معجز احمد
اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
ژانرها
بلاغت
وقد كان سيف الدولة استبطأ مدحه، وعاتبه مدةً، ثم لقيه في الميدان، فأنكر أبو الطيب تقصيره فيما كان عوده من الإقبال إليه والتسلم عليه، فعاد إلى منزله وكتب بهذه الأبيات إليه لوقته: يعتذر عن إبطاء مدحه ويعاتبه ويشيد بمدائحه فيه.
أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السّلام اختصارا
الازورار: الإعراض.
يقول: قربي منك صار بعدًا وإعراضًا، وطول سلامي صار اختصارا وتقصيرا.
تركتني اليوم في خجلةٍ ... أموت مرارًا، وأحيا مرارًا
يقول: لما عرضت عني فيما بين الناس تركتني خجلا أموت جزعًا؛ لإعراضك عني، وأحيا طورًا رجاء كرمك وعفوك.
أسارقك اللّحظ مستحييًا ... وأزجر في الخيل مهري سرارا
يقول: كنت أنظر إليك سرقة وخجلا وحياءً، وإذا زجرت مهري أخفيت صوتي لئلا تسمع صوتي حياءً منك وإخفاء لشخصي، أو كنت أسر زجره مخافةً أن يرى حالي من يحبني من الفرسان، فيعرف سقوط منزلتي عندك، استدلالًا بما بي من الاغتمام، أو كنت أخفي صوتي لما لحقني من الغم، إذ المغموم لا يكاد يرتفع صوته.
وأعلم أنّي إذا ما اعتذرت ... إليك أراد اعتذاري اعتذارا
يقول: لو أردت أن أعتذر إليك، كان عندي أيضا ذنبًا ثانيًا يجب الاعتذار منه إذ الاعتذار من غير ذنب كذب، والكذب مما يعتذر منه والغرض ادعا براءة الساحة.
وقيل: معناه إني إذا اعتذرت إليك، مع علمي بسعة عفوك الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار، كنت قد أذنبت في اعتذاري ذنبًا آخر، لأن ذلك يوهم خلاف ما أنت عليه من عادة الصفح وسعة العفو.
وقيل: معناه إن اعتذاري متى اعتذرت يكون كذبا فيلزمني الاعتذار عنه، لأنك جفوتني، فألجأتني إلى التقصير في خدمتك، فمتى كنت كاذبًا في الاعتذار، يلزمني الاعتذار منه أيضا.
كفرت مكارمك الباهرا ... ت إن كان ذلك منّي اختيارا
يقول مقسمًا: إن كان تأخير مدحك عن اختيار مني كذلك، فجحدت مكارمك الظاهرات، ولكن كان اعتذاري على ما بينته.
ولكن حمى الشّعر إلاّ القلي ... ل همٌّ حمى النّوم إلا غرارا
الغرار: النوم القليل.
يقول: منعني من قول الشعر هم منع نومي إلا القليل منه.
وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا
الهاء في به للهم.
يقول: هذا الهم الذي أسقم جسمي بألمه، لم يكن عن قصد مني، وكذلك إضرام نار الهم في قلبي، لم يكن من فعلي، فإذا لم يكن هذا الهم عن قصدي، فلا ذنب لي فيه، أستوجب به عتبك، ولكن الذنب للزمان.
فلا تلزمنّي ذنوب الزّمان ... إليّ أساء وإيّاي ضارا
ضار يضير، وضره يضره بمعنىً.
يقول: لا تعتب علي في تأخير مدحك، فليس لي فيه ذنب، وإنما الذنب للزمان الذي قصدني بهمومه، وشغل قلبي عن الشعر، فلا تلزمني ذنوبة، واعلم أن الزمان إنما قصدني بالإساءة، وألحق الضر بي دونك، لأن مدحي إياك يزيد في شرفي ومنزلتي عندك، وتأخره جر على عتبك وإعراضك عني، فالضرر في تأخيره راجع إلي، والإساءة واقعة بي لا بك.
وعندي لك الشّرّد السّائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
يقول: سأمدحك من بعد، بقصائد سائرات، لا تستقر في مكان، بل تعم الشرق والغرب، والسهل والجبل.
فإنّي إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا
المقول: اللسان. يعني إذا قلت قصيدة سارت في البر والبحر. وقوله: وثبن الجبال: عداه بنفسه على معنى: جزن الجبال ومثله لعلي بن الجهم في وصف شعره:
فسار مسير الشّمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّ هبوب الرّيح في البرّ والبحر
ولي فيك ما لم يقل قائلٌ ... وما لم يسر قمرٌ حيث سارا
يقول: قد مدحتك قبل هذه بقصائد التي لم يقل أحد مثلها، وقصر القمر عن شأوها، فوصلت إلى الآفاق واشتهرت في العالم.
فلو خلق النّاس من دهرهم ... لكانوا الظّلام وكنت النّهارا
يقول: لو كان الناس خلقوا من الدهر لكانوا الليل، وكنت النهارا: يعني إن لك فضلا عليهم، كفضل النور على الظلام.
أشدّهم في النّدى هزّةً ... وأبعدهم في عدوٍّ مغارا
يقول: أنت أشد الناس اهتزازًا في الجود، وأبعدهم غارة في العدو، وهزة، ومغارا نصب على التمييز.
سما بك همّي فوق الهموم ... فلست أعدّ يسارًا يسارا
1 / 296