كذلك فقد كانوا يخطفون النساء في الشوارع، وكانوا يجردون الأقراط من آذانهن فتسيل الدماء منها، دون مبالاة بذلك.
وكم تعدى علينا هؤلاء الجنود في المظاهرات، وأذكر على سبيل المثال أننا لما خرجنا في موكب المظاهرة العامة التي ضمت جميع الهيئات المصرية واشتركت فيها السيدات راكبات سياراتهن. وكانت المرحومة ألفت هانم راتب تمسك بيدها علما مصريا صغيرا يرفرف من نافذة سيارتها، وعند مرور المظاهرة أمام فندق الكونتننتال ... انقض أحد الجنود الإنجليز على سيارتها، وحاول انتزاع العلم من يدها، ولكنها تشبثت به ولم تمكنه من انتزاعه، ولما كان ذلك على مشهد من المتفرجين الأجانب، فقد صفقوا لها إعجابا بها، فثار الجندي ثورة حمقاء ... وأخذ يجذب العلم منها بقسوة ويضربها بيده الأخرى على ذراعها ضربات قاسية ليرغمها على التسليم، ورغم ذلك لم يتمكن من قهرها، وعندما صار أضحوكة المتفرجين أقبل بعض زملائه وأخذوا يطعنون سيارتها ... وأسفرت المعركة بين جنود بريطانيين مسلحين وبين سيدة مصرية عزلاء عن احتفاظها بعلم بلادها إلا طرفا منه استطاعوا تمزيقه.
وبعد انتهاء المظاهرة وعودتنا إلى بيوتنا، جاءتني في حالة انفعال شديد، وطلبت مني الاحتجاج على هذا الحادث، فكتبت في الحال احتجاجا وسلمته لها لتذهب به بنفسها إلى دار المعتمد البريطاني، وتريه كيف اعتدى جنوده عليها وعلى سيارتها.
ورد اللورد اللنبي على المذكرة بما تعود عليه الإنجليز من التنصل من المسئولية، قائلا: «نأسف لما أصاب السيدة في الطريق العام!»
وجدير بالذكر أن هذه المظاهرة، اشتركت فيها جميع الهيئات الرسمية، وكانت مظاهرة لم تشهد لها مصر مثيلا، فقد اشترك فيها الجيش والقضاة والمحامون بملابسهم الرسمية، والموظفون والطلبة، والأزهريون من علماء وطلبة، والعمال، ورجال الدين من جميع الأديان، كذلك فقد اشتركت فيها النساء، بعضهن في سياراتهن وعرباتهن، وبعضهن الآخر على عربات الكارو، وبأيدي الكثيرات منهن الأعلام.
وبالرغم من وقار المظاهرة وهيبتها، فإن نظامها وحماستها لم يرق في عين أحد الضباط الإنجليز الذي كان واقفا بفندق شبرد، فما كان منه إلا أن أطلق مسدسه على المتظاهرين، فوقع واحد منهم، ورغم ذلك تابع المتظاهرون سيرهم في نظام، ما دفع الأجانب لأن يصفقوا لهم ويقولوا: تقدموا ... تقدموا، فالنصر لكم.
عندما حاول الجنود الإنجليز استثارة المصريين المتظاهرين، قام أحد ضباط السواري المصريين بضربهم بعصاة، واستطاع بمفرده أن يشتتهم جميعا. فلجئوا إلى حديقة الأزبكية واختبئوا فيها.
ولقد كان حقا يوما مشهودا مشرفا لمصر. ويذكرني ذلك بيوم مظاهرة الأزهريين الذين كانوا يشتعلون حماسة ووطنية، لدرجة أنهم كانوا يواجهون مدافع الإنجليز بصدورهم، وبلغت الشجاعة بأحدهم أن هجم على مدفع منها ، وضرب الجندي الذي يعمل عليه، ووقف مكانه ليضرب الإنجليز، ولكن للأسف كان جهله باستعماله سببا في ضربه وموته.
وكانت السيدات في هذه الأحوال يصفقن من الشرفات والنوافذ، مستنهضات همم الرجال في هذا النضال الوطني ... حتى إن الجنود الإنجليز كانوا من فرط غيظهم يطلقون الرصاص عليهن، ولم تعلن أسماء من أصبن إنكارا للذات وبعدا عن طلب الجزاء أو الشكر.
محاولة تشويه الثورة
صفحه نامشخص