الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحه نامشخص
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
صفحه نامشخص
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
صفحه نامشخص
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
صفحه نامشخص
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحه نامشخص
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
صفحه نامشخص
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
صفحه نامشخص
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
صفحه نامشخص
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
مذكرات هدى شعراوي
مذكرات هدى شعراوي
صفحه نامشخص
تأليف
هدى شعراوي
الفصل الأول
عندما أقف أمام ذكريات طفولتي، يتبين لي منذ البداية ذلك الفارق الكبير بين حياة الطفل وتربيته في الماضي، وبين ما أصبحت عليه أساليب التربية في الوقت الحاضر.
لقد كان الاهتمام منصبا على تغذية الطفل ونموه الجسماني، دون أدنى اهتمام أو التفات إلى مشاعره ونمو مداركه، ولذلك كان هناك فارق هائل بين النمو الجسماني والنمو العقلي. أما الآن فإن هناك توازنا بين الجانبين، لذلك ينشأ الطفل قادرا على الفهم والاستيعاب في سن مبكرة.
وكان الأهل يخفون عن الأطفال كل الحوادث والأحداث المحيطة بهم، فإذا مات أحد أفراد الأسرة، قيل للطفل: إنه قد سافر، وإذا أراد أن يسأل عن حقيقة من حقائق الحياة، أجابوه بخرافات لا تروي ظمأه لمعرفة الحقيقة، أو قيل له: إنه ليس من الأدب أن يتدخل فيما لا يعنيه.
ولقد كنت واحدة من هؤلاء الأطفال، وكان يعنى بنا خدم جهلاء يخفون عنا ما كان يجب أن نعرفه من حقائق، ويحيطوننا بسياج من الخرافات التي تؤثر في العقول الصغيرة الساذجة.
ولأنني كنت قليلة الالتصاق بوالدي، فإنني لا أذكر من حياتنا العائلية في طفولتي إلا القليل، ومن ذلك أنني كنت أذهب إلى غرفة والدي كل صباح لأقبل يده، وكان يصحبني في هذه الرحلة الصباحية أخ لي من أم ثانية اسمه «إسماعيل»، وكنا نجد أبي متربعا على سجادة الصلاة يسبح بمسبحته، فنقبل يده ويقبلنا، ثم ينهض ويفتح خزانة كتبه ويخرج لكل واحد منا قطعة من الشيكولاته، فنأخذها ونخرج متهللين.
ثم جاء ذلك اليوم الذي لا يمكن أن أنساه أبدا ... كنت ألعب مع شقيقي «عمر» عندما تناهى إلينا فجأة صراخ عال يملأ أرجاء البيت وملأ الخوف قلبي، وتعلقت أنا وأخي بمربيتنا، وفي ذلك الوقت أقبلت مرضعتي مهرولة، وهي تتشح بالسواد، وتصيح قائلة: لقد تحقق خبر الباشا ... فأعطني يا «سياج» الطفلين لأذهب بهما إلى منزل مسعود باشا ... حتى لا يزعجهما الصراخ والعويل.
إن هذه الجملة لا تزال ترن في أذني حتى اليوم، ولا تزال تحدث صداها في أعماقي ... ولا تزال حرارتها في قلبي ونفسي ...
صفحه نامشخص
كنت في الخامسة من عمري عندما وقع هذا الحدث الجسيم، فقد توفي والدي المرحوم محمد سلطان باشا يوم 14 أغسطس 1884 في مدينة جراتس بالنمسا، كان قد سافر إلى سويسرا للاستشفاء، ثم ذهب إلى جراتس بعد ذلك، وكان يعاني من صدمتين عنيفتين أثرتا في حالته الصحية إلى حد بعيد؛ لدرجة أن الأطباء لم يجدوا دواء لدائه إلا أن يسافر بحثا عن العلاج، وكانت الصدمة الأولى هي وفاة أخي إسماعيل الذي كان يعقد عليه أبي كل آماله في المستقبل، فقد كان ذكيا يبدو أكبر من عمره في كل شيء، في الوقت الذي كان فيه شقيقي «عمر» ضعيف البنية والأمل في حياته ضئيل جدا ... أما الصدمة الثانية فكانت تلك المأساة التي أودت باستقلال البلاد إثر الحوادث العرابية، وما ظهر من سوء نية الإنجليز بعد دخولهم مصر؛ حيث بدا واضحا أنهم لن يفكروا في الجلاء عنها! ...
ولقد كان بودي أن أتحدث طويلا وتفصيليا عن حياة أبي وأعماله، ولكن للأسف عندما فكرت في كتابة مذكراتي، كان كثيرون من الذين عاشوا هذا التاريخ وعرفوا أبي عن قرب قد فارقوا الحياة، ولم يكن أمامي إلا فهمي باشا الذي لازم أبي خلال سنواته الأخيرة.
ولقد عرف عن أبي أنه كان يميل إلى مجالس الأدب والعلم، وقد تغنى كثير من الأدباء والشعراء بصفاته الطيبة وأخلاقه الحميدة، وكان من أبرز شيمه: الكرم والوفاء والترفع والتمسك بشعائر الدين، وتميز بالإخلاص والصراحة والشجاعة في إبداء الرأي والنزاهة والتجرد عن الغايات. كذلك فقد كان بارا بأهله في حياته وبعد مماته؛ حيث أوقف عليهم جانبا كبيرا من ممتلكاته، كما فعل الشيء نفسه بالنسبة للفقراء، حتى لا يجد واحد من الذين كان يعولهم مشقة في الحياة من بعده، وقد أوقف على الحرمين الشريفين والأزهر الشريف والمساجد والمدارس جانبا من أوقافه.
وإذا كانت هذه هي شخصية أبي في حياته الخاصة، فقد كان له مثل هذا الدور في الحياة العامة. وإذا أردنا أن نتناول الجانب الاجتماعي في هذا الدور، فسوف نجد أنه كان وراء إلغاء نظام السخرة والكرباج؛ حيث قدم اقتراحا بذلك إلى نوبار باشا رئيس مجلس النظار، وانتهى الأمر بإلغاء هذا النظام الذي كان يعتبر وصمة في جبين مصر في ذلك الوقت. كذلك فقد قدم اقتراحا بإلغاء جميع الضرائب الإضافية التي كانت ترهق كاهل الفلاحين.
وقد بعثني إلى فضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعه، أسأله عن ذكرياته حول والدي ؛ حيث إنه كان في ذلك الوقت لا يغادر منزله بسبب شيخوخته فقال: إنه في ليلة سفره إلى أوروبا للاستشفاء، وهي الرحلة التي صاحبه فيها، كان يجلس في مجتمع من الأصدقاء، وفي هذا المجلس تلا أبياتا من شعره يقول فيها:
أتذكر مصر إنني منذ نشأتي
أدافع عن أبنائها وأذود
وأمنع من رام اهتضام حقوقهم
ولو خفقت فوق الرءوس بنود
وفي تلك الليلة، تحدث عن ابنه الراحل «إسماعيل»، وتلا أبياتا من قصيدة كان قد كتبها في رثائه. وفيها يقول:
صفحه نامشخص
دعوني في اكتئابي وابتئاسي
أقاسي من زماني ما أقاسي
دعوني أسكب العبرات وحدي
فما لجراح قلبي قط آسي
ولقد عاش أبي صدر حياته بعيدا عن المناصب الحكومية، فقد كان عليه أن يرعى إخوته وأسرته، ثم اختير مأمورا لقسم قلوصنا، وحاول أن يعتذر عنه، فلم يجد إلا الإصرار.
وتدرج بعد ذلك ليصبح وكيلا لمديرية بني سويف، ثم مديرا لها، ثم مديرا للفيوم، ثم مديرا لأسيوط، ثم مديرا للغربية، ثم مفتشا عاما للوجه القبلي، ثم رئيسا لمجلس النواب ومجلس شورى القوانين ثم قائم مقام الخديوي.
وقد سمعت من بعض أقاربنا نقلا عن آبائهم وأجدادهم أن والدي من أصل عربي، وقد استوطن أجداده أرض الحجاز، وهاجر نفر منهم إلى مصر قبل عهد علي باشا واتخذوها موطنا لهم، وتزوجوا من مصريات.
وعلى ما قيل كان جدي الحاج سلطان عميد الجيل الخامس من عائلته في مصر، وكان ولعا بالزراعة وبالأخص زراعة القصب واستخراج العسل الأسود، وكان مشهورا بالكرم وطيبة القلب ودماثة الخلق، حتى إنه من كثرة استرساله في عمل الخير والبر ومن فرط تقواه، كان يقول عنه معاصروه: إنه ولي تشمل بركته أهله وكل من حوله.
ومن طريف ما سمعته عن سماحته وعطفه، أن بعض عملائه التجار كانوا يتقاضون حقوقهم أكثر من مرة؛ ظنا منهم أنه قد نسي ما دفعه لهم، وقد جاءه ذات مرة رجل كان قد باعه «تقاوي» قصب وقبض ثمنها، ليطالب بثمنها مرة أخرى، فأمر جدي بصرف ثمنها له، وحاول كاتب الدائرة أن يلفت نظره ، إلى أن هذا التاجر سبق أن استلم الثمن، وليس له أي شيء، فأجابه جدي: ادفع له الثمن؛ لأنه لم يتسلمه، فدفعه له، وبعد مدة عاد التاجر نفسه يطالب بثمن التقاوي للمرة الثالثة، فثار الكاتب وقال لجدي: إنه سبق أن قبض الثمن مرتين، ولكن جدي تناسى ذلك وقال للكاتب: إنني لا أتذكر، فأعطه نقوده، ولما هم الكاتب أن يثبت لجدي أن المبلغ قد دفع مرتين وأمسك بدفتر الحساب لإثبات ذلك، مد جدي يده إلى الدفتر وأغلقه، وأمر الكاتب بدفع المبلغ في الحال، وبعد انصراف الرجل، قال جدي للكاتب: ألا تستطيع أن تفهم أن الرجل ربما كان في ضائقة مالية، وأن مطالبته هذه ما هي إلا طلب مستتر للمعونة؟ في مثل هذه الحالات لا تعد مطلقا إلى الإلحاح في تنبيهي؛ لأنني أتذكر جيدا ما لي وما علي!
ومن الطرائف التي تروى أيضا أن أحد مستخدميه غافل المسئولين وخرج ومعه «بلاص» عسل، وبينما هو خارج به من الدوار، وقد ركب حمارا، رأى جدي على خلاف عادته في الظهيرة جالسا أمام باب الدوار، فأسقط في يد الخادم واضطرب؛ لأنه كان يريد الترجل لتحية مخدومه، وأدرك جدي ما كان يعتمل في سريرة الخادم، فأسرع إليه وأمسك طرف عباءته وهو راكب، وغطى به البلاص وقال له: إذا لم يكن هذا الذي أمرت لك به كافيا لعيالك، فتعال إلي غدا لآمر لك بواحد آخر.
صفحه نامشخص
وكان هذا الموقف رفقا بإحساس الرجل، حتى لا يشيع بين العمال والخدم أنه سارق، وتصبح هذه الحادثة سبة في جبينه.
ولقد كانت هذه المواقف وغيرها سببا في اجتذاب محبة مستخدميه وولائهم ووفائهم، فجازاه أحدهم في ابنه من بعده، وقصة ذلك أن والدي عندما اشترى تفتيش «دماريس» جعل يفكر في تدبير ما بقي عليه من ثمنه، ولاحظ انشغاله رجل مسن من مستخدمي والده فقال له: ما بك؟ فأجابه بأنني أفكر في تدبير باقي ثمن التفتيش الجديد، فقال الرجل: لا تفكر واتبعني، وتبعه والدي من حجرة إلى أخرى حتى وصلا إلى غرفة متطرفة مغلقة، وفتحها الرجل بمفتاح كان معه وأدخل والدي فيها، وجاء ببساط كبير من الصوف وفرشه على أرض الغرفة، ثم فتح «زلعة» وألقى ما بها من نقود فضية على البساط، وهكذا واحدة بعد الأخرى حتى وجد أبي نفسه أمام كومة كبيرة من النقود الفضية، فقال والدي للرجل: ما هذا؟ قال الرجل: هذه نقود تركها لك أبوك في ذمتي، وحلفني ألا أعطيها لك إلا إذا كنت محتاجا لها، وها هي قد نفعتك اليوم.
وقيل لي: إن هذه النقود قد عبئت في جوالات كثيرة، وحملت على الدواب إلى المراكب حيث أرسلت للبنك.
وخلال الفترة التي كان فيها أبي في قلب الحياة العامة، وقعت الحوادث العرابية، وقد تكون هذه فرصة لكي أذكر بعض ما أعرفه عن بعض مدعي الوطنية الذين اتهموا والدي بأنه ساعد على دخول الإنجليز نزولا على إرادة الخديوي توفيق.
وليس أدل على أن ما ذكر كان مجافيا للحقيقة، من أن الصحف كانت قد نشرت مذكرات منسوبة إلى عرابي باشا بعد وفاته، وكان ما نشر يصادف هوى لدى أولي الأمر في ذلك الوقت. فلما تركوا زمام الحكم، جاء إلي عبد السميع أفندي عرابي يطلب مني المساهمة في طبع مذكرات أبيه، فلما أبديت له دهشتي من أن يطلب طبع هذه المذكرات على نفقتي وفيها طعن في وطنية والدي كذبا وبهتانا، أبدى استعداده لحذف هذا الجزء من المذكرات، وكانت دهشتي هذه المرة أشد من سابقتها، وقد رفضت ذلك مقتنعة بأنه كما أراد حذف هذا الجزء بشرط المساعدة، فإنه لا بد قد وضعه بشرط مثله خدمة لغرض آخر، وأسفت أن هذا حدث شفويا، وإلا لكنت قد أدليت بالبرهان على كذب ما جاء في هذه المذكرات لعرابي باشا، ومع ذلك فسوف يأتي الحديث فيما بعد عن خطابين أرسلهما إلي عبد العزيز وعبد السميع عرابي ابنا عرابي باشا.
وكان عبد السميع قد كتب مقالات في جريدة المحروسة، ذكر فيها أن سلطان باشا كان من رؤساء الحركة الوطنية، وكان يظن أنه يستطيع بمواهب عرابي وقوة الجيش الحصول على رئاسة البرلمان ، فأيد عرابي في جميع الأحوال إلى أن فازت الأمة بالمجلس النيابي. ولكنه لما رأى الأمة تتحدث باسم عرابي بكل إعجاب وثناء تسرب الحسد إلى نفسه. ولما تشكلت وزارة محمود باشا سامي كان يطمع أن يكون فيها وزيرا فلم يتحقق أمله.
وعلى ذلك أخذ يضلل أعضاء مجلس النواب وغيرهم وينفرهم من عرابي ويغريهم بالتخلي عنه. ولكنه لم يفز؛ لأن الأمة بكل طبقاتها كانت في جانب عرابي إلى النهاية.
وقد تصدى له قليني باشا فهمي؛ حيث نشر مقالا في جريدة المقطم يوم الأربعاء نوفمبر 1923 قال فيه:
إن منشأ الحركة العرابية كان سببا عن الظلم والجور اللذين لحقا بضباط الجيش المصريين؛ حيث كان لا يسمح لأي ضابط مصري مهما كانت مواهبه أن يتعدى رتبة أميرالاي، فأوجب هذا تذمر الضباط المصريين ما ترتب عليه قيامهم بحركة ضد هذا الاحتلال التركي الجركسي، وكان هذا هو الأساس الذي قامت من أجله الحركة العرابية.
ولما كان البرنامج يشمل أيضا طهارة المصالح الملكية من الموظفين الأتراك والجراكسة، فقد انضم إليهم كثير من أعيان البلاد وكبرائها، وأخذ يناصرهم المرحوم سلطان باشا بما كان له من النفوذ الكبير والسلطة العالية.
صفحه نامشخص
وأضاف قليني باشا:
إن سلطان باشا كان يشغل مركز حاكم الصعيد العام، وكان ذا جاه عريض وسلطة واسعة. فمن هذا يعلم أنه لم يكن في احتياج إلى جاه غيره ليتوصل إلى مركز عال. ولما بدأت الحركة العرابية ورأى من مبادئها خدمة البلاد، انضم إليها بكل نفوذه وعضدها بكل قواه، لا حبا بوظيفة؛ لأنه كان يشغل أعظم المراكز، بل حبا في خدمة البلاد.
وعندما ألف البرلمان، انتخبته الأمة رئيسا له، ولا يعقل أن الذي يتقلد وظيفة رئيس البرلمان يطمع في أن يكون وزيرا؛ لأن وظيفة رئيس البرلمان فوق وظيفة رئيس الوزراء. وقال:
أذكر أنني كنت مع المرحوم سلطان باشا في سراية ذات يوم، وإذا بعرابي قد حضر ومعه ضباط من الجيش وطلبوا منه عقد البرلمان في الحال، فسألهم عن الموضوع الذي يريدون أن يتكلموا فيه، فقالوا: عزل الخديوي، فقال لهم: وهل رشحتم من يخلفه حتى يكون قرار البرلمان بالعزل شاملا لتعيين الخلف. وكان عرابي ينتظر من الجميع أن يقولوا: إن الخلف عرابي، ولكن لم ينطق أحد منهم، وبعد أن تداولوا فيما بينهم قرروا تأجيل البت في ذلك إلى الغد.
وعقدوا اجتماعا في منزل عرابي للمداولة، فاشتد الهرج بينهم، فقال محمود سامي البارودي إنني أولى بالملك لأني من سلالة ملوك، وقال عرابي: ولكني أنا رئيس الحركة الوطنية وموحدها، وقال آخرون غير ذلك إلى أن قال طلبه عصمت باشا: لكل منا أعمال عظيمة في هذه الحركة، فيجب أن نعامل كلنا بالسواء بلا تمييز واحد على الآخر، فيحسن أن نجعل كل مديرية خديوية قائمة بنفسها، وكل منا يكون خديوا لها. وحينئذ يئس عرابي، واستحسن مع البعض أن تبقى الحالة كما هي عليه. وبعد ذلك توجه عرابي إلى سراي سلطان باشا، وشكره على نظره البعيد.
نظر سلطان باشا إلى كل هذه الأحوال، وقال للعرابيين: إنه يحسن بالجيش المصري أن يقف عند هذا الحد؛ لأن الأجانب قلقون جدا من العسكرية الدائمة، فلم يرق هذا القول للعرابيين وعدوه خيانة من سلطان باشا، ولم يعبئوا بنصيحته، بل ظلوا على تهديد العرش مما استوجب مخاوف الخديوي، فاستغاث بأوروبا لتساعده على خلاص عرشه من التهديد.
وعند دخول الإنجليز إلى مصر، أراد سلطان باشا أن يتحقق إلى أي حد ترمي المقاصد الإنجليزية. فأكد الجنرال دلسلي قائد الحملة أن مهمتهم هي إخماد الفتنة العرابية وحفظ العرش من التهديد. وبانتهاء ذلك تكون مهمتهم قد انتهت وينصرفون إلى بلادهم ... أكدوا هذا لسلطان باشا الذي كان مشغوفا بحب وطنه وخائفا من سيطرة الإنجليز عليه؛ لأنه ليس من المعقول أن سلطان باشا يحارب الاحتلال التركي، الذي كان في نظره كابوسا على البلاد، ويسعى للاستعاضة عنه بالاحتلال الإنجليزي.
وأود أن أذكر هنا أن عرابي باشا كان قد أمر بأن تؤخذ ممتلكات أبي من غلال وخيل وغيرهما، وترسل إلى مخازن الإنجليز، وأن يختم البيت بالشمع الأحمر حتى ينظر في أمره.
وبعد فشل عرابي ونفيه إلى جزيرة سرنديب، أمرت الحكومة بصرف عشرة آلاف جنيه لوالدي على سبيل التعويض الرمزي، عن الخسائر المادية التي لحقته من جراء تلك التصرفات، فانتهز ضعاف العقول والبصائر هذا الأمر للتشهير بوالدي، وقالوا: إنه منح المبلغ مع الخديوي توفيق لمساعدة الإنجليز على كذبهم وافترائهم، ولو فرضنا المستحيل، فإنه لا يمكن أن يبيع مصر بهذا الثمن البخس الذي لا يوازي قطرة في بحر ثروته.
ولقد كان من نتيجة فشل والدي في إقناع عرابي، قيام تلك الحوادث التي أدت إلى دخول الإنجليز إلى البلاد عنوة، متذرعين بالفتن والاضطرابات الداخلية والخارجية.
صفحه نامشخص
وما الذي كان يستطيع والدي أن يفعله إزاء الجيوش التي هزمت جيش عرابي؟
هل كان في إمكانه محاربتها والتغلب عليها، أو تصديق ما كان يقال من إنهم مدافعون عن العرش واستتباب الأمن وحماية الأجانب، بدلا من أن يدخلوا فاتحين بحد السيف؟
الفصل الثاني
منذ البداية، أريد أن أؤكد حقيقة هامة، وهي إنني في هذه المذكرات لا أحاول أن أدلل على وطنية أبي محمد سلطان باشا، فهذه في رأيي قضية واضحة لا تحتاج إلى كثير من المناقشة، ولو كنت أعرف أنها موضع شك، لاخترت منذ زمن طويل أن ألتقي بكل الذين عرفوا والدي وعرفهم ... وأبحث في أوراقهم وأنقب في ذكرياتهم.
ومع ذلك، فإنني إزاء ما يثار في هذه الأيام من أقاويل، أرى أنه من الأفضل أن أضع النقاط على الحروف، وأن ألتزم في ذلك بما جرى على ألسنة الأطراف الأخرى، فلا جدال في أن أعظم شهادة هي ما يشهد به الأعداء. فقد حاول البعض أن يفسر المواقف بما يخدم مصالح أطراف معينة، بعيدا عن وجه الحقيقة، ولكن تشاء إرادة الله أن يبدو وجه الحقيقة على أيديهم.
لقد قلت: إن أبي هو الذي حذر منذ وقت مبكر مما يمكن أن يحدث نتيجة الاندفاع في مواقف متطرفة، دون استعداد من ناحية، ودون دراسة وافية ومتأنية من ناحية أخرى. ولكن الاندفاع غلب على صوت العقل، فكانت تلك النتائج السيئة التي أشار إلى إمكانية وقوعها من قبل أن تحدث ... وهذا هو الفارق بين الرجال، وهذا هو أيضا الفارق بين المواقف، وهذا هو كذلك الفارق بين النتائج.
ولكي أبرهن على تعمد البعض تشويه التاريخ حبا في المصلحة الشخصية، أو تبريرا لآراء بعض المتطرفين في أفكارهم، فإنني أسجل هنا كلمة الأستاذ حسن القاياتي التي نشرت بجريدة الأهرام الغراء بتاريخ 22 سبتمبر 1920 بعنوان «حول عرابي». وفيها يقول:
كتب عبد السميع عرابي في «المنبر» الكلمة الآتية فيما يدافع به عن أبيه زعيم الثورة. قال: في يوم الأربعاء 13 سبتمبر 1882 كان عرابي يصلي الفجر، فسمع ضرب المدافع بشدة، ولما تفقد الأمر وجد الضرب على طول خط الاستحكام، وأن الاستحكامات تضرب المركز العمومي الذي يبعد عنها نحو أربعة آلاف متر، ولما لم يكن هناك غير الأهالي المتطوعين مع (المدعو) الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه وجابر بك من بندر ببا، وكانوا جميعا نحو الألفين، دعاهم للهجوم على بطارية الأعداء فامتنعوا. وما زال بهم يذكرهم بالوطن وواجب الجهاد إلى آخر عبارات الاستفزاز المشتعلة في مثل هذا المقام حتى يئس من نفعهم وحتى تفرقوا جميعا فرارا من هول الموقف.
تلك كلمة عبد السميع بك عرابي فيما يفصح به عن أبيه ويؤيد به فعلته في ذلك الموقف. أما أنا فلم تتقدم بي العين إلى شهود تلك الموقعة، وأنا أؤيد بأن أباه كان رجلا مخلصا بر الطوية نبيل النزعة في ثورته، ولكني على ذلك ناقل هذه الحقيقة عمن شاهدها، فأدى ما سمع وأبلغ ما رأى؛ قضاء لحق التاريخ والعلم.
حدثني رجل خصيص بالشيخ محمد عبد الجواد القاياتي (والد كاتب هذه الكلمة) حضر معه الموقعة. قال: بعد أن وقعت الهزيمة على الجيش المصري العرابي، وحقت كلمة الفشل والخزي، لم يرعني إلا عرابي باشا على فرس ضامر ينهب به الأرض نهبا ويطير به في كل مطار، حتى إذا اجتاز السرادق الذي كان فيه الشيخ محمد عبد الجواد وأخوه الشيخ أحمد عبد الجواد، جعل ينادي ويهتف: «يا سيدنا الشيخ ... لقد ضاعت البلد ... دافعوا عن المسلمين» في أمثال هذه الكلمات الجوفاء، فأجابه الشيخ محمد عبد الجواد بكلمات فيها شتم وتحقير ورمي بالخيانة ... ثم مر عرابي لا يلوي على شيء، وكيف تستطيع المتطوعة القتال بعد هزيمة الجيش؟
صفحه نامشخص
ومن ناحية أخرى، فقد وصلني خطاب من الأستاذ عبد السميع أفندي عرابي بتاريخ 15 فبراير 1926، وفي هذا الخطاب يسترعي الالتفات عبارة يقول فيها: «هذه المجهودات الوطنية وما لبيتكم من الآثار الجليلة فيها». وأعتقد تمام الاعتقاد أن هذا الوضع هو المطابق تمام المطابقة لما جاء في المذكرات الأصلية لعرابي باشا؛ لأنه ما كان يستطيع تدوين غير الحقيقة هو وغيره من المعاصرين له على قيد الحياة.
ولو كان الموقف بالنسبة لوالدي غير ذلك، لما أقر واعترف عبد السميع أفندي كتابة بما بيننا من الآثار الجليلة في هذه المجهودات الوطنية، وإلا لكان مخالفا لواقع وحقيقة مذكرات والده، ولكن المحير في الأمر أن يعترف عبد السميع أفندي بالآثار الجليلة لبيتنا في هذه المجهودات الوطنية قبل طبعها، ثم يرمي والدي بضد هذه الآثار بعد الطبع؟!
ومما يحقق اعتقادي بعدم صحة كل ما أثاره المغرضون حول والدي، خطاب آخر وصلني من عبد العزيز أفندي عرابي مع نسخة مهداة إلي من الجزء الأول من تاريخ والده، وفيه يسجل قراره بخطه أن والدي قد اشترك في تلك الثورة؛ إذ قال: هذه نسخة من الجزء الأول من تاريخ والدي رحمه الله عن الثورة العرابية التي اشترك فيها ساكن الجنان سلطان باشا، وكان فيها من المبرزين. ويقول أيضا: فحسبي أن أتقدم بهذه الهدية وفاء لوالدك الذي له حقه علينا.
ولعل مثار دهشتي من الخطابين اتفاقهما قبل الطبع على ذكر أفضال والدي، والإشادة بمواقفه ومجهوداته والرغبة في خدمة الحقيقة والتاريخ، ثم ظهور بعض الشوائب التي أحيط بها والدي، الذي كان بالأمس محل التقدير لمجهوداته الوطنية، والذي كان من المبرزين في تلك الثورة! ...
ومن هذا الاستشهاد وغيره من مجريات الحوادث يستطيع القارئ أن يتبين أين الحقيقة، ولو عاش والدي بضع سنين أخر، لاستطاع أن يكشف النقاب عن كثير من الأسرار التي أحاطت بموقف الجميع، ولكنه للأسف مرض في أعقاب نتائج الثورة، واشتد مرضه بسبب نتائجها التي أدت إلى أسوأ ما منيت به مصر الحديثة، وهو احتلال البلاد.
وفضلا عن ذلك، فإنني أنشر هنا مقالا للأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي في مجال ما دار من المساجلات والمشادات، التي نشرت في الصحف بينه وبين عبد السميع أفندي عرابي حول مذكرات والده. وفيه يبدو جليا رأي أحد المؤرخين في المآخذ التي تعرض لها سلوك عرابي باشا ومقاصده ونواياه، وإظهار نواحي الضعف والإهمال في إعداد الجيش العرابي لمنازلة الإنجليز، وتحميل زعماء الثورة العرابية مسئولية المخاطرة بمستقبل البلاد، فضلا عن نوايا بعضهم في اعتلاء العرش.
وقد نشر هذا المقال في جريدة كوكب الشرق في 26 سبتمبر 1933، تحت عنوان «كلمة ختامية»:
قرأت المقالات الثلاث التي كتبها حضرة عبد السميع أفندي ردا على كلمتي عن ذكر 14 سبتمبر، وليس من قصدي أن أدخل وإياه في مناقشة طويلة، فإني أعتقد أن أعمدة الصحف اليومية لا تتسع لهذه المناقشات؛ لذلك أقتصر على الرد التالي ليكون من «ناحيتي» كلمتي الختامية لهذا الموضوع.
أنا لم أزل على رأيي في أن زعماء الثورة العرابية قد ركبوا من الشطط من يوم أن أكرهوا شريف باشا على الاستقالة من الوزارة. لقد ذكر عبد السميع أفندي قصة هذه الاستقالة وأراد بها أن يبرر مسلك العرابيين في الدور الثاني للثورة، واستدل بقرار مجلس النواب في هذا الصد، وقال: إن النظام الدستوري هو الذي أكره شريف باشا على الاستقالة، وجوابي على ذلك أن يستتر وراءه الزعماء لتغطية مسئولياتهم في الحوادث الجسام؛ لأن المعلوم أن النواب في عهود الثورات والانقلابات يستلهمون الرأي من زعمائهم. فإذا شط النواب في قراراتهم وكانوا في شططهم نازلين على حكم زعمائهم ثم وقعت الكارثة، كانت المسئولية واقعة على الزعماء أولا ثم على النواب ثانيا.
فشريف باشا كان يرى درءا للأزمة السياسية التي نشأت عن تدخل الدولتين في مسألة الميزانية، ألا يبت مجلس النواب في قراره النهائي في المادة المتعلقة بها من اللائحة الأساسية ويرجئها إلى حين تنتهي الغمة؛ وبذلك يتفادى التدخل المسلح من جانب إنجلترا وفرنسا.
صفحه نامشخص
والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعا لحقوق الأمة؛ لأن وضع الدستور قد يستغرق زمنا يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات، والتأجيل كثيرا ما يكون وسيلة لحل بعض الأزمات السياسية، ولكن العرابيين رفضوا الأخذ برأي شريف باشا؛ لأنهم رأوا في هذه الأزمة فرصة للاستئثار بالحكم وتولية أحد زعمائهم رئاسة الوزارة بعد إقصاء شريف باشا عنها. وقد تم لهم ما دبروه واستقال شريف باشا، وتولى الرئاسة محمود باشا سامي البارودي. ومن يومئذ تلاحقت الأحداث والخطوب حتى انتهت بالاحتلال.
فالعرابيون قد عرضوا البلاد للتدخل المسلح من جانب إنجلترا ... ويا ليتهم عرضوها لهذا التدخل بعد أن أحسنوا الاستعداد للحرب والقتال، فإن الحكمة والسياسة تقضي على أقوى الدول الحربية أن تأخذ عدتها للحرب قبل أن تغامر فيها. ولكن العرابيين غامروا بمستقبل البلاد في وقت كانت عوامل الضعف والارتباك قد نالت من قوة الجيش ومكانته. فكان ما كان من هزائم سنة 1882. فالذين خاطروا بمستقبل البلاد من زعماء الثورة العرابية يتحملون أكبر تبعة في وقوع الاحتلال.
والنظام الدستوري ليس مسئولا عن هذه التبعات، بل النزعات والأطماع الشخصية هي المسئولة عنها، ولا نزاع في أن هذه النزعات والمطامع قد تغلبت على نفوس الزعماء في الدور الثاني للثورة، وقد شهد بذلك زعماء الثورة بعضهم على بعض، فشهد عرابي باشا في مذكراته بما كان يساور محمود باشا سامي البارودي من المطامع في عرش الخديوية. وشهد محمود باشا فهمي على عرابي بمثل ذلك القول في كتابه «البحر الزاخر» إذ قال عنه: «إن المقصد الأصلي له أن ينال أريكة الخديوية المصرية، وإن الثورة العرابية هي ثورة مشئومة، وأمرها وأحوالها كانت مكتومة في قلب عرابي لم تظهر حقائقها، ولم تبد دقائقها للعيان إلا بعد النفي في سيلان؛ حيث أفشى كل من عرابي وعبد العال وعلي فهمي ما كانوا عليه للعيان.»
وشهادة محمود باشا فهمي لها قيمتها التي لا تنكر؛ لأنه أحد زعماء الثورة الذين ثبتوا فيها حتى النهاية، وأحد المنفيين في سيلان، وكان وزيرا للأشغال العمومية في «وزارة الثورة» التي كان يرأسها البارودي، وفيها كان عرابي وزيرا للحربية، وكان فوق ذلك رئيسا لأركان حرب الجيش العرابي في وقائع سنة 1882 فأقواله حجة، وثمة شهادة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فإنه كان يتوقع الشر من الثورة العرابية، ويقول: «إنها قد تجر إلى البلاد احتلالا أجنبيا يستدعي تسجيل اللعنة على مسببه إلى يوم القيامة.» وقد تحقق مع الأسف ما كان يتوقعه، وانتهت الثورة بالاحتلال الإنجليزي الذي تعانيه البلاد إلى اليوم.
أما طعن عبد السميع أفندي في أمثال الشيخ محمد عبده ومحمد باشا فهمي، فنحسب أنه لا ينقص من قيمة آرائهما شيئا، وثمة كلمة أخرى أرد بها على عبد السميع أفندي، فإنه يسألني: «ما هي تلك الآراء والتصريحات التي أدلى بها عرابي حين عودته إلى مصر وكان فيها تأييد مطلق للاحتلال الإنجليزي؟ هذه تهمة خطيرة يحسن ألا يقذف بها هكذا جزافا من غير أن تقترن بالبينة.»
ويلوح لي أن هذا السؤال هو من قبيل تجاهل العارف، فإن عبد السميع أفندي وهو أحرص الناس على كل ما له علاقة بتاريخ عرابي باشا، لا يمكن أن تفوته تلك الأحاديث. ولم أكن أريد أن أعيدها ولذلك اكتفيت بالإشارة إليها. ولكن ما دام عبد السميع أفندي يذكرها ويطلب منا البيان، فإني أحيله على حديث المغفور له عرابي باشا في جريدة «ذي تيمس أوف سيلان» عدد 26 مايو 1901 بعد العفو عنه، إذ قال فيه: «كلما أتفكر في مصر أحس بفرح عظيم وسعادة أكيدة لعلمي بأنه ليس بها الآن أقل اضطراب، وإن ما كنت أتمناه لأمتي من استتباب الأمن وتمام الراحة نالتها اليوم بلا تعب ولا عناء وما ذلك إلا بهمة الحكومة الإنجليزية.»
وأحيله أيضا على حديث هام نشر له في عدد 3 أكتوبر 1901 من جريدة المقطم، إذ قابله مندوبها بعد عودته لمصر، وسأله: هل وجدتم ما رأيتموه في مصر في هذين اليومين مختلفا عما كانت عليه حين مفارقتكم إياها؟
فقال عرابي باشا: إن عائلتنا كبيرة تعد أكثر من عشرة آلاف نفس منتشرين في طول هذا القطر وعرضه. وقد قابلت أكابرهم الذين جاءوا السويس للتسليم علي، فسألتهم عن الأحوال بالتفصيل والإجمال، فوجدتهم متفقين في الجواب، قلت لهم: أصحيح أن السخرة ألغيت عندكم، فقالوا: نعم صحيح، قلت والكرباج، قالوا: أبطل من زمان، قلت: وكيف تحصل الأموال من الأهالي، قالوا: بالحق والعدل، وكل إنسان يعرف ما له وما عليه ... فسألتهم وكيف الاستبداد في الأحكام الآن، أجابوا أنه لم يبق للاستبداد أثر في البلاد، فكل شيء مقيد بقانون ونظام ولا خوف على محكوم من جور حاكم؛ لأن كل من له أو عليه قضايا رفع مظلمته إلى المحاكم. فشكرت الله حينئذ وحمدته؛ لأنه حقق مناي وأراني قبل مماتي ما طالما كنت أتمناه لبلادي وأبناء وطني في حياتي. وقلت هذا هو الإصلاح الذي كان غايتي من أفعالي الماضية.
وقد شاء الله أن ينعم على وطني ولكن لحكمة له جل جلاله قضى ألا يتم ذلك على يدي، بل على يد الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء، فصاروا لمصر اليوم خير الأصدقاء، وقضى الله أن أكون واسطة هذا التغيير فينال وطني ما كنت أتوخى وأتمنى له من الخير.
فهل هذه التصريحات لزعيم ثورة يحمل في قلبه رسالة الوطنية لقومه. إن الزعيم الوطني لا يمكن أن يمتدح الاحتلال الأجنبي المضروب على بلاده بمثل هذه الأقوال، ولا يمكن أن يصف جرائم الاحتلال بأنها الإصلاح الذي كان يبتغيه وإنها غايته من «أفعاله الماضية» أي من الثورة التي حمل لواءها وتولى زعامتها. هذا إلى أن عرابي باشا يمن على بلاده في هذا الحديث بأن الإنجليز قد أبطلوا السخرة والكرباج ونظموا المحاكم وأقاموا منار العدل فيها، وهو لعمري قد ظلم مصر بقوله هذا ولم ينصف الحقيقة والتاريخ، فإن السخرة والكرباج قد أبطلا في عهد وزارة رياض باشا الأولى سنة 1880 قبل الاحتلال، ونظام المحاكم الحالي قد تقرر بادئ ذي بدء في عهد وزارة شريف باشا الثانية بمقتضى المرسوم الصادر في 17 سبتمبر 1881 قبل الاحتلال أيضا.
صفحه نامشخص
ومن تهكم الأقدار ومن المؤلم حقا أن زعيم الحركة التي قامت في الأصل لتخليص الجيش من سيطرة شرذمة من الشراكسة، يغتبط بوقوع مصر تحت سيطرة الإنجليز . وكانوا يوم أن أدلى بهذا الحديث قد مضى عليهم عشرون عاما قضوا فيها على استقلال البلاد وحريتها، وسلخوا السودان عنها، وجعلوا أملاكها ومرافقها نهبا مقسما بينهم وبين الدول الاستعمارية، واغتصبوا سلطة الحكم وأفسدوا الجيش والإدارة والتعليم والأخلاق في البلاد.
وبعد، فلم أكن أريد أن تصل المناقشة إلى هذه التفاصيل. ولكن ردود عبد السميع أفندي قد اقتضت ذلك، وجعلتني أعيد البحث فيما أدلي به من حجج في مقالاته، وكنت أود أن أقتنع بها، ولكنها لم تزدني إلا اقتناعا بالرأي الذي وصلت إليه من قبل، وهو أن الثورة العرابية في دورها الثاني كانت مع شديد الأسف صفحة محزنة من تاريخ مصر الحربي والقومي ...
هذا ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وكشف فيه الرجال والمواقف والأدوار، ونبه الأذهان إلى مجريات الأمور في الدور الثاني للثورة العرابية، ولقد كان من بين الرجال الذي تنبهوا مبكرا لذلك، والدي محمد سلطان باشا؛ فقد ظل مؤازرا للثورة العرابية باعتبارها ضمير الأمة وصوت الشعب، إلى أن جاءه رجال الثورة ليطلبوا منه، باعتباره رئيس البرلمان، أن يدعو إلى جلسة لعزل الخديوي، فلما سألهم عمن سوف يشغل مكانه بعد عزله حتى يقرر البرلمان ذلك، لم يلبثوا أن اختلفوا وتناحروا وادعى كل واحد منهم أنه الأحق بالأريكة الخديوية. وربما كان هذا هو الموقف الذي أسلم أبي للمرض، فقد غاب صوت العقل في المناقشات التي دارت بينه وبين رجال الثورة العرابية، واندفعوا رغم تحذيره بأن هذا الاندفاع قد يؤدي إلى أسوأ العواقب.
فلما وقعت الواقعة اشتدت العلة وسافر إلى سويسرا ومنها إلى جراتس في النمسا؛ حيث قضى نحبه عام 1884.
الفصل الثالث
كانت والدتي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها بعد عندما مات والدي في مدينة جراتس بالنمسا.
إنني ما زالت حتى الآن أتذكر يوم وصل إلينا نعي والدي الحبيب. ثم أيام الحزن العميق التي اجتزناها، والسنين المدلهمة الطويلة التي جلل فيها السواد كل أثاث المنزل ورياشه.
لقد وقع الخبر مثل الصاعقة على رأس والدتي، وما زلت أذكر صورتها وهي طريحة الفراش يعودها الأطباء من آن لآخر، وكانوا يأخذونني أنا وأخي فنقف بجانب فراشها، وإذ ذاك تنظر إلينا بحزن ثم تخنقها العبرات وتدس رأسها تحت الغطاء، وهي تقول: أبعدوا الطفلين عني! ...
وعندما كنا نذهب إلى الغرفة المجاورة ... عند والدة أخي إسماعيل ... التي كنا نناديها باسم «ماما الكبيرة» ... كنا نشاهد منظرا أقسى لشابة أخرى فقدت ابنها قبل وفاة زوجها، ففقدت كل أمل في الحياة، ومرضت مرضا ألزمها الفراش طوال السنوات الثماني التي عاشتها بعد ولدها، وعندما كان يلح عليها من حولها لترك الفراش وترييض جسمها، كانت تذعن في النهاية تحت إلحاحهم، فتتمشى من غرفة إلى أخرى، وكنا نفرح لذلك كثيرا ونجري أمامها مهللين مصفقين، فتعلوا شفتيها القرمزيتين - بفعل الحمى - ابتسامة باهتة واهنة ممزوجة بالأحزان التي تنبع من أعماق قلبها. كنت أحب هذه السيدة حبا عظيما، وكانت تبادلني الحب وتعطف علي، وكانت هي الوحيدة التي تجاذبني الحديث بصراحة في مختلف الأمور والشئون، وقد لاحظت ما كنت أحاول أن أخفيه من آلام نفسية؛ بسبب تفضيل أخي علي سواء من جانب والدتي أو أهل البيت جميعا، فكانت تحاول أن تقنعني بأن هذا ليس تفضيلا، ولكن لأن الولد هو الذي يحمل اسم الأسرة وهو الذي يحمل مسئوليتها.
وكان بيتنا مفتوحا لكل زائرة ولكل قاصد، ذلك أن والدتي كانت خيرة وديمقراطية، ولذلك كان منزلها لا يكاد يخلو من الضيوف يوما واحدا، وكثيرا ما كانت تطول تلك الضيافة نظرا لما يجده الضيوف من حسن الوفاء وكرم المعاملة، وكثيرا ما وفد الزائرون فجأة، في الأوقات المناسبة وغير المناسبة. ولذلك كانت مائدتنا مستعدة دائما لاستقبال الضيوف، وكانت الغرفة معدة لإقامة النازلين، وكثيرا ما كنت أثور على هذا التطفل الذي يضطرني إلى ترك غرفتي لإحدى الضيفات أو قبولها شريكة لي فيها، وكنت دائما أفضل الحالة الأولى؛ لأنني أتألم من بعض الروائح ومن عدم تجدد هواء غرفتي.
صفحه نامشخص
وكان «السلاملك» هو مهبط الأقارب والموظفين، وكنت أحتفي بمن أصطفيهم من هؤلاء، وفي مقدمتهم زوج أختي الكبيرة إسماعيل بك؛ لأنه كان يبالغ في ملاطفتي وكان مع كبر سنه لطيفا، واسع الصدر، يدلعني ويقربني منه، كذلك كنت أؤثر من أقاربي أحمد حجازي ابن عم والدي الذي كان كثير الاهتمام بأمري، وكان يحدثني عن أبي ويقص علي بعض صفاته وتاريخه، كذلك كنت أفرح لمجيء أحمد بك مرزوق؛ لأنه كان مرحا خفيف الروح، وكان يملأ البيت سرورا بفكاهاته وصوته العالي.
وعندما كان يحضر علي بك شعراوي الوصي علينا وناظر أوقاف والدي، كانوا يأخذونني أنا وأخي للسلام عليه، وبعد ذلك كنت أتحاشى الذهاب إلى السلاملك؛ لأنه لم يكن يلتفت إلي على الإطلاق، وكان يوجه كل حديثه واهتمامه إلى شقيقي الذي كان يحبه حبا جما. وكان منزلنا يتخذ شكلا غير مألوف طوال مدة إقامته بسبب الخوف الذي كان يستولي على الخدم وعلى الأقارب والزائرين.
ومن الزائرين الذين كنا ننتظر قدومهم بلهفة وشوق جدتي وأخوالي، وكانوا يأتون من تركيا كل سنة أو سنتين تقريبا لزيارتنا، ويغمروننا بهداياهم الكثيرة التي كانت تزيد على حاجتنا فنهدي منها للجيران والأصدقاء.
كانت جدتي على خلاف والدتي، قصيرة القامة ليست بالبدينة أو النحيفة، ناصعة البياض، زرقاء العينين، ترتدي الثياب البيضاء، وتضع على رأسها طرحة بيضاء تتخللها ضفيرتان من شعرها الأبيض تكادان تعادلان جسمها طولا، وكانت تبدو في هذا البياض الشامل كالقديسة وكانت السماحة تشيع في محياها فتكسبها إشراقا وطيبة.
ولقد أحببت جدتي كثيرا، وإن كنت لم أستطع التفاهم معها إلا بالإشارة لجهل كل واحدة منا بلغة الأخرى، ولكن هذا ما كان ليمنعنا من تبادل العواطف وكانت تدللني ببعض كلمات وأغان شركسية ما زلت حتى الآن أحفظ الكثير منها.
وكان خالي الكبير يوسف شديد الشبه بوالدته في طوله وسماحة وجهه ودماثة خلقه، أما خالي إدريس - والد حواء وحورية - فكان شديد الشبه بوالدتي في رشاقته وجمال قسمات وجهه، وكان طويل القامة، نحيف القوام، رقيقا في حركاته ومعاملاته، وكان يحبنا الحب كله ويقضي معظم أوقاته معنا لدرجة أنه كان لا يغادر المنزل إلا قليلا.
كان هؤلاء الأهل يقضون معنا فصل الشتاء، حتى إذا أقبل الصيف بدأت جدتي تتأثر بحر بلادنا، فتلتهب أجفانها وتدمع عيناها ويحمر وجهها، فتطلب العودة إلى تركيا، ولكن خالي إدريس كان يبقى معنا لميله الشديد إلى تعلم اللغة العربية، فكان يتتلمذ معنا على أيدي مدرسينا.
ولما توفيت جدتي، وكان خالي الكبير قد تزوج، جاءت معه زوجته، فقلت له يوما: لماذا لا تبقون معنا هنا ولم يبق لكم في الآستانة أحد بعد وفاة جدتي؟ فابتسم وقال: لقد عرض علي المرحوم والدك ذلك، ولكنني اعتذرت؛ لأن في ذلك هدما لبيتنا ومحوا لاسم عائلتنا.
قلت: وهل بندرته التي تقطنونها كانت بلاد آبائكم وأجدادكم؟ ألستم من القوقاز لا من الأناضول؟
فابتسم مرة ثانية وهز رأسه قائلا: هذه الألفاظ نفسها قد سمعتها من والدك عندما ألح علينا للبقاء في مصر، ولترغيبنا وعدني بأن يكل إلي إدارة أعماله الزراعية ويدخل أخي المدارس ليتم تعليمه، ولكنني لم أقبل حفاظا على اسمنا في بلادنا، كما اعتذرت عن عدم استبقاء أخي؛ لأن كل من أتم تعليمه من أفراد عائلتنا مات ميتة غير طبيعية.
صفحه نامشخص
وبعد ذلك بمدة، تخلف خالي إدريس وبقي بيننا يتعلم، ولما ألحت عليه والدتي في الزواج، أراد أن يتزوج من مصر ويبقى بجوارنا، فخطبت له إحدى فتيات البيوت العريقة، وعندما تحدد موعد القران اشترط أهل العروس ألا تفارقهم ابنتهم، وألا تسافر معه إذا سافر، ورفض هو هذا الشرط قائلا: إن الزوجة لا بد أن تتبع زوجها في حياته وتنقلاته، وسافر إلى بلاده وتزوج هناك، وأنجب ابنتيه حواء وحورية.
وذات يوم دعي هو وأخوه مع أهل القرية لحضور فرح في قرية مجاورة، وكانت العادة هناك أن يركب المدعوون عربات تجرها الثيران، وطلب خالي الكبير من أخيه أن يصحبه في هذه العربات، ولكنه اعتذر لوجود ضيوف عنده، ووعد بأن يلحق به على ظهر جواده الجديد السريع، وكان الجواد قويا فجمح به أثناء الطريق وصدمه مقدم السرج في صدره؛ فسقط من فوق الجواد ميتا، وانقلبت الأفراح أتراحا، وتحقق بذلك اعتقاد خالي الخبير بأن من يتم تعليمه من أفراد الأسرة يموت ميتة غير طبيعية، وهكذا قضى خالي المسكين تاركا طفلتيه الصغيرتين حواء وحورية، وكبراهما لم تبلغ الثانية بينما الصغرى ما زالت رضيعا.
والحقيقة أنني لم أجرؤ في يوم من الأيام على سؤال والدتي عن أصلها وسبب نزولها في مصر، فقد كانت رحمها الله زاهدة في الكلام عن نفسها، قليلة الشكوى والجهر بآلامها، تتحكم في عواطفها وتخفي في قرارة نفسها كل ما يؤلمها، على إنني كنت تواقة لمعرفة شيء عن حياتها وأهلها. ولذلك سألت خالي يوسف عن سبب هجرة عائلته من القوقاز إلى الأناضول، وكيف وصلت والدتي إلى مصر إلى أن تزوج أبي منها، فقص علي أنه عندما شبت الحرب بين الجراكسة وروسيا القيصرية حوالي عام 1860، دافع الجراكسة عن القوقاز بكل شجاعة وبسالة، وكان جدي لأمي أحد القواد المشهورين، وكان يدعى «شار الوقه جواتيش»، وكان هو الذي يقود المعركة في القرم. وأثناء الحرب هزمت فرقته ووقع أسيرا وكان له بين القواد المعروفين خصم هو القائد الداغستاني الشهير «الشيخ شامل» فانتهز هذا القائد فرصة أسره للتشهير به، وأشاع أنه انضم إلى الروس وخان بلاده، فقبضت السلطة المحلية على ولده يوسف الذي كان دون السادسة عشرة من عمره، وألقت به رهينة في الحبس توطئة للحكم عليه بالإعدام إذا لم يعد أبوه؛ وعندئذ قررت جماعة من حزبه وأقارب والده وأصدقائه، التطوع لتخليص والده وأصدقائه من أسر الروس؛ إنقاذا لابنه المسكين. فارتدوا ملابس الجنود الروس واندسوا بينهم وقد ساعدهم على ذلك معرفتهم للغة الروسية، وصحبتهم في هذه المغامرة ابنة أخيه «حورية»، وكانت مع جمالها مغامرة فلم تتردد في الاندماج مع الرجال الذين تطوعوا لخلاص عمها، وقد ساعدهم الحظ، فوفقوا إلى تحقيق خطتهم وتمكنوا من تخليصه، ولكن الروس فطنوا إلى خلاصه فتعقبوه وقاتلوهم في الطريق، ولما كانوا قليلي العدد والعدة، فقد تغلب عليهم الروس، ومات وجرح معظمهم، وكان بين الجرحى جدي «جواتيش» الذي احتمى ببعض الصخور وظل يحارب المتعقبين من الروس في انتظار نجدة من الجراكسة كانت «حورية» قد ذهبت لإحضارها، وما زال يحارب حتى أصابته رصاصة أودت بحياته، وحمله منقذوه ميتا إلى مسقط رأسه ليدفن هناك، وليثبتوا كذب الشائعات التي روجها خصمه الشيخ شامل وبذلك أنقذ ابنه من السجن والموت.
وقد روت «حورية» عن عمها أنه أنبأها خلال فترة الخلاص، أن الروس عندما أسروه بدءوا يلاطفونه ويطرون شجاعته ومعرفته بأصول الحرب وقيادة المعارك، ثم طلبوا منه أن ينضم إليهم ويحارب في صفوفهم للاستفادة من خبرته الحربية ومن شجاعته النادرة. فما كان منه عندئذ إلا أن خلع «الكلبق» من على رأسه وألقى به على الأرض، ثم أمسك بسيفه وكسره على ركبته وألقى به في وجه القائد الروسي الذي كان يفاوضه في هذا الأمر، وكان معنى ذلك أنه يمتهن كرامة الدولة التي أهانت شرفه.
وعندما وضعت الحرب أوزارها وخسر الجراكسة، لم تشأ جدتي البقاء في القوقاز فهاجرت مع من هاجروا إلى الآستانة، مصطحبة أولادها الخمسة بنتين وثلاثة ذكور، وقد قص علي خالي يوسف ما قاسوه في هذه الهجرة من ألم الجوع ومرارة الحرمان طوال المدة التي قضتها الحكومة التركية في إجراءات البحث في أمر المهاجرين، وتعويضهم عن بعض أملاكهم وأموالهم. وأثناء ذلك مات أصغر الذكور، وكان يدعى «يعقوب»؛ نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كما سرقت أخته الرضيع من مرضعتها، وخوفا من سرقة الأخت الباقية - وهي والدتي - قرروا إرسالها إلى مصر للإقامة عند خالها الضابط يوسف باشا صبري، فقد صادف أن كان أحد أصدقائهم قاصدا مصر لزيارة عائلة راغب بك، فسلموها له ليوصلها إلى خالها، ولكنه عندما وصل مصر، كان خالها في رحلة حربية في السودان، وذهب بالطفلة إلى زوجة يوسف باشا، فأنكرت أن يكون لزوجها أقارب، ورفضت قبولها وهكذا بقيت والدتي في بيت راغب بك على أمل أن يعود خالها ويطلبها، ولكن يبدو أن زوجته أخفت عنه هذا الخبر، وكان أن استمرت والدتي في رعاية ابنة راغب بك التي أحبتها كثيرا وعنيت بأمرها ولكن بعد أن تزوجت هذه السيدة، دبت الغيرة في قلبها من والدتي التي كانت على جانب كبير من الجمال، وأرادت التخلص منها، وكان من حسن حظها أن اختارها والدي زوجة له.
وذات يوم، كانت تساعد والدي على ارتداء ملابسه، وتصادف أن كانت قريبة من النافذة المطلة على الحديقة، فدمعت عيناها، وهنا سألها والدي عن سبب بكائها، فقالت له: إنها لمحت بين الزائرين الوافدين إلى السلاملك شابا يشبه أخاها يوسف، فلم تتمالك نفسها من البكاء، فسألها والدي عن أهلها وعشيرتها، ولما قصت عليه قصتها، أرسل على الفور إلى منزل علي بك راغب من يستفسر عن عنوان أهلها، ولحسن الصدف كان قريبهم الذي أحضر والدتي موجودا في مصر، فحضر عند والدي الذي كلفه بإحضار العائلة بعد أن سلمه تكاليف السفر، وبالفعل سافر إلى بندرته وأحضرهم؛ فكان لهذا اللقاء فرحة عظيمة وتأثير كبير في حياة والدتي التي أنزلها والدي المنزلة الأولى من نفسه وبيته، وبعد ذلك دعوا خاليها للتعارف، وهما يوسف باشا والد منيرة هانم حرم المرحوم المهندس علي باشا فهمي، وموسى بك والد اللواء محمد رفقي باشا، والبكباشي أحمد فخري، وعلي بك رضا؛ فأصبحت بذلك بين أهلها وعشيرتها.
هذا عن والدتي ...
أما والدتي الكبيرة، فلقد كنت أطمئن إلى عشرتها لما كنت ألقاه منها من عطف وحنان وصراحة تزيد من ثقتي بها، وتخفف من أحزاني التي كنت أبثها إياها، إذا ضاقت بي الحال وأزعجتني الهواجس والأفكار. وكثيرا ما كنت استأذن والدتي في تمضية بعض الليالي مع والدتي الكبيرة، فكانت تأذن لي رغم علمها بمرضها ولكنها لم تكن تخشى العدوى. وكنت أقضي معها ليالي عديدة، أنام معها في سرير واحد مسرورة قريرة العين منتعشة؛ لأنها كانت مثلي تحب الهواء الطلق، ولا تنام إلا والنوافذ مفتوحة وبخاصة في الصيف، وذلك على خلاف والدتي التي كانت تغلق علينا الأبواب والنوافذ خشية أن يصيبنا البرد، فكنت أسهر معها حتى يغلبني النعاس، وأستيقظ في الصباح الباكر على صوت الأطيار وتغريدها، وكانت الطبيعة بما فيها من جمال وجلال تأخذني فأسبح في جمالها إلى ما لا نهاية، وأشعر بالسعادة والهناء لما ألقاه من عطف وما أسبح فيه من خيال.
وكان يلذ لي أن أشارك هذه السيدة البارة الرحيمة أفكارها لتشابه أذواقنا في كل شيء، كانت تحب اللبن البارد المغلي في المساء والمغطى بالقشدة، فكنا نغمس فيه الخبز اليابس ثم ننتهي بالفاكهة. وفي ليالي الشتاء كنت أجلس القرفصاء بجانب الموقد للتدفئة وأضع الكستناء على الفحم المتوهج واحدة بعد الأخرى، وكلما فرقعت إحداها، قفزت من مكاني ضاحكة، فتضحك هي الأخرى وهي ترنو لي بعين الشفقة والحنان.
وأتذكر إنني طلبت منها ذات يوم أن تفسر لي حكمة تفضيل شقيقي علي، فأجابتني في ابتسامتها الحلوة: ألم تشعري الآن بالفارق الذي بينك وبينه، قلت: نعم ولكني أنا الأكبر وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبي أوفر منه ومركزي أعلى من مركزه.
صفحه نامشخص