مقدمة
المعتمد والأدب
شعر المعتمد في دولته
ملوك الطوائف ونصارى الشمال
خلع ملوك الطوائف
المعتمد في أغمات
المعتمد في إساره والأوفياء من الشعراء وغيرهم
أولاد المعتمد وأمهم
وفاة المعتمد على الله وقبره
مقدمة
المعتمد والأدب
شعر المعتمد في دولته
ملوك الطوائف ونصارى الشمال
خلع ملوك الطوائف
المعتمد في أغمات
المعتمد في إساره والأوفياء من الشعراء وغيرهم
أولاد المعتمد وأمهم
وفاة المعتمد على الله وقبره
المعتمد بن عباد
المعتمد بن عباد
الملك الجواد الشجاع الشاعر المرزأ
تأليف
عبد الوهاب عزام
الساحة التي بها قبر المعتمد بن عباد.
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
1
جاز المسلمون بحر الزقاق إلى جزيرة الأندلس سنة اثنتين وتسعين من الهجرة في خلافة الوليد بن عبد الملك.
وساروا فاتحين حتى استولوا على مدينة طليطلة في السنة التالية؛ وهي مدينة حصينة صعبة المنال يسر لهم الاستيلاء عليها فتح ما وراءها.
وامتد بهم الفتح حتى بلغوا جبال البرتات (جبال البرانس) الجبال الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا، اجتازوها في خلاقة عمر بن عبد العزيز (99-101ه) وفتحوا مدينة أربونة (ناربون) وجعلوها مبدأ غزواتهم في فرنسا، ثم فتحوا طلاشة (طولوز) سنة اثنتين ومائتين، وامتد بهم الفتح إلى سنة سبع ومائة ففتحوا جنوبي فرنسا.
وفي رمضان سنة أربع عشرة ومائة، بين مدينة تور ومدينة بواتيي، كانت موقعة بلاط الشهداء، وكان قائد المسلمين عبد الرحمن الغافقي وقائد المسيحيين شارل مارتل، واضطر المسلمون إلى التراجع؛ إذ رأوا أنهم لا قبل لهم بهذه الجحافل الحاشدة في تلك الأصقاع النائية، وهذا كان منتهى فتح المسلمين في فرنسا، ولكنهم احتفظوا بمدينة أربونة إلى سنة اثنتين وأربعين ومائة حين استولى عليها ملك فرنسا في عهد الدولة الأموية الأندلسية.
2
زالت الدولة الأموية في المشرق سنة اثنتين وثلاثين ومائة من الهجرة، وقام بأمر المسلمين بنو العباس، فأتبعوا بني أمية تقتيلا وتشريدا، وكان فيمن فر من شباب بني أمية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقب صقر قريش؛ لقبه أبو جعفر المنصور؛ إعجابا بهمته، وعزيمته، وسياسته.
ضرب عبد الرحمن في شمال أفريقية حتى المغرب الأقصى ثم اجتاز البحر إلى الأندلس فبايعه الناس أميرا عليهم فجمع أمرهم ورد عنهم جيوش العباسيين حينما حاولوا أن يمدوا سلطانهم على الأندلس كما امتد على سائر البلاد الإسلامية.
ودامت دولة بني أمية زهاء ثلاثة قرون، قويت الدولة وتمكنت وامتد سلطانها في البر والبحر، وتوالى على تدبيرها عشرة أمراء من عبد الرحمن الداخل إلى هشام حفيد عبد الرحمن الناصر في إحدى وستين ومائتي سنة، ثم اضطرب أمر الدولة فتوالى عليها أربعة عشر حاكما في ثلاث وعشرين سنة.
وبلغت الدولة أوج مجدها وعزها، وبلغت الحضارة أزهر أعوامها وأنضر أيامها في ولاية عبد الرحمن الناصر الذي دبر الملك من سنة 300 إلى 350ه فرد الأعداء في الشمال خائبين، وأرهب الطامعين في المغرب، فاستتب له الملك وتمكن سلطانه، وعم الأمن دولته، وعظمت هيبته، وبعد صيته، وازدهرت المدنية واستبحر العمران، فبنى الناصر مدينة الزهراء في ضواحي قرطبة آية في العمران، وبرهانا على غنى الدولة وعظمتها وبلوغ الصناعات فيها غايتها.
وخلف عبد الرحمن الناصر ابنه الحكم المستنصر ستة عشر عاما وأمور الدول متسقة وأمنها مستتب، ومات الحكم فخلفه ابنه هشام، وهو صبي، فتطلع إلى مقاليد الأمور رجل من عباقرة التاريخ، أهله للسلطان طموحه وحزمه وشجاعته وخلقه ودينه: محمد بن أبي عامر، تسلط ابن أبي عامر على أمور الدولة كلها وأحكم تدبيرها ومكن هيبتها وأخاف أعداءها، وبلغت مغازيه صوب الشمال أبعد ما بلغت في عصر الدولة الأموية، غزا أكثر من خمسين غزوة لم يهزم في واحدة حتى مات غازيا في الشمال ونقل إلى مدينة سالم فدفن بها سنة 392ه.
ثبت ابن أبي عامر أركان الدولة ولكنه أضعف البيت الأموي بما استبد دونهم بالأمر، وأورث السلطان بنيه، ولم يقر الناس لبني عامر بما أقروا لبني أمية، فزالت هيبة الملك وتنازعه بنو أمية وبنو حمود العلويون حتى زالت الدولة كلها سنة 422ه.
3
ملوك الطوائف
تقسم بلاد الأندلس - بعد زوال الدولة الأموية - أمراء تنازعوا رقعتها وظفر كل واحد بما قدر عليه، فقامت إمارات تولاها أمراء سموا ملوك الطوائف، واستمر عصرهم زهاء خمسين عاما.
وكان للطوائف أربع عشرة دولة في أرجاء البلاد لا يتسع المجال لذكرها، ولا يحتاج هذا المقال إلى تعدادها، فإنما قصدنا إلى بني عباد من بينهم.
4
بنو عباد
كان أعظم ملوك الطوائف وأفسحهم ملكا وأبعدهم صيتا وأكثرهم ذكرا في التاريخ والأدب بني عباد ملوك إشبيلية وقرطبة.
قامت دولتهم في إشبيلية سنة 414ه، ثم اتسعت فاستولت على ملك بني حمود في الجزيرة سنة 450ه، وعلى ملك بني جهور في قرطبة سنة 461ه، وامتدت حتى شملت مرسية في الشرق.
ودامت دولة بني عباد سبعين سنة وتولاها منهم ثلاثة: أبو القاسم محمد، وابنه أبو عمرو عباد الملقب بالمعتضد، وابن هذا أبو القاسم محمد بن عباد الملقب بالمعتمد.
استمر ملك الأول تسع عشرة سنة (414-433ه)، وملك الثاني ثمانيا وعشرين (433-461ه)، واستمر ملك المعتمد ثلاثا وعشرين (461-484ه).
وكان للمعتمد في الجهاد بلاء عظيم، وفي الجود صيت ذائع، وفي الأدب منزلة عالية، ومن غير الأيام ومصائب الحدثان نصيب موفور. وقصته - كما تأتي - كأنها في المآسي خيال شاعر لا حقيقة واقع، وافتنان كاتب لا حادثات تاريخ. •••
ينتمي بنو عباد إلى لخم، ثم إلى مناذرة الحيرة، تردد ذكر هذا النسب في أقوالهم وأقوال من أرخوا لهم أو مدحوهم:
من بني المنذرين وهو انتساب
زاد في فخرهم بنو عباد
فتية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد
وفد جدهم نعيم وابنه عطاف من العريش إلى الأندلس، واستوطنا إقليم إشبيلية، ويعلم أن جدهم إسماعيل بن عباد، وهو جد المعتضد، اتصل بالمنصور بن أبي عامر فولاه القضاء فلبث قاضيا إلى أن اضمحلت الدولة الأموية في أوائل القرن الرابع الهجري، ثم خلفه في القضاء والرياسة ابنه محمد بن إسماعيل القاضي جد المعتمد، عظمت مكانته وهو قاض، وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني الملقب بالمستعلي، تغلب على قرطبة أيام اضطراب الدولة الأموية فذهب إلى إشبيلية محاصرا، فاجتمع أهلها وبايعوا القاضي على الإمارة، وقد مكن لملكه برجل ادعى أنه هشام المؤيد بن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر - وكانت أخباره انقطعت منذ نيف وعشرين سنة ثم قيل: إنه حي في قلعة من قلاع الأندلس - فدعاه القاضي وجعل له اسم الملك ووطد به سلطانه، وثبت إمارته حتى توفي الرجل المدعو هشاما فاستبد القاضي محمد بن إسماعيل بالملك، وكان أديبا شاعرا جوادا حسن السياسة. •••
وأبدأ الكلام في بني عباد بجمل للفتح بن خاقان صاحب «مطمح الأنفس» و«قلائد العقيان». وكلامه كلام كاتب متنوق لا مؤرخ محقق، والقصد في هذا المقال ذكر المعتمد بن عباد في حالي نعيمه وبؤسه، وإثبات طرف من أخبار بني عباد في معرض الأدب وفي زينة الشعر والنثر في غير إخلال بالتاريخ ولا تحريف للحقائق؛ ليجمع القارئ بين حوادث التاريخ الأندلسي، وصور من أدب الأندلسيين في ذلك العصر.
قال الفتح بن خاقان في كتابه مطمح الأنفس وهو يذكر الوزير أبا القاسم محمد بن عباد وهو أول من ملك منهم:
هذه بقية منتماها في لخم،
1
ومرتماها إلى مفخر ضخم، وجدهم المنذر بن ماء السماء، ومطلعهم في جو تلك السماء.
وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر، وتنفس منهم عن أعبق الزهر، وعمروا ربع الملك، وأمروا بالحياة والهلك.
ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد، وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد، وافترش من عريسته، وافترس من مكايد فريسته، وزاحم بعود، وهد كل طود، وأخمل كل ذي زي وشارة، وقتل بوحي وإشارة.
ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نيرات تلك الأفلاك.
إلى أن يقول:
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم، وبه سفر مجدهم، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر، واختصهم منه بالحظ الوافر، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر، وأضحى
2
من ظلالها أعيان أكابر ... وفاز من الملك بأوفر حصة، وغدت سمته به صفة مختصة، فلم يمح رسم القضاء، ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء، وما زال يحمي حوزته، ويجلو غرته، حتى حوته الرجام، وخلت منه تلك الآجام.
وانتقل الملك إلى ابنه المعتضد، وحل منه في روض نمق له ونضد ... وتسمى بالمعتضد بالله، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاه، لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل، وعكر في أثناء ذلك صفو العل والنهل ، وما زال للأرواح قابضا، وللوثوب عليها رابضا، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر، وينتصف منهم بالدهاء والمكر، إلى أن أفضى الملك إلى ابنه المعتمد فاكتحل منه طرفه الرمد، وأحمد مجده، وتقلد منه أي بأس ونجدة، ونال به الحق مناه، وجدد سناه، وأقام في الملك ثلاثا وعشرين سنة لم تعدم له فيها حسنة، ولا سيرة مستحسنة، إلى أن غلب على سلطانه، وذهب به من أوطانه، فنقل إلى حيث اعتقل، وأقام كذلك إلى أن مات، ووارته تربة أغمات.
هذه كلمات الفتح، وأثبت هنا كذلك قول ابن اللبانة الشاعر - وهو الشاعر الوفي، مدح المعتمد أميرا، وأشاد به وواساه أسيرا - وسيأتي طرف من شعره في المعتمد.
قال في بني عباد:
بماذا أصفهم وأحليهم، وأي منقبة من الجلالة أوليهم، فهم القوم تجل مناقبهم عن العد والإحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك بهم زينب الدنيا وتحلت، وترقت حيث شاءت وحلت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها على الخبر اليقين، أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأيام ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، ولم يرع بأسهم وجودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، وما نؤخره إلا لأجل معدود.
فأول ناشئة ملكهم، ومحصل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد ويكنى أبا القاسم، ابن إسماعيل.
وقال ابن اللبانة يصف المعتضد خاصة، وهو ثاني أمرائهم:
المعتضد أبو عمرو عباد - رحمه الله تعالى - لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم؛ حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رءوسا، ولا تنبت إلا رئيسا ومرءوسا.
3
فكان نظره إليها أشهى مقترحاته، وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته، فبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع.
ويقول المراكشي :
وكان قد اتخذ خشبا في حديقة قصره جللها برءوس الملوك والرؤساء عوضا عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه. وجملة أمر هذا الرجل أنه كان أوحد عصره شهامة وصرامة وشجاعة قلب، وحدة نفس، كانوا يشبهونه بأبي جعفر المنصور من ملوك بني العباس، وكان قد استوى في فخامته ومهابته القريب والبعيد لا سيما منذ قتل ابنه وأكبر أولاده المرشح لولاية عهده.
وفي كلام المراكشي تفسير قول الفتح: كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رءوسا!
وقال ابن بسام في «الذخيرة»:
وكان قد أوتي أيضا من جمال الصورة وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة وسباطة البنان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، وصدق الحدس ما فاق على نظرائه.
ونظر مع ذلك في الأدب - قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان - أدنى نظر، بأزكى طبع، حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها، ولا إمعان النظر في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة ظاهرة في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واكتتبها الأدباء للبراعة، جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف بارى السحاب بها.
وتوفي المعتضد سنة 433ه بعد أن وسع ملكه، ومكن سلطانه، وأرهب أعداءه، وخلد في الأدب ذكره بلسانه ولسان شعرائه.
وأما المعتمد فالواصفوه كثيرون، وقد افتن الشعراء في مناقبه ومآثره، وأولع الكتاب بأخباره وآثاره.
يقول ابن اللبانة:
4
ملك مجيد، وأديب على الحقيقة مجيد، وهمام تحلى به للملك لبة وللنظم جيد، أفنى الطغاة بسيفه وآد؛ وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد، فأطلع أيامه في الزمان حجولا وغررا، ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودررا، وشيد في كل معلوة فناءه، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه، فنفقت به للمحامد سوق، وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق، منع وقرى، وراش وبرى، ووصل وفرى.
وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك الملك ، فكانوا معاقل بلاده وحماة طارفه وتلاده، إلى أن استدار الزمان كهيئته، وأخذ البؤس في فيئته، وأثمر الخلاف وظهر، وسل الشتات سيفه وشهر، والمعتمد - رحمه الله تعالى - يطلب نفسه في أثناء ذلك بالثبات بين تلك الثبات، والمقام في ذلك المقام، إلى أن بدل القطب بالواقع، واتسع الخرق على الراقع.
فاستعضد بابن تاشفين؛ فورد عليه كتابه يشعر بالوفاء، فثاب إليه فكر خاطره وفاء، وثبت خلال تلك المدة للنزال، ودعا من رام حربه نزال، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته، والأيام تسترجع منه ما وهبته، فثل ذلك العرش، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش، فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان،
5
وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل، وكل من عليها فان، فما أغنت تلك المملكة وما دفعت، وليتها ما ضرت؛ إذ لم تكن نفعت، وكل يلقى معجله ومؤجله، ويبلغ الكتاب أجله.
ونقل المقري قول علي بن القطاع في كتابه «لمح الملح» عن المعتمد بن عباد:
أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم سمادا، وأرفعهم عمادا، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال، ومألف الفضلاء؛ حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.
وفي «نفح الطيب»:
وقال الفقيه القاضي أبو بكر بن خميس - رحمه الله تعالى - حين ذكر تاريخ بني عباد: وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه، وأنا الآن أذكر نبذة من أخباره، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات أشعاره، فإنه - رحمه الله تعالى - جم الأدب رائعه، عالي النظم فائقه.
6
ويقول المراكشي في كتاب المعجب:
وكان المعتمد هذا يشبه بهارون الواثق بالله من ملوك بني العباس، ذكاء نفس وغزارة أدب، وكان شعره كأنه الحلل المنشرة، واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان مقتصرا من العلوم على علم الأدب وما يتعلق به وينضم إليه.
وكان فيه مع هذا من الفضائل الذاتية ما لا يحصى ؛ كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة، وفي الجملة فلا أعلم خصلة تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم، وإذا عدت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت؛ فالمعتمد هذا أحدها بل أكبرها.
هذا كلام مؤلف من المغرب عاش في القرن السابع، بعد المعتمد بقرنين لا يمدح رغبة ولا رهبة، ولست أوافقه في كل ما قال، ولكني أنقل قوله وقول غيره؛ إشهادا على ما اعتقده أدباء الأندلس والمغرب وشعراؤها ومؤرخوها في المعتمد بن عباد، وما كان لسيرته من الأثر في نفوس أهل عصره، والعصور التي تلته.
وقال مؤلف نفح الطيب بعد نقل طرف من أخبار المعتمد:
وأخبار المعتمد بن عباد، وما رآه من الملك والعز في كل حاضر وباد، وما قاساه في الأسر، من الضيق والعسر وسوء العيش، أمر عجيب يتعظ به العاقل الأريب. وأما ما مدحته به الشعراء، وأجوبته لهم في حالي يسره وعسره، وملكه وأسره، وطيه ونشره، وتجهمه وبشره، فهو كثير، وفي كتب التاريخ منه نظيم ونثير، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير.
7
وقال ابن بسام في «الذخيرة»:
كان للمعتمد بن عباد شعر كما انشق الكمام عن الزهر، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائعا معجبا ونادرا مستغربا ... والعجب من المعتمد أنه مري سحابه في كلتا حالتيه فصاب، ودعا خاطره فأجاب، ولا تراجع له طبع، في الملك ولا بعد الخلع، بل يومه في هذا الشأن دهر، وحسنته في هذا الديوان عشر.
وقال الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:
8
ملك قمع العدا، وجمع الباس والندى، وطلع على الدنيا بدر هدى، لم تتعطل يوما كفه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغور بره بواسم، ولياليه كلها دررا، وللزمان أحجالا وغررا، لم يغفلها من سمات عوارف، ولم يضحها من ظل إيناس وارف، ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها باديا، ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديا، وكانت حضرته مطمحا للهمم، ومسرحا لآمال الأمم، وموقفا لكل كمي، ومقذفا لذي أنف حمي، لم تخل من وفد، ولم يصح جوها من انسجام رفد، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكماة، ومشاهير الحماة، أعداد يغص بهم الفضاء، وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء، وطلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد، فأصبحت حضرته ميدانا لرهان الأذهان، وغاية لرمي هدف البيان، ومضمارا لإحراز خصل، في كل معنى وفصل، فلم يرتسم في زمامه إلا بطل نجد، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أكمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويفصح فيه لسانا سيف وقلم، ويفضح الرضي في وصفه أيام ذي سلم.
9
وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا، ولتلك الجملة عينا، إن ركبوا خلت الأرض فلكا يحمل نجوما، وإن وهبوا رأيت الغمام سجوما، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أقصر عرابة الأوسي. ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه، وأذوت يانع إيراقه، فلم يدفع الرمح ولا الحسام، ولم تنفع تلك المنن الجسام، فتملك بعد الملك، وحط من فلكه إلى الفلك.
المعتمد والأدب
نشأت دول الطوائف الأندلسية في القرن الخامس الهجري، وهو عصر زهر بالعلوم والآداب في الأندلس، على ما كان فيها من اضطراب سياسي أطاح بدولة الخلافة الأموية وزاده سقوط الخلافة شدة وانتشارا.
والقرن الخامس في الأندلس كالقرن الرابع في المشرق الإسلامي؛ اضطربت فيه دولة الخلافة وتقلص ظلها ونشأت منها دول صغيرة تنافست في دعوة العلماء والأدباء، وتبارت في الاحتفاء بمن يفد إليها من الشعراء، وإغداق العطاء لهم؛ رغبة في حسن السمعة، وبعد الصيت.
نشأت دول الطوائف في الأندلس في القرن الخامس كما نشأت في المشرق دول السامانيين والبوبهيين والغزنويين والحمدانيين وغيرها.
وأرى أن سير العلم والأدب في الأندلس يتأخر قرنا عن سيره في المشرق، فكبار الفلاسفة ونوابغ الشعراء والكتاب الأندلسيين يتأخرون في الجملة عن نظرائهم في المشرق قرنا، ولهذا أسباب لا يتسع لها هذا المجال.
تنافست دول الطوائف في الأندلس في المكارم والمفاخر، وفي تشييد الأبنية، وفي الاعتزاز بالعلماء والأدباء والشعراء الذين ينعمون في ظلالها ويتنافسون في تخليد مآثرها وتسيير ذكرها في كتب التاريخ والعلم والأدب. •••
وبنو عباد كانوا أكثر ملوك الطوائف حظا من القوة وسعة السلطان وبعد الصيت، وأوفرهم نصيبا في وفود الأدباء والشعراء والعلماء إليهم؛ بما تسلطوا على إشبيلية وقرطبة وما يتبعهما، وكانت قرطبة حاضرة الخلافة الأموية ومركز العلوم والآداب ثلاثة قرون، في عهد الأمويين، وبلغت فيها الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس أوجها.
وبنو عباد عرب من لخم ورثوا السيادة والعزة وورثوا حب الأدب، ولا سيما نظم الشعر والإعجاب به والمشاركة فيه والإثابة عليه.
يقول الأستاذ بالنثيا في كتابه «تاريخ الفكر الأندلسي»:
1
وكان الحال في إشبيلية شبيها بما كان عليه في المرية؛ إذ طغى الشعر فيها على ما عداه من أضرب الأدب في ظل بني عباد، ولقد كان المعتضد والمعتمد من أعلام الشعراء، ومن ثم لا نستغرب أن يكون بلاطهما مدرسة تخرج فيها أهل الآداب، وقد وصلت الخمريات وشعر النسيب والغزل أعلى درجات الكمال في هذا البلاط المصقول؛ حيث عجز شعراء مجيدون - من طبقة علي بن حصن، وابن حمديس الصقلي وأبي بكر بن زيدون وأبي بكر بن اللبانة وغيرهم كثيرون - عن إدراك ما وصل إليه ابن عمار وزير المعتمد النابه الذكر المنكود الحظ من تحليق في سماء الشعر، وقصروا كذلك في ملاحقة اعتماد نفسها زوج المعتمد وجارية رميك التاجر الإشبيلي قبله، فضلا عن مجاراة الملك الشاعر المعتمد فيما أبدعه من رائع القصيد، والحق أن المعتمد وفق أيام مجده وسعوده إلى درجة من التجويد مكنت له من أن يصل بشعره في أبواب الغزل ووصف مجالس السرور ووصف الحرب والنصر إلى آفاق استدرت إعجاب البدو أنفسهم.
وثبت هذا أن ينظر القارئ فيما كان بين المعتمد وكبار الشعراء من تقارض الشعر في أحوال شتى، سيجد القارئ أن المعتمد لم يقصر في مجاراة ابن زيدون وابن عمار وابن حمديس وابن اللبانة بل يجده مبرزا عليهم أحيانا، وسيمر بالقارئ كثير من تقارض الشعر بين المعتمد وشعرائه في نعيمه ودولته وبؤسه ومحنته.
وحسبنا هنا شهادة لسان الدين بن الخطيب، وما نقله عن ابن الصيرفي، قال عن المعتمد:
كنيته أبو القاسم، وهو الجواد الشجاع البليغ، ذو الأخبار الشهيرة الذكر، والأنباء الموروثة على الدهر، قال ابن الصيرفي:
المعتمد على الله محمد بن عباد نسيج وحده في الجود، وأصلب نظرائه مكسر عود، فذ في البلاغة، طرف في الشعر والكتابة، بارع النظم والنثر، كثير الأدب، جزل الألفاظ، كثير المعاني، حسن المآخذ، لدن معاطف الكلام، رقيق الحاشية، كثيف المتن، كثير البديع، رائق الديباجة، لائق الاستعارة، حسن الإشارة، جم التوليد، لم ينشده من الوزراء والشعراء أشعر منه، على كثرة ما اجتلب إليه من أعلامه الثناء، ونثر عليه من در الحمد، ووضع في يديه من حر القريض.
2
كان المعتمد شاعرا مجيدا رقيق الطبع، مرهف الحس، يعرب بالشعر عن عواطفه، ويسجل به خواطره في فرحه وترحه، وجده وهزله.
كان هو شاعرا والرميكية أم أولاده شاعرة، وكان بنوه شعراء، ومنهم من ترجم له بين أدباء الأندلس، وكانت بنته بثينة شاعرة ذكرت في الشواعر الأندلسيات.
وسيأتي ذكر أولاد المعتمد وزوجه وأمثلة من شعرهم في الفصول الآتية.
شعر المعتمد في دولته
سيمر القارئ بكثير مما نظم المعتمد زفرات وحسرات في أربع السنين التي احتواه فيها الأسر في المغرب.
وأثبت هنا بعض ما نظم أيام عزته وصولته في دولة أبيه المعتضد ودولته، في معاهد أنسه وأندية سمره ومجالس أدبه، وفي خطاب الأدباء وملاطفة الخلطاء.
مما نظم في عهد أبيه المعتضد أبيات أرسلها إليه حين أرسله قائد جيش إلى مالقة فانهزم فغضب أبوه غضبا شديدا وعنفه واتهمه أنه ضيع الحزم باللهو واللعب:
لم أوت من زمني شيئا ألذ به
فلست أعرف ما كأس ولا وتر
ولا تملكني دل ولا خفر
ولا سبا خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي لا فجعت به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا
عدمتها وقدت في قلبي الفكر
أجل لي راحة أخرى كلفت بها
نظم الكلى في القنا والهام تنتثر
وتوجه إليه الوزير أبو الأصبغ بن أرقم رسولا من المعتصم بن صمادح ملك المرية ومعه الوزير أبو عبيد البكري والقاضي أبو بكر بن صاحب الأحباس، فلما قارب إشبيلية أرسل إلى المعتمد أبيات منها:
يا مالكا عظمته العرب والعجم
وواحدا وهو في أثوابه أمم
إنا وردناك والأقطار مظلمة
والبدر يرجى إذا ما التخت الظلم
فكتب المعتمد إليه:
حثوا المطي ولو ليلا بمجهلة
فلن تضلوا ومن بشري لكم علم
لأنتم القوم إن خطوا يجد قلم
وإن يقولوا يصب فصل الخطاب فم
لا عي إن رقموا كتبا ولا حصر
إذ ينتدون ولا جور إذا حكموا
أقدم أبا الأصبغ المودود تلق فتى
هش المودة لا يزري به سأم
هذا فؤادي قد طار السرور به
إن كنت تنقلك الوخادة الرسم
سأكتم الليل ما ألقاه من بعد
وأسأل الصبح عنكم حين يبتسم
وقال المعتمد في معاهد نعيمه وأنسه في إشبيلية:
ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدى البدر في جوزائه
ملكا تناهى بهجة وبهاء
لما أراد تنزها في غربه
جعل المظلة فوقه الجوزاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه
لألاؤها فاستكمل اللألاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله
رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادسا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء
1
وإذا تغنت هذه في مزهر
لم تأل تلك على التريك غناء
وقال وقد لمع البرق فارتاعت جارية كانت تسقيه:
يروعها البرق وفي كفها
برق من القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى
كيف من الأنوار ترتاع
وله مع شعرائه مساجلات تدل على أنه لا يتخلف عنهم في النظم روية وارتجالا، ولا يقع دون كبار الشعراء في لفظه ومعناه، ويقول ابن حمديس في ختام قصيدة مدح بها المعتمد:
إنا لنخجل في الإنشاد بين يدي
رب القوافي التي حلين بالفقر
من ملك الله حسن القول مقوله
فلو رآه ابن حجر عاد كالحجر
ولا أطيل في الكلام على شعر المعتمد، فليرجع القارئ إلى ديوانه؛ ففيه ألوان من الشعر تدل على طبع شاعر، وخيال بعيد، وتصرف في المعاني والألفاظ بارع.
2 (1) الشعراء الذين صحبوا المعتمد
نقلت آنفا قول ابن القطاع في المعتمد:
كانت حضرته ملقى الرحال، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال ومألف الفضلاء، حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه.
وكيف لا يقصد الشعراء والأدباء - في عصر زها فيه الشعر والأدب - ملكا أديبا شاعرا يأنس بهم، ويغدق عليهم العطاء، ويصادقهم ويجلهم، ويتخذ منهم وزراء وندماء.
وهذا ذكر من عرفوا بصحبة المعتمد من شعراء الأندلس؛ ومن هؤلاء ثلاثة ذهبوا مثلا سائرا في الوفاء، وسيأتي ذكرهم في محنة المعتمد؛ وهم: ابن اللبانة، وابن حمديس، وأبو بحر بن عبد الصمد. (1-1) أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة
أذكره هنا في جملة شعراء المعتمد. وأعظم مآثر هذا الشاعر وأكبر مفاخره وفاؤه للأمير في أسره، ومواساته في محنته، وسيأتي ذكره في أيام هذه المحنة، فحسبي هنا أن أقول: إنه اتصل ببني عباد منذ أيام المعتضد وأحسن مدحهم وأحسنوا جزاءه.
ومن مدائحه موشحة أولها:
3
كم ذا يؤرقني ذو حدق
مرضى صحاح
لا بليته بالأرق
قد باح دمعي بما أكتمه
وحن قلبي لمن يظلمه
رشأ تمرن في «لا» فمه
كم بالمنى أبدا ألثمه
يفتر عن لؤلؤ في نسق
من الأقاح
بنسيمه العبق
يقول فيها:
أبدى لنا حمرة في يقق
خد الصباح
فيه حمرة الشفق
من لي بمدح بني عباد
ومن محمدهم إحمادي
تلك الهبات بلا ميعاد
عذرت من أجلها حسادي
حكتني الورق بين الورق
راشوا جناحي
ثم طوقوا عنقي
لله ملك عليه اعتمدا
من يعرب وهو أسناهم يدا
وهم إذا عن وفد وفدا
سالوا بحارا وصالوا أسدا
إن حاربوا أو دعوا في فسق
راحوا براح
للندى والعلق
وله موشحة أخرى يقول فيها مادحا الرشيد بن المعتمد:
سطا وجاد
رشيد بني عباد فأنسى الناس
رشيد بن العباس
وقد ألف هذا الشاعر كتابا سماه «الاعتماد في أخبار بني عباد»، كما ألف كتابا في أخبارهم بعد نكبتهم سماه «نظم السلوك في مواعظ الملوك». (1-2) ابن حمديس
ومن الشعراء الذي أظلتهم دولة بني عباد، فنعموا في ظلالها، وغردوا في أفيائها، ابن حمديس الصقلي.
فارق عبد الجبار بن أبي بكر بن محمد بن حمديس الصقلي بلده سرقوسة من جزيرة صقلية حينما استولى النرمانديون على الجزيرة سنة سبعين وأربعمائة ه، وانتهى به المسير إلى إشبيلية، فقربه المعتمد بن عباد، وأشاد هو بالأمير، وسير في مدحه قصائده، وصحبه في سلمه وحربه، ثم واساه في أسره.
روى صاحب نفح الطيب عن ابن حمديس أنه قال:
أقمت بإشبيلية، لما قدمتها على المعتمد بن عباد، مدة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي حتى فطنت لخيبتي مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي، فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام معه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان. فركبت من فوري ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبة فنك، وقال لي: افتح الطاق التي تليك. ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد، والنار تلوح من بابيه، وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى، ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:
انظرهما في الظلام قد نجما
فقلت:
كما رنا في الدجنة الأسد
فقال:
يفتح عينيه ثم يطبقها
فقلت:
فعل امرئ في جفونه رمد
فقال:
فابتزه الدهر نور واحدة
فقلت:
وهل نجا من صروفه أحد
فاستحسن ذلك وأمر لي بجائزة سنية وألزمني خدمته.
وللشاعر في مدح المعتمد الأمير الجواد الشاعر ووصف حروبه؛ قصائد غراء تضمنها ديوانه.
ولم يقصر ابن حمديس في الوفاء لأميره حين حلت به الفاجعة، وذهب إليه في أغمات كما ذهب ابن اللبانة.
وسيأتي في الحديث على محنة المعتمد طرف من أخبار الشاعر معه في هذه المحنة، وبعض ما أنشأ من الشعر؛ توجعا للأمير، وتفجعا. (1-3) أبو بحر بن عبد الصمد
ومن شعراء المعتمد أبو بحر بن عبد الصمد، ومن مديحه قوله:
خضعت لعزتك الملوك الصيد
وعنت لك الأبطال وهي أسود
فاطعن ولو أن الثريا ثغرة
واضرب ولو أن السماك وريد
وافتح ولو أن السماء معاقل
واهزم ولو أن النجوم جنود
وقد رثى هذا الشاعر ممدوحه ووقف على قبره وأنشد قصيدة باكية ومرغ وجهه في التراب، فأبكى الحاضرين، وسيأتي ذكر هذا. (1-4) ابن زيدون
اتصل ابن زيدون بالمعتضد العبادي والد المعتمد سنة 441ه فاحتفى به واستوزره، ثم سماه ذا الوزارتين؛ فلبث في كنفه زهاء عشرين عاما، ومدحه؛ وفاء ما لقي في جنابه من عزة ونعماء.
ولما مات المعتضد رثاه ابن زيدون، واتصل بالمعتمد؛ فكان قرة عينه وزينة دولته، ولما فتح المعتمد قرطبة بلد ابن زيدون رجع إلى بلده في كنف المعتمد وعلت مكانته، ثم أرسله المعتمد إلى إشبيلية لفتنة وقعت بها ومعه أحد أبناء المعتمد فمات ابن زيدون هناك سنة 463ه.
وله قصائد في مدح المعتضد يسير بها الذكر، ويزهو بها الشعر، منها قصيدة هي في ترتيب الديوان أول ما مدح به المعتضد ... يقول فيها:
من مبلغ عني الأحبة؛ إذ أبت
ذكراهم أن يطمئن مهاد
لا يأس. رب دنو دار جامع
للشمل قد أدى إليه بعاد
إن أغترب فمواقع الكرم الذي
في الغرب شمت بروقه أرتاد
أو أنأ عن صيد الملوك بجانبي
فهم العبيد مليكهم عباد
المجد عذر في الفراق لمن نأى
ليرى المصانع منه كيف تشاد
يا هل أتى من ظن بي فظنونه
شتى ترجع بينها الأضداد
إني رأيت المنذرين كليهما
في كون ملك لم يحله فساد
وبصرت بالبردين إرث محرق
لم يخلقا؛ إذ تخلق الأبراد
وعرفت من ذي الطوق عمرو ثأره
لجذيمة الوضاح حين يكاد
وأتى بي النعمان يوم نعيمه
نجم تلقى سعده الميلاد
قد ألفت أشتاتهم في واحد
إلا يكنهم أمة فيكاد
وقد ذكر المنذرين ومحرقا وعمرا وجذيمة والنعمان وهم من ملوك المناذرة؛ إذ كان بنو عباد ينتسبون إليهم.
ويقول في قصيدة أخرى:
أليس بنو عباد القبلة التي
عليها لآمال البرية معكف
ملوك يرى أحباؤهم فخر دهرهم
ويخلف موتاهم ثناء مخلف
وأما المعتمد فلابن زيدون فيه مدائح كثيرة في إمارة أبيه وإمارته، تعرب عن إحماد صحبته، وشكر نعمته، وقد أولع المعتمد بالإلغاز عن أبيات من الشعر يطلب إلى ابن زيدون بيانها، وفي ديوان ابن زيدون كثير منها.
وحسب الشاعر أن يكتب إليه المعتمد قصيدة يعاتبه بها على تأخر جوابه عن شعر بعث به، يقول فيها:
على ذاك أفديك من ماجد
تشبث بالظرف فيه الهدى
فحينا أزور به روضة
وحينا أحيي به مسجدا
لك العلم مهما أرد بحره
لأروى به أحمد الموردا
وفيك تجمعت المأثرات
طرا فصرت بها مفردا
شمائل تنثر شمل الهموم
نثرك بالرأي شمل العدا
فمتعني الله بالحظ منك
ولا زلت لي مؤنسا سرمدا
ودمت ودمنا على حالنا
كما يصحب الفرقد الفرقدا
فلولاك كانت ربوع السرور
مني تجاوب فيها الصدى
فأجاب ابن زيدون بقصيدة منها:
وطاعة أمرك فرض أراه
من كل مفترض أوكدا
هي الشرع أصبح دين الضمير
فلو قد عصاك لقد ألحدا
وحاشاي من أن أضل الصراط
فيعدو بي الكفر عما بدا
وأخلف بالوعد من لا أرى
لدهري إلا به موعدا
أتاني عتاب متى أوكده
في نشوات الكرى أسهدا
وفي أبيات المعتمد وابن زيدون ما يري القارئ أن المعتمد لا يقصر في النظم عن الشاعر الكبير، ويطرد هذا فيما نراه في ديوان ابن زيدون من شعر له وللمعتمد في مراسلاتهما ومساجلاتهما، ما عدا القصائد المطولة التي لا نجد للمعتمد أمثالها.
ومما ينبغي ذكره هنا أن أحد حساد ابن زيدون أرسل إلى المعتمد شعرا يعرض فيه بابن زيدون، ويغري المعتمد بقتله وقتل كل من يرتاب فيه ويتبع سنة أبيه في قتل أعدائه، وأول الشعر:
يأيها الملك العلي الأعظم
اقطع وريدي كل باغ ينسم
واحسم بسيفك داء كل منافق
يبدي الجميل وضد ذلك يكتم
لا تحقرن من الكلام قليله
إن الكلام له سيوف تكلم
وهي سبعة وعشرون بيتا.
فكتب المعتمد على ظهر الورقة التي فيها الشعر:
كذبت مناكم صرحوا أو جمجموا
الدين أمتن والسجية أكرم
خنتم ورمتم أن أخون وإنما
حاولتم أن يستخف يلملم
وأردتم تضييق صدر لم يضق
والسمر في ثغر الصدور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب
ما زال يثبت للمحال فيهزم
أنى رجوتم غدر من جربتم
منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذاكم لا البغي يثمر غرسه
عندي ولا مبنى الصنيعة يثلم
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشة
يلقى السفيه بمثلها فيحلم
وبلغت القصة ابن زيدون فأنشأ خمسين بيتا يمدح المعتمد ويشكره على تخييب مسعاة الساعين، منها:
أنى أؤدي فرض أنعمك التي
وبلت كما وبل السحاب المشجم
أمطيتني متن السماك برتبة
علياء منكب عزها لا يزحم
وتركت حسادي عليك وكلهم
شاكي حشا يذوي وأنف يرغم
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم
والغش في بعض النصائح مدغم
وثناهم ثبت قناة أناته
خلقاء يصلب عودها؛ إذ يعجم
وزهاهم نظم الهراء فكفهم
نظم عقود السحر منه تنظم (1-5) ابن عمار
اتصل الشاعر ابن عمار بالمعتضد بن عباد وبالمعتمد في أيام أبيه المعتضد، وله فيهما مدائح، وكان المعتمد قاد جيشا إلى شلب ففتحها سنة 444ه ولقي هناك أبا بكر بن عمار، وتمكنت بينهما المودة ومدح الشاعر أميره وصديقه بقصائد بليغة سارت بين الأدباء وذاعت.
وصحب ابن عمار المعتمد إلى إشبيلية فأقام معه إلى أن أنكر المعتضد شغل ابنه بهذا الشاعر فنفاه إلى سرقسطة.
ولما تولى المعتمد بعد وفاة أبيه دعا صديقه الشاعر وخيره في ولاية يولاها فاختار شلب.
ثم لم يصبر المعتمد عنه فدعاه إلى حضرته واستوزره، وشارك ابن عمار في حروب المعتمد التي دفع بها الإسبان عن إشبيلية كما شارك من قبل أبو الطيب في حروب سيف الدولة.
وفتح ابن عمار مرسية للمعتمد فملكه العجب، وتزيا بزي الأمراء حتى ارتاب فيه المعتمد.
ونظم ابن عمار قصيدة يفخر فيها ويحرض أهل بلنسية على الثورة على أميرها، وكان صديق المعتمد وأول القصيدة:
بشر بلنسية وكانت جنة
أن قد تدلت في سواء النار
ويقول فيها:
كيف التفلت بالخديعة من يدي
رجل الحقيقة من بني عمار
فغضب المعتمد على ابن عمار وعارض قصيدته بشعر فيه سخرية ببني عمار.
فثار الشاعر وأنشأ شعرا هجا به المعتمد وأم أولاده الرميكية هجاء مقذعا.
ووقعت نسخة من الشعر بخط ابن عمار في يد المعتمد، وانتهت الحادثات بأسر ابن عمار في بعض مغامراته فأسلمه آسره إلى المعتمد فحبسه وقتله.
ومما كتب المعتمد للوزير ابن عمار أيام صداقتهما:
لما نأيت نأى الكرى عن ناظري
ورددته لما رجعت عليه
4
طلب البشير بشارة يجزى بها
فوهبت قلبي واعتذرت إليه
وفي نفح الطيب:
5
ركب المعتمد في بعض الأيام قاصدا الجامع والوزير أبو بكر بن عمار يسايره، فسمع أذان المؤذن؛ فقال المعتمد:
هذا المؤذن قد بدا بأذانه
فقال ابن عمار:
يرجو بذاك العفو من رحمانه
فقال: المعتمد:
طوبى له من شاهد بحقيقة
فقال ابن عمار:
إن كان عقد ضميره كلسانه
وأدخلت على المعتمد يوما باكورة نرجس فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:
قد زارنا النرجس الذكي
وآن من يومنا العشي
وعندنا مجلس أنيق
وقد ظمئنا وفيه ري
ولي خليل غدا سميي
يا ليته ساعد السمي
6
فأجابه ابن عمار:
لبيك لبيك من مناد
له الندى الرحب والندي
هأنا بالباب عبد قن
قبلته وجهك السني
شرفه والداه باسم
شرفته أنت والنبي
وكان المعتمد غضب على ابن عمار في بعض الحادثات، وعتب ابن عمار على المعتمد فكتب إليه يعتب ويطلب الصفح في قصيدة أولها:
أأسلك قصدي أم أعوج عن الركب
فقد صرت من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي
فأجعله حظي أم الحظ في القرب
ويقول فيها:
أهابك للحق الذي لك في دمي
وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
أيظلم في وجهي كذا قمر الدجى
وتنبو بكفي صفحة الصارم العضب
إلى أن يقول:
أما إنه لولا عوارفك التي
جرت جريان الماء في الغصن الرطب
لما سمت نفسي ما أسوم من الأذى
ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي
فأجاب ابن عباد:
تقدم إلي ما اعتدت عندي من الرحب
ورد تلقك العتبى حجابا من العتب
متى تلقني تلق الذي قد بلوته
صفوحا عن الجاني رءوفا على الصحب
سأوليك مني ما عهدت من الرضا
وأصفح عما كان إن كان من ذنب
فما أشعر الرحمن قلبي قسوة
ولا صار نسيان الأذمة من شعبي
تكلفته أبغي به لك سلوة
وكيف يعاني الشعر مشترك اللب
ولكن الشاعر أشفق من العودة إلى المعتمد، فاستمر على نفاره حتى أسلمته الحوادث إلى يد المعتمد، وقصيدة ابن عمار التي هجا فيها المعتمد مطلعها:
ألا حي بالغرب حيا حلالا
أناخوا جمالا وحازوا جمالا
وعرج بيومين أم القرى
ونم فعسى أن تراها خيالا
ويومين قرية بإشبيلية كان منها أولية بني عباد.
ويقول فيها عن الرميكية أم أولاد المعتمد:
تخيرتها من بنات الهجان
رميكية ما تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار
لئيم النجارين عما وخالا
قصار القدود ولكنهم
أقاموا عليها قرونا طوالا
إلى أن يقول:
سأهتك عرضك شيئا فشيئا
وأكشف سرك حالا فحالا
ومنها:
فيا عامر الخيل يا زيدها
منعت القرى وأبحت العيالا
وهذا من ابن عمار كفران نعمة وحمق، أنشأ هذا الهجاء وظن أنه يخفى على المعتمد فبلغه بخط ابن عمار كما قيل، فكان فيه حتفه.
ومما استعطف به المعتمد - وهو في سجنه - قصيدة أولها:
سجاياك إن عافيت أندى وأسمح
وعذرك إن عاقبت أجلى وأوضح
وإن كان بين الخطتين مزية
فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
ويقول فيها:
أقلني بما بيني وبينك من رضا
له نحو روح الله باب مفتح
وعف على آثار جرم جنيته
بهبة رحمى منك تمحو وتصفح
ولا تلتفت رأي الوشاة وقولهم
فكل إناء بالذي فيه يرشح
ويختمها بقوله:
سلام عليه كيف دار به الهوى
إلي فيدنو، أو علي فينزح
ويهنيه إن مت السلو فإنني
أموت ولي شوق إليه مبرح (1-6) عبد الجليل بن وهبون
يقول صاحب قلائد العقيان في ترجمة هذا الشاعر: إنه كان متصلا بالوزير الشاعر ابن عمار «فأعلقه بدولته وألحقه بجملته ونفقه بعد الكساد، وطوقه من استخلاصه ما أغاظ به الحساد، كان يعتقد تقدمه، ويعقد بنواصي الشعراء قدمه، إلا أنه مع تمييزه به بالإحظاء، وتجويزه إياه عند الاقتضاء، لم يوصله عند المعتمد إلى حظ، ولم ينله منه إلا كرة لحظ.»
ويقول أيضا في ترجمته:
ودخل المرية وقد أحرج المعتمد على الله وأضجره، حتى أبعده وهجره، فلما كان يوم العيد وحضر المعتصم شعراؤه، واجتمع كتابه ووزراؤه، بعث في عبد الجليل فتأخر وزرى بالحال وسخر، وقال: أبعد المعتمد أحضر منتدى؟ أو أستمطر جودا أو ندى؟ وهل تروق الأعياد إلا في فنائه؟ أو تحسن الأمداح إلا في سنائه؟
دنا العيد لو تدنو لنا كعبة المنى
وركن المعالي من ذؤابة يعرب
فوا أسفا للشعر ترمى جماره
ويا بعد ما بيني وبين المحصب
أقول: المعتصم المذكور هو ابن صمادح أمير المرية. ولعل القارئ يسأل: كيف جرؤ ابن وهبون على الامتناع عن حضرة المعتصم يوم عيد وهو في بلده؟ وكيف قال: إنه لا يمدح إلا ابن عباد؟ والجواب: أنا لا نعلم أن ابن وهبون جهر بهذا القول في المرية، ثم مدحه المعتمد ولو جهر به، يحميه من نقمة المعتصم؛ إذ كان المعتمد أميرا يهابه أمراء الطوائف ويتوددون إليه.
وفي نفح الطيب
7
أن المعتمد جلس يوما والبزاة تعرض عليه فاستحث الشعراء في وصفها، فصنع ابن وهبون بديها:
للصيد قبلك سنة مأثورة
لكنها بك أبدع الأشياء
تمضي البزاة وكلما أمضيتها
عاطيتها بخواطر الشعراء
وأنه كان في قصر المعتمد فيل من الفضة، يتدفق الماء من فمه إلى بركة، فقال عبد الجليل بن وهبون قصيدة في وصفه.
وهكذا يعد ابن وهبون من الشعراء الذين اتصلوا بالمعتمد وعاشوا في كنفه.
وسيأتي في أخبار وقعة الزلاقة أنه كان ممن حضر مجلس المعتمد حين هنأه الناس، وأنه أعد قصيدة في هذا؛ فلما سمع القارئ احتقر قصيدته. (2) شعراء آخرون
ومن الشعراء الذين مدحوا المعتمد ابن القزاز محمد بن عبادة.
وله قصيدة يذكر فيها جرح يد المعتمد في وقعة الزلاقة - التي قدمنا ذكرها - يقول فيها:
جلبت إلى الأعادي أسد غاب
براثنها الأسنة والصفاح
وقفت وموقف الهيجاء ضنك
وفيه لباعك الرحب انفساح
وألسنة الأسنة قائلات
إذا ظهر المؤيد لا براح
8
ومنها:
وقالوا كفه جرحت فقلنا
أعاديه توافقها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل الجود فيها
فأمسى في جوانبها انسياح
وقد صحت وسحت بالأماني
وفاض الجود منها والسماح
ومن شعراء المعتمد ابن مرزقان مولاه، وأبو الوليد المصيصي، وابن المرعز النصراني الإشبيلي،
9
وغيرهم .
وقل أن تجد شاعرا في الأندلس أو ما يقاربها من البلاد إلا اتصل بالمعتمد ومدحه ونال جوائزه.
هذا إلى شعراء اتصلوا بالمعتضد ومدحوه، ولم يدركوا إمارة المعتمد، مثل علي بن حصن، وقد استوزره المعتضد ثم فتك به.
10
ومن غريب ما يروى أن الحصري الشاعر، كان ألف للمعتمد كتاب «المستحسن من الأشعار»، فلم يقدر له لقاء المعتمد إلى حين اجتاز إلى طنجة أسيرا.
يقول صاحب النفح:
فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري: ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته، فوالله ما أملك غيره! فوجد تحته جملة مال فأخذه.
11
ملوك الطوائف ونصارى الشمال
ضعفت سطوة المسلمين في الأندلس، بعد عبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر؛ إذ ضعفت الدولة الأموية التي سيطرت على البلاد قوية مهيبة ما بين سنة 138 وسنة 400ه، ثم زلزلت حتى زالت سنة 422ه.
وتقسم ملوك الطوائف البلاد بينهم متنافسين متنازعين، كل يهتم بنفسه وملكه، ويلقى العدو وحده إذا نزلوا بساحته؛ حتى طمع فيهم العدو وفرض عليهم الجزية، فأدوها هائبين مؤثرين العافية، راضين بالسلامة.
يقول الأستاذ بلنثيا في كتابه «الفكر الأندلسي»:
1
إن انتثار عقد الأندلس وتفرق أمره في دول الطوائف كان سبب ضياع أمره؛ لأن هذه الدويلات الصغيرة كانت على حال من الضعف لم تستطع معها أن تثبت لهجمات النصارى الذين انتهجوا خطة تختلف عما كان عليه المسلمون إذ ذاك، واتجهوا إلى توحيد قواهم أمام المسلمين الذين لم تتوقف الخصومات بينهم قط، بل أصبح ألفونسو السادس بعد استيلائه على طليطلة سنة 478ه (1085م) في مركز مكن له من أن يعين بعض ملوك الطوائف على بعض ويتدخل في شئون مملكة بلنسية، وعظمت قوته واشتد خطره على المسلمين حتى خافه المعتمد وزوجه إحدى بناته!
2
وزاد هذا الخنوع طمع الإسبان وألفافهم واجتراءهم، فاشتطوا في الجزية، وساموا المسلمين الهوان، حتى أرسل ألفونسو السادس ملك الفرنج إلى المعتمد بن عباد يطلب زيادة الجزية، ويشتط في مطالبه؛ فغضب المعتمد وقتل الرسل وعزم على الحرب، وهو يعلم أنه لا قبل له بالعدو؛ وإن اعتضد بملوك الطوائف جميعا، ففاوض هؤلاء الملوك في الاستنجاد بيوسف بن تاشفين سلطان المرابطين الذين قامت دولتهم في المغرب فتية قوية فيها قوة البادية وشظفها وخشونتها، وفيها الحماسة الإسلامية لم يطفئها الترف، ولم يوهنها السكون إلى الدعة وإيثار العاقبة.
وأدع الكلام هنا لأبي عبد الله الحميري الأندلسي صاحب «الروض المعطار»؛ ليقص هذه القصة مفصلة إلى موقعة الزلاقة وما بعدها، وأنا أوثر في كل هذا المقال أن أقص حوادث الأندلس بلسان أهله؛ لأجمع إلى التاريخ صورا من الأدب، وأمثلة من أقوال الكتاب والمؤرخين في ذلك العصر.
وهذا ما كتبه صاحب «الروض المعطار»:
وكان السبب في ذلك فساد الصلح المنعقد بين الطاغية وبين المعتمد؛
3
فإن المعتمد اشتغل عن أداء الضريبة في الوقت الذي صارت عادته يؤديها فيه بغزو ابن صمادح صاحب المرية واستنفاذه ما في يديه بسبب ذلك؛ فتأخر لأجل ذلك أداء الإتاوة عن وقتها، فاستشاط الطاغية غضبا وتشطط فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجني فسأل في دخول امرأته القمطيجة إلى جامع قرطبة؛ لتلد فيه من حمل كان بها؛ حيث أشار إليه بذلك القسيسون والأساقفة؛ لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم، عمل المسلمون عليها الجامع الأعظم، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة، تنزل بها فتختلف منها إلى الجامع المذكور حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع، وزعم أن الأطباء أشاروا عليه بالولادة في الزهراء كما أشار عليه القسيسون بالجامع، وسفر بذلك بينهما يهودي كان وزيرا لابن فرذلند فتكلم بين يد المعتمد ببعض ما جاء به من عند صاحبه، فأيأسه ابن عباد من جميع ذلك؛ فأغلظ له اليهودي في القول وشافهه بما لم يحتمله، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه فأنزلها على رأس اليهودي فألقى دماغه في حلقه، وأمر به فصلب منكوسا بقرطبة.
واستفتى ابن عباد الفقهاء لما سكت عنه الغضب عن حكم ما فعله باليهودي، فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك؛ لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما يستوجب له القتل ؛ إذ ليس له أن يفعل ما فعل، وقال للفقهاء حين خرجوا: إنما بادرت بالفتوى؛ خوفا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجا.
وبلغ ألفنسو ما صنع ابن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية ويحصره في قصره، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلبا من مساعير كلابه، وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس، ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه، ثم زحف ابن فرذلند بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقا غير طريق صاحبه. وكلاهما عاث في بلاد المسلمين وخرب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هناك كتب إلى ابن عباد زاريا عليه: «كثر بطول مقامي في مجلس الذبان، واشتد علي الحر، فألقني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عني» فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: «قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية في أيدي الجيوش المرابطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله.» فلما ترجم لابن فرذلند توقيع ابن عباد في الجواب، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال.
وفشا في بلاد الأندلس خبر توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على إجازة الصحراويين والاستظهار بهم على ابن فرذلند، فاستبشر الناس وفتحت لهم أبواب الآمال، وانفرد ابن عباد بتدبير ما عزم عليه من مداخلة يوسف بن تاشفين، ورأت ملوك الطوائف بالأندلس ما عزم عليه من ذلك؛ فمنهم من كتب إليه، ومنهم من شافهه، كلهم يحذره سوء عاقبة ذلك وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد. فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلا: رعي الجمال خير من رعي الخنازير. أي أن كونه مأكولا لابن تاشفين أسيرا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزقا لابن فرذلند أسيرا يرعى خنازيره في قشتالة، وكان مشهورا برزانة الاعتقاد، وقال لعذاله ولوامه: يا قوم، أنا من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من أحدهما، أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فرذلند ففي الممكن أن يفيا لي ويبقيا علي، ويمكن ألا يفعلا فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فهي أني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى ابن فرذلند أسخطت الله، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟! وحينئذ أقصر أصحابه عن لومه.
فلما عزم خاطب جاريه: المتوكل عمر بن محمد صاحب بطليوس، وعبد الله بن حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة يأمرهما أن يبعث إليه كل واحد منهما قاضي حضرته؛ ففعلا، ثم استحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع القضاة عنده بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر بن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى ابن زيدون ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية.
4
وكان يوسف بن تاشفين لا تزال تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويصغي لقولهم وترق نفسه لهم، فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد وقد آذن صاحب سبتة بقصده الغزو وتشوقه إلى نصرة أهل الإسلام بالأندلس، وسأله أن يخلي الجيوش تجوز في المجاز، فتعذر عليه، فشكاه يوسف إلى الفقهاء فأفتوا أجمعين بما لا يسر صاحب سبتة.
ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، وجددوا الفتوى في حق صاحب سبتة، واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولا نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها.
ثم عبر يوسف البحر عبورا هنيئا حتى أتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وجعلوا سماطا أقاموا فيه سوقا جلبوا عليه من عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيها، فامتلأت المساجد والرحبات بضعفاء المتطوعين وتواصوا بهم خيرا.
فلما عبر يوسف وجميع الجيوش انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات جيشا بعد جيش، وأميرا بعد أمير، وقبيلا بعد قبيل، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها في إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه، فأتى محلة يوسف فركض نحو القوم وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل واحد منهما المودة والخلوص، فشكرا نعم الله، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا نفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصا لوجهه مقربا إليه، وافترقا، فعاد يوسف لمحلته، ورجع ابن عباد إلى جهته، ولحق بابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وألطاف أوسع بها محلة ابن تاشفين، وباتوا تلك الليلة.
فلما صلوا الصبح ركب الجميع، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم إلى إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم، ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر وأعان وخرج وأخرج، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف بكل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا.
ولما تحقق ابن فرذلند جواز يوسف، استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يحصى عدده، وجعل يصغي على أنباء المسلمين متغيظا على ابن عباد، جافيا ذلك عليه، متوعدا له، وجواسيس كل فريق مترددون بين الجميع، وبعث ابن فرذلند إلى ابن عباد: «إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي ولا أكلفكم تعبا، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم وتوفيرا عليكم». وقال لأهل وده ووزرائه: «إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جدرها، وربما كانت الدائرة علي، فيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون منهم في وفي بلادي، إذا ناجزوني في وسطها.»
ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه، وترك بقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء. فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجناده أربعين ألف دارع. ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد أو اثنان، وأما النصارى فيتعجبون ممن يزعم ذلك
5
ويقوله، واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدة المشركين، ورأى ابن فرذلند في نومه كأنه راكب على فيل فضرب نقيرة طبل فهالته رؤياه وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، ودس يهوديا إلى من يعلم تأويلها من المسلمين فدل على عابر فقصها عليه ونسبها إلى نفسه فقال له العابر: كذبت ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني من صاحبها وإلا لم أعبرها لك. فقال له: اكتم ذلك؛ هو ألفونسو بن فرذلند. فقال العابر: قد علمت أنه رؤياه ولا ينبغي أن تكون لغيره، وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذن بصلبه عما قريب؛ أما الفيل فقد قال الله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ... السورة، وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى:
فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير ... الآية، فانصرف اليهودي إلى ابن فرذلند وجمجم له وذكر له ما وافق خاطره ولم يفسرها له.
ثم خرج ابن فرذلند ووقف على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، فتقدم يوسف فقصده ، وتأخر ابن عباد لبعض الأمر ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته وسار وهو يتفاءل لنفسه مكملا البيت المشهور (كامل):
لا بد من فرج قريب
يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك
سيعود بالفتح القريب
لله سعدك إنه
نكس على دين الصليب
لا بد من يوم يكون
أخا له يوم القليب
ووافت الجيوش كلها بطليوس فأناخوا بظاهرها وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد فلقيهم بما يجب من الأقوات والضيافات وبذل مجهوده؛ ثم جاءهم الخبر بشخوص ابن فرذلند إليهم، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفا عليهم من مكايد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفا بالمحلة بعد ترتيب الكراديس من خيل على أفواه طرق محلاتهم فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يخطئ إذ ذاك من لقاء ابن عباد؛ لكثرة تطوافه عليهم.
ثم كتب يوسف إلى ابن فرذلند يدعوه إلى الإسلام أو الجزية أو يأذن بحربه، فامتلأ غيظا وعتا وطغا بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا صلبهم ونشروا أناجيلهم وخرجوا يتبايعون على الموت، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم الفرار، وجاءهم الطلائع بخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء، فأصبح المسلمون قد أخذوا مصافهم، فكع ابن فرذلند ورجع إلى إعمال الخديعة ورجع الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فأخذ ابن فرذلند في إعمال الحيلة فبعث لابن عباد يقول: غدا يوم الجمعة وهو عيدكم، وبعده الأحد وهو عيدنا؛ فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت، فعرف المعتمد بذلك يوسف فقال: نعم، فقال له المعتمد: هذه خديعة من ابن فرذلند؛ إنما يريد غدر المسلمين فلا تطمئن إليه، وليكن الناس على استعداد له طول يوم الجمعة كل النهار . وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات خائفين من كيد العدو، وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي (وكان في محلة ابن عباد) فرحا مسرورا يقول: إنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف فخبره بها؛ تحقيقا لما توقعه من غدر ابن فرذلند فحذروا أجمعين ولم ينفع ابن فرذلند ما حاوله من الغدر.
ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ابن فرذلند وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلة ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منك إن شاء الله تعالى. وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا ما دام ابن فرذلند مشتغلا مع ابن عباد.
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيته جنود ابن فرذلند، فصدمها ابن عباد صدمة قطعت أمله ولم ينكشف له، فحميت الحرب بينهما، ومال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأ عليه الصحراويون وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغيه وجرحت يمنى يديه، وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يمينا وشمالا، وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه بإشبيلية عليلا اسمه العلاء وكنيته أبو هاشم فقال (متقارب):
أبا هاشم هشمتني الشفار
ولله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم يثننى ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود ابن عائشة، وكان بطلا شهما فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصدع الجو، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه وقصده بمعظم جنوده، وقد كان على حساب ذلك من أول النهار، وأعد له هذه الأشكولة وهي معظم جنوده، فبادر إليه يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد ووجد ريح الظفر وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرا عظيما، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، فصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هاربا منهزما، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي أثرها بقية عمره، فكان يخمع منها، فلجأ إلى تل كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون بعد ذلك من رءوسهم صوامع يؤذنون عليها، وابن فرذلند ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالا محيطا به وبأصحابه.
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية: كتابي هذا من المحلة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين، وأذاق المشركين العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه الهزيمة العظيمة والمسرة الكبيرة هزيمة إذفونش أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وأجناده، وحماته وقواده، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها ، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني بحمد الله - تعالى - إلا جراحات يسيرة آلمت، لكنها قرحت بعد ذلك، وغنمت وظفرت.
ولما فرغ يوسف من وقيعة يوم الجمعة تواردت عليه أنباء من قبل السفن، فلم يجد معها بدا من سرعة الكرة، فانصرف إلى إشبيلية فأراح بظاهرها ثلاثة أيام، ونهض نحو بلاده، ومشى ابن عباد معه يوما وليلة، فعزم عليه يوسف في الرجوع، وكانت جراحاته تثعب، وتورم كلم رأسه، فرجع وأمر ابنه بالمسير بين يديه إلى فرضة المجاز حتى يعبر البحر إلى بلده.
ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس الناس وهنئ بالفتح وقرأت القراء وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشده إياها فقرأ القارئ:
إلا تنصروه فقد نصره الله
الآية. فقلت: بعدا لي ولشعري! والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره إليه وأقوم به. •••
وللشعراء في وقعة الزلاقة وبلاء المعتمد فيها قول كثير.
لابن حمديس قصيدة أولها:
ليهنئ بني الإسلام أن أبت سالما
وغادرت أنف الكفر بالذل راغما
كشفت كروبا عن قلوب كأنما
وضعت عليها من هواك خواتما
صبرت لحر الطعن والضرب ذائدا
عن الدين واستصغرت فيه العظائما
رحمناك من وقع الصوارم والقنا
فكان لنا في حفظك الله راحما
وكم شجة في حر وجهك لم يزل
لك الحسن منها بالشجاعة واسما
ويقول في يوسف بن تاشفين وجنده المرابطين:
نقمت على من آسفوك بيوسف
وما زلت ممن خالف الحق ناقما
وآذنت عمار القفار بحربهم
فيا قرب ما شقوا إليك الخضارما
بنو الحرب غذتهم لبان ثديها
ولم يستطيبوا منه إلا العلاقما
يحثون للهيجاء جردا سلاهبا
وينضون في البيداء بزلا صلادما
إذا طعنوا بالسمهرية خلتهم
ضراغم تغري بالقلوب أراقما
وإن كر منهم ذو لثام مصمم
غدا لفم الهيجاء بالسيف لاثما
6
ويختم ابن حمديس القصيدة بهذه الأبيات:
حلمتم مراجيحا، وجدتم أكارما
وسدتم بهاليلا، وصلتم ضراغما
سكنتم قلوب العارفين محبة
كما سكن الزهر الزكي الكمائما
نذرت نذورا فاقتضاني قضاءها
إيابك من يوم العروبة سالما
7
ولما وجدت الوفر أعوز راحتي
سجدت لربي ثم أصبحت صائما
وللشاعر في يوم الزلاقة قصيدة أخرى مطلعها:
خلعت على بنيات الكروم
محاسن ما خلعن على الرسوم
ويقول فيها:
فيابن الصيد من لخم، ولخم
بدور مطالع الحسب الصميم
إذا جادوا فأنواء العطايا
وإن حلموا فأطواد الحلوم
وأحرم في يمينك مشرفي
أدمت ببذله صون الحريم
ومعترك تلقى الفنش فيه
غريما مهلكا نفس الغريم
8
تستر بالظلام وفر خوفا
كروع شق سامعتي ظليم
وضاق بيوسف ذي البأس بؤسي
فمرر عنده حلو النعيم
وقد نهشته حيات العوالي
سلوا ليل السليم عن السليم
إلى أن يقول:
ولما أن أتاك بقوم عاد
أتيت بصرصر الريح العقيم
وقد ضرمت نار الحرب حتى
حكت زفراتها قطع الجحيم
وثار بركض شزيها قتام
خلعن به الصريم على الصريم
9
وفيما أصاب المعتمد في موقعة الزلاقة يقول الشاعر محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز:
10
جلبت إلى الأعادي أسد غاب
براثنها الأسنة والصفاح
وقفت وموقف الهيجاء ضنك
وفيه لباعك الرحب انفساح
وألسنة الأسنة قائلات
إذا ظهر المؤيد لا براح •••
وقالوا كفه جرحت فقلنا
أعاديه توافقها الجراح
وما أثر الجراحة ما رأيتم
فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل الجود فيها
فأمسى في جوانبها انسياح
وقد صحت وسحت بالأماني
وفاض الجود منها والسماح
ويقول الفتح في قلائد العقيان وهو يذكر يوم الزلاقة:
وكان للمعتمد - رحمه الله - فيه ظهور، وغناء مشهور، جلا متكاثف عجاجه، وجلا الروم من غيطانه وفجاجه، بعد ما لقي حره، وسقي مره؛ وكلم العدو يده، وثلم عدده، وتخاذل فيه رؤساء الأندلس فلم يعمل لهم فيه سنان، ولم يكحل جفونهم من قتامه عثان، والمعتمد يلقى أسنتهم بلبانه، وتنثني الذوابل ولا يثنى من عنانه.
11 (1) بعد موقعة الزلاقة
فرح المسلمون بالانتصار، واستبشروا به أي استبشار، وحمدوا يوسف بن تاشفين وأثنوا عليه، وبالغوا في تعظيمه وتكريمه حتى عاد إلى بلاده.
واضطر المعتمد بن عباد كبير ملوك الطوائف أن يعود إلى استنجاد يوسف مرة أخرى، فعبر يوسف البحر إلى الأندلس وعزم على خلع ملوك الطوائف جميعا.
وكلام صاحب الروض المعطار لا يشعر بأن يوسف عاد إلى المغرب ثم عاود الأندلس، بل يوهم أن الحوادث تتابعت منذ وقعة الزلاقة حتى بلغت غايتها.
ويؤخذ من روايات عدة، ومما تقتضيه الأحوال في ذلك الحين؛ أمور أسردها على النسق الآتي: (1)
تطلع ابن تاشفين إلى الأندلس حين اتسع ملكه وعظم سلطانه، ويؤكد هذا ما نقله صاحب نفح الطيب عن الروض المعطار أن ملوك الأندلس سمعوا بتطلع يوسف إلى بلادهم قبل الاستنجاد به، فأرسلوا إليه متوددين قائلين:
أما بعد، فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة، وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك، والسلام.
فأجاب يوسف:
سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحية من سالمكم وسلم عليكم، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصون منا بأكرم إيثار وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام. (2)
وكره ابن تاشفين وجنده ما سمعوا من ترف ملوك الأندلس ولهوهم، وما رأوا من بذخهم حين حلوا ببلادهم:
يقول المقري في نفح الطيب بعد ذكر نزول ابن تاشفين في إشبيلية بعد موقعة الزلاقة وما رآه في المدينة من الأبهة والرفاهية والترف:
وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها وما هي عليه من النعمة والأتراف، ويغرونه باتخاذ مثلها ويقولون له: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة كما هو المعتمد وأصحابه، فأنكر يوسف هذا وقال:
الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل - يعني المعتمد - أنه مضيع لما في يده من الملك؛ لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش الاستهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى يستجد همة في ضبط بلاده وحفظها وصون رعيته والتوفير لمصالحها.
12
ويقول المقري:
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما هي عليه في بعض الأوقات؟ فقيل له: بل كل زمانه على هذا. فقال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه، ومنجديه على الملك، ينال حظا من ذلك؟ فقالوا: لا. قال: فكيف ترون رضاهم عنه؟ فقالوا: لا رضا منهم عنه. فأطرق وسكت، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياما.
وفي نفح الطيب:
13
ولما عزم السلطان يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير، وترك معه جيشا يرسم غزو الفرنج، فاستراح الأمير المذكور أياما قلائل، ودخل بلاد الأذفونش، وأطلق الغارة، ونهب وسبى وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة، وتوغل في البلاد، وحصل أموالا وذخائر عظيمة، ورتب رجالا وفرسانا في جميع ما أخذه، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكايدة العدو، وملازمة الحرب والقتال، في أضيق العيش وأنكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد عيش وأطيبه وسأله مرسومه ...
ويقول المراكشي: إن يوسف أرسل جندا للمرابطة في الثغور وأراد أن يكونوا عدة له حين يعزم على أخذ الأندلس.
هذا الكلام وشبهه إعراب صادق عما تقضي به تلك الأحداث والأحوال، فهؤلاء الصحراويون المسلمون الخلص قد اطبتهم تلك البلاد الخصبة النضرة وأسخطتهم عيشة المترفين من أهل الأندلس، وافتراق كلمتهم، والقوارع تنتابهم والعدو بين الحين والحين يجوس خلال ديارهم، ويأخذ ما يشاء من نسلهم وحرثهم. •••
لهذا عزم ابن تاشفين على خلع ملوك الطوائف وتدبير أمر الأندلس وأراد أن يستوثق من حكم الشرع فيما هم به، فاستفتى العلماء فأفتوه بجواز خلع هؤلاء الملوك المترفين؛ جمعا لكلمة المسلمين، وتقوية لهم على الجهاد.
يقول صاحب نفح الطيب: وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف وقتالهم إن امتنعوا.
ويقول الأستاذ بلنثيا:
14
وكان الفقهاء يعتقدون أن سبب اضمحلال البلاد إنما هو انصراف أمراء الطوائف عن الدين وحدوده، فأملوا لهذا أن تصلح الحال إذا استعانوا بالمرابطين، وعارض الأمراء في الاستعانة بهم ما استطاعوا المعارضة؛ إذ إنهم توجسوا شرا من مزاحمتهم لهم على السلطان في الأندلس، ولكن الغالب أن جمهور الناس ألحوا في استقدام المرابطين، وتوجه بالفعل وفد مؤلف من قضاة بطليوس وغرناطة وقرطبة ووزير إشبيلية أبي بكر بن زيدون إلى إفريقية وقابلوا يوسف بن تاشفين واستصرخوه لنجدة الأندلس، فأجابهم إلى ما طلبوه.
وعبر يوسف إلى إسبانيا ثلاث مرات
15
وأخذت تنعقد حوله وهو منصرف إلى الحرب في الأندلس شباك تدبيرين في وقت واحد: الأول دبره ملوك الطوائف للإيقاع به وأذاه. وعقد أطراف الثاني الفقهاء ورموا من ورائه إلى إسلام الأندلس جملة إلى يوسف بن تاشفين، واجتهد الفقهاء في ذلك، وسعوا بأمراء الطوائف وتكلموا مع الأمير في خلعهم، وانتهى الأمر بالاقتناع برأيهم، وعقد النية على استنزال ملوك الطوائف الأندلسيين عن عروشهم؛ إذ تبين عجزهم عن مقاومة النصارى، ووجد أن جمهورا كبيرا يؤيده في هذا العمل، فاستصدر من الفقهاء فتوى بعدم صلاحية ملوك الطوائف للحكم وضرورة عزلهم.
ولم يلبث الأندلس جميعا أن دخل في دولة المرابطين.
أقول: ليس حقا إن ملوك الطوائف دبروا للإيقاع بيوسف أول الأمر؛ فهم استنجدوه واستنصروه وفرحوا بنصرته، وتمنوا أن تدوم المودة بينه وبينهم إلى أن عزم على خلعهم.
خلع ملوك الطوائف
روى ابن خلكان بعد ذكر موقعة الزلاقة أن ابن تاشفين عاد في العام الثاني إلى الأندلس وخرج إليه المعتمد وحاصر بعض حصون الفرنج فلم يقدر عليه فرحل عنه، وعبر على غرناطة فخرج إليه صاحبها عبد الله بن بلكين فغدر به يوسف ودخل البلد ودخل قصر عبد الله فوجد فيه من الأموال والذخائر ما لا يحصى ولا يعد، وأنه عاد إلى مراكش وفي نيته أن يستولى على الأندلس، وأنه جهز الجيوش وسار إلى سبتة فأرسل قائده سير بن أبي بكر ففعل ما فعل بملوك الطوائف.
وليست الروايات واضحة في عود يوسف إلى الأندلس، ولا يتفق الذين رووا أنه عاد إليها على سنة هذه العودة، وليس هذا الخلاف ذا خطر فيما نحن بصدده من سيرة المعتمد بن عباد.
وفي نفح الطيب أن سير بن أبي بكر قائد المرابطين في الأندلس أرسل إلى السلطان يوسف يخبره بإيثار ملوك الطوائف الدعة واللهو واحتمال المرابطين العناء في جهاد العدو، وسأله رأيه في هؤلاء الملوك، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة، فمن فعل فذاك، ومن أبى فحاصره وقاتله ولا تنفس عليه، ومما قاله: «ولتبدأ بمن والى الثغور ولا تتعرض للمعتمد بن عباد إلا بعد استيلائك على البلاد، وكل بلد أخذته فول فيه أميرا من عساكرك.»
شرع قائد المرابطين ينزل الملوك من معاقلهم ويخرجهم من ديارهم طوعا أو كرها حتى أدال منهم جميعا، فكتب إلى ابن تاشفين يسأله أمره في ابن عباد فأمره أن يعرض عليه النقلة إلى بر العدوة في أهله وعشيرته، فإن أبى فليقاتله ويأخذه قسرا كما فعل بنظرائه.
وهذا نسق الحوادث كما روى صاحب نفح الطيب:
1
فأول ما ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود، وكانوا بروطة - وهي قلعة منيعة من عاصمات الذرى، وماؤها ينبع من أعلاها، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان - فحاصرهم فلم يقدر عليها، ورحل عنها، وجند أجنادا على هيئة الفرنج وزيهم، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها، وكمن هو وأصحابه بقرب منها.
فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم فنزلوا إليهم، ومعهم صاحب القلعة، فخرج عليه سير المذكور
2
وقبضه باليد وتسلم الحصن.
ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس، فأسلموا له البلاد ولحقوا ببر العدوة، ثم نازل بني صمادح بالمرية، ولها قلعة حصينة فحاصرهم وضيق بهم، ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غما، فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها.
ثم قصد بطليوس، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس - المتقدم ذكره - فحاصره وأخذه واستولى على جميع أعماله وماله.
ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل ويسأله مرسومه في ابن عباد، فكتب إليه يأمره أن يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة، فإن رضي وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه.
فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف، وسأله الجواب، فلم يجب بنفي ولا إثبات.
ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه، فأقام الحصار شهرا ودخل البلد قهرا.
ويقول المراكشي في المعجب: إن الفتنة بدأت في شوال سنة 483ه، حين أخذ المرابطون جزيرة طريف دون مقدمة ظاهرة، ثم زحفوا إلى قرطبة فدافع عنها المأمون بن المعتمد إلى أن قتل في صفر سنة 484ه.
وسيأتي أن أخذ إشبيلية كان في رجب سنة 484ه، ويأتي كذلك في أخبار الراضي بن المعتمد أن جيشا توجه إليه وهو في رندة فهزمه وقتله، وكان هذا بعد الاستيلاء على إشبيلية.
لم أجد فيما اطلعت فيه من كتب، تفصيل ما كان بين ابن عباد وابن تاشفين من مراسلة، ثم قطيعة، وعداوة، وحرب.
ويتبين مما نقله صاحب نفح الطيب عن الفتح بن خاقان وابن اللبانة أن المعتمد حوصر في إشبيلية وأن بعض رجال دولته مالوا مع عدوه وكادوا له وخانوه، ولم يفجأ المعتمد بجيوش ابن تاشفين؛ فقد بدءوا قبله بملوك الطوائف وبلغ المعتمد ما جرى عليهم، ثم أخذوا قرطبة وقتلوا ابنه المأمون، ولا نصدق ما سجع به الفتح بن خاقان في قوله:
فأزلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعد ما نثرت حصونه وقلاعه ... وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح ومحيا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه.
وقوله:
حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعواديه، وهو مستمسك بعرى ملذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه.
3
لا نصدق أن المعتمد أحدق به الخطر وهو في لعبه ولهوه، فإن عاقلا لا يفعل هذا، فضلا عن المعتمد الهمام الحازم الشجاع بطل موقعة الزلاقة الذي أحس خطر الفرنج فألب عليهم ملوك الأندلس واستنجد المرابطين من المغرب.
لا نصدق أن المعتمد بن عباد أحيط به وهو بين الخمر والنساء، ولا ريب أن الرجل دافع عن ملكه وسع شجاعته وقدرته، حتى ألجئ إلى مدينته ثم إلى قصره، وقد خانه رجاله فسقط في يده، وحسب أنه يستعصم في قصره إلى أن يحتال لأمره فلحقته الخيانة فيه، فخرج معجلا عن درعه يلقى العدو في غلالة.
لم يكن المعتمد كما صورته أسجاع الفتح بن خاقان، بل كان كما قال فيه ابن حمديس:
جاهدت في الرحمن حق جهاده
وجرى الملوك كما أردت فقصروا
فيبيت ناجود وعود حولهم
ويبيت حولك شوذب وسنور
وتفوح غالية بهم وذريرة
وهما دم في بردتيك وعشير
وهذا يذكر بقول أبي الطيب في سيف الدولة وملوك مصر والعراق في عصره:
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
وقوله:
ألهى الممالك عن فتح قفلت به
شرب المدامة والأوتار والنغم
وكذلك يقول ابن حمديس في المعتمد:
مقيم بأرض الروع حيث سماؤها
تمور عليه من مثار قساطله
كأن مقام الحرب أشهى ربوعه
إليه، وبيض الهند أدنى قبائله
والمعتمد يقول في أبيات أرسلها إلى ابن حمديس حين زاره في أغمات:
ولو كنت ممن يشرب الخمر كنتها
إذا نزعت نفسي إلى لذة الخمر
فما أحسب المعتمد كان من اللهو والترف بحيث يصفه الفتح بن خاقان.
وروى صاحب نفح الطيب أنه ما جهر بشرب الخمر منذ ولي الملك.
ونختار في حصار المعتمد وأسره ما كتبه شاعره ابن اللبانة في كتابه نظم السلوك في مواعظ الملوك، ويدل كلامه أنه كان شاهد الوقعة، حاضر النكبة:
إن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها، وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله - تعالى - به من حسن اليقين، وصحة الدين إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر وقاموا بجمع غير مستبصر، فبرز من قصره متلافيا لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه يتلظى في يده ...
يوافق ابن اللبانة غيره على أن جماعة من أصحاب المعتمد خانته وأنه فوجئ في قصره فخرج في غير عدة، ولعل المعتمد لم يعرض لهذه الجماعة بشر حين نمى أمرها إليه؛ خيفة اختلاف الكلمة وافتراق الجماعة في وقت الشدة.
ولا نجد في كلام ابن اللبانة ذكر لهو المعتمد وغفلته والنذر تحيط به، وهو قول باطل سجع به الفتح كسجع الكهان.
ثم يقول ابن اللبانة:
فلقي على باب من أبواب المدينة فارسا مشهورا بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى على غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس فشقه إلى أضلاعه فخر صريعا سريعا، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعدما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من شهر رجب،
4
فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى، ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه فوصلت إليه بأغمات. ا.ه.
ويوافق الفتح ابن اللبانة على غدر جماعة من أصحاب المعتمد وعلى أن أعداءه فجئوه داخلين من أحد أبواب القصر، فخرج إليهم على غير عدة فهزمهم وأغلق الباب واعتصم بالقصر، ويسمي الباب باب الفرج ويقول: إن الداخلين كانوا من المرابطين.
وهذه طائفة من أسجاع الفتح في هذا الشأن:
وحين اشتد حصاره، وعجز عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها ، وسهل بها إيقاد الفتنة وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا من مفاضته، جامحا كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور، وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتلمظ للطلى والهام، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه وجاوز مطاه، فبادره بضربة أذهبت نفسه وأغربت شمسه، ولقي ثانيا فضربه وقصمه وخاض حشا ذلك الداء وحسمه، فأجلوا عنه وولوا فرارا منه، فأمر بالباب فسد وبنى منه ما هد.
ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها وأبعد الله عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عندما خلع، وأودع من المكروه ما أودع:
إن يسلب القوم العدى
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم
ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي
ص من الحشا شيء دفوع
أجلي تأخر لم يكن
بهواي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتا
ل وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
ويؤخذ من كلام الفتح فيما بعد أن المغيرين دخلوا البلد مرة أخرى من الوادي، أي من جهة نهر إشبيلية المسمى الوادي الكبير، وأن المعتمد استبسل في الحرب حتى هزم المغيرين وألجأهم إلى النهر فغرق فيه من غرق، فالبلد دخل من أحد الأبواب فحارب المعتمد حتى رد الداخلين وسد الباب، ثم دخل من الوادي فرد المعتمد أعداءه كذلك، يقول الفتح بعد ذكر الوقعة الثانية:
ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله، وذهاب ملكه وارتحاله. وعاد إلى القصر واستمسك فيه يومه وليلته مانعا لحوزته، دافعا للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، قائلا: بيدي لا بيد عمرو. ثم صرفه تقاه عما نواه (يعني أنه هم بالانتحار) فنزل من القصر بالقسر إلى قبضة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين ...
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعد ما ضاق منهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم.
ويقول المراكشي: إن دخول جماعة من الباب ودفع المعتمد إياهم كان الثلاثاء منتصف رجب. ويقول : إن الجيوش دهمت المدينة عصر ذلك اليوم من البر ومن الوادي، ودام القتال أياما إلى أن جاء قائد المرابطين سير بن أبي بكر بن تاشفين، بعساكر متظاهرة، وحشود من الرعية متوافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم الجزع، وخالط قلوبهم الهلع، يقطعون السبل سباحة، ويعبرون النهر سياحة، ويتولجون مجاري الأقذار، ويترامون من شرفات الأسوار؛ حرصا على الحياة، والموفون بالعهد المقيمون على صريح الود ثابتون إلى أن كان يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة، وهذا يوم الكائنة العظمى والطامة الكبرى، فيه حم الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع.
ويستمر المراكشي بعد وصفه ناقلا كلام الفتح الذي تقدم.
ثم يقول:
وأجبر على مخاطبة ابنه المعتد بالله والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة لو شاءا أن يمتنعا بها لم يصل أحد إليهما، أحد الحصنين يسمى رندة والآخر مارتلة، فكتب رحمه الله وكتبت السيدة الكبرى أمهما مستعطفين مسترحمين معلمين أن دم الكل منهم مسترهن بثبوتهما، فأنفا من الذل، وأبيا وضع يديهما في يد أحد من الناس بعد أبيهما، ثم عطفتهما عواطف الرحمة، ونظرا في حقوق أبويهما المقترنة بحق الله - عز وجل - فتمسك كل منهما بدينه ونبذ دنياه، ونزلا من الحصنين بعد عهود مبرمة ومواثيق محكمة، فأما المعتد بالله فإن القائد الواصل إليه قبض عند نزوله على كل ما كان يملكه، وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قتل غيلة وأخفي جسده.
والأبيات التي رواها الفتح فيما تقدم يزيد عليها المراكشي في روايته ثلاثة أبيات قبلها:
لما تماسكت الدموع
ونهنه القلب الصديع
قالوا الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
ووقف الشاعر الوفي أبو بكر بن اللبانة الذي أخلص لصاحبه في محنته، كما نعم بعطاياه في دولته، وقف الشاعر الوفي يرى القيامة ويشهد الحشر فقال:
تبكي السماء بمزن رائح غاد
على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها
وكانت الأرض منها ذات أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على
أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تخدمها
فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ
في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم لتسكنه
خف القطين وجف الزرع بالواد
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت
تختال في عدد منهم وأعداد
ألق السلاح وخل المشرفي فقد
أصبحت في لهوات الضيغم العادي
إلى أن يقول:
نسبت إلا غداة النهر كونهم
في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملئوا العبرين واعتبروا
من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
حط القناع فلم تستر مخدرة
ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة
وصارخ من مفداة ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها
كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت
تلك القطائع من قطعات أكباد
سارت السفن بالمعتمد وآله وأتباعه في نهر الوادي الكبير، ثم في بحر الظلمات؛ حتى أرست على ساحل المغرب.
ولما خرج من السفين الأمير الجواد الأبي الصنديد، اجتمع إليه السوال يستجدون ويلحفون، جاءه الحصري الشاعر فرفع إليه أشعارا قديمة كان قد مدحه بها، وقصيدة استجدها، يقول المراكشي في كتاب المعجب:
ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم ما زود به فيما بلغني أكثر من ستة وثلاثين مثقالا، فطبع عليها، وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها سقطت من حفظي، ووجه بها إليه، فلم يجاوبه على القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه - كان هذا الرجل، أعني الحصري الأعمى، أسرع الناس في الشعر خاطرا إلا أنه كان قليل الجيد منه - فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:
قل لمن قد جمع العلم
وما أحصى صوابه
كان في الصرة شعر
فتنظرنا جوابه
قد أثبناك فهلا
جلب الشعر ثوابه؟
ولما اتصل بزعانف الشعراء وملحفي أهل الكدية ما صنع المعتمد رحمه الله مع الحصري تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق ، فقال في ذلك رحمه الله:
شعراء طنجة كلهم والمغرب
ذهبوا من الإغراب أبعد مذهب
سألوا العسير من الأسير وإنه
بسؤالهم لأحق منهم فأعجب
لولا الحياء وعزة لخمية
طي الحشا ساواهم في المطلب
قد كان إن سئل الندى يجزل وإن
نادى الصريخ ببابه اركب يركب
وأقام المعتمد بطنجة أياما على الحال التي تقدم ذكرها ثم انتقل إلى مدينة مكناسة فأقام بها أشهرا إلى أن نفذ الأمر بتسييرهم إلى مدينة أغمات.
وفي ديوان المعتمد أنه عتب على ابنه الرشيد عتبا شديدا وهما في الطريق من مكناسة إلى أغمات فكتب الرشيد إليه:
يا حليف الندى ورب السماح
وحبيب النفوس والأرواح
من تمام النعمى علي التماحي
لمحة من جبينك الوضاح
قد غنينا ببشره وسناه
عن ضياء الصباح والمصباح
فأجاب المعتمد:
كنت حلف الندى ورب السماح
وحبيب النفوس والأرواح
إذ يميني للبذل يوم العطايا
ولقبض الأرواح يوم الكفاح
وشمالي لقبض كل عنان
يقحم الخيل في مجال الرماح
وأنا اليوم رهن أسر وفقر
مستباح الحمى مهيض الجناح
لا أجيب الصريخ إن فزع الناس
ولا المعتفين يوم السماح
5
عاد بشري الذي عهدت عبوسا
شغلتني الأشجان عن أفراحي
فالتماحي إلى العيون كريه
ولقد كان ترفة اللماح
المعتمد في أغمات
ومدينة أغمات كما يقول ياقوت:
مدينتان متقابلتان ... كثيرة الخير ... وليس بالمغرب فيما زعموا بلد أجمع لأصناف من الخيرات ولا أكثر ناحية ولا أوفر حظا ولا خصبا منها تجمع بين فواكه الصرود والجروم
1 ...
وبين مدينة أغمات ومراكش ثلاثة فراسخ وهي في سفح جبل هناك، كانت أغمات كبرى مدن الإقليم قبل إنشاء مدينة مراكش، وفقدت مكانتها وقل عمرانها حينما أنشئت مراكش سنة 454ه.
وقد استولى عليها المرابطون سنة 449ه، ونفوا إليها المعتمد سنة 484ه، وبها أطلال مدرسة قديمة ومقابر كثيرة، وقبر المعتمد هناك.
وهي اليوم مزارع وبساتين واسعة كثيرة الثمار، عذبة المياه وارفة الظلال.
بقي البطل ابن عباد في أغمات أربع سنوات حتى أنقذته المنية من هذه البلية، وقد ضيق عليه وأثقلت القيود على رجليه حين ثار ابنه عبد الجبار في الأندلس، وقد جزع المعتمد لهذا وتوقع أن يؤخذ بجريرة ابنه أو يخشى فراره من معتقله.
ويقول الفتح:
وقال لي من أثقه: لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المسلمين عليه ما أثار، جزع جزعا مفرطا، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطا، وجعل يتشكى من فعله، ويتكلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول: عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي ويتحيفه بعدي.
2
ويقول الفتح:
وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمنا، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامنا، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش.
وله في أسره وبؤسه وعض الأداهم في رجليه ومنظر بناته في الأطمار عليهن الذلة بعد العزة وهن يغزلن ليحصلن القوت. له في هذه المرائي الأليمة والأحوال الحزينة، أشعار ترقق القلوب القاسية، وتسيل العيون الجامدة، وإليك طرفا منها:
قال يذكر قصوره التي أشاد بناءها وافتن في تزيينها، وعمر بالسرور أرجاءها، وحمد في ظل النعيم صباحها ومساءها:
غريب بأرض المغربين أسير
سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا
وينهل دمع بينهن غزير
مضى زمن والملك مستأنس به
وأصبح منه اليوم وهو نفور
برأي من الدهر المضلل فاسد
متى صلحت للصالحين دهور
أذل بني ماء السماء زمانهم
وذل بني ماء السماء كبير
3
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة
أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورقة العلا
يغني حمام أو ترن طيور
بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا
تشير الثريا نحونا ونشير
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده
غيورين والصب المحب غيور
تراه عسيرا لا يسيرا مناله
ألا كل ما شاء الإله يسير
4
وقال:
بكى المبارك في إثر ابن عباد
بكى على إثر غزلان وآساد
بكت ثرياه لا غمت كواكبها
بمثل نوء الثريا الرائح الغادي
بكى الوحيد، بكى الزاهي وقبته
والنهر والتاج، كل ذله بادي
ودخل عليه بناته يوم عيد وقد حالت حالهن وذوت نضرتهن - وكن قد اضطررن إلى الغزل لتحصيل قوتهن، وقيل: غزلن لصاحب شرطة كان في خدمة أبيهن - عيد بأية حال عدت يا عيد. فقال المعتمد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
لا خد إلا ويشكو الجدب ظاهره
وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
قد كان دهرك، إن تأمره، ممتثلا
فردك الدهر منهيا ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغرورا
ودخل عليه ابنه أبو هاشم، هذا الصبي الذي ذكره حين احتدام القتال في موقعة الزلاقة، فقال كما تقدم:
أبا هاشم هشمتني الشفار
فلله صبري لذاك الأورار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم يثنني ذكره للفرار
دخل أبو هاشم على أبيه أسيرا سجينا «والقيود قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود» فقال:
قيدي! أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته، لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني والقلب قد هشما
ارحم طفيلا طائشا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئا فقد
خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئا فما
يفتح إلا لرضاع فما
ومما قاله في التوجع من أسره وقيده:
غنتك أغماتية الألحان
ثقلت على الأرواح والأبدان
قد كان كالثعبان رمحك في الورى
فغدا عليك القيد كالثعبان
متمردا يحميك كل تمرد
متعطفا لا رحمة للعاني
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه
ما خاب من يشكو إلى الرحمن
وقال:
أنباء أسرك قد طبقن آفاقا
بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا
فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة
وأغرق الدمع آماقا وأحداقا
أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب
للغالبين وللسباق سباقا
قلت: الخطوب أذاقتني طوارقها
وكان غربي إلى الأعداء طراقا
متى رأيت صروف الدهر تاركة
إذا انبرت، لذوي الأخطار أرماقا
ومر عليه سرب قطا وهو في معتقله، وأنقل هنا كلمات الفتح بن خاقان في تصوير هذه الحال:
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يقلق لها جناح ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو وتسرح في مواقع النو، فتنكد بما هو فيه من الوثاق وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرنه وشهدنه، فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم تك، والله المعيد، حسادة
ولكن حنينا أن شكلي لها شكل
فأسرح لا شملي صديع، ولا الحشا
وجيع، ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئا لها؛ إذ لم يفرق جميعها
ولا ذاق عنها البعد من أهلها أهل
وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها
إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
وما ذاك مما يعتريه وإنما
وصفت الذي في جبلة الخلق من قبل
لنفسي إلى لقيا الحمام تشوق
سواي بحب العيش في ساقه حجل
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماء والظل
وسجن جماعة من أهل فاس في أغمات فرغبوا إلى السجان أن ييسر لهم لقاء المعتمد وكان يتسلى بمجالستهم ويستريح إلى محادثتهم إلى أن أطلقوا من سجنهم فدخلوا عليه يودعونه، فقال:
أما لانسكاب الدمع في الخد راحة
لقد آن أن يفنى ويفنى به الخد
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلى
بما منه قد عافاكم الصمد الفرد
تخلصتم من سجن أغمات والتوت
علي قيود لم يحن فكها بعد
من الدهم، أما خلقها فأساود
تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد
فهنيتم النعمى ودامت لكلكم
سعادته، إن كان قد خانني سعد
خرجتم جماعات، وخلفت واحدا
ولله في أمري وأمركم الحمد
انظر كيف رقت نفسه، وتمنى لكل خلق أن يعيش حرا سعيدا، فهو يغبط القطا على حريتها ويدعو لها أن يعصمها الله في فراخها، وهو يغبط من خلي سبيلهم، ويدعو لهم أن تدوم لهم السعادة التي حرمها، ويسألهم الدعاء للخلاص من هذا البلاء.
وتأمل في هذه الأبيات التي أنشأها حين طلب إليه رجل أن يزوده بشيء من شعره:
يا سائل الشعر يجتاب الفلاة به
تزويدك الشعر لا يغني عن السغب
زاو من الريح لا ري ولا شبع
غدا له مؤثرا ذو اللب والأدب
أصبحت صفرا يدي مما تجود به
ما أعجب الحادث المقدور في رجب
5
ذل وفقر أزالا عزة وغنى
نعمى الليالي من البلوى على كثب
قد كان يستلب الجبار مهجته
بطشي ويحيا قتيل الفقر في طلبي
والملك يحرسه في ظل واهبه
غلب من العجم أو شم من العرب
فحين شاء الذي آتاه ينزعه
لم يجد شيئا قراع السمر والقضب
ويروي الفتح بن خاقان أن المعتمد لما بلغته ثورة ابنه عبد الجبار جزع وأشفق أن يؤخذ بجريرة ولده، ولكن أخبار هذه الثورة فيما يبدو أعادت إلى نفسه ذكرى القوة والسلطان، وأثارت فيه كوامن العزة والإقدام، ولوحت له بأمل ضئيل من خلاصه ورجوع ملكه إليه.
يروي الفتح عمن يثق به بعد أن ذكر جزع المعتمد لثورة ابنه:
ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، وتشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه رجا عودة إلى سلطانه، وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة حتى قال:
كذا يهلك السيف في جفنه
إلى هز كفي طويل الحنين
كذا يعطش الرمح لم أعتقله
ولم تروه من نجيع يميني
كذا يمنع الطرف علك الشكي
م مرتقبا غرة في كمين
كأن الفوارس فيه ليوث
تراعي فرائسها في عرين
ألا شرف يرحم المشرفي
مما به من شمات الوتين
6
ألا كرم ينعش السمهري
ويشفيه من كل داء دفين
ألا حنة لابن محنية
شديد الحنين ضعيف الأنين
7
يؤمل من صدرها ضمة
تبوئه صدر كبر معين
8
تأمل نفثات البطولة المصفدة، والعزة المقيدة، والهمة الحبيسة، والسيرة الماجدة، يحدها السجن، ويضيق عليها الأسر.
وليس بعيدا أن يكون الرجل على شدة محنته، وعظم نكبته، قد أسر في نفسه أملا وأضمر في الحادثات رجاء، كما قال:
وطن على الكره وارقب إثره فرجا
واستغفر الله تغنم منه غفرانا
وكان شعراؤه يبعثون في نفسه الأمل كما قال ابن اللبانة:
رويدك سوف توسعني سرورا
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء
بها، وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوع
فليس الخسف ملتزم البدور
وقال في محبسه:
قبح الدهر فماذا صنعا
كلما أعطى نفيسا نزعا
قد هوى ظلما بمن عاداته
أن ينادي كل من يهوي: لعا
من إذا قيل الخنى صم، وإن
نطق العافون همسا سمعا
قل لمن يطمع في نائله
قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لا يملك إلا دعوة
جبر الله العفاة الضيعا
وقد أجمل وصف الدنيا بعد أن عرف صروفها، وتقلبت على عينيه خطوبها في هذه الأبيات:
أرى الدنيا الدنية لا تواتي
فأجمل في التصرف والطلاب
ولا يغررك منها حسن برد
له علمان من ذهب الذهاب
فأولها رجاء من سراب
وآخرها رداء من تراب
على أن المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقرطبة وبطل الزلاقة وأسير أغمات، كان يلجأ في مصيبته إلى الرحمن، ويجد في الإيمان به كل سلوان، ويتعزى ويتصبر، ويعلل النفس بالقضاء والقدر، ويتسلى بصروف الدهر وغيره، وخطوبه وعبره ... اقرأ قوله:
اقنع بحظك في دنياك ما كانا
وعز نفسك إن فارقت أوطانا
في الله من كل مفقود مضى، عوض
فأشعر النفس سلوانا وإيمانا
أكلما سنحت ذكرى طربت لها
مجت دموعك في خديك طوفانا
أما سمعت بسلطان شبيهك قد
بزته سود خطوب الدهر سلطانا
وطن على الكره وارقب إثره فرجا
واستغفر الله تغنم منه غفرانا
ويقول:
تؤمل للنفس الشجية راحة
وتأبى الخطوب السود إلا تماديا
لياليك في زاهيك أصفى صحبتها
كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا
نعيم وبؤس، ذا لذلك ناسخ
وبعدهما نسخ الليالي الأمانيا (1) عيشة المعتمد في أغمات
مر بنا ما مر من أحوال المعتمد في شقائه وبؤسه، وما لقي من غير الأيام في نكبته ومحنته، وحسب القارئ ما مر به، ولكن لعل قارئا يسأل كيف كانت عيشة المعتمد؟ لا ريب أنها كانت عيشة ضنكا، ولكن ما كان مبلغها من الضيق والحرمان؟
مر بنا أن المعتمد سأل حواء بنت تاشفين خباء فاعتذرت إليه أن ليس عندها خباء، ومر بنا أن بناته غزلن للقوت، وأن ابنا له عمل في حانوت صائغ ومر به ابن اللبانة فأنشأ قصيدته الباكية التي أثبت آنفا.
ويقول ابن الأثير في حوادث سنة 484:
وفعل أمير المسلمين بهم أفعالا لم يسلكها أحد ممن كان قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده؛ إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة؛ وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كان بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقنها على أنفسهن، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته، فأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة.
كل هذه الأخبار تدل على بؤس المعتمد وضيق عيشته، ولكنا نجد في الأخبار كذلك أنه أعطى الحصري الشاعر حين قصده في طنجة وهو في طريقه إلى المنفى، وأنه أرسل إلى ابن اللبانة حين أزمع السفر من أغمات هدية ذات قيمة فاعتذر ابن اللبانة وردها، ونقرأ كذلك أن ابن حمديس الشاعر زاره فحجبه الخادم وأنشأ المعتمد أبياتا يعتذر فيها لابن حمديس ويذكر غباوة خدمه وجهلهم بعد أن كان خدمه ما كانوا وهو في ملكه ودولته.
والجمع بين هذه الأخبار المختلفة أن الرجل عاش في شقاء وبؤس وضيق، لا ريب في هذا، ولا يبعد أن بعض أقاربه أو أصهاره أو أنصاره الذين سلموا من النكبة أمدوه بما يقيم أوده، ويحفظ كرامته؛ وقد قصده الشعراء ووفوا له في شدته وكربته فليس بعيدا أن يكون غيرهم قصده أو أرسل إليه ما يخفف عنه شدة الأسر، وقسوة الفاقة، فصلحت حاله أحيانا، ولا أقول: إن المعتمد ادخر بعض جواهره ونفائسه فأنفق منها، فلو كان عنده بقية من الأعلاق ما غزلت بناته للناس ولا نفخ ابنه في كير صائغ. (2) أخلاق المعتمد
أسلفنا قول المراكشي:
وكان فيه من الفضائل الذاتية ما لا يكاد يحصى؛ كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة، وفي الجملة فلا أعلم خصلة تحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم.
وإذا عدت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت فالمعتمد هذا إحداها؛ بل أكبرها.
وإن يكن في هذا القول غلو فهو دليل على مكانة المعتمد عند المؤرخين في عصره والعصور التالية، ويتبين من الفصول السابقة كثير من أخلاق المعتمد بن عباد، فالقارئ يرى سيرته في نعيمه وبؤسه، تبين عن أخلاق كريمة وشمائل شريفة.
وفي هذا الفصل جمع ما تفرق في الفصول الأخرى، وإجمال ما فصل فيها من شمائل الرجل ومناقبه: (1)
لا ريب أن المعتمد كان أميرا جوادا يرتاح إلى الجود، ويلذ العطاء، ويتوسل إلى مواساة أصحابه وقصاده وسائل شتى، ويفتن في الإحسان إليهم كما يقول أبو الطيب في أبي شجاع فاتك:
لطفت رأيك في بري وتكرمتي
إن الكريم على العلياء يحتال
ولهذا قصده الشعراء والكتاب من كل صوب.
ولم تفارقه الأريحة للعطاء، والسماح بالمال في أيام بؤسه وفقره، وهو أحوج إلى ما في يده، فقد أعطى الحصري الشاعر حين لقيه في طنجة وهو أسير يسار به إلى معتقله، وأرسل إلى شاعره الوفي أبي بكر الواني هبة حين زاره في أغمات فردها الشاعر.
فقد صدق المعتمد حين قال عن نفسه:
وقد حننت إلى ما اعتدت من كرم
حنين أرض إلى مستأخر المطر
وقد تناهت يدي عن كأسها غضب
ومجت الأذن أيضا نغمة الوتر
حتى أملك هذي ما تجود به
وأسمع الحمد بالأخرى على الأثر
فهاتها خلعا أرضي السماح بها
محفوفة في أكف الشرب بالبدر (2)
وكان المعتمد على الله شجاعا مقداما، يخوض المعارك ويقدم على الأهوال، أبيا يؤثر الموت على الهوان.
وحسبنا بلاؤه في موقعة الزلاقة، وبسالته في الدفاع عن إشبيلية، وخروجه حاسرا حين فجأه العدو في بلده، وهي الحال التي وصفها في الأبيات:
إن تستلب مني الدنيا
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
وقد تقدمت الأبيات. (3)
وكان حسن المعاشرة ، لين العريكة، يكرم أصحابه، ويتواضع لهم.
وقد تقدمت سيرته مع أصحابه في مخاطبتهم مخاطبة الأصدقاء لا الرعية، ومداعبتهم، والتلطف معهم.
وحسبنا قصائده في ابن زيدون، وقد أمر المعتضد أن يرفع مجلس المعتمد على مجلس ابن زيدون فكتب المعتمد:
أيها المنحط عني مجلسا
وله في النفس أعلى مجلس
بفؤادي لك حب يقتضي
أن ترى تحمل فوق الأرؤس
وهكذا تجده فيما كتب لشعرائه وأصدقائه وقصاده.
وسيأتي اعتذاره لابن حمديس حينما زاره في أغمات فقال له الخادم: إن المعتمد ليس في الدار. وما كان بينه وبين ابن اللبانة من شعر هناك، وإن يقل: هذه حاله في أسره وبؤسه أقل بل هذا كان ديدنه وهو في سلطانه ودولته. فما كذب المعتمد حين قال لابن عمار:
متى تلقني تلق الذي قد بلوته
صفوحا عن الجاني رءوفا على الصحب
سأوليك مني ما عهدت من الرضا
وأصفح عما كان، إن كان، من ذنب
فما أشعر الرحمن قلبي قسوة
ولا صار نسيان الأذمة من شعبي
وأما قتله ابن عمار فهو خلاف ما عهد أصحاب المعتمد منه، ورجوه عنده، وله سبب ذكرته فيما تقدم في الكلام عن ابن عمار، ولا يقتل المعتمد صاحبه بعد غلوه في محبته ومودته إلا لأمر أخرج المعتمد عن طبعه، وحمله على قتل صديقه بيده. (4)
وكان وفيا لأصحابه، وحسبنا ما قدمنا في حديث ابن زيدون، وقد صدق المعتمد في قوله جوابا لمن أغروه بالفتك به:
أنى رجوتم غدر من جربتم
منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذاكم لا البغي يثمر غرسه
عندي ولا مبنى الصنيعة يثلم (5)
وكان المعتمد صبورا، نزل به من الكوارث ما تحدث به الناس قرونا وما زالوا يتحدثون به ويرثون لمن نزلت به هذه المصائب، ونجد المعتمد على ما أصابه وأصاب بنيه وبناته ذا طبع شاعر ينظم الشعر في طريقه إلى المنفى، يذكر شعراء طنجة الذين ألحفوا في سؤاله، ويعاتب الحصري على أنه لم يجب عن شعره، ويجيب ابن حمديس وابن اللبانة عما ينظمان له من أبيات، ويرثي بنيه، ويصف بناته في الأسر والذل، ويذكر عض القيود بساقيه، ويودع السجناء من أهل فاس حين أطلقوا من السجن، وهلم جرا.
ولا ينظم الشعر في هذه الأحوال ، إلا صابر على بلواه، جلد فيما دهاه، يقول أبو الطيب:
ولكن حمى الشعر إلا القليل
هم حمى النوم إلا غرارا
ويقول المعري:
ولكن القريض له مغان
وأولاها به الفكر الخلي
وإن قيل: إن الحزن والجزع أنطقاه بالشعر، فبعض هذا الشعر ينطق به الحزن والجزع ولكن بعضه كمحاورة الشعراء لا يدل على حزن وجزع بل على تعز وتجلد. (6)
وكان ابن عباد يتعرف أحوال رعيته، ويلاطفهم ويمازحهم.
اقرأ هاتين القصتين كما رواهما نفح الطيب:
مر المعتمد يوما مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كبير كثير التندير والفكاهة يمزج ذلك بإغراق يضحك الثكلى، فقال لابن عمار: تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه. فضربا عليه الباب.
فقال: من هذا؟ فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تصلح له الفتيلة. فقال: لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحت له. فقال: فإني ابن عباد. فقال: مصفوع ألف صفعة.
فضحك ابن عباد حتى سقط على الأرض وقال لوزيره: امض بنا قبل أن يتعدى الصفع من القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك.
ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال لموصلها: قل له: هذه من الألف صفعة التي كانت البارحة.
والقصة الثانية:
كان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب، وكان له في السرقة كل غريبة، وكان مسلطا على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب؛ لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال؛ إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن: لمن تتركنا؟! نضيع بعدك. وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسياب، فصاح عليه: يا سيدي، انظر في أية حالة أنا، ولي عندك حاجة فيها فائدة لي ولك. قال: وما هي؟ قال: انظر إلى تلك البئر، لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار، فعسى تحتال في إخراجها، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك، خلال ما تخرجها، فعمد البدوي إلى حبل ودلى نفسه في البئر، بعد ما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها.
فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل وبقي حائرا يصيح، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها وفرت به ...
ورفعت هذه القصة إلى ابن عباد فتعجب منها وأمر بإحضار البازي الأشهب وقال له: كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة؟ فقال له: يا سيدي، لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها! فلعنه وضحك منه ثم قال له:
إن سرحتك وأحسنت إليك، وأجريت عليك رزقا يقلك؛ أتتوب من هذه الصنعة الذميمة؟
فقال: يا مولاي، وكيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل؟
فعاهده وقدمه على رجال أنجاد، وصار من جملة حراس أحواز المدينة.
هاتان قصتان لهما دلالتهما على صلة الرجل برعيته، ومعرفة أحوالهم، وتفكهه معهم.
المعتمد في إساره والأوفياء من الشعراء وغيرهم
1
أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة
وفاء ابن اللبانة للمعتمد بن عباد، مثل كريم من الوفاء للصديق في نكبته ومواساته في مصيبته.
اتصل الشاعر ببني عباد ومدحهم منذ أيام المعتضد أبي المعتمد، وحمد صحبتهم، وشكر نعمتهم، وكتب في تاريخهم كتاب «الاعتماد في أخبار بني عباد» وكتب بعد ما حلت بهم الفاجعة: «نظم السلوك في مواعظ الملوك»؛ يبين العبرة والموعظة فيما أصاب هؤلاء الأمراء الأدباء الكرماء.
وأنقل هنا كلمات للفتح بن خاقان في كتابه «قلائد العقيان» فيها إجمال حال الشاعر مع المعتمد بن عباد في دولته ومحنته:
كان المعتمد على الله يميزه بالتقريب، ويستعذب ما يأتي به من النادر الغريب، ويوليه إنعاما وإحسانا، ويريه الزمان كله آذارا ونيسانا،
1
فلما نبت صعاده، وأعوزه من دهره إسعاده، ورحل به إلى المغرب، وحل فيه محل النازح المغترب، وغدرته الأيام غدر أهل خراسان بقتيبة، وفى له أبو بكر بالرحلة إليه وفاء الظعينة لعتيبة، وتراسلا هناك بأشعار شفى بها المعتمد نفسه، واستوفى سلوه وأنسه، وشكر له ما ناله من مسلاته، وحمد عقد موالاته، وصار له بذلك حق مشهور، وفخر لا تبليه الدهور.
ولست في حاجة إلى الإطناب في وفاء هذا الرجل الكريم فهذه نبذ من أنبائه، تدل على عظيم وفائه:
شهد هول الواقعة في إشبيلية ورأى رأي العين المعتمد وآله يؤسرون، وأنشأ قصيدته التي قدمت:
تبكي السماء بمزن رائح غادي
على البهاليل من أبناء عباد
يقول الشاعر: «ورحل بالمعتمد وآله بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنفذه الله منه،
2
فذكرت به شعرا كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك في الشهر بعينه من العام الماضي، وهو الأمير عبد الله بن الصفار، وهو:
لم أقل في الثقاف كان ثقافا
كنت قلبا به وكان شغافا
وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر الصباح.»
فهذا شاعر وفي يذهب في إثر صاحبه من إشبيلية في الأندلس إلى أغمات في المغرب، وهو لا يرجو خيرا ولا يأمل مغنما، بل يحتمل المشقة ويركب الخطر؛ حفاظا على الذمام، ووفاء بالعهد، ومواساة للصديق.
ويقول ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدر، وأزمعت السفر، صرف حيله واستنفد ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده - وهذا من بنيه أحسن الناس سمتا، وأكثرهم صمتا، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في اقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زهر الرياحين - بعشرين مثقالا مرابطية وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتا منها:
إليك النزر من كف الأسير
وإن تقنع تكن عين الشكور
تقبل ما يذوب له حياء
وإن عذرته حالات الفقير
فامتنعت من ذلك عليه وأجبته بأبيات منها:
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا
إذا أصبحت أجحف بالأسير
جذيمة أنت، والزباء خانت
وما أنا من يقصر عن قصير
تصرف في الندى حيل المعالي
فتسمح من قليل بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلام
وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سرورا
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسوف تحلني رتب المعالي
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروان عطاء
بها، وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوع
فليس الخسف ملتزم البدور
وأتبعتها أبياتا منها:
حاش لله أن أجيح كريما
يتشكى فقرا وكم سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلا
كيف ألفى درا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
اختصر ابن اللبانة الأبيات التي أرسلها المعتمد مع الهدية والأبيات التي أجاب هو بها، كما أغفل أبيات المعتمد التي أرسلها إليه حينما رد الهدية معتذرا، وكذلك اختصر الأبيات التي أجاب بها هو عن أبيات المعتمد.
فرأيت أن أثبت الأبيات التي اختصرها الشاعر والتي أغفلها، على ما في هذا من إطالة؛ حرصا على تعريف القارئ بما نظمه المعتمد في أيام أسره وما راسل بها الشاعر الوفي ابن اللبانة خاصة.
أثبت ابن اللبانة بيتين للمعتمد أولهما:
إليك النزر من كف الأسير ... ... ... ...
وبعدها هذه الأبيات:
ولا تعجب لخطب غض منه
أليس الخسف ملتزم البدور؟
ورج لجبره عقبى نداه
فكم جبرت يداه من كسير
وكم أعلت علاه من حضيض
وكم حطت ظباه من أمير
وكم من منبر حنت إليه
أعالي مرتقاه، ومن سرير
زمان تزاحفت عن جانبيه
جياد الخيل بالموت المبير
فقد نظرت إليه عيون نحس
مضت منه بمعدوم النظير
نحوس كن في عقبى سعود
كذاك تدور أقدار القدير
وكم أحظى رضاه من حظي
وكم شهرت علاه من شهير
زمان تنافست في الحظ منه
ملوك قد تجور على الدهور
بحيث يطير بالأبطال ذعر
ويلفى ثم أثبت من ثبير
فأجاب ابن اللبانة بهذه الأبيات:
سقطت من الوفاء على خبير
فذرني والذي لك في ضميري
تركت هواك وهو شقيق ديني
لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا
لئن أصبحت أجحف بالأسير
أسير ولا أصير إلى اغتنام
معاذ الله من سوء المصير
إذا ما الشكر كان، وإن تناهى،
على نعمى، فما فضل الشكور؟
جذيمة أنت والزباء خانت
وما أنا من يقصر من قصير
أنا أدرى بفضلك منك إني
لبست الظل منه في الحرور
غني النفس أنت وإن ألحت
على كفيك حالات الفقير
تصرف في الندى حيل المعالي
فتسمح من قليل بالكثير
أحدث منك عن نبع غزير
تفتح عن جنى زهر نضير
وأعجب منك أنك في ظلام ... ... ... ...
إلخ.
تأتي خمسة الأبيات الأخيرة على النسق الذي في رواية ابن اللبانة. •••
وهذه الأبيات التي أنشأها المعتمد حين أبى ابن اللبانة قبول الهدية:
رد بري بغيا علي وبرا
وجفا فاستحق لوما وشكرا
حاط نزري إذ خاف تأكيد ضري
فاستحق الجفاء أن حاط نزرا
فإذا ما طويت في البعض حمدا
عاد لومي في البعض سرا وجهرا
يا أبا بكر الغريب وفاء
لا عدمناك في المغارب ذخرا
أي نفع يجدي احتياط شفيق
مت ضرا فكيف أرهب ضرا
فأجاب ابن اللبانة:
أيها الماجد السميدع عذرا
صرفي البر إنما كان برا
حاش لله أن أجيح كريما
يتشكى فقرا وكم سد فقرا
لا أريد الجفاء فيه عقوقا
غدر الدهر بي لئن رمت غدرا
ليت لي قوة أو آوي لركن
فترى للوفاء مني سرا
أنت علمتني السيادة حتى
ناهضت همتي الكواكب قدرا
ربحت صفقة أزيل برودا
عن أديمي بها وألبس فخرا
3
وكفاني كلامك الرطب نيلا
كيف ألقى درا وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا
واستمع ما يقول الفتح بن خاقان عن الشاعر وأميره حين زاره في محبسه:
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر بن اللبانة، وكان المعتمد رحمه الله يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه على فرسان هذا الشأن، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت ساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعا إلا ممزوجا بدم، بعد ما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف الأقدار بحلول ساحته ، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد
4
أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاحتفاء طريقا لاحبا، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا، فمن ذلك قوله:
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي قد كتمت
سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها، لا بل مذلتها
من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى والبأس أنمله
هندية، وعطاياه هنيدات
رماه من حيث لم تستره سابغة
دهر مصيباته نبل مصيبات
أنكرت إلا التواءات القيود به
وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطت بن همايين
5
عقدن له
وبينها، فإذا الأنواع أشتات
وقلت هن ذؤابات فلم عكست
من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتها من قنا أو من أعنته
إذا بها لثقاف المجد آلات
دروه لينا فخافوا منه عادية
عذرتهم، فلعدو الليث عادات
لو كان يفرج عنه بعض آونة
قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له
كنقطة الدارة، السبع المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهم
أهلة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة
كانت لنا بكر فيها وروحات
أرض كأن على أقطارها سرجا
قد أوقدتهن بالأدهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض ربا
قد ظللتها من الأنشام دوحات
6
إلى أن يقول بعد تعديد مواطن السرور واللهو في ديار بني عباد:
معاهد ليت أني قبل فرقتها
قد مت والتاركوها ليتهم ماتوا
فجعت منها بإخوان ذوي ثقة
والأرض فيها من الإخوان آفات
وسنة ست وثمانين وأربعمائة بعد أسر المعتمد بسنتين، كان الشاعر في أغمات يواسي الأمير، ويندب حظه، وينظم القصائد أوزانها وقوافيها من اللوعات والزفرات، أنشأ هناك قصيدة طويلة منها:
لئن عظمت فيك الرزية إننا
وجدناك منها في البرية أعظما
قناة سعت للطعن حتى تقصفت
وسيف أطال الضرب حتى تثلما
ومنها:
بكى آل عباد ولا كمحمد
وأولاده صوب الغمامة إذ همى
حبيب إلى قلبي حبيب، لقوله: «عسى طلل يدنو بهم ولعلما»
7
صباحهم كنا به نحمد السرى
فلما عدمناهم سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حماهم
فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
ومنها:
حكيت وقد فارقت ملكك مالكا
ومن ولهي أحكي عليك متمما
8
مصاب هوى بالنيرات من العلا
ولم يبق في أرض المكارم معلما
تضيق علي الأرض حتى كأنما
خلقت وإياها سوارا ومعصما
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى
دموعا بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم، فإن أمت
سأجعل للباكين رسمي موسما
بكاك الحيا، والريح شقت جيوبها
عليك، وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى
حدادا وقامت أنجم الجو مأتما
وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى
وغار أخوك البحر فيضا فما طمى
وما حل بدر التم بعدك دارة
ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما
وكانت قيود المعتمد انفكت عنه فأشار إلى هذا في القصيدة:
قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت
قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وإن قسوا
لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفا
ويؤويك من آوى المسيح ابن مريما
هذا الشاعر الوفي يشيد بممدوحه في أسره، ويلوم آسريه وهم أصحاب الدولة والسطوة، ويؤمل له النجاة والعود إلى ملكه، وفي هذا مخاطرة بنفسه، وتعرض لعقاب المرابطين وهو في سلطانهم، والشاعر في هذا كله لا يريد جزاء ولا شكورا، ولكنه الرثاء للصديق، والوفاء لصاحب المعروف.
قال المقري في نفح الطيب:
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطعات وقصائد هي قرة عين الطالب، ونجعة الرائد، وقد اشتمل عليها جزء لطيف صدر عنه في هيئة تصنيف سماه «السلوك في وعظ الملوك»،
9
ووفد على المعتمد بأغمات عدة وفادات لم يخل في جميعها من إفادات، وقال في إحداها: «هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء.»
أقول: تقدم أنه أبى أن ينال شيئا من المعتمد بعد نكبته، فقول المقري أو من نقل عنه: «لم يخل في جميعها من إفادات»، لا أدري ما سنده. •••
وتصور هذا المرأى الفظيع: مر ابن اللبانة في أحد الأسواق؛ فإذا ابن من أبناء المعتمد، كان يلقب في سلطان أبيه بفخر الدولة، اضطره نكد الدنيا وقسوة الزمان، إلى أن يخدم في حانوت صائغ؛ ليحصل قوته، رآه ينفخ في الفحم ليشعل النار، فماذا يقول الصديق الشاعر حين يرى ابن المعتمد - وكم رآه في ظلال النعمة والسؤدد - ينفخ النار في حانوت صائغ؟! أي مرأى يهيج الأحزان، ويملي عبر الزمان ... قال:
شكاتنا لك يا فخر العلا عظمت
والرزء يعظم فيمن قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقة
ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد طوقك في دكان قارعة
من بعد ما كنت في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصواغ أنملة
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغا كانت العليا تصاغ له
حليا وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك العمى
ما حطك الدهر، لما حط، من شرف
ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكبا إن لم تلح قمرا
وقم بها ربوة إن لم تقم علما
واصبر فربتما أحمدت عاقبة
من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت
ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما
أبكى حديثك حتى الدر حين غدا
يحكيك رهطا وألفاظا ومبتسما
وأختم حديث الشاعر الوفي والأمير التعيس، بأبيات نظمها الشاعر يذكر معاهد العز والجذل من ديار بني عباد:
أستودع الله أرضا عندما وضحت
بشائر الصبح فيها بدلت حلكا
كان المؤيد بستانا بساحتها
يجنى النعيم وفي عليائها فلكا
10
في أمره لملوك الدهر معتبر
فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرت قواعده
فكل من كان في بطحائه هلكا
2
وفاء ابن حمديس
ومن الشعراء الذين وفوا للمعتمد في أسره، وواسوه في محنته الشاعر عبد الجبار بن حمديس.
لما أسر المعتمد وأخذ إلى أغمات، أنشأ الشاعر قصيدة تنبض حزنا ولوعة، وتنطق بما كرب الشاعر في هذه النازلة:
أباد حياتي الموت إن كنت ساليا
وأنت مقيم في قيودك عانيا
وإن لم أبار المزن قطرا بأدمع
عليك فلا سقيت منها الغواديا
تعريت من قلبي الذي كان ضاحكا
فما ألبس الأجفان إلا بواكيا
وما فرحي يوم المسرة طائعا
ولا حزني يوم المساءة عاصيا
وهل أنا إلا سائل عنك سامع
أحاديث تبكي بالنجيع المعاليا
إلى أن يقول:
وما كنت أخشى أن يقال محمد
يميل عليه صائب الدهر قاسيا
حسام كفاح بات في السجن مغمدا
وأصبح من حلي الرياسة عاريا
فيا جبلا هد الزمان هضابه
أما كنت بالتمكين في العز راسيا؟
قصرت ولما تقض حاجتك التي
جرى الدهر فيها راجلا لك حافيا
ويقول:
أمر بأبواب القصور وأغتدي
لمن بان عنها في الضمير مناجيا
وأنشد لا ما كنت فيهن منشدا
ألا حي بالدو الرسوم الخواليا
وأدعو بنيها سيدا بعد سيد
ومن بعدهم أضحت رماما بواليا
مضيت حميدا كالغمامة أقشعت
وقد ألبست وشي الربيع المغانيا
سأدمي جفوني بالسهاد عقوبة
إذا وقفت عنك الدموع الجواريا
وأمنع نفسي من حياة هنيئة
لأنك حي تستحق المراثيا
وكتب المعتمد إلى ابن حمديس الأبيات التي أولها:
غريب بأرض المغربين أسير
سيبكي عليه منبر وسرير
وقد أثبتها فيما تقدم.
فأجاب الشاعر:
جرى بك جد بالكرام عثور
وجار زمان كنت فيه تجير
لقد أصبحت بيض الظبى في غمودها
إناثا لترك الضرب، وهي ذكور
تجيء خلافا للأمور أمور
ويعدل دهر في الورى ويجور
أتيأس من يوم يناقض أمسه
وزهر الدراري في البروج تدور
وقد تنبه الأقدار بعد خمولها
وتخرج من تحت الخسوف بدور
لئن كنت مقصورا بدار عمرتها
فقد يقصر الضرغام وهو هصور
أعز الأسارى أن يقال: محمد
غريب بأرض المغربين أسير
إلى أن يقول:
إلى اليوم لم تذعر قطا الليل قرح
يغير بها عند الصباح مغير
ولا راح من نادى المكارم بالغنى
يقلبه في الراحتين فقير
لقد صنت دين الله خير صيانة
كأنك قلب فيه وهو ضمير
ولما رحلتم بالندى في أكفكم
وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد أتت
فهذي الجبال الراسيات تسير
وذهب الشاعر لزيارة المعتمد في أغمات فصرفه بعض خدمه بأنه لا يوجد في ذلك الوقت، فرجع عبد الجبار إلى منزله، فأخبر المعتمد بمجيئه ورجوعه، فعسر ذلك عليه وعنف خدمه، وكتب إليه بالغداة بهذا الشعر يعتذر إليه:
حجبت فلا والله ما ذاك عن أمري
فأصغ فدتك النفس سمعا إلى عذري
فما صار إخلال المكارم لي هوى
ولا دار إخجال لمثلك في صدري
عدمت من الخدام كل مهذب
أشير إليه بالخفي من الأمر
ولم يبق إلا كل أدكن ألكن
فلا آذن في الأذن يبري
حمار إذا يمشي، ونسر محلق
إذا طار، بعدا للحمار وللنسر
وليس بمحتاج أتانا حمارهم
ولا نسرهم ممن يحن إلى وكر
وهل كنت إلا البارد العذب، إنما
به يشتفي الظمآن من غلة الصدر
ولو كنت ممن يشرب الخمر كنتها
إذا نزعت نفسي إلى لذة الخمر
وأنت ابن حمديس الذي كنت مهديا
لنا السحر إذ لم يأت في زمن السحر
فأجابه ابن حمديس بأبيات منها:
وإني امرؤ في خجلة مستمرة
يذوب لها في الماء جامدة الصخر
11
أتتني قوافيك التي جل قدرها
بما نقطة منهن مغرقة بحري
لعلك إذ أغنيتي منك بالندى
أردت الغنى لي من مديحك بالفخر
لعمرك إني ما توهمت ريبة
تبرقع وجه العرف عندك بالنكر •••
وكنت أمل الجود منك وأنت لا
تمل عطاء منك يأتي على الوفر
فكيف أظن الظن غير مبرأ
تواضع فيها كوكب الجو عن قدر
يخف على خدام ملك حجابتي
كما خف هدب في العيون على شفر
إلى أن يقول:
ليالي لا أشدوك إلا مطوقا
بنعماك في أفنان روضاتك الخضر
وما زال صوب من نداك يبلني
ويثقلني حتى عجزت عن الوكر
بكيت زمانا كان لي بك ضاحكا
وكسر جناحي كان عندك ذا جبر
وأطرقت لما حالت الحال حيرة
تحير منها عالم النفس في صدري
فخذها كما أدري، وإن كل خاطري
وإن لم يكن منها البديع الذي تدري
3
المعتمد وابن زهر في أغمات
يقول المراكشي في كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»:
وكان الوزير أبو العلاء بن زهر بن عبد الملك بن زهر بمراكش، قد استدعاه أمير المسلمين لعلاجه، فكتب إليه المعتمد راغبا في علاج السيدة ومطالعة أحوالها بنفسه.
فكتب إليه الوزير مؤديا حقه، ومجيبا له عن رسالته، ومسعفا له في طلبته، واتفق أن دعا له في أثناء الرسالة بطول البقاء، فقال المعتمد في ذلك:
دعا لي بالبقاء وكيف يهوى
أسير أن يطول به البقاء
أليس الموت أروح من حياة
يطول على الشقي بها الشقاء
فمن يك من هواه لقاء حب
فإن هواي من حتفي اللقاء
أأرغب أن أعيش أرى بناتي
عواري قد أضر بها الحفاء
خوادم بنت من كان قد أعلى
مراتبه - إذا أبدو - النداء
وطرد الناس بين يدي ممري
وكفهم إذا غص الفناء
وركض عن يمين أو شمال
لنظم الجيش إن رفع اللواء
يعنيه أمام أو وراء
إذا اختل الأمام أو الوراء
12
ولكن الدعاء إذا دعاه
ضمير خالص نفع الدعاء
جزيت أبا العلا جزاء بر
نوى برا، وصاحبك العلاء
سيسلي النفس عما فات علمي
بأن الكل يدركه الفناء
أولاد المعتمد وأمهم
يقول الفتح بن خاقان في قلائد العقيان بعد ذكر المعتمد وشجاعته وجوده وأدبه واجتماع الأنجاد والشعراء والأدباء بساحته:
وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا، ولتلك الجملة عينا، إن ركبوا خلت الأرض فلكا يحمل نجوما، وإن وهبوا رأيت الغمام سجوما، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي.
ويقول ابن اللبانة:
1
وكان له من بنيه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك الملك، فكانوا معاقل بلاده، وحماة طارفه وتلاده.
وقبل أن أثبت ما جمعته من شتات الأخبار في سيرة أولاد المعتمد أذكر طرفا من أخبار أمهم، التي اقترن سعدها بسعد المعتمد، ونحسها بنحسه وقبرها بقبره، ولها في الأدب أخبار سائرة وأشعار.
قال في نفح الطيب:
ومن المشهورات بالأندلس اعتماد جارية المعتمد بن عباد وأم أولاده وتشهر بالرميكية.
2
ثم يقص صاحب النفح من طرائفها عبارات تدل على ولوعها بالنادرة وكلفها بالجناس حتى في أيام المحنة: قال: «ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له: يا سيدي لقد هنا هنا. فقال مجنسا أيضا :
قالت: لقد هنا هنا
مولاي أين جاهنا
قلت لها: إلهنا
صيرنا إلى هنا
وحكى أنها قالت له وقد مرض: يا سيدي، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك.
ولما قال ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرميكية أغرت المعتمد به حتى قتله وضربه بالطبرزين ففلق رأسه وترك الطبرزين في رأسه.
فقالت الرميكية: صار ابن عمار هدهدا.
وقد قدمت خبر هذه القصيدة في ترجمة ابن عمار.
ثم ينقل صاحب النفح عن ابن سعيد قوله:
كان المعتمد كثيرا ما يأنس بها ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادرة، كثيرة الفكاهة لها في كل ذلك نوادر محكية.
وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن، وهي أبدع منها ملحا، وأحسن افتنانا وأجل منصبا، وكان أبوها أمير قرطبة ويلقب بالمستكفي بالله، وأخبار أبي الوليد بن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة.
هذا ما نقله المقري عن ابن سعيد.
ويقول صاحب النفح:
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة التي قال فيها المعتمد لها: ولا يوم الطين.
وخلاصة ما ذكره المقري وغيره في هذه القصة، أن الرميكية أطلت من قصرها فرأت القرويات في يوم مطير، يمشين في الوحل في طرق إشبيلية، وعلى رءوسهن الجرار، فاشتهت أن تتشبه بهن، فأمر المعتمد فسحقت أنواع من الطيب في ساحة القصر ثم صب عليها ماء الورد من غرابيل، وعجنت بالأيدي حتى صارت كالطين، فمشت الرميكية وجواريها في هذا الوحل.
وقد غاضبت المعتمد يوما فأقسمت أنها لم تر منه خيرا قط! فقال: ولا يوم الطين؟! فاستحت واعتذرت. •••
أسرت الرميكية مع زوجها، وقضت أيام المحنة في صحبته، ودفنت في جواره، وتناقل المغاربة أخبار المعتمد وأخبارها عصورا بعد وفاتهما، وكانت أخبارهما شائعة في المغرب حتى عصر المقري مؤلف نفح الطيب المتوفى سنة 1041ه. (1) أولاد المعتمد
في كتب التاريخ الأندلسي والأدب، أخبار شتى من أخبار أولاد المعتمد، وكانوا كأبيهم أنجادا أجوادا شعراء.
يقول الشاعر أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة يمدح المعتمد وبنيه:
يغيثك في محل، يعينك في ردى
يروعك في درع، يروقك في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة
كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد
بمهجته شاد العلا ثم زادها
بناء بأبناء جحاجحة لد
بأربعة مثل الطباع تركبوا
لتعديل جسم المجد والشرف العد
هؤلاء الأربعة هم الرشيد عبد الله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن كما روى ابن خلكان، وأحسب أن هؤلاء كانوا الكبار من بني المعتمد، وللمعتمد أولاد آخرون نجد أسماءهم في كتب التاريخ والأدب، نجد الظافر والمعتد ومالكا وعبد الجبار وأبا هاشم وبثينة وشرف الدولة وفخر الدولة.
أبدأ بالحديث عن هؤلاء الأربعة الذين عدهم ابن اللبانة، ثم أثبت نتفا من أخبار الآخرين.
وأبدأ من الأربعة بالراضي؛ إذ ترجم له الفتح بن خاقان بعد ترجمة أبيه، ولم يترجم لإخوته؛ فدل على أنه بلغ درجة الشعراء الذين يترجم لهم الفتح. (1-1) الراضي بالله أبو خالد يزيد بن المعتمد
يقول الفتح بن خاقان:
ملك تفرع من دوحة سناء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتحدر من سلالة أكابر، ورقاة أسرة ومنابر، وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف، وإفاضة عوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، لا يستريح منه إلا إلى فرس سائل الغرة، ميمون الأسرة، يسابق به الرياح، ويحاسن بغرته البدر اللياح، عرنين في السناء، عتيق الاقتناء، سريع الوخد والإرقال، من ولد أعوج أو ولد لذي العقال.
إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء وضم إليها رندة الغراء.
فانتقل من متن الجواد إلى ذروة الأعواد، وأقلع عن الدراسة، إلى تدبير السياسة، وما زال يدبرها بجوده ونهاه، ويورد الآمل فيها مناه، حتى غدت عراقا، وامتلأت إشراقا، إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق، وخاب فيها الرجاء وأخفق، واستحالت بهجتها، وأحالت عليها من الحوادث لجتها، فانتقل إلى رندة معقل أشب، ومنزل إلى السماك منتسب، وأقام فيها رهين حصار، ومهين حماة وأنصار، ولقيت ريحه كل إعصار، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها، وأمكنت منه يدى مسيها، فحواه رمسه، وطواه عن غده أمسه، حسبما بسطنا القول فيما مر من أخبار أبيه. ا.ه.
كان الراضي والي الجزيرة الخضراء حين عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس، ومما يؤثر من أخباره: أنه قبض على ابن عمار في شقورة سنة 477 كما تقدم في أخبار هذا الشاعر.
كان الراضي كلفا بمطالعة الكتب والدواوين، مولعا بالشعر، ومما يؤثر من شعره، ما كتب إلى أبيه حين عتب إليه قعوده عن لقاء العدو، وعكوفه على دفاتره، وكان العدو قصد لورقة والراضي في رندة؛ فأمره المعتمد بالخروج إليه فتلكأ، فوجه المعتمد ابنه المعتد للقاء العدو فهزم جيش المعتد، واشتد غضب المعتمد على الراضي؛ فكتب الراضي إليه:
لا يكرثنك خطب الحادث الجاري
فما عليك بذاك الخطب من عار
ماذا على ضيغم أمضى عزيمته
إن خانه حد أنياب وأظفار
لئن أتوك فمن جبن ومن خور
قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
عليك للناس أن تبقى لنصرتهم
وما عليك لهم إسعاد أقدار
لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم
بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري
ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم
لم يتحفوك بشيء غير أعمار
فلم يرض أبوه عنه، ولا غفر له زلته، ثم كتب إليه ساخرا به:
الملك في طي الدفاتر
فتخل عن قود العساكر
طف بالسرير مسلما
وارجع لتوديع المنابر
وازحف إلى جيش المعا
رف تقهر الحبر المغامر
واطعن بأطراف اليراع نصرت
في ثغر المحابر
واضرب بسكين الدواة
مكان ماضي الحد باتر
أولست رسطاليس إن
ذكر الفلاسفة الأكابر
وأبو حنيفة ساقط
في الرأي حين تكون حاضر
وكذاك إن ذكر الخليل
فأنت نحوي وشاعر
من هرمس من سيبويه
من ابن فورك إذ تناظر
هذي المكارم قد حويت
فكن لمن حاباك شاكر
فاقعد فإنك طاعم
كاس، وقل هل من مفاخر
لحجبت وجه رضاي عنك
وكنت قد تلقاه سافر
أولست تذكر وقت لورقة
وقلبك ثم طائر
لا يستقر مكانه
وأبوك كالضرغام خادر
هلا اقتديت بفعله
وأطعته إذ كان آمر
قد كان أبصر بالعواقب
والموارد والمصادر
فكتب إليه الراضي:
مولاي قد أصبحت كافر
بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكين الدواة
وظلت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك ما
بين الأسنة والبواتر
والمجد والعلياء في
ضرب العساكر بالعساكر
لا ضرب أقوال بأق
وال ضعيفات مناكر
قد كنت أحسب من سفاه
أنها أصل المفاخر
فإذا بها فرع لها
والجهل للإنسان عاذر
لا يدرك الشرف الفتى
إلا بعسال وباتر
وهجرت من سميتهم
وجحدت أنهم أكابر
لو كنت تهوى ميتتي
لوجدتني للعيش هاجر
ضحك الموالي بالعبيد،
إذا تؤمل، غير ضائر
إن كان لي فضل فمنك
وهل لذاك النور ساتر
أو كان بي نقص فمني
غير أن الفضل غامر
ذكرت عبدك ساعة
يبقى لها ما عاش ذاكر
يا ليته قد غيبته
عندها إحدى المقابر
أتريد مني أن أكو
ن كمن غدا في الدهر غادر
هيهات ذلك مطمع
يعيي الأوائل والأواخر
لا تنس - يا مولاي - قو
لة ضارع لا قول فاخر
ضبط الجزيرة حينما
نزلت بعقوتها العساكر
أيام ظلت بها فري
دا ليس غير الله ناصر
إذ كان يعشي ناظري
لمع الأسنة والبواتر
ويصم أسماعي بها
قرع الحجارة بالحوافر
وهي الحضيض سهولة
لكن ثبت بها مخاطر
هبني أسأت كما أسأ
ت، أما لهذا العتب آخر
هب زلتي لبنوتي
واغفر فإن الله غافر
يقول الفتح:
فقربه وأدناه وصفح عما كان جناه.
ويؤخذ من سيرة الراضي أن أباه كان يلومه بين الحين والحين فيعتذر ويستعتب، وأنه كان يعتب على أبيه لتقديم إخوته عليه، ويظهر أن سيرة الراضي في العكوف على الكتب والاشتغال بها عن أمور الدولة أحيانا، كانت منشأ خلاف بينه وبين أبيه.
يقول الفتح في ترجمة الراضي في قلائد العقيان:
وكان المعتمد رحمه الله كثيرا ما يرميه بملامه، ويصميه بسهامه، فربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المزون، وأملح من روض الحزون، فإنه كان ينظم من بديع القول لآلئ وعقودا، تسل من النفوس سخائم وحقودا ... فمن ذلك قوله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعدهم:
أعيذك أن يكون بنا خمول
ويطلع غيرنا وبنا أفول
حنانك، إن يكن جرمي قبيحا
فإن الصفح عن جرمي جميل
ألست بفرعك الزاكي وماذا
يرجي الفرع خانته الأصول
ومن شعر الراضي وقد مر به ركب فيه جماعة من ألافه في صباه بعدوا عنه زمنا:
مروا بنا أصلا من غير ميعاد
فأوقدوا نار قلبي أي إيقاد
وأذكروني أياما لهوت بهم
فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي
لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم
فرؤية الماء تذكي غلة الصادي
وكان الراضي على الجزيرة؛ إذ طلب المرابطون أن يحتلوها حين عبورهم إلى الأندلس فطير إلى أبيه الخبر فأمره بتسليمها.
وقد انتهى أمر الراضي إلى أن قتله المرابطون في القوارع التي نزلت بساحة بني عباد حين دهمهم من المرابطين ما دهمهم.
كان الراضي في رندة - إحدى معاقل الأندلس المنيعة وقواعدها السامية الرفيعة - فقصده جيش من جيوش المرابطين لم يطمع في حربه وهو في البلد الحصين والمعقل الأشب، فلما كان في إشبيلية ما كان أمر المعتمد أن يكتب إلى ابنه الراضي ليسالم المرابطين، وينزل إليهم من معقله، فنزل إليهم إشفاقا على أبيه وذويه «بعد أن عاقدهم مستوثقا وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا، فلما وصل إليهم، وحصل في يديهم، مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى.»
وكانوا قتلوا أخاه المأمون في قرطبة، وللمعتمد مرثية فيهما. أثبتها بعد في الحديث عن المأمون. (1-2) الرشيد عبد الله بن المعتمد
قال صاحب نفح الطيب:
وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجباء، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا، وكذلك إخوته.
3
ومما مر به من غريب الحوادث، أن أبا بكر بن عمار الشاعر الذي وزر للمعتمد بن عباد، وكان له شأن في دولته حينا. اضطر في إحدى مغامراته أن يرهن الرشيد بن المعتمد عند أمير برشلونة المسيحي الملقب رأس الأسطب على أن يعينه هذا الأمير على أخذ مرسية من يد ابن طاهر، إلى أن يؤدي إليه المعتمد مالا اتفقا عليه.
4
وهو، كأبيه وأمه وإخوته، أديب شاعر، له أخبار قليلة متفرقة في نفح الطيب والمغرب والذخيرة.
منها أن أباه أنشأ مصراعا في قبته المسماة سعد السعود فوق المجلس المسمى الزاهي:
سعد السعود يتيه فوق الزاهي
واستجاز الحاضرين فعجزوا فقال الرشيد:
وكلاهما في حسنه متناهي
ومتى اغتدى سكنا لمثل محمد
قد جل في العليا عن الأشباه
لا زال يبلغ فيهما ما شاءه
ودهت عداه من الخطوب دواهي
5
وفي أخبار المعتمد أنه أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب فصيغا، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال فأهدى الغزال إلى السيدة ابنة مجاهد والهلال إلى ابنه الرشيد وقال:
بعثنا بالغزال إلى الغزال
وللشمس المنيرة بالهلال
إلى آخر القصة.
6
وحكى صاحب النفح عن ابن اللبانة:
كنت بين يدي الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483ه فتفجع وتلهف واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة فدعونا لعزه بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى:
إن شئت ألا ترى صبرا لمصطبر
فانظر على أي حال أصبح الطلل
فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء فغنت:
يا لهف نفسي على مال أفرقه
على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
ما لست أملك من إحدى المصيبات
قال: فتلافيت الحال بأن قلت:
محل مكرمة لا هد مبناه
وشمل مأثرة لا شتت الله
البيت كالبيت، لكن زاد ذا شرفا
أن الرشيد مع المعتد ركناه
ثاو على أنجم الجوزاء مقعده
وراحل في سبيل السعد مسراه
حتم لملكك أن يقوى وقد وصلت
بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأس توقد فاحمرت لواحظه
ونائل شب فاخضرت عذاراه
فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي: البيت كالبيت.
وأمر إثر ذلك أبا بكر فغنى:
ولما قضينا من منى كل حاجة
ولم يبق إلا أن تزم الركائب
فأيقنا أن هذا التطير، يعقبه التغير.
7
وقد قدمت في أخبار الشاعر ابن اللبانة قوله في موشحته:
سطا وجاد
رشيد بني عباد
فأنسى الناس
رشيد بني العباس
ونقل صاحب النفح عن الذخيرة لابن بسام:
أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر بن الإشبيلي، قال: حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر بن عمار، فلما دارت الكأس وتمكن الأنس وغنيت أصواتا ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب فارتجل يخاطب الرشيد:
ما ضر أن قيل إسحاق وموصله
8
ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق
9
أنت الرشيد فدع من قد سمعت به
وإن تشابه أخلاق وأعراق
لله درك داركها مشعشة
واحضر بساقيك ما دامت بنا ساق
وقد تقدمت في سيرة المعتمد أبيات الرشيد التي أولها:
يا حليف الندى ورب السماح
وحبيب النفوس والأرواح (1-3) المأمون بن المعتمد
اسمه عباد ويكنى أبا الفتح وأبا نصر أيضا.
يقول المراكشي: هو أكبر أولاده، ولد له في حياة أبيه المعتضد وسماه عبادا.
ولاه أبوه قرطبة حينما استولى عليها ثانية سنة 471ه ولقبه المأمون وبقي أميرا عليها إلى أن دهيت الدولة العبادية بغارات الملثمين سنة 384ه فقاتل المأمون حتى قتل في صفر من هذه السنة.
وقد استكتب أيام إمارته بعض كتاب الأندلس، منهم أبو الوليد المصيصي الشاعر،
10
ويقول الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:
ولما بدت الفتنة وسال سيلها، وانسحب على بهجة الهدنة ذيلها، نازل المرابطون قرطبة وفيها ابنه المأمون، وكان أشهر ملوك زمانه خيرا، وأيمنهم طيرا، ما اشتغل بمعاطاة المدامة، ولا توغل للعصيان شعب ندامة، فأقاموا عليها شهورا، وأرخوا من محاصرتها والتضييق عليها ستورا، يساورونها مساورة الأراقم، ويباكرونها بداء من الحصار فاقم، والمأمون قد أوجس في نفسه خيفة، وتوقع منهم داهية مطيفة، فنقل ماله وأهله إلى المدور بعد أن حصنه، وملأه بالعدد وشحنه، وأقام بقصر قرطبة مضطربا، ولأول نبأة مرتقبا، إلى أن صبحوه يوما لعدة كانت بينهم وبين أهلها في تسنم أسوارها، وتقحم أنجادها وأغوارها ... «إلى أن يقول: فلما أحس بهم المأمون خرج بعدد قليل وحد فليل ... فقطع رأسه وحيز، وخيض به النهر وأجيز، ولما استقر بالمحلة رفع على سن رمح وطيف به في جوانبها، وأخيف به قلب مجانبها.»
وللمعتمد في رثاء المأمون هذا وأخيه الراضي الذي ذكرناه قبلا قصيدة باكية من أبلغ شعر الأحزان الذي أنشأه المعتمد في نكبته.
قال الفتح بن خاقان في القلائد:
وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما، وقد رأى قمرية بائحة بشجنها نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغما ويغردان ترحة وترنما:
بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر
مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
وناحت فباحت واستراحت بسرها
وما نطقت حرفا يباح به سر
فما لي لا أبكي؟ أم القلب صخرة؟
وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر؟
بكت واحدا لم يشجها غير فقده
وأبكي لألاف عديدهم كثر
بني صغير، أو حبيب موافق
يمزق ذا قفر، ويغرق ذا بحر
ونجمان زين للزمان احتواهما
بقرطبة النكداء أو رندة القبر
غدرت إذن، إن ضن جفني بقطرة
وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر
11
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي
لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر
وللأمير المرزأ في رثاء المأمون والراضي أبيات أخرى أشار فيها إلى ابنه أبي عمرو، وهو الظافر الذي يأتي ذكره، وقد تقدم أن الظافر قتل في دولة المعتمد، فشغل عن رثائه بطلب ثأره، وأما المأمون والراضي فقتلهما المرابطون؛ الأول في قرطبة ثم الثاني في رندة، وقد أخذوا قرطبة قبل إشبيلية ورندة بعدها.
وهذه الأبيات:
يقولون صبر، لا سبيل إلى الصبر
سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
ترى زهرها في مأتم كل ليلة
يخمشن لهفا وسطه صفحة البدر
ينحن على نجمين أثكلن ذا وذا
ويا صبر ما للقلب في الصبر من عذر
مدى الدهر فليبك الغمام مصابه
بصنويه يعذر في البكاء مدى الدهر
بعين سحاب واكف قطر دمعها
على كل قبر حل فيه أخو القطر
وبرق ذكي النار حتى كأنما
يسعر مما في فؤادي من الجمر
هوى الكوكبان الفتح ثم شقيقه
يزيد فهل بعد الكواكب من صبر
12
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة
كما بيزيد الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني ولم أمت
وأدعى وفيا؟ قد نكصت إلى الغدر
توليتما والسن بعد صغيرة
ولم تلبث الأيام أن صغرت قدري
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى
إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
بعيد على سمعي الحديد نشيده
ثقيلا فتبكي العين بالجس والنقر
معي الأخوات الهالكات عليكما
وأمكما الثكلى المضرمة الصدر
فتبكي بدمع ليس للقطر مثله
ويزجرها التقوى فتصغي إلى الزجر
أبا خالد أورثتني البث خالدا
أبا النصر مذ ودعت ودعني نصري
13
وقلبكما ما أودع القلب حسرة
تجدد طول الدهر ثكل أبي عمرو
14
وللمعتمد في رثائهما قصيدة أخرى في الديوان أولها:
يا غيم عيني أقوى منك تهتانا
أبكي لحزني وما حملت أحزانا
ونار برقك تخبو إثر وقدتها
ونار قلبي تبقى الدهر بركانا
نار وماء صميم القلب أصلهما
متى حوى القلب نيرانا وطوفانا (1-4) الظافر بن المعتمد
في كتاب المغرب ترجمة أبي الوليد محمد بن جهور:
وجاء المأمون بن ذي النون محاصرا لقرطبة من طليطلة، فاستغاثا (ابنا أبي الوليد) بالمعتمد بن عباد، فوجه لهم ابنه الظافر بعسكر، فأقلع المأمون عنهم، فغدرهم الظافر وأخذ قرطبة منهم، وحملهم إلى شلطيش فسجنوا هناك، وأقام الظافر ملكا على قرطبة إلى أن دخل عليه بالليل حريز بن عكاشة فقتله، وصارت قرطبة للمأمون بن ذي النون.
وكان عكاشة هذا من أنصار ابن ذي النون، وكان استيلاء المعتمد على قرطبة المرة الأولى سنة 461ه، ثم استولى عليها مرة أخرى سنة 471ه وولى عليها ابنه الراضي كما تقدم.
وإليك أسجاعا سجع بها الفتح في قلائد العقيان في تولي الظافر قرطبة وقتله:
ولما انتظمت في سلكه (انتظمت قرطبة في سلك المعتمد) واتسمت بملكه أعطى ابنه الظافر زمامها، وولاه نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمده وقداه، وجملها بكثرة حبائه، واشتغل بأعبائها عن فنائه،
15
ولم يزل فيها آمرا وناهيا، غافلا عن المكر ساهيا، حسن ظن بأهلها اعتقده، واغترارا بهم ما رواه ولا انتقده، وهيهات كم من ملك كفنوه بدمائه، ودفنوه بذمائه، وكم من عرش ثلوه، وعزيز أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلا، وجر إليها حربا وويلا، فبرز الظافر منفردا من كماته، عاريا عن حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنه كان غلاما كما بلله الشباب بأندائه ، وألحفه الحسن بردائه، فدافعهم أكثر ليله، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنهم منه عثرة لم يقل لها: لعا، ولا استقل منها ولا سعى.
إلى أن يقول:
ولما كان من الغد حز رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم، ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلما رمقته الأبصار وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسووا للفرار أجنحتهم، فمنهم من اختار فراره وجلاه، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه.
ويقول الفتح: إن المعتمد شغل عن رثاء ابنه الظافر بطلب ثأره، إلا إشارة إليه في تأبين أخويه الراضي والمأمون، وتقدمت هذه المرثية. (1-5) عبد الجبار بن المعتمد
وللمعتمد ابن اسمه عبد الجبار ثار على المرابطين وتمنى أن يعيد سلطان بني عباد، فحالت المنية دون الأمنية.
امتنع عبد الجبار في حصن أركش، وهو حصن منيع قريب من إشبيلية، فسار إليه قائد المرابطين سير بن أبي بكر، فرابطت جيوشه عند الحصن شهورا حتى أصاب عبد الجبار سهم أصماه، وبقي أهله وأنصاره ممتنعين بمعقلهم حتى أجهدهم الجوع فنزلوا على حكم المرابطين، يقول الفتح بن خاقان:
فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في غصة الممات، فوسمهم الحيف، وتقسمهم السيف.
وقدمت في أخبار المعتمد أن ثورة ابنه هذا أرابت المرابطين فيه فضيقوا عليه وأرهقوه بالأغلال والقيود، وبينت وقع هذه الثورة على المعتمد ألما وأملا.
يقول الفتح:
ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وفي أثناءها، وأحل ساحة الخطوب وفناءها، وحين أركبوه أساودا وأورثوه حزنا بات له معاودا، قال:
غنتك أغماتية الألحان
ثقلت على الأرواح والأبدان
وقد أثبت الأبيات في الكلام على محنة المعتمد.
وفي «المغرب» في الكلام على أركش:
من معاقل الأندلس المنيعة المستورة، وقد ثار فيها ولد المعتمد بن عباد فأذاق إشبيلية شرا حتى قتل بسهم.
ولا أدري ما الشر الذي ذاقته إشبيلية من ثورة ابن المعتمد بعد انقضاء دولة بني عباد، واعتقال ملكها في أغمات؟! لعل ثورة عبد الجبار أرابت المرابطين بأهل إشبيلية فضيقوا عليهم، كما فعلوا بالمعتمد نفسه حين ثار ابنه. (1-6) المعتد بن المعتمد
يأتي ذكر المعتد في نتف متفرقة، ذكر في أبيات نظمها أبو بكر الإشبيلي في مجلس الرشيد بن المعتمد ، وقد أثبتها في الكلام على الرشيد.
وهذا البيت الذي ذكر فيه المعتد:
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفا
أن الرشيد مع المعتد ركناه
وذكر كذلك في أخبار أخيه الراضي أمير رندة، حينما أمره أبوه بالخروج إلى عدو فتلكأ، فوجه المعتمد جيشا يقوده ابنه المعتد.
وفي كتاب المقري في الكلام على مدينة شلب:
قد تقدم أن المعتمد بن عباد نشأ فيها وولاه أبوه المعتضد مملكتها، ولما استقل المعتمد بإشبيلية ولى على شلب ابنه المعتد.
وهذا يدل على أنه من كبار أبناء المعتمد؛ إذ كان أهلا لولاية شلب حين تولى أبوه الملك.
وتقدم أن المعتمد حين أحيط به في إشبيلية كتب إلى ابنيه الراضي والمعتد ليستسلما للمرابطين، وكان المعتد في حصن مارتلة، فلم يسعه هو وأخوه إلا النزول على حكم أبويهما؛ إشفاقا عليهما وعلى أهليهما.
والمراكشي الذي ذكر كتابة المعتمد إلى ابنه المعتد أن يستسلم للمرابطين، يقول: إن المرابطين أخذوا كل ماله ولم يذكر أنهم قتلوه كما قتلوا أخاه الراضي. (1-7) أبو هاشم
قدمت أن المعتمد تذكر وقد اشتد البأس وحمي الوطيس يوم الزلاقة طفلا له اسمه أبو هاشم فأنشد بيتين:
أبا هاشم هشمتني الشفار
فلله صبري لذاك الأورار
ذكرت شخيصك تحت العجاج
فلم يثنني ذكره للفرار
وقدمت كذلك أن ابنه أبا هاشم دخل عليه وقد ثقلت القيود برجليه فأنشأ أبيات من الحسرات والزفرات:
قيدي أما تعلمني مسلما
أبيت أن تشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم
قد أكلته لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني والقلب قد تهشما
ارحم طفيلا طائشا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما ... إلى آخر الأبيات. (1-8) شرف الدولة وفخر الدولة
ذكرهما ابن اللبانة الشاعر في أحاديثه عن بؤس المعتمد وشقائه، حدث أنه زار المعتمد في أغمات، فلما أزمع الرحيل أرسل إليه المعتمد هدية مع ولده شرف الدولة ، وقال ابن اللبانة:
وهذا من بنيه أحسن الناس سمتا، وأكثرهم صمتا، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في اقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زهر الرياحين.
وفخر الدولة الذي رآه الشاعر في دكان صائغ ينفخ في الفحم فتقطع قلبه كمدا وصعدت نفسه زفرات في الأبيات التي قدمتها في فصل «المعتمد في أغمات»، ومنها:
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
هول رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى (1-9) بثينة بنت المعتمد
قال صاحب نفح الطيب وهو يذكر أديبات الأندلس:
ومنهن بثينة بنت المعتمد بن عباد، وأمها الرميكية السابقة.
وكانت بثينة هذه نحوا من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت في جملة من سبي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لا يعلمان ما آل أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس والمغرب.
وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية سرية ووهبها لابنه، فنظر من شأنها وهيئت له، فلما أراد الدخول بها امتنعت وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد نكاح إن رضي أبي بذلك. وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها وانتظار جوابه، فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته:
اسمع كلامي واستمع لمقالتي
فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني
بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره
وكذا الزمان يؤول للإفساد
لما أراد الله فرقة شملنا
وأذاقنا طعم الأسى من زاد
قام النفاق على أبي في ملكه
فدنا الفراق ولم يكن بمراد
فخرجت هاربة فحازني امرؤ
لم يأت في أفعاله بسداد
إذ باعني بيع العبيد فضمني
من صانني إلا من الأنكاد
وأرادني لنكاح نجل طاهر
حسن الخلائق من بني الأنجاد
ومضى إليك يسوم رأيك في الرضا
ولأنت تنظر في طريق رشادي
فعساك يا أبتي تعرفني به
إن كان ممن يرتجى لوداد
وعسى رميكية الملوك بفضلها
تدعو لنا بالخير والإسعاد
فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات واقع في شراك الكروب والأزمات، سر هو وأمها بحياتها، ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها ؛ إذ علما مآل أمرها وجبر كسرها، إذ ذاك أخف الضررين، وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب زين، وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور وكتب إليها في أثناء كتابه ما يدل على حسن صبره المشكور:
بنيتي كوني به برة
فقد قضى الدهر بإسعاد (1-10) أولاد آخرون
وقدمنا أن بنات المعتمد دخلن عليه يوم عيد في أغمات وهن في أطمار يكسوهن الشحوب والاكتئاب والذل والحزن، فأنشأ أبياته التي أولها:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
فقد كان له وهو في معتقله بنات كبار يغزلن للناس.
ويقول المعتمد في الأبيات التي أنشأها حين دخل عليه ابنه أبو هاشم وهو مغلول مكبل، يقول لقيده:
ارحم طفيلا طائشا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيات له مثله
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئا فقد
خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئا فما
يفتح إلا لرضاع فما
فهذا يدل على أنه كان له أيام المحنة أطفال ترعرعوا، وأطفال لا يزالون رضعا.
وفاة المعتمد على الله وقبره
قال الفتح بن خاقان في قلائد العقيان:
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات.
وعطلت المآثر من حلالها
وأفرزت المفاخر من علاها
ورفعت مكارم الأخلاق وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره.
وبعد أيام وافاه أبو بكر بن عبد الصمد شاعره المتصل به المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى وظهر كل متوار وضحى قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه وخر على تربه ولثمه:
ملك الملوك أسامع فأنادي
أم قد عدتك عن السماع عواد
لما خلت منك القصور ولم تكن
فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعا
وجعلت قبرك موضع الإنشاد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمعي
نيران حزن أضرمت بفؤادي
فإذا بدمعي كله أجريته
زادت علي حرارة الأكباد
فالعين في التسكاب والتهتان
والأحشاء في الإحراق والإيقاد
يأيها القمر المنير أهكذا
يمحى ضياء النير الوقاد
أفقدت عيني مذ فقدت إنارة
لحجابها في ظلمة وسواد
ما كان ظني قبل قبرك أن أرى
قبرا يضم شوامخ الأطواد
الهضبة الشماء تحت ضريحه
والبحر ذو التيار والإزباد
عهدي بملكي وهو طلق ضاحك
متهلل الصفحات للقصاد
والمال ذو شمل بداد والندى
يهمي وشمل الملك غير بداد
أيام تخفق فوقك الرايات فو
ق كتائب الرؤساء والأجناد
والأمر أمرك والزمان مبشر
بممالك قد أذعنت وبلاد
والخيل تمرح والفوارس تنحني
بين الصوارم والقنا المياد
وهي قصيدة أطال إنشادها وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وأحفلوا وبكوا لبكائه وأعولوا وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج.
ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شئونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حيا، ولا تألو كل نشر طيا، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيد بوهي، ومن قبله طوت النعمان بن الشقيقة، ولوت مجازها في تلك الحقيقة.» •••
وقال مؤلف نفح الطيب:
قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي على جنازته: «الصلاة على الغريب» بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة صقالبه وحبشانه وعظم أمره وشأنه، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة ... إلخ.
وخاتمة هذه الحوادث الدامية وتلك القصة الباكية أبيات أوصى المعتمد أن تكتب على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي
حقا ظفرت بأشلاء ابن عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت
بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا
بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم
بالبدر في ظلم بالصدر في النادي
نعم هو الحق حاباني به قدر
من السماء فوافاني لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه
أن الجبال تهادى فوق أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم
رواك كل قطوب البرق رعاد
يبكي أخا الذي غيبت وابله
تحت الصفيح بدمع رائح غادي
حتى يجودك دمع الطل منهمرا
من أعين الزهر لم تبخل بإسعاد
ولا تزال صلاة الله دائمة
على دفينك لا تحصى بتعداد
قصة المعتمد مأساة لا تحتاج إلى افتنان ناثر، وقصيدة حزينة لا تفتقر إلى مبالغة شاعر.
ولا ريب أنها سارت في أهل عصره وسرت إلى العصور من بعده، وبقي قبره مزار الأدباء ومقصد العلماء.
ويقول المقري بعد ذكر أخبار المعتمد:
وقد جمح بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح، وما ذلك إلا لما علمنا أن نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح، وقد جعل الله تعالى له كما قال أمين الأبار في «الحلة السيراء» رقة في القلوب وخصوصا بالمغرب، فإن أخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم، وإن فيها لأعظم عبرة، رحم الله الجميع.
1
فهذا لسان الدين بن الخطيب وزير الأندلس وعالمها وأديبها الذي ألف المقري كتابه الواسع لتاريخ الأندلس ولسيرته فسماه «نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب»، وناهيك بهذا نباهة شأن وعظم مكانة.
لسان الدين هذا يزور قبر المعتمد بعد 273 سنة من وفاته وينشد عنده شعرا.
قال لسان الدين بن الخطيب:
2
وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة 761ه، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض وقد حفت به سدرة وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، فأنشدت في الحال:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات
رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا
ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه
إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضب يميزه
فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حيا وميتا واشتهرت علا
فأنت سلطان أحياء وأموات
ما رئي مثلك في ماض، ومعتقدي
ألا يرى الدهر في حال وفي آت
ويتبع صاحب نفح الطيب هذا الخبر بقوله:
وقد زرت أنا قبر المعتمد بمدينة أغمات سنة 1010ه، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لا يبيد ملكه، لا إله إلا هو.
فهذا عالم مؤرخ يزور قبر المعتمد بعد وفاته بأكثر من خمسة قرون، وأحسب أن زيارة قبر المعتمد سارت سنة الأدباء والعلماء منذ مات في القرن الخامس الهجري إلى عصر المقري القرن الحادي عشر، ولعلها استمرت من بعد عصورا أخرى.
صفحه نامشخص