والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعا لحقوق الأمة؛ لأن وضع الدستور قد يستغرق زمنا يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات، والتأجيل كثيرا ما يكون وسيلة لحل بعض الأزمات السياسية، ولكن العرابيين رفضوا الأخذ برأي شريف باشا؛ لأنهم رأوا في هذه الأزمة فرصة للاستئثار بالحكم وتولية أحد زعمائهم رئاسة الوزارة بعد إقصاء شريف باشا عنها. وقد تم لهم ما دبروه واستقال شريف باشا، وتولى الرئاسة محمود باشا سامي البارودي. ومن يومئذ تلاحقت الأحداث والخطوب حتى انتهت بالاحتلال.
فالعرابيون قد عرضوا البلاد للتدخل المسلح من جانب إنجلترا ... ويا ليتهم عرضوها لهذا التدخل بعد أن أحسنوا الاستعداد للحرب والقتال، فإن الحكمة والسياسة تقضي على أقوى الدول الحربية أن تأخذ عدتها للحرب قبل أن تغامر فيها. ولكن العرابيين غامروا بمستقبل البلاد في وقت كانت عوامل الضعف والارتباك قد نالت من قوة الجيش ومكانته. فكان ما كان من هزائم سنة 1882. فالذين خاطروا بمستقبل البلاد من زعماء الثورة العرابية يتحملون أكبر تبعة في وقوع الاحتلال.
والنظام الدستوري ليس مسئولا عن هذه التبعات، بل النزعات والأطماع الشخصية هي المسئولة عنها، ولا نزاع في أن هذه النزعات والمطامع قد تغلبت على نفوس الزعماء في الدور الثاني للثورة، وقد شهد بذلك زعماء الثورة بعضهم على بعض، فشهد عرابي باشا في مذكراته بما كان يساور محمود باشا سامي البارودي من المطامع في عرش الخديوية. وشهد محمود باشا فهمي على عرابي بمثل ذلك القول في كتابه «البحر الزاخر» إذ قال عنه: «إن المقصد الأصلي له أن ينال أريكة الخديوية المصرية، وإن الثورة العرابية هي ثورة مشئومة، وأمرها وأحوالها كانت مكتومة في قلب عرابي لم تظهر حقائقها، ولم تبد دقائقها للعيان إلا بعد النفي في سيلان؛ حيث أفشى كل من عرابي وعبد العال وعلي فهمي ما كانوا عليه للعيان.»
وشهادة محمود باشا فهمي لها قيمتها التي لا تنكر؛ لأنه أحد زعماء الثورة الذين ثبتوا فيها حتى النهاية، وأحد المنفيين في سيلان، وكان وزيرا للأشغال العمومية في «وزارة الثورة» التي كان يرأسها البارودي، وفيها كان عرابي وزيرا للحربية، وكان فوق ذلك رئيسا لأركان حرب الجيش العرابي في وقائع سنة 1882 فأقواله حجة، وثمة شهادة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فإنه كان يتوقع الشر من الثورة العرابية، ويقول: «إنها قد تجر إلى البلاد احتلالا أجنبيا يستدعي تسجيل اللعنة على مسببه إلى يوم القيامة.» وقد تحقق مع الأسف ما كان يتوقعه، وانتهت الثورة بالاحتلال الإنجليزي الذي تعانيه البلاد إلى اليوم.
أما طعن عبد السميع أفندي في أمثال الشيخ محمد عبده ومحمد باشا فهمي، فنحسب أنه لا ينقص من قيمة آرائهما شيئا، وثمة كلمة أخرى أرد بها على عبد السميع أفندي، فإنه يسألني: «ما هي تلك الآراء والتصريحات التي أدلى بها عرابي حين عودته إلى مصر وكان فيها تأييد مطلق للاحتلال الإنجليزي؟ هذه تهمة خطيرة يحسن ألا يقذف بها هكذا جزافا من غير أن تقترن بالبينة.»
ويلوح لي أن هذا السؤال هو من قبيل تجاهل العارف، فإن عبد السميع أفندي وهو أحرص الناس على كل ما له علاقة بتاريخ عرابي باشا، لا يمكن أن تفوته تلك الأحاديث. ولم أكن أريد أن أعيدها ولذلك اكتفيت بالإشارة إليها. ولكن ما دام عبد السميع أفندي يذكرها ويطلب منا البيان، فإني أحيله على حديث المغفور له عرابي باشا في جريدة «ذي تيمس أوف سيلان» عدد 26 مايو 1901 بعد العفو عنه، إذ قال فيه: «كلما أتفكر في مصر أحس بفرح عظيم وسعادة أكيدة لعلمي بأنه ليس بها الآن أقل اضطراب، وإن ما كنت أتمناه لأمتي من استتباب الأمن وتمام الراحة نالتها اليوم بلا تعب ولا عناء وما ذلك إلا بهمة الحكومة الإنجليزية.»
وأحيله أيضا على حديث هام نشر له في عدد 3 أكتوبر 1901 من جريدة المقطم، إذ قابله مندوبها بعد عودته لمصر، وسأله: هل وجدتم ما رأيتموه في مصر في هذين اليومين مختلفا عما كانت عليه حين مفارقتكم إياها؟
فقال عرابي باشا: إن عائلتنا كبيرة تعد أكثر من عشرة آلاف نفس منتشرين في طول هذا القطر وعرضه. وقد قابلت أكابرهم الذين جاءوا السويس للتسليم علي، فسألتهم عن الأحوال بالتفصيل والإجمال، فوجدتهم متفقين في الجواب، قلت لهم: أصحيح أن السخرة ألغيت عندكم، فقالوا: نعم صحيح، قلت والكرباج، قالوا: أبطل من زمان، قلت: وكيف تحصل الأموال من الأهالي، قالوا: بالحق والعدل، وكل إنسان يعرف ما له وما عليه ... فسألتهم وكيف الاستبداد في الأحكام الآن، أجابوا أنه لم يبق للاستبداد أثر في البلاد، فكل شيء مقيد بقانون ونظام ولا خوف على محكوم من جور حاكم؛ لأن كل من له أو عليه قضايا رفع مظلمته إلى المحاكم. فشكرت الله حينئذ وحمدته؛ لأنه حقق مناي وأراني قبل مماتي ما طالما كنت أتمناه لبلادي وأبناء وطني في حياتي. وقلت هذا هو الإصلاح الذي كان غايتي من أفعالي الماضية.
وقد شاء الله أن ينعم على وطني ولكن لحكمة له جل جلاله قضى ألا يتم ذلك على يدي، بل على يد الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء، فصاروا لمصر اليوم خير الأصدقاء، وقضى الله أن أكون واسطة هذا التغيير فينال وطني ما كنت أتوخى وأتمنى له من الخير.
فهل هذه التصريحات لزعيم ثورة يحمل في قلبه رسالة الوطنية لقومه. إن الزعيم الوطني لا يمكن أن يمتدح الاحتلال الأجنبي المضروب على بلاده بمثل هذه الأقوال، ولا يمكن أن يصف جرائم الاحتلال بأنها الإصلاح الذي كان يبتغيه وإنها غايته من «أفعاله الماضية» أي من الثورة التي حمل لواءها وتولى زعامتها. هذا إلى أن عرابي باشا يمن على بلاده في هذا الحديث بأن الإنجليز قد أبطلوا السخرة والكرباج ونظموا المحاكم وأقاموا منار العدل فيها، وهو لعمري قد ظلم مصر بقوله هذا ولم ينصف الحقيقة والتاريخ، فإن السخرة والكرباج قد أبطلا في عهد وزارة رياض باشا الأولى سنة 1880 قبل الاحتلال، ونظام المحاكم الحالي قد تقرر بادئ ذي بدء في عهد وزارة شريف باشا الثانية بمقتضى المرسوم الصادر في 17 سبتمبر 1881 قبل الاحتلال أيضا.
صفحه نامشخص