يقول لك قائل إن الشرق في نهضة وإن الأدب في تجديد، فإذا سألته ما هي أظهر مظاهر النهضة الشرقية؟ أو ما هي أظهر مظاهر التجديد في الآداب؟ خرج بك في نظرية إلى أخرى وولج بك من باب إلى باب، من غير أن ينتهي إلى نتيجة محدودة أو غاية معروفة. والحق أن ذلك راجع إلى طبيعة المصطلحات، وهي من طبيعتها قريبة جهد القرب من طبيعة التعاريف والحدود، إذ تتحيز في ذهن كل باحث على مقتضى الآراء التي هي أكثر من غيرها في ذهنه ثباتا وأشد استقرارا.
وقد تدل هذه الفوضى الفكرية على أشياء عديدة، فهي إما أن تدل على اضطراب في الأفكار يخيل إلينا أنه نهضة صحيحة، وإما أن تدل على عجز في أساليبنا الفكرية التي انتحيناها في العهد الحديث يحول بين قوانا المفكرة والكشف عن حقيقة شيء تحيط بنا أسبابه ولا نستطيع تحديده ، وإما أن تدل على نزعة إلى نهضة لم نبلغ بعد أسبابها، وإما أن تدل على أننا أخذنا بأسباب نهضة صحيحة غيرت من أساليبنا العتيقة التي ورثناها عن القرون الوسطى.
لهذا ولكثير من الأسباب أشعر بعبء المسئولية إذ أحاول أن أكتب في أظهر مظاهر النهضة الشرقية خلال الخمسين الفارطة من السنين، وما يرجع شعوري بهذه المسئولية إلى شيء مثل رجوعه إلى الاعتقاد بأننا محتاجون إلى تحديد معنى النهضة تحديدا دقيقا قبل أن نحاول الكتابة في أظهر مظاهرها.
على أنه من الجائز أن أحدد النهضة تحديدا يخالفني فيه كثير من الكتاب والباحثين، غير أني على أية حال لا أستطيع أن أعدو القاعدة قبل أن أفكر في موضوع كثر فيه الجدل واختلفت فيه وجهات النظر اختلافا كبيرا، فلست أجد في استطاعتي أن أحدد معنى النهضة تحديدا يبعد عن مقتضى ما توحي إلي به أشد الآراء في ذهني استقرارا وأكثرها ثباتا، وما أجد في ذهني اليوم من الآراء ما هو أشد ثباتا من رأيين: الأول أن النهضة لن تحدد بأكثر من أنها تغير من الأساليب على مقتضى الحاجات العامة التي تحيط بالجماعات، والثاني أن تغير الأساليب من مجموعها وجزئياتها يجب أن يساير سنن النشوء والارتقاء حتى يصبح أساس النهضة ثابتا بعيدا عن السطوة القائمة على غير أساس طبيعي.
أما إذا حددنا النهضة على مقتضى هذا الرأي وتساءلنا: أمن نهضة في الشرق؟ لم يسعنا إلا أن نسلم بأن الشرق الأدنى قد أخذ بأسباب نهضة كبيرة تناولت كثيرا من الأساليب العتيقة التي ورثناها عن القرون الأولى، غير أننا بجانب هذا لا ننسى أن نذكر أن تغير أساليب الفكر العلمي والأدبي في الشرق بأجمعه لا تزال في درجة فاتها فيها كثير من الأساليب الأخرى التي تكون مهيئات النهضة العامة. أما إذا تساءلنا: هل ماشت أساليب النهضة على مقتضيات النشوء والارتقاء؟ فإننا لا نستطيع أن نجيب جوابا يرضي نزعة المتفائلين، فإن الفوضى التي نرى بواعثها محيطة بنا ليس لها من سبب إلا أننا لم نماش روح النشوء والارتقاء في تهذيب الأساليب القديمة وبناء الأساليب الجديدة. لهذا نقول بأننا في عصر انتقال، وما عصر الانتقال لدى الواقع إلا عصر تتهدم فيه أساليب عتيقة لتحل محلها أساليب مستحدثة، من غير أن يكون لقواعد النشوء والارتقاء نصيب في الهدم والبناء.
نخلص من هذا بنتيجة محصلها أننا بدأنا بنهضة، أو بالأحرى أننا في غمرات نهضة، أثر النشوء والارتقاء في بناء أساليبها الجديدة وتهديم القديمة ضئيل، وأن ذلك هو السبب الأوحد فيما يغشى نهضة الشرق من الفوضى الاجتماعية، بل إننا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا السبب هو الذي يجعل يقيننا بمستقبل النهضة متراوحا بين التشاؤم والتفاؤل والشك واليقين.
الأساليب مثل تقبض على زمام الشعوب بخناق وتأخذ الجماعات، وعلى قدر ما يكون في تلك المثل من الرقي أو الفساد تكون منزلة النهضة التي تقوم على تلك الأساليب بمقتضى الضرورة، فأي الأساليب انتحت أمم الشرق الأدنى فيما نسميه بنهضتها الحديثة؟ وأي أسلوب من تلك الأساليب العديدة كان أبعد غورا في تصوراتها ومشاعرها فكان بالاستتباع أبلغ أثرا في تكوين نهضتها؟ ولا خفاء أن الجواب على هذا السؤال يسلم بنا إلى الحكم في مظاهر النهضة الشرقية أيها كان أمعن في التصور العام تغلغلا وأثبت في هز النفوس نحو النهوض يدا.
وأما إذا تساءلنا هل تورث أساليب الفكر والحضارة كما تورث الصفات العضوية من السلالات القريبة الأنساب؟ لما وسعنا إلا أن نقول بأن أساليب الفكر لا تورث، وما يدلك على شيء من حقيقة هذا الرأي مثل نظرك في وراثة العرب عن العالم القديم، فالعرب ورثة الرومان، والرومان ورثة اليونان. غير أنك تجد أنه بقدر ما كان في الأساليب السياسية والاجتماعية الرومانية من أثر الحضارة اليونانية، تجد أن حضارة العرب كانت أقل الحضارات تأثرا بالأساليب الرومانية واليونانية، ولعل السبب في هذا أن مدنية العرب قد تأثرت بدعوة جديدة قامت على أساليب مغايرة تمام المغايرة لما سبقها من الأساليب. وليس لنا أن نبحث الآن فيما كان من أثر هذه الدعوة في الحضارة العربية، وإن كان إجمال القول فيها ينزع بنا إلى الاعتقاد بأنها كانت ضررا، وأن ضررها قد ظهرت صوره بارزة في كل صفحة من صفحات التاريخ العربي.
ويكفي عندك أن تنظر في الفرق بين أساليب الحكم والقانون في مختلف هذه المدنيات، تجد أن الرومان قد تأثرت أساليبهم بأساليب اليونان السياسية أكثر مما تأثرت قوانينهم، وأن العرب كانوا أبعد كل الأمم الحديثة عن التأثر بشيء من روح تلك الأساليب.
وليس لي أن أستطرد في الشرح والبيان، وإن كنت كثير الشوق إلى الإفاضة في هذه المقارنات التاريخية التي تظهرنا على حقيقة السبب الذي قعد بأمم الشرق عن مجاراة الأمم الغربية في انتجاع الأساليب التي أسلمت بها إلى حضاراتها الحديثة، لهذا نمضي في بحث موضوعنا قانعين بأن أبين مظاهر النهضة في الشرق القريب هو تغلغل روح القانون الروماني وأنظمة الرومان السياسية، وذلك في معتقدي أعظم ما ورث العالم الحديث عن أسلافه الأول، وأهم ما أدمج في تضاعيف الأساليب الحديثة المسايرة لمقتضى الحاجات الاجتماعية التي تحيط أسبابها بأمم الشرق في هذا الزمان. •••
صفحه نامشخص