قالت: ولكنك فتاة وهو غلام. وليس هذا فحسب، بل أنت لست الفتاة الوحيدة وهو الولد الوحيد الذي عليه عمار الدار، أنت عندما تتزوجين ستذهبين إلى منزل الزوجية وتحملين اسم زوجك، أما هو فسيحيي اسم أبيه ويفتح بيته.
هذا الجواب الصريح المعقول، رد إلي رشدي، ولم أتألم من سماعه بل نزل على قلبي بردا وسلاما، وزادني حبا لأخي الذي سيخلد اسم أبي الحبيب ويحل محله في العائلة.
وقد فهمت والدتي الكبيرة ما أقاسيه من هذا الشعور، فأضافت: إن أخاك ضعيف البنية، لذلك يخافون على صحته ويعطفون عليه، أما أنت فقوية سليمة الصحة.
وقد تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه في حب والدتي، وتصادف أن تفشت حمى الدنج في البلد، وكنت أول من أصيب بها في المنزل، ففرحت بهذا الاختبار ولازمت الفراش، وكم تأثرت من اهتمام والدتي بمرضي وانزعاجها منه؛ لأنها لم تتعود أن تراني مريضة، وأمرت في الحال بإحضار طبيب العائلة «علوي باشا»، وبعد يومين أو ثلاثة، أصيب أخي بالمرض نفسه، فقام أهل المنزل على قدم وساق، ورأيت الأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخي، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إلي، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشي، وقد أثر في ذلك كثيرا، وارتفعت الحمى من فرط تأثري، ولكن أحدا لم يهتم بأمري إلا بعد أن ازدادت حالتي سوءا.
ولقد زادتني هذه التجربة المريرة انكماشا وحقدا على من حولي، فصرت أقضي معظم أوقات الفراغ بعد الدرس في حديقتنا التي كانت أشبه بغابة صغيرة، وكنت أحب الحيوانات، وكان يخيل إلي أنها تفهمني وترثي لحالي، كما كنت أرى في الأشجار مرتعا للألعاب الرياضية التي كنت مشغوفة بها.
وكنت أجد تسلية كبرى في أوقات الدرس، إذ كنا نمضي كل صباح في تلقي مختلف العلوم من المدرسين باللغات العربية والتركية والفرنسية، وكنت مغرمة جدا، باللغة العربية. وكان يحضر الدرس معنا مربينا «سعيد آغا» الذي كان يلازمنا في كل مكان. وكان صاحب الأمر والنهي على الخدم وعلى معلمينا. وبهذه المناسبة أذكر أنه لتعطشي للغة العربية، سألت أستاذي يوما عن السبب في عدم إمكاني قراءة القرآن مثله دون خطأ، فقال: لأنك لم تتعلمي قواعد النحو.
ولما سألته إن كان في إمكاني أن أقرأ مثله بلا لحن ولا خطأ بعد تعلمي القواعد، أجابني بالإيجاب، فرجوته أن يعلمني القواعد، ففرح وقال لي: بكل سرور، وفي اليوم التالي أتى يحمل تحت إبطه كتاب النحو، فسأله سعيد آغا بعظمة وكبرياء: ما هذا الكتاب؟ قال: كتاب النحو، طلبته الآنسة نور الهدى لتتعلم القواعد، فقهقه الآغا وقال له: خذ كتابك ... لا لزوم للنحو؛ لأنها لن تكون محامية يوما من الأيام!
وقد أثرت هذه الصدمة الجديدة في نفسي تأثيرا شديدا، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبي ويتولاني الملل حتى أهملت دروسي، وصرت أكره أنوثتي؛ لأنها حرمتني متعة التعليم وممارسة الحياة الرياضية التي كنت أحبها، كما كانت تحول بعد ذلك بيني وبين الحرية التي كنت أعشقها ...
الفصل الرابع
كنت في التاسعة من عمري عندما ختمت القرآن الشريف، فأرادت والدتي أن تحتفي بهذه المناسبة بإحياء ليلة تتلى فيها آيات الذكر الحكيم تحت إشراف معلمي. ودعت بعض صاحباتها لتناول العشاء وسماع القرآن، فكان هذا أول يوم مفرح رأيناه بعد وفاة والدي.
صفحه نامشخص