الجزء الأول
العراقيات الأولى
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الجعفي ﵀ وهو أول شعر قاله في صباه
أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن
يقال بلى الثوب يبلى بلى وبلاء. وأبلاه غيره إبلاء. والأسف: شدة الحزن. يقال: أسف يأسف أسفًا فهو آسف وأسيف، ومعنى إبلاء الهوى البدن: إذهاب لحمة وقوته، بما يورد عليه من شدائد. وخص يوم النوى، لأن برح الهوى إنما يشتد عند الفراق، والهوى عذب مع الوصال سم مع الفراق كما قال السرى الرفاء:
وأرى الصبابة أريةً ما لم يشب ... يومًا حلاوتها الفراق بصابه
وانتصب أسفًا على المصدر، ودل على فعله ما تقدمه من قوله: أبلى الهوى لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه، فكأنه قال: أسفت أسفًا، ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء "، ويوم النوى: ظرف للإبلاء، ومعموله. ويجوز أن يكون معموله المصدر الذي هو أسفًا.
والمعنى يقول: أدى الهوى بدني إلى الأسف، والهزال، يوم الفراق، وبعد الهجر من الحبيب؛ بين جفني والنوم. أي: لم أجد بعده نومًا ولا راحة.
روحٌ تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
يقول: روح تردد: أي تجيء وتذهب، في بدنٍ مثل الخلال في النحول والدقة والهزال، بحيث إذا طيرت الريح عنه الثوب لم يظهر ذلك البدن لدقته. أي: إنما يرى لما عليه من الثوب، فإذا ذهب الثوب فهو لا يرى. ومثل الخلال صفة للموصوف المحذوف، تقديره: في بدنٍ مثل الخلال.
وأقرأني أبو الفضل العروضي: في مثل الخيال؛ وقال: أقرأني أبو بكر الشعراني خادم المتنبي: في مثل الخيال وقال: ولم أسمع الخلال، وما دونه من البيت يدل على صحة هذا، وإن الوأواء الدمشقي سمع هذا البيت فأخذه وقال:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت على النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
كفى بجسمي نحولًا أنني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
يقول: كفاني نحولًا كوني رجلًا، لو لم أتكلم لم يقع علي البصر، أي إنما يستدل علي بصوتي، كما قال أبو بكر الصنوبري:
ذبت حتى ما يستدل على أني حي ... ي إلا ببعض الكلام
وأصل هذا المعنى قول الأول:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
والباء في بجسمي زائدة، تزاد مع الكفاية عنها؛ في الفاعل كثيرًا كقوله تعالى: " وكفى بالله شهيدًا " " وكفى بك على هؤلاء شهيدًا " " وكفى بربك هاديًا ونصيرًا " وتزاد مع المفعول أيضًا كقول بعض الأنصار
وكفى بنا فضلًا على من غيرنا ... حب النبي محمدٍ إيانا
معناه كفانا فضلًا، فزاد الباء وقد قال أبو الطيب
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
فزاد في المفعول في قوله: بجسمي لما ذكرنا وانتصب نحولًا، على التميير، لأن المعنى كفى جسمي من النحول.
وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي:
أهلًا بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها
الأغيد: الناعم البدن، وجمعه غيدٌ وأراد هاهنا، جارية، وذكر اللفظ، لأنه عنى الشخص، والخرد جمع الخريدة وهي: البكر التي لم تمس. ويقال أيضًا: خرد بالتخفيف، وفي قوله: أبعد أوجهٌ ورواياتٌ، والذي عليه أكثر الناس الاستفهام، وفيه ضربان من الفساد: أحدهما في اللفظ والثاني في المعنى، والذي في اللفظ من الفساد هو: أن تمام الكلام يتعلق بالبيت الذي بعده، وذلك عيب عند الرواة يسمونه المضمن والمبتور، ومثله:
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
والضرب الثاني من الفساد؛ في المعنى، وهو أنه إذا قال: أبعد فراقهم تهتم وتحزن؟ كان محالًا من الكلام، والرواية الصحيحة: أبعد ما بان بضم الدال.
يقول: أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار. وروى قوم، أبعد ما بان بفتح الدال، على أنه حال من الأغيد والعامل في الحال سباك أي: سباك أغيدها أبعد ما بان عنك، وخردها بدل من الأغيد وهذا من العجب، أي أن السابي يسبي وهو بعيد.
1 / 1
ومعناه أنه أسرك بحبه، وهو على البعد منك، وانتصب أهلًا بفعل مضمر تقديره: جعل الله تعالى أهلًا بتلك الدار؛ لتكون مأهولة؛ أي ذات أهلٍ؛ وإنما تكون مأهولة إذا سقيت الغيث فأنبتت الكلأ، فيعود إليها أهلها، وهو في الحقيقة دعاء لها بالسقيا.
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
يريد ظللت، فحذف أحد اللامين تخفيفًا كقوله تعالى: " فظلتم تفكهون ".
يقول: ظللت، بتلك الدار تنثني على كبدك واضعًا يدك فوق خلبها، والمحزون يفعل ذلك كثيرًا لما يجد في قلبه من حرارة الوجد يخاف على كبده أن ينشق، وهذا كما قال غيره:
عشية أثنى البرد ثم ألوثه ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وقال آخر:
لما رأوهم لم يحسوا مدركًا ... وضعوا أناملهم على الأكباد
والانطواء كالانثناء، والنضج لليد، ولكن جرى نعتًا للكبد في الإعراب لإضافة اليد إليها كقوله تعالى: " من هذه القرية الظلم أهلها " فإن الظلم للأهل، وجرى صفة للقرية.
والمعنى: التي ظلم أهلها، وهذا كما تقول مررت بامرأة كريمةٍ جاريتها، تصفها بكرم الجارية، وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة، ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار: العذرة، وللمطمئن من الأرض: الغائط. وإذا جاز تسميته باسم ما يصحبه كانت الإضافة أهون ولطول وضع يده على الكبد أضافها إليه، كأنها للكبد لما لم تر إلا عليها، والخلب: غشاء للكبد رقيق لاصق بها، وارتفع يدها بنضيجة، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل كما تقول: مررت بامرأةٍ كريمةٍ جاريتها، ويجوز أن تكون النضيجة من صفة الكبد، فيتم الكلام ثم ذكر وضع اليد على الكبد، والأول أولى.
يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتًا قبيل أفقدها
روى: عيرها وعيسها وهي أحسنها لأن العير: هي التي تحمل النساء، والعيس: هي الإبل البيض التي تعلو بياضها شقرة: والهاء في عيرها للمحبوبة وأحسبني: أي أظنني، والفقد: العدم، وقوله: أفقدها، الأصل فيه النصب؛ لأنه أراد: قبيل أن أفقدها، إلا أنه حذف أن ورد الكلام إلى أصله وهو الرفع؛ لأن العامل فيه غير مظهر.
يخاطب حاديي العير التي كانت محبوبته في جملة ركبهما، ويسألهما أن يقفا عليه بالإبل ليستمتع بالنظر إليها، لما ذكره في قوله: قفا، ثم قال: وأحسبني. أي وإن التمست من الحاديين وقوفهما بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر، فإني أظن أني أوجد ميتًا قبل أن تغيب هذه المرأة، فلا يكون في النظر إليها طائل، وإنما صغر فقال: قبيل لينبه على أن موته إنما يحصل حال الفراق وقبله بوقت يسير، وهو الوقت الذي يتحقق الفراق فيه، وإن ما قبلهما هي حالة الوصال ولا يليق به الموت، وقوله يا حاديي أراد به السائق والقائد، والحادي: اسم السائق، لكنه سماهما باسم واحد للجمع بينهما تغليبًا لأحدهما على الآخر، وفي ذلك إخبار عن عظم حال هذه المرأة الجليلة وأن لها قائدًا يأخذ بزمام المطية، وسائقًا يسوقها، ويحتمل أن يكون حاديين على الحقيقة.
قفا قليلًا بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها
قليلًا: منصوب؛ لأنه صفة لظرف محذوف. أراد: زمانًا قليلًا، أو لأنه صفة لمصدر الفعل الذي هو قفا أراد: وقوفًا قليلًا. وقوله: فلا أقل ويروى بالنصب وهو الوجه؛ لأن لا يبنى الاسم بعده على الفتح إذا كان نكرة، وأقل نكرة، وقد روى بالرفع على معنى ليس وقوله: قفا يتعلق بقوله: يا حاديي عيرها والهاء في بها يحتمل أن تكون للإبل وأن تكون للمرأة.
يخاطب الحاديين فيقول: قفا بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر إليها، وإن كان ذلك الوقوف قليلًا، ثم قال إن لم آخذ منها الاستمتاع وطول الملازمة واستدامة الملاقاة فلا أقل من نظرة أزودها: أي إني أجعلها زادي. ويروى: أزودها أي بجعل تلك النظرة زادي بعد مفارقتي إياها ومثله للآخر:
ألما على الدار التي لو وجدتها بها ... أهلها ما كان وحشًا مقيلها
وإن لم يكن إلا معرج ساعةٍ ... قليلٌ، فإني نافع لي قليلها
وقال الآخر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له: قليل
ففي فؤاد المحب نار هوىً ... أحر نار الجحيم أبردها
1 / 2
المحب أراد به نفسه، والكناية في أبردها لنار الهوى، وكأن هذا البيت علة في سؤاله الحاديين الوقوف بالمحبوبة.
يقول: إن في فؤادي نارًا من هواي إياها، والجحيم في جنبها أبردها، يعني أن أبرد نار الهوى مثل أحر نار الجحيم؛ وقصد بذلك تعظيم الهوى، وقد ورد الخبر بأن نار جهنم تزيد على نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كان أبرد هذه النار تزيد على أحر تلك، فلا مبالغة فوقه.
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: موضع الفرق هاهنا، وفرق الرأس: وسطه، واللمة: ما ألم بالمنكب من الشعر، التي هي أفعل من كذا، وهو الأشد سوادًا، وإنما أراد به الاسم أي مسودها، يعني اللمة.
يقول: شاب شعر رأسي من ألم الفراق! لا من الكبر في السن، حتى إن الشعر الأسود صار كالحرير الأبيض. وإنما خص موضع الفرق؛ لأن ذلك في قمدم الرأس، والعرب تزعم أن ابتداء الشيب إذا كان منه كان فيه دلالة الكرم، وإذا كان من جهة القفا كان فيه دلالة اللؤم، وهذا البيت مثل قول الآخر:
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى: " يومًا يجعل الولدان شيبًا ".
بانوا بخرعوبةٍ لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
الضمير في قوله: بانوا لأصحاب العير، أو الحداة، والخزعوبة: الجارية الناعمة الجسم، اللينة العصب، الطويلة.
يقول: بانوا بجارية خرعوبة عظيمة العجز، حتى إنها من كبر كفلها يقرب كفلها عند القيام من أن يقعدها ويلقيها. ومثله لأبي العتاهية قوله:
بدت بين حورٍ قصار الخطا ... تجاهد بالمشي أكفالها
ربحلةٌٍ أسمرٍ مقبلها ... سبحلةٌٍ أبيضٌٍ مجردها
الربحلة: الضخمة الحسنة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة. وقيل: السمينة اللحيمة. ومقبلها: أراد به شفتها، لأنها موضع القبلة في الغالب، ويستحسن فيها السمرة، وقيل: أراد وجهها وسوالفها، لأن ذلك مما يقصد بالقبلة كالشفة، ويكون وصف ذلك بالسمرة تنبيهًا على أنها عربية؛ لأنها الغالبة على العرب، وهي أحب ألوان النساء عندهم، والمجرد: قيل أراد به سائر بدنها، والمستحسن فيه البياض. وقيل: أراد به ما جرت العادة بتجريد في الغالب: كالوجه، والعنق واليد والرجل. فيكون قد وصف جملة البشرة بالبياض، والغرض وصف المرأة بأنواع الحسن، ليعذر في حبه لها وشغفه بها.
ويجوز في سبحلة وربحلة الجر عطفًا على خرعوبة والرفع على أنه خبر ابتداء محذوف فكأنه قال: هي ربحلةٌ وهي سبحلةٌ.
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها؟!
الفئة: الجماعة، وأراد بها العشاق. وقوله: أضلها الله: أغراها بالضلال، ووجدها ضالة، والظاهر أنه متعدى ضل والمعنى: أنها همت بالضلال فأضلها الله، والإرشاد: ضده.
يقول: دعهم عن العذل على العشق، فإن التمادي فيه ليس منهم، حتى ينفع عذلك فيهم، إنما هو من الله تعالى، أضلهم بالعشق عن سبيل السلوة، فكيف ترشدهم إليها؟! أو أوجدهم ضالين عن سبيل الرشاد والسلو.
ليس يحيك الملام في همم ... أقربها منك عنك أبعدها
يحيك بضم الياء أفصح، وجاء: حاك يحيك، والهمم: العقول والعزائم.
يقول: ليس يؤثر الملام في همم، وهي همم العشاق. أقربها في ظنك أيها العاذل من العمل، أبعدها عنك في الحقيقة، وعلى هذا الهمم: هي العزائم ويجوز أن يراد بها العقول.
فيقول: إن العشاق لا عقول لهم، والعذل إنما ينفع لمن له عقل، فلا وجه إلى ملامهم، وروى: ليس يحيك الكلام.
وسئل المتنبي عن قوله: أقربها منك عنك أبعدها فقال: أقربها منك سمعًا وأبعدها عنك طاعةً.
بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقًا إلى من يبيت يرقدها
سهدت بالدال، لأنه لا يستعمل إلا في العشق. والسهر عام. والطرب: الخفة في فرح أو حزن، وأرادها هنا ما يكون من الحزن، ويرقدها: أي يرقد فيها، والهاء ترجع إلى الليالي.
يذم الليالي التي سهر فيها حزنًا على المحبوبة؛ لأنها ليالي المحنة، لمفارقتها من وجهين: أحدهما من حيث الشخص، والثاني أنها لم تقابله في المحبة فتسهر كسهره في تلك الليالي، ولا ساعدته على سبيل المجاملة، وقوله شوقًا: نصب لأنه مفعول له، ويحتمل أن يكون مصدرًا واقعًا موقع الحال.
1 / 3
أحييتها والدموع تنجدني ... شئونها والظلام ينجدها
إحياء الليل: هو السهر، والشئون: مجاري الدموع، والإنجاد: الإمداد والإعانة، والهاء في أحييتها لليالي، وفي شئونها للدموع، وأضافها إليها لأنها مجاريها، والهاء في ينجدها قيل: ترجع إلى الليالي.
ومعناه: أحييت الليالي على حال تنجدني شئون الدموع فيها على ما كنت فيه من طول الليل الذي حصل بالغم والسهر؛ لأن من شأن الدموع أن تخفف على المحزون، وكأن الظلام يعين الليالي ويمدها ظلمةً أكثر من ظلمتها، ويزيدها طولًا إلى طولها، لانفراده به وعدم مشاهدته ما يتشاغل به عما هو فيه من الغم كما قال الشاعر:
بلى إن للعينين في الصبح راحةً ... لطرحهما طرفيهما على كل مطرح
وقيل: إن الهاء في ينجدها للدموع.
ومعناه: أن الدموع كانت تعينني لما فيها من الراحة، والظلام كان يعين الدموع، وكلما ازداد الليل ظلمةً ازداد الغم.
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
أجهدها: من جهدت الناقة إذا أشققت عليها في الحمل والركوب والرهان: المراهنة في مسابقة الخيل. وأراد بالناقة: النعل وأشار إلى أنه أحيا هذه الليالي وهو سائرٌ راجل، وجعله نعله ناقته من قول النبي ﷺ: " المنتعل راكبٌ " ثم بين مخالفته حالها بحال الناقة من وجهين: أحدهما أنها لا تقبل الرديف ولا تسع غير رجله، الثاني أنها لا تجهد بالسوط يوم المراهنة؛ لأنه ليس لها فعل في السباق، ولا سرعة ولا إبطاء، ثم زاد في الدلالة على المخالفة فقال:
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
الكور: الرحل، والمشفر: الشفة، والمقود: الحبل يقاد به الناقة، والزمام: السير المفتول.
شبه نعله بالناقة، وشراكها بالكور؛ لأنه يعلو ظهر الناقة، كالشراك يعلو النعل، وهو السير المعترض على القدم المشدود إلى جانبي النعلن والزمام: هو السير المشدود جانب منه إلى الشراك، وجانب إلى الشسع، والشسع: السير الذي يكون بين الأصبعين، فشبه كل آلة من النعل بشيءٍ من آلات الناقة.
أشد عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها تأيدها
عصف الرياح: شدة هبوبها. والهاء، في يسبقه: يرجع إلى العصف المضاف إلى الرياح، والتأيد: قوة الخطو، من الأيد وهو القوة.
يقول: قوة خطوها تحتي تسبق أشد عصف الرياح لأنها تبقى بعدها، وتفتر الرياح، وعنى بذلك قوة نفسه وسرعة مشيه.
وقيل: أراد بالتأيد: التثاقل والتثبت، كأنه جعل أهون سيره على النعل فوق أشد الهبوب للرياح مبالغة وكأنه قال: تثبت خطوها يسبق أشد الرياح فيصف قوته.
في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها
القردد: الأرض الصلبة. وقيل: ما انخفض من الأرض الناتئة.
يصف طريقه إلى الممدوح، وشبه ما ارتفع منه بظهر المجن، وما انخفض منه ببطن الترس، وبين أن بعض طريقه كان صعودًا وبعضه كان هبوطًا وذلك دلالة على فضل المشقة.
فيقول: تأيد خطوها، يسبق أشد هبوب الرياح، في طريقٍ مثل ظهر المجن ارتفاعًا، متصل بطريق مثل بطن المجن انخفاضًا، والأصل في هذا التشبيه قول الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظهر الترس موحشةٍ ... للجن بالليل في حافاتها زجل
وقيل: إنه شبه ابتداء سفره إليه بظهر المجن، إشارة إلى أنه كان موحشًا، وانتهاءه ببطنه، لما أدى إلى لقاء الممدوح، إشارة إلى أنه كان مؤنسًا؛ لأن ظهر المجن يلي العدو وبطنه يلي نفس من حمله، والأول أقوى. ويجوز في متصلٍ: الرفع على الابتداء أو خبره، والجر على أنه صفة لمثل، أو بدل له.
مرتمياتٌٍ بنا إلى ابن عبي ... د الله غيطانها وفدفدها
روى: في مرتمياتٍ: الرفع على أن يكون خبرًا لغيطانها وفدفدها، وتكون هي مبتدأ، وروى بالكسر فتكون في موضع النصب، على أن تكون حالًا سادةً مسد خبر المبتدأ. والغيطان: جمع الغائط وهو المطمئن من الأرض، والفدفد: ما نشز منها.
يقول: رمت بنا هذه الغيطان والفدفد إلى ابن عبيد الله: الذي هو الممدوح، يذكر مشقته ليكون أقرب إلى الإكرام.
إلى فتىً يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها
1 / 4
إلى: يتصل بقوله: مرتمياتٍ والإيراد: أراد به إورادها وهو الإتيان بالمواشي إلى الماء، والإصدار: صرفها عنه بعد الري. وقوله: أنهلها: من النهل، وهو في اللغة: الشربة الأولى، وروى موردها وهو مصدر ورد، ويجوز أن يكون مكان الورود وهو جسم المطعون، وهو رفع على أنه فاعل أنهلها.
يقول: رمت بنا هذه المفاوز إلى فتىً يسقى رماحه من دم قلب عدوه، ويصدرها عنه وقد رويت من الدم. والهاء في أنهلها للرماح، وخص القلوب لأنها أولى المقاتل.
له أيادٍ إلي سابقةٌ ... أعد منها ولا أعددها
وروى: سابقةٌ وسابغةٌ أي تامة. والأيادي: النعم.
يقول: إن له علينا نعمًا سابقة، لا أقدر أن أحصيها من كثرتها، غير أني أعد من تلك النعم، وأوجد منها، يشير إلى أنه خلصه من يد عدو له، أو أنه جنى عليه بما يستحق القتل، فوهب له نفسه، ومثله:
لا تنتفنى بعدما رشتني ... فإنني بعض أياديكا
وروى أعد منها يعني: أعد بعض هذه النعم، وأما جميعها فلا أقدر أن أحصيها لكثرتها، لأن من للتبعيض.
يعطى فلا مطله يكدرها ... بها ولا منه ينكدها
الهاء في بها وفي يكدرها وفي ينكدها: للأيادي. وتقدير البيت: يعطى فلا مطله به لأن المطل يتعدى بالباء، وينكدها.
يقول: يعطى من دون مطلٍ بما يعطيه، ولا مدافعة ينكد بها، ولا يمن به إذا أعطى، فكأنه قال: له أياد لا يكدرها مطلٌ ولا ينكدها منٌّ فكأنه أخذه من قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ومثله للحكمى:
فما في جوده منٌّ ... ولا في بذله خسرُ
خير قريشٍ أبًا وأمجدها ... أكثرها نائلًا وأجودها
المجد: الشرف، والهاءات: للقبيلة، التي هي قريش؛ وأبًا ونائلًا: منصوب للتمييز، وكان هذا الممدوح علويًا، وليس في قريش خير من بني هاشم خيرٌ من العلوية؛ فلهذا قال: خير قريش أبًا، ففضله في نفسه، ثم في مجده، ثم في سخائه.
وقريش: اسم لمن ولده النضر بن كنانة، وقيل لمن ولده فهر بن مالك؛ والأصح هو الأول.
أطغنها بالقناة أضربها ... بالسيف، جحجاحها مسودها
الجحجاح: السيد الممتلىء كرمًا، والمسود: هو الذي اتفق الناس على سيادته. فقيل: هو المخاطب بالسؤدد، وذلك عن أجداده، وهذا أبلغ في الجلالة، وإنما قيد الطعن بالقناة، والضرب بالسيف؛ إما تأكيدًا كقولك: رأيت بعيني، وإما لأن الطعن قد يكون بغير القناة من اللسان وغيره، كذلك قد يكون بغير السيف، كالخشب ونحوه، وليس في ذلك مدح. فرفع الإشكال بالتقييد، والجحجاح والمسود يعني: السيد المسود.
أفرسها فارسًا وأطولها ... باعًا ومغوارها وسيدها
فارسًا: نصب على الحال.
يقول: إن هذا الممدوح أفرس قريش، في حال كونه راكبًا للفرس، فدل به علىأنه إنما يركب الفرس في بعض الأحوال، إذ ركوبه في جميع الأحوال من عادات الرائضين، وقيل: إنه نصب على التمييز.
والمعنى أنه أفرس من سائر فرسان قريش، كقولك: هو أجود قريش جوادًا، وقيل: إنه أراد به: أفرسها فروسيةً. أي فراسة، ويكون أيضًا نصب على التمييز، وقوله: أطولها باعًا. كناية عن مد يديه بالعطاء، أو يكون كناية عن نيله كل ما يريد بفضل قوته وقدرته، والمغوار: كثير الغارة
تاج لؤي بن غالبٍ وبه ... سما لها فرعها ومحتدها
لؤي بن غالب: اسم جد النبي ﷺ وهو أبو قريش، وأراد به: القبيلة، والمحتد: الأصل الكريم، وأراد بالمحتد هاهنا: السلف، وبالفرع: الخلف منهم.
يقول: إنه تاجهم وغرتهم، وإن علوهم به، خلفًا وسلفًا، لانتسابهم إليه.
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
الضحا: ارتفاع النهار، والتقاصير: جمع التقصار وهي القلادة القصيرة.
1 / 5
بين أن قريشًا يستضيئون بنوره، وجعلوه لأنفسهم كالشمس والهلال، في نهارهم وليلهم، وأضاف الشمس إلى الضحا؛ لأنه اسمٌ لأوائل النهار، وأضاف الهلال إلى الليلة لأنه يسمى هلالًا في أوائل الشهر؛ ليدل على حداثة سن الممدوح، وأن فيه رجاء الزيادة والنماء، وأنه منظور إليه، يرمقه الناس ويصدرون عن أمره ونهيه، ويحكم فيهم بحكمه، وذلك مختص بالهلال، إذ لا ينظر إلى البدر كما ينظر إلى الهلال، ولا يتعلق بالبدر ما يتعلق بالهلال من الأحكام، ثم بين أن قريشًا بمنزلة القلادة زينة، أراد أن الناس يتزينون بهم، إذ هم رؤساؤهم، وأن الممدوح أجل أولئك السادة قدرًا، وأعظمهم خطرًا لأن أجل ما في القلادة الدر والزبرجد، فكأن الناس يتزينون بهم، وهم يتزينون به.
يا ليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له، محمدها
أتيح: أي قدر.
وتقدير البيت: يا ليت بي ضربةٌ أتيح لها محمدها كما أتيحت له؛ كان الممدوح أصابته ضربةٌ في وجهه في غزو الكفار، فتمنى هو أن تلك الضربة كانت به دون الممدوح، تفديةً له بنفسه أو تسلية حيث يسعد بها الممدوح، لأنه كثر بسببها عليه الثناء، وكتب له من أجلها الثواب؛ ولفظ الإتاحة؛ تنبيهًا على أنها كانت اتفاقًا وفجاءةً، لا عن فضل قوة الضارب على الممدوح، فدل بذلك على شجاعة الممدوح؛ أو يكون إتاحة الضرب له من حيث أنه نوه بذكرها وبذكر من سبب إليها، والحديدة التي وقعت بها، فكأنه كسب له الفخر، وكسبت هي له السعادة والثناء وجزيل الثواب.
وقد كان يستقيم المعنى من دون أن يذكر محمدها ويكون تقدير البيت: في ضربة أتيح لها، كما أتيحت له. لأنه صرح بذكره للحاجة إليه، وإن لم يكن في ذلك إحالة المعنى.
أثر فيها وفي الحديد وما ... أثر في وجهه مهندها
المهند: السيف المنسوب إلى الهند، والهاء في فيها، وفي مهندها لضربة، وتأثيره في الضربة على معنيين: أحدهما أن يكون سلاحه قد عطل وأبطل تأثيره بشجاعته فلم تؤثر ضربته فيه تأثير مثلها، فلما كان كذلك صار كأنه لم يكن للضرب، ولا للحديد تأثيرٌ فيه، فيكون غرضه أن الضربة لم تعمل في الممدوح، أو عملت عملًا قليلًا يخالف قصد الضارب، إذ أراد أن تعمل عملًا عظيمًا.
والثاني أن يكون قد جعل الممدوح مؤثرًا في الضربة والحديد، من حيث أن الضربة وقعت على الوجه فزانته، وما شانته، لأنها دلالة الشجاعة؛ فلما كان كذلك فكأن الضربة والحديد لم يؤثرا فيه؛ لأن تأثيرهما في الشين والإيلام، وإذا كان على ما ذكرنا؛ فكأنه لا ألم فيه ولا شين، والأظهر أن يكون تأثيره في الضربة والحديد من أنه نوه بذكر تلك الضربة وشرفها وشرف الحديد وقلله، فكأنه قال: أثر في الضربة بالتشريف وفي السيف بالتفليل، وأثر السيف فيه تأثير مثله من الوجه الذي بيناه وعلى هذا يدل البيت الذي يليه وهو قوله:
فاغتبطت إذ رأت تزينها ... بمثله والجراح تحسدها
الجراح: جمع جراحة، والهاء في تزينها، وتحسدها للضربة، ورأت من رؤية العين وهي استعارة ها هنا.
يقول: إن الضربة فرحت بحصولها في جسمه وحلولها ببعض أجزائه، وسائر الجراح تحسد هذه الضربة لأجل ذلك، وفي هذا تنبيه على أنه كان هناك جراحة، فكأنه يقول: إذ رأت تزين نفسها لأن الهاء فيها للضربة، وقوله: بمثله. فيه زيادة مبالغة؛ لأن تزين الضربة إذا حصل بوقوعه بمثل الممدوح، فلأن يحصل إذا وقع به أولى، وروى بوجهه أي بوجه الممدوح وهو أظهر الروايتين.
وأيقن الناس أن زارعها ... بالمكر في قلبه سيحصدها
الهاء في قلبه للزارع. يقول: إن زارع هذه الضربة في وجهه بالمكر، سيحصدها: أي أن عاقبة أمره تئول إلى أن ينتقم منه ويقتله، وذكر المكر يدل على أن هذا الضرب حصل اغتيالًا ومكرًا لا مبارزة ومقاومة! وقوله: في قلبه: يحتمل أن يكون ظرفًا للمكر، يعني أنها حصلت بالمكر الذي كان في قلبه، دون أن يظهر ذلك له، إذ لو ظهر لعجز عنه، ويحتمل أنه سيحصد هذه الضربة في قلبه، يريد أنه سيقتله؛ لأن القلب مقتل، ويجوز أن تكون الهاء في قلبه للمدوح، كأنه قال: أيقن الناس أن زارع هذه الضربة في قلب الممدوح سيحصدها، فشبهها بالبذر وشبه الجزاء بالحصاد.
أصبح حساده وأنفسم ... يحدرها خوفه ويصعدها
يحدر بالفتح أفصح. يقال: حدرت السفينة أحدرها حدرًا فانحدرت. وأحدرت لغةٌ ضعيفة.
1 / 6
يقول: فزع الحساد منه فزعًا عظيمًا بحيث لا قرار لهم من الخوف، حتى كأن ما بهم من الخوف يحدر أنفسهم مرةً ويصعدها أخرى، وهذا الفزع يجوز أن يكون من حيث أنهم خافوا أن يعظم محله بانتقامه منهم، أو خافوا نفس الانتقام.
تبكي على الأنصل الغمود إذا ... أنذرها أنه يجردها
لعلمها أنها تصير دمًا ... وأنه في الرقاب يغمدها
الهاء في أنذرها، وفي يجردها، للأنصل. وفي علمها للغمود، وفي أنها للأنصل، وكذلك في يغمدها والضمير في أنه للمدوح وقوله: تصير دمًا أي تختضب بالدماء.
يقول: تبكي الغمود على الأنصل إذا أعلمها الممدوح، وخوفها أنه يجردها ويخرجها من غمودها، وإنما تبكي الغمود لأنها تعلم أنها تصير دمًا، وأنه يغمدها في رقاب أعدائه، فيجعل رقابهم أغمادًا لها بعد إغماده إياها في أغمادها، ومثله لحسان قوله:
إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها
أطلقها فالعدو من جزعٍ ... يذمها والصديق يحمدها
الهاء في أطلقها وفيما بعده للأنصل، وإطلاقه لها لقتلهم بها. إطلاق يده بالضرب بها في الأعداء.
يقول: يذم العدو هذه السيوف التي أطلقها الممدوح، لعلمهم أنه يقتلهم بها، والصديق يثني عليها لأنها تكسبه العز لما تجلبه من الظفر للمدوح، وبين أن العدو يذمها جزعًا؛ ليدل على أنها غير مذمومة في الحقيقة، وحقق ذلك بقوله: والصديق يحمدها.
تنقدح النار من مضاربها ... وصب ماء الرقاب يخمدها
قدحت النار فانقدحت، والمضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف الذي يضرب به.
يقول: تقطع هذه السيوف ما تحتها مما تصيبه حتى تصل إلى الأرض وتهوي فيها، ولا يردها إلا حجرٌ يقدحها، ويتبعها الدم من الموضع الذي أصابته فيخمدها.
وقيل: إن انقداح النار: حين قدت اللحم وقطعت العظام فتقدح منها النار من شدة الوقع، ثم انصب عليها الدم فأخمدها.
إذا أضل الهمام مهجته ... يومًا فأطرافهن تنشدها
أي أنها تطلب الهمام: وهو الملك العظيم الهمة، والذي إذا هم بالأمر أمضاه، وقد روى: أطرفهن بفتح الفاء وينشدها بالياء وفتحها، وكذلك بالتاء وفتحها، من نشدت الضالة: أي طلبتها، وروى فأطرافهن بضم الفاء وتنشدها بالتاء وضمها، من أنشدت الضالة: إذا عرفتها.
والمعنى على الأول: أن الهمام إذا اشتد عليه القتال حت أضل مهجته فيه، وهو أن يصادفها مجروحة أو مقتولة، فإنه يطلبها عند أطراف سيوف هذا الممدوح؛ لأن من شأنها إصابة مهج الملوك. ويكون نصب أطرافهن على الظرف، تقديره: أطرافهن تنشدها، أو يكون المراد بإضلالها: أن يذهل عنها فزعًا، فيكون كأنه أضلها، فعند ذلك يطلبها من أطراف سيوفه لاعتيادها لأرواح الملوك، فهي التي تدل كل ملك على مهجته إذا قتلت، أو جرحت فلم يهتد لها، ولم يقدر على ارتجاعها فإن أطراف سيوفه هي التي تدل عليها. وتقول: هي عندنا. إذ هي موكلة بمهج الملوك وسالبةٌ لها، ويحتمل أن يكون المراد به أن أطراف سيوفه تنشد للهمام مهجته عند إضلاله إياها وإشرافه لها على الهلاك، وتنقذها من الضلال فتكون هي الناشدة لها، وقد روى بدل: الهمام الشجاع.
قد أجمعت هذه الخليقة لي ... أنك يا ابن النبي أوحدها
وأنك بالأمس كنت محتلمًا ... شيخ معدٍّ وأنت أمردها
الإجماع: اتفاق الكلمة على الشيء، والخليقة: البرية. والأوحد: الذي لا ثاني له، والهاء فيه للخليقة، وأراد بأنك: أنك وأجراها مع المضمر كالمظهر من قوله:
كأن ثدييه حقان
ومحتلمًا: نصب على الحال، وشيخ معدٍّ: نصب بخبر كان، وروى: وأنت بالأمس مكان وأنك.
يقول: قد اتفقت البرية كلهم يا ابن رسول الله على أنك أوحد هذه البرية؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه علوي، ولا خلاف في شرفهم، واتفقتْ أيضًا أنك كنت بالأمس في حال احتلامك شيخ هذه القبيلة المنتسبة إلى معد بن عدنان ورئيسهم، وأنت حينئذ أمرد، فكيف بك اليوم وقد علا سنك، وقد جربت الأمور، فإذا كنت قد سدتهم في أول أوان البلوغ فالآن أنت بالسيادة أولى.
فكم وكم نعمةٍ مجللةٍ ... ربيتها كان منك مولدها
1 / 7
يجوز في نعمةٍ الفتح على الاستفهام، والجر على الخبر، وهو أجود؛ لأنها أدل على الكثرة، ومجللةٍ: بفتح اللام على معنى مبهمة ومعظمة، أو محكوم لها بالجلال، وبكسرها على معنى أنها تنسب إلى الجلال والتعظيم فهي مجللة.
يقول: وكم من نعمة عظيمة ابتدأت بها، ثم أتبعت مثلها، وجعل ابتداءها: ولادةً. وإدامتها: تربيةً.
وقد روى: ربيتها بضم التاء، والمعنى على هذا: أني شكرتها فاستوجب لها المزيد، فكنت كالمربي لها.
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إلي موعدها
الموعد: وقت الوعد، لإنجاز الحاجة.
يقول: كم حاجةٍ وبغيةٍ جاد الممدوح بها وقضاها لي، وكان موعدها في الإنجاز أقرب من نفسي إلى نفسي، يريد بذلك أنه يبتدىء بالعطاء من غير تقديم وعدٍ؛ لأن قربه على هذا الحد كناية عن فقد الوعد.
أو يريد طريقة الصوفية؛ كأنه فضل نفسه، أي أن وقت حضور موعده أقرب إلي من نفسي إلى نفسي، والأول أولى. وروى: أقرب شيء إلي موعدها وهو أظهر في المعنى والأول أبلغ وأفصح.
ومكرماتٍ مشت على قدم البر ... ر إلى منزلي ترددها
المكرمات: جمع مكرمة، وأراد بها الخلع، والهدايا، والمشي استعارة هاهنا. قد جعل للبر قدمًا يمشي بها.
يقول: كم من مرة رددتها إلى منزلي ماشيةً على قدم برك وإحسانك. وقيل: دل بقوله: على قدم البر على أن الخاطئين كانوا له من جملة الهدايا، وفي خير العطايا، كأنهم كانوا غلمانًا وجواري أهداهم إليه.
وروى: ترددها، وترددها فالأول خبر، والثاني مصدر، والمعنى واحد.
أقر جلدي بها علي فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها
يقول: أقر جلدي بها علي لكثرتها وظهور أثرها على بشرتي ونضارة وجهي بها، وحسن حالي بسببها، فلست أقدر ما عشت أن أجحدها؛ لأني إذا جحدتها شهدت علي؛ وهو مأخوذ من قوله تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ومثله قول الشاعر:
إذا ما جحدنا جوده ظل شاهدًا ... جوارحنا مهما أقمنا على الجحد
ويحتمل أنها كانت من جملة الملبوس؛ فلهذا خص الجلد بذكره ونزل أجحدها منزلة المصدر، وتقديره فلا أقدر على جحودها، ويجوز أن يكون الأصل أن أجحدها غير أنه حذف أن فوقع الفعل بعده كقوله فيما تقدم: قبيل أفقدها.
فعد بها لا عدمتها أبدًا ... خير صلات الكريم أعودها
عد بها: أي أعدها لا عدمتها: دعاء، لإبقاء مكرماته، وهو حسنٌ مليح، وأعودها: أدومها عادة.
يقول: قد عودتني مكرماتك، فأعدها لا عدمتها مدى الدهر، فإن خير الجوائز ما تدام عادتها، وتعاد، وقوله: لا عدمتها أبدًا: وإن كان دعاء للنعم بالبقاء، فهو يتضمن الدعاء للمدوح بدوام القدرة على الإحسان، وقوله: خير صلات الكريم أعودها. مثلٌ له.
وقيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة؟! فقال ارتجالًا:
لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
أراد بالشعرة هاهنا: جملة الشعر الذي كان على رأسه، ولم يرد الشعرة الواحدة. وروى مكانها الوفرة، والضفرين: الضفيرتان. وهما من ضفرت السير أي فتلته.
يقول: لا تحسن هذه الوفرة حتى تنشر يوم القتال؛ لأن من عادة العرب أنهم يكشفون عند الحرب رءوسهم وينشرون شعورهم، وهو يظهر من نفسه حب الحرب؛ تنبيهًا على شجاعته.
على فتى معتقل صعدةً ... يعلها من كل وافي السبال
الاعتقال: أن يضع الفارس رمحه بين ركابه وساقه، ويمسكه بفخذه. والصعدة: القناة المستوية، وقيل: هي ما صغر من الرمح، ويعلها: يسقيها من العلل وهي الشربة الثانية، والهاء في يعلها للصعدة.
يقول: لا تحسن شعرتي هذه حتى تراها منشورة يوم القتال، على فتىً، وهو يعني به نفسه. وقد اعتقل رمحه، يسقيه من دم وافي السبال.
فكأنه يقول: إنما تحسن الوفرة على من لا سبال له، وهو أمرد؛ يقاوم الملتحي عند المقاتلة، لأن السبال لا يكون وافيًا إلا إذا كان تام اللحية. ينبه بذلك على فضل قوته وشجاعته.
وقيل: إن وافي السبال كناية عن الشجاع. لأن أهل الحرب كانوا لا يحفون شواربهم حتى يكون أهيب لهم عند القتال.
وقيل: إنه تعريض بالمتعجب من الشعرة. وكان من أصحاب اللحية الضخمة.
يقول: لا تحسن الشعرة حتى تكون علي وقد اعتقلت رمحي أسقيه من دم كل علج طويل اللحية، وافي السبال مثلك أيها المتعجب من وفرتي.
1 / 8
هذه، وروى أنه قال: ربما أنشدت على فتىً في يد صعدة ويقال عل يعل ويعل بالكسر لغة قيس، والضم لغة تميم.
وقال أيضًا في صباه:
محبي قيامي ما لذلكم النصل ... بريًا من الجرحى سليمًا من القتل
تقديره: يا محبي قيامي. وهو نداء مضاف، خطاب للجماعة. ودل عليه قوله: ذلكم. والقيام بمعنى الإقامة والمقام، وقد روى أيضًا محبي مقامي. كأنه يخاطب أهله وعياله.
ويقول: يا من يحب إقامتي وتركي الأسفار والمطالب. كيف أفعل ما تحبون: من إقامتي معكم، ولم أجرح بنصلي أعدائي؟! وأورد ذلك مورد الإنكار على أهله حين أشاروا عليه بالقيام عندهم.
وقيل: إنهم استنصروه وسألوه الوقوف معهم فقال: يا من يحب مقاتلتي العدو معهم: ما لنصولكم متنحية عن هرج أعدائكم، غير منكسرة من كثرة القتل! فإن م حق المستنجد أن يتسم أولًا للحرب، ويبلى جهده، ثم يستنصر غيره: فأما أن ينتحي ويغري غيره على الحرب فليس من حقه! ويحتمل أن يكون القيام من قولهم: قام بالأمر إذا تولاه وسعى فيه.
والمعنى: يا من يحب قيامي بأموره وترك فراقه، ما لذلكم النصل لم أجرح به ولم أقتل؟ فكأنه يقول: لا أختار القيام بأمورك على حال أن ذلك النصل لم يؤثر في الأعداء جرحًا وقتلًا، يعني أن أعمال النصب أحب إلي من القيام عليك. ونصب بريًا وسليمًا على الحال من النصل.
أرى من فرندى قطعةً في فرنده ... وجودةُ ضرب الهمام في جودة الصقل
فرند السيف: جوهره. بالغ في وصف نفسه بالمضاء والشجاعة وفضل نفسه على السيف حيث جعل فرند السيف قطعة من فرنده وبعضًا منه! ثم قال: وجودة ضرب الهمام في جودة الصقل، وظاهر معناه: أن السيف إذا كان صقيلًا جيد الصقال كان ذلك سببًا لجودة ضرب الهمام؛ وهذا مما لا يستمر، لأن جودة الصقل قد توجد، ولا يكون متضمنًا لجودة الضرب، وذلك إذا لم يكن للسيف جوهر كريم، غير أنه أثبت أولًا للسيف جوهرًا كريمًا ثم أخبر عن صقاله.
فكأنه يقول: كيف أترك النهوض وأقعد عن محاربة أعدائي؟! ولي جوهر في المضاء والشجاعة، وللحرب آلة موفورة، وهو السيف الذي فيه الجوهر الكريم والصقل الجيد.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
أراد بالخضرة الأولى: الرفاهية: في العيش، فجعل للعيش ثوبًا أخضر، كناية عن طيب العيش لأن الخضرة أشهى إلى النفوس، لميلها إليها دون سائر الألوان، وقال في بيت آخر:
والعيش أخضر والأطلال مشرقة
وأراد بالخضرة الثانية: لون السيف، وكأنه وضعها في موضع الزرقة للتجنيس. واحمرار الموت: كناية عن احمرار الدم على السيف عند الضرب، وقد كثر حتى وصف به الشدة، يقال: موت أحمر، ومدرج النمل: ممره، وأراد به ما يرى في متن السيف من جوهر كأنه ممر النمل.
يقول: أرى خصب العيش وطيبة النفس في السيف الكريم الجوهر، الجيد الصقل، وهو المعبر عنه بالخضرة التي أرتك شدة الموت في مدرج النمل، وقصد به المبالغة في تصويب رأيه فيما اختار من النهوض وقصد محاربة الأعداء وقتلهم وجرحهم.
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي
أمط: أي أبعد.
وقد أكثر الناس في هذا البيت: من حيث أن ما ليست من أدوات التشبيه.
فقال ابن جنى: إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول: تفسيره أنه كان كثيرًا ما يشبه فيقال: كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضًا عن هذا القول: أمط عنك تشبيهي بما وكأن، فجاء بحرف التشبيه وهو كأن وبلفظ ما التي كانت سؤالًا فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل ما للتشبيه لأن جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعًا.
قال: وقد نقل أهل اللغة مثل هذا فقالوا: الهمزة والألف في حمراء هما علامتا التأنيث، وإنما العلامة في الحقيقة الهمزة.
وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: إن المتنبي سئل فذكر: أن ما تأتي لتحقيق التشبيه كقول عبد الله الأسد: ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلًا قال: ما هو إلا كذا، وآخر قال: كأنه كذا، فقال أمط عنك تشبيهي بما وكأنه. وما في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى ما وكأن، إذا كان له هذا الأثر.
1 / 9
وذرني وإياه وطرفي وذابلي ... نكن واحدًا نلق الورى وانظرن فعلي
الهاء في إياه: للنصل. والطرف: الفرس الكريم.
يخاطب من يشبهه بشيء فيقول: دعني مع فرسي وسيفي المذكور، ورمحي، حتى نصير مثل الشيء الواحد في التعاون، نلقي الخلق طرًا، ثم انظر فعلي عند ذلك حتى تعلم ما يمكنك أن تشبهني أم لا؟ وأشهر الروايتين يلقى حملًا على الواحد وروى: نلقى اتباعًا لقوله: نكن حملًا على المعنى.
وقال وهو في المكتب يمدح إنسانًا وأراد أن يستكشفه عن مذهبه:
كفي أراني، ويك، لومك ألوما ... همٌّ أقام على فؤادٍ أنجما
الخطاب للعاذلة، وويك: قريبة من ويحك، وأنجم: أقلع.
وقال ابن جبي: تقدير البيت: كفي ويك، أراني هم أقام على فؤادٍ أنجما، لومك ألوم.
ويكون أراني على هذا منقولًا من رأيت بمعنى: علمت، فيتعدى إلى المفعولين، وإذا عديته بالهمزة تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والفاعل ها هنا هم والمفعول الأول الياء في أراني والثاني لومك والثالث ألوما.
ويكون المعنى: إن الهم الموصوف أعلمني أن لومك إياي أولى بأن يلام، فعلى هذا يكون المصراع الأول متعلقًا بالثاني.
وقال غيره: إن أراني مضارع رأيت بمعنى علمت، فيكون المراد: أرى نفسي، لأن أفعال اشك واليقين يجوز فيها مثل ذلك، ويكون لومك مفعول كفى وألوم المفعول الثاني، من أراني، والمفعول الأول هو الياء.
والمعنى: كفي ويك لومك فإني أراني ألوم منك، أي أكثر لومًا منك، وأحق بأن يلومك على لومك إياي؛ وعلى هذا، المصراع يكون مستقلًا بنفسه، ثم ابتدأ في المصراع الثاني يشكو داءه، وقوله: على فؤادٍ أنجما. أي خارج خلف الأحباب منقلع من أصله كإقلاع السحاب فيكون همٌّ مرفوعًا، لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: حالي همٌّ هذه صفته، أو يكون مبتدأ وخبره محذوف تقديره: همٌّ هذه صفته شكواي وألوم على المعنى الأول في معنى الملوم، أي أحق بأن يكون ملومًا فيكون في أفعل مبالغة في المفعول مثل أشغل من ذوات الحنين مبالغة في المشغول، وعلى الثاني بمعنى اللائم أي أقدر على أن يكون لائمًا فيكون أفعل المبالغة في الفاعل، وروى: أثجما بالثاء أي أقام وهذا أولى، لأنه يفيد أن الفوائد لم يقلع بالملام عن الهوى.
وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى ... لحمًا فينحله السقام ولا دما
خيال عطف على هم شبه جسمه بالخيال الذي لا حقيقة له لدقته، وأخبر أن الهوى لم يترك له لحمًا ولا دمًا يكون للسقام فيه تأثير، وينحله: أي يعطيه من النحلة، وقيل: هذا أولى؛ لأن النحول لا يكون في الدم.
وحقوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
وحقوق عطف على خيال وهو الضعف والاضطراب، ورأيت خطاب للمحبوبة دون العاذلة؛ بدلالة قوله: يا جنتي وهو حشوٌ حسنٌ؛ والغرض: المطابقة بين الجنة وجنهم.
يقول: لي اضطراب قلبٍ لو رأيت لهيبه يا جنتي لظننت فيه ألهاب جهنم؛ شبهها بالجنة لحسنها ومافيها من الراحة عند وصلها.
وإذا سحابة صد حبٍ أبرقت ... تركت حلاوة كل حبٍّ علقما
الحب: المحبوب والعلقم: شجر ذو ثمر مرٍّ.
يقول: إذا ظهرت دلائل هج الحبيب، تركت حلاوة كل حب مرارةً، فجعل علامة الصدود سحابة، لأنها علامة الهجر، كما أن السحابة علامة المطر.
يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنا جسدي ورض الأعظما
الضنا: طول المرض، وقيل: داهية، ولهذا لم ينونها كما لا ينون الأسماء الأعلام عند التأنيث كفاطمة، وقيل: إنها كناية عنها وليس باسم لها، وإنما لم ينونها لأنه أقامها مقام اسمها من ترك التنوين كما تقول: رأيت فلانة فلا تنون.
يقول: يا وجه الحبيبة التي هي كالداهية: وهي الأمر العظيم، لولاك ما أكل المرض جسمي وما كسر عظمي، يدل به على أن هواها قد أمرضه مرضًا أثر في جسمه وعظامه!
إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما
روى منها ردًا إلى المحبوبة، ومنه ردًا إلى السلو، وروى: معدما ومصرما.
يقول: إن كان أغنى هذه المرأة عني خلو قلبها عن محبتي، فإني أمسيت فقيرًا منها ومن كبدي؛ لأنها قد صحبتها وفارقتني إليها فعدمتها، وعدمت الصبر الذي كان في قلبي وكبدي، ولأن الكبد تلفت في محبتها.
غصنٌ على نقوى فلاةٍ نابتٌ ... شمس النهار تقل ليلًا مظلمًا
1 / 10
يجوز في غصنٌ أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: حبيبتي، غصن هذه صفته، وهكذا التقدير في شمس النهار، وأراد بالغصن: قدها، والنقوى: تثنية النقا: وهو الكثيب من الرمل، وعني بهما ردفيها، وبشمس النهار: وجهها، وتقل: تحمل، والليل المظلم: شعرها.
لم تجمع الأضداد في متشابهٍ ... إلا لتجعلني لغرمي مغنما
أراد بالأضداد ما تقدم في البيت المتقدم من دقة وسطها، وثقل ردفيها، وبياض وجهها، وسواد شعرها، في متشابه أي بدن متشابه، أي يشبه بعضه بعضًا في الحسن، وليس بعضها أحسن من بعض، والغرم: ضد الغنم وأصله اللزوم.
يقول: إنها لم تجمع هذه الأضداد في بدن متشابه في الحسن، إلا لتجعلني لغرمي: أي لعشقي إياها غنيمة، فتجمع علي هذين الضدين أيضًا، وهما: المغرم والمغنم، وروى: لم تجمع الأضداد لأنها لم تجعل ذلك، فبنى على ما لم يسم فاعله.
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
أي صفات هذه المرأة في اشتمالها على هذه الأضداد، كصفات هذا الممدوح المشتملة على أمرين ضدين: أحدهما: أنها أنطقت الواصفين بذكرها.
والثاني: أنها أفحمت الواصفين دون إدراك غاياتها، وروى المتنبي: أنطقهم بجزيل العطاء، وأفحمهم بالقصور عن المدح والثناء. فعلى هذا نصب واصفيه، بأنطق، وقيل: تقديره كصفات أبي الفضل التي بهرت واصفيه. فأنطق: هو وأفحم.
يعطيك مبتدئًا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرًا كمن قد أجرما
يقول: يعطيك مبتدئًا بالعطاء قبل السؤال، فإن استعجلته العطاء، أعطاك معتذرًا، كمن قد أذنب.
ويرى التعظم أن يرى متواضعًا ... ويرى التواضع أن يرى متعظما
المعنى: أنه يرى بلوغ عظمته في التواضع للناس، ويرى التذلل في حال رؤية الناس إياها متعظمًا.
نصر الفعال على المطال كأنما ... خال السؤال على النوال محرما
الفعال بفتح الفاء: الفعل الجميل.
يقول: ينصر الفعل الجميل على المطال ويجعل له الغلبة، حتى كأنه ظن السؤال محرمًا، وروى: على المقال وهو: إما السؤال، وإما وعد الممدوح بالعطاء، فكأنه يقول: يقدم العطاء على السؤال وعلى الوعد.
يا أيها الملك المصفى جوهرًا ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
يقول: يا أيها الملك المصفى، يا أسمى، وأراد ذات الله تعالى: الذي هو ذو الملكوت، وهذا ظاهره يوهم الكفر ويقال: إن هذا الممدوح كان نصرانيًا فأظهر الإسلام وهو متهم بالتنصر، فأراد أن يستكشفه عن مذهبه فأورد عبارات النصارى على وجه الانتحال، وغرضه استكشاف حاله ووصف منهجه، فعلى هذا لا يلزم الكفر، ويجوز أن يحمل على أن المراد بالذات: الصنع، فكأنه قال: يأيها الملك المصفى جوهرًا من صنع ذي الملكوت، وأراد بذلك تعظيمه وتفضيله. وقوله: أسمى من سما يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، فكأنه يقول أنت أعلى من علا، ويجوز أن يكون في الجر صفة لذات ذي الملكوت، أو الذات أو الملكوت، أي أنه أعلى من كل علًا في الأرض.
وروى عنه أنه قال: نعوذ بالله تعالى من الكفر، إنما قلت جوهرًا وبينهما تضمين يزيل الظن.
نورٌ تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
تظاهر: أي تولى. ولاهوتيةً: نصب على المصدر كما يقال: إلهية وروى لاهوتيه ويكون رفعًا لأنه فاعل تظاهر، وهذا، إذا حمل على ظاهره فلا يسلم من الكفر، فيحمل حينئذٍ على أنه أراد به أن النور الذي تفرد به هذا الممدوح نور إلهي. كما يقال: أمر سماوي وإلهي فيكاد يعلم ما لم يعلم من أجل هذا النور، فكأنه يقول: إنك مؤيد بنور، لأجله تقرب من أن تعلم ما لا يعلمه أحدٌ من الأمور.
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضو منك أن يتكلما
يقول: يهم كل عضو منك إذا تكلمت لفرط فصاحتك.
أنا مبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالإله فأحلما
يقول: أنا مبصرٌ بعيني وأظنني نائمًا، من استعظام ما رأيت من هذا الرجل من العظائم والأمور العجائب!! ثم قال: من كان يحلم بالإله فأحلم أنا أيضًا! أي أنه لا يمكن أن يرى في المنام لأنه لا يشبهه شيء فشبه هذا الممدوح بما لا يجوز التشبيه به فقال: لا أدرك كنه وصفك، كما لا يدرك حقيقة ذات الباري تعالى. وهذا إفراط منكر قريب من الكفر.
1 / 11
وقيل: إن في الكلام حذفًا، كأنه قال: من كان يحلم بصنع الله تعالى فأحلم أنا، فكأنه يقول: من كان يحلم بصنع الله تعالى وينسب نفسه إلى النوم دون اليقظة عند عظمته حتىأقول: أنا إنما أرى ذلك في المنام.
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
يقول: تأكيدًا للبيت الأول قبله: كبرت المعاينة علي بخروجه عن العادة حتى صار اليقين المعاين متوهمًا.
يا من لجود يديه في أمواله ... نقمٌ تعود على اليتامى أنعما
يقول: يا من يصب على أمواله نقمًا بتفريقها والاستهانة بها، وتعود تلك النقم على اليتامى نعمًا وافرة.
حتى يقول الناس: ماذا عاقلًا! ... ويقول بيت المال: ماذا مسلمًا
يقول: يا من هو في السخاء يصفه بقول الناس: إنه ليس بعاقل؛ حيث يفقر نفسه، ويقول بيت المال: إنه ليس بمسلم؛ لأنه لا يرد إليه شيئًا من المال ويبقيه، وحكم الإسلام يقتضي حفظ بيت المال.
وروى عنه: ماذا غافلًا يعني عن كسب المكارم في الدنيا والثواب في الآخرة، ونصب غافلًا ومسلمًا لأنهما خبر ما.
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجمًا
يقول: إذكار مثلك ترك الإذكار، لأنك عارف بما في قلبي، غير محتاج إلى التنبيه لعلمك به، وهذا مثل قول أبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
وقال في أيام الصبا في الحماسة:
إلى أي حينٍ أنت في زي محرم؟ ... وحتى متى في شقوة وإلى كم؟!
يخاطب نفسه ويلومها فيقول: إلى أي وقتٍ أنت في زي الإحرام؟، فكأنه يقول: إلى أي وقت تكون عاريًا؟ قاعدًا عن القتال؟ ومنازلة الرجال؟ وحتى متى تعيش في الشقاء؟ ولا تطلب العز والثناء؟ وروى في غفلة وروى في زي مجرم بالجيم. يعني: إلى متى تعيش ذليلًا كالمتهم المذنب. والمعنى جيد.
وإلا تمت تحت السيوف مكرمًا ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم
يقول: إن لم تمت تحت السيوف في الحرب مكرمًا، تمت مقاسيًا للمذلة ساقط الرتبة حتف أنفك، والأصل فيه قولهم: موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذل ويجوز تقاس بحذف الياء للجزم عطفًا على جواب الشرط، وهو قوله تمت ويجوز بالياء فيكون في موضع نصب على الحال: إن تمت مقاسيًا للذل.
فثب واثقًا بالله وثبة ماجدٍ ... يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
الهيجا: بالمد والقصر: الحرب. وجنى النحل: العسل المجتنى من النحل، والماجد: الشريف.
يقول ثب إلى طلب المعالي واثقًا بالله تعالى، وثبة رجل ماجدٍ؛ يرى للموت في الحرب حلاوة كالعسل في الفم كما قال الآخر:
الموت أحلى عندنا من العسل
الشاميات
وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
في أحيا تقديران: أحدهما، أنه أفعل تفضيل من الحياة، وتقديره إني أكثر حياة مع أن أيسر ما قاسيت، ما قتل غيري ومع أن البين أيضًا جار على ضعفي وما عدل. والثاني، أنه فعل مضارع من الحياة ثم فيه تقديران: أحدهما، الخبر، والآخر الاستفهام. فأما الخبر فتقديره كأن يقول على وجه التعجب: إني أحيا، وأيسر ما لقيته في محبة هذه المرأة ما قتل غيري! وقد أضيف إليه فراق الحبيب الذي جار علي مع ضعفي، ومع ذلك فإني مقيم باقٍ! وهذا موضع التعجب! ولعله كان به ضعف، وأما الاستفهام فتقديره أأحيا؟! وأيسر شيء قاسيته في حبها هو الذي يقتل!
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدًا ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
يقول على وجه التعجب أيضًا: إني باقٍ! مع اجتماع هذه الأمور القاتلة، وهي: ازدياد الحزن بازدياد البعد، ونقصان الصبر، ونحوله، كما أن الجسم يضعف وينحل.
يصف ازداد البعد ونحول الجسم والصبر بعد البعد.
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
الهاء في لها: للمنايا، أو للمفارقة.
كأنه يقول: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت المنايا لأنفسها وللمفارقة طرقًا تصل إلى أرواحنا. وهو كقول أبي تمام الطائي:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا
بما بجفنيك من سحرٍ صل دنفًا ... يهوى الحياة، فأما إن صددت فلا
بما بجفنيك: قسم.
1 / 12
يقول: بحق ما بجفنيك من سحرٍ، صلى من تناهى في المرض؛ حزنًا على البعد منك؛ فإنه إنما يهوى الحياة إن واصلت، وإن لم تصلى فلا يهوى الحياة. فلا هنا جواب إن كقوله تعالى: " وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك " وروى: بما بجفنيك من سقمٍ وقوله: يهوى الحياة في موضع نصب صفة لدنف.
إلا يشب فلقد شابت له كبدٌ ... شيبًا إذا خضبته سلوةٌ نصلا
قوله إلا يشب: فاعل يشب ضمير الدنف الذي ذكره في البيت قبله.
يقول: إلا يشب الشعر فقد شابت الكبد، شيبًا أعظم من شيب الرأس؛ من حيث أن شيب الشعر يقبل الخضاب، وشيب الكبد لا يقبله فكلما خضبته السلوة نصل الخضاب في الحال، وشيب الكبد لا يقبله، كناية عن ضعفها. ومثله لأبي تمام قوله:
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأ ... س إلا من فضل شيب الفؤاد
وزاد المتنبي عليه بذكر الخضاب، والنصول، قيل إنها تصفر وقيل إنها تبيض عندما تصيبها الآفة كما قال الحكمي:
يا دعد قد أصبحت مبيضةً كبدي ... فاصبغي بياضًا بعصفر العنب
إلا أن لفظة المشيب لا تطلق على كل البياض.
يحن شوقًا فلولا أن رائحةً ... تزوره في رياح الشرق ما عقلا
يقول: إن هذا المحب يحن شوقًا إلى محبوبته، فلولا أن رائحةً من رياح الشرق تأتيه لما عقل؛ كأن المحبوبة كانت في جانب الشرق. وروى: زياد الشوق والأول أكثر. وروى: يجن أي يظهر الجنون؛ وهذا أولى بالمطابقة.
ها فانظري أو فظني بي ترى حرقًا ... من لم يذق طرفًا منها فقد وألا
ها: تنبيه المخاطب لما بعده.
يقول: لمحبوبته: انظري إلي لتدري ما بي من الحزن، فإن لم تريني أهلًا للنظر فظني بي ترى حرقًا من لم يذق بعضًا منها فقد وأل: أي نجا من البلاء، من وأل يئل إذا نجا.
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
عل: بمعنى لعل، يقول: لعل الأمير الذي هو الممدوح إذا رأى ذلي يتشفع لي، إلى المرأة التي تركتني في الهوى مثلًا مضروبًا كسائر العشاق من العرب؛ ووجه تشفعه إليها أن يصل جناحه بما يصل به إلى المراد بها، ويحظى عندها لمكانه منها. وهذا مأخوذ من قول أبي نواس.
سأشكو إلى الفضل بن يحى بن خالد ... هناها لعل الفضل يجمع بيننا
أيقنت أن سعيدًا طالبٌ بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
يقول: لما رأيت الممدوح وهو سعيد معتقلا برمحه على هيئة المحاربين، تحققت أنه يطلب بدمي من هذه المرأة القاتلة لي، على سبيل القتل والقصاص منها، لأن قتل النساء نقص، ولكن من حيث أن عادته اغتنام الأموال في الحرب، لأن ذلك كسب الشجعان، وإن المال الذي يغتنمه يجعل له حظًا منه ليصل إلى مراده منها، وانتقل الرجاء الذي في البيت الأول إلى اليقين، من حيث أنه قد رآه تأهب للحرب، لأنه إذا حارب يظفر بالأعداء وينهب الأموال، وإذا نهبها فرقها، لأن خلاف ذلك من البخل.
وقد قيل: إن هذا البيت منقطع عما قبله كأنه يقول: لما رأيته كذلك أيقنت أنه ينتقم من أعدائي.
وأنني غير محص فضل والده ... ونائلٌ دون نيلي وصفه زحلا
قوله نائل: اسم فاعل، من نال الشيء يناله. ومفعوله: زحل ونيلي: مصدر مضاف إلى فاعله، وهو ضمير المتكلم، ومفعوله: وصفه.
يقول: إني لا أحصي فضل والده، فجمع بين مدحه ومدح والده. يقول: وإني نائل زحلًا قبل أن أنال وصف والده. وروى فضل نائله فيكون مدحًا له.
قيلٌ بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عمن غيره سألا
القيل: الملك من ملوك حمير. ومنبج: بلد بالشام.
يقول: إن الممدوح ملكٌ، مقامه بمنبج. وعطاؤه في أفق الدنيا؛ يستخبر عمن يطلب من غيره العطاء، حتى يدل عليه بالسؤال الأول، وهو الاستخبار، والثاني: الذي هو سأل السؤال الذي هو طلب العطاء وهو كقول أبي تمام:
فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل
يلوح بدر الدجى في صحن غرته ... ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا
روى: الهيجاء بالمد فتكون حينئذ في الهيجاء إن حملا. وروى: مقصورًا، فعلى هذا يكون في الهيجا إذا حملا.
يقول: إن الممدوح موصوف بخصلتين: إحداهما: الحسن وهو قوله:
يلوح بدر الدجى في صحن غربته
1 / 13
والثانية: الشجاعة وذلك قوله: ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا يعني أن الموت ناصره ومعه.
ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا
كلابٌ، وجناب: قبيلتان. وقيل: إن بينه وبينهما معاداة.
والمعنى على هذا: إن الممدوح يهجم بخيله على بني كلاب ويوقع بهم، فغبار خيله في عيونهم بمنزلة الكحل، وكذلك سيفه في جناب، يسبق عذل العاذل. يعني: إذا ظفر بعدوه قتله، ولا يبالي بلوم اللائم. وقد نظمه من مثل سائر وهو سبق السيف العذل وأول من قاله ضبة بن أد إذ ظفر بقاتل ابنه في الشهر الحرام فقتله! فلما ليم عليه قال هذا القول.
وقيل: إن بني كلاب كانوا أولياءه. فيكون المعنى: إنهم لحبهم له يتخذون تراب قدمه كحلًا لأعينهم، ويتبركون به.
لنوره في سماء المجد مخترقٌ ... لو صاعد الفكر فيه الدهر ما نزلا
مخترق: يجوز أن يكون مصدرًا، ويجوز أن يكون اسمًا لموضع الاختراق.
يقول: إن للمدوح فخر إلى السماء وذلك مثلٌ لعلو فخره، وإن له نورًا، منفذه في سماء فخره، بحيث لو صاعده الفكر وغالبه في الصعود في ذلك المنفذ، لم يكن له نزول أبدًا، من حيث أنه ليس له نهاية، حتى يبلغها، ثم ينزل عنها، وقد روى: محترق بالحاء المهملة، والأولى الأول.
هو الهمام الذي بادت تميم به ... قدمًا وساق إليها حينها الأجلا
وروى: هو الأمير، ولم يصرف تميم للتعريف، والتأنيث للقبيلة.
يقول: هو الأمير الذي هلكت به تميم منذ قديم الزمان، وساق به إليها هلاكها الأجل، أي لما عادوه أوقع بهم وأهلكهم.
لما رأته وخيل النصر مقبلةٌ ... والحرب غير عوانٍ أسلموا الحللا
الحرب العوان: التي تكررت بخلاف البكر. والحللا: جمع الحلة، وهم القوم الذين ينزلون في مكان واحد.
يقول: إن تميمًا لما رأت هذا الممدوح، وخيل النصر مقبلةٌ، أسلموا جماعتهم وبلدتهم، ثم بين أن ذلك في أول الحرب، قبل أن تتكرر، ليدل ذلك على فضل خوفهم منه وأنهم انهزموا في أول الأمر.
وضاقت الأرض حتى كأن هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا
يقول: ضاقت الأرض عليهم لما هربوا منه، حتى أن هاربهم من شدة خوفه كان إذا رأى غير شيء لا يبالي به من صغره، ظنه رجلًا من أصحابه! وهذا المعنى، اشتقه من قول الله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " وهذا كقول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلًا تكر عليهم ورجالا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول: فبعد ذلك اليوم الذي قاتلتهم وهزمتهم، إلى هذا اليوم؛ لو ركضت تميم بخيولهم في لهوات الطفل وحنكه لما أثرت فيه تأثيرًا يسعل الطفل منه؛ مع أنه يتأذى بأقل شيء، وذلك إشارة إلى قلتهم، وأنه لم يبق منهم بعد ذلك الحرب عناء، ولا قوم يمكنهم أن يضروا أدنى ضرر.
قال القارىء عليه قلت له: لم لا يسعل؟! قال: لحسن طاعته!
فقد تركت الألى لاقيتهم جزرًا ... وقد قتلت الألى لم تلقهم وجلا
الألى: بمعنى الذين. وجزرًا: أي مقطعين بالسيوف. وقوله: وجلا: مصدر واقع موقع الاسم. يعني: وجلين.
يقول: قد تركت الذين لقيتهم في الحرب قطعًا بالسيوف، وتركت الذين لم تلقهم وجلين خائفين منك.
كم مهمةٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعد ما مطلا
المهمة: الفلاة القذف: الواسع البعيد النواحي. والقضاء والمطل: نقيضان.
يقول: كم فلاةٍ بعيدة الأطراف، قلب الدليل فيها خافقٌ خوف الضلال، كخفقان قلب المحب؛ خوف الهجران؛ أدتني تلك الفلاة إلى أقصاها، بعد ما مطلتني مدة مديدة، وقضاؤها إياه: بلوغها به إلى أقصاها، ومطلها، مدة لبثه فيها.
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
الهاء في مفاوزه: للمهمه. وحر الوجه: الخد. والنجم، قيل: هو اسم للثريا خاصة؛ وقيل: اسم الجنس. وافل: فعل النجم.
يصف مواصلة سيره بالسرى ويقول: عقدت طرفي بالنجم ليلًا، وعقدت حر وجهي بحر الشمس، إذا غاب النجم؛ يمن بذلك عليه ليكون أعرف بحقه.
وروى عنه قال: عقدت بالنجم طرفي، خوف الضلال بالشمس لأني كنت مشرقًا.
أنكحت صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
1 / 14
اليعملة: الناقة العمولة في سرعة المشي أي أسرعت وتغشمرت: تعسفت وأخذت قصدًا وغير قصدٍ، والإنكاح هو: الجمع.
يقول: جمعت بين خف ناقتي وبين الحصا الصم التي كانت في الفلاة المذكورة، وعسفت بي السهل والجبل؛ حتى أوصلتني إليك.
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا
النمرق: الوسادة التي يعتمد عليها الراكب. والزجل: الصوت. وحشو قميصي: أي وسطه.
يقول: لو كنت أيها الممدوح مكاني فوق رحل هذه الناقة، لسمعت صوت الجن في غيطان هذه المفاوز!
حتى وصلت بنفسٍ مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
يقول: كنت على الحال الموصوفة، حتى وصلت إليك بنفس مات أكثرها تعبًا وخوفًا، ولم يبق منها إلا فضلٌ أخشى عليه، لأني وقيت ما مر بي ولا آمن أن يكون عاقبته الهلاك. وغرضه بهذه الأبيات الامتنان عليه بما ناله من ذلك.
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
قوله: أرجو: أي راجيًا، في موضع نصب لأنه في موضع الحال.
يقول: جبت هذه المفاوز إليك ثقة بك، إنك لا تمطل بوعدك، وإنك تجزل العطاء؛ لأنك إذا وهبت الدنيا تستقلها فكأنك قد بخلت.
وقال أيضًا في صباه في الحماسة والفخر:
كم قتيلٍ كما قتلت شهيدٍ ... ببياض الطلى وورد الخدود
الطلى: الأعناق، واحدها طلية. وتقدير البيت: كم قتيلٍ شهيدٍ ببياض الطلى وورد الخدود؛ كما قتلت أنا؛ يعتذر في قتل الهوى إياه. ويقول: لست بأول قتيل الهوى فكم من قتيلٍ شهيد! قتل ببياض الأعناق وحمرة الخدود! وجعل القتل بسبب الهوى شهادة أخذه من الحديث من عشق وعف مات وهو شهيد.
وعيون المها ولا كعيونٍ ... فتكت بالمتيم المعمود
المها: بقر الوحش، واحدتها مهاة. والفتك: القتل غيلة. والمتيم: الذي استعبده الحب. والمعمود الذي أصيب عمود قلبه وهو وسطه بالحب. وجر عيونًا: عطفًا على ورد الخدود.
يقول: كم قتيلٍ ببياض الطلى، وورد الخدود. وعيون المها: وهي بقر الوحش من حسنها، وملاحتها ولا كعيون النساء التي أصابتني وقتلتني غيلة، بل هذه أحسن منها، فضل هذه العيون على عيون المها. وقيل: أراد بالمها: الحسان العيون من النساء. ثم فضل العيون التي قتلته على تلك العيون.
در در الصبا أيام تجري ... ر ذيولي بدار أثلة عودي
الدر في أصل اللغة: اللبن. ثم استعمل في كل خير.
كأنه يقول على وجه الدعاء: كثر خير الصبا. ثم نادى فقال: أأيام تجريري والهمزة الأولى حرف النداء، والرواية تجريري بدار أثلة موصلة الألف بالراء كقوله تعالى: عادًا الأولى، وروى بدار الأثلة عودي قيل: الأثلة. مكان بالكوفة، وقيل: بالشام. وقيل: إن أثلة بغير ألف ولام، وروى قتلة وهي اسم امرأة. وعودي: أمر من العود، وهو: خطاب للأيام.
يقول مخاطبًا لأيامه التي مضت مستعيدًا لها: يا أيام بطالتي حين كنت أسحب ذيلي بهذا المكان، عودي إلي وارجعي فإني مشتاق إليك.
عمرك الله هل رأيت بدورًا ... قبلها في براقعٍ وعقود
أصله: تعميرك الله، وهو مصدر من عمرك الله تعميرًا، إلا أنه حذف ما كان زائدًا، ورده إلى تركيب الكلمة. فقال: عمرك الله فكأنه قال: سألت الله تعميرك. أيها الصاحب، هل رأيت بدورًا مثل هؤلاء النساء اللواتي هن بدورًا في الحسن والبهاء في براقع وعقود؟! لأن البراقع والعقود من آلة النساء، ولم تعد في البدور.
رامياتٍ بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
رامياتٍ: في موضع نصب صفة لبدور.
يقول لصاحبه: هل رأيت بدورًا ترمى بسهام؟! قدودها الهدب، وهي تشق القلوب قبل الجلود! بخلاف سائر السهام التي تصيب الجلود قبل القلوب. وعني بالسهام: العيون. وهو مأخوذ من قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يصب ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح
يترشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد
1 / 15
يقول: إن هذه النسوة يمصصن من فمي مصات لميلهن إلي. هن: يعني الرشفات. في فمي أحلى من حلاوة التوحيد في قلب الموحد، وهو المقر بوحدانية الله تعالى! وهذا أحد ما نسب المتنبي لأجله إلى الكفر؛ حيث جعل الترشف أحلى من التوحيد! وروى: هن فيه حلاوة التوحيد يعني: للترشف في الفم حلاوة التوحيد. وهذا أخف من الأول. وقيل: إنه المعشوق بعاشقه، أي قوله: أنت واحدى؛ عند إقباله على وصاله، من دون أن يعرف غيره، فلهذا أحلى ما يكون للعاشق إذا كان معشوقه لا يعرف سواه، ولا يقول إلا به، وإذا فعل ذلك فقد وحده، فكأنه يقول: هن في الفم أحلى من هذا التوحيد.
كل خمصانةٍ أرق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
الخمصانة: الدقيقة الخاصرة. والجلمود: الصخر الصلب. روى: أرق في موضع الجر صفة لخمصانة، وبالرفع صفة لكل.
يقول: كل واحدة من هذه المترشفات وهي: كل ضامرة البطن أرق بشرةً من الخمر، بقلبٍ أشد قساوة وصلابة من الصخر. شبه رقة بشرتها بالخمر، وقساوة قلبها بالحجر، وجعله أقسى منه: أي أقسى من الحجر الصلب.
ذات فرع كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
أي: كل خمصانة ذات فرع، كأنما خلط فيه العنبر بماء الورد والعود، طيبًا ورائحة؛ وإنما كان ذلك خلقة، فلهذا قال: كأنما.
حالكٍ كالغداف جثل دجوجي ... ى أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد
الحالك: الشديد السواد. والغداف: الغراب الأسود. والجثل: الشعر الكثير. والدجوجى: الشديد السواد أيضًا. والأثيث: الكثيف الملتف.
والتجعيد: يجعل جعدًا بتكلف.
يقول: هي ذات فرع أسود بهذه الصفة.
تحمل المسك عن غدائرها الري ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود
الهاء في غدائرها للمرأة، وروى: من غدائره. أي: من غدائر الفرع والغدائر: هي الضفائر، واحدها غديرة، والريح: فاعلة تحمل والشتيت: صفة الأسنان، وهو المفلج، والبرود أيضًا.
يقول: إنها مع استغنائها عن الطيب، تستعمل الطيب الكثير، بحيث تحمل الريح عن غدائرها المسك. وتفتر: أي تضحك عن ثغر مفلج فيه ماء بارد، أو يبرد حرارة الكبد! وهو الريق المتحلب من بين الأسنان، وقيل: هو من البرد النازل من السماء، فوصف أسنانها بأنها مفلجة، وبأن ريقها بارد؛ لبياضه ونقائه وبرده إذا مص.
جمعت بين جسم أحمد والسقم ... وبين الجفون والتسهيد
أراد بأحمد: نفسه.
يقول: إن هذه المرأة جمعت بين جسمي، وبين السقم! وبين جفوني والتسهيد فبعدت عني الصحة والنوم.
هذه مهجتي لديك لحيني ... فانقصي من عذابها أو فزيدي
المهجة: النفس. والحين: الهلاك.
يقول: هذه نفسي عندك مسلمةً إليك للهلاك! فانقضى من عذابها، أو فزيدي في عذابها فحكمك نافذٌ فيها، وأخذه من قوله تعالى حكاية عن عيسى ﵇: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
أهل ما بي من الضنى بطلٌ صي ... د بتصفيف طرةٍ وبجيد
الضنى: طول المرض والضعف وتصفيف الطرة: تسويتها من الصف وأهل: مرفوع لأنه خبر الابتداء، والابتداء: بطل. متأخر عن الخبر كأنه يقول: بطل صيد بتصفيف طرة أهل مابي.
ومعناه: إنني بطلٌ صيد؛ ومع ذلك أهلٌ لما بي، مستحق لطول المرض، وهذه الإشارات إلى شجاعة نفسه، وإنه مع ذلك قد صيد، بتصفيف طرة وبجيد. ويجوز أن يكون أهل مبتدأ، وبطلٌ خبره. ويجوز أن يكون أهل خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا أهل ما بي من الضنى؛ ثم بين العلة فقال: لأني بطل صيد بتصفيف طرةٍ وبجيد.
كل شيءٍ من الدماء حرامٌ ... شربه ما خلا دم العنقود
يقول: جميع الدماء حرام شربها، ما خلا دم العنقود: الذي هو الخمر. ثم أخذ في ذكر الخمر استسقاءً لها فقال:
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي
يقول: اسقني هذه الخمرة فدىً لعينيك نفسي، وما اكتسبته من مالٍ، وما ورثته من آبائي وجعل المخاطب غزالًا بقوله: من غزال. فكأنه قال: من بين الغزلان ومن: هنا للتخصيص.
شيب رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
يقول: أربعة أشياء شاهدات لي على هواك. وهي: الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود وهذا مثل قول القائل:
1 / 16
من ذا يكذب في شهودٍ أربعًا؟! ... وشهود كل قضيةٍ اثنان:
خفقان قلبي واضطراب مفاصلي ... ونحول جسمي واعتقال لساني
أي يومٍ سررتني بوصالٍ ... لم ترعني ثلاثةً بصدود
يقول: اذكر أيها الغزال أي يوم واصلتني فيه، فسررتني بوصلك ولم ترعني بصدود ثلاثة أيام!
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
روى: نخلة. بالمعجمة، قيل: هي محله بالكوفة، وروى: بالحاء المهملة وهو الأصح. وهو: مكانٌ بالشام. وقيل: إنه على ثلاثة أميال من بعلبك.
يقول: ليس مقامي بين أهل هذا المكان وإيذائهم إياي واستخفافهم بي، إلا كمقام السيد المسيح بأرض اليهود؛ لكثرة عداوتهم له.
وروى: أنه لقب المتنبي بهذا البيت.
وقيل: بل بالبيت الذي يقول فيه:
أنا في أمةٍ، تداركها الله ... غريبٌ كصالح في ثمود
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودةٌ من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود
الصهوة: مقعد الفارس من الفرس. والحصان: الفرس الكريم الذكر. يصف بهذا شدة حذره من القوم، وهم أهل نحلة.
يقول: مفرشي مقعد الفارس؛ لكوني عليه ليلًا ونهارًا، وقميصي ودرعي التي هي مسرودة من حديد؛ لمواظبتي على الحرب وشدة تحرزي من أعدائي.
ثم وصف درعه الحديد فقال: لأمةٌ: أي ملتئمة الصنعة، مجتمعة فاضةٌ: سابغة. أضاةٌ: أي صافية. وهي صفة الغدير شبهها به لصفائها وزرقتها كالماء الذي في الغدير. دلاصٌ: أي براقة. أحكمت نسجها: يدا داود: أي هي من عمل داوود ﵇، وهي أوثق ما تكون من الدروع؛ لأنها مسرودة غير مسمورة، وهذا غاية ما يمدح به الدرع.
أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيشٍ معجل التنكيد؟!
التنكيد: التقليل. يشكو سوء حاله مع فضله، وبعد محله.
فيقول: أين فضلي إذا رضيت من الدهر بعيش قليل الخير؟
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي
ويروى: ضاق صدري.
يقول تأكيدًا لما تقدم من البيت: ضاق صدري لما بي من ضيق الرزق، وطال قيامي في طلب رزقي، وقل قعودي عنه.
أبدًا أقطع البلاد ونجمي ... في نحوسٍ وهمتي في سعود
يقول: أنا أجوب البلاد أبدًا، ولا أفتر عن السعي، لكن نجمي في نحوس فلا يساعفني وهمتي في سعود.
ولعلي مؤملٌ بعض ما أب ... لغ باللطف من عزيزٍ حميد
ويروى: ولعلي مبلغ بعض ما آمل؛ وهذا ظاهر؛ لأن التسلي لم يدخل في الأمل، وإنما يدخل في الوصول إلى المأمول، وعلى الرواية الظاهرة لابد أن يكون مقلوبًا، فيكون راجعًا إلى ما ذكرناه في الرواية الأولى، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويريد أنا راجٍ بعض ما أبلغ من العيش الهني، والمكان السني، بلطف الله العزيز الحميد.
لسريٍّ لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
السري: السيد ذو المروءة وقيل: أراد به الممدوح، وإن كان ممن يلبس الخشن للزهد والتواضع.
فيقول: إنه سري، لباسه خشن القطن، وليس فيه ما يوجب الضعة؛ وإن المروي: لبس القرود والسفلة من الناس، ولم يدل على رفعتهم.
وقيل: أراد بالسري: نفسه وأن لباسه خشن القطن، لما به من الفاقة، ثم بين أنه لا يقنع بالمروي، لأنه لباس السفلة من الناس، وإن همته ترتفع عن الاقتصار على ذلك، بل يريد ما هو فوقه من الثياب الثمينة النفيسة.
عش عزيزًا أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود
خفق البنود: اضطراب الرايات، وهي جمع: بند، وهو العلم. يحض نفسه أو صاحبه على طلب العز والعلا، وينهاه على النزول على الفاقة في الشقاء.
يقول: عش عزيزًا إن أمكنك، وإلا فمت كريمًا، بين المطاعنة وخفق الرايات؛ فإن من مات بين هذه الأشياء مات عزيزًا، لبقاء الذكر الحسن بعد موته، وكل هذا للمنع من الذل، والحث على طلب العلو.
فرءوس الرماح أذهب للغي ... ظ وأشفى لغل صدر الحقود
بنى من أذهب: أفعل التفضيل وهو لا يأتي إلا من الأفعال الثلاثية المجردة عن الزيادة، فإن كان بناءه من ذهب فهو لازم فلابد من الباء للتعدية، وهو أن يقول: أذهب بالغيظ، ذلك رواية. فأما أذهب للغيظ فهو محمول على أنه حذف من أذهبت، ثم بنى بعد رده إلى ثلاثة أحرف أفعل، كقوله تعالى: " أي الحزبين أحصى " لأنه من أحصيت.
1 / 17
يقول: إن لم يكن يمكنك أن تعيش عزيزًا، فمت بين طعن القنا، فإنه من الأشياء التي تشفي الصدور من الحقد، أو تقتل؛ فتستريح مما كنت فيه من الغيظ والحقد.
وروى أنه قال: أنا لم أبن أذهب من فعل متعدٍّ وإنما قلت: أذهب بالغيظ.
لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت مت غير فقيد
يقول: عش عزيزًا، أو مت كريمًا. لا كما كنت تحيا غير محمود، وإذا مت في هذه الحالة مت غير فقيد: أي غير مفقود، لا يعتد بك، ويكون موتك وحياتك واحدة ولا يعرفك أحد فيفقدك، كأنه كان قد استعمل الكسل قبل هذه الحالة.
فاطلب العز في لظى وذر الذل ... ل ولو كان في جنان الخلود
لظى: إذا جعلتها نكرة صرفتها لأنها ليس فيها إلا التأنيث، وإن جعلتها اسمًا لجهنم، وهو المراد ها هنا لم تصرفها: للتعريف والتأنيث.
يقول: اطلب العز ولو كان في جهنم، واترك الذل ولا تقبله ولو كان في جنان الخلد. من قولهم: النار ولا العار.
يقتل العاجز الجبان وقد يع ... جز عن قطعٍ بخنق المولود
ويوقى الفتى المخش وقد ... خوض في ماء لبة الصنديد
الخنق: خرقة يوقى بها رأس الطفل إذا دهن. والمخش: هو الدخال في الأمور. وروى: المحش بالحاء وهو: الذي يوقد الحرب كأنه آلة ذلك. وخوض: يجوز أن يكون بمعنى خاض؛ مبالغة فيه كطوف، ويجوز أن يكون متعديًا، ومفعوله محذوف، وتقديره قد خوض الرمح، وماء اللبة: الدم. والصنديد: السيد الكريم.
يقول: يقتل العاجز الجبان مع عجزه عن قطع البخنق، ولا ينفعه الحذر والإحجام عن القتال، ويصان الرجل الشجاع الدخال في الحرب، في حالٍ قد خاض ودخل أو أدخل سنان رمحه في دم الشجاع ومثله للأهتم:
وما كل من يغشى القتال بميت ... وما كل من يرجو الإياب بسالم
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذ الجاني وغوث الطريد
يقول: إن شرفي بنفسي لا بقومي، بل هم شرفوا بي، فإذا فخرت فبنفسي لا بجدودي؛ لا لعدم فضلهم، ولكن لزيادة فضلي على فضلهم؛ وهذا كما قيل نفس عصامٍ سودت عصاما ومثله لعلي بن جبلة.
وما سودت عجلًا مآثر قومهم ... ولكن بهم سادت على غيرهم عجل
ثم بين أن لقومه فضلًا على سائر العرب؛ ومع ذلك فهو أفضل منهم، فقال: وبهم فخر كل من نطق الضاد: يعني أنه فخر كل العرب. لأن الضاد مختصة بلغة العرب، وقيل: المراد أن بهم فخر كل ذي فضل، والضاد هي التي في الفضل، وبين أن قومه وجوهٌ بهم عوذ الجاني: إنه يستعيذ بهم. وبهم غوث الطريد: أي بهم يستغيث المطرود.
إن أكن معجبًا فعجب عجيبٍ ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
المعجب: المتكبر. والعجب: الاسم منه، والعجيب: الذي لا نظير له.
يقول: إن تكبرت بما لي من الشرف، فليس إلا لأني عجيبٌ، لا نظير لي في زماني، ولا لأحد مزيدًا علي. وقيل: المعجب الذي لم يجد فوقه أحد.
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
يذكر فضائله، ومفاخره، فيقول: أنا قرين الندى والسخاء وقادر على الشعر، والقوافي، وسمٌّ قاتل لأعدائي وغيظ للحساد، لما لي من الرتبة العالية، والدرجة السامية، من الفضل والكمال.
أنا في أمةٍ تداركها الله ... غريبٌ كصالحٍ في ثمود
قوله: تداركها الله. كقولك: أصلحك الله. وقيل: تداركها الله بالعذاب، فالأولى دعاء لهم، والثانية دعاء عليهم.
يقول: أنا في أمة يصيبني منهم أذى، وطبعي مخالف لطبعهم، وهم لا يعلمون محلي، بل يعاودني فحالي بينهم، كحال صالح بين ثمود، وقد قيل: إنه لقب المتنبي بهذا البيت، حيث شبه نفسه بصالح.
وقال وقد مر في صباه برجلين قد قتلا جرذًا وأبرزاه يعجبان الناس من كبره فقال لهما:
لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا سريع العطب
الجرذ: فأر البيت الكبير. المستغير: طالب الغارة، أو طالب الغيرة وهي الميرة، وصريع وأسير: نصبا بخبر أصبح.
يقول: قد أصبح الجرذ الذي كان يغير في البيوت. أي ينقل الميرة حليف الهلاك، صريع الموت.
رماه الكناني والعامري ... وتلاه للوجه فعل العرب
تلاه: أي ألقياه على وجهه.
يقول: رماه الرجلان وتلاه على وجهه، كما تفعل العرب.
كلا الرجلين اتلى قتله ... فأيكما غل حر السلب
1 / 18
كلا الرجلين: أي كل واحد منهما. واتلى: افتعل من الولاية، أي ولى كل واحد منهما قتله، وحر السلب: خالصه. وغل: أي خان في الغنيمة.
يسخر منها، ويقول: قتلتما هذا الشجاع فأيكما خان في سلبه، ففاز به دون صاحبه، فإني لا أرى سلبه ظاهرًا.
وأيكما كان من خلفه ... فإن به عضةً في الذنب
يقول: أيكما كان من خلفه؟ فإن به عضة في ذنبه، فمن كان خلفه فهو الذي عضه! يسخر منهما بذلك.
وقال أيضًا في صباه ارتجالًا وقد أهدى إليه عبيد الله بن خراسان هدية فيها سمك من سكر، ولوز في عسل:
قد شغل الناس كثرة الأمل ... وأنت بالمكرمات في شغل
يقول: إن الناس شغلهم كثرة الأمل. وشغل الممدوح أبدًا المكرمات وإسداء الإحسان.
تمثلوا حاتمًا ولو عقلوا ... لكنت في الجود غاية المثل
يقول: جعل الناس المثل في الجود لحاتم الطائي، ولو كانوا عقلاء لجعلوك غاية المثل في الجود؛ نك أسخى منه ومن سائر الناس.
أهلًا وسهلًا بما بعثت به ... إيهًا أبا قاسمٍ وبالرسل
تقديره: أهلًا وسهلًا بما بعثت به، وبالرسل إيها أبا قاسم وإيهًا بمعنى كف.
يقول: كف عن ذلك فقد عجزتني عن القيام بشكرك وأثقلت ظهري بمبارك، واستغنيت بما سلف من عطاياك، فلا حاجة إلى المبالغة.
هديةٌ ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
يقول: هديةٌ ما رأيت مهديها، إلا رأيت فضائل الناس فيه مجموعة. فكأنه جميع الناس في المعنى، وهو مأخوذ من قول الحكمي:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واح
روى: العباد والأنام جميعًا.
أقل ما في أقلها سمكٌ ... يلعب في بركةٍ من العسل
أقل: مبتدأ وسمك: خبر. وما: بمعنى الذي، وروى: يلعب ويسبح.
يقول: أقل ما في أقل هذه الهدايا: سمك من اللوز والسكر، في حوضٍ من العسل؛ يشير إلى أن ذلك إذا كان أقل الأقل فكيف يكون ما هو أجل الأجل والأفضل؟!.
كيف أكافي على أجل يدٍ ... من لا يرى أنها يدٌ قبلي؟!
أكافي: أصله الهمز فخففه. وروي: أجازي. ولا همز فيه.
يقول: كيف أجازي على أجل نعمة له عندي، وهو يستصغر العظيم من أياديه، ولا يعتد بها، ولا يراها نعمة عندي، فلا يمكنني القيام بشكره.
وكتب إلى عبيد الله بن خراسان في الطيفورية وقد رد الجامة وكتب على جوانبها بالزعفران:
أقصر فلست بزائدي ودا ... بلغ المدى وتجاوز الحدا
أقصر: أي أمسك عن الإهداء، وفاعل بلغ المدى وتجاوز الحد: ضمير الود.
يقول: أقصر عن الإهداء فلست تزيدني ودًا بزيادة الهدية، فإن ودك عندي قد بلغ المدى وتجاوز الحد، فلا مزيد عليه؛ والأصل فيه الحديث: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ".
أرسلتها مملوءةً كرمًا ... فرددتها مملوءةً حمدًا
الهاء في أرسلتها ورددتها للجامة، التي فيها الحلواء، ونصب كرمًا وحمدًا على التمييز.
يقول: بعثت بالجامة مملوءة كرمًا فرددتها مملوءة حمدًا؛ وذلك أنه كان كتب بهذه الأبيات في جوانب الجامة وفيها حمد الممدوح.
جاءتك تطفح وهي فارغةٌ ... مثنى به وتظنها فردا
الطفح: الارتفاع، والامتلاء.
يقول: جاءتك هذه الجامة فارغة من الحلاوة، وهي مع ذلك ممتلئة من حمدك، فأنت تظن الجامة فردًا وهي قد انضم إليها هذه الأبيات فهي مثنى بها: أي الأبيات، وروى: مثنى به: أي بالحمد.
تأبى خلائقك التي شرفت ... ألا تحن وتذكر العهدا
يقول: إن أخلاقك الشريفة تمتنع وتكره أن لا تشتاق إلى مثل صنيعك في إنفاذ الهدية وألا تذكر العهد بإنفاذ الهدية، فكأنه يستعيد مثل هذه الهدية التي بعث بها إليه.
وقيل: ألا تحن إلى أصدقائك.
لو كنت عصرًا منبتًا زهرًا ... كنت الربيع وكانت الوردا
التاء في كانت: ضمير الهدية. وقيل: ضمير الخلائق.
يقول: لو كنت زمنًا من الأزمان لكنت أطيبها وهو الربيع، وكانت هديتك التي بعثت بها، وخلائقك الشريفة كالورد، في فضله على سائر الأزهار، كفضل الربيع على سائر الأعصار.
وقال أيضًا يمدح عبيد الله بن خراسان وابنيه
أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجدٍّ في الهوى تعس
الأنس والإنس: واحد، وهو جمع أنسي وإنسي والألف: حرف النداء، والتعس: العثور:
1 / 19
يقول مخاطبًا للظبية الوحشية: لولا الظبية الأنسية لما غدوت إلى المنزل الذي كنت فيه، وارتحلت عنها، بجدٍّ عثورٍ في هواك.
وخاطب الوحشية لشبهها بالأنسية، أو لأن الموضع صار مألفًا للوحش، أو ليدل على أن الوحش يألفه بملازمة الفلوات.
ولا سقيت الثرى والمزن مخلفه ... دمعًا ينشفه من لوعةٍ نفسي
اللوعة: شدة الحزن. والمزن: السحاب الأبيض. والثرى: التراب. ومخلفة: من أخلف البرق، إذا لم يمطر.
يقول: لولا الظبية الأنسية لكنت لا أسقي ثرى ربعها دمعي، في حال تخلف السحاب فلا يسقيه، ثم بين حرارة نفسه بأنه لحرارته كان ينشف ما يبل الأرض من دموعه، وهو من قول الآخر:
لولا الدموع وفيضهن لأحرقت ... لأرض الوداع حرارة الأكباد
ولا وقفت بجسمٍ مسى ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس
تقديره: ولا وقفت مسى ثالثةٍ بجسم ذي أرسم درس.
يقول: لولا الظبية الأنسية، لكنت لا أقف في رسوم دار هذه المحبوبة الدارسة ثلاثة أيام ولياليها، حتى يصير آخر وقوفي وقت العشية من الليلة الثالثة، من أول وقوفي، بجسمٍ ذي أرسم دارسة: نحيلٌ شبيه بالأرسم الدارسة من منزل المحبوبة، ويكون المراد بمسى ثالثة تقديره أيام وقوفه عليها.
قال ابن جنى: ولا يجوز أن يريد به أنه وقف بعد ثلاثة أيام من غيبوبتها عن الدار، لأنها لا تصير دراسة بثلاثة أيام.
وقيل: إن ذلك أيضًا جائز، لأن ديار الأعراب لا تكاد تسلم من الدروس لأول ريح تهب فتسفي عليها التراب من جهة، وتطم آثارها، وإن وافقها مطرٌ كان دروسها أدعى.
صريع مقلتها سئال دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
صريع وسئال وقتيل: منصوبة على الحال، من وقفت، والدمنة: ما اسود من آثار الدار كالأثافي ونحوها، واللعس: حمرةٌ في الشفة تضرب إلى سواد، فوق اللمى.
يقول: ظبية الإنس لما وقفت صريع مقلتها سائلًا آثار دارها متعللًا بذلك، قتيل تفتير أجفانها وقتيل اللعس الذي في شفتيها.
خريدةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت ... ولو رآها قضيب البان لم يمس
الخريدة: الجارية الناعمة. وقيل: الحيية. ولم يمس: أي لم يتبختر.
يقول: هي جارية ناعمة حيية حسنة معتدلة القامة، لو رأتها الشمس ما طلعت؛ خجلًا من وجهها، وإنها وإن طلعت فكأنها لم تطلع؛ من حيث لا يبين نورها لنور هذه الظبية الأنسية، ولو رآها غصن البان لما تبختر؛ خجلًا من اعتدال قامتها.
ما ضاق قبلك خلخالٌ على رشإٍ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس
الرشأ: الغزال، والكنس: بيت الظبي، وروى على كنس، وهو صفة الظبي، أي ذي كنس.
يقول: مارئى خلخال على غزال، ولو رئى لكان لا يضيق عليه؛ لأن رجله دقيقة، ولا سمعت بديباج فوق كناس، وهذه الظبية الأنسية ضاق عليها الخلخال، وغشي بيتها الذي هو الهودج بالديباج وهذا من قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
إن ترمني نكبات الدهر عن كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس
النكبات: جمع نكبة وهي المحنة، وعن كثب: أي عن قرب. والرعديد: الجبان. والنكس: الساقط الخامل.
يقول: إن ترمني محن الزمان من قرب. فقد رمت امرأً غير جبان، ولا ضعيف ساقط، يوهنه رميها.
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدي حافر الفرس
يقول: يا عبيد الله، حاسد بنيك صار فداءً لهم، على وجه الدعاء. ثم قال: بجبهة العير يفدي حافر الفرس: أراد به أنهم كرام وحسادهم لئام، فهم فداء لهم، كما يفدي حافر الفرس، وهو أحسن خلقةً بجبهة العير. وهي: أي الجبهة أعلى الأعضاء.
وقيل: جعل أبناء الممدوح منه، بمنزلة الحافر من الفرس، وجعل الممدوح بمنزلة أعلى الفرس، وجعل حساد أبنائه بمنزلة جبهة الحمار، من سائر الحساد الذين هم كالحمر، فجعل أعلى الأشياء من الحساد فداء لأدنى الأشياء من الممدوح، لأن الابن بإضافة الأب إليه بهذه المنزلة، وهما كما يقال للشيء الخسيس: فداء للشيء النفيس وكبار هؤلاء القوم، فداء لصغار قومك، وأشباه ذلك.
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبًا غير مفترس
أبا الغطارفة: منصوب لأنه منادى مضاف، أو لأنه بدل من عبيد الله أو يكون نصبًا على المدح، والغطارفة: جمع غطريف، وهو السيد، والمفترس، والصائل.
1 / 20