معتمد بن عباد
المعتمد بن عباد: الملك الجواد الشجاع الشاعر المرزأ
ژانرها
فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف فخبره بها؛ تحقيقا لما توقعه من غدر ابن فرذلند فحذروا أجمعين ولم ينفع ابن فرذلند ما حاوله من الغدر.
ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ابن فرذلند وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلة ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منك إن شاء الله تعالى. وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا ما دام ابن فرذلند مشتغلا مع ابن عباد.
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيته جنود ابن فرذلند، فصدمها ابن عباد صدمة قطعت أمله ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأ عليه الصحراويون وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغيه وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يمينا وشمالا، وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه بإشبيلية عليلا اسمه العلاء وكنيته أبو هاشم فقال (متقارب):
أبا هاشم هشمتني الشفار
ولله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم يثننى ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود ابن عائشة، وكان بطلا شهما فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصدع الجو، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه وقصده بمعظم جنوده، وقد كان على حساب ذلك من أول النهار، وأعد له هذه الأشكولة وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد ووجد ريح الظفر وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرا عظيما، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، فصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هاربا منهزما، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي أثرها بقية عمره، فكان يخمع منها، فلجأ إلى تل كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون بعد ذلك من رءوسهم صوامع يؤذنون عليها، وابن فرذلند ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالا محيطا به وبأصحابه.
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين، وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه الهزيمة العظيمة والمسرة الكبيرة هزيمة إذفونش أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها ، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني بحمد الله - تعالى - إلا جراحات يسيرة آلمت، لكنها قرحت بعد ذلك، وغنمت وظفرت.
ولما فرغ يوسف من وقيعة يوم الجمعة تواردت عليه أنباء من قبل السفن، فلم يجد معها بدا من سرعة الكرة، فانصرف إلى إشبيلية فأراح بظاهرها ثلاثة أيام، ونهض نحو بلاده، ومشى ابن عباد معه يوما وليلة، فعزم عليه يوسف في الرجوع، وكانت جراحاته تثعب، وتورم كلم رأسه، فرجع وأمر ابنه بالمسير بين يديه إلى فرضة المجاز حتى يعبر البحر إلى بلده.
صفحه نامشخص