وكان هذا الموقف رفقا بإحساس الرجل، حتى لا يشيع بين العمال والخدم أنه سارق، وتصبح هذه الحادثة سبة في جبينه.
ولقد كانت هذه المواقف وغيرها سببا في اجتذاب محبة مستخدميه وولائهم ووفائهم، فجازاه أحدهم في ابنه من بعده، وقصة ذلك أن والدي عندما اشترى تفتيش «دماريس» جعل يفكر في تدبير ما بقي عليه من ثمنه، ولاحظ انشغاله رجل مسن من مستخدمي والده فقال له: ما بك؟ فأجابه بأنني أفكر في تدبير باقي ثمن التفتيش الجديد، فقال الرجل: لا تفكر واتبعني، وتبعه والدي من حجرة إلى أخرى حتى وصلا إلى غرفة متطرفة مغلقة، وفتحها الرجل بمفتاح كان معه وأدخل والدي فيها، وجاء ببساط كبير من الصوف وفرشه على أرض الغرفة، ثم فتح «زلعة» وألقى ما بها من نقود فضية على البساط، وهكذا واحدة بعد الأخرى حتى وجد أبي نفسه أمام كومة كبيرة من النقود الفضية، فقال والدي للرجل: ما هذا؟ قال الرجل: هذه نقود تركها لك أبوك في ذمتي، وحلفني ألا أعطيها لك إلا إذا كنت محتاجا لها، وها هي قد نفعتك اليوم.
وقيل لي: إن هذه النقود قد عبئت في جوالات كثيرة، وحملت على الدواب إلى المراكب حيث أرسلت للبنك.
وخلال الفترة التي كان فيها أبي في قلب الحياة العامة، وقعت الحوادث العرابية، وقد تكون هذه فرصة لكي أذكر بعض ما أعرفه عن بعض مدعي الوطنية الذين اتهموا والدي بأنه ساعد على دخول الإنجليز نزولا على إرادة الخديوي توفيق.
وليس أدل على أن ما ذكر كان مجافيا للحقيقة، من أن الصحف كانت قد نشرت مذكرات منسوبة إلى عرابي باشا بعد وفاته، وكان ما نشر يصادف هوى لدى أولي الأمر في ذلك الوقت. فلما تركوا زمام الحكم، جاء إلي عبد السميع أفندي عرابي يطلب مني المساهمة في طبع مذكرات أبيه، فلما أبديت له دهشتي من أن يطلب طبع هذه المذكرات على نفقتي وفيها طعن في وطنية والدي كذبا وبهتانا، أبدى استعداده لحذف هذا الجزء من المذكرات، وكانت دهشتي هذه المرة أشد من سابقتها، وقد رفضت ذلك مقتنعة بأنه كما أراد حذف هذا الجزء بشرط المساعدة، فإنه لا بد قد وضعه بشرط مثله خدمة لغرض آخر، وأسفت أن هذا حدث شفويا، وإلا لكنت قد أدليت بالبرهان على كذب ما جاء في هذه المذكرات لعرابي باشا، ومع ذلك فسوف يأتي الحديث فيما بعد عن خطابين أرسلهما إلي عبد العزيز وعبد السميع عرابي ابنا عرابي باشا.
وكان عبد السميع قد كتب مقالات في جريدة المحروسة، ذكر فيها أن سلطان باشا كان من رؤساء الحركة الوطنية، وكان يظن أنه يستطيع بمواهب عرابي وقوة الجيش الحصول على رئاسة البرلمان ، فأيد عرابي في جميع الأحوال إلى أن فازت الأمة بالمجلس النيابي. ولكنه لما رأى الأمة تتحدث باسم عرابي بكل إعجاب وثناء تسرب الحسد إلى نفسه. ولما تشكلت وزارة محمود باشا سامي كان يطمع أن يكون فيها وزيرا فلم يتحقق أمله.
وعلى ذلك أخذ يضلل أعضاء مجلس النواب وغيرهم وينفرهم من عرابي ويغريهم بالتخلي عنه. ولكنه لم يفز؛ لأن الأمة بكل طبقاتها كانت في جانب عرابي إلى النهاية.
وقد تصدى له قليني باشا فهمي؛ حيث نشر مقالا في جريدة المقطم يوم الأربعاء نوفمبر 1923 قال فيه:
إن منشأ الحركة العرابية كان سببا عن الظلم والجور اللذين لحقا بضباط الجيش المصريين؛ حيث كان لا يسمح لأي ضابط مصري مهما كانت مواهبه أن يتعدى رتبة أميرالاي، فأوجب هذا تذمر الضباط المصريين ما ترتب عليه قيامهم بحركة ضد هذا الاحتلال التركي الجركسي، وكان هذا هو الأساس الذي قامت من أجله الحركة العرابية.
ولما كان البرنامج يشمل أيضا طهارة المصالح الملكية من الموظفين الأتراك والجراكسة، فقد انضم إليهم كثير من أعيان البلاد وكبرائها، وأخذ يناصرهم المرحوم سلطان باشا بما كان له من النفوذ الكبير والسلطة العالية.
صفحه نامشخص