصر.»
وجاء النص في مشروع الاتفاق الأخير بأن «السياسة، التي يتعهد الطرفان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان، تحت تاج مصر المشترك ستكون أهدافها الأساسية تحقيق رفاهية السودانيين، وتنمية مصالحهم وإعدادهم إعدادا فعليا للحكم الذاتي، وتبعا لذلك ممارسة حق اختيار النظام المستقبل للسودان، وأنه إلى أن يتسنى للطرفين بالاتفاق بينهما تحقيق هذا الهدف، بعد التشاور مع السودانيين تظل اتفاقية سنة 1899 سارية، وكذلك المادة 11 من معاهدة سنة 1936 مع ملحقها، والفقرات من 14 إلى 16 من المحضر المتفق عليه المرافق للمعاهدة المذكورة نافذا.»
ومن المقارنة بين النصين يتبين:
أولا:
أنه بينما يشير مشروع - بيفن صدقي - في الفقرة الأولى إلى السياسة، التي يتعهد الطرفان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج مصر، فإن الفقرات التي تلتها تجرد الوحدة من كل خصائصها.
ثانيا:
يحتفظ النص المشار إليه بالحالة الراهنة في السودان، دون أن يعد بإجراء أية مفاوضات لتعديلها بما يتفق مع الاعتراف بوحدة البلدين تحت تاج مصر.
ثالثا:
أن النص على تخويل السودان حق اختيار نظامه المستقبل يمهد السبيل لفصل السودان عن مصر، ويلزمنا منذ الآن بقبول مبدأ الفصل، وفي ذلك هدم حتى للوحدة الاسمية في ذاتها، فإذا قورن ذلك بما هو جار فعلا في السودان الآن تبينت خطورة النتائج المترتبة على هذا النص.
ولا عبرة بما جاء في المذكرة التفسيرية، التي أعدها دولة صدقي باشا من أن كل تعديل يطرأ على نظام الحكم في السودان إنما يكون في نطاق الوحدة، فإنه فضلا عن أن عبارة النص جلية في هذا الصدد، فإن تفسير دولة صدقي باشا تفسير من جانب واحد غير ملزم للطرف البريطاني.
وغني عن البيان أن حرصنا على تحقيق وحدة وادي النيل وحدة فعلية لا ينطوي على أية نية من نوايا التوسع أو الاستعمار، ولكنه حرص جاء محققا لما تجلى من رغبة شعب وادي النيل، في تأليف وحدة تؤكدها الروابط التاريخية والجغرافية والاقتصادية والروحية، ولا تتعارض مع رغبة المصريين والسودانيين معا في إقرار الحكم الذاتي للسودان، بل تساعد عليه.
لهذه الأسباب رفضنا المشروع بوضعه الجديد، ورأينا إصدار هذا البيان الموجز؛ توضيحا للموقف الذي آثرناه قياما بواجبنا، وتأدية للأمانة الموكولة إلينا.
شريف صبري - علي ماهر - عبد الفتاح يحيى - حسين سري - علي الشمسي - أحمد لطفي السيد - مكرم عبيد
وقد كان للبيان الذي أعلنه حضرات أعضاء الغالبية من المفاوضين المصريين أهميته وخطورته، وكان له بطبيعة الحال أثر ذو شأن على الرأي العام، وإن لم يمتد هذا الأثر إلى البرلمان ... وننشر اليوم البحث المقارن الذي وضعناه في مختلف المشروعات، وأخصها مشروع هيئة المفاوضة ومشروع لندن.
ختام المفاوضات
تضمن الفصل السابق نص البيان الذي وضعته غالبية هيئة المفاوضة المصرية ، التي رأت رفض المشروع الذي عدنا به من لندن في وضعه الجديد، ولم يكن هذا البيان محل بحث ومداولة في الهيئة، التي كان مزمعا عقدها من جديد، لعرض البيانات التفصيلية والردود التي كنا نؤمل معها إقناع الهيئة بسلامة موقفنا، وبصواب الآراء التي انتهينا إليها، واتفاقها لا مع مصلحة البلاد فحسب، بل مع التوجيهات العامة والمفصلة، التي كانت الهيئة قد أشارت بها، فوصلنا مع الجانب البريطاني إلى ما هو أفضل منها، مما بيناه فيما سبق بالتفصيل، وكنا قد وضعنا من أجل ذلك بحثا مقارنا نشره «المصور» لم نترك فيه نصا ولا اعتراضا إلا وسلطنا عليه أنوار الحقيقة والواقع، وفندنا فيه ما جاء على لسان بعض أعضاء الهيئة من اعتراض ... على أن البحث المذكور - وقد وضع الآن تحت نظر الكافة - لم يفز بأية عناية من جانب غالبية الهيئة، التي أصرت على موقفها إلى الدرجة التي رأت معها تجنب كل مداولة جديدة، والإصرار على الرفض بغير ما بحث ولا مناقشة.
وقد أدت هذه الحالة الواضحة الشذوذ إلى استصدار مرسوم بحل الوفد الرسمي للمفاوضات، بني على أن أغلبية هذه الهيئة أعلنت جهارا رأيها في المفاوضات الجارية، وبذلك أصبحت مهمتها غير ذات موضوع ... ولما كان المتفق عليه مع الجانب البريطاني هو عرض المشروع على مجلس وزرائهم، فقد أبلغنا عمرو باشا تلغرافيا أن مجلس الوزراء، الذي عرض عليه المشروع لدى عودتنا من لندن فأقره، قد أعاد النظر فيه تفصيلا بجلسة خاصة، فأيد قراره الأول بإجماع آراء أعضائه، ولم يكتف المجلس بذلك بل رأى - على أثر بعض استجوابات تقدمت بمجلس النواب - أن يكون مشروع المعاهدة محل بحث هذه الهيئة في جلسة سرية، تطلب فيها الحكومة منحها الثقة اللازمة للمضي في تحديد العلاقات المصرية البريطانية تحديدا يتفق وأهداف البلاد.
وقد عقدت جلسة مجلس النواب في اليوم التالي لقرار مجلس الوزراء، ووضعت تحت أنظاره جميع البيانات الخاصة بالموضوع بما فيها اعتراضات غالبية هيئة المفاوضة، وردودنا عليها، فنالت الحكومة الثقة بغالبية 159 صوتا مع امتناع ثلاثة أصوات، وتخلف 55 نائبا، اعترضوا على سرية الجلسة، فانسحبوا من المجلس ولم يشتركوا في المداولات.
ومما هو جدير بالذكر أن المغفور له «النقراشي باشا» - وقد كان عضوا في هيئة المفاوضة المنحلة - قد تولى في هذه الجلسة الدفاع عن المشروع، مبينا في بلاغة وفي يقين، النواحي العديدة التي جعلت منه مشروعا متفقا مع مصلحة البلاد كل الاتفاق، وقد كان لبيان رئيس الحزب السعدي الأثر الكبير في توجيه رأي النواب، نحو الثقة بالحكومة والموافقة على تصرفها.
الدفاع المشترك ... وحلف الأطلنطي
وغني عن البيان، أن مسائل السودان وشروط المحالفة، والأوضاع الجديدة لهيئة الدفاع المشترك التي أقامت الكثيرين وأقعدتهم، فجعلوا منها التكأة التي حاولوا بها تأليب الرأي العام على المعاهدة ... كان كل ذلك مثارا للكثير من الأخذ والرد، اللذين انتهينا باقتناع النواب بصلاحية المشروع بكامل نصوصه، بل بالترحيب به.
وعلى ذكر المحالفة والدفاع المشترك، لعله يكون من الخير، ومن الإنصاف في الوقت ذاته، لواضعي مشروع المعاهدة المصرية البريطانية، الإشارة إلى تأييد الرأي الذي أجمعت عليه دول الغرب في الآونة الأخيرة، ممثلا في نصوص «حلف الأطلنطي»، الذي عقد أخيرا بين دول عدة، ومرده إلى ضرورة التحالف بين الدول ذات المصالح المتماثلة؛ للدفاع عن الكيان المشترك، وعن المبادئ التي رأت هذه الدول ضرورة الاستمساك بها ... وقد بني حلف الأطلنطي أول ما بني على ضرورة إنشاء مجالس الدفاع المشتركة، التي جعل من المهام الموكولة إليها - كما كان الحال في المشروع المصري البريطاني - تنسيق أدوات الدفاع، وتتبع أمور التسليح وتقويته؛ صونا لتراث الإنسانية، ومحافظة على الحريات، ولم يقل أحد أن إيجاد أمثال هذه الهيئات مؤد إلى سيطرة بعض الدول على بعض، بل قد شعر الجميع أن الوضع الجديد كفيل باحترام جميع الحقوق، ومؤد إلى نشر الطمأنينة، وتجنيب الإنسانية شر الحروب والخصومات.
لماذا فشل المشروع؟
وقد كان المنتظر بعد أن أقر الجانب المصري مشروع المعاهدة، أن يتوج بالتصديق الرسمي من الطرفين، ولكن عين الاستعمار كانت ساهرة، والدسائس التي أشرنا إليها فيما سبق - ومقرها دوائر حكومة السودان من ناحية ، وبعض دوائر وزارة الخارجية البريطانية من ناحية أخرى - كانت تعمل عملها، فتمخض كل ذلك عن مذكرة سلمت إلينا في 6 ديسمبر سنة 1946، رددنا عليها بمذكرة في اليوم التالي لورودها، وفي هذه المذكرة التي نختتم بها بيان الأوضاع الأخيرة للموقف المصري في عهد الوزارة، التي كنت متشرفا برئاستها، جميع ما يحتاج إليه كل راغب في تتبع الحوادث والمرامي؛ ليبدي في أمر المفاوضات الأخيرة بين مصر وبريطانيا حكما صحيحا عادلا.
وفيما يلي ترجمة المذكرة التي وضعناها في هذا الصدد، ورأينا بعد وضعها التخلي عن الحكم، سواء لحالة صحية استبدت بنا؛ أو لأننا رأينا، أن الأولى بتولي الحكم في مثل الظروف التي صادفتنا يومئذ من يكون أقدر منا على الاستعانة بالرأي العام ممثلا في الأحزاب صاحبة الأغلبية.
مذكرتي الأخيرة للحكومة البريطانية
تعقيبا على مذكرة صاحب الجلالة البريطانية، التي سلمت في 6 ديسمبر سنة 1946 إلى سعادة سفير مصر في بريطانيا العظمى، تتشرف الحكومة الملكية المصرية بأن ترد فيما يلي على مختلف المسائل التي عولجت في المذكرة المشار إليها.
فيما يتعلق بالسودان، يتضح من مشروع الخطاب الذي أعده مستر بيفن، ومن التصريحات التي قد يدلي بها في مجلس العموم، أن بروتوكول السودان سينص على منح السودانيين من الآن حق المطالبة بالاستقلال التام؛ أي بعبارة أخرى حق الانفصال التام عن مصر ... لكن المفاوضين المصريين لم يوافقوا - ولم يكن في وسعهم أن يوافقوا - على أن يكون النص الذي تعترف بريطانيا العظمى بموجبه بوحدة مصر والسودان تحت تاج واحد، هو التاج المصري، متضمنا في آن واحد التخلي عن هذه السيادة بمنح السودانيين حق المطالبة بالاستقلال والانفصال عن مصر.
وقد حدث فعلا أن اقترح المفاوضون البريطانيون مشروعا لبروتوكول، ذكر فيه حق السودانيين في أن يعلنوا استقلالهم، ولكن المفاوضين المصريين رفضوا هذا النص، وأقر الفريق البريطاني هذا الرفض.
بل إن النص النهائي للبروتوكول لم يقصد به غير الحكم الذاتي، فضلا عن أنه حرص على تحديد حق السودانيين في اختيار نظام السودان المقبل، فوصفه بأنه حق ناتج عن «قدرة الشعب على إدارة نفسه » أي لا يتعدى الإدارة الذاتية الداخلية، ولا يعني مطلقا الانفصال سياسيا عن مصر.
وزيادة عما تقدم، فإن سياسة الطرفين الساميين المتعاقدين في السودان، يجب أن تطبق في نطاق وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وهذا يستبعد اعتراف مصر وبريطانيا العظمى بحق السودانيين في قطع العلاقات، التي تربطهم بمصر وتاج مصر قطعا تاما.
وعلى هذا، فلا يسع الحكومة الملكية المصرية إلا أن تبدي دهشتها من تفسير الحكومة البريطانية لنصوص البروتوكول، تفسيرا يفقد هذا البروتوكول كل معنى وكل مفعول.
والحكومة الملكية المصرية حريصة على أن توضح مرة أخرى، أن سيادة مصر على السودان قائمة من الوجهتين التاريخية والشرعية، بصرف النظر عن اعتراف بريطانيا العظمى بهذه السيادة، فهي ليست حادثا جديدا من شأنه تعديل النظام الذي يخضع له السودانيون، بل هي تسجيل لحالة قائمة ليس في وسع أية هيئة دولية أن تعترض عليها.
وقد يحدث في المستقبل أن يؤثر السودانيون الاستقلال على الاتحاد مع مصر، ففي هذه الحالة ستتخذ مصر القرار، الذي تمليه عليها الروابط الأخوية التي تربط مصر بالسودان.
غير أن الاستقلال مسألة قومية تهم فقط الشعب الذي يطلب الاستقلال، والدولة التي تمنحه أو تعترف به، وليس من شأن أية دولة، حتى ولو كان لها حق الاشتراك في إدارة الشعب الذي يهمه الأمر، أن تتدخل فتطلب باسم هذا الشعب استقلالا لا يملك الشعب بعد قدرة للمطالبة به.
وفضلا عن هذا، فإن التخلي عن السيادة المصرية على السودان، لمدة غير محدودة في المستقبل لا يصح تسجيله في بروتوكول ملحق بمعاهدة تحالف ثنائية، تعقد لمدة عشرين سنة.
فلهذا لا يسع الحكومة الملكية المصرية - بهذا الصدد - أن توافق على تفسير الحكومة البريطانية لبروتوكول السودان، سواء في التصريحات التي قد يدلي بها مستر بيفن في البرلمان، أو في مشروع الخطاب الذي عرضه على الحكومة الملكية. •••
وطلب مستر بيفن أن يكون مفهوما بصورة قاطعة أن نظام الحكم الحاضر في السودان سيظل محترما ... وقد وافق المفاوضون المصريون في لندن على أن النظام الإداري، الذي نصت عليه اتفاقية 1899، وعدلته معاهدة 1936 سيظل نافذا، غير أن الموافقة على استمرار نظام إداري معين، لا تعني مطلقا أن هذا النظام يجب أن يظل نافذا في المستقبل بدون أي تعديل، بل بالعكس، فإن البروتوكول نفسه ينص على أن يكون الهدف الجوهري لسياسة الطرفين الساميين المتعاقدين، ورفاهية السودانيين، وإنماء مصالحهم، وإعدادهم باطراد للحكم الذاتي، ومن ثم لممارسة ما ينتج عنه من حق اختيار النظام القادم للسودان.
فمن واجب الحكومة المصرية إذن أن تتأكد من أن الإدارة الحالية تسير وفقا للتوجيهات، التي رسمها البروتوكول، فالنظام الإداري القائم الآن ليس نهائيا غير قابل للتعديل - بل بالعكس - فإنه يجب أن يتطور لبلوغ الهدف الذي حدده الطرفان الساميان المتعاقدان ... ولتحقيق هذا التطور، يحق لمصر، ويجب عليها أن تبدي الملاحظات والاقتراحات التي تراها لازمة، كما أنه لا بد لها من الاطلاع اطلاعا تاما ومستمرا على التدابير، التي تتخذها الإدارة الحاضرة في السودان؛ لتنفيذ السياسة التي تعهد الطرفان الساميان المتعاقدان على تطبيقها في السودان ...
فتفسير البروتوكول على النحو الذي يبدو أن الطرف البريطاني يريد التمسك به، يكون معناه تجريد نص البروتوكول الخاص بالسودان، والسياسة التي تعهد بها الطرفان الساميان المتعاقدان، من مفعولهما بتاتا. •••
ويحوي مشروع الخطاب أيضا الاعتراف لبريطانيا العظمى بحق تأمين الدفاع عن السودان، بوساطة القوات المسلحة والتسهيلات التي قد تطلبها ... ويبدو من هذا النص أن مهمة الدفاع عن السودان تقع على عاتق بريطانيا العظمى وحدها، في حين أن لمصر حقا على الأقل متساويا مع حق بريطانيا العظمى في هذا الصدد ... فعلى مصر إذن أن تقول أيضا كلمتها في المسائل المتعلقة بالدفاع عن السودان؛ لأنه جزء من الدفاع عن مصر نفسها، وفي المسائل المتعلقة بالقوات البريطانية التي قد توجد في السودان، إذ إن مصر نفسها قد تضطر إلى إرسال قوات مصرية إليه ... فهذه المسائل يجب أن تكون في الوقت المناسب موضوعا للبحث من جانب مصر وبريطانيا العظمى، خصوصا وأن وجود قوات بريطانية الآن في السودان لم يكن موضع اعتراض من جانب مصر. •••
ومشروع الخطاب يمس أيضا مسألتين أخريين، الأولى: حق المرور أو «الترانزيت» لبريطانيا العظمى في مصر ، وحق تحليق الطائرات البريطانية في جو مصر خلال مدة الجلاء، ثم حق تحليق الطائرات بعد الجلاء ... والثانية: بقاء الالتزامات المالية الناتجة عن تطبيق معاهدة 1936 بعد إلغاء هذه المعاهدة.
وقد تم الاتفاق في لندن على أن تكون مسألة تحليق الطائرات، بعد الجلاء موضع مناقشة تجرى بعد التوقيع على المعاهدة للوصول إلى اتفاق بهذا الصدد، أما تصفية الحقوق والالتزامات المالية الخاصة بالطرفين، فإنه لا يمكن إجراؤها إلا بعد أن توضع المعاهدة الجديدة موضع التنفيذ، فضلا عن أن هذه التصفية تتطلب اتفاقا بين الحكومتين.
وقد رفض المفاوضون المصريون في محادثات لندن الاقتراح البريطاني الرامي إلى حل هذه المسائل بموجب رسائل تلحق بالمعاهدة، فإن الطرف المصري لم يشأ أن يكرر الإجراء، الذي اتبع في معاهدة 1936، باعتبار أن معاهدة التحالف المثالية بين بلدين يعترف كل منهما بسيادة الآخر واستقلاله، لا يمكن أن تكون غير اتفاق بسيط واضح، وإذا اقتضت هذه المعاهدة إضافة ملاحق عديدة مفصلة، فمعنى هذا أنها تحوي بنودا غير عادية لا تنسجم مع معاهدة تحالف مثالية.
وقد رفض المفاوضون المصريون - وهم في هذا محقون - أنه إذا نشأت في المستقبل مسائل تقتضي اتفاقا تكميليا، فالمفهوم أن تدرس الحكومتان تلك المسائل في وقتها، بغية الوصول إلى حلها بتفاهم متبادل.
لهذا كله، لا يسع الحكومة الملكية المصرية أن تقبل اقتراح مستر بيفن بالتوقيع على مشروع الخطاب الذي أعده. •••
أما فيما يتعلق باستقلال السودان، وباستمرار النظام الإداري الحاضر فيه، فإن الحكومة الملكية المصرية لا يسعها أيضا قبول تفسير الجانب البريطاني، كما هو موضح في مشروع الخطاب، أو في ملخص للتصريحات التي قد يدلي بها مستر بيفن في مجلس العموم.
وتحرص الحكومة الملكية على أن توضح من ناحية أخرى، أن مقدمة النصوص التي وقع عليها بالحروف الأولى في لندن، تقضي بأن تعرض هذه النصوص على الحكومة المصرية، حتى إذا ما وافقت عليها عمد مستر بيفن إلى توصية الحكومة البريطانية بإعطاء موافقتها أيضا.
وقد نفذ الجانب المصري هذا الشرط، ولم يوافق على النصوص مجلس الوزراء فحسب، بل إن مجلس النواب أيضا قد وافق على السياسة التي أثبتتها الحكومة، فكان يجب أن تكون هذه النصوص وموافقة الحكومتين عليها، بمثابة المرحلة الختامية للمفاوضات ... غير أنه يبدو الآن أن الحكومة البريطانية تريد إعادة فتح المفاوضات، وإدخالها في مرحلة جديدة لا يرغب المفاوضون المصريون الاشتراك فيها؛ لأن الحكومة المصرية لا يسعها إلا أن تتمسك بالنصوص التي وافقت عليها، والتي أقرها مستر بيفن.
ولا يخامر الحكومة الملكية المصرية شك في أن الاعتبارات الموضحة فيما تقدم، ستحمل مستر بيفن على أن يعرض على مجلس الوزراء البريطاني النصوص، التي وضعت في لندن ووقعت بالحروف الأولى، بدون أي تعديل أو إضافة، وأن الاعتبارات المشار إليها ستحمل الحكومة البريطانية من ناحيتها على الموافقة على النصوص، التي سبق للحكومة المصرية أن وافقت عليها.
7 ديسمبر 1946
بحث مقارن
في مختلف مشروعات المعاهدة
المادة الثانية (1)
تقتضي الصيغة الجديدة للمادة الثانية التي تضمنت «أنه في حالة اشتباك المملكة المتحدة في حرب بسبب اعتداء على البلاد المتاخمة لمصر» توافر ثلاثة شروط مجتمعة؛ لكي تشتبك مصر في حرب، وهذه الشروط هي: (أ)
أن يكون هناك اعتداء مسلح، فخرج بذلك اشتراك في حرب هجومية. (ب)
وأن يقع هذا الاعتداء على إحدى البلاد المتاخمة لمصر. (ج)
وإن يجر فعلا هذا الاعتداء، بريطانيا إلى حرب ضد البلد المعتدي، فإذا وقع اعتداء على بلد متاخم، ورأت بريطانيا العظمى عدم التدخل عسكريا، رغبة منها في حصر النزاع محليا مثلا، بقيت مصر على الحياد، وكذلك الشأن إذا هوجمت القوات البريطانية في بلد متاخم بوساطة قوات هذا البلد أو سكانه، فإنه لا يترتب على ذلك أي التزام على مصر؛ لأن الاعتداء لم يقع على البلد نفسه.
وهذه الصيغة التي تمتاز على الصيغة الأولى تحقق الرغبات، التي أبدتها هيئة المفاوضات المصرية. (2)
أن فكرة تبادل المشاورة مقدما قبل اتخاذ أي عمل جاءت في المادة الثانية الجديدة مطابقة، من حيث المدلول للصيغة الأصلية للمادة، كما ارتأتها هيئة المفاوضات، وإن اختلفت عنها في الصياغة.
على أن هناك تعديلا أدخل على العبارة الأخيرة من المادة يعد كسبا جديدا، ذلك أن المتعاقدين وأن يكونا قد التزما بمقتضى النص الجديد بأن يقوما - بالتعاون الوثيق بينهما - بالعمل الذي يريانه ضروريا، إلا أن هذا العمل لم يوصف بأنه «عمل مشترك»، إذ حذفت هذه العبارة الأخيرة التي كانت واردة في المادة الأصلية، وقد كان التعاون بين المتعاقدين يتناول، فضلا عن الاستعداد للعمل العمل نفسه بحكم أنه كان لزاما أن يكون «عملا مشتركا»، أما بحسب الصيغة الجديدة، فإنه من الجائز أن ينتهي القرار مثلا إلى أن تعمل كل من القوات المصرية والبريطانية منفردة عن الأخرى، ولأهداف وأغراض مختلفة، أو أن يتم الاتفاق على أن العمليات الحربية خارج مصر تقوم بها القوات البريطانية وحدها، بينما تبقى القوات المصرية داخل الحدود المصرية؛ للدفاع عن المراكز الاستراتيجية أو المحافظة عليها.
ومن الجائز أيضا؛ نظرا لتفوق بريطانيا العظمى في القوات الجوية والبحرية أن تتولى هي العمليات البحرية والجوية، بينما يقوم الجيش المصري بالعمليات البرية.
والنتائج المترتبة على هذا التعديل تقضي بها طبائع الأشياء؛ نظرا لما بين البلدين من عدم التناسب في القوات؛ ولضرورة أن يكون اشتراك مصر في العمليات الحربية في حدود مقدرتها العسكرية والاقتصادية والمالية. وما دام أنه ليس بلازم أن يكون القيام بالعمل الواجب «عملا مشتركا»، فسيكون لمصر حرية أوسع في الدفاع عن أراضيها؛ ولذلك أثره في أبحاث اللجنة المشتركة ما دام أن للجيش المصري من الآن أن يعمل مستقلا عن القوات البريطانية، مع بقائه في اتصال وثيق معها طبقا للخطط الموضوعة بالاتفاق بينهما.
المادة الثالثة (1)
أضيفت إلى الفقرة الثالثة الجديدة «أن اللجنة هيئة استشارية»، وأهمية هذه العبارة من الوضوح، بحيث لا تحتاج إلى تعليق إذ إنها تقرر بإعلان صريح، وبصورة لا تقبل الجدال أن هذه اللجنة مجرد هيئة استشارية، وهذا الطابع الاستشاري لعمل اللجنة منصرف إلى أحكام المادة بأكملها بما فيها العبارة، التي أضيفت أخيرا إلى الفقرة الثالثة؛ لأنه يتناول مجموع اختصاصات اللجنة المشتركة، وسيكون أساسا لتحديدها، فالواقع أنه إذا قام خلاف حول مدى السلطة المخولة للجنة ، أو إذا حاولت الحكومة البريطانية بطريق الضغط إقرار وجهة نظرها بوساطة اللجنة، فإن النص صراحة على أن اللجنة هيئة استشارية يمكن مصر من أن تعترض بصورة فعالة، على الادعاءات التي يخشى البعض وقوعها من الجانب البريطاني. (2)
أضيفت إلى الفقرة الثالثة من المادة الأصلية، بعد عبارة «بناء على دعوة الحكومتين» عبارة «وعلى أساس البيانات المقدمة منهما»، وهذه العبارة الأخيرة تحد من سلطة اللجنة، وتمكن مصر من أن تعين المسألة التي يراد طرحها على اللجنة، وأن تحدد مداها وأن تبدي وجهة نظرها فيها قبل عرضها على اللجنة.
وقد استبدلت عبارة
Le cas echeant
بعبارة
Si besoin en est ؛ إظهارا لأن اللجنة لا تباشر اختصاصاتها المنصوص عليها في الفقرة الثالثة إلا عند الحاجة. (3)
إن الإضافة التي أدخلت في لندن على الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة، لا تزيد في اختصاصات اللجنة، فقد كان النص الأصلي يجيز لها التقدم بالتوصيات المناسبة، بعد درس أي حادث من شأنه أن يهدد الأمن في الشرق الأوسط، وهذه عبارة عامة تشمل طبعا البلاد المجاورة لمصر.
على أنه لما كان الخطر الذي يهدد البلاد المجاورة أقرب إلى مصر وأكثر تهديدا لها، فقد نصت المادة الجديدة على أنه بعد أن تقدم اللجنة توصياتها تقوم الحكومتان بتبادل الرأي فيما بينهما، بقصد اتخاذ جميع التدابير التي يرى ضرورة اتخاذها.
وهذه البلاد المجاورة هي البلاد العربية، التي ارتبطت مصر معها بميثاق الوحدة العربية، وتقضي المادة السادسة من هذا الميثاق بأنه في حالة وقوع أي اعتداء ضد إحدى الدول الأعضاء، فإن الدولة المعتدى عليها، أو المهددة بالاعتداء يكون لها الحق في أن تطلب انعقاد المجلس فورا، وبأن للمجلس أن يحدد بالإجماع التدابير التي يراها ضرورية لرد الاعتداء.
وتكاد تكون هذه الحالة هي الحالة المنصوص عليها في الفقرة الثالثة المشار إليها؛ لأن كلتيهما تتناول في الواقع حالة تهديد موجه لبلد عربي، ولما كانت بريطانيا العظمى حليفة للعراق وشرق الأردن، فإنه من الطبيعي أن يقتضي هذا التهديد مشاورات بينها وبين حليفتيها، وذلك بخلاف ما قد يدور بين البلاد العربية من مشاورات لنفس الغرض، ولقد أثارت عبارة «بقصد اتخاذ ...» مخاوف أحد أعضاء هيئة المفاوضة؛ ظنا منه أن هذه العبارة لا تقرر وجوب التشاور فحسب، ولكنها تقرر كذلك في جميع الحالات وجوب اتخاذ تدابير عقب هذه المشاورة، على أن عبارة «بقصد اتخاذ تدابير» إنما تحدد موضوع المشاورة، والغرض منها، ولكنها لا تعني أن هناك تدابير يجب حتما اتخاذها على أثر هذه المشاورات، فقد تنتهي المشارة إلى أنه من المستحسن عدم اتخاذ أي تدبير. وهذا ما قد يحدث إذا ما اجتمع مفوضون بقصد إعادة النظر في معاهدة أو إبرام اتفاق أو عند عقد مؤتمر دولي بقصد تسوية مسألة معينة، فقد ينتهي الأمر بسبب عدم الاتفاق في الرأي إلى عدم إعادة النظر في المعاهدة أو عدم إبرامها أو أن تبقى المسألة المطروحة للنظر بغير حل، فالقول إذن بأن المشاورة تقتضي حتما وبصفة آلية اتخاذ التدابير، يتنافى مع فكرة التشاور التي تقوم على حرية التقدير.
يضاف إلى ذلك أن نص الفقرة الثالثة صريح في هذا الخصوص، إذ إنه ينص صراحة على أن هذه التدابير يجب اتخاذها «بالاتفاق بينهما، فيتعين إذن أن يكون هناك قبول صريح من جانب الحكومة المصرية؛ لكي يكون القرار صحيحا؛ ولكي يمكن تنفيذ أي تدبير، هذا فضلا عن أن التدبير يجب أن يكون معترفا بضرورته، الأمر الذي من شأنه أن يترك للحكومة المصرية حرية التقدير المطلقة، وأن يسمح لها برفض كل توصية أو اقتراح متذرعة في ذلك بأنها لا ترى وجه الضرورة فيه.»
وهكذا يكون للحكومة المصرية في جميع مراحل الإجراءات المشار إليها في الفقرة الأخيرة من المادة الثالثة، الحق في أن ترفض بمقتضى هذا النص السير في طريق يحاول الجانب البريطاني أن يدفعها فيه.
فمن المتعين أولا أن يكون توجيه الدعوى للجنة المشتركة من الحكومتين معا، ويجب أن يكون بحث اللجنة على أساس البيانات المقدمة منهما، وإذن لا تملك الحكومة البريطانية وحدها أن تطلب إلى اللجنة درس إحدى المسائل، أو تقديم توصيات في الحالة المنصوص عليها في المادة الثالثة.
وفضلا عن ذلك فإن اللجنة عندما تطرح عليها مسألة معينة، لا تستطيع أن تقدم بشأنها توصية للحكومتين، إلا باتفاق رأي المندوبين المصريين والبريطانيين، ولما كان البلدان ممثلين في اللجنة على قدم المساواة، ولكل منهما حقوق متساوية، فليس هناك أغلبية تستطيع إملاء إرادتها على أقلية، فإن لم يتفق مندوبو الدولتين فلا تكون هناك توصيات تقدمها اللجنة إلى الحكومتين، وفي اللجنة المشتركة بين كندا والولايات المتحدة، والتي أخذت عنها فكرة اللجنة المصرية البريطانية يكون ممثلو هذين البلدين في اللجنة فريقين مستقلين، أحدهما كندي والآخر أميركي، وتتعين موافقة هذين الفريقين؛ حتى يمكن التقدم بتوصية للحكومتين. ولكل من الحكومتين الموافقة على التوصيات أو مطالبة الحكومة الأخرى بتعديلات أو رفض التوصية، وهكذا لا يمكن وضع التوصية موضع التنفيذ إلا في الحالة التي تتفق فيها الحكومتان عن طريق تبادل مذكرات في هذا الخصوص.
وستوضع فيما بعد لائحة داخلية للجنة المشتركة المصرية والبريطانية، ولما كانت موافقة الحكومة المصرية على هذه اللائحة لازمة فإن من حقها أن تطالب عند ذاك بتطبيق القواعد المتقدم ذكرها، إذ إن اللجنة الأميركية الكندية هي التي يجب بطبيعة الحال اتخاذها نموذجا للسير عليها.
لقد أثيرت المخاوف من أن الفقرة الجديدة للمادة الثانية، يمكن أن تتخذها الحكومة البريطانية ذريعة لإعادة قواتها إلى البلاد المصرية في حالة تهديد الأمن في بلد مجاور لمصر.
وقد بينا فيما تقدم أنه في هذه الحالة الخاصة، كما في الحالات الأخرى التي يراد فيها إنفاذ تدبير معين، يجوز لمصر في أثناء المشاورة أن ترفض الاقتراح، وأن تعارض في تنفيذه.
وفي هذا الخصوص يلاحظ إلى جانب ما تقدم أن المادة الثانية إنما تتكلم عن عمل
Action ، بينما المادة الثالثة تتكلم عن تدابير
Mesures ، ويفرق ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الخاص بما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم «تفرقة كاملة بين العمل من جهة والتدابير من جهة أخرى»، فالعمل المنصوص عليه في المادة 42 يشير بنوع خاص إلى استعمال القوات المسلحة، ويجوز أن يشمل العمل المظاهرات والحصر وغيرها من العمليات التي تنفذ بوساطة هذه القوات العسكرية، أما كلمة التدابير فإنها على العكس يراد بها طريقة تدخل مجلس الأمن في المرحلة الأولى، ولا تنطوي على استعمال القوة المسلحة، وتدخل فيها محاولة التوفيق والتوسع والتدخل الودي لتسوية الخلاف، ثم فيما بعد قطع العلاقات الاقتصادية والمواصلات من أي نوع قطعا كليا أو جزئيا، وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية، «تراجع المواد 39 و40 و41 من الميثاق.»
وقد كانت المقترحات البريطانية تتضمن في المادة الثالثة كلمة «العمل»، ولكني رفضت أن يكون هناك ارتباط ما بين فكرة «العمل» وفكرة «تهديد الأمن»؛ ولذلك اعترضت في محادثاتي مع مستر بيفن على هذا النص، واقترحت أن تستبدل به كلمة «تدبير» ملاحظا أن الأمر يتعلق بتدابير ذات صبغة سياسية واقتصادية، وقد أقر مستر بيفن وجهة النظر هذه، وقبل النص المعدل وفقا لاقتراحي.
وأخيرا فإن اتفاقا كالاتفاق المصري البريطاني يدخل في رأي هيئة الأمم المتحدة في عداد الاتفاقات الإقليمية، وبهذا الوصف يكون لمجلس الأمن الإشراف على كل عمل تم، أو يراد اتخاذه طبقا لاتفاقات إقليمية «مادة 54»، كما أنه لا يجوز اتخاذ أي عمل من أعمال القمع تنفيذا لمثل هذه الاتفاقات، بدون إذن مجلس الأمن «مادة 53».
وفي هذا ضمان إضافي لمصر تأمن معه احتمال حصول ضغط من جانب الحكومة البريطانية؛ لحملها على قبول تدابير لا ترضاها كدخول قوات بريطانية أرض مصر في حالة التهديد بوقوع حرب.
فإذا حدث بعد الجلاء أن أعادت بريطانيا العظمى قواتها إلى الأراضي المصرية على غير إرادة مصر، فإنها بذلك تكون معتدية على القانون الدولي اعتداء، لا يقل خطورة ولا جرأة عن اعتدائها على بلد، ليس بينها وبينه أية معاهدة، فقد يكون لها في هذه الحالة الأخيرة أن تدفع بعدم وجود روابط، وأن الضرورة ألجأتها إلى الانفراد في العمل لتحقيق الدفاع عن نفسها، بيد أن تصرفها على هذا الوجه مع قيام الاتفاق المصري البريطاني يعتبر خروجا على صريح النصوص التي وقعتها، الأمر الذي يمكن مصر أولا من إعلان أن اتفاق المساعدة المتبادلة يعتبر لاغيا وكأن لم يكن، وثانيا من أن تطلب إلى مجلس الأمن أن يتدخل على أساس انتهاك حرمة تعهدات صريحة.
المادة السادسة
سبق أن قبلت الحكومة المصرية في سنة 1939 أسوة بأغلب البلاد الأخرى المعاملة بمقتضى المادة 36، فقرة 2 من نظام محكمة العدل الدولية، كما قبلت الاختصاص الإلزامي لتلك المحكمة في فض الخلافات ذات الطابع القانوني، الوارد ذكرها في هذه المادة.
ولما كانت بريطانيا العظمى قد قبلت هي الأخرى هذا الشرط، فلا يكون ثمة مانع من الإشارة إلى ذلك في المعاهدة، ما دام أن هذا لا يضيف التزاما جديدا إلى النصوص، التي سبق أن قبلتهما هيئة المفاوضات المصرية.
بروتوكول خاص بالسودان
يتضمن البروتوكول أولا إعلان وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، وهذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها بريطانيا العظمى اعترافا قاطعا صريحا في وثيقة دولية، بسيادة مصر على السودان، وهذا الاعتراف من شأنه أن يضع حدا نهائيا للسياسة، التي تتبعها بريطانيا العظمى أو ممثلوها في السودان؛ لكي تضمن لنفسها جزءا من السيادة على السودان بطرق مختلفة، كتسميته في الوثائق الرسمية بالممتلكات الإنجليزية المصرية المشتركة
Condominium angol-égyptien ، تلك التسمية التي تفرض وجودة سيادة مشتركة. وقد أوجدت هذه السياسة فكرة خاطئة في الخارج عن حقوق مصر في السودان، حتى بين ممثلي الحكومات ورجال الفقه، نذكر منهم على سبيل المثال الفقيه المعروف فوشيل
Fauchille
في كتابه المعنون «القانون الدولي العام» فقد ذكر السودان تحت باب عنوانه
Copropriété, condominium, Co-impérium ، وهو يتكلم عن السيادة المشتركة بين مصر وبريطانيا العظمى على السودان.
ولهذا البروتوكول مزية كبرى، وهو أنه سيجعل سيادة مصر وحدها على السودان في نظر جميع الدول أمرا لا جدال فيه، وقد يكون لذلك في المستقبل أهمية كبرى فيما لو طرحت يوما أمام هيئة الأمم المتحدة، مسألة ما تتعلق بالسودان.
غير أن إعلان هذه السيادة لقي اعتراضا أساسه ما ورد في البروتوكول خاصا بالسياسة، التي سيتبعها المتعاقدان في السودان، والتي نص على أن يكون هدفها الأساسي رفاهية السودانيين، وإعدادهم الفعلي للحكم الذاتي، ومباشرة الحقوق المترتبة على ذلك، وهي اختيار نظام الحكم في السودان في المستقبل.
ولكي يمكن تفهم مدلول هذا النص يتعين أولا تحديد المعنى المقصود بالحكم الذاتي
self-government ، وهذه العبارة بحسب القانون الدولي لا تعتبر معادلة لكلمة «الاستقلال » ولا لعبارة «حق السيادة»، وقد استعمل ميثاق الأمم المتحدة عبارة «الحكم الذاتي» في الباب الخاص بنظام الوصاية الدولي، وذلك عندما تكلم عن التقدم المطرد لسكان البلاد الخاضعة للوصاية، الأمر الذي عبرت عنه المادة 76 من الميثاق المذكور بالنص الآتي:
Their progressive development towards self-government or independence.
وترجمته بالفرنسية كالآتي:
Leur évolution progressive vers la capacité â s’administrer eux-mêmes ou l’indépendance.
وعلى هذا لا تفيد عبارة
Self-government
إلا الحكم الذاتي الإداري
Autonomie administrative
وذلك بحسب ما انتهى إليه التفسير الرسمي الأخير الصادر عن أكبر هيئة مختصة، وهو التفسير الذي أقرته مصر وبريطانيا العظمى، ومعهما جميع الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة، وهذا الحكم الذاتي الإداري يختلف عن الاستقلال
Indépendance
الذي عرفه الفقهاء بأنه السيادة الداخلية
La souveraineté intérieure .
على أن هذه المسألة لم تثر أي اعتراض في محادثاتنا بلندن، فقد فرق كل من الطرفين المصري والبريطاني بين الحكم الذاتي وبين الاستقلال.
لقد بينت في وضوح في مناسبات متعددة أننا نرغب في أن يتولى السودانيون إدارة شئونهم بأنفسهم، وأنه ليس في ذلك ما يتنافى مع ما لمصر من حق السيادة على السودان.
ولكن مما كان يشغل بال مستر بيفن على الخصوص، احتمال أن يطالب السودانيون بالاستقلال، فقد كان يرى في بدء المحادثات أن عليه التزامات قبل السودانيين، ولا يستطيع أن يربطهم بمصر برباط لا تفصم عراه؛ لذلك كان يرى أن يدخل في المعاهدة نصا يتضمن تأكيدات للسودانيين عن مسألة الاستقلال، وقد نص في أحد المشروعات المقدمة من الجانب البريطاني على أن أحكام البروتوكول، لا تمنع السودانيين من أن يختاروا في المستقبل نظاما يتضمن استقلال بلادهم استقلالا تاما، وفقا لأحكام ميثاق الأطلنطي، ولكنني حذفت هذا النص ورفضت رفضا باتا أن ترد في البروتوكول أية إشارة تفيد التنازل، ولو بطريق الفرض عن سيادة مصر على السودان.
لقد بينت لمستر بيفن أنه لا يتصور أن يطالب السودانيون يوما بانفصالهم عن مصر، وأن هذا على كل حال مجرد فرض قد لا يقع إلا في المستقبل البعيد، بينما الاتفاق بين مصر وبريطانيا العظمى محدد له مدة عشرين سنة، بانتهائها يسترد كل بلد حريته، كما أوضحت له من جهة أخرى أنه إذا أثيرت هذه المسألة، فإن مصر على استعداد لحلها مع السودان بروح تسوده الصداقة الكاملة طبقا لأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
غير أن مستر بيفن مع استبعاده فكرة الاستقلال، والتنازل فيما بعد عن السيادة المصرية، كان يريد أن يعطي السودانيين تأكيدات عن مصيرهم؛ لذلك أصر على أن يضمن البروتوكول إشارة عن النظام المقبل للسودان.
إن كلمة نظام
Statut
ليس لها تعريف قانوني يحددها كعبارة
Self-government
بل هي كلمة عامة تتسع لشتى التفسيرات تبعا للمناسبة التي تستعمل فيها، وتلافيا للعيوب التي قد تنشأ عن عدم وجود تعريف لكلمة نظام
Statut ، انتهى الجانب المصري بعد بحث مختلف الصيغ إلى اختيار الصيغة الواردة في البروتوكول، وهي الصيغة التي وافق المستر بيفن في نهاية الأمر على قبولها، وهذه الصيغة ترتب على الحكم الذاتي الحق للسودانيين في أن يختاروا نظام الحكم في المستقبل، وإذن فإن هذا النص لا يمنح السودانيين بادئ الأمر الحكم الذاتي، ثم يمنحهم فيما بعد شيئا يخرج عن نطاق الحكم الذاتي، وهو حق اختيار نظام سياسي دولي قد يتضمن الانفصال عن مصر، بل على العكس إن هذا النص يبين بجلاء أن حق اختيار نظام الحكم في المستقبل، إنما يأتي كنتيجة تبعية لتطبيق الحكم الذاتي، ولما كان الحكم الذاتي لا يعدو أن يكون استقلالا إداريا، فإن النظام المقبل لا يمكن أن يتجاوز الحدود المرسومة للاستقلال الذاتي، ولا يمكن أن يكون سوى مجرد نظام إداري أو استقلال داخلي.
هذا إلى جانب أنه إذا أريد الادعاء بأن نظام الحكم المقبل
Statut futur
المنصوص عليه في البروتوكول هو نظام سياسي دولي، فإن في ذلك ما يتعارض مع صريح نصوص البروتوكول نفسه، فإن البروتوكول يوضح أن سياسة الحكومتين المتعاقدتين، ستجرى في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج واحد هو التاج المصري، وإذن تكون هذه السياسة خاضعة لمبدأ سيادة مصر، وعلى ذلك لا يمكن أن تتضمن هذه السياسة تدابير تتعدى حدود السيادة أو تخرج عن نطاق وحدة البلدين تحت تاج واحد، وفي ذلك ما ينفي حق الانفصال أو حق مطالبة السودانيين بقطع رابطة السيادة التي لمصر عليهم .
وزيادة على ما تقدم، فإن الفقرة الثانية من البروتوكول تضمنت أن نظام الحكم المقبل سيتقرر باتفاق المتعاقدين بعد استشارة السودانيين، فإذا كان حق اختيار نظام الحكم في السودان المتفرع عن الحكم الذاتي يشمل حق السودانيين في الانفصال عن مصر، فإنه من الواضح أن نظام الاستقلال التام إذا ما اختاره السودانيون، يجب أن يتم بدون تدخل مصر لا أن يكون بموافقة الطرفين المتعاقدين، بمجرد استشارة السودانيين.
ومهما يكن وجه التفسير الذي يراد أن يعطى للنصوص الحالية، فإن سيادة مصر على السودان لا يمكن أن تزول إلا بمقتضى تنازل صريح يصدر من مصر في المستقبل، وذلك إما عقب ثورة يقوم بها الشعب السوداني، أو انفصال بالقوة فترضخ له مصر، وإما بتنازل اختياري، وذلك في حالة التسليم جدلا بأن للسودانيين حق إعلان رغبتهم في الاستقلال على ما في ذلك من الخروج على أحكام البروتوكول.
فالواقع أنه ليس للسودانيين بمقتضى نص البروتوكول حق المطالبة بالانفصال.
يضاف إلى هذا أن النص على التنازل عن سيادة مصر، أو إنهاء هذه السيادة ولو بالنسبة للمستقبل، ليس مما يجوز درجه في بروتوكول من هذا القبيل يلحق بمعاهدة ثنائية.
إن إحداث مثل هذا التغيير الخطير في علاقة مصر بالسودان، لا يمكن أن يتم إلا بإعلان صريح ورسمي يعلن أولا للشعب السوداني ويجوز قبوله ثم يعلن بعد ذلك إلى جميع الأمم المتحدة؛ لأن سيادة مصر قائمة قبل المعاهدة وذلك بالنسبة لجميع الدول. وقد تضمن البروتوكول موافقة بريطانيا العظمى على هذا الوضع فيما يتعلق بها، فهو لم ينشئ هذه السيادة.
والواقع أن البروتوكول نفسه فيما تضمنته الفقرة الأولى منه، يفرض على بريطانيا العظمى تغيير النظام الحالي؛ وذلك لا لمصلحة مصر بل لمصلحة السودانيين؛ وإذا كان سيادة مصر لها صفة الدوام، فإن النظام الإداري الحالي على عكس ذلك له طابع وقتي، ما دام أنه يجب أن يتدرج إلى الحكم الذاتي؛ أي استبعاد العناصر غير السودانية تدريجا.
وقد نص البروتوكول علاوة على ذلك، على أن التغيير في النظام الحالي يقتضي اشتراك مصر وبريطانيا العظمى والسودانيين أنفسهم.
وبذلك تكون مصر قد اكتسبت حق الاشتراك في إعداد الإصلاحات الواجب إدخالها على نظام الحكم في السودان، وعليها من الآن أن تدرس، وأن تقترح التعديلات التي تراها ضرورية لتحقيق السياسة التي تعهدت مصر وبريطانيا العظمى بأن تنتهجاها، وسيكون لها أيضا، قبل إقرار التعديلات المتقدم ذكرها الحق في أن تبحث، وأن تتحقق مما إذا كان النظام المقرر باتفاق سنة 1899 يحقق بصورة كافية رفاهية السودانيين، وهي من الأغراض التي يهدف إليها المتعاقدان، ومما إذا كان هذا النظام يصلح أساسا يقام عليه الحكم الذاتي.
وستتمكن مصر بما لها من حق التدخل والإشراف من أن تحمي مصالح السودانيين، وأن تعمل على تحسين حالهم. وبفضل هذا الحق من جهة، وتحللها من جهة أخرى من الاحتلال والنفوذ البريطانيين سيكون في استطاعتها أن تسترد، ولو بعضا على الأقل من سلطانها ونفوذها في السودان؛ لأنها ستباشر نشاطها في ميدان أهم في نظر السودانيين من الإدارة العادية، باعتبار أنه سيكون هدفه تحقيق الآمال القومية السودانية، وتسوية مستقبل السودان تسوية دائمة.
لقد اعترض على البروتوكول أنه جاء خلوا من الإشارة إلى المفاوضات المقبلة، ولكن هذا الاعتراض مردود عليه بأن البروتوكول، بعد أن اعترف بوحدة مصر والسودان تحت التاج المصري قد حدد السياسة المقبلة التي يلتزم المتعاقدان بانتهاجها، وما كادت المحادثات لترمي إلى أغراض أخرى، سوى تحديد تلك السياسة.
ومؤدى هذه السياسة منح السودانيين الحكم الذاتي، وتحديد نظام الحكم المقبل في السودان، غير أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه تفصيلا في الحال، بل يقتضي دراسات ومباحثات طويلة، إذ الأمر يتعلق بتطور مطرد يستغرق سنوات، وتنفيذ هذه السياسة التي سجل البروتوكول أغراضها نهائيا عمل يحتاج تحقيقه إلى وقت طويل بالاتفاق بين الحكومتين، وهو يستلزم تبادل وجهات النظر بينهما ومناقشات، وإعداد البرامج فضلا عن الدخول في مفاوضات قد يكون لها طابع شبه دائم في خلال السنوات القادمة.
وفي أثناء المحادثات التي جرت في لندن، أعرب المستر بيفن عن ميله لإنشاء لجنة مشتركة دائمة للسودان، تقوم بدراسة وسائل النهوض بالسودانيين.
ويصعب من الآن معرفة أفضل وسيلة تستطيع بها مصر التدخل في الشئون السودانية، قد يكون في مصلحتها القيام بدراسات في السودان، إما منفردة أو بالاشتراك مع البريطانيين، وقد تفضل أن يكون لها في الخرطوم ممثل سام دائم أو مكتب دائم، وأخيرا قد يكون من الأفضل لها أن تعمل عن طريق اللجنة المشتركة التي اقترح المستر بيفن إنشاءها، ومهما يكن الأمر، فقد يكون من سبق الحوادث بالنسبة لمصر أن ترتبط من الآن في هذا الخصوص.
ويتعلق بالحكومات المصرية القادمة أن تباشر في يقظة وبالوسائل التي تراها أكثر ملاءمة، الحقوق التي تم الاعتراف بها لمصر، ومراقبة النظام الحالي والمساهمة في إعداد نظام الحكم المقبل في السودان.
صفحه نامشخص