الإهداء
معضلات المدنية الحديثة
النسبية
أساس الحضارة المقبلة
ماهية التاريخ
ماكس نورداو
دلالة الشعر على روح العصر
عبث الحياة
كشف الستار عن سر الأسرار
خداع الطبيعة
النهضة الشرقية الحديثة
طابع المدنية الحديثة
يعقوب صروف
فلسفة الانقلاب التركي الحديث
الإهداء
معضلات المدنية الحديثة
النسبية
أساس الحضارة المقبلة
ماهية التاريخ
ماكس نورداو
دلالة الشعر على روح العصر
عبث الحياة
كشف الستار عن سر الأسرار
خداع الطبيعة
النهضة الشرقية الحديثة
طابع المدنية الحديثة
يعقوب صروف
فلسفة الانقلاب التركي الحديث
معضلات المدنية الحديثة
معضلات المدنية الحديثة
تأليف
إسماعيل مظهر
الإهداء
إلى والدتي
إليك يا أماه أهدي هذه الصفحات، وهي أثر من آثارك، وبقية من فضلك، فإن كان فيها أثر من استقامة الفكر، أو علالة من طيب النزعة، فتلك حشاشة من نفحاتك، وفضلة من نفثاتك، وإن كان فيها ما يذم، فذلك من أثري وفعل بيئتي.
إلى روحك الطاهرة النقية، وإلى ذكراك الباقية الزكية، بل إلى ذكرى الآلام التي تحملتها في سبيل أن أكون رجلا، أهدي هذا الأثر الضئيل، طامعا في عفوك، ملتمسا غفرانك، مستدرا عليك الرحمة والرضوان.
معضلات المدنية الحديثة
في المباحث الحديثة نزعة غير مرغوب فيها تجيز الخلط بين منتجات العقل البشري، فإن العلوم والآداب والفنون ثلاثة أشياء لكل منها حيزها الذي تستمد منه في كفاءات العقل الإنساني: فالعلم هو ما بلغ حد اليقين الثابت في مجموعة من المقدمات تصح نتائجها في كل الحالات وتحت تأثير كل ظرف من الظروف، والآداب كل ما تناول النظريات التي تحتاج إلى برهان يثبت صحتها، مضافا إلى ذلك الصناعات الأدبية بفروعها، والفنون كل ما استمد من التصور والخيال. فالرياضيات التي يرجع فيها إلى حساب العدد، والفلك الذي يرجع فيه إلى الرياضيات وإلى قياس الحركة، معتبرة من العلوم، بل قد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنها كل ما أنتج العقل الإنساني من العلوم حتى اليوم. والاجتماع ومباحث الأنثروبولوجيا وما إليهما من المباحث لا يمكن أن تعد علوما، كما أنها لا يمكن أن تعتبر من الآداب، فهي بحكم هذا علوم لا تزال في طور التكوين. أما الآداب والفنون فمنزلتان تبعد أولاهما عن العلوم بقدر ما تبعد الفنون عن الآداب.
نقدم بهذه الديباجة لأننا سنتناول الكلام في معضلات المدنية الحديثة من الوجهة الاجتماعية، والاجتماع علم لا يزال في طور التكوين، ظهرت بوادره في مؤلفات هردر التي وضعها في فلسفة التاريخ، وتطور في يد فولتير تطورا أسلم إلى أهل القرن التاسع عشر فكرات تركزت في عقل الفيلسوف أوغست كونت بما أبرز لنا البدايات الأولية في المباحث الاجتماعية.
بدأ علم الاجتماع أشواطه الأولى بالنظر في الجماعات الإنسانية نظرا سطحيا صرفا، فكان علما وصفيا تناول طبائع الشعوب وعاداتها ونظاماتها المدنية والأهلية والسياسية، ولكنه لم يبحث في كيفية نشوء هذه النظامات إلا بعد أن وضعت علوم الحياة على أساس من التجاريب العلمية، أفسحت للمباحث الاجتماعية سبيل النظر في الأسباب التي كونت الجماعات الإنسانية الأولى والأسباب التي ساقت إلى تطورها ونشوئها، فكانت هذه المباحث خطوة كبيرة خطاها علم الاجتماع متدرجا في تلك السبيل التي لا بد من أن تسلم به يوما لأن يكون من العلوم اليقينية الإثباتية بقدر المستطاع.
أكتب هذا بعد أن فرغت من قراءة كتابين في الاجتماع الإنساني: أولهما كتاب تاريخ النشوء الاجتماعي للدكتور مولر ليير الألماني، والثاني كتاب الفساد والتجدد الاجتماعيان للدكتور أوستن فريمان الإنجليزي. والمؤلفان على جانب عظيم من الكفاءة والقدرة على البحث في معضلات الاجتماع العملي، وكلاهما واسع الاطلاع على معضلات علم الحياة (البيولوجيا) قوي الحجة في التدليل، ثاقب النظر في الاستنتاج، ثابت القدم في الاستقراء، لهذا تجد أن اختلاف نظرهما في النتائج التي وصلا إليها يحدث في نفسك أثرا قويا يحملك على الاعتقاد بأن المدنية الحديثة لم تصبح حلا موافقا لطبيعة الإنسان خرج به من ظلمات الوحشية الأولى التي كانت تقف حائلا بينه وبين الارتقاء، بل تعتقد أن هذه المدنية أصبحت بذاتها وعلى نظاماتها الحاضرة معضلة كبرى تسوق بالنوع الإنساني سعيا في مدارج الانحطاط والفساد.
إن النظرة التي ينظرها رجل العلم الصرف في حالات الاجتماع مختلفة تمام الاختلاف عن نظرة الرجل السياسي، كما أنها تختلف عن نظرة المصلح الاجتماعي، فإن المتضلع من علم الحياة (البيولوجيا) لا يفكر إلا في القرون واللانهاية، ينظر في المستقبل وينظر في الماضي على نمط يكفي لأن يسقط أقوى السياسيين تمكنا من عبادة الجماهير، فإن السياسي لا يهمه من شيء في الحياة إلا أن يرقب من أين تهب رياح الجماهير في الغد، ولكنه لا يحفل بالتفكير فيما سوف يحدث في المستقبل، قريبا كان أم بعيدا. كذلك يعتقد رجل العلم أنه لن يستطيع أن يغزو الطبيعة ويتسلط عليها إلا إذا مضى مطيعا لنواميسها، وهو لن يعتقد أن الطبيعة البشرية يمكن أن تتبدل أو تتغير متطورة، حتى في خلال عشرة قرون متوالية، إلا إذا تعهدتها يد الانتخاب الطبيعي؛ تنتقل بها من درجة ارتقائية إلى درجة أخرى على تتالي الأجيال، فإن رجل العلم لا يؤمن بشيء إلا بما توحي إليه به مبادئ العلوم الثابتة التي هو عاكف على درسها وبحثها، هو لا يخاطب العواطف ولا الشعور ولا المعتقدات التقليدية التي يمضي عليها الناس عاكفين، بل يناجي أبا الهول الرابض في فلوات العالم المجهول، هو يناجي النواميس العنصرية التي لن تكذب ولن تموه، تلك النواميس التي تتحكم في مستقبل الأمم والشعوب والأنواع والسلالات المختلفة، كما تقتضي سننها الخالدة الثابتة، تلك السنن التي إذا سايرت الأحياء مقتضياتها تطورت وارتقت، وإذا صادمتها واعترضت طريقها اضمحلت وفنيت.
على أن العلم لم يصل بعد إلى درجة من التأثير تمكنه من أن يشكل معتقدات الشعوب العملية في الحياة على صورة ما؛ لأنه ظل طوال العصر الماضي بعيدا عن التأثير في ميدان السياسة، مقصيا به عن المشاعر بتأثير الدين. غير أنك تجد اليوم أن كل ما قام في رءوس الناس من محاولة التوفيق بين العلم وبين تقاليد أهل اليقين قد أهمل وترك في زماننا هذا، بل إن شئت فقل: قضي عليه قضاء تاما، فإن العلم على الرغم مما يثبت فيه إقدامه من ميادين العمل الصرف، لم يؤثر أي أثر في ثبات المعتقدات الدينية بصفتها عاملا نشوئيا في تطور الشعوب. نزع العلم نزعته المادية الصرفة عندما أخذ يقاوم الأساطير والخرافات التي استمكنت من عقول الناس أزمانا متطاولة عريقة في القدم، لكنك تجد أن العلم منذ أن حرر نفسه من أثر الأساطير ومعتقدات أهل اليقين، أخذ يخطو قدما بعد قدم نحو الفلسفة، وأخذ ينتفع بكثير مما ذاع في أواسط القرن الثامن عشر من مذاهب الفلسفة المثالية في ألمانيا وفرنسا. كذلك تحولت الموقعة من تناحر بين العلم والدين إلى شجار قوي قائم بين العلم وبين النزعات الثورية التي تجفل من حكم العقل، والتي تعمل بكل ما في مستطاع القوة أن تؤثر إفسادا في الجماعات الإنسانية وتحليلا من وحداتها المتجانسة، ولهذا تجد أن القائمين بغرس بذور الثورات الحديثة غالبا ما ينفرون من ذكر العلم والعلماء، عاملين بأقصى مستطاعهم على هدم نتائج العلم التي يخرجها المؤمنون بموحيات العقل؛ نابذين موحيات المشاعر؛ لأنهم في ثورتهم هذه لا يقومون في وجه النظام الاجتماعي القائم وحده، بل يثورون ضد القانون الاقتصادي وضد الجمعية البشرية، ككائن عضوي يرجع بنشأته إلى أعرق العصور قدما.
ومع كل هذا، وعلى الرغم من التطورات العظيمة التي انتابت الفكر الإنساني في خلال القرنين الفارطين، تجد أن ميول الرأي العام لا تنفك مؤثرة في مباحث العلوم بما يعوق خطاها المنبعثة في سبيل التقدم والاستكشاف العلمي، ولا مناص لنا من القول بأن أشد الباحثين استمساكا باستقلال رأيه وأكثرهم تقديرا واحتفاظا بحرية تفكيره لا يمكن أن يخرج عن حكم الزمان الذي يعيش فيه والمؤثرات التي تتناوح رياحها من حوله، فهو على الرغم من كل هذا صنيعة نشأته وعبد بيئته، فإن ذلك الحلم اللذيذ الذي استقوى على الفكر الفرنسوي في أواخر القرن الثامن عشر، حلم أن الإنسان مستعد بطبعه إلى بلوغ درجة الكمال؛ قد تحيز في عقول الباحثين بحيث أصبح المعتقد أن النشوء والارتقاء قانون الطبيعة الثابت، وكانت مباحث «لامارك» الفيلسوف الفرنسوي الكبير مؤيدة لهذه الوجهة من النظر الطبيعي. فلما أن انقلبت أساليب الحياة الحديثة في أوروبا عامة وفي غربيها خاصة، من حياة الهدوء والسكينة التي ألفتها الجماعات هنالك طوال القرون الوسطى، إلى الحياة الاقتصادية الحديثة التي غشت أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر بحياة الإنتاجية الصناعية؛ وجد الناس في مبدأ التناحر على الحياة الذي وضعه العلامة «داروين» أكبر نصيب يرضي النزعة الحديثة في الذهاب بالمنافسات الاجتماعية إلى أبعد حد مستطاع؛ ليخلص كل شعب من الشعوب بحظه من الحياة، على قاعدة أن الحياة عبارة عن تناحر يؤدي من طريق الانتخاب الطبيعي إلى بقاء الأصلح، على هذا المبدأ الذي أساءت الجماعات فهمه وأساءت تطبيقه سارت المدنية الحديثة وعليه تسير. (1) تاريخ النشوء الاجتماعي
يتخيل الدكتور مولر ليير النوع البشري خارجا من بداياته الفطرية الأولى حيوانا منحط الصفات دنيء النشأة ماضيا في سبيل النشوء والارتقاء درجة بعد درجة وحالا بعد حال، متنقلا من صورة إلى أخرى من صور الحياة، كان الإنسان في تلك الحال جاهلا كل الجهل ما ينتظره من ضخامة المستقبل الذي هيأ له القدر أن يساق في سبيله، غير أنه مرت على الإنسانية في حياتها الأولى فترات أدرك فيها الإنسان حقيقة الخطوة التي هو ماض في سبيلها، وعدت قوة إدراكه على حالته اللاشعورية الأولى فأدرك أن له وجودا وأن له مستقبلا. ومنذ ذلك الحين تبدل الإنسان من الاستهداء بقوة غرائزه بالاستنارة بقوة عقله ومداركه، وتبدل من حالة الجبر الغريزية بحالة الاختيار الإدراكية؛ فأصبحت كل أفعاله قصدية غائية، بعد أن كانت فطرية لا إدراكية لا أثر فيها لقصد معروف ولا غاية مرسومة، وكبر عنده الأمل في أن يصبح يوما ما قادرا على أن يضبط مناحي تقدمه وأن يتحكم في درجات ارتقائه. غير أن هذا الأمل لم يتحقق حتى اليوم، ولن يمكن أن يتحقق قبل أن نفقه تلك السبل المشعبة التي مضى فيها النشوء الاجتماعي متدرجا في عدد من الحلقات المتباينة. على أن دكتور ليير ليعتقد بأن هذه الحلقات يمكن استكناهها، وأننا إذا وقفنا على حقائقها وطبيعتها استطعنا أن نتخذها مطالع نرقب منها المستقبل. وهو يمضي في كل بحثه منتحيا هذا المنحى متبعا وحي هذا القول في تفسير حادثات التاريخ الاجتماعي؛ فهو يحصر بحثه في التطور الاقتصادي والأسرة والحكومة والعقل الإنساني والآداب والعدل والفنون، ويمضي في كل هذه الأبحاث فائضا بآيات من الحق بينات؛ ليؤيد نظريته هذه من كل ناحياتها.
يعتقد دكتور مولر أن التهذيب العقلي حركة ارتقائية في مستطاعنا أن نتتبع آثارها منذ أن بدأ الإنسان في الظهور فوق هذه الأرض متطورا عن الحيوانات الأدنى منه في سلم الطبيعة نسبا، فإن استكشاف طرق التفاهم بالكلام واستحداث النار واستعمال الآلات ثلاث حوادث كبرى يمكننا أن نعدها من بين الأشياء التي وضعت حدا فاصلا بين عهدين متباينين مر بهما الإنسان في سرى تطوراته العديدة، فإن استعمال الآلات قد زاد عندما انتقل الإنسان من العصر الحجري إلى العصر النحاسي مارا بالعصر البرونزي إلى عصر الحديد، ولقد استقر عصر الحديد على مدنية الآلات الصناعية التي نستعملها في هذا العصر، على أنها مدنية حديثة كفى أن نعرف من حداثتها أنها لم تبدأ في إنجلترا - وهي عنوان الإنتاجية الصناعية القائمة على استعمال الآلات الحديدية - إلا منذ مائة وخمسين عاما لا غير؛ حيث نماها هنالك وأسس قواعدها عدة استكشافات متتالية كان من نتائجها إحداث ذلك الانقلاب الصناعي الذي تقوم عليه مدنية القرن العشرين. ولقد ترى أن كل الجهود الآلية التي تحتاج إليها الصناعات المختلفة آخذة في سبيل التحول من الاعتماد على عضلات الإنسان إلى الاعتماد على قوة الآلات الميكانيكية المركبة، حتى قال دكتور ليير في ملاحظة فيها كثير من الروعة والجلال إن نبوءة أرسطوطاليس كادت تتحقق في زماننا هذا، إذ قال في كتاب السياسة: «إذا أصبح من الممكن أن تعمل أكرة المنسج من تلقاء نفسها وإذا أمكن أن يتحرك منقر القيثارة والزيثار من تلقاء ذاتهما؛ لم يصبح هنالك من حاجة إلى العبيد ...» غير أنه يرى أن نشوء النظام الاجتماعي لم يساير تقدم الفنون العملية، ولم يساو ارتقاء الحياة الاقتصادية عامة، ولهذا ترى أن العمال الذين يعيشون من كد سواعدهم تلقاء أجورهم لا يزالون في حالة أشبه بحالات العبيد المسترقين تماما، وهذه أكبر دلالة عند دكتور مولر على أن عصر الآلات المدني لا يزال في بدايته؛ لم يدرج بعد من حجر الأيام.
ولقد أظهر من بعد ذلك أن نظام الرأسمالية قد نما وتكثر في ظل الإمبراطورية الرومانية، وأن الثروات الفردية كانت تحت حكم هذه الإمبراطورية أكبر قيمة وأعظم كمية منها في كل الأزمان التي تقدمت القرن التاسع عشر، ولكن أساس هذه الثروات كان قائما على جهد العبيد لا على الآلات. وكان يحسن بدكتور مولر أن يقول من بعد ذلك بأن تقدم الآلات وارتقاءها قد عاقه ووقف في سبيله نظام الرق واستعمال العبيد، وعلى هذا يلاحظ مستنتجا أنه كلما كان يفيض مد العبيد في روما كانت تنحط الإنتاجية؛ لأن القدماء لم يكن من عاداتهم أن يناسلوا العبيد بعضهم من بعض في مرابط (كمرابط الخيل) كما يفعل في هذا العصر المستنبتون في ولايات أمريكا الجنوبية، وبذلك يمكنهم أن يزيدوا من عدد العبيد محتفظين منهم بعدد تتزايد نسبته الرياضية جيلا بعد جيل. ومنذ ذلك العهد الذي تحطمت فيه الإمبراطورية الرومانية الغربية، حتى العصر الذي وقعت فيه ثورة الانقلاب الإنتاجي؛ كانت الرأسمالية ضعيفة الأثر ضئيلة القوة مشلولة الساعد، فإن الكنيسة لم تهمل ساعة واحدة أن تشن عليها الغارة تلو الغارة، وتنازلها في موقعة تلو موقعة، كما أن نظام القطائع لم يوسع لها مجال التكثر والازدياد، والسبب في هذا راجع إما إلى أن الرغبة في الكنز والاستجماع كانت في طبائع الناس خلال القرون الوسطى أضعف مما هي في العصور الحديثة، وإما أن الظروف التي كانت تجعل استجماع الثروات المالية أمرا مرغوبا فيه لم تكن متوافرة في ذلك الزمان.
ولا يذهب بك دكتور ليير بعيدا، بل يعود بك إلى سنة 1825 ليذكر لك أن أسطول «بريمن» - وهي ميناء في شمال ألمانيا - لم يكن في تلك السنة ليزيد من حيث حمولة الأطنان على شحن باخرة واحدة من البواخر التجارية التي تمخر الآن عباب البحار. ومن قبل أن يستخدم البخار ليقوم مقام عضلات الإنسان والسوائم في إيفاء الصناعات بما تطلب من قوة، كان السواد الأعظم من العمال عبارة عن مجموع من مهرة الصناع الذين يعتمدون على حنكتهم الذاتية وفنهم الشخصي، وكان كثير من الأسر في مستطاعها أن تعيش منفردة من غير احتياج إلى مساعدة غيرها معتمدة على قوة الابتكار في أفرادها ومرانهم على العمل والإنتاج، مكفية شر الحاجة مستقلة تمام الاستقلال في كل مرافق حياتها، فلما أن أدركت مدنية القرون الوسطى ثورة العصر الاقتصادي، كانت الخطوة نحو التغاير والانقلاب مقدورة على المتاجر القديمة التي نمت على مر القرون ونشأت كصناعات يدوية أولا؛ ثم تلتها المتاجر الحديثة كتجارة المطاط والسكر والأعمال الكيماوية ثانيا؛ ثم خروج اليد العاملة من صناعات الغزل والنسيج والدباغة وصناعة لبنات البناء والفخار ثالثا؛ وهي صناعات ظلت آلافا من السنين عبارة عن صناعات منزلية عادية. ومن ثم اختفت الأسرة المعتمدة على ذاتها المكفية شر الحاجة إلى غيرها المستقلة في إنتاجها؛ من عالم النظام الاجتماعي؛ لأن معامل الإنتاج الحديثة أخذت تحشد العمال حشدا، وتوارت عن الأعين الأكواخ القديمة بمعداتها، من مطبخ ومعمل وحديقة، وعلى الجملة - كما يقول دكتور ليير - إن الإنتاج الفردي قد أفسح المجال للإنتاج التعاوني، كما هدم مبدأ اقتسام العمل حياة الصناعات اليدوية، وقضى على الفنان المنتج المستقل بذاته، فأصبح بذلك نجاح العصر الرأسمالي بمقتضى هذا النظام قائما على ازدياد مقدار الصادر والوارد في التجارة.
يمضى دكتور مولر في مباحثه هذه شديد الاقتناع ثابت اليقين في مبدأ من مبادئ الفيلسوف «عمانوئيل كانت»، إذ يقول: «إن أوجه التقدم كلما ازدادت سرعة قصرت صورها»، فهو لهذا يعتقد أن الصورة الاجتماعية التي نعيش نحن اليوم مكتنفين بآثارها خاضعين لنظاماتها ستكون أقصر عمرا من الصور التي تقدمتها؛ فإن حالات الاندماج والتخالط، وعلى الأخص بين رأس المال والعمال، تزداد حدوثا، والإنتاج الاشتراكي الذي تلجأ إليه بعض الحكومات في بعض الظروف يزداد أهمية وخطرا. وما منع الناس من تجربة التساكن التعاوني إلا قوة المحافظة في نظام البيت الاقتصادي، على الرغم من أن التساكن التعاوني يعوض على النساء كثيرا مما يسرفن فيه من قوتهن العملية. غير أنه يعتقد أن الصعوبة التي تحول دون إخراج مثل هذه المشروعات من حيز النظر إلى حيز الفعل، محصورة في حساسيتنا الاجتماعية التي أصبحت فينا من المشاعر الوجدانية بحكم تراكم الطبقات الاجتماعية المقسومة في مراتب تفضل إحداها الأخرى، وفي ذلك الميل المؤصل في فطرة كل أسرة من حب المعاشرة لطبقات خاصة.
غير أنه يستحيل على الإنسان أن لا يشعر بحزن عميق صادق كلما ذكر أن الإنسانية فقدت المهارة اليدوية في الصناع الفنانين بحكم ذيوع الإنتاجية الميكانيكية، فإن الهمج المتوحشين يحاولون دائما أن يعرفوا من الرواد الذين يغشون مرابضهم عما إذا كانوا هم الذين صنعوا آلاتهم ومعداتهم بمهارتهم اليدوية، ويدهشون إذا صارحهم أحد منهم بأنه لا يستطيع أن يصنع شيئا منها، ولقد ذكر أحد السياح الإنجليز أنه رأى في جزائر تاهيتي أن الآهلين يمكنهم أن يصنعوا بيتا من الأغصان وأوراق الشجر، وأن الكساء يصنع خلال نزهة قصيرة يقضيها الهمجي باحثا وراء الثمار في غابة من الغابات، وقد تستولي على هؤلاء الهمج الحيرة والعجب إذا ما سمعوا بأن البريطاني المتمدين يضطر حكومته لأن تنفق ألفا من الجنيهات تبذلها من جيب دافع ضرائبها لتعد له بيتا يسكنه، وأنه يضطر إلى البقاء أشهرا بلا مأوى قانعا حتى يتم بناؤه. وفضلا عن هذا فإن الإنسان في حالته الطبيعية الأولى يمكنه أن يختار شكل المعيشة التي تلائمه وأن يشغل نفسه فيما يستخدم فيه كل قواه بالتساوي، فيحرك أطرافه كما يريد، وينبه قوة الملاحظة في خلايا مخه، ويستجمع قواه العقلية ليدرك ما هو بعيد عن إدراكه كما يشاء، على العكس من الحالة المدنية في عصر الإنتاج الميكانيكي، فإننا لا ننمو إلا من ناحية واحدة، فنصبح عبيد العمل لا أسياده المتحكمين فيه، إذ يقضي أحدنا العمر يحفر أو يخرز أو يطلي أو يكتب أو يلاحظ آلة ميكانيكية، في حين أنك تجد أن صيد السمك أو القنص البري، وهي من أولى الأشياء التي يعكف عليها الهمج، أصبحت في مدنيتنا الحديثة من الملاهي التي ينعم بها ذوو اليسار. •••
لا يبغض الدكتور مولر ليير من شيء أحدثته الإنتاجية الميكانيكية في المدنية الحديثة أكثر من تلك النزعة التي أنبتت في النفس الإنسانية ما يسميه «البليونكسيا
»، وهي كلمة إغريقية معناها الطماعية والجشع، فإن هذه النزعة قد خلقت عالما محوطا بالصعاب، محفوفا بالمخاطر، مشئوم الطلعة على الإنسان، بغيض النتائج، عالما تنحصر الفكرة المستمكنة من عقول أفراده في أن الإنتاجية الصناعية هي كل الغرض من الحياة، وأن الزمان عبارة عما يقاس بالكسب المادي، وهذه الطريقة «الأمريكانية» - كما يقول الألمانيون - قد غزت أمم الغرب، وتمكنت من أخلاقهم، وانتشرت بينهم انتشار وباء مجتاح، وهي على الرغم مما تبث في الجماعات من نشاط يفوق تصور الإنسان، بل يفوق مقدرته، وفضلا عن أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بما تبعث في الأنفس الخاملة من حب العمل والكسب؛ فإنها لم توفق إلى إحداث حالة تزيد من سعادة الإنسان ورفاهيته، بل على الضد من ذلك لم تزد إلا من دناءات الحسد والغيرة الممقوتة.
والحقيقة أن التهذيب العقلي لم يزد نصيب الأكثرية من سعادات الحياة، بل أنقصها، وجعل حظها أتعس مما كان، فإن الإنسان في حالاته الفطرية الأولى كان ذا قدرة على أن يستخدم كفاياته بما يقتضيه ذوقه وترضى عنه ألفة حسه، كان بعيدا عن المفاجآت والمغامرات، مكفيا شر التفكير في المستقبل، راضيا بما قسم له، قانعا بما بين يديه. في حين أنك ترى في الجماعات التي بلغت أرقى حد من الإنتاجية الصناعية، أن جموعا من الناس قد حشدت في معامل خصص فيها العمل تخصيصا حوط العاملين بسياج من الواجبات والقيود لا ترى لها من سبب إلا حب العناية بالإنتاج أو الاستغراق في الطماعية والجشع الذي يملأ نفوس المنتجين، وكل هذا لا يخلق إلا جوا من الاضطراب والقلق يرضى به الإنسان المتمدين مقسورا عليه، في حين أن الهمجي المتوحش لا يتصور أن يحوط بجو مثله إلا وملء نفسه الجزع والاستكراه.
مع كل هذا يعتقد دكتور ليير أنه لا مفر من النتائج التي تترتب على هذه الحال؛ لأن الجماعات التي بلغت من رقي النظام الاجتماعي أبعد مبلغ، هي التي تحوز أكبر قسط من فرص البقاء، بينا تجد أن حظ الفرد في مثل هذه الجماعات لا أثر في صد هذا الأسلوب الاجتماعي عن الانبعاث في سبيله المحتوم، خذ لذلك مثلا من حالة الجماعات في حياتها الفطرية الأولى، فإن أمة تتخذ استرقاق العبيد صناعة، ويكون في مكنتها أن تعكف على مزاولة فن الحرب أكثر من غيرها؛ تكون أقوى ساعدا وأشد بطشا من أمة تزاول مهنة الزراعة والاستنبات، كذلك الحال في الجماعات الحديثة، فإن أمة تزج بالأكثرية من أبنائها في غمرات نظام إنتاجي تبعد أحكام اقتسام العمل فيه عن مقتضيات الطبيعة أشد بعد، تستطيع أن تتفوق، لا بل تستطيع أن تفني أمة عكفت على وسائل في الإنتاج أدنى إلى موحيات الفطرة، وأبسط نظاما، وإن كانت أجمل نسقا، فإن القوات العنصرية العمياء تتطلب الكمال في النظام الاجتماعي، أكثر مما تؤيد مصلحة الفرد، على أن هذا الأسلوب قد بلغ بين الجماعات الحيوانية مبلغا نراه قصيا، فإن خلية النحل تزودنا بدرس كامل في الاشتراكية الحكومية التي وصلت إلى أقصى حد من النظام، بل بلغت بالتطور أرقى النتائج المنطقية.
يقول دكتور مولر بعد هذا: إن النوع الإنساني ثائر ثورة حقة ضد هذه الحال، فإن صرختي «الفردية» و«الاشتراكية» ليستا إلا تعبيرين ينمان عما يتطلب النوع البشري من السعادة، أما إذا أردنا أن نحلل طبيعة هاتين الفكرتين المتضايفتين، وأخذناهما على أن إحداهما تعبر عن نظام الحرية والأخرى عن نظام العمل، اعتقدنا أن كلتيهما متممتان لبعضهما وأنهما ليستا متضادتين. ولا تسقط قيمة الفرد إلا في نظر الحكومات المنظمة لتثير الحروب، فتحت نظام هذه الحكومات تضيع مصالح الفرد، بل وتضحى حياته بلا حساب، أما العلاقات التجارية الدولية فتعمل دائما على أن توحد بين أطراف المدنية المشعبة، فإذا بلغت هذه العلاقات مبلغا كبيرا، فإن الحكومات ينقلب نظامها من نظام قائم على تنظيم قوات الحرب وتضحية المصالح الفردية إلى واسطة تعمل على زيادة رفاهية الناس وسعادة الرعية، وبالأحرى ترتد الحكومات إلى وظيفتها الحقيقية التي تقوم من أجلها أصلا . على أن هذا النظام لا يتحقق قبل أن تسود حالة اجتماعية ثابتة بعيدة عن التزعزع والقلق، وهو يعتقد أن حالة الثبات الاجتماعي ممكن أن تتحقق في المستقبل القريب، أما معتقده هذا فيقوم على سببين؛ الأول: أن أطراف العالم لم يبق فيها من شبر أرض غير مملوك لدولة من الدول، وهذا سبب من أوجه الأسباب التي تمنع الحروب التناحرية على الاستعمار. والثاني: أن هنالك علامات تدل على نزعة تعمل على تحديد النسل الإنساني بحيث لا يمضي الناس في أعقاب النسل إلى حد بعيد عن المقتضيات الطبيعية والحاجات الاجتماعية، فإن دكتور مولر لموقن بأنه ما من شيء كان أبعث على حلول المصائب والكوارث الاجتماعية بالمدنية الحديثة، وما من سبب شل حركة الثقافة والتهذيب الارتقائي عن أن تنبعث في سبيل ترقية الإنسان وزيادة نصيبه من السعادة فوق هذه الأرض؛ بأعظم خطرا من ازدياد نسبة النسل زيادة كبيرة في القرن التاسع عشر.
يقول الدكتور مولر: «عندما يصبح علم البحث وراء المؤثرات الاجتماعية بذاته مؤثرا اجتماعيا، فهنالك يحق لنا أن نقول: إن النشوء الاجتماعي سوف يصل في المستقبل إلى نهايات لم يتخيلها فكر من قبل، وإن خطأ النشوء سوف يسوق إلى عهد تسود فيه عوامل التهذيب العقلي الكامل، بحيث لو وضعت عوامل التهذيب السائدة في عصرنا هذا بجانبها وقيست بها لظهرت كما تظهر غرارة الإنسانية الأولى بجانب مدنيتنا الحديثة، فإننا كلما تأملنا من مآسي الحياة الإنسانية لا نلبث أن نشعر شعورا صادقا يوحي إلينا بأن هنالك نزعة كامنة في تضاعيف الحياة تسوق بالبشر إلى أرض المعاد والخلاص.»
على هذا نرى أن دكتور مولر ليير من أولئك الكتاب الذين يملأ التفاؤل صدورهم، ولذا فهو يختم كتابه موقعا على نغمة دينية يرن صداها ضئيلا إذ تصدر من قلم رجل درس حالات الحياة المادية درسا عميقا، ولم يتكون في عقله من أثر أثبت من أثر الاحتقار لتلك المعتقدات التقليدية التي عاش الإنسان مستظلا بظلالها الوارفة في العصور الأولى.
كتب دكتور ليير مؤلفه هذا قبل أن تهب على المدنية عواصف الحرب العظمى، وتكونت عناصر آرائه في ذلك الجو الذي كان يغشى الأفكار والعقول قبل سنة 1914، وما من أثر بارز محسوس يؤلف في العقل كفاءة يقتدر بها على تحقيق ما بلغت إليه كارثة الحرب العظمى من تغيير وانقلاب في حياة الجماعات الحديثة تغلغل إلى أغوارها واستعمق في صميمها؛ من تلك الحقيقة الملموسة، حقيقة أن في مستطاع كل من درس المؤلفات الاجتماعية التي ظهرت خلال ربع قرن فرط من الزمان أن يعرف بغير كبير صعوبة أيا من الكتب التي تتناول البحث في العلم الاجتماعي قد كتب قبل الحرب العظمى، وأيها كتب بعد أن انجلت غمرتها، فإن هذه الحرب لم تقف آثارها عند ثل العروش واجتياح الأمراء، بل ثلت عرش نظريات ومبادئ كان يعتقد الباحثون أنها ثابتة ثبات المبادئ الأولية في الرياضيات والفلك.
يعتقد ليير - كما كان يعتقد كل الكتاب الاجتماعيين قبل وقوع الحرب العظمى - أن فكرة النشوء التفاؤلية السائقة بالإنسانية إلى أبعد حد يستطاع تصوره من الارتقاء فكرة فرغ من الكلام فيها، وأصبحت من المقررات الأولية في العلم الاجتماعي، وأن الطريق الذي شقته المدنية للحيوان الناطق خلال الأزمان لم تكن القاعدة الثابتة فيه هي قاعدة التحول من حال التجانس والغرارة إلى التنافر والارتقاء لا غير، بل كان طريقا تدرج فيه الإنسان من حالة اللاعقلية إلى حالة عقلية نوعا ما في الحياة الاجتماعية، وأن عصر الإنتاج الصناعي المعتمد على الآلات الميكانيكية إن ظهر في هذا العصر بمظهر نظام ينقص من سعادة الإنسان ويذهب بكثير من عناصر رفاهيته؛ فإن هذا الانحراف المدني لا بد من أن يبلغ في عهد قريب حدا يصلح فيه خلله ويقوم معوجه. كذلك تجد أن هذا المؤلف الكبير لم يسلم من التأثر بكثير من ترهات «كارل ماركس» وسفاسفه، بدليل أنه كثيرا ما كرر في مواطن عديدة من كتابه هذا أن النظام الاقتصادي القائم اليوم من شأنه أنه يزيد الغني غنى والفقير فقرا، في حين أن الإحصاءات التي تناولت مسألة الدخل القومي في كثير من ممالك أوروبا قبل الحرب قد نقضت هذا الزعم نقضا تاما وأبانت عن أخطائه، بل قضت على طائفة كبيرة من براهين الاشتراكيين والشيوعيين، تلك البراهين التي كانت تتخذ لها هذه النظرية دعامة وسندا.
ولما أن حاول أن يضع حلا للمعضلات الاقتصادية الحديثة، لم يجد من نظرية يلجأ إليها سوى نظرية الملكية الشعبية وإدارة الحكومة، وهذه نزعة غريب أن تصدر من مؤلف ألماني، فإنه مما لا شك فيه أن الحكومة الألمانية قبل الحرب كانت أدق الحكومات إدارة وأثبتها نظاما، وكانت بعيدة جهد البعد عن مواطن الضعف والإسراف التي جعلت صيحة الملكية الشعبية في إنجلترا نغمة مألوفة وصرخة يؤيدها الواقع وتزكيها الحوادث، غير أن جدارة الحكومة في ألمانيا ونظامها كان راجعا إلى قوة بناء هرمي مشيد من مجموعة من النظم البيروقراطية المتماسكة العناصر، يديرها رأس مفكر يقف على قمة الهرم لا تحت قاعدته، ومع كل هذا فإن من المعترف به أن نظام ألمانيا الحكومي كان حجر عثرة في سبيل نماء الكفايات الفردية وتمتعها بكامل حريتها التي تتطلبها حاجات التناحر في المدنية الحديثة، كما كان حائلا دون حدوث ذلك التكافؤ الاجتماعي الذي يوفق بين الجماعات وبين بيئاتها، تلك الصفة الخطيرة التي طالما فخرت بها أمريكا كميراث كبير ورثته عن المدنية الأنجلوسكسونية.
أما وقد بلغ دكتور ليير من بحثه المستفيض هذا المبلغ، أما وإنه من أولئك النشوئيين المتفائلين؛ فإنه لم يجد من مندوحة عن معاودة الكلام فيما سماه ب «البليونكسيا» أي الجشع الاجتماعي، محاولا أن يثبت أن الإنسان سائر في طريق سوف يسلم به سريعا إلى التخلص من هذه الرذيلة، التي يعتبر أنها غرس الإنتاجية الحديثة. غير أنك إن تأملت من حالات الإنسان خلال كل أدوار تاريخه، لما أمكنك أن تحكم حكما صحيحا إذا ما أردت أن تنظر في الرجل الأوروبي الحاضر متسائلا هل هو حقيقة أشد طماعية وأذهب في الجشع من أسلافه السابقين، أو أن هذه الصفة أمكن في طبيعته مما هي في طبيعة الرجل الآسيوي أو الأفريقي؟ على أنك إذا أردت أن تبحث عن شخص فيه من استعداد الإجرام القائم على الجشع قدر لا يجعله يتلكأ في قتل أعز صديق له طمعا في بضعة دراهم معدودة؛ فإنك قد لا تعثر عليه في عواصم البلدان الصناعية، في حين أنه من السهل عليك أن تلتقي به عند منقطع السبل وفي الوديان المعشوشبة الخصيبة؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نحد من رغبة الإنسان في الكسب واستجماع الحطام بالتحكم في الظروف التي تزيد في الإنسان من تلك الرغبة، وها نحن أولاء نرى أن صغار ملاك الفلاحين، حتى في مصر أودع البلاد طبيعة وأصفاها سماء وأسلسلها للمنتجين قيادا وأرغدها عيشا وأسخاها أكفا، هم أجشع كل الناس وأشدهم طمعا وأحبهم للكسب وأزهدهم في الإنفاق وأمعنهم في حب الاستجماع!
إن القاعدة التي تقوم عليها فكرة النشوء التفاؤلية في رءوس المفكرين في معضلات الاجتماع، هي أن في الرذائل الاجتماعية ضعفا طبيعيا كامنا يسوق بها إلى حيث تفني إحداها الأخرى، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. ومما لا مشاحة فيه أن هذه الفكرة لا تستند على حقائق قيمة، وليس في التاريخ من شيء يجيز الاعتقاد بصحتها، فإن ازدياد أوجه التخالط والاشتباك في الأنظمة الاجتماعية لا يدل دائما على أن هناك ارتقاء، إذا كنا نعني بالارتقاء مجرد الانتقال من حالة تقل رغبة الإنسان فيها إلى حالة تزداد رغبته ميلا إليها، ولا يجب أن يعزب عن أفهامنا مطلقا أن تشابك حلقات الأنظمة الاجتماعية وازدياد تنافرها إن هي إلا حالة لن يبرر فرضها على جمعية ما إلا أنها ذات صفات تزيد من فرص البقاء للجماعات. وليس لدينا من مبرر يجعلنا نعتقد بأن ضروب الإصلاح الاجتماعي واقعا في جماعات بلغت من نظام الإنتاجية الصناعية أقصى مبلغ؛ قد يمكن أن تلائم مقتضيات الحياة من غير أن تضعف من تلك الكفايات العليا التي يرجع إلى قوتها بقاء الجماعة في ذاته. هذه المسألة في الواقع معضلة المعضلات الاجتماعية، هي معضلة يجب أن يصل المصلحون إلى حلها، على أن حلها لا يقتضي مطلقا أن نعتقد كما يعتقد دكتور ليير في أن هنالك قوة خفية قد فرضت وقدرت أن الإنسانية لا بد من أن تسير إلى حد الكمال في النظام الاجتماعي.
وكثيرا ما ينسى الاجتماعيون أن الحيوانات الاجتماعية التي بلغت من الرقي الاجتماعي مبلغا قصيا، كجماعات النحل والنمل، لا بد من أن تكون قد مرت بدور تتابعت عليها فيه صور النشوء والارتقاء دراكا وانتابتها سراعا، حيث تطورت حياتها الاجتماعية إلى ما نرى اليوم في نظامها من تشابك واختلاط، ثم مضت من بعد ذلك ثابتة غير متغايرة محتفظة بنسبة متوازنة من النظام تلوح كأنها خالدة لا تتغير. ومن الراجح أن يكون النوع الإنساني قد مرت عليه ألوف الألوف من الأعوام محتفظا بطابع ما من غير أن ينتابه أي تغاير، وأن روح التقدم المتوثبة التي كانت ثائرة مطاوعة لسنن النشوء والارتقاء في حالات عدم التكافؤ بين الأحياء وبيئاتها؛ قد هدأت ثورتها عندما بلغ الإنسان حدا من الرقي أصبح عنده أكثر ألفة مع ما يحيط به من ظروف البيئة. نقضي بهذا بعد أن وقفنا على كثير من صور الانحطاط والفساد الاجتماعي التي نمت عليها حالات الحرب العظمى، فأظهرت خفاياها وأبانت عن سوآتها في كثير من بقاع العالم المتمدين وغير المتمدين، وتلك حالات أضعفت من حسن ظننا في مستقبل النوع الإنساني بقدر ما أفسح كمونها وعدم وجود الظروف التي تظهرها المجال لأبناء الجيل السابق في التفاؤل وحسن الظن، فقد ثبت الآن أن ذلك الارتقاء الذي عاش أهل القرن التاسع عشر معللين أنفسهم بأن يبلغ أبناؤهم إلى قمته العليا في فاتحة القرن العشرين، وذلك الأمل الذي رقبه الذين ضمتهم من قبلنا عصور التراب في الماضي القريب؛ كان:
كأنه برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
وما من شك يدور بخلدنا في أن الأستاذ ليير ينزع إلى الأفكار الاشتراكية المتطرفة في كثير من أبحاثه، فإن التفاؤل المطلق في مستقبل النوع الإنساني كان بلا أدنى ريب ميراثا تنقل من جيل إلى جيل حتى تركز في آخر حالاته على صورة تضخمت في رءوس الشيوعيين، وتراثا ورثه «كارل ماركس» - علم المدرسة الاشتراكية الحديثة ومؤسس دعائمها - عن معتقدات أهل القرون الوسطى، ولهذا ترى أن روح التعصب المذهبي فائضة من نواحي هذا المذهب، كما ترى أنه بعيد جهد البعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية.
والحقيقة أن المفكر قبل سني الحرب العظمى كان يقف حائرا بين عاملين فكريين يتجاذبان عقله: عامل التفاؤل وعامل التشاؤم في مستقبل الجماعات الإنسانية، أما وقد نمت كوارث هذه الحرب عن الخلق المؤصل في تضاعيف الفطرة الإنسانية، وأبرزت الإنسان مجردا عن أثواب المدنية وعلى نفس الصورة التي تصورها لنا حالاته الفطرية الأولى، حيوانا جشعا مسفا خارجا من جوف الطبيعة ثائرا ضد كل ما فيها حتى نوعه الذي ينتمي إليه، حاملا فوق رأسه منجل الحصاد يحصد به الأنفس البشرية، وفي يده آلات الهدم والتخريب، نابذا كل تقاليد الشرائع الأدبية؛ فهنالك لم يبق من مجال يوسع لشعور التفاؤل أن يستقوي في الفكر على شعور التشاؤم في مستقبل الإنسان.
وما لنا ولهذا؟ فكر ساعة في أن تقل مواد الغذاء إلى حد الندرة وتخيل حال الإنسان واقعا تحت تأثير مجاعة تحدث فجأة، فماذا تتصور؟ تتصور أن الإنسانية التي يلوك أفرادها مبادئ الأديان بأفواههم، ويحركون شفاههم بكلمات الآداب والمثالية وما إليها، لا تمضي وادعة إلا بعد أن تمتلئ بطون أفرادها خبزا وإداما، وما بالتطبع يتغير وما بالطبع لا يتغير.
لقد قلت الثقة بفكرة التفاؤل في مستقبل النوع الإنساني، ولا يدلك على هذا مثل وقوفك على رأي الأستاذ «بيري» في كتابه «فكرة التقدم الإنساني: بحث في أصلها ونشوئها»، فإنه يقول في مقدمة كتابه هذا:
إن الأمل في بلوغ درجة من درجات السعادة فوق هذا السيار تنعم بها الأجيال المستقبلة أو حالة يمكن أن نعتقد نسبيا أنها سعيدة؛ قد حل محل الأمل في المتعة بنعيم الآخرة. على أننا رغم ما نجد من أن الاعتقاد في خلود الشخصية لا يزال معتقدا شائعا حتى اليوم، لا يسعنا إلا أن نقول بجانب هذا: إن ذلك المعتقد لم يصبح الفكرة الأساسية المسيطرة على الحياة العامة، ولم يعد بعد ذلك المقياس الذي تقاس به كل التقييمات الاجتماعية، فإن كثيرا من الناس ينكرون صحته وكثيرا غيرهم يعتقدون أنه من الشك بحيث لا يصح أن يكون المحور الذي تدور من حوله أفكارهم، وتتأثر به مشاعرهم ومقومات حياتهم. ولا مشاحة في أن الذين يؤمنون بصحة هذا المعتقد هم الأكثرية، غير أن درجات الاعتقاد تختلف ويصعب أن يعد مخطئا ذلك الذي يقول بأن هذا الاعتقاد لا يمضي مسيطرا مستبدا بأمره في تصورات الآخذين به، حتى إنك لتجد أن عواطفهم وانفعالاتهم لا تنعكس عليه إلا واهنة ضئيلة، وإنهم يشعرون بأنه أدنى إلى جانب النؤية والشك، كما تجد أنه قلما يكون تأثيره على السلوك أقصى مدى من تأثير تلك المناقشات العميقة التي تحشى بها كتب الأخلاق بما يتخللها من الأدلة والبراهين.
ثم يقول:
إن النقد الذي وجه إلى بضع صور استحالت إليها فكرة الارتقاء وإلى بضعة براهين أقيمت لتأييدها؛ لا يصح أن يتخذ دليلا ينفي صحة الفكرة، غير أني أذكر ملاحظتين: فإن الشكوك التي نثرها مستر «بلفور» حول فكرة الارتقاء منذ ثلاثين سنة مضين في خطاب فلسفي ألقاه في «جلاسكو» لا تزال قائمة بكل ما كان لها من قوة، ولم ينقضها أحد من الباحثين. كما أنه يغلب أن كثيرا من الذين خيل إليهم منذ ست سنوات مضين - كتب هذا سنة 1920 - أن المدنية الغربية ستأخذ في دور الفساد والانحلال السريع، لا بتأثير القوات العنصرية بل بتأثير بلوغها حد النماء الممكن لها، ويعتقدون الآن بأن ما خيل إليهم كان وهما؛ ليشعرون اليوم بأنهم أقل ثقة بالمستقبل مما كانوا من قبل، على الرغم من أن الأمم العظمى قد كونت عصبة لتحول دون الحرب، تلك العصبة التي يقول دعاة الارتقاء وأنصاره إنها أكبر الخطوات التي خطاها الإنسان نحو المثل الأوتوبي.
لكل حركة فكرية كما لكل حادث من حوادث الطبيعة أثران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ولا يقتضي هذا النظام أن يكون الإيجاب خيرا وأن يكون السلب شرا على تتالي الحوادث وتوالي خطوب الزمان، فقد يتفق أن يكون عكس هذا صحيحا، وقد يتفق أن يكون أثر السلب خيرا وأثر الإيجاب شرا، تستبين ذلك إذا ما نظرت في فكرة التفاؤل في مستقبل الجماعات الإنسانية من جهة تأثيرها على الأخلاق، فإن هذه الفكرة بقدر ما جرت جماعات الإنسان في مدنيته الحديثة إلى معارك ممضة معنتة تحت تأثير فكرة أن الرقي المنشود معقود على ارتقاء الإنتاجية الصناعية والتناحر الميكانيكي، فأفسدت أوجه الارتقاء الحقيقي وقذفت بالإنسانية إلى أوعر المزالق؛ قد غيرت من قانون الأخلاق تغييرا كبيرا. وفي ذلك يقول الأستاذ «بيري» في كتابه الذي مر ذكره:
تحت تأثير فكرة الارتقاء تحور قانون الأخلاق في الغرب خلال العصور الحديثة خضوعا لمبدأ ذي مكانة عظمى، يمت إلى هذه الفكرة بآصرة ونسب، فإن «إيزوقراط» عندما وضع حكمته المعروفة «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك» لم يفكر هنيهة في تطبيق حكمته هذه على الهمج والعبيد، بيد أن الرواقيين والمسيحيين طبقوها على كل الإنسانية، ولكن هذه القاعدة قد بلغت في العصور الحديثة مدى قصيا لم تبلغه من قبل، بأن وسع تطبيقها أجيال المستقبل التي لم تتمخض عنها الأيام، فإن مبدأ الواجب نحو الأعقاب والخلائف ليس إلا تاجا توج به المحدثون فكرة الارتقاء، فكثيرا ما علت الصيحة خلال الحرب العالمية بمبدأ التضحية في سبيل القرون المقبلة، مستمدا من تلك الفكرة. فإذا قابلت هذا بالحروب الصليبية، وهي أخص الحروب التي قام بها أسلاف أهل الغرب في القرون الوسطى؛ وجدت أن فكرة النهاية الإنسانية والغايات الأخروية، وكانت آخذة بزمام العقول، قد دفعتهم إلى مزالق أمضتهم فيها المشاق، وابتلعتهم من فوقها لجة الموت في جوفها العميق.
وما من شك يدور بخلدنا في أن صيحة التضحية في سبيل الأجيال المستقبلة صيحة مثالية فيها كثير من طلاوة الفضيلة وروعة الأخلاق العالية. ولكن ألا يجوز أن هذه الصيحة لم تكن إلا صيحة اليأس الذي يهيج في الأنفس كوامنها فتلجأ إلى المثاليات السقراطية كلما أعوزتها الانفعالات في سبيل الوصول إلى غرض ما، فإن الخوف واليأس - كما يقول «ليكي» - أبلغ من الحب في النفس أثرا؟ وأليس من الجائز أن هذه الصرخة لم تصدر إلا عن قلوب لا تعي من معناها إلا بقدر ما تعي الألسن التي تحركت بها، والأقلام التي خطتها على الورق؟ على أن في هذا المبدأ، مبدأ التضحية في سبيل الأجيال المقبلة، لقسطا عظيما من غموض الغيبيات وإبهام ما بعد الطبيعة، فمن أين أتى للذين يضحون بأنفسهم على شفار السيوف بأن الأجيال المقبلة جديرة بأن تضحي في سبيلها الأنفس، مبيعة بيع السماح في ميادين حروب لا نعرف بدورها إن كانت سعودا أو نحوسا على ما سوف يخلق من أجيال الإنسانية؟ إن في ذلك لكثيرا من مواطن الشك، على أننا نأمل أن يكون شكنا قائما على غير أساس، وعسى أن يجد في حالات الاجتماع خطب يوقظ الجماعات من رقدتها، ويفيقها من سباتها العميق. (2) الفساد والتجدد (2-1) في الاجتماع
يمثل الدكتور أوستن فريمان تلك المدرسة الحديثة التي تفكر في الحالات التي قامت بعد الحرب العظمى، وانبعثت في التأمل من حالات اجتماعية على اعتبار أن هذه الحرب قد وضعت حدا فاصلا بين عهدين، ثبت الناس في العهد الأول منهما على فكرات نقضها العهد الثاني، وذهب بأثرها من عالم الفكر كنظريات يمكن تطبيقها على الحالات الاجتماعية، أو مبادئ يستطاع على الأقل أن تتخذ قواعد لوضع نظريات حديثة في المدنية الإنسانية، وأي مظهر من مظاهر المدنية الحديثة يسترعي انتباه الباحث أكثر من استبداد الآلات الميكانيكية بالنوع الإنساني تستعبده استعبادا وتمضي مؤثرة في بيئته الطبيعية التي خلقتها حاجاته منذ أبعد العصور؟ لهذا ترى أن الأستاذ فريمان لم يدر في كتابه حول محور آخر، بل أخذ يدور في دائرة من البحث، مركزها تحكم الآلات الميكانيكية في حياة الإنسان وما تحدثه حياة الإنتاجية الميكانيكية في البيئة التي تحوط جماعات المدنية الحديثة من الآثار السوأى، فإن نصيب العضلات والقوة الحيوية من التأثير في الإنتاج الصناعي أخذ يقل بنسبة سريعة خلال القرن الفارط، في حين أن العمدة في الإنتاج منذ مائة عام لم تكن لترتكز على شيء سوى النشاط الإنساني والجهود العضلية التي كان يبذلها الأفراد في سبيل الإنتاج، أما اليوم فإنك تجد أن الآلات المركبة قد أخذت تجد مكانا حتى في أقل الصناعات احتياجا لجهود الإنسان، وكذلك الحال في النقل فإن السياحة والانتقال من مكان إلى آخر وحمل الأثقال لم يكن يعتمد فيها إلا على السير على الأقدام أو على ظهور الدواب الداجنة، وكان أجدادنا الأقربون لا يفكرون هنيهة في سياحة يبلغ مداها ثلاثين ميلا إلا كما نفكر نحن في الانتقال مستقلين وسيلة من وسائل النقل الحديثة ميلا أو ميلين داخل مدينة مهدت فيها الطرق وسلكت فيها السبل ذللا، بل إننا نفضل أن نمتطي عربة أو سيارة، على أن نمشي بضع مئات من الأمتار، هذا على الرغم من أنه من الذائع المعروف الآن في العلم الطبيعي أن إغفال الخاصيات وإهمالها ينتج فقدان الخاصيات ذاتها، بل ويمضي بالأعضاء في سبيل الضمور والزوال.
إذا استطعت أن تحضر من مرابض أفريقيا القصية رجلا همجيا لم يستشم من ريح المدنية شيئا، وأخذت بيده إلى ملعب من ملاعب الرياضة ورأى إخوانه أبناء المدنية الحديثة يقفزون فوق قطع الخشب، وآخرين يتسابقون، وغيرهم يحملون الأثقال وقطع الحديد ليمرنوا عضلاتهم على نسق خاص وليوقظوا فيها خصائصها الطبيعية؛ لما كان أشد عجبا من شيء يراه في مدنيتنا الحديثة من منظر هؤلاء المتريضين؛ لأن ما يفعله هؤلاء بحكم مدنيتهم يفعله هو بحكم طبعه مختارا وفي أي وقت يريد.
أترك هذا إلى الأيدي العاملة في معامل الصناعة، فإن هؤلاء العمال لضحايا تقدم قربانا على مذبح الآلات الميكانيكية، فما منهم إلا المريض المعتل الضعيف التكوين المضمحل البنية المنحل التركيب، والأكثر فيهم عجاف الأجسام صغار الأحلام، أخذ منهم الهزال والضعف مأخذا كبيرا، وقد فسدت أسنانهم فما تجد منهم إلا مصابا بمرض في الأمعاء أو اضطراب في الجهاز الهضمي، أما نسبة الوفيات بينهم فأزيد كثيرا مما هي بين قطان الأقاليم الزراعية وأهل الريف. نضيف إلى ما يقرره هنا الدكتور فريمان أن الإحصاءات الحديثة الموثوق بها قد أثبتت بما لا سبيل إلى إدحاضه أنه على الرغم من تقدم العلوم الطبيعية ووسائل العلاج في العصر الحديث ، فإن الأمل في ازدياد متوسط عمر الإنسان لأكثر من ستين عاما بين كل طبقات المجتمع على الإطلاق قد ضعف عما كان منذ نصف قرن فرط من الزمان، وذلك دليل قاطع على أن جماعات المدنية الحديثة لا تعيش عيشا توافرت فيه الشروط الصحية كما يخيل إلى بعض الناس، وعلى هذا ترى أن المدنية الحديثة، وهي مدنية المدن المحشودة بالسكان، لم تكن إلا فشلا عظيما أصاب الإنسان إذا أنت نظرت فيها من الوجهة الصحية الصرفة. •••
ينتقل دكتور فريمان بعد هذا إلى النظر في حالات التقدم الإنساني، فيرى جليا، ويرى بحق أن للتقدم البشري مظهرين: فهو إما راجع إلى تغايرات تنتاب البيئة بما فيها ما استخزنته الطبيعة الإنسانية من تجاريب الماضي والمران المتوارث على مدى الأزمان، وإما إلى تلك التغايرات التي انتابت تكوين الإنسان وكان من شأنها أن تذهب به متنقلة في درجات متتابعة من التهذيب والارتقاء. وهو يعتقد فوق هذا أن هذين الوجهين يسيران متساندين ويمضيان متكافئين تأثيرا في الجماعات.
فالتطورات الداخلية التي انتابت الإنسان وغيرت من صفاته الكامنة، وعلى الجملة ضروب التهذيب الارتقائي التي طرأت عليه تكوينيا ومورفولوجيا، كانت في معتقد دكتور فريمان كبيرة بالغة الأثر، وجائز في رأيه أن تكون قد تعاقبت عليه سراعا وانتابته دراكا عندما بدأ شوط الخروج من عالم الحيوانية إلى عالم الإنسانية الفطرية الأولى. أما صور التهذيب والتكافؤ الخلقي التي كانت ذات أثر واضح وطبيعة حاسمة في تكوين الطبيعة الإنسانية، فترجع إلى حدوث تغايرات ثبتت في تضاعيف الفطرة البشرية، وكان من طبيعتها أن ترفع مستوى الإنسان إلى منزلة بدأ يدرك عندما بلغها كيف يستطيع أن يخضع العناصر الطبيعية لقوة إدراكه. غير أنك إذا رجعت النظر كرة في الماضي البعيد، أي إلى ذلك الماضي الذي يعود بك إلى عهد يفوق هذا العهد الذي وصفناه ضربا في أحشاء الدهور ويبزه عراقة في القدم؛ رأيت أن أوجه الارتقاء الإنساني كانت ترجع إلى تأثير البيئة وفعل الوسط الذي أحاط بالجماعات الإنسانية في حياتها الوحشية الأولى. أما التغايرات التي وقعت على تلك الصلات التي ربطت الإنسان بما أحاط به من ظروف البيئة ومؤثراتها، فإن التأمل فيها باعث على أشد العجب، مثير لأبلغ حالات الحيرة.
إن ذلك الحيوان الأنسل الذي درج من حجر الطبيعة وخرج من جوفها خفية متسللا إلى عالم الوجود، معرضا لقواسرها، قليل الحيلة، ضعيف الأمل في الحياة، وأخذ يجوب سطح هذا السيار ويطوي سهوله وحزونه، ويتسلق جباله وتلاله، وما إن تراه في جماع ذلك إلا ألعوبة العناصر تتناوح من حوله رياحها العتية، وتحوطه بويلاتها وكوارثها، وما إن تجده إلا ألهية الطبيعة وفريسة السباع والضواري التي كانت تفوقه قوة وبطشا؛ هو بذاته الإنسان الذي بنى عظمة المدنية التي تحف بك روعتها، وهو الذي استجمع كنز المعرفة وراثة عن جيل بعد جيل، فأخضع به هذا العالم الصغير الذي نعيش فيه، وسخر لمشيئته كل ما أحاط به من صور الحياة، بعد أن كان من أضعف ما فيها قوة، وأقلها حيلة، وأوهنها في الجلاد سلاحا، وبعد أن عاش أزمانا مديدة لا يدب في منكب من مناكب الأرض إلا متخيلا أن أسباب الموت تمتد إليه من كل مكان متعقبة خطاه أينما حل وكان، مقتفية آثاره في الإصباح والعشي، هابطة عليه من السماء، فاغرة عليه أفواهها من الأرض وكل ما فيها من الحيوان والنبات والصخور والبحور والعناصر.
هذا الحيوان الضعيف يحفر الآن الأرض بالغا إلى أغوارها القصية ليستخرج كنوزها، ويطوي بيدها وفيافيها، ويمتطي طبقات هوائها يجتازها بسرعة، يتخيل معها أقصى الحيوانات سرعة وأبعدها على العدو قدرة أنه ثابت لا يتحرك، ويغوص البحار إلى أبعاد لا يستطيع الحوت أن يبلغ إلى أعماقها، ويغشى الجو إلى ارتفاعات ما عرفها النسر ولا ارتادتها العنقاء.
أما في أزمان السلام والأمن، فكثيرا ما تعددت الفوائد التي يجنيها الإنسان من هذه المخترعات، وغالب ما نتصور أن المدنية لا بد من أن تتأثر بالمستكشفات الحديثة إلى حد ينتقل عنده الإنسان إلى تلك الحال التي نشدها الفلاسفة، وخص بالبحث عنها منهم ديوجينيس، نظل على هذا الاعتقاد ونمضي عليه عاكفين ما رفت أجنحة السلام فوق رءوسنا، فإذا نفخ في صور الحرب ودقت طبول الجلاد، تنبهت فينا غريزة القتال بعد كمونها، وتيقظت فطرة التوحش في الحيوان الناطق فهب يدرع الحديد، وتوثب يمتطي السحاب، لا لشيء إلا ليظفر بأخيه الإنسان قتلا وتقطيعا. على أن ويلات الحرب في العصر الحديث لم تتناول الجند المسلح وحده، بل تعدت إلى غير المحاربين من أبناء آدم، ودارت على الشيب والأطفال والنساء الوادعات رحى تطحن ثقالها ما ألقمت، وتهصم لهوتها ما ألهمت، ونارا تحصد ما جمع العمل والسعي، ويدا هوجاء تبدد ما جنى الجد والكد، لواحة للحطام والبشر، لا تبقي ولا تذر. كل هذا لا تنتجه إلا مخترعات العصر الحديث التي نتصور في عصر السلام أنها من نعم العقل الإنساني على المدنية، وما هي في حالات الحرب إلا نقمة الطبيعة على ابنها الثائر عليها، الخارج على سلطانها.
أما اختراع الطيران فيعتقد الدكتور فريمان أنه من أشد نقم العقل على الإنسان، ومن أخطر ما أخرج الفكر من مخترعات على المدنية ذاتها، بل ونزيد على هذا أنه أشد سلاح تذرع به القوي قضاء على حرية الضعيف، وأقوى وسيلة تسلحت بها النزعات البشرية الهوجاء لترضي ما فيها من نهمة القتل ونزوات التفظيع من المحاربين وغير المحاربين.
كذلك هو على اعتقاد من أن الانغماس في الترف واللذائذ وإرضاء الشهوات ليست إلا وسائل نمضي من طريقها ممعنين في زيادة تأثيرات البيئة في كياننا، ولهذا تراه يمضي معجبا تياها بكلمة ديوجينيس إذ يقول:
إن ثروة الإنسان يجب أن تقاس بنسبة عدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش من غير احتياج إليها.
فإن دكتور فريمان ليعتقد اعتقادا لا يوهنه شك ولا تحف به ريبة في أن استجماع الثروة وتكثير العدد من غير أن يرتقي الفرد أخلاقيا وعمليا لا يسوق إلى السعادة، بل ولا يؤدي إلى الطريق التي تسلم إليها. •••
النظريات التي تقوم عليها الحكومات وطرق التنفيذ الإدارية قد اقتسمت في رأي دكتور فريمان بين فئتين: فإما اجتماعيون تنطسوا في العلم وفقدوا القوة، وإما سياسيون تمتعوا بثمار القوة وفقدوا العلم ، ولذا تراه يقول:
إن الرجل السياسي الممتهن لحرفة السياسة، ذلك الذي خلقته نظامات الديمقراطية الحديثة، يختلف كل الاختلاف عن بقية كل ذوي المهن، غير أنه لا يمتاز عليهم بشيء إلا بأنه فاقد لكل الصفات التي تؤهل به لأن يكون في منصبه ذا نفع للرعية التي يوكل إليه أمر تدبير شئونها.
فإن كل ما يحتاج إليه رجل السياسة في العصر الحاضر من علم، وكل ما في مستطاع دور النيابة أن تزوده به من تجاريب الحياة؛ ينحصر في أن يفقه كيف يعتلي المنصب وكيف يحافظ عليه بعد أن يصبح في قبضة يده، هو بعيد عن حكمة التشريع، ناء عن فلسفة السياسة وفق إرادة الشعوب وحكمها. فإنك إن أردت أن تتخذ من الحالات القائمة في إنجلترا مثلا تضربه لفوضى النظامات الديمقراطية الحديثة، لما وجدت من مثل أبلغ من أن تعرف أن كرسي رئيس الوزارة في إنجلترا أو رئاسة إمارة البحر فيها معد منذ اليوم لصانع أحذية أو جامع حروف في مطبعة أو عامل في مصنع خمر أو سمسار في بورصة الأعمال، هذا في زمان تزداد فيه سلطة الحكومات على الأفراد والجموع حينا بعد حين. •••
يمضي بك دكتور فريمان بعد هذا إلى البحث في حالات الإنتاج، وينظر نظرة عميقة في نظرية اقتسام العمل في المدنية الحديثة؛ ليقول لك في النهاية إن الأساس الذي قسم به العمل في الانقلاب الإنتاجي الأخير كان من شأنه أن يقضي على الفنان القديم، فلست تجد اليوم عاملا في مصنع أحذية في مستطاعه أن يصنع حذاء كاملا، حتى في مدارس الفنون فإن النشء لا يتعلمون فيها كيف يصبحون فنانين، بل لا يتعلمون إلا ليكونوا مديري معاهد تعلم الفن، ولست تجد أن الحال بأمثل من هذا في مدارس الصناعة.
يعرف كل الباحثين في الحالات القائمة اليوم في نواحي العالم أن الإنسان لا يقف على حقيقة ما تتضمنه إدارة الحكومات من إسفاف وإسراف وعجز، إلا إذا قاس ما فيها من جماع هذه الصفات بما في الإدارات الفردية التي يقوم بها الأفراد المستقلون من نظام وجدارة وحسن إدارة، فإن كل رجال العمل الذين رافقوا الجيوش في الحرب الأخيرة والذين قلما عرفوا شيئا من أحكام الإدارة الصحيحة، قد أجمعوا على الاعتقاد بأنه إذا قدر على مصنع من المصانع أن يدار على نفس القاعدة التي كان يدار بها الجيش المحارب، فإنه لا بد من أن يتردى في مهاوي الإفلاس بعد أسبوع واحد من الزمان. ومع كل هذا فإنا نسمع صيحة الملكية الشعبية وإدارة الحكومات رانة الصدى بعيدة الغور في الأسماع، وما هي إلا صيحة لا تؤدي في فهم دكتور فريمان من معنى إلا معنى التبدل من نظام دلت التجاريب على صلاحيته وثباته كوسيلة للإنتاج، بنظام لم تقم من تجربة واحدة على أن فيه صفة واحدة من الصفات التي تضمن له النجاح.
لا يلبث هذا الباحث بعد أن يمر بك في أغوار سحيقة من تحليل الاجتماعية الحديثة، أن يقذف بك في غور آخر من أغوار البحث في طبائع الجماعات، وإذا بك تبحث معه في تقسيم الجماعات الإنسانية إلى فئات صغرى، كل منها تحكم بقوة نظام قائم في تضاعيفها، ولا تسود في فئة منها من صفة إلا صفة العناد والمنافسة لغيرها من الفئات، بل وللجمعية التي تنتمي إليها هذه الفئات في مجموعها، ثم لا يلبث أن يخلص من بحثه بنتيجة لا تشعر إلا بحزن، ولا تحس إلا بقلق كلما فكرت فيها أو تأملت منها، إذ يقول:
لقد تبدلت الإنسانية من روح الوطنية والحب المتبادل والعطف الرعوي، تلك الروح التي أقامت دعائم المدنية والتي لن تقوم المدنية بدونها؛ بروح العداء المتبادل بين الجماعات، مشفوعا بالجشع الاجتماعي والإسفاف في الطماعية والحسد الممقوت. (2-2) أثر البيئة الاجتماعية
ما هي البيئة الاجتماعية؟ قد يمكن أن نضع لها تعريفا، وقد يتفق أن يكون تعريفا جامعا لمدلولاتها، غير أن البحث في الحالات الاجتماعية يتطلب من الباحث أن يضع بجانب ما يحدد من تعاريف أمثالا تزيد كل من أراد الإكباب على درس معضلات المدنية الحديثة ومشكلات الاجتماع وقوفا على حقيقة الظروف القائمة حول الإنسان وجماعاته المدنية. على أننا نعتقد أن وضع التعاريف طريقة كاد يمضي زمانها في البحث العلمي، لتحل محلها طريقة الشروح المستفيضة المشفوعة بالأمثال التي تكون في العقل كفاءة يقتدر بها على فهم النظريات الحديثة مقتطعة من مشاهدات واقعة وحالات ثابتة قائمة، هذه هي الطريقة المتبعة على الأقل في علوم الحياة الاجتماع، وعلى الأخص في علم التاريخ الطبيعي وفروعه الكثيرة.
لهذا لا نحاول أن نضع تعريفا للبيئة الاجتماعية، بل نمضي في بحثها لا لنصف لك ضروبا من مختلف المؤثرات التي أثرت في الإنسان في حالاته الماضية والحاضرة، بل لنكشف لك عن أن أثر البيئة إذا ما تراكمت جموع البشر في بقاع من الأرض تنقلب آيته من عامل نشوئي ارتقائي إلى عامل مهدم لكيان الجماعات.
للبيئة ثلاث حالات؛ الأولى: حالة يكون فيها تزايد الأفراد في جمعية ما عاملا على زيادة قوتها ورفاهيتها وغلبتها، إذ يكون في البيئة نواح من الفراغ لا بد من أن يسد فراغها تزايد أفراد الجمعية، والثانية: حالة يبلغ فيها عدد الأفراد حدا لا تحتمل البيئة أكثر منه، والثالثة: حالة يزيد فيها عدد الأفراد على ما تستطيع البيئة أن تحتمل منهم، فيخلق جو مصطنع يمضي بالجماعات في سبيل الفساد والفناء. وسنرى الآن أن جماعات المدنية الحديثة في أوروبا، عنوان هذه المدنية ومهبط وحيها، قد بدأت تدلف بقدمها في مهاوي الحالة الثالثة من حالات البيئة الاجتماعية.
نريد الآن أن نضرب لك مثلا نطبقه على هذه الحالات الثلاث، ولذا نرجع بك إلى معمل من المعامل البكتريولوجية الحديثة، ونضع بين يديك أنبوبة من الزجاج نملؤها بمادة جيلاتينية تساعد على نماء الجراثيم، ونزرع فيها كمية قليلة من الميكروبات، ونتركها لتتكاثر بالانقسام شأن بقية الخلايا الحية، في هذه الجراثيم أو الميكروبات، أو ما شئت فادعها صفة الحياة، فهي تتكاثر جيلا بعد جيل على قدر ما في أجيالها من قصر البقاء، وإن كان بقاؤها خالدا لأنها إنما تتوالد بالانقسام، إذ تنقسم كل خلية منها إلى قسمين، يصبح كل قسم منهما فردا مستقلا بذاته.
يحيط بهذه الميكروبات، لأول عهدها بالازدراع في تلك الأنبوبة، بيئة تصلح لانقسامها وتكاثرها، إذ تحوي كل المؤهلات الضرورية التي تعضد بها عددا محدودا من الأفراد زائدا عن العدد الذي زرع فيها، ومن طريق التكاثر يزداد عدد هذه الميكروبات آنا بعد آن حتى تسد في البيئة كل فراغ يمكن أن تعيش فيه أفرادها المتولدة عن العدد الأول، غير أن الطبيعة لم تهب الإحياء بما فيها الإنسان من الوسائل التي يحدد بها عدد النسل وسيلة يستطاع بها أن يحفظ عدد الأحياء المتكاثرة بنسبة رياضية متضاعفة دواليك، واقفا عند حد لا يقلب نظام البيئة من عامل نشوئي إلى مؤثر انقراضي، لهذا تجد أن الميكروبات إذا تكاثرت لأزيد مما يكون في مستطاع البيئة أن تعضد، أصبح تكاثرها عاملا من العوامل المؤثرة في البيئة ذاتها تأثيرا يذهب بالأحياء سراعا في طريق الفناء والانقراض، فإنك إذا لاحظت أنبوبة الجيلاتين التي يزرع فيها ذلك العدد المحدود من الميكروبات، لا تلبث أن تجدها تتكاثر بسرعة كبيرة بداءة ذي بدء، وأنها تستمر على نسبة هذه الزيادة زمانا ما دام في مستطاع البيئة أن تحتمل من الأفراد عددا لا يفسد جوها ويشبعه بعوامل الفساد، ثم لا تلبث على هذا هنيهة حتى تجد أن نسبة التكاثر قد أخذت تقل شيئا فشيئا حتى تقف تماما عند ذلك الحد الذي تصبح فيه البيئة غير قادرة على أن تعضد عددا آخر من الأفراد، ثم ماذا؟ ثم تجد أن جو البيئة لا يمضي بعد ذلك إلا قليلا حتى يتشبع بتلك السموم التي تفرزها الأفراد التي عجزت عن مقاومة مؤثرات البيئة بعد أن امتلأت جنباتها بما ضاق عن سعتها، فتأخذ من ثم نسبة الفناء تمعن ازديادا كلما زاد تشبع جو البيئة بهذه السموم، حتى إذا بلغت نسبة الفناء أقصى حد أخذت في التناقص، لا لتفسح مجال الحياة والبقاء للبقية الباقية من الأفراد، بل لتترك فلول الجمعية المحطمة على صخور البيئة منهوكة القوى ضعيفة التكوين عاجزة عن التكاثر فتفنى فردا بعد فرد حتى تذهب تماما من عالم الوجود. ولن تجد في تلك الكتلة الجيلاتينية من أثر يدل على أنها كانت يوما ما بيئة صالحة أهلت بها جماعة من جماعات الأحياء، اللهم إلا آثارا لا تدل على شيء إلا على مأساة الخراب والدمار واقعة على الجماعة التي غشيتها بفعل البيئة، إذ تنقلب من عامل نشوئي إلى عامل فنائي بفعل التكاثر والازدياد.
شبه هذه الأنبوبة بمعمل من معامل الإنتاج الميكانيكي بما يحيط به من منازل العمال ومساكن الصناع، وشبه الكتلة الجيلاتينية بما تستطيع الأيدي العاملة أن تربح من جهد أيديها، وشبه انقسام الميكروبات بتكاثر العمال بالتناسل تكاثرا يزيد عما في طوق الأيدي العاملة أن تعضد، وأنت لا تلبث أن تجد أن النتيجة محتومة في البيئات الإنسانية التي تبلغ هذا المبلغ، كما هي محتومة على كل الأحياء، إن هي قلبت بتكاثرها وحشدها المصطنع نظام البيئة من مؤثر نشوئي إلى مؤثر انقراضي. (2-3) تحليل الكائن الاجتماعي
الكائن الاجتماعي اصطلاح وضعه العلامة «هربرت سبنسر»، ليثبت أن للجماعة حياة خاصة تشابه حياة الفرد. ولقد طبق نظريته هذه تطبيقا بديعا مقارنا بين تكوين الفرد وتكوين الجماعة مقارنة لا تخلق في نفسك من ريبة في صحة نظريته إذا ما درست فكرته بما تستحق من عناية.
غير أنه في جماع ما كتب في الكائن الاجتماعي قد غفل عن أمر لا يجعل المقارنة بين الفرد والجماعة تامة من كل الوجوه، بل إن شئت فقل إنه يجعل المقارنة بينهما مبدأ من مبادئ النقص في الأبحاث الاجتماعية؛ لأنك إن مضيت في أبحاثك في الجماعات منتحيا منحى سبنسر، معتقدا أن بين الفرد والجماعة أوجها تامة من التشابه يمكن أن يقاس ما في أحدهما بما في الآخر، زلت بك القدم في مفارقات بعيدة جهد البعد عن الحق الثابت. ذلك الأمر الذي أغفله الفيلسوف سبنسر قد ظفر به الأستاذ العلامة الدكتور أوستن فريمان في مؤلفه القيم، وما وصل إليه إلا مستعينا بما بثق البحث من أنوار علوم الحياة.
يمضي الدكتور فريمان في كل أبحاثه مقتنعا بأن بين الفرد والجماعة فرقا كبيرا لا تسده المباحث النظرية مهما أوتيت من قوة البرهان ومتانة الدليل، وينحصر هذا الفرق عنده في أن الفرد إنما هو كل عويص التركيب، مكون من وحدات بسيطة، في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كل بسيط مكون من وحدات عويصة التركيب، هذه القضية لا يظهرك على حقيقتها مثل تأملك من مبادئ أولية تلقيها في روعك مباحث البيولوجيا، لهذا نمضي بك من طريق دكتور فريمان في شوط تقف إذا ما بلغت نهايته على حقيقة ما يريد أن يثبت بقوله هذا، ولنخلص من بعد ذلك بنتيجة ذات أثر بالغ في الحالات الاجتماعية القائمة من حولنا.
تتكون كل الأجسام الحية من خلايا في كل منها قدرة على التكاثر من طريق الانقسام، هذه الخلايا الحية هي وحدات الأجسام التي تتصف بصفة الحياة، وكذلك الإنسان، فإنه إنما يتكون من خلايا حية منها يتركب كل ما فيه من الأعضاء والعظام والشرايين والأنسجة والأغشية إلى غير ذلك، هذه الوحدات بسيطة التركيب يمكن إعادة تركيبها ثانية إذا حللت في معمل كيماوي كما قال العلامة وولاس زميل داروين وشريكه في وضع نظرية الانتخاب الطبيعي، غير أن هذه الوحدات البسيطة إذا تركب منها إنسان أصبح كلا عويص التركيب متخالط التكوين، وكفى على عويص تركيبه دليلا أن تفكر قليلا في انفعالاته وتفكيراته وخطراته ونزعات نفسه وتوثب روحه وفيض عقله وامتداده بالفكر إلى ما وراء العالم المنظور وتغلغله إلى أعماق العالم المجهول من الفلسفة.
يريد سبنسر أن يقارن بين هذا الكل الفردي العويص التركيب وبين الكائن الاجتماعي على بساطة تكوينه، فإن الجماعة تضارع من حيث بساطة التركيب تلك الخلية الحية التي يتكون منها الجسم الحي، في حين أن كل وحدة من وحدات ذلك الكائن هي بذاتها ذلك الكل العويص التركيب الذي تكونه الخلايا الحية الأولى. وعلى هذا يعتقد دكتور فريمان أن الكائن الاجتماعي من أحط صور الكائنات الحية تكوينا وأبسطها تركيبا، إذ إنك لا تجد بين وحداته المكونة له من الترابط ما تجد بين الخلايا التي تكون أدنى الأجسام الحية في الطبيعة. •••
من قبل أن يدلي الدكتور فريمان بنظريته الثابتة في الكائن الاجتماعي، مضى الناس في المقارنة بين ذلك الكائن المفروض وبين الفرد على تلك الطريقة التي ابتدعها يراع العلامة سبنسر في كتابه «مبادئ علم النظام الاجتماعي»، قانعين بأن العمل على إصلاح الجماعة ككائن مترابط الأجزاء من شأنه أنه يؤدي إلى إصلاح حالة الأفراد، غير ذاكرين أن بين الكائن الاجتماعي والفرد فرقا لا يجعلهما يلتقيان في منهج من مناهج الارتقاء والنشوء، إلا إذا بدأ الإصلاح بذلك الكل العويص التركيب، أي الفرد؛ ليصلح من طريق إصلاحه الكل البسيط التكوين، أي الكائن الاجتماعي، هنا انقلبت آية النظر في طرق الإصلاح الاجتماعي من طريق انقلاب الفكرة في المباحث الاجتماعية، وعلى هذا مضى الدكتور فريمان في كتابه موقنا بأن إصلاح الجماعة بغير إصلاح الفرد أمر مستحيل نظريا وعمليا، وأن الفرد على ما فيه من عويص التركيب وما فيه من غريب الخصائص إن امتصته الجماعات امتصاصا تاما، وهي على ما رأيت من بساطة التركيب وانحطاط الخصائص الحيوية، بحيث تقضي على كل مؤهلاته كفرد تام الاستقلال من حيث تمتعه بكل مزاياه ومواهبه التي وهبته الطبيعة؛ فإن هذا لا يزيده إلا تطوحا في حالات العجز والفساد، ولا يعود عليه إلا بنقص في الخصائص وضعف في المواهب والكفايات لا يجني ثمارها إلا الجماعات.
وبعد أن فرغ الدكتور أوستن فريمان من نقد نظامات المدنية الحديثة، وإظهارها بمظهر الإسفاف والسقوط والفساد، مستندا إلى براهين وأدلة فيها كثير من بواعث الروعة والجلال، على ما تضمنته من استنتاجات قيمة واستقراءات تزكيها الحوادث والمشاهدات؛ هيأ عدته وجمع ما حبته به الطبيعة من قوة الابتكار، لينحي بجماعها على الآلات الميكانيكية وأثرها في المدنية الحديثة.
يقول: إن الإنتاج الميكانيكي عنصر مستقل محكوم بقوانينه الخاصة به، وليس له من علاقة ضرورية بحاجات الإنسان أو بسعادته، وإن ارتقاء الآلات الميكانيكية ينزع دائما وفي كل آن إلى زيادة استخدام الحركة غير الإرادية «الأوتوماتيك». أما اضمحلال العمال وإفسادهم أدبيا ومعنويا وطبيعيا، فنتيجة من أجلها تدور الآلات، وقصد من أجله تجري على سننها المعروفة في علم الآلة «الميكانيكا »، وأن ليس لهذا الأمر من غاية إلا أن يخرج الإنسان من مجاله الذي هيأته له الطبيعة، ومن ميدان نشاطه الذي لا ملجأ له غيره.
أما الاستبداد الذي احتكرت به الآلات هذه الأرض، فقد غير وجه البقعة التي نسكنها، وأرخى عليها سدولا من الشقاء، وناء عليها بضروب من الفقر والخصاصة، كما غشاها بمسحة من الحزن والانقباض تراها مسطورة على أوجه الناس، وتلحظها بادية على ملامحهم كما أوغلت في البقاع الصناعية، وتلفيها أكثر انطباعا على الوجوه وأكثر التزاما للأنفس، إذا أنت جرتك خطاك إلى المراكز العظمى التي تعتمد في المدنية الحديثة على الإنتاج الميكانيكي.
كانت المدنية في العصر الأول، وعلى الأخص في القرون الوسطى، رقعة من حسن الذوق وسلامة الاختيار وجمال الشكل، تزيد في طبيعة الأرض جمالا، وتضاعف ما في منظرها من بديع الصنعة وباهر الاتساق، على العكس من مدنية العصر الحاضر، فإنها ليست إلا خلية من البيوت حشدت فيها الأنفس حشدا، وجمع فيها الناس لا ليعيشوا في هدأة الطبيعة كما تقتضي حاجتهم، بل كما تقتضي حاجة الجو المصطنع الحاف بهم، ولا ليمتعوا بما في الطبيعة من نعم ولذائذ، بل ليزيدوا من مصائب الإنسانية ويضاعفوا من كوارث الحياة. وكذلك الحال إذا نظرت في ماخرات العباب، فإن السفينة الشراعية القديمة لقطعة حية من الفن يتمثل فيها جمال الشكل وبساطة التركيب، أما بواخر العصر الحاضر فكتلة من المادة غير متناسقة الوضع وليس فيها من شيء إلا أنها بقوتها وعظمتها وضخامتها إنما تمثل نزعة العصر الحديث في العمل على حيازة القوة الوحشية بكل طريق مستطاع.
كان من الواجب على الدكتور فريمان وهو يقرر هذه الآراء أن لا يغفل عن أن العصر الذي نعيش فيه إنما هو عصر انقلاب وثورة لم تبلغ بعد منتهاها، ولم تنكشف بعد غمرتها، فإن انتقال الإنسان من وداعة القرون الوسطى إلى تناحر العصر الحاضر، لأمر يجعل حكمنا على الأشياء الإنسانية كما هي كائنة، نسبيا لا مطلقا.
في مستطاعنا أن نحكم حكما قاطعا في حادثات فرغ من تكوينها الزمان، في مستطاعنا أن نحكم على عصر الإصلاح البروتستانتي وأن ندلي فيه برأي حاسم، وفي مكنتنا أن ننظر في أثر الحروب القديمة أو في نابليون بونابرت أو في الثورة الفرنسوية، وأن نقضي في كل من هذه الأشياء برأي نقنع به. أما في ثورة انقلاب لا يزال شررها يتطاير من حولنا، ولا يزال غبارها يظلل رءوسنا؛ فمن المتعذر أن نحكم فيها حكما نقطع بصحته، ونكون في الوقت ذاته قد أرضينا نزعة العلم ولم ننضب معين الفلسفة. خذ لذلك مثلا: فإنك إذا أردت أن تتخذ من الحوادث التي وقعت في ثلاثة أرباع قرن فرط من الزمان حادثة كنقطة ارتكاز تبدأ منها نظرك في تاريخ تضعه في تطور الفكر خلالها؛ لما وقعت على حادث واحد يصح أن يكون نقطة ابتداء تبدأ منها، وفي هذا دليل ثابت على أن ثورة الانقلاب من حياة العصور الوسطى إلى حياة المدنية الحديثة لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها. ولقد عجز العلامة «تيودور مرتز»، أشهر من أرخ في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، عن أن يعثر على نقطة ابتداء يبدأ منها نظره القصي في تاريخ عهد هو أحفل العهود بالحوادث الاجتماعية، وأنضجها ثمرة، وأبينها للفكر صورة، قال:
خصت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة وحوادث عظيمة امتصت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، فتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدة بأمرها، إما لتخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين أو تثبيت فكرة بعينها، وإما أن نلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جو من التنازع والجلاد، يوجه بكل ما فيه من مختلف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر.
والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة، منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى التي أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تكثفت فيه عن أفق المدنية سلطة البابوات، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.
فإذا عدنا إلى دراسة الفكر في مثل هذه العصور، لما أعوزنا البحث عن مرتكز نرتكز عليه أو نقطة ابتداء نبدأ منها؛ لأن من الهين أن نعثر على سيارها الذريري الذي يحرك بحركته كل القوى الكائنة، ويبعث العبقرية من مكمنها، ويوقظ الكفايات والمواهب العقلية من رقدتها. ففي عصر كعصر الإصلاح البروتستانتي مثلا يمكننا أن نتكلم في السياسات الخاصة به، وصور الدين التي أنبتها، والفلسفة والأدب والفن، وكل المنتجات العقلية التي أنتجها، وأن نمضي في بحثنا موقنين بأننا لا بد من أن نقع على كل وجه من وجوه التقدم العام، وعلى كل الخطى الارتقائية التي خطاها العصر، وأن نقف على كل الفكرات التي ذاعت فيه، سواء أأرضت معتقدنا أم ناقضته. وإنه لمن الظاهر الجلي أن العصر الذي أؤرخ فيه - القرن التاسع عشر - لا يتضمن حادثا من تلك الحوادث التي تمتص القوى وتبسط سلطانها المطلق على عالم الفكر.
إليك ما ذكره هذا العلامة الكبير بعد أن عدد كثيرا من حوادث القرن التاسع عشر، مظهرا أنها ليست من الحوادث التي يلتئم من حولها الفكر لتغير من عناصره أو لتؤثر في الاجتماع:
ولقد نرجع في النهاية إلى ما أنتج أكبر عقل جاد به القرن التاسع عشر؛ لنستمد منه نقطة ابتداء نرتكز عليها، قد نرجع إلى كتاب «فوست» الذي أخرجه نابغة النوابغ «جوته»، قد نرجع إليه لنتخذه مثالا لأعمق ما جاء به القرن التاسع عشر من صور الفكر بما فيها من الشكوك والآمال، إذ يتنقل بك كاتبه من تيه الفلسفة الموحش إلى ميدان العلم الفائض بالنور المحفوف بالإيناس والطمأنينة، أو ليأخذ بيدك إلى أقصى أغوار الحياة الفردية المستورة وراء ظواهر هذا العالم، ليقذف بك في مطمأن المعتقد الديني والإيمان، بما فيهما من الأسرار الخفية المحيطة بطبيعة الخطيئات والرجوع عنها إلى التوبة والاستغفار.
ثم يقول:
على أننا من أية من تلك النقط نبدأ سفرنا الطويل، وعلى أية من بؤرات الارتكاز تقع أبصارنا لدى أول نظرة نلقيها على ما بين يدينا من ذلك الميدان الفسيح الذي نريد أن نستكشف نواحيه؛ نجد أن هنالك مظهرا واحدا يتحيز في عقولنا منذ البدء، سرعان ما يلقي في روعك أن ذلك الميدان الفسيح ليس بالجنة التي تطمح فيها بالسكينة والهدوء، وليس هو المكان الذي تؤمل أن تزود فيه بمهيئات العمل الهادئ الذي تبذر بذره وتجمع حصاده بدعة ولين، وليس هو منبت التعاون واقتسام العمل الذي تظفر فيه بالسلام البعيد عن خشونة الصراع والجلاد، إنه لميدان أشبه ما يكون بأرض تناولتها القوات العنصرية بالتخريب، وانتابتها الزلازل العتية بعواصف التدمير؛ فتركتها شوهاء لا تفرق بين صعيدها والأخدود، وإنك لتعثر فوق ذلك على بضعة أناس أخذوا على عواتقهم أن يسدوا منه فجوات أحدثها الماضي ونقائص خلفها السلف، وآخرين آخذين في تشييد أسس جديدة على قواعد جديدة، وتقع على غير أولاء وهؤلاء، فتجدهم متنابذين متصارعين على حيازة الملك أو اقتسام التراث، حتى أولئك العمال الوادعون في مصانعهم لا تتركهم طبيعة المجتمع الحاف بهم آمنين، بل تدعوهم الظروف إلى الاشتراك في تلك المعارك، أو تهزهم شكاوى الذين يجاورونهم من مظالم أهل السطوة والجاه، فيهبون من مراقدهم عطشى صرعى، ويرتدون كلمى هزيمة وانكسار.
وإليك بعد ذلك رأيه في طبيعة القوات التي وحدت بين النزعات التي فشت في القرن التاسع عشر، عصر الانقلابين الفكري والإنتاجي، قال:
على أنه إن كان في القرن التاسع عشر من قوة وحدت بين المؤثرات التي انبثت فيه، فإنها لم تظهر طافية على وجه الحياة، بل ظلت دفينة في أعماق الطبيعة البشرية. والمعضلة التي أخذنا على عاتقنا أن نبلغ إلى حلها بسبب، قد ظلت مستترة، وكذلك الغرض الذي قضينا مجاهدين في سبيل إبرازه، فإنه لن يظهر سافرا غير مقنع، إذن نعتقد أنه غرض يمكن أن يدرك من طريق الاستنتاج وحده، فلا نستطيع له تحديدا ولا حصرا، وعلى هذا نوقن بأن الغرض الذي من أجله عشنا وشقينا وجاهدنا - أي في القرن التاسع عشر - لم يظهر لمشاعرنا تاما بينا، كما ظهر للذين عاشوا خلال عصر الإصلاح البروتستانتي أو عصر الثورة الفرنسوية، وإلا لما سقنا بأنفسنا لولا هذا الأمر إلى فلسفة «اللاشاعرية» و«المجهول»، ولما انتهى القرن التاسع عشر مختتما بالتساؤل: «أمن قيمة لهذه الحياة؟»
هذه الصورة التي صور بها العلامة «مرتز» عالم الفكر وتهوشه وقلقه في عصر الانقلاب الحديث؛ لها صورة تقابلها ولا تقل عنها تهوشا واختلاطا في عالم الاجتماع. على أن هاتين الصورتين على بعد ما بينهما من منازع الأسباب تلتقيان في أنهما نتاج لثورة الانقلاب التي خرج بها الإنسان من حياة القرون الوسطى. وكذلك لا نغفل عن أن نخرج من هذه المقارنة بنتيجة أظن أنها صحيحة من وجوه كثيرة، فكما أننا لا نستطيع أن نقع على نقطة ارتكاز نبدأ منها سفرا طويلا نقضيه في التأمل من تاريخ الفكر الحديث، كذلك لا يحتمل أن نعثر على نقطة ارتكاز نتخذها أساسا للبحث في الحالات الاجتماعية القائمة من حولنا، ذلك لأن كلتا الثورتين؛ الثورة الفكرية والثورة الاجتماعية، لا تزالان قائمتين، ولم تنجل غمرتهما عن نظام محدود يمكن الحكم على تأثيره في مستقبل الإنسان حكما ثابتا.
نعود بعد هذا إلى الدكتور فريمان، فنراه يقول:
إن المدنية التي تقدمت مدنية الإنتاج الميكانيكي قد تركت بيئة الإنسان غير مدخولة بشيء جديد يفسد جوها، غير مغزوة بعامل من عوامل الفساد، فلم يدخل في تلك البيئة عنصر جديد يشوه مظاهرها، كما أن مخزوناتها ظلت غير منقوصة، وثرواتها حفظت تامة كاملة. على أن مدنية العصور الأولى مهما كان فيها من صور الانعكاس على حياة الإنسان، فإن هذه الصور لم تزد إلا مضاعفات جعلت الأرض أكثر صلاحية لعيش الإنسان ورفاهيته.
لقد شهد القرن الفارط انقلابا عم أثره كل الحالات، فإن الإنسان في عصر الإنتاج اليدوي قد عاش منتجا من خيرات بيئته، في حين أن عيشه في عصر الإنتاج الميكانيكي محمول على رأس المال، إن الآلة المنتجة عنصر لا بقاء له بغير الفحم والحديد، ذلك في حين أن كل الإحصائيين يعتقدون أن كمية الفحم المخبوء في باطن الأرض لا تكفي العالم ألفا من السنين، بفرض أن العمل على استخراجه قد تنتابه فترات إضراب تكف فيها الأيدي عن إخراجه إلى سطح الأرض، وكذلك الحال في الغابات، فإنها آخذة في الزوال بنسبة سريعة لتزود الجرائد والصحف على الأخص بما تحتاج إليه من ورق الطبع، نزيل اليوم هذه الغابات من سطح الأرض لنتبدل من ذلك الفردوس الناضر بمدن للإنتاج تضعف فيها الإنسانية وتذبل دوحتها، نجتث الغابات العظيمة لنصدر الجرائد، في حين أن نظرة هدوء واستسلام قد تكون في فكرنا، إذا ما أشرفنا على غابة من الغابات، كفاءة نقتدر بها على أن ندرك من الطبيعة عظة؛ هي أدنى إلى نفع الإنسان من كل ما تحشى به جرائد العالم من دروس تفيض بها رءوس القائمين بتحريرها من سقط الكلام، وثيب من القول.
تتجلى مظاهر الإنتاجية الميكانيكية الحديثة في تلك المدن الوخمة القذرة التي امتلأت جنباتها بمعامل الإنتاج تجللها غابات باسقة من المداخن البشعة المنظر، حيث ينبت تحت أصولها جموع من المنازل المتلاصقة تسكنها جموع محشودة من أقذر ما أخرجت عصور التاريخ من بني آدم وحواء، وقد ارتفع فوق رءوسهم نقع كثيف من الدخان الأسود يشبع هواءها الفاسد بفضلات من الفحم تزيده فسادا، وقد تطمو موجة ذلك النقع في الفضاء أميالا ليفسد صفاء الريف الذي يحوط المعامل الإنتاجية. ولو صح ذلك الرأي الفلسفي الذي يريد أن يثبت أن الجمال صفة من صفات الخالق، وأن بارئ الأشياء لا يبغض من شيء بقدر ما يبغض بشاعة المنظر ودمامة الخلق وقبح التركيب، فإن دكتور فريمان لا يشك في أن مدنيتنا الحديثة هي من أبغض ما أبرز الفكر الإنساني إلى الله.
ويحصر الدكتور فريمان مؤثرات الإنتاجية الميكانيكية على جماعات المدنية الحديثة في ستة أشياء:
الأول:
القضاء على الفنان القديم الذي كان يعتمد على مهارته الذاتية وقوة ابتكاره، والتبدل منه بعامل نصف ماهر أو عاجز كل العجز، يقضي زمانه عبدا لآلة تدور بلا اختيار منه أو منها.
الثاني:
القضاء على الصناعات المحلية الصغيرة.
الثالث:
ضياع المصنوعات اليدوية التي تلائم حاجات الإنسان ومطالبه والتبدل منها بأشياء تخرجها مصانع الإنتاج الميكانيكي، أما الصفة التي تسود في منتجات العصر الحديث فزيادة في الكمية مع نقص في الصفة وفساد في الكيفية، وهبوط في السعر مقرون بفساد في الصناعة.
الرابع:
نزول المستوى العام في الإنتاج.
الخامس:
ذيوع عادات الإسراف والنظر إلى المصنوعات بعين السخرية والاحتقار.
السادس:
إضعاف الذوق العام في الأفراد بإدمانهم على النظر في أشياء لم يراع في صنعها ذوق، ولم ينظر في إنتاجها إلى اتساق.
وعلى الجملة يمكن أن يقال، إذا مضينا قانعين بنظرية دكتور فريمان: إن المدنية الميكانيكية الحديثة كانت فشلا تاما أصاب الفرد، وسنرى عما قريب أنها طامة كبرى على الجماعات.
مضى الأستاذ فريمان حتى الآن يظهر تأثير الإنتاجية الميكانيكية الحديثة على الإنسان فرديا، فهل هنالك من تأثير تحدثه هذه الإنتاجية على الإنسان مجتمعا؟ وهل تلك المؤثرات التي تنتاب الفرد في مدنية الآلات الحديثة تتخطى الفرد إلى المجتمع العام لتنال منه إفسادا وتحليلا كما أفسدت من طبيعة الأفراد وحللت حياتهم الطبيعية الأولى، وبدلتهم من بيئتهم الفطرية بيئة مصطنعة من أوضاع العصر الحديث، فيها من البعد عن حاجات الإنسان ومقتضيات سعادته بقدر ما في البعد بين الحقيقة وبين القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي وأن الجاذبية لا تأخذ بضلع في نظام العالم المادي. أما الأستاذ فريمان فشديد الإيمان ثابت اليقين في أن أثر الفساد الذي أنتجته حاجات العصر الحديث المرتكزة على الإنتاج الميكانيكي لا يقل في الجماعات منه فعلا في الأفراد.
إن الانقلاب الإنتاجي الحديث لأكبر انقلاب ثوري انتاب الإنسان في كل العصور. عاش العامل في العصور الأولى عيشا محوطا ببيئة تضمنت كل بواعث السعادة وهيئت بكل عوامل الراحة والاطمئنان، وعلى الرغم من أن ساعات العمل كانت كثيرة فإن الواجبات التي كانت تلقى على عاتق العامل لم تكن لتثقله أو تهبط قواه، وغالب ما كان يتخلل العمل أحاديث تتناول مختلف الموضوعات أو تدور حول العمل الذي يعكف عليه العاملون. وفضلا عن هذا فإن العامل كان سيد نفسه، كان يحدد ساعات عمله كما يشاء، وكان يقيم ثمار عمله كما يريد، وكان يبيع بنفسه ثمرات عمله، وبذلك يعود عليه كل الربح الذي هو حق له دون غيره.
لقد تغير كل هذا بتأثير الإنتاجية الميكانيكية، فإن أولى النتائج التي تترتب على هذا الانقلاب الكبير أن تتحلل جمعية العمال التي كانت توزع على المجتمع العام توزيعا تفرضه مقتضيات الحالات والظروف، فلما تم انحلالها جمعت الإنتاجية الحديثة الأيدي العاملة في جموع قسرت على عادات وطبعت على أخلاق ومذاهب في آداب السلوك مغايرة كل المغايرة لعادات بقية الطبقات وأخلاقها وآداب سلوكها.
إن الحالات التي خلقتها المعامل الحديثة قد كونت مشاعر خاصة أحدثت خلال خمسين سنة مضين صورة جديدة من صور الحياة ملئت بالمفاسد وضروب الانحطاط، وكان أبين ما فيها من الآثار ازدياد روح البغضاء والقلق في أنفس العمال، مقرونة بكل ما تسوق إليه من الصفات المرذولة، كالحسد والأنانية والغيرة وحب الخصام، إرضاء لمطامع، وقمعا لشهوات هي بذاتها من خلق النظام الاجتماعي الحديث. وكانت النتيجة أن يكون العمال جماعات تتحكم فيها نظامات استبدادية لا تذهب بالعمال في طريق الخير ولا تقودهم إلا إلى حيث يهبون من جنبات معاملهم عطشى صراع وجلاد، ليرتدوا كلمى هزيمة وانكسار.
أصبح عامل العصر الحديث ميالا بمقتضى الظروف التي تحوطه إلى حياة الاشتراكية، وإن شئت فسمها «الضمامية»، تلك التي لا تؤدي في ذهن المفكرين من معنى أسمى من معنى فقدان الذاتية الفردية الصحيحة وتضحية الشخصية قربانا على مذبح الاجتماعية الحديثة. وكذلك تراه بعيدا عن التفكير في أن يعود إلى حياة الصناعة اليدوية الأولى، على أنه لا ينصرف عن التفكير في هذا إلا لأنه لم يذق طعم الحياة الاستقلالية ولم يفقه للحرية معنى ولا أدرك لها وجودا، وهو على الرغم من هذا عاجز كل العجز عن أن يقوم بأوده منفردا، ولهذا تراه منغمسا في حياته الاجتماعية، شاعرا بعجزه عن الانفصال عنها.
إن عامل العصر الحديث هو أعجز عامل أقلته الأرض منذ أن كان للإنسان وجود على سطحها، هو عامل فقد كل مهارته الفنية، ولا يدلك على هذا من كتاب الدكتور فريمان كاستشهاده بحالة قامت خلال الحرب العظمى، فإن هذه الحرب لم تكد تدق طبولها وينفخ في صورها حتى خرج العمال من مصانعهم لينضموا إلى صفوف المقاتلين، وكان من المنتظر أن يتعطل العمل في مصانع الإنتاج ولكن الحال كان على الضد من هذا، فإن ذهاب العمال قد أفسح المجال لفئات من العاطلين المستولين في المدن ولفتيات الريف الوادعات القانعات، وقد سار العمل في المصانع بهم وبهن، كما لو كان في أيدي العمال المدربين عليه.
أما نظام النقابات فأكبر ما أصاب المدنية الحديثة من مفاسد البيئات المصطنعة، فهو نظام مضاد لحاجات الاجتماع، مناقض لأبسط مبادئ الديمقراطية، ولا يخلق من شيء إلا جوا للتنازع المفني المضيع لجهود طبقات المجتمع، فينقلب العامل الهادئ من يد منتجة مشيدة إلى يد مهدمة مخربة. بهذا يقول الدكتور فريمان وعليه يمضي في بحث مستفيض، ليثبت لك أن خلق العامل الموروث قد تبدل تحت تأثير الإنتاجية الحديثة، فلست تجد اليوم ذلك الصانع القديم الذي كنت تستقرئ من أخلاقه أثر الهدوء والقناعة والرضا بما بين يديه، بل تجد عاملا ملئ طمعا، لا في أن يصبح أرقى فنا أو أمهر يدا أو أكثر إنتاجا، ولكن في أن يصبح بذاته مالكا صاحب رأس مال يستذل به من طريق الملكية أعناق غيره من عباد الله، الذين قد يتفق أن يكونوا أزكى منه طبيعة وأكثر للمجتمع نفعا وأمهر في العمل يدا وأرقى في الابتكار ذهنا وأصح على العمل عزيمة، وما مثل العمال في صيحتهم التي ترتفع في هذا الزمان بمبادئ الشيوعية والاشتراكية، إلا كمثل من استجار من الرمضاء بالنار، فهم يريدون أن يتبدلوا من حالهم التعيسة بحالة لا تتناول مفاسدها العمال وحدهم، بل تتعدى إلى بقية الطبقات فتنزل بمستواها إلى حيث تبور المدنية ويفسد المجتمع.
وينتقل بك دكتور فريمان بعد هذا إلى وجه آخر من مساوئ الاستغلال الإنتاجي الحديث، ينتقل بك إلى الكلام في الفرص التي يهيئها النظام الحديث لصاحب العمل، أي صاحب رأس المال، أو بالأحرى لعدد قليل من الأفراد تساعدهم ظروف المجتمع على أن يجمعوا من الثروة كمية كبيرة تصبح لعنة من لعنات الترف والبذخ على أنفسهم وعلى أسرهم، وفضيحة من فضائح المدنية. وهو يمضي بك في هذا البحث متخذا لك مثالا من فرد يفتتح محال للتجارة يحتل بها جوانب مملكة من الممالك، فلا يخلو بلد من بلدانها ولا قصبة من قصباتها من مركز تجاري له، فيصبح عما قليل منتجا ومستوردا، وصاحب سفن للنقل وصانعا وبائعا بالجملة وبائعا بالقطاعي، وعلى الجملة يصبح كل شيء في شيء واحد، رابحا من كل درجة من هذه الدرجات أرباحا تتضاعف في كل درجة منها، أما الدرجة الأخيرة التي تنتهي عندها سلسلة هذه الأرباح فتكوين شركة تختص باحتكار متجر من المتاجر، وأما أصحاب الملايين الكثيرة فهم عنوان هذا النظام، وولائد هذه الصورة المدنية الحديثة، هم عنوان على التكثر المالي، الذي لا مبرر ولا معنى له، وهم في المجتمع مبدأ قلق وفوضى لا نهاية لتعدد صورهما.
يسمي الدكتور فريمان هذه الفئة فئة «البلوتوقراطيين»، وهي كلمة تؤدي معنى الحكومة القائمة على نفوذ ذوي الثروة والجاه، وهؤلاء يضطرون أن يحموا أنفسهم ضد المجتمع الذي يمتصون دمه، فلا يجدون من سلاح يدرعونه أمضى حدا ولا أقطع مضارب ولا أثبت في المكاره جنانا ولا أفصح عند الحاجة بيانا من سلاح الصحافة، فهم يشترون الصحف الكبرى والمجلات ويديرونها بما تشاء أهواؤهم، وعلى ما يتفق ومصالحهم، وبذلك يسممون الديمقراطية في منابعها الأصلية بسمومهم المهلكة، حتى إن الصحافة على هذه الصورة قد أخذت تنقلب سلاحا قويا يتذرع به أصحاب الأموال لاستعباد المجتمع والوقوف سدا حائلا دون كل إصلاح اجتماعي. •••
هنالك خطر آخر لم يغب عن ذهن دكتور فريمان أن يتناوله ببحث مستفيض، يقول بأن الناتج من الصناعة يزيد عادة عما في مستطاع سكان كل قطر أن يستهلكوا منه، وبهذا تتجدد الحاجة إلى البحث عن أسواق يستهلك فيها الزائد من الإنتاج، ومن هنا تدير الأمم والحكومات بنظرها في نواحي العالم لتخلق أسواقا جديدة، ومن هنا تأتي فكرة الاستعمار بما يتبعها من مفاسد الاستبداد ومساوئ الحروب العامة.
همس وحي الإنتاجية الحديثة في روع الشعوب، خطأ وتضليلا، بأن إمكان التصدير لا حد له، وأن العالم في مستطاعه أن يبتلع كل السلع التي نلقي إليه، فهب العمال والشعوب يخرجون بكل ما بلغ إليه مستطاعهم سلعا يلقمونها لكرة الأرض، حتى إذا ما هبت عواصف الثورات أو تناوحت رياح الحروب أو انتاب حالات التجارة اضطراب في النقل أو الاستيراد، زاد عدد العاطلين في البقاع الصناعية زيادة كبيرة، وليس لزيادة عدد العاطلين تحت تأثير هذه الظروف الحادثة من معنى إلا أن يعيش جمع غفير من أفراد المجتمع متطفلين - وليس ذلك من نتاج إرادتهم - على ما تنتج اليد العاملة النشيطة، ولهذا ترى أن زيادة عدد السكان مع زيادة نسبة عدد العاطلين أمران هما غرس المدنية الميكانيكية الحديثة. •••
تمثل الشاعر دانتي المشهور إنسانا وأفعى، وقف أحدهما بإزاء الآخر، وما لبثا أن يقفا حتى تولاهما انقلاب خلقي خطير، إذ انبطح الإنسان على الأرض واندمج ساعداه في جنبيه والتحمت ساقاه، وأخذ جسمه يستدق ويزداد استدارة وامتدادا، في حين أن الأفعى انتصبت على ذنبها وأخذ رأسها يتضخم ونبت لها ساعدان، وانفلق نصف جسمها الأسفل فكان ساقين، ثم نظر كل من الإنسان المنقلب أفعى والأفعى التي انقلبت إنسانا بعضهما إلى بعض برهة، ثم مضى كل منهما في سبيله. فلو أن الشاعر العظيم أدرك هذه المدنية التي يصفها الدكتور أوستن فريمان هذا الوصف الممتع العميق، لما تخيل أن إنسانا وقف إزاء أفعى ليأخذ كل منهما صورة صاحبه، بل تخيل إنسانا وقف أمام آلة ميكانيكية فنيت إرادته في إرادتها، فأصبح آلة، وأصبحت الآلة إنسانا. •••
الإنسان من الوجهة الفردية في المدنية الحديثة من أكثر الأشياء بذلا وخسارا، انظر في العديد الأوفر من العمال تجد أنهم إنما يعيشون متطفلين على الآلات الميكانيكية، تلك الآلات التي أخرجتهم عن وظائفهم الطبيعية التي خلقوا معدين للقيام بعبئها، خذ لذلك مثلا حمولة سفينة من السفن العظمى توسق عمالا من الذين دربتهم مصانع الإنتاج الحديثة لتلقي بهم على جزيرة من الجزائر الخصبة غير المعمورة، فهل يمكنك أن تتصور أن في مستطاعهم أن يكونوا جمعية متمدينة مكفية شر الحاجة، كما فعل أول المهاجرين إلى أمريكا؟ من الواضح أنهم يعجزون عن هذا كل العجز، وهم إن أفلتوا من يد الموت جوعا، فإنك تجدهم بعد ستة أشهر من هجرتهم في أقصى حالات الهمجية وأحط دركات التوحش.
روى الدكتور فريمان أنه شاهد ثلاثمائة من زنوج أفريقيا قذف بهم النوء على شاطئ مهجور من شواطئ أفريقيا الغربية الغني بأشجاره وغاباته، فما لبث أن رآهم بعد أن غابوا ساعة في أعماق الغابة عائدين بحزم من الأغصان والحبال المفتولة، وما كان أشد عجبه إذ تطلع بعد قليل فوجد قرية قائمة معدة للسكنى، وهذا المثال يشابه المثال الذي رواه الدكتور مولر ليير نقلا عن سائح في جزائر تاهيتي. هذه المهارة وضروب غيرها من الفنون فقدها العامل في المدنية الحديثة بفضل الإنتاج الميكانيكي، وعلى هذا لا نستخلص من بحث دكتور فريمان إلا أن الإنسان في مدنيته الأخيرة ذاهب في سبيل الفساد من الوجهتين الفردية والاجتماعية. (2-4) التطفل الاجتماعي
صور التطفل في الحياة كثيرة، متشابهة وغير متشابهة، فالتطفل في عالم الحيوان مبدأ يؤدي إلى نتيجة هي بذاتها التي يؤدي إليها في عالم النبات، تلك النتيجة المحتومة التي تؤدي إليها صور التطفل هي الفناء، فناء الأجسام المتطفلة وفناء الأجسام المتطفل عليها.
إن الميكروبات بأنواعها أجسام حية تعيش متطفلة على الأحياء، وبعضها حيواني وأكثرها نباتي، وهل ترى لتطفلها من نتيجة غير الموت المحتوم الذاهب بها وبالأحياء التي تتطفل عليها إلى عالم الفناء؟ وكذلك النباتات العليا، فإن منها ما يعيش متطفلا على نبات غيره كعشب الدبق، إذ ينبت على أصول أشجار التفاح والبلوط، فلا يلبث إذا ما تكاثر عليها أن يفنيها ويقتلها، إذن فالتطفل مبدأ في عالم الحياة له آثاره المشاهدة في عالمي الحيوان والنبات. فهل في عالم الاجتماع أثر من مبدأ التطفل الذي يفسد نظام الجماعات ويفنيها كما يفني التطفل الأجسام في عالم الحياة الفردية؟ سوف ترى معي أن في عالم الاجتماع من صور التطفل ما يذهب أثرها إلى غور أبعد من ذلك الغور القصي الذي تصل إليه في عالم الفرد.
ذاعت فكرات الاشتراكية في العصور الحديثة كدواء لأمراض يشكو منها المجتمع الحديث، فكانت كالسم يسقى لمن لدغته أفعى، فإن صورة التطفل التي يخلقها نظام الاشتراكية لصورة لا تنتج إلا داء عضالا ما تبرأ منه الجماعات إن هي دلفت يوما بقدمها في مفاوزه الوعرة.
تذهب مع الاشتراكيين في وصفهم لمتاعب المجتمع الحديث وضروب المظالم التي يخلقها النظام المدني القائم من حولك، فلا تذهب إلا في جو من الإقناع واليقين بأن النظام الحاضر قائم على أساس كل ما في عالم الحياة يدعو إلى تغييره والتبدل منه بنظام يكفل للإنسانية قسطا من المتعة بسعادات الحياة. ولكنك لا تذهب معهم إلى وصف الدواء حتى تعرف أنهم أمهر كل أطباء المجتمع تشخيصا لدائه، كما أنهم أقصر باعا وأعجزهم يدا عن علاجه.
سل نفسك ماذا يطلب الاشتراكيون ليكون دواء من سقام النظام الحاضر؟ تجدهم يطلبون المساواة بين الناس في فرص الحياة وفي الحطام، أوتدري أية نتيجة تتوافر مع المساواة؟ لا يتوافر معها إلا جو من التطفل لا نهاية له إلا فساد المجتمع وتحليل روابطه الوثقى؛ لأنه من المحتوم عليك في اشتراكية المساواة أن تسوي بين الذين لم تسو بينهم الطبيعة في الكفاءات والمواهب، فتكون النتيجة أن يخرج كل من الأقوياء بنسبة قوتهم، والضعفاء المكدودين بنسبة ضعفهم، ولكن النتيجة أن يقتسم الكل حاصل الضرب على نسبة واحدة، وليس لهذا من نتيجة إلا أن يزداد نصيب الضعف على نصيب القوة إذا روعيت نسبة الناتج منهما، وبذلك يعيش قسم من المجتمع متطفلا على مجهود غيره وبهذا تنحط قوة الأقوياء؛ لأنهم لا يصيبون من الناتج على نسبة ما يستحقون تلقاء عملهم، ولا نهاية لهذه الحال إلا انحطاط المستوى العام إلى درجة الفناء والعدم الصرف إذا ما توالت تأثيرات هذه الحال بضعة قرون متوالية. •••
أما العمال في مدنية الإنتاج الحديث ففيهم نزعة إلى التطفل على جسم المجتمع الحاف بهم، ولا يبغض دكتور فريمان من شيء في عالم الاجتماع بقدر ما يبغض هذه الصورة التي سوف نوقفك على رأيه فيها، على أنك لا تكاد تنتهي مما كتب فريمان في التطفل الاجتماعي قراءة، حتى يشملك حزن عميق، وحتى يقوم في ذهنك من مضارب الآراء ما يحملك على التساؤل أية مهواة من مهاوي هذا النظام وأي صدع من صدوع هذه المدنية سوف يبتلع جماعات العصر الحديث؟ كأنك ترى الفساد والانحلال الاجتماعيين ماثلين أمامك تمثالا متحركا يضرب في الأرض على قدميه إلى غور سحيق يكاد يتردى فيه.
إن المحور الذي تدور حوله رحى التطفل في جماعات العمال الحديثة ينحصر في العمل على طلب الجراء أو الأجر المحدود بإرادة المنتج من غير تدبر في قيمة العمل الذي ينتجه العامل. ولا يجد دكتور فريمان من صعوبة في أن يظهر لك كيف يقنع العامل بأن يمتص دمه من جهاته الأربع، لا لشيء إلا ليرضي المنتج نزعات الخاملين الذين فقدوا القوة على العمل والابتكار وتزودوا من الحياة بقوة المال، تلك الجموع البيروقراطية التي لم تخلق في المجتمع إلا لتبدد ما تخرج اليد العاملة من ثمرات.
يمضي العامل طوال عمره عاملا على أن يرضي ذوق غيره لا أن لا يرضي ذوقه، هو يعيش إذن لغيره لا لنفسه، وهو يجهد نفسه دائما لدرس أحط ناحية من نواحي النفس الإنسانية، ناحية الضعف بشيء خاص ينتجه ليربح المنتج أضعاف ما ينال العامل من عمله، وبهذا يخلق جو من التطفل على صفات الإنسان مستمدا من إرضاء نزعاته الخاملة وشهواته الدنيئة، يعيش عليها العامل والمنتج كلاهما عيش تطفل وخمول، لا عيش جد وابتكار حقيقي. وأنت أينما وليت وجهك باحثا في صور الإنتاج الصناعي، لا ترى إلا هذه النزعة فاشية في كل ما تنتج اليد العاملة، فالإنتاج اليوم عبارة عن إخراج كميات كبيرة ترضي من المستهلك أحط نزعاته، لا عبارة عن إخراج صفات في المنتجات ترضي ذوق العامل وفيها من القيمة بقدر ما يؤخذ تلقاءها نقدا، وعلى الجملة تستطيع أن تقول بحق: إن مصنوعات العصر الحاضر نتاج لفكرة ثابتة في رأس المنتج يدفع العامل على تنفيذها قسرا عنه، قوامها استخدام المشاعر الدنيئة والشهوات السافلة من طريق الإغراء سعيا لابتزاز أموال الجماهير، والسرقة من طريق أخذ كميات من النقد لا توازيها صفات المصنوعات المبذولة فيها، وهذه بحق صورة من أحط صور التطفل الاجتماعي لا تتناول آثارها تبديد الثروات والحطام لا غير، بل يتناول أثرها إفساد اليد العاملة المنتجة بما يحط من مستواها، بل ومن مستوى الجماعة التي تعيش فيها. •••
على أنني لا أعلم كيف ترك الدكتور فريمان صحافة العصر الحاضر دون أن يصف لنا ما فيها من نزعات التطفل الاجتماعي التي بلغت في كل الأمم المتمدينة أقصى دركات الانحطاط والإسفاف، وعندي أن ما يظهر في صحافة العصر الحديث من صور التطفل البشع لأبلغ أثرا في النيل من ترابط الجمعيات الإنسانية من كل عوامل التطفل الأخرى، على ما هي مجهزة به من مهيئات الهدم والتخريب، وما من شيء في الصحافة الحديثة إلا وفيه من دم التطفل قطرة تفيض أو عرق ينبض. وعلى الرغم من أن الصحف سلاح حديث تذرعت به جماعات المدنية الحديثة للدفاع عن مصالحها، وعلى الرغم من أن المبدأ التي خلقت له الصحافة يبعد جهد البعد عن جو التطفل على تعدد صوره واختلاف ألوانه؛ فإن ما غرس في طبع الإنسان المتمدين من منازع الجشع الاجتماعي - البيلونكسيا - كما يدعوه الأستاذ مولر ليير، لم يبق للصحافة من حياة إلا إذا مضت متطفلة على جسم المجتمع القائم من حولها. وأنت إذا رأيت الصحافة الحديثة على هذا النحو من الحاجة إلى التطفل لتعيش ماديا، فهل لك بعد هذا إلا أن تعتقد بأن كل ما هو كائن من حولك طفيليات تعيش هائمة في الطبيعة على وجهها ولا هادي لها إلا البحث عن جسم تغزوه أو جيب تسلبه، وأنت بعد لا تعرف على من تقع نواتج هذه النزعات، إلا على تلك الكتلة الصماء التي تكونها وحدات بشرية مفكرة مدركة وندعوها إصلاحا بالمجتمع الإنساني.
إن أقرب ما ترى من صور التطفل في الصحافة الحديثة بحثها وراء ما يرضي نزعات قرائها، مهما بلغت هذه النزعات من الانحطاط والدناءة. وبعد فهل ترى من الصحف، لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم كله، ما هو أروج من تلك الصحف التي تنشر صور الغانيات مظهرة لبعض جمالهن مستغوية بذلك الشيب والشباب من طريق التطفل على نزعاتهم وشهواتهم النكداء؟ وبعد فهل ترى في عالم الصحافة أروج من تلك الصحف التي تروي القصص مقذوفا به في كل ناحية من نواحي الدنيات، مظهرة لك من الإنسانية صورة لم يخلقها إلا فكر واضع القصص، ولم يقم في ناحية من نواحي العالم لها من مثال صحيح؟ على أن في المبالغة في وصف المبادئ العليا من الخلق الإنساني لمنحدر تنحدر فيه الأخلاق وآداب السلوك إلى حيث تخرج عن طورها الذي يجب أن تقف عنده، وإلى حيث تصبح وهما وخيالا. خذ لذلك أمثال التضحية التي تقرؤها في قصص المجلات والصحف، وسائل نفسك بعد أن تقرأها: هل هذا حقيقة مثال الخلق الإنساني؟ وهل هذه الأمثال يمكن تطبيقها على حالات واقعة بالفعل؟ وأنت لا تلبث أن ترى أنك في عالم من الخيال لا في عالم من الحقيقة. وبهذا وبكثير من أمثاله يفسد المجتمع وتسبح الجماعات في جو من الخيال الصرف لا أثر له في تقويم خلق ولا في غرس فضيلة.
أما إذا نظرت في الصحافة هذه النظرة، ومضيت تتأمل في كثير من صور التطفل التي تظهر لابسة الثوب الصحفي الحديث، وعدت بنظرك إلماما إلى الحالات القائمة في سياسة الشعوب الحديثة وبين جدران دور النيابة؛ فإنك لا تجد أقوى من عاملين تكاتفا على التغرير بالجماعات ليعيش ممثلوها تطفلا على أعناق الجموع البشرية: سياسي العصر الحديث وصحفيه، كلاهما يرضي نزعة واحدة، هي نزعة القبض على خناق الجماهير ليستعبدها وليعيش متطفلا عليها تطفلا لا يكفل لها من شيء ولا يسوق بها إلى نتيجة، اللهم إلا إلى الانحلال والفناء المحتوم.
الوظيفة التي قامت من أجلها الصحافة إرشادية صرفة، هي قوة للإرشاد والتعليم وإذاعة المعارف، لا ابتغاء إرضاء الناس، ولكن ابتغاء إرضاء الحق والضمير. إذن لا يبحث الصحفي فيما يرضي الجماهير، ولا فيما يرضي الأحزاب، ولا فيما يوافق ذوق الناس، ولا فيما يرضي نزعاتهم الهوجاء؛ إلا ويكون قد خرج عن وظيفته ليعيش متطفلا على شهوات الجمعية يرضيها بالقول لترضيه بالحطام. فهل في صحافة العصر الحديث برمتها من شيء يدل على أنها ظلت خلال عصر من العصور أمينة للمبدأ الذي من أجله وجدت والتي لا يجب أن توجد إلا له؟ (2-5) الانحطاط الضمامي
نترك عالم الصحافة وعالم العمل بما فيهما من صور التطفل الاجتماعي لنعود إلى الدكتور أوستن فريمان، لنمضي وإياه في بحث آخر غير التطفل تناول به انحطاط الإنسان المتمدين عن الإنسان المتوحش، فقال:
إذا قارنت بين عبد من عبيد أفريقيا المتوحشين وبين رجل إنجليزي أفسدته عوامل المدنية الحديثة، وجدت أن الثاني أقل كفاءة من الأول، وجدت أنه يميل إلى الكسل والبطالة، وفيه نزعة إلى البله وضعف العقل، فضلا عما فيه من العجز وعدم القدرة على العمل اليدوي، وهو على الجملة فاقد المران والفن، بل جاهل بكل صنوف المعارف العامة جهلا كاملا. أما الهمجي الأفريقي فعلى العكس من هذا تجده فرحا يميل إلى المجانة منشرح الصدر راضيا قانعا، وهو فوق ذلك على علم بطبيعة الحيوانات والنباتات التي تعيش في محيطه، وله إلمام ببعض مبادئ الدين التقليدية وأساطير آبائه وعادات القبائل التي يعيش معها، وله اطلاع على بعض مبادئ الموسيقى، فضلا عن مرانه اليدوي واكتفائه بقوة يده وابتكاره عن مساعدة غيره من الناس له في حاجات حياته، فإنه يستطيع أن يبني بيتا وأن يرفع سقفا وأن يحصل على غذائه وأن يعده إذا كان غير معد للتغذية، ويمكن أن يولد نارا بلا ثقاب وأن ينسج خيطا مغزولا وأن ينسج ألياف القطن ويهيئ منها ثوبا يرتديه، وقد يصنع كل أدواته التي يحتاج إليها وأن يصلح ما يفسد منها بيده. أما من الوجهة الطبيعية فهو قوي البنية، ممشوق القوام، سريع الحركة، قادرا على العمل، نشيط الحصاة.
إن ازدياد عدد السكان عند دكتور فريمان ظاهرة تتصل ببقاء الأطلح من الناس اتصالا وثيقا، وأنه ما من مؤثر من مؤثرات المدنية الحديثة بأبلغ من الإنتاجية الميكانيكية أثرا في خلق تلك الحالات التي تساعد على بقاء الطالحين وإفناء الصالحين اجتماعيا. أما كل ما يمكن أن تجمع من كتاب دكتور فريمان من وصف لتأثير الميكانيكية الحديثة على مجتمع العصر الحاضر، ففي استطاعتك أن تقف عليه إذا ما قرأت قوله:
إن ميكانيكية الإنتاج الحديثة بما تؤثر به على الإنسان وعلى بيئته، عامل من العوامل المضادة لسعادة الجماعات الإنسانية؛ إنها قد قضت على الابتكار الصناعي وبدلت الإنسانية منه بمجرد إنتاج بائر مكدود، كما أنها جردت أعمال الإنسان عن صفات الرقي والفن ونزلت بمستواها، إنها هدمت قوة الوحدة الاجتماعية وبدلت الإنسان منها بانحلال اجتماعي وتناحر بين الطبقات بلغ درجة تهدد المدنية الحديثة بالزوال والفساد، إنها مزقت تكوين المثل الأعلى من الجماعات الإنسانية؛ إذ وضعت أساس نظامها على قاعدة لا يبذل فيها سوى الفرد ولا يخسر بها سوى الفرد، إنها زودت الإنسان الطالح اجتماعيا بقوة سياسية يستخدمها في سبل تضر بالصالح العام؛ إذ يستطيع أن يخلق بها نظامات ومعاهد من أخطر ما أحدثت المدنية من أسلحة الهدم والتقويض، وإنها بما تؤيد من منشطات الحروب إنما تحدث عاملا قويا يهدم من قوة الإنسان الطبيعية ويفني من مهيآتها ويذهب بالحضارة والثقافة إلى حيث العدم الصرف؛ فهي بذلك لا تشابه في الحياة من شيء إلا تلك الأجسام المضادة للحياة التي تعيش متطفلة على غيرها، تلك التي لا تذهب بالأجسام التي تغزوها إلا إلى الفناء الصرف وإلا إلى العدم المطلق. (3) خاتمة البحث - نقد وتقرير
نختتم الآن البحث في معضلات المدنية الحديثة، وقد أحطنا فيه برأي مؤلفين من كبار مؤلفي هذا العصر، كلاهما على علم تام بما يكتب، وكلاهما درس الموضوع الذي تكلم فيه دراسة عميقة أدت به إلى تقرير رأي خاص.
أما دكتور ليير فرجل ينزع إلى الآراء الاشتراكية، المتطرفة بعض الأحيان، وهو كبير الاعتقاد في أن الرذائل الاجتماعية فيها نزعة فطرية تمضي بها إلى جو من التنازع والتناحر حيث تفني إحداها الأخرى، إذن فهو يعتقد أن الإنسانية ترتقي وتتقدم من الجهة الأخلاقية. ولا مشاحة في أن كل من يقرأ تاريخ تطور الفكرة في الأدب منذ بداءة العصر الوثني في أوروبا إلى عصر النهضة العلمية أو عصر الثورة الفرنسوية؛ يقضي بأن لذلك الرأي نصيبا من الصحة، وأن فيه قسطا من الصواب. غير أن القول بأن في الرذائل الاجتماعية نزعة أصيلة تمضي بها إلى الزوال بتأثير إحداها في الأخرى، فقول لم يثبته دكتور ليير ولم يثبته أحد غيره، بل وأظن تغليبا أنه ليس في مستطاع أحد أن يثبته من طريق عملي يرضي نزعة العلم في العصر الحديث. كذلك لا أتخيل أن تطور الآداب قد مضى في سبيل التدرج بخطى تجاوزت خطى التدرج التي خطاها النوع الإنساني في الناحية العضوية الصرفة، نعم إنه لحق أن الفكرة في الأدب قد تطورت، ولكن طبيعتها لم تتغير تغيرا كثيرا يعادل مقداره تطور الفكرة ذاتها. وأما دكتور فريمان فإنه إن كان يتفق ودكتور ليير في أن عصر الإنتاجية الميكانيكية لم يحب المدنية إلا بكل عوامل الفساد والانحطاط؛ إلا أنه يمضي في نظرته التشاؤمية إلى آخر ما يمكن أن يبلغ بها مفكر من مفكري العصر الحديث، فأنت في كتابه برمته لا تخرج إلا بفكرة واحدة شملت أطرافه، فكرة أن الإنسان ينحط فرديا واجتماعيا وأن أبين صور الاجتماعية الحديثة هي صورة التطفل التي قضت على كل الصفات التي خرج بها الإنسان من مهد تطوراته الأولى. أما وقد وصف كل من الكاتبين أمراض المدنية الحديثة، أما وقد شخصا داءها تشخيصا دقيقا؛ فإنهما لم يختما بحثهما إلا بعد أن وصف كلاهما دواء يراه صالحا للأخذ بيد المدنية الإنسانية من وهدتها التي تردت فيها حديثا، لهذا نمضي في تقرير الرأيين، فنخرج من ذلك بفكرة فيما يمكن أن يكون مخرجا من ظلمات العصر الحاضر.
أما دكتور ليير فلا يصف من دواء محدود الخاصيات ليبرئ به الإنسانية من سقامها بعد قيام عصر الإنتاج الميكانيكي؛ هو يكتفي بأن الإنسانية ترتقي وتتطور وأنها تتخلص شيئا فشيئا من رذائلها بطريقة سحرية لم يصفها ولم يعبر عنها تعبيرا يرضى عنه العلم ويسلم به القياس المنطقي، وهنا تقع على أول فشل تشعر به إذا أنت حاولت أن تقع فيما كتب على نتيجة عملية ما من الناحية البنائية. وكذلك الحال إذا أنت رجعت إلى دكتور فريمان، فإنه إن شارك دكتور ليير في وصف الداء وفي تشخيصه بأبلغ ما وصل إليه كاتب من كتاب العصر الحديث درسا واستعماقا في النظر؛ فإن الناحية التشييدية من كتابه، تلك الناحية التي حاول أن يصف فيها دواء للمدنية تعطاه جرعة واحدة، كانت فشلا تاما. وإذا أنت جمعت بين نجاح الكاتبين في وصف الداء وبين فشلهما في وصف الدواء، ألفيت بحق أن المدنية واقعة في مشكلات عظمى ومعضلات كبيرة، قد تذهب بها إلى الفساد والانحلال.
يعتقد دكتور فريمان أن أعظم ما ينتاب المدنية الحديثة من الحالات المضادة لطبيعة الارتقاء القبض على خناق الانتخاب الطبيعي أن ينبعث في سبيله المحتوم تأثيرا في طبائع الجماعات، ولهذا فهو يعتقد أن نصيب الطالحين اجتماعيا من البقاء وأعقاب النسل أوفى من نصيب الذين كان من الواجب أن يترك الانتخاب الطبيعي آخذا بيدهم في سبيل التكاثر والازدياد، ولهذا لا يجد الدكتور فريمان من سبيل يمضي فيه بعد ذلك إلا سبيل القول بانتقاء بقية من أصلح ما يتضمن المجتمع الحاضر من الأفراد، يؤخذون كنواة تتكاثر من حولها جماعة هي بذاتها تلك الجماعة التي تضاد في بيئتها وطرق معاشها جماعات المدنية الحديثة، هو يقترح انتقاء جمع من الرجال والنساء يستدل من حالهم على أنهم أصلح الناس للبقاء وأنسبهم لمطالب الانتخاب الطبيعي، يعزلون عن بقية المجتمع ليعيشوا في عزلتهم وانقطاعهم عيش المدنية المناسبة لمقتضيات الطبيعة، بعيدين عن استبداد الآلات، قادرين على أن يقوموا باستيفاء حاجات بعضهم بقوة سواعدهم وبمهارتهم اليدوية. على أن في هذا الاقتراح على سهولة التفكير فيه لصعاب يتعذر معها تنفيذه، فإنك إن أردت أن تجمع فئة منتقاة كهذه لتعزلها عن بقية المجتمع لما استطعت ذلك في أكثر البلدان الصناعية، يتعذر عليك ذلك في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بل وفي كثير غيرها من الممالك المتمدينة الواقعة تحت سلطان تلك الحالات العقيمة التي وصفها دكتور فريمان ذلك الوصف البليغ. وإذا فرضنا جدلا بأن هذه الفئة استطاعت أن تتكون في ناحية من نواحي مملكة مثل فرنسا، فكيف يمكن أن تكون بمنجاة عن تحمل تلك الأثقال التي تلقيها الحكومات على عاتق بقية رعايا الدولة؟ وما هي في الواقع إلا مسئوليات لا يمكن تحملها إلا بالركون إلى استخدام تلك الوسائل التي ينحي عليها دكتور فريمان ويحمل عليها حملته الصادقة، إنهم سيدفعون ضرائب للحكومة! ومن طبيعة النظام الاجتماعي القائم أن يمضى جزء من الخيرات التي تصرف في سبيلها الضرائب على سكان المملكة حتما، إذن فهم سوف يعملون على زيادة رفاهية الطالحين اجتماعيا، وسوف يساعدون على تمهيد السبيل لزيادة عدد العاطلين وترويج سوق النساء اللاتى فيهن استعداد طبيعي للفساد، وسوف يمدون موظفي الحكومة بجزء من مرتباتهم، وكذلك السياسيون الانتهازيون الذين لا يعيشون إلا في جو التطفل الذي أبدعه العصر الحديث. وعلى هذا تبدأ تجربة دكتور فريمان في جو استجمع كل المهيئات اللازمة لإحباطها.
جماع هذه الحالات تجعل نجاح هذا الدواء في حكم المستحيل في بلاد استحكم فيها استبداد الإنتاجية الميكانيكية، غير أني لا أرى سببا يجعلنا نشك في نجاحها في بلاد أخرى، فإن شركة من الشركات من الممكن أن تتكون على أن تختص باستغلال قطعة من الأرض في بلاد كروديسيا أو طسمانيا أو كندا الغربية أو جنوب أمريكا، ويمكن أن تعيش فيها جمعية منتقاة مستجمعة لكل ما يضمن لها البقاء تحت تأثير الحالات الطبيعية الأولى التي رغب فيها دكتور فريمان ويمضي ناصحا بها، ذلك لأن النظريات الاجتماعية يجب أن توضع موضع التنفيذ؛ لأنه في الواقع المحك الصحيح الذي يمكن أن يعرف به بمقدار ما في النظريات من حق، ومقدار ما في الفروض من صواب، وليس من شك في أن ذلك جائز، فإن الشيوعية على ما فيها من نزعات الاستبداد وعلى ما تنطوي عليه من مطامع، لم تأنف من التجريب، ولا تزال ممعنة في سبيل تجاريبها، رغم أنها لم تفلح في شيء إلا في الناحية الزراعية، وإن كان فلاحا محدودا، ذلك في حين أن جمعية دكتور فريمان سوف لا تطمع في شيء إلا في أن تعيش عيش الناس في القرون الوسطى ومن قبل أن يجتاح المدنية عصر الآلات الحديث، ففي أية من بقاع الأرض يمكن أن توجد مساحة خصيبة قوية العناصر من المستطاع أن تعيش فيها مثل هذه الجمعية، ولكن ذلك غير ميسور في كل بقاع الأرض، كلما أنه بعيد أن يوجد في البلاد الصناعية.
وبعد كل هذا فإنا لا نستطيع إلا أن نقول إن تشخيص الداء شيء غير العلاج، فإن هذين الكاتبين الكبيرين ليتفقان في تشخيصهما لداء الجمعية الحديثة، وقد نزيد على هذا أن حسن تشخيص الداء فيه نصف مهمة الطبيب، فكلاهما يتفق وصاحبه في أن الإنسان إذ مضى يتسود على قوى الطبيعة قد مضى في سبيل أنقص من ناسوتيته ومن رجولته وأوهن من صفاته الطبيعية، فأفسد من هذا بمقدار ما تغلغل هو إلى صميم الطبيعة التي يعيش في جوفها، يقولان بأن الإنسان قد نجح، ولكن في الحد من مواهبه وكفاياته، فأغفل كثيرا من الانتفاع بأوجه نشاطه الطبيعي، وبذلك أضحى أوهى تكوينا وأقل سعادة مما كان، وعلى هذا يقرران أن المدنية في خطر أن تصبح ثورة نظامية ضد الطبيعة الكونية. أما الباحث الألماني فعلى الرغم من كل هذا يعتقد أن اجتياز هذه العقبة مستطاع بأن تهذب النظامات الاجتماعية، وبالأحرى بأن تستكمل المعدات التي تؤهل الإنسان لكي يتحكم في بيئته بمحض اختياره تحكما تاما، وأن الإنسان إذا بلغ إلى هذا الحد مضى يضرب في سبيل النشوء إلى مدى قصي بعيد، فهو من المتفائلين، ولكن تفاؤله موقوف على هذا ولا على شيء غيره. أما الباحث الإنجليزي فشديد الإيمان بفساد المدنية، ولذا يلجأ إلى «اليوجنية» يستدر وحيها ليتخذ من مبادئها ما يطبقه تطبيقا عمليا تفلت به الجماعات من الأغلال المحتومة عليها إن هي مضت عاكفة على طرائقها القائمة اليوم. أما الأول فلأنه كتب قبل الحرب العظمى، فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التفاؤل، وأما الثاني فلأنه كتب بعد وقوع الكارثة فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التشاؤم. وسوف يظهر لنا المستقبل القريب عما إذا كانت المدنية الحديثة من المستطاع إصلاحها أم أنها سوف تلحق بما سبقها من صور المدنيات.
على أنا لا نستطيع أن نتصور كيف أن مدنية لا تسود فيها الفردية المستقلة يمكن أن تكتب لها الحياة! ولا بد من أن تنبعث في الجماعات حياة روحية جديدة تولي بها نحو مثل أعلى في حياتها الدنيا، قبل أن نقول بحق إن المدنية أفلتت من عوامل الفساد المنبثة في تضاعيفها.
برقين - 1926
النسبية
(1) من الوجهة العلمية
يقول العلامة داروين في الفصل السادس من كتابه «أصل الأنواع»: «لقد اهتزت أوتار العقل البشري من صميمها؛ إذ أعلن لأول مرة في تاريخ الدنيا أن الشمس ثابتة وأن الأرض هي التي تدور حولها، ولم يسلم الناس بهذه الحقيقة الواقعة.» ولكن المثل القائل بأن «كل ذائع لا بد من أن يكون صحيحا.» لا يمكن الأخذ به في مباحث العلوم كما اتفق كل الفلاسفة. ولا جدال في أن أوتار العقل البشري قد اهتزت واضطرب توازنها مرة أخرى عام 1859 عندما أذاع داروين رأيه في الأنواع قائلا: «إن ما كنت أقطع به - كما قطع الطبيعيون - من القول بأن كل نوع من الأنواع قد خلق مستقلا بذاته خطأ محض، وإن الأنواع دائمة التغاير، وإن الأنواع التي نعتبرها من توابع الأجناس هي أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض.» كذلك اهتزت أوتار العقل البشري مرة ثالثة عام 1905 عندما أعلن العلامة ألفرد أينشتين الألماني رأيه في النسبية التي لم يمض على نشر الرأي فيها بضع سنين حتى أربت المؤلفات التي كتبت في إنجلترا باحثة في حقائقها على الألف، محصت فيها وجوه هذه النظرية العلمية التي دكت معالم الرأي السائد في تطبيق هندسة إقليدس، بعد أن ظلت ثلاثة وعشرين قرنا من الزمان المنارة الوضاءة بما كنا نعتقد أنه الحق، وغيرت الفكرة في جاذبية نيوتن تغييرا تاما.
ظل العالم يعتقد - كما اعتقد القدماء - بأنه لا يوجد إلا ثلاثة أبعاد لا يخرج عنها شيء في العالم المادي، الطول والعرض والعمق، وظللنا نعتقد كما اعتقد الأقدمون بأن الزمان عبارة عن مقدار الحركة من جهة المتقدم والمتأخر، وأن المكان عبارة عن السطح الباطن من الجرم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجرم المحوي، وتابع الناس هذه الآراء على أنها ثابتة في ذاتها، وأن التعاريف الموضوعة فيها تعاريف لا ينالها التبديل ولا الزوال، في حين أن هذه المسائل عامتها مسائل اعتبارية كما قال البعض، وكما أثبتت النسبية في هذا الزمان. •••
لنفرض أن بائعا أراد أن يعلن عن صندوق يريد بيعه وأحب أن يبين في إعلانه حجم الصندوق، فإنه لا يحتاج أن يبين لذلك سوى ثلاثة مقاسات، بأن يعين ارتفاعه وطوله وعرضه، ومن ذلك يعرف الناس مقدار حجمه الطبيعي، فإذا ضربت طول الصندوق في عرضه في ارتفاعه عرفت مقدار سعته. غير أنك إذا تركت قياس هذه الأبعاد إلى أشخاص عديدين خرجت من عملهم بنتائج متناقضة مهوشة، خذ مثلا شخصين أراد كلاهما أن يقيس ذلك الصندوق فقاسه كلاهما متوخيا الدقة، فإنك تجد أن مقاساتهما مختلفة تمام الاختلاف، يقول أحدهما: إن ارتفاعه اثنتا عشرة قدما، ويقول الآخر: إن ارتفاعه ست أقدام فقط، وقد يقضي أولهما بأنه تسع أقدام طولا ويقضي الثاني بأنه اثنتا عشرة قدما طولا، ويقول أحدهما: إنه ست أقدام عرضا، في حين يقول الآخر: إنه تسع أقدام عرضا! فمن أين تأتي هذه الفروق؟ تأتي من أن أحدهما قاس الصندوق وهو قائم وقاسه الثاني وهو في وضع آخر، فكان الذي اعتبره الأول طولا اعتبره الثاني ارتفاعا، وهذه اصطلاحات اعتبارية عند الناس وهي في حقيقتها نسبية للناظر. والاختلافات التي تحدث في مثل هذه الحال قد تسوق الذين يريدون دراسة النسبية إلى كثير من الخلط والفوضى، فإننا في حياتنا العملية نعتبر أن الارتفاع هو البعد المقيس من فوق إلى أسفل، ولكن الخلاف طالما وقع بين الناس على الطول والعرض، أما في المكان فلست تجد بعدا تقيسه من فوق إلى أسفل، والاتجاه الذي تقيس به الأبعاد في «المكان» اعتباري صرف. ولا نتخذ في قياساتنا من شيء ثابت إلا أننا نجعل الأبعاد الثلاثة متصلة بزوايا قائمة، فإذا وجدنا شخصين كلاهما يتوخى الدقة في قياساته قد وصلا إلى تقديرات مختلفة في قياسهما الأبعاد الثلاثة لشيء معين، نقضي غالبا بأن كلا منهما قد اتخذ قياسه من اتجاه مختلف عن اتجاه الآخر. فإذا تحققنا هذا عرفنا بعد ذلك أن الكمية العامة محفوظة في مقاساتها، فما يفقده الأول فيما اعتبره طولا يعوضه الثاني فيما اعتبره ارتفاعا مثلا، وإنه مهما اختلفت مقاساتهما فإن كمية الجرم نفسه تبقى واحدة عندهما.
والآن إذا أردنا أن نطبق هذا البيان على الحالة التي يكون فيها جسم ذو ثلاثة أبعاد متحركا بسرعة عظيمة مخترقا فضاء، بحيث يظهر للرائي من بعيد كأنه منبعج قليلا عند أعلاه وأسفله في حين أن الشخص الذي يحمله هذا الجسم لا يلحظ فيه أي انبعاج مطلقا؛ فهنا نتساءل: ألا يوجد فرق آخر يعوض خطأ التقدير بين الشخصين في البعدين الآخرين؟ لا يوجد فرق كهذا بين تقديرهما في الارتفاع أو العرض؛ لأن هذين البعدين يظلان متماثلين عند كليهما، فهما لا يختلفان إلا من حيث تقدير الطول فقط.
غير اننا إذا قلنا بأن للأجسام أبعادا أربعة بدلا عن ثلاثة كما يخيل إلينا، فهنالك في البعد الرابع نقع على المبدأ الذي يحدث المعاوضة بين تقدير الشخصين، وذلك ما يقع في الطبيعة تماما، فإن البعد الرابع هو بعد الزمان؛ لأنك تجد أن تباطؤ السرعة في الجسم المتحرك تعوض تماما مقدار ما يلوح لك من القصر في طول الجسم نفسه.
وقد تساءل البعض: لماذا لا نحس بوجود هذا البعد الرابع الذي نسميه بعد الزمان؟ السبب في ذلك يرجع إلى أن هذا البعد لا يختلف مطلقا في نظر كل المتطلعين إلى الفضاء من فوق كرة الأرض، إذ لا يوجد إلا مثال واحد لقياس الزمان يتفق عليه كل سكان هذا السيار، ولما كان هذا المثال واحدا لا يختلف فيه اثنان أخرجناه بالطبيعة عن ملاحظاتنا الراجعة إلى حسن النظر، أضف إلى ذلك أننا لم نهيأ بعضو خاص لإدراك ذلك البعد الخفي، وهذا البعد لا يظهر بصور مختلفة إلا في جرم يتحرك بسرعة تختلف اختلافا كبيرا عن سرعة الجرم الذي يحملنا، ولكنه إذا اختلف فكذلك تختلف لاختلافه المقاسات الخاصة بطريق المعاوضة. وبالجملة لا يوجد في الطبيعة شيئان مختلفان كما نظن يقال لأحدهما المكان وله ثلاثة أبعاد ويقال للآخر الزمان وله بعد واحد، بل هنالك شيء واحد يقال له «المكان الزماني» وهو ذو أربعة أبعاد. •••
عرفنا أن القائسين مهما اختلفوا في الاتجاهات التي يقيسون بها جرما معينا فإن حجمه يبقى ثابتا عندهم، إذن فالحكم حقيقة ثابتة في ذاتها، مستقلة تمام الاستقلال عن الاتجاه الذي نقيسها به، وهذه الحقيقة تنطبق تماما على المسافات فضلا عن انطباقها على الأجرام.
افرض مثلا أنك وجدت نقطة تبعد عنك ثلاثة أمتار شرقا وأربعة أمتار شمالا، فمسافتها الواقعة في الشمال الشرقي بشمال تكون خمسة أمتار، تحقق هذا القول بنظرية «إقليدس» التي تثبت أن المربع الذي يقام على وتر الزاوية القائمة في مثلث قائم الزاوية يساوي مربعي الضلعين الآخرين.
ولنفرض أيضا أن بوصلتك قد تختل بحيث يصبح الشمال عندها شمالا غربيا، وإبرتها التي تشير إلى الشرق أصبحت كذلك تشير إلى الشمال الشرقي؛ فماذا تجد؟ تجد أن تلك المنطقة قد تبعد عنك إلى الشمال مترين وإلى الشرق أربعة أمتار ونصف، ولكنك تجد مع ذلك أن مربعاتها 25 تقريبا وأن بعد النقطة لا يزال خمسة أمتار كما كانت من قبل. محصل ذلك أننا نستطيع أن نقيس طول أي شيء وعرضه بطرق تختلف باختلاف إرادتنا، في حين أن النتائج العامة تظل واحدة ما دامت قياساتنا صحيحة. •••
كذلك في «المكان الزماني» ذي الأبعاد الأربعة تجد كمية خاصة لا يؤثر فيها اختلاف الطرق التي تتخذها سبيلا إلى قياسها وتسمى علميا «الفترة
Interval »، وهي المدة التي تفصل بين وقوع حادثتين معينتين. ولقد ثبت لدينا من قبل أن الرائي وهو في حركة سريعة لا بد من أن يختلف حكمه على طول الأجرام عن حكمنا اختلاف حكمه عن حكمنا في مقاييس الزمان التي تلازم حركته، ولكنه مع ذلك يتفق معنا دائما على «الفترة» التي تفصل بين حادثتين تقاسان بمقتضى «المكان الزماني»، فالفترة التي يقضيها إنسان من يوم مولده إلى يوم موته قد يقدرها أحد الباحثين بألف ميل وخمسة وسبعين عاما، في حين أن آخر قد يقدرها بعدة ملايين من الأميال وستة وسبعين عاما، ذلك خلاف بين تقديريهما. أما الكمية التي تبقى ثابتة عندهما فهي مربع المسافة التي قطعها ذلك الإنسان متنقلا فوق الأرض منذ مولده حتى هلكه، ناقص مربع المسافة التي قطعها الضوء في المسافة عينها، هذه الكمية لا يمكن أن تتغير مهما اختلفت نظراتنا إليها. إن كثيرا من الكاتبين في النسبية يعتقدون أنه ليس من الضروري وضع فكرة طبيعية عن «الفترة»، ويكفي أن تعرف أنها عبارة عما يقال له في علم العدد «كمية فرضية» مثل المربع الجذري لناقص واحد، فإنك في المكان ذي الأبعاد الثلاثة يمكنك أن تمثل للمسافة الواقعة بين نقطتين بخط مستقيم يصل بينهما، أما في «المكان الزماني» ذي الأبعاد الأربعة فلا يمكننا أن نمثل ل «الفترة» الواقعة بين حادثتين بخط مستقيم أو غير مستقيم؛ لأن «الفترة» لا يمكن إدراكها إلا بمعادلة حسابية، في أن إدراكها ليس ببعيد إلا إذا أردنا أن ندركها ببصرنا؛ لأننا لم نعط من الكفات ما نستطيع بها أن نحدها بقوة أبصارنا.
أما المعنى الحقيقي الذي يقصد من النسبية فيسهل علينا إدراكه إذا فرضنا مكانا لا شيء فيه سوى كرة واحدة من المادة، ثم فرضنا بعد ذلك أيضا أننا حاولنا أن نعرف إن كانت تلك الكرة تتحرك أم هي ثابتة، فكيف نصل إلى ذلك؟ إن النظرية الخاصة التي تقول بها النسبية تقضي بأن ناظرا ما من فوق تلك الكرة لن يستطيع أن يستكشف بأية طريقة من طرق الامتحان والتجربة إن كانت تتحرك في مكان معين أم ليست متحركة، إن كل شيء تحمله هذه الكرة يظل متحركا فى اتجاهه المرسوم له سواء أكانت الكرة ذاتها ثابتة أم متحركة بسرعة ألف ميل في الساعة. والسبيل الوحيد الذي نحكم به على حركة جسم ما في حياتنا العملية هو أن نلاحظ إن كان يغير موضعه «بالنسبة» لأجسام أخر أم أن موضعه لا يتغير، أما إذا «لم توجد» أجسام أخر في الكون فإنا لا محالة نعدم هذه السبيل، من هنا نجد أنه لا سبيل مطلقا إلى الحكم على تلك الكرة بالحركة أم بالسكون، وقد لا نبعد في هذه الحال عن الحقيقة أن قضينا بأن البحث في ذلك بحث عقيم لا نتاج له.
لنفرض بعد هذا أن تلك الكرة تتحرك بسرعة ألف ميل في الساعة، فماذا نعني بذلك؟ إنها لا تكون إذ ذاك قد اقتربت من «شيء» ما دام الفرض أن المكان الذي تخيلناه لا يحوي شيئا تقترب منه أو تبعد عنه في حركتها. كذلك الحوادث التي تقع فوق تلك الكرة تقع على خط واحد وبطريقة واحدة مهما فرضنا لها من السرعة، فكل معرفتنا إذ ذاك تكون مقصورة على أن هنالك كرة موجودة، أما إذا قلنا بأنها متحركة فإنما نحن نتفوه بما لا ينقل إلينا أية فكرة، بل بما لا نفقه له معنى البتة، وليس معنى ذلك أننا لا نعرف مقدار حركتها لا غير، بل معناه أيضا أن الحركة تصبح لدينا محض اعتبار تصوري ما دام لا يوجد إلا جرم واحد في فضاء بعينه. ومن هنا نجد أن المكان متابعة لذلك وتحت تأثير هذه الحالات ليس إلا اعتبارا تصوريا أيضا، ففكرتنا في المكان هي نفس فكرتنا في شيء يمكن لجسم أن يتحرك فيه، ولا جرم أننا إذا عدمنا فكرة الحركة فعندها نفقد أيضا فكرة المكان.
ثم لنفرض أن في الكون كرتين بدلا من كرة واحدة تتحركان متقابلتين بنسبة واحدة من السرعة، ولكنهما لا تدوران حول محورهما، بل إن كلا منهما تظل حافظة لجهة واحدة في اتجاهها نحو الأخرى، ومن الجلي أن سرعتهما مهما كان مقدارها فهما إما أن تظهرا ثابتتين وإما أن تظهرا متحركتين في خط مستقيم متقابلتين أو متباعدتين، وكل ما نستطيع إذ ذاك أن نميز من تغير موضعهما ينحصر في تزايد المسافة التي تفصل بينهما أو تناقصها، أما إدراكنا لأية صورة من صور الحركة الأخر فلا نستطيعه إلا بوجود جسم ثالث نتخذه معدلا للقياس، وكل شخص يكون فوق الجرم الثالث قد يحتمل أن يرى إحدى الكرتين تنقلب على عقبها في الفضاء أو يراها متخذة أية حركة أخرى، أما إذا ظلت الكرتان غير مدركتين وجود جرم ثالث، فهذه الحركات تظل غامضة على كلتيهما، وكل ما يستطيع شخص أن يعرف فهو إن كانت المسافة التي تفصل بينهما قد زادت أو نقصت بنسبة خاصة من السرعة. فإذا أدرك شخصان فوق هاتين الكرتين وجود الجرم الثالث، فربما عزا كل منهما تغير المسافات الذي يلحظانه إلى حركة الجرم الذي يحمله لا إلى حركتهما معا. ومحصل القول أن تغير المسافة هو كل ما يستطاع إدراكه، أما الحركة المطلقة فإنها ليست فقط مما لا يمكن معرفته، بل إنها فاقدة لكل معنى البتة، ويترتب على ذلك أن المكان المطلق لا معنى له بالتبعية، لما تقدم.
من هنا نجد أن إدراك المكان كإدراك الزمان، كلاهما يتبع وجود أجسام مادية، وليس المكان إلا أثرا من آثار المادة، أما إذا فصلت بين المكان والمادة فإنه يصبح مفقود المعنى.
إننا لا نستطيع أن نرى المكان بأعيننا؛ لأن المكان ليس بشيء مادي، وما هو إلا فكرة تأتي من إدراكنا للمادة. وما دام المكان أثرا من آثار المادة، فإنا بذلك ننتظر دائما أن يقال لنا إن قدر المكان يرجع دائما إلى الثقل النوعي، فكرة من الماء قطرها 350 مليونا من الأميال يمكن أن تملأ كل مكان مستطاع تصوره، ولكن الواقع أن المادة التي تملأ أطراف الكون يقل ثقلها النوعي كثيرا عن ثقل الماء، ومن هنا حسب الباحثون أن مقدار المكان المحيط بهذا الكون عبارة عن كرة مقدارها 400 تريليون من الأميال، وكل الأشياء لا بد من أن توجد داخل هذه الدائرة، أما تصور شيء خارج عنها فلا يمكن أن يكون له معنى عندنا. افرض أن جسما يبدأ في الحركة متخذا اتجاها مستقيما في الظاهر إلى ما لا نهاية، فإنه يظل داخل هذه الكرة ولن يخرج عن حدودها، والضوء يتحرك أو ينتشر في الواقع بسرعة هائلة، وقد عرف حديثا أنه ينتشر في الفراغ بسرعة 820-299 كيلو مترا في الثانية الواحدة، غير أنه على سرعته هذه لا يستطيع أن يتحرك في حيز خارج عن دائرة المكان، فهو يسبح فقط حول هذه الدائرة ويحتاج إلى 1000 مليون من السنين ليتم سياحته، حسب تقدير سرعته قبل الاكتشاف الحديث، من نقطة مفروضة يبدأ منها إلى أن يعود إليها، ولذلك يقول البعض إننا قد نشاهد أشياء حدثت منذ 1000 مليون من السنين؛ إذ يكون الضوء الصادر عنها قد طاف حول الكون ورجع إلينا ثانية، حتى قال الأستاذ «رادنجتون»: إن بعض السدم الحلزونية ليست سوى طيوف حقيقية من نظامنا النجمي، أي أجرام رجعت إلى مآويها ومرابضها التي خلفتها منذ 1000 مليون خلت من الأعوام. •••
إن الناموس الذي شرحناه قد يزعزع كثيرا من يقين عامة الناس؛ إذ يتساءلون: كيف يكون للمكان كمية محدودة في حين أنه لا حدود له؟ وكيف أن مقدارا يكون محدودا في حين أنه لا يكون محويا داخل حدود ما؟ إن المشبهات التي نستخلصها من مكان ذي بعد واحد أو بعدين قد تساعدنا على فهم ذلك وما يعني به: فمكان ذو بعد واحد يكون خطا، فإذا اتحد طرفا هذا الخط فإنه يصبح لا أطراف له، في حين أن طوله يكون محدودا، والمكان ذو البعدين يكون سطحا، فإذا أصبح هذا السطح سطح دائرة، حدث إذ ذاك أنه يكون بغير حدود، في حين أن هذا السطح يمكن معرفة مقداره بالقياس، فهو بذلك كمية محدودة. فحشرة من الحشرات الدنيا مثلا في مستطاعها أن تجوب أنحاء هذا السطح إلى ما لا نهاية، من غير أن نصبح في زمن من الأزمان أقرب إلى نهاية السطح أو أبعد عنه، وإذا لم يوجد في العالم شيء سوى هذا السطح، فحينذاك يصبح المكان عبارة عن هذا السطح، لا أقل ولا أكثر، فالمكان غير متناه باعتبار أنه لا يمكن أن يكون له آخر تصل إليه، ومتناه باعتبار أن له مساحة محدودة وقدرا محدودا.
وفي كلتا الحالتين، حالة الخط وحالة السطح، إذا أريد أن يصبحا محدودين فإنه لا بد من أن ينحنيا، فإن خطا مستقيما إذا ذهب في امتداد واحد دائما فإن طوله يصبح متناهيا، فإذا أردنا أن نحد طوله ولا نحد أطرافه فلا بد من أن ينحني ليلتقي طرفاه في نقطة، وهذا الانحناء لا يحدث إلا في البعد الثاني، أي إنه لا بد من أن يحوز مساحة، والمساحة هي عبارة عما يكون له عرض كما يكون له طول، فالخط ذاته ولو لم يكن له إلا صفة الطول وليس له غير بعد واحد، فإنه إذا التحم طرفاه حاط مكانا ذا بعدين. وهذه هي الحال بعينها في السطوح، فإن السطح إذا كان منبسطا تمام الانبساط فإنه يكون ذا مساحة غير متناهية، فإذا أردت أن تجعل مساحته محدودة في حين يكون غير ذي أطراف متناهية، فيلزم أن ينحنى في البعد الثالث، كما لو كنت تجعله يحوي داخله كمية محدودة، ككرة مثلا أو أسطوانة أو غير ذلك.
كذلك المكان الخاص بهذا الكون الذي نعرفه قد يقال فيه ما يقال في غيره؛ لا حدود له، وهو في الوقت ذاته ذو كمية محدودة، ويرجع الكلام في هذا إلى الناموس ذاته، أي إلى القول بأن المكان ذا الأبعاد الثلاثة لا بد من أن يأخذ انحناءه في البعد الرابع، والأستاذ «أينشتين» نفسه يعتقد أنه منحن انحناء أسطوانيا، ويقول غيره بانحنائه على أشكال أخر. غير أن كل هذا يتوقف على أنه مسألة معادلات رياضة لا يمكن أن تصبح في يوم ما مرئية رأي العين، فبمجرد ما يبدأ البعد الرابع في التأثير فإن مقدرتنا على تقدير الأبعاد بالنظر تعدم بتاتا. ومن السهل الهين أن ترى بعينك كمية متناهية لا حدود لها في مكان ذي بعد واحد أو بعدين، ومن طريق هذه المشابهة والقياس عليها نستطيع أن نكون فكرة لما نعني من الكلام في انحناء المكان، وكيف أن مكاننا في مجموعه لا يمكن أن يكون كمية يستطاع قياسها، في حين أنه يكون في مقدورنا أن نتحرك إلى ما لا نهاية داخل ذلك الشيء الذي يخيل إلينا أنه خط مستقيم، ومع ذلك فلا نبتعد عن المكان ذاته أكثر من عدد مخصوص في تريليونات الأميال تقاس من النقطة التي تبدأ منها. •••
إن نظرية النسبية في حالتها الحاضرة لم تتخلص بعد من الأشياء المطلقة في ذاتها تخلصا تاما، فإنه يوجد مثلا كما يقول الأستاذ «إنجتون» مستقبل مطلق وماض مطلق، أي أزل وأبد، ومن هنا نستطيع أن نعتبر الزمان امتدادا لا نهائيا غير محدود، ليس له أول وليس له آخر، من هنا تذهب فكرة الحدوث المشترك ذهابا تاما، ولماذا؟
افرض حادثتين - ألف وباء - وقعتا في مكان ما، فإنهما لا تكونان متشاركتي الحدوث إلا لراء واحد، في حين أن رائيا آخر قد يرى أن الأولى حدثت قبل الثانية، وقد يرى ثالث أن الثانية حدثت قبل الأولى. أما نظرية النسبية فتحول بيننا وبين الحكم بصحة نظر أحدهم وخطأ الآخرين، فكلهم عندها على الحق، ذلك لأن التشارك في الحدوث ليس مطلقا بل هو نسبي، وهو يرجع إلى معيار الزمان الاعتباري الذي يركن إليه كل من الرائين، وكل معيار للزمان في النسبية صحيح، مهما اختلف اعتباره عند الناس.
كذلك تعترف النسبية بكميات مطلقة كسرعة الضوء التي تظل واحدة مهما اختلف الاعتبار في معيار المكان والزمان عند الناس، وكذلك «الفترة» التي تقع بين حادثتين معينتين. •••
كان «نيوتن» يعتقد أن جسما متحركا في مكان ما لا بد من أن يظل متحركا في خط مستقيم ما دام أنه لم يتأثر بقوة أخرى خارجة عن قوته، أي إنه يتحرك من نقطة إلى أية نقطة أخرى تصادفه في طريقه، متخذا أقصر طريق ممكن يصل بينهما. أما «أينشتين» فيقول بأن جسما ما يتحرك لا في مكان، بل في مكان زماني، وأنه يتحرك متنقلا من نقطة إلى أخرى يصادفها في طريقه متخذا أقرب طريق ممكن، فالجسم في حركته لا بد من أن يصادف أجزاء من المكان يشتد انحناؤها، إذ المعتقد الآن أن المكان فيما يجاور المادة الكثيفة أكثر انحناء منه بعيدا عنها، حيث يقرب من التسطح والانبساط ، فإذا قارب جسم جسما آخر فحينذاك يكون قد قارب حيزا من المكان مشوها، أي أكثر انحناء، غير أنه يظل متابعا حركته في ذلك المكان كما كان من قبل، ولكن بالنسبة إلى الانحناء العام لا يلوح لنا أنه سائر في خط مستقيم، بل يظهر كأنه سائر في فلك منحن. من هنا نستطيع أن نعلل حقيقة الجاذبية من غير أن نحتاج إلى فرض القوة الجاذبة التي نقول بأنها تجذب الأجسام، فإن إدراك القوة أمر «أنثروبومورفي»، أي إنه يرجع إلى الصفات البشرية التي ننسبها إلى الله - عز وجل - وبمعنى أوسع أمر مستمد من تجاريبنا الذاتية التي يجريها الإنسان بحكم السر المودع فيه على الأجسام الخارجة عن حيزه. أما نظرية النسبية فإنها تسير بنا خطوة أخرى لتبعدنا عن القول بأثر القوى المشابهة لقوى الإنسان في الطبيعة، فهي تردنا إلى القول بإعادة كل الأشياء إلى نظام مادي صرف، غير ذي علاقة بأي وجه من الوجوه بشيء من النظامات أو القوى المشابهة للقوى البشرية. •••
ولا تقف النسبية عند هذا الحد، فإنها تتناول تأملات فلسفية عميقة، فقد نتساءل مثلا إلى أي حد يذهب نصيب شيء من الصحة والواقع، إذا كان هذا الشيء غير مستطاع أن يقع عليه حسنا؟
يقول «هربرت سبنسر»: «كل ما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا»، على أنك كلما قلبت وجوه الرأي وقعت على أشياء لا يمكن أن تدركها الحواس، فكون القوة مثلا في مستطاعها أن تؤثر عن بعد أمر لا يمكن إدراكه بالحواس، فقوة الجاذبية أمر لا يمكن إدراكه بالحواس، شأنها في ذلك شأن البعد الرابع في النسبية. غير أنها أحد الأشياء التي إن تعذر إدراكها حسيا، فإنها من الأشياء التي تنزل معرفتنا بها منزلة الضروريات، حتى إنها لا تحتاج إلا إلى قدر قليل من الجهد لتبث فينا إحساسا بالعجب والحيرة معا. وفضلا عن هذا فإن البعد الرابع، كما أبنا عن ذلك قبلا، من الممكن أن يصبح ظاهرا بينا، إذا كانت الطبيعة قد وهبتنا عينا تستطيع الحركة والتنقل بسرعة هائلة، لذلك لا يجب أن نحد من الطبيعة ونظامها لأنها لم تزودنا إلا بحواس خمس لا غير، وفي هذه الحالة يتسنى لنا أن نقرر أن طبيعة الحاسة السادسة هي التي يحتاج إليها الإنسان ليدرك ظاهرات الطبيعة بحواسه. ومجمل القول أن شيئا قد يكون صحيحا في ذاته، حتى ولو تعذر علينا أن نأتي من الطبيعة بما يفسر حقيقته؛ لأننا لا نعني بالتفسير الطبيعي سوى التعبير بلغة حواسنا، وهى حواس، فضلا عن قلتها في العدد فإنها ضعيفة لا يعتد بها إزاء الكون في مجموعه. •••
يقول البحاثة مستر «هيو إليوت» إن هناك بضعة أسئلة لا يزال على القائلين بالنسبية أن يجيبوا عليها، فهم يقولون مثلا: إن الأجسام تزيد تسطحا كلما زادت سرعة اندفاعها، حتى إذا بلغت سرعتها سرعة انتشار الضوء لم يصبح لها عمق مطلقا لدى النظر؛ لأن الأجسام عندما تبلغ من السرعة هذا المبلغ تلوح كصفائح رقيقة جهد ما يمكن سابحة في المكان. وهنا يطلب المشتغل بالعلوم الطبيعية أن يعرف على أي شكل تظهر الأجسام إذا اندفعت في الفضاء بقوة تفوق قوة انتشار الضوء، ولقد أجيب على هذا السؤال بأنه ليس في استطاعة جسم مادي أن يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء؛ لأن قوة استمراره تصبح غير متناهية. وينصح مستر «اليوت» للذين يريدون أن يقاوموا النسبية أن يزيدوا سؤالهم إيضاحا، هم يقولون بأن دقيقة ما قد تتحرك بسرعة تقارب سرعة انتشار الضوء، والواقع أن نشاط دقائق (ب) التي يبعثها الراديوم تتحرك بسرعة مقاربة لذلك، فإذا فرضنا أن دقيقتين من هذه الدقائق قد اتفق أن تمر إحداهما من جانب الأخرى حيث تكونان مندفعتين في اتجاه المتناظرين، فعند ذلك تفوق سرعتهما النسبية بكثير سرعة الضوء، فكيف تلوح إحداهما إذا نظر إليها من الأخرى؟ إن الدقيقتين كلما زادت سرعتهما تصبحان أكثر رقة، حتى يأتي وقت لا تلوحان فيه إلا كسطح، فهل يمكن إذا ازداد مقدار السرعة النسبية في مجموع الكون أن يبدأا بالتضخم والكبر مرة أخرى بأن تضاف كمية خاصة نتصورها إلى البعد الثالث فيهما، أي في العمق ؟ وهل يمكن أن تأتي حالة يلوح لنا فيها الزمان كأنه راجع القهقرى حيث يكون مثل الدقائق المادية كمثل دقائق وصلت آخر سياحتها قبل أن تبدأ بها، وأن سكانها قد فنوا قبل أن يولدوا؟ هذا هو الإشكال الذي تتركنا فيه النسبية اليوم رغم ما قوبلت به هذه النظرية من التقبل والذيوع. وهل يمكن أن تصبح الأشياء الحقيقية خيالية إذا نظر فيها من تلك الوجهة الحقة؟ وهل يوجد هنالك أكوان نتوهمها وتظن أن كوننا وهمي، أكوان خرجت عن كوننا هذا خروجا كليا؟
لقد قامت في وجه النسبية معترضات كثيرة بنيت على أنها نظرية «ميتافيزيقية» - مما بعد الطبيعة - تنفر منها الروح العلمية المحضة، وليس من الغريب أن يحيط الشك زمانا بنظرية فذة كهذه النظرية، لكثرة ما ذاع من المذاهب الخداعة فيما وراء الطبيعة. على أن نظرية النسبية تختلف عند ما بعد الطبيعة في موضعين معينين: الموضع الأول أنها قابلة للتحقيق بمجرد النظر العلمي، والموضع الثاني أنها مادية في أخص معانيها، فإنها مثلا لا تعلل الظاهرات الطبيعية بمقتضى الشعور الإنساني أو من وجهة النظر الروحية، في حين أن نظريات ما بعد الطبيعة تجعل الطبيعة دائما مزودة بشيء من الخصائص الإنسانية، ونظرية النسبية فضلا عن هذا تصف الطبيعة وتفسر مغمضاتها بتعبيرات تبعد عن العواطف الإنسانية بما لم تبلغ إليه غيرها من النظريات العلمية، ومن هذه النظرية دون غيرها نرى أننا قد بلغنا من البعد عن القول بأن الإنسان مركز العالم ومحوره حدا لم تبلغ إليه العقول من قبل، بل إنها آخر ما يحتاج إليه العلم ليبعد عنا القول بأن في الطبيعة تشابها من الأصول التي يدعيها الإنسان لنفسه.
وبنظرية النسبية دون غيرها يثبت لنا تفوق «السنة العامة» على غيرها بصورة لم نبلغ إليها في زمن من الأزمان الفارطة، كالشعور بأن الطبيعة ليست سوى آلة ميكانيكية عمياء، وأن آليتها قد عدمت كل أثر من المدركات التي نستخلصها من الحس الإنساني، فمن النسبية وحدها قد استطعنا أن نعرف أن هنالك أشياء قد تكون صحيحة في ذاتها وليس في مستطاع الحس البشري أن يصل إليها، وهي في ذلك تتفق مع آليات «نيوتن»، فالقوة والزمان والمكان وغير ذلك من المدركات المعقولة لا يمكن أن تلمس أو تنظر أو تشم مثلا؛ لأنها عبارة عن مدركات عقلية يصح أن نتركها بتة إذا كشف لنا عن نسق أكثر منها انطباقا على الحقائق المعروفة، ولا يمنعنا من معرفة أصل هذه المدركات في الطبيعة إلا الرأي السائد فيها، فالمادة نفسها ليست إلا مدركا أو شيئا عاما كونته في نظرنا التجاريب، وليست كما كنا نظن من قبل حقيقة مطلقة ثابتة في عقليتنا ثبوتا مطلقا.
على أن كل المتناقضات التي قد تقوم من القول بالنسبية قد نجد أشد منها تناقضا إذا نظرنا في الأشياء نظرتنا القديمة، فالأثير مثلا ليس إلا فرضا ألزمتنا إياه فلسفة الإطلاق، وليس القول بالأثير مبنيا على النظر العلمي ولا التجربة لأن كليهما يضاد القول به، بل إننا فرضناه لنستطيع أن نعلل بعض الظاهرات الطبيعية بتعبيرات يقبلها النظر الإنساني. والقول بالأثير يقتضي وجود عدد من الصفات المستحيلة، فإنه يضع في ثنايا الطبيعة شيئا مطلقا مبهما يجرنا إلى القول بأن التناقض واقع في الطبيعة بالذات لا في النسبة التي ينظر في الطبيعة من ناحيتها. (2) من الوجهة الفلسفية
1
كثيرا ما يخطئ الباحثون والفلاسفة في تطبيق اصطلاح ما بعد الطبيعة - الغيبيات - على نظرية النسبية الحديثة، فلقد مضى كثير من العلماء يعتقدون بأن مباحث الغيبيات على تباين نواحيها وتشعب مناحيها، هي العقبة الكئود التي تصد العلوم الطبيعية عن التقدم والارتقاء، أنزلها في هذه المنزلة فئة من الباحثين ظهروا في خلال ذلك العصر الذي تقدمت فيه العلوم الإثباتية اليقينية لتأخذ مكانتها الخليقة بها في سلم المعارف الإنسانية. ولقد ماشى الباحثون أوغست كونت في طريقه هذه، حتى لقد اعتقدوا بأن مباحث الغيبيات هي الباعث على ذيوع الجمود الفلسفي
، ولا تزال هذه الآراء عالقة بهذه المباحث الفلسفية منذ ذلك العهد، غير أن مباحث العصور الأخيرة كانت كفيلة بأن تبرز فئة من العلماء يقولون اليوم بأن مباحث الغيبيات الفلسفية يجب أن تسد فراغا ما في ترتيب العلوم الإنسانية، قيل إن تعريف أرسطوطاليس لما بعد الطبيعة - الغيبيات - بأنها «البحث في الأشياء التي تقع وراء المحسوس»، لا يسوق بنا إلا إلى جهة مظلمة لم نعرف بعد شيئا من طبيعتها، والاحتمال الغالب أننا لن نبلغ منها بشيء من العلم الصحيح. وكثيرا ما تطلع الباحثون إلى تلك الجهة المبهمة الغامضة من الفلسفة، ولكنهم لم يدركوا من ماهية ما تناولته أبحاثهم شيئا، لا بالحس النظري ولا بالاختبار العملي، وعلى ذلك تكون مباحث ما بعد الطبيعة في النفس وأصل الكون وعلة العلل وما إلى ذلك، تصورات مجردة، وليست بموضوعات يمكن أن نبلغ منها بمعرفة بالمعنى العلمي المحض، أو أنها - في اعتبارهم على الأقل - موضوعات لا تتناولها طرائق العلم الاختباري.
غير أن التسليم بصحة مثل هذه المزاعم لا محالة يؤدي بنا إلى اطراح كل التقاليد العلمية التي ورثناها عن الأقدمين حتى الآن، ذلك لأن العلوم الحديثة على ما هي عليه الآن نتاج لتحدي الطريقة الاختبارية في البحث وتطور وجوه النظر فيها على مدى الأزمان، في حين أن هذه الطريقة الاختبارية ذاتها، وهي الأصل الذي تقوم عليه العلوم الحديثة، ليست مسألة واضحة بذاتها، كما أنها ليست بمسألة نظرية عقلية تقوم في النفس بطبيعتها ومهيآتها الخاصة بها، ذلك لأنها تحتاج إلى فكرة مجردة، وإدراك العقول لها لا يمكن أن يتم بالرجوع إلى مبادئ المجردات الغيبية.
أما التفريق بين طريق العلم الاختباري وبين المبادئ التي تقوم عليها الغيبيات، ووصفك الأولى بأنها مبعث العلم ومستكنه ووصفك الثانية بأنها منشأ الجهالات والتطوح وراء ما لا يمكن معرفته؛ فمسألة لا نستطيع على أي وجه من وجوه الرأي تقبلها، أن نتوخى للنظر فيها سبيلا يبعدها عن التناقض واللبس، بل إننا لا نخطئ إذا قلنا بأنها مضادة لبديهة العقل.
أما السبب الذي أدى إلى القول بأن مباحث الغيبيات أشياء بعيدة عن العلم الصحيح أو أنها خطرات وهم وتصورات خيالية؛ فتلك المنزلة التي تنزلها علوم الطبيعة من الرياضيات الصرفة، في حين أن الرياضيات لا تلجأ إلى الطريقة الاختبارية مطلقا، ومع هذا فإنها تقع في ترتيب العلوم وتبويبها وعلاقة بعضها ببعض موقعا تقوم فيه بذاتها عن غيرها، فتعتبر دعامة وأساسا يبنى عليه لتشييد العلوم العليا في المعارف الإنسانية، والرياضيات فوق ذلك علوم جامدة تتناول الكميات فقط، وبذلك تفقد الصفة الجوهرية التي يتطلبها العلم الاختباري، تفقد صفة الاشتقاق، وهذه فجوة لا يسد فراغها إلا الغيبيات.
في عصر الفلسفة الحديثة، منذ ديكارت حتى اليوم، زاد على العقول ضغط المسألة العلمية، وما نقصد بذلك إلا أننا إذا أردنا أن نحصل على الحقائق الثابتة لزمنا أن نرجع إلى العلوم الطبيعية نستدر وحيها من طريق الاختبار. ولقد حلت الفوائد التي أحس بها الناس من مزاولة العلم الطبيعي وحقائقه الملموسة، محل اللذة التي كان يتذوقها الناس في فلسفة القرون الوسطى، تلك التي حصرت همها وبذلت كل جهدها في البحث في أصل النفس الإنسانية ومنقلبها خاصة، وفي علاقة الإنسان بالله عامة. وإنا إذا قلنا اليوم بأن الفلسفة الحديثة تشارك الفلسفة اليونانية القديمة في أمر، فليس ذلك في النتائج العلمية؛ لأن الفلاسفة اليونانيين إن كانوا في الواقع رياضيين قبل كل شيء فلم يكن لهم من فكرة في الأسلوب العلمي كما نطبقه اليوم، وكذلك نشك فيما كان يمكن أن يكون من تقبلهم لهذه الطريقة على قواعد عقلية عملية صرفة، حتى إذا كانوا عرفوها.
إن مبدأ النسبية نتاج مباشر لتطبيق الطريقة الاختبارية، والواقع أن هذه الطريقة لا تستمد قوتها وتأثيرها في العقول إلا من طريق ثقتنا التامة بما ندرك من حقائق الغيبيات، التي هي أساس هذه الطريقة والمرجع الوحيد الذي يعود إليه السبب في وضعها. ولقد أحاطت الطريقة الاختبارية بالعقل الحديث إحاطة تامة فكأنها شيء يملك من العقول ما تملك الصفات الوراثية النظرية الثابتة فيها، فإذا أثبت الاختبار أن مقدارا من السرعة يكون ثابتا تحت تأثير حالات يخيل إلينا معها أنها متغايرة غير ثابتة، أو إذا دلت التجاريب على أن الحركة المستمدة من نبع من الضوء لم تؤثر أثرها المنتظر في سرعة انتشاره، فهنالك نضطر إلى تعديل إدراكنا للصورة التي تتكيف بها الحقيقة عندنا بما يوافق نتيجة التجربة أو الاختبار.
مضى الناس يعتقدون بأن المكان والزمان شيئان ثابتان نرجع إليهما في الحكم والقياس، فلما نقضت نتيجة الاختبار هذه الفكرة، إذ ثبت أن المكان والزمان ليسا إلا ظلالا متنقلة ماضية في التغير والاختلاف؛ رجعنا إلى القول بأنه لا يبقى من شيء ثابت إلا نسبة سرعة الأجرام؛ لأنها وحدها تبقى ثابتة خلال تغير الحالات العامة، أي إننا عدلنا إدراكنا للصورة التي تحيزت بها الحقيقة في عقليتنا بما يوافق نتائج التجاريب.
والذين يعتقدون بأن النسبية مبدأ رياضي صرف، وينفون علاقتها بالغيبيات - ما بعد الطبيعة - يكرهون أو يستنكرون تدخل الغيب في بلاغة معادلاتها الجبرية، ويدركون تلك النظرية إدراك من يعتقد بأنها مسألة أسلوبية صرفة لا تختص بشيء إلا بالقياسات الكمية الجامدة، وأنها بذلك تستعيض بطائفة من المعادلات الاصطلاحية على ما فيها من الصعوبة أو الغموض الشديد عن أشياء أخر أسهل منالا وأقرب استيعابا، فتقصيها عن طريق البحث حبا في الضبط المطلق كما يقولون، واستماتة في إحكام أطراف البحث والاستقصاء. ولقد يلوح إلي أن الذين يعتقدون بهذا الاعتقاد لا يقدرون هذه النظرية قدرها، ولا ينزلونها من الخطر منزلتها الحقيقية، فإن هذه النظرية لا يمكن أن تفهم تمام الفهم إلا إذا توبع بحثها من طريق علاقتها التاريخية بما دعم عظماء الفلاسفة وأقاموا من أركان الغيبيات.
لقد ظلت المذاهب الفلسفية منذ عهد ديكارت دائرة حول نقطتين اثنتين: حول المادة وما أدرك العقل الإنساني منها، وحول العلة ونظرية النسبية بناحيتيها، ناحيتها الخاصة وناحيتها العامة، لا يخرج النظر فيها عن هاتين المسألتين: المادة والعلة، أما الناحية الأولى من النسبية، بما تسوق إليه من إنكار فرض الأثير، فهي تعتبر بمثابة تعديل فيما كنا ندرك من المادة، والناحية الثانية بما في نظريتها الحديثة في الجاذبية من تأثير التعادل في قوة جاذبة مفروضة، عدلت فيما كنا ندرك من العلة.
ولقد جرت الفكرة في المادة والعلة إلى التناحر بين مبدأين ظلا يتجاذبان العقل الإنساني ليتغلب أحدهما على الآخر في العصور الحديثة ، أخذ المبدأ الأول شكله وكيانه في الجهة الموضوعية
Objective
التي يمثلها الكون لعقل الباحث، وأخذ الثاني كيانه في الجهة الذاتية
Subjective
التي يمثلها العقل لذاته من قوة تفكيره وتصوراته ومقدار فهمه وإرادته وعمله.
أما المبدأ الأول فقد استقصيناه من فكرة ديكارت في المادة والأجسام المادية، حيث قضى بأنها لا توجد إلا في مكان أو امتداد، كما حكم بأن العلة تنحصر في الأثر الميكانيكي الصادر عن كمية محدودة من الحركة منبعثة عن المادة نفسها، فهي عنده عبارة عن مدرك آلي - ميكانيكي - يتضمن الكون كله بما فيه مما تناوله النظام وما سادت فيه الفوضى، ولا يخرج عن تلك الآلية من شيء إلا الفكرات أو القوة المفكرة التي لا يمثلها إلا النوع الإنساني وحده، وتشكل هذا المبدأ من بعد ذلك في قالب صبته فيه فكرة نيوتن، حيث قال بالزمان المطلق والمكان المطلق، فالزمان المطلق في ذاته وبحكم طبيعته الخاصة به يفيض بنسب متعادلة، إذا لم يكن لشيء من الأشياء الخارجة عنه أية صلة به، وكذلك المكان المطلق يظل في طبيعته وماهيته واحدا لا يتغير ولا يتحرك ما لم يكن له اتصال بشيء خارج عنه.
وأما المبدأ الثاني فتمثله فكرة ليبنتز في الرأي الذري
Monadology ، إذ يقضي بأن المادة ليست منفعلة بل فاعلة، وأن الحركة ليست علة الكون، بل إن القوة هي العلة فيه، وأن ما لا ينتج شيئا لا يمكن أن يكون بشيء، وأن الزمان والمكان اعتباريان، وأن الأشياء المادية مراكز تنبعث عنها قوة فاعلة مؤثرة.
من طريق هذه الفكرات التي ذاعت في المادة والعلة تأتي علاقة النسبية، وهذه الفكرات ليست إلا من أوضاع الغيبيات في أخص معانيها، والحقائق الآتية من طريق الاختبار وإن كانت السبب الذي ساق في الواقع إلى تكوين الفكرة النسبية تكوينا علميا؛ إلا أن هذه الحقائق بذاتها لم يكن لها من أثر عملي في إبراز هذه الفكرة إلا قليلا. أما النتائج النظرية المنتزعة من هذه الحقائق فهي التي كفلت تغيير أوجه النظر العلمي وطريقة التفكير العلمية، وإذا نظرت بتأمل ألفيت أنها حقائق ثبت أنها حاسمة من ناحية النظر في مشكلات ما بعد الطبيعة، فالعمليات التي تناولتها هذه الحقائق بتغيير لم تتجاوز أشياء تناهت في الضئولة وحقارة الشأن، كاختلاف التقدير في 42 ثانية في القرن من الزمان، أو خطأ في 2 وثلاثة أرباع بوصة من محيط كرة الأرض، إذن فليست الحقائق بذاتها هي التي يعظم عندنا خطرها، بل إن خطرها ينحصر في ما يترتب عليها من النتائج. ولقد أظهر العلامة ويلدون كار الذي نلخص عنه هذا المقال في كتابه «نظرية النسبية من وجهتيها الفلسفية والتاريخية» أن هذه النظرية قد أثبتت بما لا سبيل إلى إدحاضه طبيعة هذا الكون الذرية - نظرية الجوهر الفرد القديمة التي وضعها ديمقريطس - وقضت علينا بأن لا نجعل علومنا مرتكزة في أساسها المدعم المتين على حقيقة نتخيلها منفصلة عن الذرات المادية، بل على العكس من ذلك جعلتنا نستمد حقائقنا من قوة كامنة داخل الذرات نستطيع أن نعلل بها الظاهرات الطبيعية ونوفق من طريقها بين الآراء المختلفة التي ظلت حتى اليوم تتنازع البقاء في العقل الإنساني.
إن أخطر المسائل التي ترتكز عليها النسبية في علاقتها بما بعد الطبيعة، تنحصر في موقفها السلبي تلقاء ما كنا نعتقد في الزمان والمكان باعتبارهما شيئين مطلقين يتبع أحدهما الآخر بنسب مستمرة دائمة. ونظرية النسبية تتقبل النتائج الحاسمة التي تؤدي إليها الاختبارات التي تضاد الحقائق الطبيعية التي تثبت عدم وجود شيء من النسبة المستمرة بين الزمان والمكان، وترفض بحكم مبادئها أن تعترف بضرورة الاعتقاد بديا بشيء وهمي خيالي يقال له «الزمان المكاني» المطلق، باعتباره شيئا لا يعتريه الاختلاف بنسبة الناظرين إليه. وهي فوق ذلك تزودنا بمعادلات اصطلاحية تبين لنا أن حقيقة حادثة من الحوادث التي تقع في الكون تبقى ثابتة في نظر رائيين ولو نظر كل منهما إليها من جهة بعينها في النظام الكوني، من غير احتياج للقول بنظام ثابت مطلق نفرضه خارجا عن نظام الجهة الكونية التي يكون فيها كل منهما.
أساس الحضارة المقبلة
أهو الرقي الأدبي أم النشوء العضوي؟
1
قال أحد الباحثين في أمريكا: «إن العجز عن العثور على برهان يثبت ارتقاء العقل الإنساني خلال زمان التاريخ، هو عندي أنصع برهان على خلق العقل البشري وعدم خضوعه لما تقوم عليه نظرية التطور من القواعد.»
وقد يكون هذا الزعم مؤيدا لما يراه الكثيرون من الباحثين، وعلى الأخص الذين عكفوا على درس التاريخ الإنساني والأدب القديم، في حين أن الذين عمقوا في درس علم الجيولوجيا ومذاهب التطور الحديثة لا يرون فيه إلا ظاهرا من القول ضعيف الأساس، أما الواقفون على حقائق علم الآثار المتحجرة - البالينتولوجيا - فيعرفون أن مذهب النشوء ليس مذهبا يحتاج إلى برهان يثبته، بل يوقنون بأنه ناموس طبيعي ثابت وأنه حقيقة واقعة تؤيدها المشاهدات والتجربة، حتى إنهم لكثرة ما يرون من أوجه تطبيقه على دقائق الحياة وتفاصيلها يتعذر عليهم أن يعتقدوا بأن باحثا اكتملت في عقله قوة القياس والاستنتاج يمكن أن يشك في حقيقة هذا الناموس، إلا كما يشك في نواميس الطبيعيات والكيمياء.
وعلى الرغم من كل هذا فإني موقن بأن ذلك القول الذي فاه به هذا الباحث صحيح من كل الوجوه إذا أخذ على ظاهره، أما حقيقة ما أراد أن يستدل به عليه فلا يمكن التسليم بها، فإن كل ما عرفت وقرأت من حقائق التاريخ يدلني على أن هذا القول صحيح، فلست أرى من وجه يقنعني بأن القوى العاقلة في الإنسان قد ارتقت ارتقاء ما خلال زمان التاريخ المدون، فإنك إذ تقرأ محاورات أفلاطون تشعر بأنها قد كتبت لتستوعبها عقول فيها من الذكاء وحدة الإدراك بقدر ما في عقول طلاب الفلسفة في زماننا هذا، وكذلك تجد أن قوة الإدراك والفهم في عقول الذين كتبوا الأناجيل ليست بأقل منها في عقول الكتاب المحدثين، ولا ريبة في أن تجمع المعرفة وتوارثها قد أديا بطبيعة الحال إلى تقدم كبير في معرفتنا بالحقائق والكليات العلمية والفلسفية التي تقوم عليها، ولقد كان أثر هذا التجمع أبلغ في تكوين مستحدثات المدنية وضرورياتها منه في أي عصر آخر، كما كان لاختراع الطباعة وتسهيل طرق المواصلات أثر كبير في أن تمضي الحضارة نحو الارتقاء في خطوات أوسع وأسرع. ولكني لا أكاد أرى دليلا مقنعا على أن القدرة العقلية قد ارتقت خلال زمان التاريخ، وإني على يقين من أن الارتقاء في هذه الصفة ضئيل، إن كان هناك ارتقاء على إطلاق القول.
على أن للعقل الإنساني نواحيه المتشعبة المختلطة، وإني أعتقد بأن العقل البشري قد ارتقى وتطور في نواح أخرى غير تلك التي أصدر عليها الكاتب حكمه، وعلى هذا يقوم كثير من الظواهر والمشاهدات، تلك هي النواحي الأدبية والأخلاقية لدى مقابلتها بالناحية العقلية الصرفة. هنا نستطيع أن نعثر سواء في مظاهر التفكير أم في مظاهر العمل على دلائل من الارتقاء بالغة الأثر، وعلى تهذيب بطيء التقدم غير مفصوم الحلقات ولا مقطوع التسلسل، وعلى الأخص إذا قابلنا بين المثل التي نقع عليها في كتابات القدماء، وكتابات المحدثين. وإنني أستعمل هنا لفظ «الصفات الأدبية» ليشمل كل الحقوق والواجبات والآراء والأعمال التي تؤدي إلى تفضيل مصالح الأفراد المستقبلة على مصالحهم الحاضرة، أو بالأحرى المستقبل على الحاضر، والتي تسوق إلى بذل المصالح الفردية الضئيلة ابتغاء الاحتفاظ بالمصالح القومية الكبيرة، والتي تؤدي دائما إلى ارتقاء الحياة والنظم الاجتماعية.
خذ أول كل شيء النظرة الحديثة في المجرمين، فإنا لا نعاقبهم اليوم على قاعدة العين بالعين والسن بالسن؛ لأن هذه المعاقبة لا تتفق والآراء الحديثة في الجريمة والعقاب، مع أننا معتقدون بأن هذه القاعدة هي هي التي تقوم في عقول المجرمين.
ثم ارجع إلى صفة الشجاعة، وانظر كم من الجبناء يمكن أن تعد بين صفوف المحاربين في حرب ما؟ إنك قلما تعثر على فرد هنا أو هناك اتصف بهذه الصفة الدنيا من بين الملايين الذين يؤخذون من أحضان الحضارة ليعيشوا في بيئة كل مقوماتها بعيدة عن عاداتهم وحاجاتهم المدنية، بالغة منتهى ما تتصور من البعد عن استكمال معدات الراحة الجسمية والعقلية، ويبقون فيها معرضين لأشد آلات الحرب فتكا شهورا وأعواما، لا بضع ساعات تقضى في موقعة قصيرة كما كان الواقع في الحروب القديمة، وهذا ضرب من الشجاعة والصبر واحتمال المشاق لم يتصف به في العصور الغابرة سوى بضعة أفراد حملهم التاريخ في صدره كصور نادرة المثال. أما التراجع بغير انتظام والفوضى والهرب بعد حرب تدوم ساعة أو بضع ساعات، فكان النصيب المحتوم في الحروب القديمة لأحد الفريقين المتقاتلين، ولكنك لا تجد لهذا الجبن من مثل في عصرنا هذا. أما الروح التي قضت على هذه الصفة الخسيسة فليست قوة في الأجسام ولا خشونة في التكوين أو الخلق ولا استهانة بالحياة، بل هي روح البذل والتضحية ظاهرة أو كامنة وراء ستارها، تعمل في سبيل مثل أعلى، لا يعود خيره على أقوام دون أقوام، بل يعم خيره الإنسانية والحضارة، على مقتضى ما يلوح لفريقي المتحاربين من معنى ذلك الخير وقوامه.
أما صفة ضبط النفس فلها مظهران: مظهرها الخاص ومظهرها العام، والأول خاص بالفرد والأسرة، والثاني بالجماعة.
كم من القواد والملوك في العصور القديمة استطاعوا أن يحافظوا على سعادتهم وهنائهم بالإقلاع عن الانغماس في الشهوات التي قصرت أعمارهم وذهبت بجاه أسرهم في جيل واحد أو جيلين؟ أليس التاريخ القديم خير مرآة يرى فيها الإنسان صور الإفراط والإسراف بلا نظر إلى العواقب والتطوح مع ملذات الساعة من غير تفكير فيما سوف يعقبها من خسائر المستقبل؟ قارن هذا بما تجده في الأوساط العليا في العصر الحاضر من أناة وصبر وهدى، وما تقع عليه في السياسي أو المالي الحديث من صفات الشجاعة وضبط النفس والقدرة على كبح شهواتها. وإنه لمن العبث أن أذهب إلى أبعد من هذا في ضرب الأمثال.
ولكن أرجع هنيهة إلى صفة ضبط النفس في مظهرها الاجتماعي، فإنها صفة قد مهدت للجماعات سبيل التعاون في التجارة والسياسة، إن النجاح الذي صادفته هذه الجماعات التعاونية واستمرارها رغم العوائق لأقوى دليل على أن هذه الصفة الأدبية قد استقوت على غيرها من الصفات الدنيا في نفوس الذين يشتركون فيها ويعملون على إنجاحها بكل طريق ممكن، في حين أن التاريخ القديم يرينا كثيرا من الأمثال التي تدلنا إلى أية درجة بلغت كفاءة القدماء في القدرة على الخضوع للنظام. وكذلك إذا قارنت ضخامة الجماعات التعاونية في العصر الحديث واتساع أعمالها بضئولة أمثالها في الأعصر القديمة وفساد نظامها وارتباك حياتها الداخلية؛ أدركت مقدار ما حصل عليه الإنسان أخيرا في ارتقائه في هذه الصفة الأدبية، اقرأ تاريخ الأمم الصغيرة التي عاشت في بلاد اليونان وتأمل قليلا كيف أن قصر نظرهم وأنانيتهم وغرورهم والظلم والقسوة؛ قد حالت بينهم وبين التعاون في العمل، أو دكت إلى الحضيض نظم الجماعات التي حاولت أن تتعاون، ثم انظر كيف أن الرومان وهم أدنى في القوة العاقلة من اليونان مكانة قد سادوا عليهم؛ لأنهم كانوا أكثر قدرة على الخضوع للنظامات الاجتماعية.
ولا شك في أنه مستطاع الباحث أن نمضي في ذكر الأمثال من غير أن نصل إلى نهاية، غير أن ما أتيت عليه هنا كاف للدلالة على أن الإنسان قد ارتقى وتهذب أدبيا واجتماعيا، ولو عجز عن أن يرينا أمثالا تثبت لنا أن العقل البشري قد ارتقى أي ارتقاء منذ بداية التاريخ. •••
إن هذا أقصى ما ينتظر أن يحدثه النشوء والتطور على القواعد الدارونية من آثار، فإن خمسة آلاف من الأعوام، وبدايتها هي أبعد العصور التي يمكن أن نرجع إليها في مثل هذا البحث؛ عهد قصير جهد القصر، إذا قيس بما هو معروف من قدم العصور التي مضى فيها التطور مغيرا من صفات الأحياء، ولا يمكن أن يكون كافيا لأن يحدث التطور خلاله أي أثر في نشوء الإنسان نشوءا عضويا. كذلك قوى الإنسان العقلية التي هي في الواقع قائمة على تكوينه العضوي، لا بد من أن تتبع طريقا من النشوء تدريجيا بطيئا، فإن الإخصائيين قلما يستطيعون أن يفرقوا بين جمجمة حصان منقرض عاش في العصر البليستوسيني وبين جمجمة أخلافه في هذا العصر الجيولوجي الذي يبلغ على قول البعض 100000 من السنين، وعلى قول الثقات في العصر الحاضر مليونا أو أكثر، فإن من الظاهر أن أثر التطور الذي وقع في السلالات البشرية خلال خمسة آلاف من الأعوام يجب أن يكون ضئيلا غير محسوس. ولا ريب في أن هذه القاعدة تصدق على أية سلالة من الحيوانات اللبونة التي يكون لدينا من تاريخها التطوري أصدق البقايا والآثار. وعلى هذا القياس لا تنتظر مطلقا أن تقع على أي ارتقاء عضوي في تكوين الإنسان أو في قواه العقلية خلال زمان التاريخ، بل على الضد من ذلك إذا استبنا أي أثر ظاهر للارتقاء في عقل الإنسان أو تكوينه العضوي، عددنا هذا الارتقاء شيئا شاذا خارجا عن القياس، بل يتطلب منا البحث والتعليل.
وفضلا عن هذا فإن الصفات الأدبية يمكن أن ننظر فيها نظرة الاعتقاد بأنها تشارك العادات الثابتة والغرائز في نشأتها، وأنها ليست مستمدة استمدادا مباشرا من خصائص العقل الطبيعية الراجعة إلى تكوين القوى العاقلة، وأنها كغيرها من العادات والغرائز أسرع قبولا للتهذيب من تراكيب الطبيعة وغيرها من الصفات التي تتبعها.
ومن المعروف أن الانتخاب الطبيعي يعمد دائما إلى الاحتفاظ بالتغيرات التي تكون بطبيعتها أفيد للفرد أو للسلالة، ويجمعها في نسب خاصة بحيث يكون من المستطاع أن تمضي في سبيل التهذيب والارتقاء. ولا مراء في أن صفات الإنسان الأدبية التي ظلت خلال قرون مديدة ذات فائدة في تكوينه اجتماعيا، لا تقل فائدة عن التفوق العقلي أو البدني في تكوينه فرديا، وحيث إنها أسرع قبولا للتطور كان ارتقاء الإنسان من ناحيتها أبين وأظهر. وإني كعالم بالآثار المستحجرة لا أستطيع أن أنظر في التاريخ الإنسانى نظرة مستقلة عن الاعتقاد بأنه عبارة عن مجموع ما أحدثه الانتخاب الطبيعي من آثار في السلالات لا في الأفراد، فنتج عن ذلك تطور اجتماعي لا تطور فردي. وهذا النهج الذي جرى عليه النشوء الاجتماعي بما كان فيه من التغير السريع، والذي أدى إلى ما نرى من مدهشات النظام والتجانس؛ كان وقفا على النوع البشري وحده. على أنه غالب ما يتخذ الباحثون من عالم الحيوان أمثالا ينقضون بها أصل النشوء الاجتماعي في الإنسان، أما استقصاء آثار هذا التطور في سلالات منقرضة فمتعذر بعيد المنال، لهذا يعتمد الباحثون على جماعات الحيوان العائشة اليوم ليستخلصوا من حالاتها ملابسات يستدلون بها على تطور العادات فيها، ومن المشاهدات والمقارنات التي أجراها الباحثون في جماعات الحيوان الحديثة يمكننا أن نحصل على عدة نتائج في مدى التطور الاجتماعي ومتجهه، ومن ثم نطبقها على مستقبل النوع البشري:
أولا:
إن الميل الظاهر إلى التناسق الارتقائي مقرون بثبات في المثل والعادات، فإننا قد نلاحظ في أول مدارج الارتقاء الاجتماعي مقدارا عظيما من الليونة والنشاط الفردي وتنوعا كثيرا في أعمال الأفراد تحت تأثير حالات مخصوصة. أما في الجماعات الراقية فإن الأفراد تظهر كأنها تفكر وتعمل وتشعر على نمط واحد، وأنها تقوم بواجباتها على نهج من التناسق الآلي، وهذا أول درجات التعاون.
ثانيا:
إننا بالرغم من عثورنا على أوجه من الارتقاء الكبير في العلاقات الاجتماعية بين الحيوانات، وعلى الأخص الحشرات؛ فإن تشابك حلقات الحياة الاجتماعية تظهر محدودة من أوجه عديدة تبعا لنسبة ذكاء الأفراد، فإنك لا تجد بين الأنواع العليا في عالم الحيوان سلالة قد بلغت من ارتقاء حياتها الاجتماعية مبلغ ما وصلت إليه الحشرات الاجتماعية من دقة النظام والتناسق، لا تجد مثلا أنها وصلت في تضحية الفرد لصالح الجماعة إلى الحد الذي وصلت إليه الحشرات، في حين أنك تجد أن تشابك حلقات الحياة الاجتماعية بين الحيوانات العليا أرقى منها بين الدنيا، وتجد أن هذا التشابك قد بلغ في الجماعات الإنسانية أقصى المدى.
والظاهر أن النتيجة أو الغاية التي يرمي إليها التطور الاجتماعي هي الحصول على نظام يعمل أفراده في تجانس وتعاون عمل الخلايا في الجسم الحي جارية على طريقة آلية متقنة الضبط. أما درجة التركيب والاختلاط التي يمكن لمثل هذا النظام أن يبلغها قبل أن يصل إلى ذلك التعادل المتقن التام، فمرهونة عندي على مقدار الذكاء الذي يكون في كل وحدة من الوحدات - أي الأفراد - التي تكون ذلك النظام.
فإذا صح هذا فإنه يمكننا أن نستنتج أنه إذا بلغت تلك الآلية الاجتماعية هذا المبلغ من الكمال، كان ارتقاؤها بعد ذلك بطيئا، فإن الارتقاء لبلوغ هذه الدرجة يكون راجعا إلى تهذيب الصفات والغرائز الاجتماعية، وهي سريعة التغير والنشوء، ولكن بلوغ الدرجات التي تليها يكون راجعا إلى نشوء الصفات العضوية والعقلية العليا، وهذه بطيئة التدرج نحو التهذيب والارتقاء.
فإذا رجعنا إلى تاريخ الإنسان رأينا أن أوجه ذلك التغير العضوي العقلي بطيئة إلى درجة قصوى، واستنادا على هذا نقول بأن المتجه الحديث الذي يتجه نحوه التطور الاجتماعي هو حضارة فيها من أوجه التشابك والتعادل والتعاون أكثر مما يكون فيها من أوجه الرقي العقلي. سوف تقوم الحضارة المقبلة على الرقي الأدبي لا على الرقي العضوي، وأن الحضارة سوف تمضي في استئصال المجرمين والكسالى والأنانيين والخارجين على قواعدها، ولا مرية في أن هذا لا يمكن أن يتم في جيل واحد، ولا في أجيال.
ولا يستطيع من كان مثلي بعد أن درس علم الآثار المتحجرة، وأخذ ينظر في التاريخ الإنساني من ناحيته، أن ينفك عن هذه النظرة، أو يشك في هذه النتائج في مجموعها. كما أني لا أشك مطلقا في أن بلوغ هذه النتائج يقتضي قسوة قد تحزننا حينا، وقد نرغب فيها حينا آخر، قسوة تقع على الذين خصوا بشيء من الضعف الخلقي وعدم القدرة على ضبط النفس وكبح جماح شهواتها، تلك الصفات التي تعود إلى الظهور في الأفراد من طريق الرجوع إلى صفات أصولهم الإنسانية الأولى، وكل آت آت. وقد نستطيع أن نقرأ المستقبل إذا أردنا، ولكنا لا محالة نعجز عن أن نصرفه عن متجهه أو نحوله عن مجراه.
ماهية التاريخ
(1) التاريخ من الوجهة الفنية
يخيل إلى بعض المشتغلين بالعلوم الحديثة أن من المستطاع أن يلقن التاريخ على أنه «علم
Science » من العلوم الطبيعية المبنية على الاستقراء، فلا يكفي النقل فيه، بل لا بد من تطبيقه على نواميس الاجتماع المؤيدة بالاستقراء، وكل من أمعن النظر في هذا الرأي استخلص منه قضيتين: الأولى أن التاريخ علم استقرائي، والثانية أن للاجتماع نواميس مؤيدة بالاستقراء يمكن أن تتخذ أساسا لكتابة التاريخ على أنه علم يقيني تام، لهذا نريد أن نبحث هاتين القضيتين لننتهي من بحثهما بحكم صحيح، يرينا أيمكن أن يصبح التاريخ علما بالمعنى المعروف في تقسيم المعارف الإنسانية، أم أنه لا يزال فنا نظريا كما ظل طوال العصور الماضية.
العلم
Science
والفن
Art
والآداب
Literature
ثلاثة اصطلاحات تدل في العصر الحاضر على ثلاثة أشياء معينة، يفصل بينها في الاعتبار العقلي حدود موضوعة، ولا تجتمع إلا في حيز واحد، حيث ترجع برمتها إلى أنها نتاج للفكر الإنساني.
على أن كلمة «العلم» كثيرا ما استبهم على الكتاب فهم المقصود منها، ولقد وضع لهذه الكلمة من التعاريف في الفلسفتين القديمة والحديثة ما لا يعده حصره. وبقيت كفاءات العقل الإنساني متخالطة في مباحث الفلسفة حتى قام الفيلسوف «أوغست كونت» بوضع الفلسفة اليقينية
محورا منازل العلم بمقتضى كفاءات العقل البشري. على أن الفلسفة اليقينية على ما يعتورها من النقص، شأن كل المذاهب الفلسفية إزاء النقد الحديث وإزاء تشعب فروع المعرفة العامة، فإنها وضعت قواعد أولية، زادها النقد قيمة، واتخذها الناقدون دعامة لمباحثهم، فأنتجت مذهبا جديدا في حدود المعرفة الإنسانية.
انتهى الباحثون في أوائل القرن العشرين إلى أن «العلم
Science » نتاج القوة التجريبية والتطبيق العلمي في القوانين الطبيعية الثابتة والاستقراء القائم على قواعد راهنة كقواعد الرياضيات، والفن
Art
نتاج القوة المخيلة أو المصورة، والآداب
Literature
نتاج القوة النظرية والبحث الاستنتاجي. فالآداب بذلك دعامة العلم التجريبي الاستقرائي، والعلم لا محالة مسبوق بها، وهي في ذاتها علوم أولية لا تزال في طور التكوين والنشوء
Incipient Sciences ، ولكنها ليست علوما يقينية تميزت وتقررت قواعدها شأن العلوم الرياضية والطبيعية مثلا. ويصح أن تكون بعض مباحث الآداب في اعتبار البعض علوما نظرية لا تجريبية يقينية. «فالعلم» تتبعه الرياضيات وعلوم الطبيعة والكيمياء والآلة وما إليها، و«الفن» يتبعه الشعر والموسيقى والتصوير وما إليها، و«الآداب» تتبعها البلاغة والتاريخ والاجتماع والفلسفة عامة في أوسع معانيها. وهذا التقسيم نفسه قد يختلف فيه الباحثون اختلافهم في تعريف النفس والفلسفة العقلية، غير أن الرأي السائد في عقول الناظرين في منتجات العقل الإنساني أنهم يفرقون بين العلم والفلسفة أو الآداب كما يدعونها اصطلاحا، باعتبار أن كل ما خرج من حيز النظر إلى حيز العمل والتجربة فأصبح ذا قواعد طبيعية ثابتة لا ينتابها التغير ولا يعتريها التبديل؛ فقد أصبح علما يقينيا
، وكل ما لم يدخل ذلك الحيز فهو فلسفة أو أدب
Literature ، ذلك هو الفرق الموضوع اليوم بين الفلسفة أو الآداب وبين العلم.
ولقد قامت في أوروبا مدرسة أخصها أساتذة التاريخ في جامعة «السوربون» بفرنسا، وعلى رأس هذه المدرسة الأستاذ الفيلسوف «هنرى برغسون»، يحاولون أن يكشفوا عن قانون أو سنة عامة يخرجون بها التاريخ من حيز الآداب أو الفلسفة أو الفن، كما يتطرف البعض في التعبير، ليدخلوه في حيز العلم المحض، بحيث يصبح للتاريخ قواعد راهنة تنتج أسبابا واحدة، وجاراهم في ذلك فئة من كتاب هذا العصر.
وإذا نظرت في الواقع، لوجدت أن كل فرع من فروع الآداب والفلسفة قد اشتقت منه علوم تختلف نظرات الباحثين فيها اختلافا كبيرا أو يسيرا على مقتضى الظروف، فأمم العالم مثلا تتفق جميعها في قطع أدوار نشوئية عامة، فلكل أمة مثلا عصر حجري وعصر برونزي وعصر حديدي، ولكن التاريخ لم يصل إلى هذا الحد من العلم اليقيني حتى نزعت العقول إلى القول بأن البحث في ذلك ليس من خصائص التاريخ، فوضع لهذا الفرع من التاريخ اسم خاص أطلق عليه فسمي «علم الأنثروبولوجيا»، وهو علم أدنى لحمة بالاجتماع والسيكولوجيا منه بالتاريخ بمعناه المتداول المعروف. كذلك إذا نظرت في التاريخ وفي فلسفة التاريخ التي كتب فيها «هردر» الفيلسوف الألماني و«فولتير» الكاتب الفرنسوي الأشهر، فإن فلسفة التاريخ لم تلبث أن انقلبت اجتماعا، وتركت التاريخ حيث هو وكما كان معروفا من قبل. وكل هذا لا يجعل التاريخ علما ثابتا ذا قواعد مقررة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن قانون الارتقاء الذي غير من نزعات الإنسان ومشاعره وصب كل جماعة من الجماعات في قالب خاص بها، لم يجعل للتاريخ من سنة عامة تكافئ بين حالات الإنسان في كل عصر من العصور، وإلى ذلك يرجع السبب في أن العلل الواحدة التي تؤثر في حالات الاجتماع الإنساني قد تنتج نتائج مختلفة باختلاف الظروف والحالات والمؤثرات الخفية التي لن نعرف منها إلا ظواهرها دون حقائقها وماهياتها .
يقول هربرت سبنسر: «إن تاريخ العضويات يثبت أن الارتقاء الحقيقي ينحصر في التغاير من حال التجانس إلى حال التنافر، وإن سنة ذلك الترقي العضوي هي سنة ضروب الترقي كافة. ثم يقول: إن كل ما في الكون مثل تكوين الأرض، ونشوء الحياة فيها، ورقي الجماعات في العمران، ونشوء الحكومات والصناعات والمتاجر والآداب والعلوم والفنون جماعها تخضع لهذه السنة الطبيعية في التغاير التدرجي من الوحدة النوعية إلى الاختلاف والتكاثر النوعي. فإن الانتقال من حالة التجانس إلى التنافر كان السبب الوحيد في حدوث الارتقاء منذ ظهر أول أثر للتغايرات الكونية في الوجود إلى أن بزغ فجر المدنية في تاريخ الإنسان.»
هذه سنة عامة أخذها الباحثون في كل علم من العلوم ليعرفوا بها تلك الأسباب التي تسوق من التجانس إلى التنافر، طبقها علماء الحيوان والنبات على الأنواع ليعرفوا أصلها وكيفية نشوئها، وأخذها علماء الحياة ليعرفوا السبب في نشوء الأفراد التي تكون الأنواع. ومما لا مشاحة فيه أن المؤرخين وعلماء الاجتماع لو استطاعوا أن يعرفوا الأسباب التي ساقت الجماعات الإنسانية في سبيل الارتقاء من التجانس إلى التنافر، لا في صفاتهم العضوية؛ لأن ذلك متروك لعلم الحياة أو التكوين العضوي، بل في تكوين الصفات التي كونت مشاعر الجماعات وميولها وأذواقها والقواعد التي تحكم صلة هذه الصفات الإنسانية في المجتمع العام أو في الكل الاجتماعي، وأمكنهم أن يكشفوا عن البواعث الطبيعية التي دفعت بالجماعات الإنسانية الأولى إلى التطواف والمهاجرة ونشوء اللغات وعلاقتها بتطور الإنسان ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تكون التاريخ عامة؛ فهنالك يمكنهم أن يجعلوا التاريخ علما ثابتا، أما وإنهم لم يبلغوا ذلك المبلغ فالتاريخ لا يزال فرعا من فروع الآداب، وأغلب الظن على أنه سوف يظل كذلك أزمانا لا نقدرها.
ولا نعلم كيف يستطيع أحد أن يفكر في وضع قواعد للتاريخ تقاس بها الحوادث وتتعرف النتائج كالحال في بقية العلوم، أو وضع تعاريف عامة للتاريخ يؤمن بها كل الناظرين فيه كما آمن الرياضيون بأن النقطة آخر الخط وأن الخط نهاية السطح، والمؤرخون لا يزالون مختلفين، ولن يظلوا مختلفين في البواعث التي كونت التاريخ الإنساني، فمنهم من يقول بأثر البيئة الاجتماعية، ومنهم من يقول بأثر البيئة الطبيعية، ومنهم من يرد أسباب التاريخ إلى العوامل الاقتصادية، ومنهم من يرجعها إلى المؤثرات النفسية، وكل فرقة من هذه الفرق وكثير غيرها قد سبقت إلى كتابة التاريخ منتحية منحاها الخاص، متبعة طريقها ومبدأها.
إن آخر رأي ذاع في البواعث التي أحدثت التاريخ الإنساني كان رأي العلامة «بنيامين كد» الكاتب الاجتماعي الأشهر، ورأيه أن المحور الذي تدور حوله دائرة التاريخ الإنساني، بل مظهر التاريخ البشري الوحيد، ينحصر في موقعة كبيرة وشجار دائم قامت به الجماعات ابتغاء أن تخضع عقليتها وقوتها الاستنتاجية لقوتها الشعورية، ذلك لطبيعة في الجماعة لن تنفك عنها، طبيعة تخضع الجماعة دائما لقوة الشعور دون قوة العقل. وأن تلك الحروب التي مزجت دم الإنسانية الذكي بحضيض الثرى، وتلك الثورات المدنية والاجتماعية ليست سوى نتيجة من نتائج تلك الطبيعة، فالانتقام والغضب والكراهية والتعصب للجنس والمعتقد مظاهر لن تجد لها في الأفراد من أثر في تحطيم بناء مدني أو قيام حالة من حالات العمران، ولكنك ترى أن للجماعة من مظاهر الخضوع لهذه البواعث ما كان سببا في قيام الحروب والثورات على مدى الأزمان.
غير أنك تجد أن علمي الاجتماع والسيكولوجيا، وهما الدعامتان الوحيدتان لهذه الطريقة، لم يتقيد النظر فيهما بعد بقيود علمية ثابتة، ولا تزال موضوعاتهما رهن التغيير والتبديل. واختلاف الآراء وتنافرها في معضلات هذين الفرعين لا يقاس بها اختلافها وتنافرها في أي فرع من فروع المعرفة الحديثة، اللهم إلا في قليل من الآداب التي يتسع فيها مجال الخيال، وتتنافر في النظر فيها عقول الباحثين، وتختلف فيها وجوه البحث باختلاف الناس.
ولقد عجزت كل العلوم وفروع المعرفة برمتها حتى اليوم عن وضع حد فاصل لعلاقة الفرد بالمجموع، ولم يستبن الباحثون قياسا محكما يضبط في نظرهم هذه العلاقة، وسيبقى اصطلاح «الفرد المستقل» اصطلاحا غامضا، بل مظهرا من مظاهر اللبس والإبهام، إن لم يكن في ذاته خطأ محضا لا يقوم له في الطبيعة الاجتماعية مثال. كذلك إذا نظرت في اصطلاح «التطور الاجتماعي»، وتساءلت ما هو التطور الاجتماعي العام؟ فإن ذلك الاصطلاح لم يكشف له العلم عن قانون محدود، ولم يعرف الباحثون في الماضي ما يمكن أن يكون مقياسا تقاس عليه الظروف والحالات التي يتشكل فيها النشوء، ويتكون بتشكله التاريخ الإنساني، ولم يفصح العلم عن تلك الأسباب التي تسوق الجماعات إلى التغاير والاختلاف عن حالاتها الأولى، فتدفع بها إلى الرقي أو تبعث بها إلى حضيض التدهور والانحلال.
وما دامت العلاقة بين الفرد والمجموع لم تعرف وكذلك الأسباب التي تسوق الجماعات إلى الترقي أو الانحطاط، أو علاقة الجماعات الخاصة بمجموع الكل الاجتماعي؛ فكيف يخطر على عقل بشر أن العلم الإنساني، وهو على ما ترى من النقض والتخلخل، في مستطاعه أن يضع للتاريخ قواعد ثابتة كقواعد الرياضيات، ما دام النظر في الاجتماع لم يصبح بعد علما يقينيا صحيحا، وهو دعامة الطريقة العلمية في بحث التاريخ؟ وكيف بعد هذا يتصور إنسان أن التاريخ علما؟ •••
ظل القول بأن التاريخ فرع من الآداب منذ زمان «زونوفون» و«هيرودوت» و«بلوتارك» و«ليفي» إلى «غيبون» و«ماكولي» و«ميشليه»، ولقد نهج «ستبس» و«سيلي» الطريقة الوصفية في كتابة تواريخهما رغم نزعتهما إلى الطريقة العلمية التي دعوا إليها زمانا. أما «السوربون» اليوم فيمثل الرأي العلمي يوحي إليه الأستاذ «برغسون» بذلك الوحي، محاولا وضع حدود لمسألة لا حدود لها في الواقع.
ولقد ذهب اللورد «ماكولي»، وهو أكبر مؤرخي الإنجليز في القرن التاسع عشر، مذهبا خاصا فقال: إن التاريخ ليس إلا صفحات من الزمان تتعاقب عليها صور الجماعات بما فيها من أثر العلم والأدب والانفعالات والمؤثرات الطبيعية والنفسية والاقتصادية والجغرافية، كالمنظر الذي تراه في صفحة السماء يوما يستحيل عليك أن تراه بذاته مرة أخرى بما فيه من اختلاف الصور والألوان والأشكال والتغايرات المتعاقبة. من هنا نجد أن أهل الشهادة لحوادث التاريخ كأهل الشهادة لمناظر الطبيعة، إن رأوها وتناولوها بوصف وأخذت عنهم ذلك الوصف أو تلقيت عنهم تلك الصورة لتقيس عليها أو لتستنتج منها أو لتقارنها بغيرها من الصور التي تقع تحت حسك؛ فإنك إنما تنظر بنظر غير نظرك، وتنعكس على لوحة نفسك صور انفعالات وبواعث وعواطف قد تشعر بما يناقضها تماما لو أنك نظرت إليها بعيني نفسك وتحت تأثير مشاعرك وانفعالاتك الخاصة.
وإذا اعتبرنا التاريخ صورة فيجب علينا أن نعتبر المؤرخ مصورا تخط ريشته لأهل زمانه الصور التي تنعكس على لوح نفسه من ممارسته لحوادث الأزمان الغابرة، تلك الأزمان التي لن نعرف من حقائقها إلا بقدر ما أثرت حوادثها في أنفس المؤرخين فيها، فالمؤرخ إنما يستمد من خيال غيره ومن انفعالات غيره ومشاعر غيره، ليستخرج صورة جديدة تستحيل إليها نفسه، ويكون مقدار خطئها أو صوابها راجع إلى مقدار قربها أو بعدها من حالات العصر الذي يؤرخ فيه، وحالات العصر الذي يؤرخ فيه منقولة إليه برمتها عن غيره، وصحة النقل أو خطؤه راجعان إلى صحة نظر الذين صوروا ذلك العصر أو خطئهم. ومن هنا لا تستطيع أن تضع للتاريخ مقياسا تقيس عليه حقائق الأزمان الماضية وتتنبأ بها عن المستقبل اعتمادا على ظروف حاضرة، إذا وعيت هذه الاعتبارات في مجموعها.
يقول «جوته»: «إن التاريخ يجب أن يعاد تدوينه والنظر فيه من حين إلى آخر، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت على مر الأيام، بل لأن أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، ولأن المعاصرين الذين هم ذوو ضلع كبير في تقدم عصورهم وارتقائها، يساقون دائما إلى غايات ينتهون بها إلى حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها على تدبر الماضي والحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل.»
ومن طريق النظر في فكرة «جوته» في التاريخ ساد الرأي عند المؤرخين بأن القول بأن التاريخ فرع من العلوم الاستقرائية مسألة غامضة مبهمة، والحقيقة أن أصحاب ذلك القول لم يقيموا من حجة على صحة رأيهم، فتخلصوا من موقفهم بالقول بأن التاريخ فرع من العلوم الاستقرائية باعتبار الموضوع، وفن باعتبار الذاتية. ولقد رد على هؤلاء رأيهم هذا بأن التاريخ إن اعتبر علما باعتبار الموضوع، فإنما يصبح اجتماعا صرفا ليس للتاريخ فيه من أثر، اللهم إلا علاقة المستمد من المستمد منه.
ولقد نقد الأستاذ «ماكولي تريفليان»، وهو خير من أرخ في نهضة إيطاليا الحديثة، رأي الذين يذهبون مذهب أن التاريخ علم يقيني، فقال في ماهية التاريخ وفائدته في مقالة عنوانها «كليو
Cilo »، أي إلهة التاريخ، فقال:
إن ميزة التاريخ التي لا ينكرها أحد تنحصر في تدريب العقل، ليصل إلى درجة يقتدر بها على إدراك المسائل السياسية إدراكا صحيحا، ولكن هذه الميزة لا تتناول التنبؤ عن المستقبل، فلا يمكن للتاريخ مثلا أن يمدنا بمجموعة من السنن العامة يصح تطبيقها في كل عصر ليسترشد بها السياسيون، ولا يستطيع التاريخ أن يظهر لنا من طريق المقارنة التاريخية من من المتخاصمين كان في جانب الحق في أية مسألة من المسائل العامة. ولكن ماهية التاريخ تنحصر في شيء أبعد من ذلك شأنا وخطرا، وهي تدريب عقلية الإنسان على معالجة المسائل العامة وفهمها ومشاركة بقية الأمم في شعورها، فإن المعلومات التي يمدنا بها التاريخ لا قيمة لها في ذاتها ما لم تخلق فينا حالة فكرية جديدة، فإن فائدة تاريخ «ليكي
Leckey » في أيرلندا لا ينحصر في أنه دون في كتاب واحد تفاصيل المذابح العديدة وحوادث القتل والتفظيع، بل إنه أحدث فينا حاسة بالعطف والشعور بالخجل، وساعد على إدراك الحقيقة التي تقضي بأن ذنوب الآباء تتعدى إلى الأبناء وإلى الأجيال التي تشب على الكراهية
1
فهو لم يبرهن على منح الحكم الذاتي لأيرلندا من حيث هو خطأ أم صواب، بل درب عقول أنصار الاتحاد مع إنجلترا وأنصار الحكم الذاتي لأيرلندا على إدراك المسألة الأيرلندية وغيرها من المسائل إدراكا صحيحا.
ثم أردف المؤرخ هذا القول بالكلام في مسألة أخرى أثبت بها أن التاريخ لا يمكن أن يستنتج قوانين عامة من الأسباب والمسببات كالعلوم الطبيعية مثلا، قال:
وما زالت المحاولات التي ترمي إلى استنتاج الأسباب والنتائج التي تنطبق على حياة الإنسان وحالاته السياسية، والتي تتكرر بتكرر حدوث هذه الأسباب؛ معدومة الجدوى. فإذا استطعنا مثلا إقامة البرهان العلمي الثابت على قانون الجاذبية، تعذر علينا ذلك في البحث التاريخي، كما لو أردنا مثلا أن نثبت أن المجاعات تنتج الثورات دائما، وهو ما لا يمكن إقامة البرهان على صحته، بل إن عكس ذلك صحيح في جملة حوادث يستنتج منها أن المجاعات تنتج خضوعا واستسلاما ومذلة. من هنا لا يمكن الفصل بين أية حادثة من حوادث التاريخ وبين ما يحيط بها من الظروف إذا ما أردنا أن نستوضح قانونا عاما يمكن تطبيقه على كل ظرف؛ لأن الحادثة التاريخية ليست سوى مجموعة من الظروف لا يمكن أن تحدث بظروفها مرة أخرى.
ثم قال الكاتب متهكما:
وليس لأحد هذه القدرة إلا السياسيين الذين يزخرفون خطبهم بالحجج والدلائل التاريخية.
من هنا نعتقد أن التاريخ فن من فنون الأدب لا يصبح علما ثابتا إلا بعد أن يكشف المؤرخون الذين ينتهجون النهج العلمي في التاريخ عن الأسباب التي ساقت الإنسان من تجانسه الفطري إلى تنافره الاجتماعي، وعن السنن والقواعد التي تحدد علاقة الفرد بالمجموع الذي يتبعه، وعلاقة ذلك المجموع بالكل الاجتماعي، ويفصحوا عن حقائق التطور الاجتماعي وضوابطه، والانفعالات وبواعثها، والمشاعر وتشعب مناحيها، حتى تصبح قواعدهم التاريخية كقواعد علوم الحيوان والنبات والتكوين العضوي مبنية على سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
2 (2) التاريخ من الوجهة الوصفية
1
هل تعرف كيف نشأت في وسط هذه البيئة الاجتماعية التي تتحكم في أفكارك ومشاعرك التحكم كله؟ وهل تفقه من سبب يجعل خضوعك لحكم البيئة التي نشأت وربيت فيها تاما كاملا، في حين أن عقلك طالما نزع بك إلى الثورة ضد النظام القائم من حولك؟ وهل تعرف من سبب طبيعي ترجع إليه إذا ما حاولت أن تحلل حقيقة ذلك العراك القائم في دخيلة نفسك بين ما يوحي إليك به عقلك، وبين ما تقرك عليه مشاعرك؟ إذا كنت في حيرة من أمرك إزاء هذا كله فارجع معي إلى جزائر البحار النائية، إلى جزائر «تاهيتي» أو «فرناندو نورونها» أو جزائر «أرض النار»، وطف بمجاهل تلك البقاع التي لم يشع فيها للمدنية شعاع، ولم يرسل إليها العلم بخيط من خيوطه المضيئة منذ أن انفصلت الأرض عن بقية النظام الشمسي لتدور حول فلكها المرسوم. هنالك وبين عشائر المتوحشين، تلمس بيدك حقيقة ما يعنى الطبيعيون ب «الوراثة الطبيعية» والتقاليد التي خرج بها الإنسان من ماضيه المشحون بما تعرف، وهو ضئيل تافه، وبما لا تعرف، وهو تيه موحش تعجز مخيلتك عن أن تدرك طرفا من أطرافه، إلا قليلا.
على أن أخص ما تقع عليه مما يحيط بك من حقائق الحياة الإنسانية في فطرتها الأولى، خضوعها خضوعا أعمى لحكم الغيب دون حكم الشهادة، تحف بك حياة شاعرة لا غير، ولن تقع على أثر من آثار الحياة العاقلة التي تسكن لحكم المنطق ولا تجاري العواطف وقواسر الطبيعة البشرية. وأبلغ ما يأخذ بروعك في تلك الحياة أنك تلفي نفسك محوطا بعالم من الأرواح فيه جمال، وفيه وحشة؛ فالصخور القائمة من حولك، والأشجار الحافة بك، والماء والسماء، والدواب والهوام، بل أنت نفسك عبارة عن أرواح تتخايل إليك في سيرك وضجعتك، في نومك وهجعتك، في غدوتك وروحتك، متحكمة في ماضيك ومستقبلك، مؤثرة في سرك وعلنك، وعلى الجملة يخيل إليك أنك روح مسيرة في وسط عالم من الأرواح، منفصل عن عالم المادة.
ولا يسبقن إلى حدسك أنك ثمرة مباشرة لمدنية القرن العشرين، فإن ما فيك من أثر الماضي؛ من أثر آبائك في العصور الأولى، أكثر مما فيك من أثر المدنية الحديثة، فأنت ابن الذين اعتقدوا بتعدد الآلهة، بل ابن الذين عبدوا الأحجار والأصنام والحيوان والنبات، وقدسوا الوهم وأماتوا العقل، ومشوا مع الخيال، ونبذوا حكم القياس المنطقي. فيك من أثر تلك البيئة أضعاف ما فيك من أثر المنطق في الفلسفة، والتوحيد في الدين. بل جل ما بينك وبين آبائك من فرق أنك اجتزت دورا لا يزال أولئك المستوحشون في جزائرهم النائية عنوانا عليه في الزمان الحاضر، فإذا فخرت بأنك من أبناء القرن العشرين، قرن العلم والمدنية، فلا تنس ذلك الماضي لتتخذ القياس عليه نبراسا تستضيء به في ظلمات بحثك في تاريخ النوع الذي أنت تابع لإحدى سلالاته ، ولتتذكر دائما أنه من الأولى بك أن تقول «كان آبائي» بدل أن تقول «كان الأولون».
في عصر من تلك العصور التي قطعتها الإنسانية في شوطها نحو المدنية الحديثة، كان المعتقد أن الأزمات التي أحاطت بالشعوب، لا بل كل ما حف بالأفراد من مطاليب الحياة وقواسرها؛ راجع إلى فعل إرادة علوية تفعل في الجزئيات فعلها في الكليات، وأن كل لبانات النوع الإنساني خاضعة لتأثير قوة من قوى الغيب أو ما يسمونه ما وراء الطبيعة، تحتكم في كل دورة من دورات الحياة، مهما ضؤل أو عظم شأنها.
لهذا لم يشعر العقل الإنساني بحاجة ماسة تضطره لأن يستكشف سر العلاقة الكائنة بين الماضي والحاضر؛ ليربط بينهما بسلسلة منظومة من السببيات الطبيعية، بل أخلد لحكم الطبيعة والزمان، فظل العقل لغوا طوال تلك الأعصر التي نزلت فيها الإنسانية على حكم المشاعر وحدها، لهذا تجد أن التاريخ لم يعن بشيء إذ ذاك عنايته بأقوال مجموعة من الأفراد، والإشادة بذكر لفيف من الناس برزوا من بين الصفوف المتراصة، وحكمت المشاعر بأنهم ظل من ظلال السماء فوق الأرض، وأنهم المنفذون لما يريد القضاء ولما يملي القدر في تلك الجموع التي استنامت لحكم المعتقد الثابت، حتى سلبهم ذلك المعتقد صبغة الإيجاب فظلوا على السلب عاكفين، غرقى في السبات حول تلك الأسس التي شيد عليها صرح المجتمع البشري.
لما أن انقضى ذلك العصر بما فيه من بواعث التخيل، وبما كان فيه من أوجه الجمال مقرونة بموحيات القوة الشاعرة وحدها، واستكشف العقل أن لموجات الحوادث الإنسانية التي طمت على الأزمان الأولى نظاما أشبه بنظام سير الأجرام في أفلاكها، وأن الشعوب التي تطفو على وجه الحياة، والشعوب التي تبتلعها الحوادث الاجتماعية فتطمر في جوف الزمان؛ هي بذاتها مظهر من مظاهر الحياة وحقيقة من حقائقها الكثيرة. بيد أنها تمت بأصلها إلى أبعد الأزمان إيغالا في أحشاء الدهور، محوطة بآثار ما فيها من طبيعة الحركة، وفطرة التقدم، ودوافع الارتقاء. هنالك شق التاريخ لنفسه في حياة الجماعات سبيلا بكرا، وتوجه العقل سلطانا مسيطرا على ناحية من نواحي المنفعة المحققة التي ينشدها الإنسان في هذه الحياة الدنيا. وهنالك نبذ التاريخ طريقة العكوف على الكلام في دسائس الأمراء وذوي المطامع من أهل الجاه، وترك القسيس في معبده يحاول أن يفسد السياسة بالدين وأن يفسد الدين بالسياسة، وأهمل حاشيات الملوك ومنافساتها، ومماحكات قواد الجيوش ومناظراتهم، وعمد إلى تدوين أوجه الحركة والنظام الذي يفيض به نهر الحياة الإنسانية، منصبا في ذلك المنحدر الذي طالما طفت فوقه الملوك والأمراء على مدى العصور، وهم أشبه الأشياء بفضلات الهشيم المتناثرة؛ إذ تتلاعب بها أمواج يم ثائر أدركه المد في ليل اشتدت حلكته، واعتكر ظلامه.
قد تقول غير هذا، قد تقول: إن تعليل حوادث الحياة الإنسانية إذا أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن فكرة تدخل الإرادة العلوية في جزئيات الحياة وكلياتها معا، بعد أن عمد الناس إلى تعليل الظاهرات بالأسباب الطبيعية؛ رجع العقل عن البحث وراء المصادر التي تحرك الحوادث إلى البحث في الأسباب التي كونت الجماعات الإنسانية. وهنا اتخذ التاريخ على أنه قاعدة ثابتة لا يستطيع باحث أن يلجأ إلى غيرها من ضروب المعارف الإنسانية، إذا ما أزمع أن يفقه شيئا من طبيعة الحوادث الحاضرة، أو أن يستكشف ناموسا يستهدي به إن هو أراد أن يتدبر المستقبل.
نظر في التاريخ تلك النظرة، نظر إليه بتلك العين التي ينظر بها الجيولوجي إلى بقايا الحفريات المستحجرة ليتخذ منها حلقات وسطى تربط بين الأنواع المختلفة، فإن المؤرخين طالما حاولوا باستعماقهم في دراسة الحالات العامة التي قامت في كل عصر من العصور؛ أن يستشفوا حقيقة البواعث والأسباب التي تمكنهم من اكتفاء المؤثرات أو الأسباب التي تربط بين حوادث عصر «حاضر» بأبعد الحوادث وقوعا في أحشاء التاريخ الإنساني.
استمكن هذا التصور من عقول الباحثين استمكانا، وتغلغل في معتقد الناس، حتى إن كل عقيدة، أو مذهب، أو نظام مدني أو اجتماعي، بل الفكرات الطافية على سطح الحياة اليومية؛ قد لقي جماعها من الأنصار فئة حاولت أن تستكشف في تاريخها من الحلقات ما يربطها بحادثات وقعت خلال أبعد العصور إيغالا في صميم القرون الأولى؛ أي بحادثة اجتماعية، أو تصور من التصورات، أو بمبدأ أو مذهب فلسفي، أو بأسطورة من أساطير الأولين.
في ذلك نزعة من نزعات الفكر. أما المذاهب الفلسفية، والمبادئ الدينية، فشرع في حكم تلك النزعة، فإنك إذ ترى أن أصحاب المذهب الكثلكي في أوروبا يعودون بأبحاثهم إلى مخلفات الأزمان الأولى التي أينعت فيها النصرانية، لا بل إلى عصور الوثنية؛ ليستمدوا منها براهين وأدلة تؤيد حجتهم وتنصر مذهبهم في الدين، وإذ تلفي أن البروتستانت يرجعون إلى مثاليات الإغريق، بل إلى سياسيات «بركليز» وتعاليم «أرسطو» و«سقراط» ومبادئ «سولون»؛ لينقضوا فكرة نظرائهم في العقيدة، وإذ تجد من جهة أخرى أن الراديكاليين يحاولون أن يقطعوا شوط الارتقاء قفزا، على الضد من كل تجانس في نظام الطبيعة، تأييدا لوجهة نظرهم في الحياة، وأن الرجعيين باعتقادهم أن مدنية العصور الأولى أقرب إلى مناهج الفطرة من مدنية العصور الحاضرة، يعملون جهدهم ليصدوا تيار التقدم راجعين بالأفكار والمذاهب والمعتقدات إلى أوابد العصور الغابرة، على النقيض من سنن النشوء ونواميس الارتقاء؛ لا تستطيع إلا أن تحكم بأن هؤلاء جميعا إنما يساقون في طريقهم سوقا بمقتضى حكم الطبيعة ونواميس الحياة، فيجهدون أنفسهم ويفنون عقولهم ليثبتوا أن لتصوراتهم ومعتقداتهم علاقة وصلة ب «الماضي» الذي تقدسه المشاعر وإن حكم ضده العقل، كل هذا ليبرروا ادعاءهم بأن معتقدهم وشرعتهم أحق بالحياة والبقاء في الزمان «الحاضر».
ولماذا نقصر استشهادنا على ذلك بزعماء المذهب الكثلكي أو قادة الكنيسة البروتستانتية وحدهم؟ ولأي من الأسباب نقصر الكلام على الراديكاليين أو الرجعيين أو أية فئة من فئات الفلسفة أو العقائد، ونعفي حفظة الكرسي البابوي في قصر الفاتيكان، أو جبابرة الملوك والقياصرة فوق عروشهم الرهيبة؛ من حكم تلك النزعة التي تصور أكثر ما في التاريخ من حوادث؟ ألم تر إلى بابوات روما وملوك الدولات العظمى كيف نزلوا عما كانوا يدعون من استمداد سلطاتهم وقواتهم من الله، وكيف رجعوا عن الدعوى بأن إرادتهم مستمدة من الإرادة القدسية؛ فتراهم وقد نزلوا على حكم الزمان وساووا بين أنفسهم والدهماء ، فلم يجدوا من مبرر يبررون به وجودهم بعد أن تقوضت أركان حقوقهم الموهومة إلا أن يلجئوا إلى ذكرى ما كان لوجودهم من أثر في قيام المدنيات وارتقاء الشعوب، وأنهم كانوا القوامين على الشرف الوطني من أن تعبث به الأيدي الأجنبية، وأنهم كانوا حفظة الآداب، وخزنة المصالح القومية، وأنهم كانوا أول الآخذين بيد البلاغة والفن، وأنهم أول من عمل على سعادة الجماهير، إلى غير ذلك مما يرويه التاريخ؟
تجد من هذا عامة أن الملوك ورؤساء الدين أصبح حكمهم إزاء التاريخ حكم أصحاب المذاهب والمعتقدات؛ إذ يحاولون أن يتخذوا من «الماضي» وثائق يعززون بها «الحاضر» ويزكونه بما فيها من الأدلة والبراهين.
ولقد تعجز تلك النزعة التي صورت التاريخ على هذه الصورة عن أن تجد من الفكرات والنظريات ما يؤيدها، فكما أن التقاليد التي ورثها الفرد عن آبائه الأولين، وطريقة التربية التي خضع لسلطانها، والحوادث التي انتابته في الحياة، ومجمل الظروف والمؤثرات التي كونته، لا بد من أن تترك أثرا بارزا في أخلاقه، وتتخذ دليلا على ما فيه من عزة وشرف في «حاضره»؛ كذلك الحال في السوابق التاريخية التي وقعت في الحياة العامة والأفكار، قد يمكن أن تتخذ برهانا من «الماضي» تبرر به الحالات «الحاضرة».
غير أن هذه السوابق التاريخية إذا اتخذت على أنها أسانيد موثوق بصحتها وقوتها، وأن دلالتها على الأشياء والحوادث ثابتة لا مبدل لها، فتعمد كل سابقة منها إلى أن تثبت بحكم العقل ونزعة البحث أنها ذات الأثر الأول في إبراز الأسباب التي ساقت إلى وقوع حوادث الأزمان الفارطة؛ فإنا لا نلبث أن نشعر بأن تلك الشبكة المتخالطة التي تنسجها السوابق التاريخية متنافرة الأجزاء تنافرا لا يعزز الادعاء بأن دلالتها على الأشياء والحوادث ثابتة، وأن الباطل ونزعات المشاعر لن تأتيها من بين يديها ولا من خلفها.
وقد نسوق هذا الحكم عينه على أولاء من فلاسفة المؤرخين الذين يحاولون أن يعزوا السبب في نشوء الجماعات الإنسانية إلى فعل مؤثر بعينه من المؤثرات العامة، كتأثير الطقس أو الفواعل الجوية، أو البيئة الطبيعية ، أو مبدأ بقاء القوة في نظام الكون المادي، إلى غير ذلك.
إن «كارليل» أكثر الباحثين استعماقا في حقيقة الفكر، وأشد الكاتبين تبيانا لضئولة المعرفة الإنسانية؛ قد نصح لكل المؤرخين أن ينصرفوا عن كل محاولة يراد بها إثبات أن نشوء الجماعات الإنسانية راجع إلى فعل مؤثر بذاته في مؤثرات الكون أو الحياة، وأن الأجدر بالمؤرخ أن يبرز صورة واضحة جلية للعصر أو الحادث الذي يؤرخ فيه، يستخرج منه عظة أو عبرة تنتج نفعا ماديا في العمليات؛ لأن ذلك في رأي «كارليل» أولى بالمؤرخ من أن يظن، ومن ثم يتصور أو يعتقد أنه بتعليل نشوء الاجتماع استنادا على مبدأ من مبادئ الكون قد بلغ إلى أبعد أغوار الطبيعة، من حين أن المعرفة الإنسانية، مقيسة بأسرار الغيب والمجهول، ليست إلا كفلينة طافية على وجه بحر ما تبلغ له من قرار.
غير أن «كارليل» مع هذا الاعتقاد يحتم على كل الباحثين أن ينزعوا إلى البحث في «الماضي»، إذ يقول:
إن الماضي عبارة عن نبع المعرفة الفياض الذي لا نستطيع بدون أن نسترشد بضيائه، متعمدين أو مدفوعين إليه بحكم الفطرة، أن نتدبر الحاضر أو نحدث عن المستقبل.
على هذا واستنادا على فكرة «كارليل» نريد أن نثبت أن للتاريخ ناحيتين، لكل منهما كفاءة عقلية خاصة تعود إليها، فإن اعتبر التاريخ على أنه مجرد رواية للحوادث، أصبح راجعا إلى كفاءة الوصف في العقلية الإنسانية، وإن أخذ التاريخ على أنه تفسير فلسفي للحوادث، أصبح عائدا إلى كفاءة التأمل.
من هنا نستطرد إلى الكلام من كلتا الناحيتين لنفصل بينهما، ولنعرف أثر كل من الناحيتين، ناحية الوصف وناحية التأمل في التاريخ، في إرشاد الأجيال الحاضرة أو اكتناه خفايا المستقبل.
2
نبشت الأبحاث التاريخية رموس الماضي البائد، وخرجت منها بأجزاء متناثرة وبقايا من تراث الأولين، وأقامتها أمام أعيننا كهيكل حفري من هيكل الحيوانات البائدة. وقعت على ذلك الهيكل المقدس عين الحكيم فأصاب حكمة، ورأته عين العالم فأفاد علما، وتناوله خيال الشاعر فصاغ بيانا وسحرا، واستوعبه الفنان فرأب به من صدوع الفن ما تطاولت إليه الأيام ففصمت منه العرى.
لم تكشف لنا تلك الأبحاث عن صور الحوادث العظمى المنسابة في جوف الأزمان انسياب الماء الهادئ في مجراه، ولم تقتصر على الكشف عن كوارث الحياة المندفعة في سماء العصور اندفاع الشهب والنيازك خلال تتالي الأجيال لا غير، بل أبانت لنا فوق ذلك عن حقيقة الحياة السياسية والمشاعر الدينية والنزعات الاجتماعية ومؤثراتها وأسبابها ونتائجها التي أخذت بخناق الشعوب المختلفة والقبائل المتباينة. كل هذا تناولته أقلام المؤرخين فخطت به على لوح الحياة الحديثة سطورا خالدة من آيات الحياة البائدة، فامتزج كثير من الماضي بقليل من الحاضر، وترامى الشعاع الذي ولده ذلك المزيج إلى شعاب المستقبل ومفاوزه، فأزاح عن بعض نواحيها ما كان يكتنفها خلال الأجيال الأولى من ظلام.
وصلت الأبحاث التاريخية بين الماضي والحاضر بحلقات استكشفها المؤرخون، حتى أصبحت سلسلة الحوادث التاريخية محبوكة على الزمان التاريخي، محيطة بكثير من دقائقه بله تفاصيله. أبانت لنا تلك الأبحاث عن صور الماضي فأرتنا دولات الشرق تبرز عظيمة فتية، مزودة بمهيئات النشوء والارتقاء، أو تتوارى وراء حجب الغيب، وتغيب في جوف الحوادث، مكتنفة بعوامل السقوط والفساد، فتتمثل لنا هياكلها المشمخرة وقد طاولت السماك عظمة وقوة آونة، أو تلوح لنا هابطة إلى الحضيض ذلا واستكانة آونة أخرى، وهي بين هذا وذاك أشبه الأشياء بأرواح متمردة أصابها مس من الجن، أو خيالات جبابرة أخذتهم العزة بالإثم، وهم في صراع لكل منهم فيه نوبة من الغلبة والاندحار، فلن تستبين في أمرهم شيئا إلا حدسا، كما تستبين الأشباح استبانة غشاوة وكلال؛ إذ تتخايل إليك في آخر الأفق الأوسع، عند تنفس الفجر، وقد شابته ظلمة الليل ببعض أدناسها.
أرتنا تلك الأبحاث بلاد فارس وقد عقدت على تاجها ألوية الانتصار، ممتطية صهوة العزة والقوة، متبعة خطى ملوكها المستبدين بأمرها يقودونها من نصر إلى نصر، فكانت كذؤابة من الليل الحالك ناءت بكلكلها على الغرب وأرخت بسدولها على شرقي البحر الأبيض المتوسط، فشابت جزائر اليونان بشائبة من القوة فزع لها أبناء الإغريق فزعة بعثتها في نفوسهم مخاطر الغزو الأجنبي، وتمثل الذلة في الاندحار بعد العزة في شرف الحرية، فدبوا تحت قدمي جبار فارس وجنوده دبيب الماء تحت قواعد الجبال الراسية، فلا يلبث أن يردها كثيبا مهيلا.
انقلب الإغريق بفزعتهم الوطنية أمة قوية فتية موفورة الحياة، فردت مستبد الشرق عن جدران الغرب، وكأن الفزع قد نبه فيهم ما أخفته أجيال الدعة والطمأنينة من صفات القوة والتناحر على الحياة، فكان علماء اليونان وفلاسفتها وشعراؤها وكتابها وخطباؤها وساستها، وعلى الجملة مدنيتها ورجالها الذين ظلوا هداة العالم ومبعث العرفان خمسة وعشرين قرنا من الزمان، أورثوا المدنية خلالها تراثا من العلم، وثمارا من الفلسفة والشعر والسياسة والموسيقى والفن، أرضت المنطق والذوق خلال عصور التاريخ برمتها.
تتخايل لنا مدنية الإغريق في إبان سطوتها فتمثل لنا آداب سقراط وروحانية أفلاطون ومنطق أرسطو وسياسة سولون وعصر بركليز، حتى إذا ما أدركها الانقسام في الداخل مقرونا بفزع الغزو الأجنبي من غربي أوروبا، تتخيلها ثانية فإذا بها كتلة موات من الأنفس البشرية تتردى في الظلام.
ولا نلبث بعد أن نرى أبناء الإغريق يتوارون وراء الأفق، أن تشرق أمامنا شمس مقدونيا الفتاة بارزة من وراء حجب الغيب؛ لتستنير بهديها كل بلاد اليونان، ولتخضع لقوتها وسلطانها.
لقد استجمعت مقدونيا تلك البقايا المفككة من الوطنية الإغريقية وساورتها ذكريات الماضي العظيم الخالد، فحركت فيها حماسة الذكرى من القومية وهزة الوطنية ما أخرج أبناءها عن حدود الغرب ليغزوا الشرق، فغزوه حتى جوف الهند، وكانوا كلما تقدموا في غزوتهم الشرقية خطوة تحطمت تحت أقدامهم التيجان وثلت العروش وتهدمت الإمبراطوريات كما تنهار الجدران المتداعية أمام الفأس، يضعها في أصولها جبار قوي الأصلاب.
غير أننا لا نلبث على ذلك برهة وجيزة حتى نمقع دبيب الفساد يدب في نواحي الإمبراطورية المقدونية وينتابها من العوامل الخفية ما يحفر من تحت عظمتها الظاهرة هوة سحيقة يتقوض في أغوارها بناؤها المشمخر، فيتناثر أجزاء وقطعا، تشع كل قطعة منها بقليل من الضوء الموروث عن الشمس المحطومة على صخور الزمان، ثم تنطفئ منها الجذوة تلو الجذوة، كمنارات الرهبان المتعبدين في رءوس الجبال المنقطعة عن العمران أن خبت نارهم فلا موقد لها.
في وسط تلك المعمعة الكبرى التي تحطمت فيها إمبراطورية مقدونيا بين صلصلة السيوف الباترة، وبريق الأسنة المشرعة، وبين تلك الضجة الكبرى التي أحدثها تقوض أركان تلك الإمبراطورية، وبين صيحات الويل والأسى التي بعثتها قوة التحليل في متانة التركيب؛ تكشف لنا حجب الغيب عن «روما» تتحرك كالامفبيان الذي نقرأ أخباره في قصص السندباد، يحمله البحر، ويحمل فوق ظهره قارة برمتها. يتحرك ذلك الامفبيان حركة الحياة في بقعة من الأرض حزينة مجرودة صماء، إن استظلت يوما بشيء يبعث في النفس من معنى شعري فهو السكون المطلق من كل الشوائب إلا شائبة الحياة تدب في جسم رومولوس، وإلا صفة الحنو في قلب الذئبة ترضعه ثديها وتتعهده بالرباية ليبتني روما العظيمة، وتقوم عليها الإمبراطورية الرومانية العظمى.
كما ارتضع «رومولوس» ثدي الذئبة فصار فتى أسس روما كذلك ارتضعت روما ثدي إيطاليا، فترعرعت وشبت إلى الفتوة، وما زالت تكبر ويمتد سلطانها حتى تكون منها ذلك الامفبيان الذي أحاطت قوته بكل الإمبراطوريات التي قامت وتحطمت خلال نشوئه من طور الطفولة إلى طور النضج التام، واستظلت بظلاله بلاد الغال وقرطاجنة ومصر وفارس ومقدونيا والإغريق وأشورية وبابل وفينيقية، بل إن شئت فقل الدنيا المعروفة في ذلك العهد ترابطت أسبابها لتكون إمبراطورية واحدة، هي الإمبراطورية الرومانية.
غير أن ذلك الامفبيان العظيم لم يبلغ منتهى قوته إلا ليدركه الكلال والنصب، فتناوحت من حوله رياح الفساد، وهبت عليه عواصف الانقسام الداخلي، فأخذت أجزاؤه تتحلل جزءا بعد جزء، حتى أدركه التخلخل والانشعاب، وما هي إلا صيحة من صيحات الزمان، وحركة من حركات الحدثان تبعثها يد القدر في قلوب قبائل الشمال، فتنقض على «روما» انقضاض الصواعق فتتركها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
انقلبت في «روما» الخشونة والبساطة زخرفا وتكلفا، وارتدت الشجاعة إسفافا، والحرية استبدادا، والبطولة اسما أجوف لا مسميات له، وتفككت بانحلال الأخلاق وفسادها كل الروابط الاجتماعية التي تقوم عليها الممالك وتشيد الدول، وأي انحلال في الأخلاق أبشع صورة من انحلال الأخلاق الموروثة في المرأة، سنادة المستقبل وعماد الأسرة؟ وأي انحلال في أخلاق المرأة أشد إسفافا مما بلغنه نساء روما في آخر عصور الاضمحلال، حيث كن يعددن السنين بعدد الرجال الذين أحببنهم وكن معهم على صلة أقل ما فيها من فساد أنها قلبت نظام الأسرة، فحللت روابطها وفصمت عراها.
لم يقف الأمر في فساد روما عند هذا الحد، بل إن الراهب المتعبد المتوجه إلى الله ارتد مشعوذا يؤمن بالسحر والأساطير، وتبدلت روما من أبنائها الرومانيين بمجموع من العبيد المحررين والأجراء الذين لم يكن فيهم من خلة ظاهرة الأثر إلا أنهم أكثر تشبها بربات الحجال منهم بالرجال. وأصبح الجيش، وهو حافظ النظام في أول عصور المدنية الرومانية وحامي ذمار روما العظيمة وإمبراطوريتها الكبرى؛ آلة في يد كل من امتدت مطامعه إلى التسلط السياسي وكانت فيه مهارة لاستدرار وحي العواطف بالكلام، ففسد الأمر كله، وناءت عوامل الفساد على الصرح المشيد على عواتق العظماء، فدكته دكا، بل نسفته نسفا.
3
لقد مضينا في بحثنا حتى الآن نستورد صورا يروي التاريخ من أمثالها العديد الوافر. أما وقد بلغنا هذا المبلغ، فإنا نتساءل كما يتساءل كل من أخذ من بحث التاريخ بنصيب وضرب فيه بسهم: أي أثر لهذه الصور وأمثالها مما يرويه التاريخ وتخطه لنا أقلام المؤرخين في الكشف عن ظلمات الحاضر، أو البيان عن خبايا المستقبل؟ على أن الظن الغالب ليوحي إلينا بأن الإجابة على هذا السؤال لن تكون إلا بالنظر في بضعة حقائق تاريخية تتناول الحاضر وعلاقته بالماضي والمستقبل؛ لنعرف إلى أي حد تبلغ صور التاريخ من أثر في الكشف عن قضايا الزمان الحاضر ومشاكله، وعن الصور التي تستحيل إليها في المستقبل.
فإن الحاضر عبارة عن صورة متحولة عن الصور التي تشكلت فيها الجماعات الإنسانية خلال الماضي، وليس المستقبل إلا صورة متحولة عن الصور التي نراها ونلمسها في الزمان الحاضر.
إن «الحاضر» حلقة الوصل بين الماضي والمستقبل؛ ليظل أمامنا سرا عميقا ولغزا وعرا، ما لم نستعن على فهمه وتعرف طبيعته بمعلومات نستمدها من الماضي، فإن أكثر الصور التي استحالت إليها نفسية الجماعات في هذا الزمان ظهورا وأشدها أثرا في حياة الناس، كمعاهد الدين ونظامات القضاء والعسكرية والتعليم المدرسي؛ لتلوح للذين لم ينالوا قسطا من التثقيف وافرا كما تلوح للأطفال والصبية، كأنها نظامات غرست في جوف الزمان، وتغلغلت آساسها في صميم الأزل واللانهاية تغلغل الشمس والكواكب والسيارات، وإن شئت فقل إنها في نظرهم مشاركة للكون الأوسع في نظامه قدما وضربا في أحشاء الدهور.
أما إذا عاد الإنسان إلى «الماضي» وألقى عليه نظرة تأمل، عرف لأول وهلة أن نصيب هذه النظامات من البقاء كنصيب الزمان المنحدر في جوف الأبد انحدار الماء في اليم اللامتناهي، وأن في طبيعتها التغير والزوال، لهذا يلقي في روعنا دائما أن الزمان لا بد في أن ينتابها بالتغير والنشوء، وأن هذه النظامات لن تظل على وتيرة واحدة، بل إن الطبيعة لن تسمح لها بالثبات؛ لأنها كما خرجت في الماضي من أفكار الناس ومشاعرهم وحاجاتهم وتصوراتهم فإنها تزول أو يضعف أثرها بنسبة ما ينتاب أفكار الناس ومشاعرهم وعواطفهم وحاجاتهم وتصوراتهم، وما إلى ذلك، من التغير والاختلاف.
وما التاريخ في حقيقة الواقع بشيء إلا نتاج تلك الملكة العقلية التي تسوقنا إلى تتبع آثار التغايرات التي خضعت لها النظامات الإنسانية منذ أول نشأتها وبدئها إلى الوقت «الحاضر»، وبذلك نستطيع أن ندرك خطرها وموقعها من الفائدة المحققة في حالات الاجتماع الذي تكتنفنا أسبابه. ومن هذه الطريق وحدها يعصمنا التاريخ من المظاهر الخداعة التي قد تسوقنا في طريق الضلال، ومن غير أن نستعين بالتاريخ يستعصي، لا بل يتعذر علينا، أن نقضي بحكم صحيح في النظامات القائمة من حولنا، أهي سائرة في سبيل النماء والقوة، أم متقهقرة إلى حضيض الفساد والانحلال؟ أهي قائمة على نفس الأسباب التي حملت الجماعات على تأسيسها وتشييد قواعدها، أم أخذت تفقد من سلطانها شيئا بزوال الأسباب التي ساقت إلى تكوينها في «الماضي»؟
خذ لذلك مثلا كنيسة الكثلكة، فإن سلطانها لا يزال مبسوطا على ربوع أوروبا ونفوذها قائم لم ينقص، كما كان في أشد العصور البابوية إيداعا بالقوة واعتزازا بالسطوة، فكيف إذن نقضي بأن المذهب الكثلكي آخذ بأسباب القوة أو مترد في سبيل الاضمحلال والضعف إذا لم نستعن على ذلك بتتبع تاريخ من كانت تسجد لخزنته الجبابرة والقياصرة العظام، إلى ذلك العهد الذي قامت خلاله في وجهه أعداء أشداء أحاطوا بمعاهده إحاطة السوار بالمعصم، وناءوا على سلطته الزمانية بقوة السلاح فلم يتركوه إلا بعد أن انتزعوا منه آخر ما كان من السلطات السياسية؟ ثم ارجع إلى نظام الملوكية تجده لا يزال قائما بكل ما كان له في الماضي من مظاهر الأبهة والعظمة، وبقليل مما كان له من أثر في الحكم. فإذا أردنا أن نعرف إن كان هذا النظام لا يزال على ما كان من قوة وسطوة، أم أنه آخذ في سبيل الزوال؛ وجب علينا أن نرجع إلى تاريخه مذ قبض الملوك على أعنة السلطة يحكمون بمقتضى إرادتهم ووحي وجدانهم، إلى الزمان الذي أخذت تنتزع فيه امتيازات الملوك درجة بعد درجة وحالا بعد حال، حتى أصبح نظام الملوكية عبارة عن أسطورة قديمة تروى أخبارها في بعض البقاع، وعن رمز يدل على آثار الماضي في بقاع أخر.
وكذلك الحال إذا رجعت إلى نظام الأرستقراطية، فإن الأرستقراطيين، النبلاء ورثة الشرف القديم والمجد المؤثل، لا يزالون في هذا العصر قابضين على الكثير مما كان لهم في الماضي من أثر في المجتمع والثروة والمجد الكبير، ولا يزالون يكونون عصبة مستقلة الرأي في النظام الحكومي في بعض الأمم. على أننا لا نستطيع أن نعرف حقيقة موقفهم على الوجه الأكمل ما لم نرجع إلى العصور الماضية، ونرى النبلاء يشاركون الملوك في عروشهم، والأمراء في سطوتهم ومجدهم، ثم نراهم في العصر الحاضر يغضون الطرف عن كثير مما كان لهم؛ لئلا تغمرهم موجة الجماهير فتبتلعهم في جوفها العميق.
ثم تأمل في عصرنا الحاضر، عصر الحرية المحمية بالسلام، المستندة إلى قوة الحديد والنار، وأجل طرفك في القارات الخمس لتجد ألسنة اللهيب كامنة في جوف المدافع، والأفق يلمع بأسنة الحراب، والرحب على سعته يكاد يضيق بوحدات الجيوش وفيالقها التي لم يعهد لها التاريخ مثيلا. فكيف تعرف إن كانت العسكرية في الزمان «الحاضر» لا تزال آخذة في أسباب النماء والحياة، أم راجعة إلى الانحلال والفساد، إلا إذا استعانت على تفهم ذلك بتتبع تاريخها منذ نشأتها إلى العصر الحاضر.
ولنرجع إلى الجماعات، فإنا إذا نظرنا فيها خيل إلينا أن الناس لا يزالون مستنيمين إلى عادات الخضوع والذلة، وأن الظاهر من أمرهم أنهم إلى الاستكانة أقرب منهم إلى العمل على نيل حرياتهم. ولكننا إذا عدنا إلى التاريخ وتتبعنا أثر التطور الاجتماعي مذ سيقت الجماعات سوق البهائم لتقدم قربانا على مذبح المسلطين عليهم، إلى اليوم الذي كسر فيه الناس قيودهم ووطئوا بأقدامهم رقاب المستبدين؛ استبنا حقيقة ما يعني الكتاب بالديمقراطية، ومقدار ما جنى الناس من خير في العصر الديمقراطي الحديث. •••
وهكذا نجد أن التاريخ إذ يزودنا بمقدمات نتخذها قاعدة للتأمل والمقارنة، وإذ يوجه انتباه الباحثين إلى كثير من دقائق الحياة الإنسانية؛ يساعدنا على تفهم حقائق الأشياء المحيطة بنا بما هي عليه، ويوقفنا على الكثير من أوجه الخطر والشأن فيها، ويوجهنا إلى الناحية التي نطمع فيها بالنفع والسلام. كذلك لا يقتصر أثره على الإبانة عما يحوطنا من الحالات في زمان «حاضر» لا غير، بل يعضدنا على وجه التعميم، لا على وجه التخصيص في أن نكون فكرة عامة، وأن نتصور إلماما ما سوف يكون من أمر تلك الحالات في المستقبل.
هذه النظرية تخرجنا من حدود الجبر إلى حدود الإرادة الحرة في تصريف أمور الاجتماع، فإن هنالك فئة من المؤرخين يعتقدون أن كل ما يرويه التاريخ من حوادث، وأن كل ما خرج به الإنسان من نظامات ومعاهد وشرائع؛ ليست في الواقع إلا تنفيذا لإرادة سبقت فيها منذ الأزل، وحقت عليها كلمة الغيب أن تكون ما كانت، وأن تبقى كما هي كائنة، وأن تظل كما ستكون.
أما إذا مضينا على هذا الاعتقاد قانعين بأن التاريخ أزلي النشأة أبدي البقاء على حالة ما، وأنه خاضع لإرادة الغيب، مصرفة أموره وحوادثه على مقتضى نواميس الكون الطبيعية التي لا تتبدل مقدماتها ولا نتائجها؛ فإن من الظاهر الجلي أننا إذا تتبعنا آثار النظامات الاجتماعية منذ نشأتها حتى اليوم، ثم أخذنا نمد سلطانها وأثرها الذي نلحظه في الحاضر إلى لا نهاية، على فرض أنها أبدية البقاء ثابتة التأثير على حالة واحدة؛ كان في مستطاعنا أن نعرف مقدار ما سوف يكون أثرها ومنزلتها في المستقبل قياسا على أثرها ومنزلتها في الماضي، فنقضي على ما نراه آخذا في النماء بأنه باق إلى أجل ما، ونقضي على ما نلحظ أن دبيب الفساد قد أخذ يدب فيه بأنه زائل لا بقاء له؛ فنمحو من صفحة الوجود نظامات، ونقدر لأخرى البقاء إلى أبعد عصور المستقبل المجهول. كل هذا قضاء لفكرة ثابتة بأن العوامل المؤثرة في التاريخ كالعوامل المؤثرة في سطح الأرض؛ فنحكم بالاتساق في حالات الاجتماع حكم الجيولوجيين بالاتساق في المؤثرات التي تنتاب الأرض، على بعد ما بين الحالتين من الخلف والتباين، وكأن هؤلاء القوم قد عناهم الشاعر العربي بقوله:
يقفون والفلك المحرك دائر
ويقدرون فتضحك الأقدار
على هذه الفكرة مضت فئة من الباحثين مقتنعين بأن التاريخ كسجل للماضي يمكن أن يلقي بشيء من النور على خبايا الحاضر والمستقبل، على وجه التخصيص لا على وجه التعميم. ولكن قليلا من البحث والتأمل ليدل على أن التاريخ في حين أنه يزودنا بما نقف به على حقيقة المرتكز الذي يرتكز عليه «الحاضر»؛ فإنه لا يفسر لنا مغمضاته ولا يبين لنا عن حقيقة مشكلاته، وإنه إذ يساعدنا على الإلمام بشيء نتوقع به حدوث حالات ما في «المستقبل»، فإنه لن يزودنا بما نستطيع به أن نقبض على زمام حادثاته، أو أن نوجهها في المتجه الذي نريد لأنفسنا أو لغيرنا.
ولقد ثبت لدينا من قبل أن التاريخ يفصح لنا عن حقيقة النظامات القائمة من حولنا بأن يرجع إلى أصلها ومنشئها الذي نشأت منه، ويتقصى الأدوار التي مرت بها وأوجه التطور التي طرأت عليها، حتى يسلم بها إلى «الحاضر» كما نراها ونعهدها. بيد أن تلك النظامات إذ هي بذاتها معدومة الأثر الذاتي ؛ لأن نفعها أو ضررها مقيس دائما بنسبة ما تؤثر في رفاهية الإنسان، لذلك يتعذر علينا أن نوجه خطى النشوء التي تخطوها الجماعات في سبيل الخير والسلام، ما لم نعرف مقدار الأثر المباشر الذي يلحق المجتمع من قيام تلك النظامات، وما هي ماهيتها في التأثير في عقول الناس الخاضعين لها وسلطانها على أخلاقهم ومشاعرهم وتصوراتهم.
ولا ينكرن أحد أن لتلك النظامات أثرا ما، سواء أكان خيرا أم شرا، وأن لبعضها القدرة على تنوير الأذهان وتحريك الفكر نحو المعقولات، كما أن لبعضها الأثر الأول في خلق روح الجمود وقتل ملكة التفكير والحكم على الأشياء حكما مستقلا. وكذلك لا ينكر باحث أن الغرض الذي يرمي إليه السياسيون مقصور على العمل على إحياء بعض النظامات الاجتماعية والأخذ بيدها، والسعي في تهديم البعض الآخر والذهاب بآثاره. غير أن السياسي إن أراد أن يتبع في عمله طريق الحق والصواب، وجب عليه أن يعرف بداءة ذي بدء ما هي تلك الآثار التي تخلفها النظامات المختلفة في الجماعات كما يجب على الطبيب أن يعرف أثر ما يصف من دواء في بناء الأجسام من قبل أن ينصح للمريض به، فليس إذن ما نحتاج إليه هو معرفة الكيفية التي بلغت بها النظامات إلى الحالة التي نراها عليها، بل إن ما نحتاج إليه هو معرفة الآثار التى تنشأ عنها فى الحالات القائمة من حولنا، إنا لا نحتاج إلى التاريخ بمعناه المعروف، بل نحتاج إلى سبيل ينفذ به بصرنا إلى أعماق «الحاضر»؛ إذ أية فائدة نجنيها وأي نفع نرقبه من معرفتنا تاريخ الرق وكيف نشأ وانتشر وكيف ضعف وزال أثره في أية بقعة من بقاع الأرض وخلال أي زمن من أزمان التاريخ؟ في حين أن ما نريد أن نعرف ماهيته هي آثاره المباشرة الدائمة على طبيعة الإنسان الأدبية في مختلف الأمم وعلى تتالي الأجيال، أو ماذا يعود علينا من نفع إذا نحن عرفنا تاريخ ذيوع اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، والأطوار التي مرت بها العقائد العظمى حتى ثبتت أصولها بين الأمم التي تدين بها. بيد أن وجه الفائدة الصحيحة محصورة في معرفة الآثار التي خلفتها تلك العقائد في الأمم التي دانت بها وخضعت لسلطانها، أية فائدة في أن نعرف تاريخ الجلاد بين الأرستقراطية والديمقراطية إذا جهلنا معه معرفة تاريخ حقيقة الأثر الذي يبعثه كل من النظامين في روح الجماعات ومقدار أثر كليهما في أخلاق الناس ومشاعرهم وحياتهم العامة؟ من هنا يتضح لنا أننا إذا تعذر علينا معرفة الآثار التي تتركها النظامات في حالات المجتمع، ماديا وعلميا وأدبيا وأخلاقيا، استعصى علينا أن نقود خطوات الجماعات في المستقبل في سبيل الأمن والسلام.
أما إذا أردنا أن نفقه حقيقة المؤثرات الطافية على وجه الحياة في زمان ما، انبغى لنا أن نتقصى الفكرات والعواطف والمعتقدات السارية في روع الناس في «الحاضر»، وما تلك الأشياء، أي الفكرات والعواطف والمعتقدات في حياة الجماهير، إلا النتاج المباشر لصور الدين والمذاهب والحكومات التي يعيشون خاضعين لسلطانها وسيطرتها، وإن شئت فقل لنظاماتهم العامة، ولا خفاء أن الصفات الأدبية والعقلية الخاصة بأمة من الأمم ليست في الواقع بشيء سوى مجموعة الآثار التي تخلقها النظامات المختلفة. ومع كل هذا، فإننا لا نستطيع أن نفقه الحالات القائمة في حياة جماعة من الجماعات أو أمة من الأمم، قبل أن نفرق بين الآثار المخلفة عن كل من النظامات القائمة فيها، والتي نعتقد بحق أنها قسم من طبيعتها الكامنة في تضاعيف فطرتها.
4
إن التاريخ كرواية للماضي لا يمكن أن يزودنا بما نفصح به عن مشكلات «الحاضر»، ولا يمكننا من اكتناه خفايا المستقبل، ذلك لأن الإفصاح عن «الحاضر» والتغلل في ثناياه والإرشاد عن المستقبل لا يتيسر إلا باستجماع ضروب من المعرفة النظامية اليقينية في تأثير النظامات العامة على الحياة الإنسانية.
غير أنه لا يجب أن نغفل عن أن استجماع ضروب من المعرفة النظامية اليقينية في تأثير النظامات على الحياة الإنسانية وعلى الأخلاق؛ ينتج علما غير التاريخ، ينتج علم السياسة، وعلم السياسة علم أهمل النظر فيه إهمالا كبيرا، حتى إنك لا تجد من علم يدعى بحق علم سياسة الأمم . وكل ما في علم السياسة، على ما هو اليوم، من حق، عبارة عن بضع نظريات وضعها فلاسفة من أهل النظر في فترات من الأزمان، تتباعد بمقدار تباعد علم السياسة عن أن ينال من النظام الاجتماعي بأثر صحيح في العصر الحاضر. والحق أن علم السياسة يقع في جو فاصل بين علمين: علم الجماعات العام، أي علم الاجتماع من جهة، وبين علم حكم الشعوب العملي من جهة أخرى.
إن وظيفة علم الاجتماع على ما حددها الاجتماعيون تنحصر في الإفسار عن حقيقة الانقلابات الاجتماعية، مطبقة على سنة ما من سنن الكون، كسنة النشوء مثلا، وهي سنة عامة، ومن أجل أنها عامة تعجز دائما عن إرشاد الأمم إلى خير سبيل يسلك إلى الصلاح والتقدم من الوجهة العملية الصرفة.
كذلك تجد أن العلاقة بين سنة النشوء وبين علم السياسة كالعلاقة بين علم الحياة العام وبين علم الطب، فإن علم الحياة في حين أنه يكشف عن قوانين الحياة الخاصة بكل الكائنات العضوية يعجز عن أن يعالج التغيرات المرضية التي تنتاب الجسم الحي، وهذه هي الحال في علم الاجتماع، فإنه بينما يكشف عن السنن الطبيعية التي تخضع لها الجماعات، يعجز عن أن يزودنا بما نستطيع به أن نرشد جماعة ما من الجماعات إلى سبيل الخير والصلاح.
إن علم الاجتماع ليس من طبيعته أن ينصرف إلى معرفة الرغبات والشهوات الخفية، ولا المصالح المادية، ولا المعتقدات التي يجب أن تصبح موحدة الأطراف مسوقة في طريق واحد، قبل أن تتمكن أية جماعة من أن تخطو إلى درجة أعلى من درجات الارتقاء. بل على العكس من ذلك تجد أن علم الاجتماع طالما يلقي في روعنا أن وراء الظواهر الاجتماعية المشاهدة تكمن يد القضاء والقدر، مؤثرة خلال الدهور متخذة من الذوات البشرية ألاعيب مفقودة الإرادة مستنيمة لحكم الغيب.
أما إذا رجعت إلى حكم الشعوب العملي، فإنك تجده عبارة عن صورة من صور التدجيل والخداع البعيد عن حكم الفلسفة والآداب، وأنه من قصر النظر وضعف الإدراك بحيث لا يمكن أن يتخذ كوسيلة من وسائل الإرشاد عن المستقبل، وأكبر دليل على ذلك أن وجهة نظره محصورة في البحث وراء مصالح فئة خاصة من الناس والوقوع على ما يسد مطامعها ويرضي شهواتها وينقع غلة تعطشها إلى الحطام ويهدئ ثورة عدائها لبقية الفئات التي تتكون منها الجماعة التي تحكمها، وأن هذه الفئة المختارة تنزع دائما إلى أن تقيس قوتها وعظمتها بمقدار ما تستطيع أن تخرج من قوانين ونظامات ترضي أكبر قسم من مصالحها الدنيوية.
من أجل هذا تجد أن الفرق بين علم السياسة الإثباتي - على أنه لم يوجد بعد - وبين قواعد حكم الشعوب العملي على الطريقة الشائعة، كالفرق بين علم الطب الصحيح الذي يبحث في خصائص القوى الحيوية والأعضاء التي يتكون منها الكائن الحي ومنافعها وعلاقاتها ووظائفها الفيزيولوجية، وبين طب الرقى والتمائم والتعاويذ؛ منشأ الأول العلم اليقيني الثابت، ومنشأ الثاني الجهل والحدس والضرب في مجالي الظنون، واستخدام أضعف ناحية من نواحي النفس الإنسانية في سبيل النفع الذاتي الموقوت.
من هنا تأتي ضرورة علم السياسة، على أن يحصر همه في البحث وراء تأثير العقائد والنظامات وصور الحكومات على سعادة الإنسان، وأن يثقف عقلية الشعوب تثقيفا يستغله في المستقبل رجال السياسة العملية بأن يولوا الشعوب وجهة ترضى عنها تلك الآمال التي تجيش بها صدور المصلحين.
على أننا إذا نظرنا نظرة نقد وتحليل وجدنا أن النظامات المدنية ليست إلا نتاج تلك الأفكار التي تخرجها رءوس الناس، والانفعالات التي تفيض بها مشاعرهم، كما أن الفكرات والعواطف والانفعالات في أكثر أمرها ليست سوى نتاج ما تغرس النظامات في طبائع الناس من صفات، لهذا قد يعترض معترض بأننا إذا نظرنا في تأثير النظامات على الجماعات من غير أن ننظر في تأثير الجماعات على النظامات، فإنما نتورط في أمر لا مفر معه من أن ندلف بقدمنا في منحى من التفكير ناقص غير ذي أسلوب، فيه من الضبط والدقة ما تتطلب عويص تلك المسائل التي نعكف على النظر فيها.
غير أن نظرة تأمل غير مكدودة بالتقاليد ولا معنتة بالعكوف على الفروض، لتعرفنا أن دراسة تأثير النظامات على الجماعات أمر يتناوله العلم والبحث الاختباري، في حين أن تأثير الإنسان والجماعات على النظامات أمر طالما أفلت من يد النظر العلمي، بل إن شئت فقل بحق إنه أمر لن يخضع لروح العلم الحديث. وفي الحق أننا نستطيع أن نبحث عمليا تأثير نوابغ الأزمان الماضية على النظامات، ونستطيع أن نعرف تأثير بوذا ويوليوس قيصر ولوثر وكلفن وروسو وفولتير وكوندورسيه على نظامات الأزمان التي تقدمتهم والتي ولدوا ونشئوا تحت سلطانها. غير أنه ليس من الحق في شيء أن ندعي كشف حجب الغيب عن الزمان الذي سوف يظهر فيه نابغة العصر المقبل، أو نتقصى صور النظامات التي سوف يولد خاضعا لسلطانها وسلطتها، أو نعرف إلى أي حد سوف يذهب نبوغه في التأثير عليها والتحوير في قواعدها، ومبلغ معرفتنا بذلك لا يعدو مبلغ تكهننا عن الزمان الذي سوف يقع فيه أي استكشاف علمي قبل أن توفق الأفهام إلى الوصول إليه، لهذا نقول بأن تأثير النوابغ ذوي العبقرية على المستقبل لن يعرف ولن يمكن التكهن به، ذلك من الأشياء التي سوف تظل متروكة لمشيئة الأقدار.
نخلص من مجمل هذا بنتيجة واحدة، هي أن تأثير نوابغ الأزمان الفارطة على النظامات يمكن أن تتبع آثاره، في حين أن تأثير نوابغ المستقبل على نظامات الأزمان المنتظرة لن يعرف ولن يمكن التكهن به، لهذا نقول ونقول بحق: إن النظر في تأثير النظامات على الإنسان أو تأثير الإنسان على النظامات، حتى ولو كان ممكنا، لن يحبونا بنعمة الاستعماق في تعرف حقيقة الحاضر أو يكشف لنا الأستار عن خبايا المستقبل. •••
إن التاريخ كرواية للماضي لن يزودنا بتلك الصفات التي نستطيع بها أن نستعمق من طريق السياسة إلى النظر في مشكلات الحاضر نظرا يكشف لنا عن حقيقة ما يكمن وراء تلك المشكلات من الحق البين، ولن يولد فينا تلك الكفاءة التي يتيسر لنا من طريقها أن نحدس عن المستقبل، لهذا نرجع إلى النظر فيما يمكن أن يفيدنا التاريخ كذوات حية عاقلة تتناوب من حولها دورات الليل والنهار مشحونة بشيء من المفاجآت وضروب الحوادث.
إن للحياة في نظر الأحياء العاقلة قيمة توزن عادة بموازين تختلف باختلاف النظر في حقيقة الحياة وما يجب أن تتجه فيه من السبل المشعبة، لهذا تجد أن كل من نظر في الفلسفة قد وضع للحياة قاعدة يعتقد بحق أو بغير حق أنها الغاية من الحياة، فقال كارليل: إن اختيار المثل التي تجري عليها الرغبات في هذه الحياة هي أعظم خطوة يخطوها الإنسان في حياته. وقال ماتيو أرنولد: إن الأخلاق ثلاثة أرباع ما في الحياة من قيمة. وقال جوته: إن الحياة هي العمل لا التأمل. ولا مشاحة مطلقا في أن الفلسفة لن تصل إلى أرقى مما وضع هؤلاء، فإن سبيل كل منهم لكاف وحده إن اتبعه الناس لإرشاد الإنسانية، فهل يمكن للتاريخ أن يزودنا بكفاية نستطيع من طريقها أن نصل بالإنسانية إلى ما يرغب فيه الفيلسوف من النتائج؟
إذا بحثنا التاريخ بحث نقد واستقلال في الفكر، نجد أنه إن استطاع أن ينبه كامن العواطف والانفعالات فإنه قد عجز دائما عن أن يوجه التصور إلى الناحية التي يختار فيها المثل التي يمكن أن يجري عليها الإنسان في الحياة آمنا أو أن يوازن بين مجموعة صور الأخلاق ليتخذ منها الأصلح ليتبعه الإنسان، كما أنه قد عجز عن توجيه الفكر نحو البحث وراء أمثل الأعمال التي يمكن أن يتخذها الإنسان في الحياة سببا.
لن نستطيع أن ننكر أن التاريخ يعطينا من مثل العظماء الذين وقفوا حياتهم في سبيل خير الإنسانية، قوة نستقوي بها على ما في طبائعنا وأخلاقنا من نقص، وأن نقوم بها اعوجاج النفس ومرض الضمائر. غير أن الماضي ليس برمته رواية متصلة من أولئك النوابغ العظماء الذين سعوا إلى خير الإنسانية! ليس برمته مسرحا لضروب الشجاعة والبطولة! فإن المثل التي ينقلها لنا التاريخ عن الماضي قد تكون أحيانا أرقى المثل وأفعلها في تقويم الأخلاق وقد تكون أحيانا مثلا ساقطة مسفة، والتاريخ يضطر في كثير من الأحيان أن لا يعكف على مثل الفضيلة وحدها، بل غالب ما يصور لمخيلاتنا كثيرا من صور القوة القاهرة والاستبداد المفجع. والنتيجة أن إعجاب الناس ينقسم دائما بين حب القوة وحب الفضيلة، وكثيرا ما ينزع الناس إلى الإعجاب بالقوة دون الإعجاب بالفضائل، لطبع مؤصل في تضاعيف فطرتهم.
فإذا كان عجز التاريخ عن توجيه تصوراتنا إلى اختيار المثل على ما رأيت، فالأولى أن يكون عجزه عن إرشادنا في الحاضر أو المستقبل أبلغ وأعمق، وأنه لن يرسل إلينا من الماضي خيوطا مضيئة شفافة تكشف لنا عن الحاضر وتميط لنا الحجب عن المستقبل، بل إن ما يرسل من خيوط النور لترى كليلة واهنة، متخالطة مضللة.
كذلك نستطيع أن نقول بحق: إن التاريخ لن يرشدنا في مجال العمل. فإذا أخذنا الحياة على أنها العمل، وليست سلب الزخرف ولا جدب التأمل، فمن أية ناحية يمكن لحوادث الأزمان القديمة، أو لصور البطولة التي تظهر في الأزمان الحديثة على صفحات التاريخ، ولو كانت فاضلة بحق؛ أن تفعل الوجداني؟ أنا الكائن المفكر الذي تحيط به مجموعة من المشكلات والمسائل مختلفة تمام الاختلاف عما أحاط بهم، تلك المشكلات التي هي بحكم تطور الأزمان وتباين الظروف لا بد من أن تكون بلا مثيل لها في التاريخ. (3) التاريخ من الوجهة الفلسفية
1
تكلمنا من قبل في التاريخ باعتباره تدوينا ورواية للحقائق، غير أن قليلا من التأمل يجعلنا نعتقد بأن التاريخ شيء أكثر من مجرد التدوين والرواية، فإن فيما كتب كثير من المؤرخين أمثال غيبون وماكولي وهيوم وجروت وكارليل كثيرا من التأملات الفلسفية تتعارض في خيوط الشبكة التاريخية التي تحاك عادة من حوادث تروى ووقائع تقص وتدون، وتكون مهمة المؤرخ في هذه الحالة محصورة في أن يقع على البواعث والأسباب والقواسر التي يستطيع بها أن يعلل حقائق التاريخ التي يتكلم فيها، بحيث يخرج منها بصورة فيها ألفة واتساق. فإذا شعرنا بأن البواعث والأسباب التي يعينها المؤرخ ليعلل بها الحوادث قد استمدت من طبيعة الحالات التي قامت في العصر الذي يؤرخ فيه، ومن أخلاق الناس الذين يكونون بأعمالهم وقائع ذلك العصر؛ فإذ ذاك نقول بأن المؤرخ قد نجح في تزويدنا بصورة حقيقية عن العصر الذي يدون حوادثه، وإذا أخفق في الأولى أخفق بالضرورة في الثانية. أو بعبارة أخرى: إن الأسباب التي تعين لتعليل الحوادث إذا لم تكن ثابتة الأثر في الماضي ثبوت أثرها في الحاضر، أي إنها تؤدي في الحاضر إلى ذات الحوادث التي أدت إليها في الماضي؛ فإننا نشك دائما في حقيقة التعليل التاريخي، فقد عمد العلامة غيبون في أحد فصول تاريخه المعروف إلى إحصاء الأسباب التي رآها أعمق أثرا من غيرها في نشر المسيحية في القرون الأولى، فإذا أردنا أن نقيس مقدار ما في تعليلات غيبون من قوة وثبات، عمدنا إلى التساؤل عما إذا كانت مثل الأسباب التي ذكرها يمكن أن تحدث الآن (في الحاضر) نفس النتائج التي عزاها إليها غيبون في الماضي؟ ولا جرم يكون قبولنا أو رفضنا لتعليلاته راجعا إلى حكمنا الناتج عن هذا السؤال.
على هذا نرى أن التاريخ بدلا من أن يعلل لنا «الحاضر» يستمد كل ما فيه من قوة البيان والتعليل من الحاضر نفسه، أو بعبارة أخرى نقول: إن التاريخ بدلا من أن يكون المنارة التي تبعث بالضياء الذي ينير لنا سبل «الحاضر» وتعلل لنا أسبابه وتبين لنا عن نتائج ما يقع فيه، نجد أن «الحاضر» هو بذاته تلك المنارة، وأن التاريخ ليس أكثر من أمثال تضرب وتعليقات تروى. ولقد جهل كثير من المؤرخين هذا المبدأ التفسيري وعموا عنه، فكان ذلك سببا في أخطاء وقعوا فيها وأغلاط تردوا في حمأتها، ولو أنهم فطنوا له لكانوا من أكبر مؤرخي العصور الحديثة.
غير أن لنا أن نتساءل: كيف يمكننا أن نفسر الماضي بالنظر في الحاضر، إذا لم يكن لدينا من النظامات الحاضرة ما يناظر نظامات العصور الماضية، فليس في أوروبا اليوم وكثير من بقاع الشرق أرقاء مستعبدون؟ فكيف يمكننا أن نفقه حال الجماعة التي شاع فيها استخدام الأرقاء وكانوا عنصرا أوليا من عناصرها المكونة لها، ما دمنا لا نقع في أطراف الدنيا المتمدينة على مثل لهذه الصورة الاجتماعية؟ أما الحوادث فتنحصر في «قتاس النظائر»، أي بالنظر في ماهية العلاقة التي قامت بين السيد والعبد، فبين السيد المخدوم في عصور المدنية الحديثة وبين الخادم تقوم ذات العلاقة التي قامت بين الرقيق وبين المسترق في عصور الحكم الإقطاعي. فإذا استطعنا مثلا أن نحقق طبيعة هذه العلاقات وتفاصيلها، وتطرقنا بعض الشيء في إحكام الصلة بين سيد آمر مطاع وخادم مأمور مجبور على أن يطيع، ثم أمعنا بعد ذلك في إحكام هذه العلاقة ليكون أساسها سلطة مطلقة ينعم بها سيد وخضوع مطلق يلزم به عبد، كما كان شأن الأسياد مع عبيدهم في العصور الأولى؛ استطعنا أن نعثر في «الحاضر» على الحل التاريخي الذي يفسر لنا الماضي.
لقد اتبع شكسبير هذه الطريقة المثلى، طريقة تعليل الماضي بالحاضر، في كتابة دراماته الكبرى التي نال بها ذلك النجاح الباهر، وبلغ بها ذروة من الشهرة وبعد الصيت لم يبلغها بعد إنسان غيره. فكان إذا أراد أن يبرز لنا صورة من الصور التي قامت في العصر الروماني مثلا، عمد إلى «بلوطرخوس» وغيره من مؤرخي ذلك العصر يستمد منهم الحقائق التاريخية الكبرى، ويستوعب منهم شكل الحكومة وقوام الدين وتوزيع القوة والسلطة في بناء الهيئة الاجتماعية، ويأخذ من مجموع هذه الأشياء هيكله الأولي الذي يبعث فيه الحياة والنشاط! ويخرجه من خيال الماضي ليكون حقيقة واقعة. أما الطريقة التي اتبعها فانحصرت في أنه كان يدرس طبيعة العصر الذي عاش فيه، ويلاحظ تأثير النظامات والمعاهد الاجتماعية التي قامت من حوله وأثرت في عقول الناس وفي عقليته على الأخص؛ مما يفسح لتفكيره مجال الاستيثاق من مقدار الفروق التي تقوم بين عادات عصره وأسلوب الحياة فيه والصور السياسية والدينية التي يصطبغ بها، وبين ما يناظرها في الأزمان الأولى، فتكون النتيجة أن يخرج بدراما أو عدة درامات أكثر قربا من الحقيقة وأشد حيوية، بل أكثر صدقا وأقرب تصديقا، بل يفوز بخلق صورة من الحياة الرومانية أعظم وأمتع من كل تلك السخافات الممضة التي زودنا بها المؤرخون. والحقيقة أن شكسبير قد عمد إلى أمثل الطرق وأدرك من الحياة مبدأ لم يدركه غيره، أدرك من التاريخ، وهو رواية الحياة الإنسانية، ما لم يدركه غيره من المؤرخين وأصحاب الرواية، فبدلا من أن يتخذ التاريخ هاديا ينير لنا سبيل «الحاضر»، عمد إلى مبدأ أن «الحاضر» هو النبراس الوحيد الذي يمكننا، إذا اهتدينا بنوره، من أن نحيي عظام الماضي الرميمة، وفي هذا وحده تنحصر عظمة شكسبير.
2
هنالك عدد من الأحكام العامة يخيل إلى الناس أنها من الحقائق التاريخية أو بالأحرى أنها نتاج للبحث التاريخي العميق، ولقد أصبح لهذه التعميمات سلطة سحرية غريبة تستغوي الناس، بعيدة جهد البعد عما لهذه التعميمات من قيمة حقيقية. من هذه التعاليم التاريخية، كما يتطرف البعض في القول، ذلك الزعم الفاسد الذي يوحي إلينا بأن الانغماس في الترف هو السبب في انحلال الدول، وأن الإفراط في الديمقراطية ينتهي بقيام الحكومات المستبدة، وأن أول نفس يستشمه الناس من الحرية يزيد الامتعاض والتبرم بدلا من أن يطفئ أوارهما. ومهما يكن من أمر هذه التعميمات وما فيها من صواب أو خطأ، فالواقع أن ليس فيها من تعاليم التاريخ أي أثر؛ فإننا إنما نعتقد أن الترف هو مقدمة الانحلال والفساد، لا لأن التاريخ يؤيد هذه النتيجة بل لأننا نرى «اليوم» أن الترف يؤدي إلى الأنانية وحب التسلط لذاته وإلى التخنث، وأن هذه الأشياء تحل عروة العقدة الاجتماعية التي لا يمكن تكون أمة بغيرها. ونرى أن التطرف في الديمقراطية إنما يؤدي إلى الاستبداد، لا لأن عددا من الوقائع التاريخية يؤيد هذه الحقيقة، بل لأننا نرى أن التطرف ينتج الفوضى وعدم النظام، وأن من عدم النظام لا ينتج نظام إلا بيد قوية قاهرة تنحصر في شخص معين وتتركز فيه.
وليس في مستطاعنا بطبيعة الحال أن نأتي على ملاحظات عديدة على قدر ما نرغب، نبين بها أوجه العلاقة بين سقوط الدول وبين مقدمات السقوط السياسية، فليس في طبيعة الأشياء الإنسانية أن تسقط أمامنا كل يوم إمبراطورية كبيرة أو دولة عظمى وتتحطم إلى الحضيض؛ لتكون بمثابة مختبر عملي نستخدمه لاستخلاص استقراءاتنا السياسية، لهذا نضطر إلى أن نعود إلى الماضي لنستخلص منه أمثال هذه النتائج التاريخية، فتحل لدينا محل المشاهدة المباشرة، وتقوم لدينا المثل المادي، وتقوى فينا متجهاتنا وميولنا السياسية، وفي هذا الموضع فقط يفيدنا التاريخ، فليس من شأن التاريخ أن يعلمنا شيئا جديدا لم نكن نعرفه، ولكن شأنه الحقيقي ينحصر في أنه يقوي فينا النزعات التي نكون قد كوناها بالفعل من ملاحظاتنا واختباراتنا التي نستمدها من «الحاضر»، أن يزودنا بأمثال نؤيدها منتزعة من الماضي البعيد، إنه يعطينا نفس ذلك الضرب من التحقيق الذي يزودنا به استكشافنا لوقوع كسوف قديم للشمس نعثر عليه بين دفتي كتاب قديم متروك، بعد أن نكون قد عرفنا أن زمان وقوع ذلك الكسوف قد حسبه فلكيو العصر الحاضر على وجه التحقيق. إنما يفعل التاريخ للنوع البشري ما تفعل تجاريب العقول الأخرى للفرد، فإن أكبر جزء من معرفتنا إنما نكتسبه ب «اللقاح» لا بالاختبار المباشر.
إن أكبر قسط مما نعرف إنما ينتقل إلينا من إخباريات موثوق بها يرويها معاصرونا، أو من الكتب التي نقرؤها، أو من شاهدي عيان نؤمن برواياتهم ونصدق مروياتهم. ومع كل هذا فإننا نؤمن بما ينقل إلينا، ونمضي عاملين على مقتضى ما يوحي إلينا به ذلك المنقول، لا لأن السند الذي نتلقى عنه هذه المنقولات معصوم عن الخطأ مبرأ عن الزلل، بل لأن ما ينقل إلينا يتفق مع بقية معتقداتنا الأخرى، أو على الأقل لا ينتهكها ولا يناقضها؛ فإن في مستطاعي أن أعتقد بوقوع حوادث لم أشاهدها، وبارتكاب جرائم لم أرتكبها، لا لأن برهانها لا ينقض، ولا لأن راويها لا يزل ولا يخطئ، ولكن لأنها نتيجة لنزعات وميول أشعر بمثلها قائما بين جوانحي مستمكنا من قرارة نفسي، بل وأراها قائمة فيما يحف بي من ظروف الدنيا وحالاتها، فإني أستطيع مثلا أن أعتقد أن شخصا قد قتل جاره في فورة من فورات الانفعال ولو لم أشاهد مثل هذا الفعل طول حياتي؛ لأني أقدر أن أعرف إلى أي حد يذهب تأثير الانفعال النفساني إذا هو تمادى غير مصدود باعتبارات نفسية أخرى أرقى منه طبيعة وأنبل ماهية، كذلك الحال في التاريخ، فهو يزود العصر الحاضر بتجاريب القرون الأولى، وبذلك يجعلنا نتحقق من أن النتائج التي وقعت بالفعل هي نفس النتائج التي يجب علينا أن ننتظر وقوعها استتباعا لنزعات نراها قائمة في عصرنا الحاضر. غير أن الاستنتاجات التي نستمدها من تلك التجاريب يجب أن توافق آراءنا ومعتقداتنا، وبالجملة تكون مصدقة لدينا، وإلا فإننا ولا شك نرفضها ولو نزل بها من السماء رسول مبين. وعلى هذا نرى أن ذلك الجزء الدنيء الذي نقتطعه من الأبد السحيق وندعوه «الآن» يوازن كل مرويات التاريخ على عظمتها واتساعها، كما توازن قطرة من الماء، إذا أحكم وضعها، مياه الخضم المتلاطم الأمواج، على سعة رحابه.
3
أما القول بأن «التاريخ» إنما يستمد الثقة به من الحاضر، فلا تظهر صحته بأكثر مما تظهر من ترك الناس في الزمان الحاضر لما كانوا يعتقدون به من المعجزات في الأزمان الماضية؛ فإن الروايات التاريخية التي كانت تؤيد الاعتقاد بوقوع المعجزات بالفعل لا تزال قائمة حتى اليوم كما كانت في العصور الوسطى، وهي فوق ذلك معتبرة من «الحقائق» التاريخية الثابتة، فلماذا لا يعتقد الناس بصحتها كما كانوا يعتقدون بها من قبل؟ السبب في ذلك أن التاريخ إنما يستمد كل ما فيه من قوة الكشف عن الحقائق من وقائع العصر الحاضر، وليس من الثقة بأشخاص ينقلون روايات ما مهما كان مبلغ الإيمان بصدقهم، ففي تلك الأيام التي آمن الناس فيها بصحة المعجزات، وبالأحرى في الأيام التي آمن الناس فيها بتدخل قوى الغيب في تصريف حالات هذه الدنيا، كان من الممكن أن يتقبل العقل الإنساني التصديق بوقوع المعجزات تسليما ولأول وهلة، أما اليوم فالمعتقد على أنه ليس لقوى الغيب أن تتدخل في حالات الاجتماع الإنساني، أو غيرها من حالات هذا العالم، وعلى هذا أصبحت الروايات التي كانت تروى عن وقوع المعجزات، مهما بلغت منزلة الذين يروونها من التبجيل والاحترام، مما لا يمكن تصديقه بمقتضى الحالات القائمة اليوم. أما ذيوع الاعتقاد بأن قوى الغيب كانت تتدخل في تصريف حالات هذا العالم في الأزمان السالفة، فراجع لدى الواقع إلى أن كثيرا من الحوادث التي كانت تحدث في كل وقت وآن لم يكن في المستطاع تعليلها تعليلا طبيعيا يقبله العقل الإنساني، وخضوعا لذلك الناموس المؤصل في تضاعيف الفطرة البشرية نسب الناس وقوع هذه الحوادث إلى إرادات مشابهة لإرادتهم كلما أعوزتهم الحاجة إلى أسباب طبيعية ينسبونها إليها. أما السبب في أننا لا نؤمن اليوم في تدخل قوى الغيب في حالات هذه الدنيا، فراجع إلى الاعتقاد بأن كل الحوادث الكونية مهما كانت صفاتها وضروبها من الممكن أن يتتبع أصلها إلى أسباب طبيعية.
والحال في السحر هي بعينها الحال في المعجزات، فإن البراهين التي كانت تقام في تأييد وجود السحر كانت قوية، حتى إن رجالا ممن اتصفوا بأنهم من زهرة رجال الإنسانية مثل باكون وماتيوهال وسير توماس برون، قد اعتقدوا بصحة السحر اعتقادا جازما. وهؤلاء وغيرهم كثيرون، على الرغم من نفوذ بصائرهم وعلو كعبهم في العلوم والفلسفة، قد رأوا أن البراهين التي تقام لتأييد السحر كافية للاعتقاد بصحته، ولا سبب لهذا إلا أنهم بدءوا يفكرون في موضوع السحر وعقولهم مشحونة شحنا تاما بما يجعلهم أكثر استعدادا لقبول البراهين والتفسيرات التي يذهب إليها المؤمنون بهذه الظاهرة الخرافية، ولقد رأوا وقائع تقع وحوادث تحدث من حولهم كل يوم من غير أن يستطيعوا أن يعللوها إلا بأن يفرضوا وجود ذوات غير مرئية لها إرادة مشابهة لإرادتهم، وهذا في الواقع راجع إلى أن البراهين التي رأوا أنها كافية لأن يقيموا عليها معتقدهم في الماضي لم تصبح كافية لأن تقنعنا اليوم بما اقتنعوا به من قبل.
ولا حاجة بنا لأن نمضي في ضرب الأمثال، فإننا إذا احتجنا إلى دليل آخر يثبت لنا أن التاريخ ليس إلا تذييلا للحاضر وتبريرا له، بل يجب أن يخضع له الخضوع كله؛ فإنا نقع عليه في تلك الحقيقة الفذة، حقيقة أن المعرفة بفروعها إنما يحكم فيها من وجهة نظر الحاضر وليس من وجهة «الماضي»، فلسنا نحكم اليوم على المذنبات بتلك الوجهة من النظر التي كانت تحمل الناس على الاعتقاد بأن هذه النجوم الضالة إنما ترسل من أذنابها «الوباء والخراب» في كرة الأرض، بل نحكم على آثارها «الماضية» بما نعرف من طبيعتها في «الحاضر»، كذلك لا نعتقد اليوم أن الرعد ناتج عن سوط إسرافيل إذ يسوق السحاب، ولا أن الصواعق نذير من نذر الله. وعلى الجملة نقول بأن كل التفسيرات «الماضية» التي عللت بها حوادث الكون والاجتماع يجب أن تخلي الطريق لما يوحي به «الحاضر»، وبالأحرى نقول بأن «الماضي» يجب أن يترك وينسى ليحل محله «الحاضر». ومن غريب الأمر أن «العلم» في حين أنه يقضي على «الماضي» ويحيي «الحاضر» فإن مقرراته لن يفصل فيها إلا «المستقبل».
4
إذا أردنا أن نبلغ ببحث هذا الموضوع قسطا أوفى من الكمال، وجب علينا أن ننظر في التاريخ باعتباره تفسيرا فلسفيا للماضي، وأن نبحث في ما يمكن أن يلقى من ضوء على مشكلات الحاضر والمستقبل.
وكثيرا ما نظر بعض الكتاب والباحثين في التاريخ معتقدين بأن من ماهيته أن يؤيد معتقدات أو مذاهب فكرية. ومما لا ريب فيه أننا إذا رجعنا إلى ذلك العدد العديد من المذاهب التي أيدها التاريخ، ظهر لنا أن في هذا الزعم قسطا من الحق كبيرا. ولقد أشرت من قبل إلى أن تلك النظريات العالمية أو الاجتماعية التي تعتمد في بقائها على الحقائق التاريخية، يكون لها في أذهان الناس قيمة ووزنا أكبر من قيمة تلك النظريات التي تعتمد في البقاء والثبات على النظر الاستقرائي العميق فى ما يحيط بنا من الأشياء.
إذا قرأنا ما كتب كونت وبوكل وسبنسر، وأمعنا النظر فيما ذهبوا إليه من الآراء في تعليلهم حقيقة الارتقاء الاجتماعي؛ يخيل إلينا دائما أن النظريات التي يحاولون إقرارها قد قامت في عقولهم مستمدة من الحقائق التي يروونها، بنفس السهولة التي نستوعب بها تلك النظريات من كتبهم. وعلى هذا يأخذنا الزهو والإعجاب بما نوهم أننا وهبناه من قوة عقلية تمكننا من أن نحيط، كما يحيط الله، بكل ما قطعت الإنسانية من أشواط التقدم والارتقاء، في نظرة واحدة نلقيها على الصورة الماثلة بين يدينا، في حين أن العين لتبهر وتفقد قوتها على الإبصار، وأن قوة التصور لتنوء بثقل ما يتراكم عليها من حمل التقاليد؛ فيرتد الإنسان كليل البصر، فاقد الحيلة. غير أن العقول الفذة الكبيرة لتدرك بأن النظرية، بدلا من أن تستمد مباشرة من الحقائق استمدادا ذاتيا، قد تكونت في صميم الحقائق ذاتها، وبالأحرى نقول بأن النظرية ليست هي النتيجة الأخيرة التي يخلص بها القارئ بعد طول اطلاعه وإكبابه على القراءة، بل على الضد من ذلك نجد أن القراءة لم تكن في الحقيقة إلا جهدا يبذل في سبيل الوقوع على حقائق تؤيد النظرية، وبدلا من أن تستمد النظرية من سلسلة طويلة من الحقائق التاريخية، نجد أن النظرية إنما تستحدث من مشاهدات محدودة قوامها الرجال، والأشياء التي تحيط بهم.
والنتيجة أن النظرية ليس لها أقل تأثير على الحد الأخير الذي تبلغ إليه الحقائق التي تستمد منها لأول وهلة، على نفس الصورة التي نلحظها في آلة ضخمة كبيرة؛ إذ لا يكون لها من تأثير على المحرك الذي يحركها، وخذ لذلك مثلا من الفيلسوف سبنسر، فإنه يعتقد أن نظريته في النشوء، على الرغم من أنها تظهر للقارئ كأنها قد استمدت مباشرة من الحقائق المفصلة التي سردت لتأييدها؛ كانت في الحقيقة نتاجا مباشرا لمشاهدات وقع عليها العلامة فون باير، محصلها أن العضويات في نمائها الجسماني تنتقل من حال التجانس إلى حال التنافر، وهذه الفكرة التعميمية التي تركزت في كل ذي ألفة واتساق كانت بدورها ذات أثر كبير في عقل سبنسر، حيث استطاع من طريقها أن يضع نظريات جديدة في كثير من فروع العلوم. وما النظرية لدى الحقيقة إلا فكرة تعميمية، تتحدد وتأخذ صورة معينة، ومن ثم تستمد من حقائق العلوم والمعارف الإنسانية ما يثبت أن هذه النظرية هي «القاعدة» أو «السنة» التي يخضع لها نظام الطبيعة، وهذا أمر طبيعي ما دمنا نعتقد أن حقائق العلم إنما هي حقائق «موضوعية» قد يصح نظرنا فيها اليوم، ثم لا نلبث أن نأخذ في بحثها ثانية في الغد، وإعادة النظر فيما تقوم عليه من القواعد والأسس. ولا جرم أن هذا النظام يظل سائدا ما دام الإنسان ينظر في المفصلات، غير أنه إذا أراد أن يرجع إلى أصل الأشياء ويبحث في منابعها الأصلية ويتساءل «كيف وجدت؟» كما فعل سبنسر في كتبه الكثيرة التي حدثنا فيها عن كيفية نشوء الحياة والأنواع والجهاز العصبي، وكيف حدث ما نسميه الزمان والمكان والإدراك والحواس والجمال والفضائل، وكيف نشأت الجمعيات البشرية والديانات والحكومات؛ كل هذا على قاعدة أن نظرية النشوء هي الأصل الذي ينير لنا سبيل معرفة هذه الأشياء، فإنه إذ يرى أن أصل الأشياء إنما يقع في حيز بعيد عن أن تتناوله مشاهداتنا وأنه مدفون برمته في ثنايا الماضي السحيق، فمن البين أن تفسيراته إنما تنحصر في البيان عن الكيفية التي يمكن أن تنشأ بها الأشياء، إذا صحت نظرية النشوء، لا في البيان عن النمط الحقيقي الذي نشأت به الأشياء، وكذلك الحكم في صحة نظرية النشوء نفسها أو فسادها، فإن ذلك لا يتوقف على مقدار المدى الذي تبلغه في البيان عن الكيفية التي وقعت بها ظاهرات «الماضي»، بقدر ما يتوقف على بيانها عن الظاهرات التي تقع حفافينا في «الحاضر».
5
من هنا نرى أن التاريخ، على أي وجه من الوجوه قلبته، لا يستطيع أن يرشدنا عن المستقبل، بل على الضد من ذلك نقرر بأن وقوفنا على حالات «الحاضر» هو الذي يزودنا بقوة نستطيع بها أن نتغلغل إلى طيات الحق الثابت.
فمثلا أية قيمة لتلك المجموعات الضخمة التي جمعها مونتسكيو ليؤيد بها مذهبه في أن الطقس هو السبب الأول الذي يحدث التباين بين الأمم من حيث القوة والنشاط والعادات ونظام الحكم، إذا دلتنا التجاريب والمشاهدات على أن تأثير الطقس، على الرغم في أنه من المؤثرات التي تكون الظاهرات الاجتماعية، ثانوي صرف؟
من هنا نعتقد أن التاريخ أولا: فن صرف، ثانيا: أنه لا يرشدنا في المستقبل ولا يكشف لنا عن حقائق الماضي، وأن «الحاضر» وحده هو الذي نستطيع إذا ما وقفنا على وقائعه أن نسترشد به في تفسير التاريخ وفي معرفة شيء مما سوف يجود به المستقبل.
فهل لنا أن يصبح «الحاضر» معبودنا الأعظم كما هو معبود الغرب، فنتبدل من العقلية الشرقية القديمة بعقلية غربية جديدة، تمهد لنا السبيل لكى ننظر نظرة مستقيمة في حقائق الأشياء؟
3
ماكس نورداو
نظر في الحياة ومثال من آرائه الاجتماعية
1
الاستقلال في الرأي صفة نادرة في الناس، وأندر منها أن تقع على آثارها في التراجم التي يترجم بها عن حياة العظماء، فلطالما فنيت شخصيات المترجمين في شخصيات الذين يترجمون عنهم، حتى قال لورد ماكولي كبير نقاد الإنجليز في القرن الفارط: إن الإغراق فى مدح المشاهير مرض اجتماعي لم يخلص منه إلا قليل من الكاتبين، كثر ما ساقت بهم فكرة الاستقلال في الرأي إلى الإغراق في النقد، فأسرفوا فيه، حتى أوقعهم حذرهم من المحاباة في معرة البعد عن الإقساط في القول والإنصاف في الحكم.
على أن ادعاء العصمة، كشأن الادعاء في كل شيء، رذيلة كبرى، وهي أشنع ما يبلغ إليه الإنسان من مدارج الإسفاف والسقوط.
ننبه على ذلك لأننا سنقدم على الكلام في «ماكس نورداو»، وهو رجل ذو شخصية بارزة في عصرنا الحاضر، اختلف الناس فيها اختلافهم في كل شيء، فمن قائل بأنه فيلسوف، ومن زاعم بأنه مصلح اجتماعي، ومن مغال فيه يقول إنه نبي الجيل الحاضر، ومن مسرف في النقد قائل بأنه ليس أكثر من متشائم
نظر في العالم من ناحيته السوداء، فطمى عليه سيل الحيرة والفوضى.
إن كل كلمة من هذه الكلمات تدل على أن الرجل قد أنصفه التاريخ. وإن كان كل ما في العالم أثر مما فيه، صح مع ذلك ما قاله العلامة ستيوارت ميل: «لا تطمع أن تنال من الدنيا أكثر مما في استطاعة الدنيا أن تعطيك.»
والدنيا قد أعطت «نورداو» أكثر ما في استطاعتها أن تعطيه، كالت له المدح وزفت له الثناء، كما أنها لم تبخل عليه بالنقد مكيلا في بطون الأوراق الخالدة.
ومما لا ريبة فيه أن الحكم على الآثار العقلية بنسبة زمان واحد خطأ نفساني فاشية آثاره بين الناس، لذلك يصح أن يترك الحكم على الرجل للتاريخ، وللتاريخ البعيد أيضا؛ لأن الحكم على منتجات الفكر كما قامت في عقول واضعيها أمر بعيد عن النصفة والإقساط، فقد يتفق أن يكون للفكرات السلبية التهديمية ذاتها نصيبا من العمل على رقي الإنسان، لذلك كان الواجب أن يتكون الحكم على العظماء حسبما تخلف أعمالهم من الآثار لمستقبل الأجيال.
كم ذاع من فكر، وكم انتشر من مذهب لو حكمت عليه كما كان في عقل واضعه لحكمت بأنه ضار لا نافع، في حين أنك لو قيمته بالقياس على ما أنتج من حركة في عالم الفكر، أو على ما ساق إليه من مختلف الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وأردت أن توازن بين ذلك وبين ما فيه من خطأ؛ لأربت ناحية النفع على ناحية الضرر. إذن فالواجب أن يترك الحكم المطلق للتاريخ، أما الحكم النسبي فذلك ما في مستطاعنا أن ندلي فيه بقول أو نقضي فيه برأي.
نسوق الكلام في «نورداو» كما هو في هذا العصر، وبنسبة ما خلف من أثر في عقول أبنائه، غير عالمين ماذا يكون من أمره في المستقبل. وغاية ما في مستطاعنا أن نقول في هذا الشأن إن حكم التاريخ على «نورداو» سوف يكون حكم التطرف والمغالاة بنسبة ما حكم هو على الدنيا وعلى الجلبة الاجتماعية التي قامت من حوله، فإما إلى البقاء الخالد وإما النسيان الدائم، وكلا الأمرين عظيم؛ لأن البقاء بالأثر الفكري، إن كان خلودا، فإن في طي الشخصيات في نواحي النسيان لنوعا من الخلود؛ لأنه لا ينسى إلا من شعر الناس بوجوده، فلا نسيان إلا بعد وجود، وكفى بالمرء فخرا أن ينبه مشاعر الناس بوجوده الحقيقي ليكون خالدا. •••
كان «نورداو» حر الرأي بعيدا عن التقاليد، لذلك كان بلا دين، رجل رضي من الدنيا بأن يعيش فيها ناقدا، لا أقل من هذا ولا أكثر، وأول ما أدى به إليه نقده أن يكون بلا دين، فكذلك عاش، وعلى هذا طواه التراب.
غير أنه نظر في العالم نظرة الناقد ، فلم يأتلف مع عقله أن يكون هذا العالم بما فيه من النظام بلا صانع وأنه نتيجة الصدفة العمياء، فاعتقد بأن للكون صانعا حكيما مدبرا تبدو فيه حكمته، ولكنه استصغر على الصانع العظيم أمر الاعتناء بتلك الدابة المفكرة التي ندعوها الإنسان، فقال بأن الأديان لم تخرج إلا من عقول واضعيها، تحتاج إليها الطبيعة الحيوانية في الإنسان أكثر مما تحتاج إليها الطبيعة الفاضلة الواعية، يحتاج إليها من تقضي الضرورة إلى إرهابه بعقاب النار والعذاب المقيم، أو بترغيبه بالنصيحة الدائمة، فهو بذلك إلهي محض
Deist
لا إلهي متدين
Theist ، والأول يجحد الأديان وإنما يعتقد بالله، والثاني يعتقد بالله وبالأديان معا.
كما أن «نورداو» قد استصغر الإنسان في جانب الله، كذلك استصغر العقل الإنساني في جانب الكون، فقضى بأن العقل محدود لا يبلغ مداه إلا دائرة صغيرة من النظر، لا يصح أن يحكم من ناحيتها على العالم، مثله كمثل العمي الذين أخذوا يصفون فيلا: فمن أمسك منهم بذنبه قال إنه كالحبل، ومن لمس بطنه قال إنه كالكرة، ومن وقع على رجله قال إنه كالشجرة، فالكل صادقون على درجة محدودة، ولكنهم مخطئون على درجة غير محدودة؛ فإذا قال الفلكيون إن العالم عبارة عن قانون الجاذبية، وإذا قال الكيماويون إن العالم هو الجوهر الفرد، وإذا قال الميكانيكيون إن الكون عبارة عما فيه من سنن القوة والطاقة ... إلى غير ذلك، فليسوا مخطئين بل هم مصيبون، ولكن بنسبة ما وإلى حد محدود، في حين أنهم مخطئون؛ لأنهم حكموا حكما عاما في شيء نظروا فيه من جهة خاصة، فإذا سألت هؤلاء مثلا: لماذا يكون للجاذبية يد في نظام العالم؟ ولماذا خصت المادة بسنن الجذب والدفع؟ أو لماذا تتكون المادة من جواهر فردة؟ ما وجد هؤلاء من جواب أروح عليهم، وأخرج بهم من ضيق ما يوقعهم فيه العقل؛ إلا القول بأنها كذلك سبقت في إرادة الله. •••
إن كتاب «نورداو» الذي أكسبه شهرة التشاؤم بحق هو كتاب الفساد الأخلاقي
Degeneration ، ولكن هل كان «نورداو» متشائما حقيقة؟ ذلك ما سوف نظهره فيما سنكتب فيه بعد . غير أن نزعته في ذلك الكتاب غريبة خارجة عن تيار الأفكار التي سادت في القرن التاسع عشر، فبينما كان أكثر المفكرين يقولون بأن الإنسان يرتقي ويتقدم مستمدين من تقدم العلوم الطبيعية وتسود الإنسان على قوى الطبيعة دليلا على ذلك؛ إذ بنورداو يقول بأن الإنسانية تنحمط، وأين؟ في أوروبا، مهبط وحي العلم وعنوان المدنية الحديثة. أما البحث في الأسباب التي ساقت به إلى هذه النزعة فسيكون ختام هذا التمهيد، ومن ثم نستطرد إلى البحث في «نورداو» بحثا تحليليا؛ لنعرف هل كان متشائما أم متفائلا.
لقد أشرف «نورداو» من شرفة عقله الكبير وقوة ابتكاره على أبناء جيله، وهم مقدمون على عصر انقلاب اجتماعي لم يعهد له التاريخ مثيلا، أشرف على نهر الحياة الأوروبية الفائض فلم يجرفه التيار، بل ظل واقفا على الشاطئ يتأمل من تدافع أوجه تلك الحياة وتجاذبها، من تجانسها وتنافرها، فاستنتج أن هنالك انحطاطا وتدهورا وفسادا وضئولة في الملكات، مثله كمثل «روسو» في أول رسالة نال عليها جائزة جامعة «ديجون» العلمية، إذ أشرف على أبناء جيله وهم مقدمون على عصر الثورة فاتخذهم عنوانا على الحياة البشرية، فقضى بأن الإنسانية سائرة في طريق التقهقر والفساد.
إن عصور الانقلاب في الجماعات أشبه شيء بسير الحمى في الأفراد، تلقيهم في المرض وتتدرج بهم فيه شيئا فشيئا حتى إذا أدركهم عصر الانقلاب أخذهم الهذيان فعمدوا إلى التحطيم والهدم، فإذا تقشعت غيامة الانقلاب رجعوا إلى البناء والتشييد، ناظرين في أنقاض ما تهدم ليستخلصوا منه النافع وينبذوا الضار.
أشرف «نورداو» على الجماعات في هذا العصر وهم في بدء الانقلاب وكاد يدركهم هذيان الحمى، وحكم فيهم حكمه، وهم في حالهم تلك شغوفين بالإفلات من مساوئ الانقلاب، وأنى لهم أن ينفذوا من أقطار الطبيعة وهم أبناؤها الثائرون؟ فخيل إليهم أن العلم منجيهم، فأكبوا على العلم الإنساني يستنزلون وحيه، فلم يخرجوا من ذلك إلا بعماء صرف وفوضى لا نهاية لها، أوقعهم علمهم في الخلاف وأسلم بهم إلى التشاؤم. ولم يصلوا إلى هذا الحد إلا ليحكم عليهم «نورداو» بأنهم آخذون في الفساد، ضاربون في أصول الانحلال الأخلاقي.
ولا مشاحة في أن كتاب «نورداو» لخير كتاب يخرج من عقل مبتكر في عصر انقلاب تشرف عليه الجماعات، بعد أن يعنت الباحثون أنفسهم في البحث عن مخرج من فوضى النزعات الفائرة القائمة فيه. أما الصورة الحقيقية التي تخيلها «نورداو» فلا يظهرك عليها مثل تأملك من الحالات الاجتماعية التي قامت من حوله، وكل ما فيها يدل على أن جماعات المدنية الحديثة مشرفة على انقلاب وأن هذيان الحمى كاد يدركها. •••
يقوم الآن عند الناس شعور طبيعي يوحي إليهم بأن درجة محتومة من درجات النشوء الاجتماعي واقعا في المدنية الحديثة قد آن اختتامها وأن أبناء القرن العشرين يستقبلون عهدا جديدا. غير أنه من أبعث الأشياء القائمة في هذا العصر على التأمل والعجب أنك لن تجد من خطرة فكر يفيض بها علينا أولئك الذين يتكلمون باسم العلم ورسوخ القدم فيه يفصحون بها عن المتجه الذي تتمشى فيه حالات التقدم والارتقاء المستقبلة، فإنك أينما وليت وجهك باحثا في أية جهة من جهات المعرفة الإنسانية التي تتجشم مئونة التأمل من المسائل الاجتماعية والبحث فيها، لا تقع إلا على مظاهر جلية من التغير والقلق بارزة في جبين هذا العصر. وعلى الرغم من تلك الخطى الحثيثة التي خطاها العلم في القرن الماضي، وهذين العقدين اللذين فرطا من القرن العشرين، فإنك لن تجد محيصا عن الاعتراف بأنه لم يقم بعد علم نستطيع بحق أن ندعوه «علم الجماعات الإنسانية»، إذ أي أثر للعلم اليقيني الحق في موضوعات استحكمت فيها فوضى المباحث المتناثرة تحت كثير من مختلف العناوين والتعاريف؟
بيد أن الاستنتاجات العامة التي قصد بها وضع فكرة خاصة في وحدة تخضع للسنن التي تمضي مؤثرة في المظاهر الاجتماعية المختلطة القائمة في هذا العصر؛ لم تكن إلا نتاجا لتفكير مدارس علمية عنيت بدرس المشكلات الاجتماعية، وصرفت همها نحو معرفة أصل الاجتماع الإنساني، وتعقب خطى تطوره ونشوئه، ذلك ما تقوم عندنا عليه أوجه الترجيح مهما تلكأنا في الاعتراف بأنه واقع. على أن تلك المستنتجات العامة لم يتقدم وجه النظر فيها إلا من طريق تلك المدرسة الاجتماعية الثورية التهديمية التي كان «كارل ماركس» زعيمها الأول وعلمها الفرد.
أما إذا أردنا أن نحكم على العلم بمقتضى أقوال المتنطسين فيه، فإننا نجده رغم أن أكبر مفاخرة في القرن التاسع عشر قد انحصرت في الكشف عن خطى النشوء والتطور الحيوي حتى انتهى إلى الاجتماع الإنساني؛ قد وقف واجما إزاء المسائل التي تمثلها الجماعات في حالتها الحاضرة. والظاهر أن ليس لدى العلم من شيء يزودنا به عن حالات التطور المنتظرة التي سوف تمضي فيها الجماعات في المستقبل.
لقد وقع في القرن الماضي، وفي شباب «نورداو» وفتوته، أكبر مثال عما اتجه فيه العلم؛ إذ ركن إليه لاستدرار وحيه في تنوير الأذهان للفحص عن تلك المشكلات التي تقاتل إزاءها الجماعات، فإن الفلسفة التركيبية
Synthetic Philsosphy
التي كتبها «هربرت سبنسر» من الأعمال التي يتوج بها جبين النصف الأخير من القرن الماضي. ولا خلاف في أن هذه الفلسفة من معجزات العقل البشري، لا من جهة ما قصدت إليه من توحيد فروع المعرفة الإنسانية وحده، بل من جهة ما أبانت عنه من خضوع الجماعات لقواعد النشوء والارتقاء عامة. تلك المسألة التي يعتقد بحق أن الوقوف على مفصلاتها ومقوماتها أمر فيه من الخطر والشأن ما يجعل بقية فروع العلوم مقيسة بها؛ أشياء أولية في نظر الاجتماعيين والمصلحين والفلاسفة، وعلى الأخص في نظر «نورداو».
على الرغم من هذا فإن كل ما استطاع «سبنسر» أن يلقي من نور الاختبار على تلك المعضلات التي كانت قائمة في عهده والتي تولدت عنها الحالات القائمة في عصرنا، وهي حالات لم تبلغ من الشدة في عصر من العصور مبلغها في العهد الحاضر؛ لم يكن إلا شعاعا ضئيلا وسرابا خلابا، حتى إنك لتجد أن مباحثه وثمار أفكاره وتأملاته، من أية ناحية قلب الاجتماعيون والمصلحون أوجه الرأي فيها، لم تسق إلا إلى ازدياد الخرق؛ إذ أنتجت تينك المدرستين المتنابذتين: مدرسة القائلين بالفردية، تسلط الفرد واستقلاله ونماء كفاءاته ومواهبه، ومدرسة القائلين بالاشتراكية، تسود الجمعية المشتركة على الفرد وخضوعه لها.
ومذ قام «هربرت سبنسر» في إنجلترا ينظر إلى النزعات الاشتراكية التي قامت في عصره نظرة البغض، لا بل نظرة الجزع والاستكراه، ومذ انقسم الباحثون الذين تخرجوا في مذهبه إلى معارضين ومؤيدين، إلى قيام الأستاذ «شافل» في ألمانيا ينظر إلى المستقبل نظرة من يعتقد أنه لا محالة مفض بالناس إلى المبادئ الاشتراكية المنتقاة، حتى ظهور «ماكس نورداو» ليبشر أبناء جيله بأنهم منحطون متدهورون؛ لا تقع في أحوال ذلك العصر إلا على ضروب من تباين الآراء، وألوان من الأفكار المضطربة.
أما وقوف العلم إزاء ذلك وقفة الواجم الذي تملكته قوى السلب من كل ناحية، فإن الأستاذ «هكسلي» المشرح المشهور والباحث الاجتماعي الكبير؛ ليمثلها أفضل تمثيل، إذ أكب في بعض مباحثه على تسفيه آراء المدرستين، القائلين بالفردية والقائلين بالاشتراكية، معتبرا أن كلا المبدأين من المضادات لبديهة العقل، بل من المستعصيات عملا المتناقضات عقلا.
ولن تستطيع أن تعتبر كل هذه الجهود كأوليات رمت نحو استيضاح أية فكرة مقبولة فيما تنحصر فيه واجبات الإنسان إزاء ما يحيط بالمدنية من ظروف وما يحف بها من حالات، فإن الأستاذ «هكسلي» رغم حملته الشعواء على هاتين المدرستين لم يزد يقينه في المستقبل إلا غموضا، حتى إنه ليسوق بقرائه زاعما هدايتهم، متعمدا تنوير أذهانهم بمبادئ يأتمون بها، إلى مزالق لا يجدون فيها من يقين يستمدون وحيه، ولا من أمل يرتقبونه.
ذلك في حين أن أقل الناظرين في حالات الاجتماع حنكة ليعتقدون أن الليالي حبالى، تكاد تتمخض عن عظيم الحوادث وخطير الانقلابات الاجتماعية، حتى أولئك الذين يزجون بأنفسهم في مدارج النقد التهديمي ليشعرون باقتراب ذلك وحلول أوانه، فإن الأستاذ «هكسلي» نفسه، رغم استنتاجاته السلبية التي دعا إليها زمانا؛ ليظهر بمظهر أشد «النهيليست» تطرفا في استنكاره الحالات القائمة في الاجتماع، حيث قال في إحدى خطبه المشهورة:
إن أكمل صورة من صور المدنيات الحديثة لتصور حالة من حالات النوع الإنساني لا تتضمن نزعة خيالية مثالية ذات وزن ما، ولا تملك شيئا من روح الاستقرار والثبات. ولن أجد لدي من الاعتبارات ما يجعلني أتلكأ في القول بأنه إذا لم يكن لدينا من أمل في تهذيب حالات أكبر مجموع من السلالة البشرية، وإذا صح أن تقدم العلم والمعرفة، وازدياد سلطة البشر على الطبيعة الذي تستوجبه تزايد المعلومات واستجماع الثروات التي يستغلها الإنسان من تسوده على قوى الكون، لا تحدث فرقا في مطالب الإنسان وحاجاته العظمى، مع ما هو مقترن بذلك من الاضمحلال التكويني والسقوط الأدبي؛ فإني لأرحب بمذنب عظيم يكتسح في صفحة العالم ذلك الأمر كله.
إن مجموع تلك الأفكار الكبيرة المتضخمة التي يبعث بها إلى عقول الناس هذا النوع من الشعور، لهي التي تقيم جماعات المدنية الحديثة وتعقدها، بالغة في التأثير فيها أبعد مبلغ، وما من شيء أثبت في عقائد الاجتماعيين والمصلحين من أن هذه الأفكار سوف تؤثر أثرها المحتوم.
ولقد نظر مستر «هنري جورج» المؤلف الأمريكي الكبير، في الاجتماع من ناحية القوميات متسائلا إلى أي حد سوف تبلغ خطوات كل شعب من الشعوب الضاربة في أصول الارتقاء المدني؟ لأن «تعليم أناس تفرض عليهم معيشة الشقاء والفقر لا يزيدهم إلا كنودا وكفرانا»، كما أن «اتخاذ أبعد حالة من حالات عدم المساواة الاجتماعية أساسا لارتكاز النظامات السياسية التي يفرض من الوجهة النظرية أن الناس متساوون أمامها، لأمر فيه في البعد عن العقل بمقدار ما تحاول ابتناء هرم يرتكز فوق الأرض على قمته لا على قاعدة.»
هذا طرف من الحالات التي أحاطت بالجماعات التي أصدر فيها «نورداو» حكمه، جماعات هاذية محمومة يكتنفها عصر انقلاب أخذ بأسباب حياتها، إذن فهي جماعات خير ما يخرج فيها كتاب الانحلال الأخلاقي.
2
لولا الفكر الإنساني لتعطل التاريخ؛ لأن التاريخ في حقيقة أمره نسيج من الرغبات والبواعث والانفعالات، تتعارض في خيوطه منتجات العقل بما فيه من تصور وإدراك، لتكون من مجموعها صورة هي التاريخ، لا تاريخ الملوك والدولات، والحروب والثورات، بل تاريخ الكون والفساد، تاريخ الصخور والبحار والحيوان والنبات والإنسان ونشوء صفاته العقلية والأدبية وخصائصه الأخلاقية، وعلى الجملة كل ما في الإنسان من الظواهر التي نعرفها بالصفات النفسية؛ لأن الفكر لا حد له، ولكل شيء في الوجود مظهر فكري خاص.
وكما أن الفكر منشأ التاريخ، كذلك تجد أن التاريخ قياس الفكر، فلو أنك استعرضت حوادث التاريخ منذ أبعد الأزمان واستقرأت فيها متجه الفكر خلال العصور، لاستطعت أن تعرف إن كان في الإنسان نزعة إلى التقدم والارتقاء، أو كان فيه رجعى إلى الانحلال الأخلاقي والفساد.
أما التاريخ، قياس الفكر، فيدلنا على أن الإنسان متجه نحو الارتقاء، ضارب في أصول التقدم، قس بين حاله في العصر الظراني الحديث من الوجهة الأدبية أو الصفات العقلية، وبين حالته في عصور المدنيات البائدة، كمدنية بابل وأشور ومصر، فلا تلبث أن تتكون عندك فكرة صحيحة عما نريد أن نثبت من ارتقاء الإنسان.
ولا ريبة في أن الارتقاء الإنساني من حيث الآداب المدنية أو الأخلاق وإدراك المعنويات، يدل على أن كفاءات العقل البشري قد تشكلت خلال كل عصر من العصور بمقتضى ما وصل إليه التكوين العضوي في مدارج النشوء. والقياس بين حالة الإنسان الهمجي والإنسان في القرن العشرين، لأبين برهان على أنه يرتقي، وأنه ضارب في أصول التقدم بقدم ثابتة، وإن كانت بطيئة الخطى.
كذلك إذا رجعت إلى عصر التاريخ المعروف، تجد أن الآداب والمثاليات في عصر التمدن اليوناني أحط منها في عصر شارلمان مثلا. ولا نقصد بالآداب المثالية قواعد الفلسفة الغيبية التي لم تقم إلا في عقول واضعيها، بل نقصد بها كل ما لم يحكم العرف بأنه خارج عن حدود الذوق العام. •••
نرى أن الشخصيات الكبيرة والعقول الفياضة بالمعاني الفاضلة أكثر ما تكون ظهورا في آخر عصور الانحلال وبدء الانقلابات الاجتماعية. ولا حاجة لنا بإثبات ذلك بشواهد من التاريخ؛ لأن أقل الواقفين على مبادئ التاريخ الأولية وأكثرهم علما بحقائقه شرع في التسليم بتلك الحقيقة. لهذا نقضي بأن الإنسانية تتقدم، وأن تقدمها أشبه شيء بالتموجات الأثيرية ذوات التعاريج، وأنها تتجه بالمجموع نحو السمت العالي من الأخلاق، وأن ظهور الشخصيات الكبيرة إثر عصور الانحلال لدليل على ذلك. تلك سنة النشوء العام، وما كان للإنسان أن ينفلت عن طوقها أو يخرج عن قطر الطبيعة ذاتها.
أما إذا أردنا أن نطبق هذه الحقيقة على فكرة «نورداو» في الانحلال الأخلاقي، فإننا ننتهي إلى نتيجة واحدة، هي أن فكرة «نورداو» لا تصح إلا وضعا يطبق على عصور الانحلال التي يعقبها الارتقاء المادي والأدبي دائما؛ فإن الصورة التي أبرزها عقل «نورداو» لصورة تعبر أبلغ تعبير عن الحالات التي تقوم خلال عصور الفساد والانحلال.
ولا جرم أننا في عصر انتقال أنذرنا «نورداو» بسوءاته وأبان لنا عن أصول الانحلال الضاربة في أخلاق أبنائه، ولكنه انحلال سوف يعقب مظاهر الانقلاب التي ينتظر وقوعها فيه ارتقاء في الغايات الأدبية، تدلنا كل الشواهد القائمة من حولنا على أنها تتجه نحو تقرير مبدأ «الشعوبية»، الحب المتبادل والتعاون بين الشعوب، وأن عصرنا الحاضر إنما تتحلل فيه أخلاق القومية والوطنية لتحقق الإنسانية مرة أخرى في تاريخ ارتقائها مبدأ قام في عقول الفلاسفة منذ خمسة وعشرين قرنا من الزمان. •••
نستطرد من ثم إلى الكلام في الصورة التي صور بها «نورداو» عصور الانحلال، متخذا في الحالات التي قامت في عصره أمثالا أبرز بها من الفساد الأخلاقي صورة إن قصرت على عصر خاص من العصور فإنها ولا ريبة أدق صورة جاد بها عقل نقاد مبتكر وخلق ثابت، في زمان أخذ يتمخض فيه الماضي المنهوك المتداعي عن جنين المستقبل المملوء حياة وقوة.
إن أية فكرة إنما تستمد صورتها وتكوينها من لغة الأمة التي سيقت إلى وضعها، فإن المؤرخين في العادات واللغات إنما يلجئون إلى هذه القاعدة؛ لأنهم يبحثون عن الأصول الاشتقاقية في اللغات راجعين إلى منشئها وأصلها متتبعين خطى نشوئها.
أما اصطلاح «آخر زمن» ففرنسوي صرف؛ لأن الحالة العقلية التي يعبر عنها هذا الاصطلاح وينطق بلسانها الصامت قد نبتت في العقل الفرنسوي.
ولقد شاع هذا الاصطلاح فعم استعماله في كل اللغات الحية، حتى في اللغة العربية. وأما الحالة العقلية التي تتخذ هذا الاصطلاح وسيلة لإبراز ذاتيتها، فذائعة في كل زمان، غير أنها لا تخرج في أكثر الحالات عن مجرد تقليد لعادة أجنبية.
ولا يعوزنا الدليل على سخافة هذا الاصطلاح، فإنه اصطلاح لا يولد إلا في عقل طفل أو في مخيلة همجي تقوم في عقله فكرة أن «القرن الزماني» الذي يعيش فيه عبارة عن كائن حي يولد كما تولد الحيوانات والإنسان، ويعيش مستقلا في أدوار الحياة وأطوارها، متخطيا طور المراهقة إلى الفتوة، ثم إلى الرجولة الكاملة، ومن ثم إلى الشيخوخة والانحلال، فيموت بعد أن يعمر مائة عام رازحا في أواخر أيامه تحت مبرحات الآلام.
لهذا ترى أن الشعب الفرنسوي، بدافع نفسي عقلي، إنما ينسب شيخوخته وكدورته وانحلاله الأخلاقي إلى قرن ما من الزمان المطلق غير المحدود، فيقول المفكرون فيه «آخر زمن»، وأحرى بهم أن يقولوا «نهاية أمة».
ومهما يكن من أمر هذا الإصلاح وما فيه من سخافة، فإن التكوين العقلي الذي يعبر عنه قائم قياما فعليا في عقول الكثيرين من ذوي الأثر في تربية الناشئين عقليا وأخلاقيا، لذلك ترى أن نزعة هذا العصر خليط من القلق المصحوب بحمى الفساد والخمول المعنت، ومزيج في النبوءات المحزنة المملة المقرونة بأخبث مظاهر الكفران بالجميل وجحود الأيدي المسداة بالخير.
إن الشعور السائد لشعور ينذر الناس باقتراب الفناء، ويلقي في روعهم أن الانقراض والزوال آخذان فيهم بأعظم الأسباب، فكأنهم من النفخة في الصور قاب قوسين أو أدنى، لهذا نجد أن اصطلاح «آخر زمن» عبارة عن شكاة وتململ، بل صرخة صامتة، بيد أنه اعتراف بليغ بعيد عن محتملات الجدل الكلامي والإطناب الأجوف والمعاذير الخرقاء.
ولئن كانت المعتقدات القديمة قد وسعت الاعتقاد في فناء الآلهة وانقراضها، فلقد غشيت العقول التي أنبتها هذا الزمان نوبات ألزمتها الاعتقاد بأن انحلال الأمم أمر واقع محتوم، وأن الشموس والسيارات إنما تمضي في سبيل الاضمحلال، وأن النوع الإنساني وما أبدع العقل من طريف النظم والمنتجات، إنما تسير إلى الفناء مسايرا في ذلك خطوات كون ضارب في سبيل الفساد.
وليست هذه بأول مرة استولى فيها على الناس ذعر الخوف من فساد الكون وفناء العالم، فإن فكرة كهذه قد استمكنت من قبل في مشاعر النصارى في أوروبا إبان القرن العاشر. غير أن هناك فرقا كائنا بين حيرة منشؤها الاعتقاد وقلق مرجعه الفساد.
إن الحفالة النفسية التي يخلقها الاعتقاد في «آخر زمن» في الجماعات أشبه شيء بحالة شخص أيأسه المرض وأقفطه السقام، فقام في ذهنه أن يتقدم ببطء، ولكن إلى الموت، في وسط طبيعة أبدية الحياة، فائقة بكل معاني الجمال الخالد.
إنه في اصطلاح «آخر زمن» لقسطا كافيا من الغموض يهيئه تمام التهيئة لكي ينقل من المعنى ما يعوز تيار الأفكار السائدة من لبس وإبهام، شأنه في ذلك شأن كلمات «الحرية» و«الغاية» و«الارتقاء» و«المساواة»، فإن هذه الكلمات إن خيل إلينا أنها تتضمن فكرات وتصورات فإنها ليست في الواقع إلا أصواتا جوفاء. كذلك تجد أن اصطلاح «آخر زمن» ليس بشيء في ذاته، وأن ما فيه من الشأن والخطر إنما يقاس دائما بمقتضى ما للآخذين به من كفاءة عقلية. •••
لا يدلك على المعنى الحقيقي الذي ينقله اصطلاح «آخر زمن» مثل وقوفك على حوادث أطلق عليها هذا الاصطلاح، ولقد استجمع «نورداو» أمثالا اقتطعها من المجلات الفرنسوية التي تتبع قراءتها عامين كاملين، وإليك بعضها: (1)
قسيس يحاكم لأنه نال بالسب من راعي الكنيسة العام. تنتهي الإجراءات فينتهز الرهبان إخوانه هذه الفرصة ليوزعوا على مخبري الجرائد في المحكمة دفاعا أعد المتهم منه نسخا من قبل، ولما أن يلزم بغرامة يستدر أكف الناس من طريق الاكتتاب فيجمع عشرة أضعاف الغرامة، ثم يطبع كتابا يبرر به عمله، فيحبوه بكل ما وصل إليه من عبارات التأييد، ومن ثم يطوف أنحاء البلاد عارضا نفسه في كل كنيسة أمام جمهور أخذته الرغبة في مشاهدة رجل الساعة ووحيد الدهر، فلا تفوته فرصة الطواف عليهم بصحاف الاستجداء! فهو قسيس آخر زمن. (2)
أرسلت جثة السفاح «برانزيني
» بعد تنفيذ حكم الإعدام لتشرح، فيقطع رئيس البوليس السري جزءا كثيرا من جلد الرجل لأنه كان موشوما؛ ليصنع منه علبا للفافات التبغ ومحافظ لبطاقات الزيارة له ولبعض أصحابه! فهو موظف آخر زمن. (3)
رجل أمريكي يحتفل بزفافه في معمل غاز، ثم يستقل وعروسه «بالونا» أعد من قبل، ثم يبدأ شهر العسل بين السحاب! فهذا عرس آخر زمن. (4)
ملحق في السفارة الصينية ينشر تحت اسمه مؤلفات ذات قيمة في اللغة الفرنسوية، ويفاوض المصارف المالية في شأن قروض عظيمة لحكومته، ويأخذ من المصارف مقادير كبيرة من النقود لنفسه قبل أن يتم العقد، ثم يظهر من بعد ذلك أن الكتب من تأليف سكرتيره الفرنسوي، وأنه خدع المصارف المالية! فهو سياسي آخر زمن. (5)
فتاتان من فتيات الأسر الكبيرة، صديقتان في التعليم، جلستا تتحدثان، فتتنهد إحداهما تنهدة عميقة فتسألها الأخرى: «ما السبب؟» فتجيب: «إنني أحب راؤول، وراؤول يحبني»، فتقول رفيقتها: «إنه شاب جميل حسن البزة والصورة. ولماذا تشعرين بحزن؟!» «نعم، لأنه لا يملك شيئا، وليس بشيء، وأبواي يريدان أن يزوجاني من البارون، وهو رجل بادن أصلع الرأس قبيح الوجه»، فتقول لها رفيقتها: «حسن، تزوجي من البارون بدون لغط، ثم عرفيه براؤول»! فهن فتيات آخر زمن.
أمثال هذه الحالات تدلنا كيف يفهم هذا الاصطلاح في مهد نشأته، وتلك أمثال من الخبائث المخبوءة وراءه، وهي تدل في أوسع معانيها على التحرر من النظامات التقليدية الموروثة تخلصا عمليا تاما. أما التحرر من آثار التقاليد فلا يقوم له من معنى في أذهان الآخذين بآداب «آخر زمن» أبعد من إطلاق الأهواء من إسار العقل والأخلاق؛ لتمضي جامحة في الطريق التي تسلم بها إلى الناحية الحيوانية في الإنسان.
من الآخذين بوحي «آخر زمن» أنانيون قست قلوبهم وفتنتهم موحيات عقول نكث فتلها إسفاف النزعات القائمة من حولهم، فهم لا يقيمون لإخوانهم في الإنسانية وزنا إلا بمقدار ما يعود عليهم من نفع في مشاركتهم الحياة، ويطئون بأقدامهم كل الحوائل الأدبية القائمة بين النفس الإنسانية وبين التطوح مع قواسر المطامع الأشعبية وحب الزخارف الدنيا. ومنهم متبرمون بالدنيا متهاونون بالحياة، لا يأنفون من تسويد النزعات السفلية التي إن عجزوا عن ردعها بوازع من الفضائل، أخفوها وراء ستار من الختل والمخادعة والرياء. ومنهم مؤمنون بالدين، غير أنهم يحاولون التخلص من المذاهب الفضلى، فيرتطمون في التسفل إلى إنكار ما بعد الحسيات، آخذين بما توحي به إليهم فلسفة الظواهر الكونية.
ومنهم حسيون يجردون الفن عن معاني المثالية والخيال، فيخرج من يدهم هيكلا مواتا لا يحدث من روعة ولا يبعث من انفعال. ذلك في حين أن الكل مجمعون على ضرورة التخلص من النظام الموضوع الثابت الدعائم، وهو في الواقع نظام لا ينكر منكر أنه أرضي المنطق آلافا من السنين، ولم يحل بين الفن الناضج وبين إبراز صور اجتماعية أخلاقية فيها كثير من بواعث الجمال.
يقول «نورداو»: إن السواد الأعظم من الطبقات الوسطى والطبقات الدنيا في المجتمع ليسوا ب «آخر زمن» بمقتضى مركزهم الاجتماعي. إذن ف «نورداو» يعتقد أن انحلال الصورة المدنية الحاضرة قد بدأ من قمة الجمعية. ولا ريبة في أن الانحلال إذا بدأ بالطبقات المنتقاة كان من أشنع صور الانحلال التي شهدها التاريخ الإنساني. •••
وبعد، فهذه نظرة مقتضبة في «نورداو» ووجهة نظره في الحياة ومثال من آرائه الاجتماعية، ما إن تحاول أن تتناولها بنقد أو تتورط فيها بتحليل، إلا لتجد أن فيها من عناصر الحق ما يجعلك ترتد عنها كليلا حتى حين.
دلالة الشعر على روح العصر
للشعر الجاهلي نبرة خاصة وديباجة وحدها تفردت من بين صور الأدب العربي بطابع يكاد يميزه السمع فيحكم على أن الديباجة جاهلية أو غير جاهلية بمجرد السماع دون العلم. ألق إلى رجل يذوق طعم الأدب ويستطيع التمييز بين أساليب الشعر العربي، بمقطوعة من شعر المقنع الكندي الجاهلي، يقول فيها:
يعيرني بالدين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا
ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي فرس نهد عتيق جعلته
حجابا لبيتي ثم أخدمته عبدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها
مكللة لحما مدفقة ثردا
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ثم ألق إليه بمقطوعة أخرى من الشعر يتمثل فيها من نفثات التحضر والانتقال من عصر إلى عصر، تأخذها من شعر القطامي، وهو من تلك الفئة التي تعتبر حلقة الوصل بين شعر الجاهلية وشعر المدنية، إذ يقول:
قفي قبل التفرق يا ضباعا
ولا يك موقف منك الوداعا
قفي فادي أسيرك إن قومي
وقومك لا أرى لهم اجتماعا
وكيف تجامع مع ما استحلا
من الحرم العظام وما أضاعا
ألم يحزنك أن حبال قيس
وتغلب قد تباينت انقطاعا
يطيعون الغواة وكان شرا
لمؤتمر الغواية أن يطاعا
وفيها يقول:
ومن يكن استنام إلى ثوى
فقد أكرمت يا زفر المتاعا
أكفرا بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المئة الرتاعا
فلو بيدي سواك غداة زلت
بي القدمان لم أرج اطلاعا
إذن لهلكت لو كانت صغارا
من الأخلاق تبتدع ابتداعا
فلم أر منعمين أقل منا
وأكرم عند ما اصطنعوا اصطناعا
من البيض الوجوه بني نفيل
أبت أخلاقهم إلا اتساعا
ثم ألق إليه بمقطوعة ثالثة تأخذها عن شاعر من الشعراء الذين انغمسوا في تطريات الحضارة العربية في العصر العباسي أو العصر الأندلسي، كقول الشاعر الحضري:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أو كقول ابن زريق:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وفيها يحن حنين الرقة التي تذيب القلوب إلى سكنه ووطنه ببغداد، وكان بالأندلس يعالج سكرة الموت، فيقول:
بالله يا منزل القصر الذي درست
آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أو الليالي التي أمضته ترجعه؟
فإنك إذا ألقيت إليه بمثل هذه المقطوعات وأخذتها من شعر غير مألوف ولا متداول، لاستطاع صاحب الذوق في معالجة أساليب العرب الشعرية أن يميز بين أساليبها ويفرق بين مصادرها بغير كثير جهد، ذلك لأن الشعر قطعة من روح العصر، يتمثل فيها كثير من كوامن النفس، وهو مرآة تنعكس عليها حقيقة تظهر حائلة اللون أو بينته بمقدار ما تؤثر الحالات السياسية أو الدينية أو العواطف، وعلى الجملة عوامل الحضارة في أنفس الأفراد والجماعات.
خذ لذلك مثلا من أوروبا في القرون الوسطى، فإن استبداد نظام القطائع بالأفراد وبالشعوب وتوالي كوارث الحروب والثورات على الناس، قد طبع على نفوسهم بخاتم من الحزن والانقباض تراه ظهر متجليا لا في الشعر ولا في الأدب وحدهما، بل تعدى إلى أكبر مظاهر الحياة دلالة على اتجاه المشاعر الإنسانية، ظهر متجليا في نسق البناء، فإن الناس قد عكفوا على الفن الغوطي، وهو فن في البناء ونسق من الألفة الذوقية في التشييد، ولا يبعث في النفس إلا الحزن والأسى، وهو بعقوده المنحرفة الزوايا وضخامته وبساطة شكله لا يبعث في الروح من أثر الإحساس بالجمال شيئا غير مقرون بشعور من الحزن عميق يملأ النفس رهبة وعظة. والغالب أن هذا الفن قد ورث في أوروبا عن القرون الأولى عندما كان الناس في خوف مستمر على حياتهم من غارات أعدائهم، وعندما كان أمراء القطائع لا يعيشون إلا في قلاع يسمونها القصور تجاوزا.
وأي شيء يبعث في النفس من شعور الانقباض والألم من منظر قلعة شيدت على أن تكون رمزا لانحطاط الخلق الإنساني وما فيه من نزعة إلى القتل وحب الحطام، وهي بضخامتها وقوتها ليست إلا درعا يدرعه الأحياء حذر اختطاف نفوسهم من بين جنوبهم بين آونة وأخرى؟ فلما غشت أوروبا غياهب الاستبداد في القرون الوسطى وامتدت يد الاستبداد حتى إلى الفكر الكامن وخطرات النفوس، تتخذ ذريعة للقتل والإحراق على يد محاكم التفتيش، وضاقت الحياة بما وضع المؤمرون على الناس من نظامات وعقائد ذرعا؛ تجلت حاسة الانقباض والحزن في نسق البناء، وأي نسق أبعث في النفس على الشعور بالحزن من نسق البناء الغوطي؟!
كذلك الحال إذا نظرت في فن البناء العربي، تجد أن فيه جمالا وليس فيه ألفة. وهذا أمر يدل واضح الدلالة على أن مدنية كل شعب إنما تستمد من حالات ذهنه الكامن، فإنك إذا رجعت إلى حياة العرب في فيافيهم وبواديهم، عرفت لماذا يكون في فن البناء العربي جمال، وليس فيه ألفة.
لم يكن للعرب قبل أن يفتحوا الدنيا المعروفة لعهدهم نسق بناء خاص؛ لأنهم عاشوا في الصحاري تحميهم سيوفهم وتأويهم خيوشهم. غير أن حاسة الجمال التي ورثوها عن عيش البادية، سماء صافية الأديم وصحاري منبسطة إلى منتهى الأفق والهواء يلفح وجوههم وجسومهم من أينما هب وحيث ثار صبا أو جنوبا؛ قد غرست في نفوسهم نزعة إلى حب الجميل في ذاته. غير أن حياتهم لم يكن فيها من الألفة ما يغرس في العقل كفاءة على تكوين نسق خاص يخرج ألفة تامة في شيء يلقى إليهم ليتعهدوه بالتحوير والتكييف. فلما فتحوا العالم أخذوا قطعا من فن البناء كانت ذائعة في مجموع المدنيات التي ورثوها عن الرومان ومصر وفارس وبابل، وأخرجوا منها نسقا خاصا للبناء العربي فيه كل موحيات الجمال، إن أخذ قطعا ونظر فيه أجزاء، ولكنه في المجموع بعيد عن الألفة المتبادلة بين أجزائه، والسبب في هذا أن حاسة الجمال التي ورثوها من بيئتهم البدوية الأولى قد ظهرت في اختيار النسق، كما انعدمت فكرة الألفة تماما في الوضع؛ لأنهم عدموا فكرة الألفة في حالات حياتهم الأولى. •••
ثم ارجع معي قليلا إلى الشعر الجاهلي وطف بنظرة أولية في المعلقات وفي قصائد تعتبر في القدر الثاني بعد المعلقات، فإنك تجد أن كل شاعر من شعراء المعلقات ومن عاصرهم قد طبع بطابع عصره؛ فظهرت بوادر فكرة الكامن ومشاعره جلية في شعره. خذ أولا عنترة العبسي وقد عاش في زمان اكتنفته فيه الحروب ومساجلات القبائل، فتراه في حماسياته كما هو في تشبيهه كما هو في فخره، صورة مكبرة من صور الجندية في العصر الجاهلي؛ خذه أولا في حماسياته إذ يقول:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألقهما دمي
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
جزر السباع وكل نسر قشعم
وخذه في تشبيبه إذ يقول:
فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي
فتحسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة
والشاة ممكنة لمن هو مرتم
وكأنما نظرت بجيد جداية
رشأ من الغزلان حر أرثم
فنراه لا ينفك عن ذكر الأعادي والمغامرة في سبيل من يحب. ثم خذه في فخره إذ يقول:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجر بالمشوف المعلم
بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مفدم
فإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرمي
فهو في موقف من يمزج بين حد الفروسية والحرب وبين خطاب يلقيه إلى ناعسة جفن وهضيمة كشح، يريد أن يذكر محاسن خلقه وكرم شمائله وسخاء كفه، ولكن في صورة وبنبرة تنم عن نفس هيجها شجن الحب، ولكن ملكتها سورة الحرب والانتقام.
ثم خذه في وصفه إذ يقول:
وكأن فارة تاجر بقسيمة
سبقت عوارضها إليك من الفم
أو روضة أنفا تضمن نبتها
غيث قليل الدمن ليس بمعلم
جادت عليها كل بكر حرة
فتركن كل قرارة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية
يجري عليها الماء لم يتصرم
وخلا الذباب بها فليس ببارح
غردا كفعل الشارب المترنم
هزجا يحك ذراعه ببنانه
قدح المكب على الزناد الأجزم
تراه يريد أن يصف فم معشوقته فيشبهه بفارة التاجر؛ إذ تسبق إليك رائحة المسك منها، ثم يمضي في الوصف فيشبه فمها بروضة، ويصف الروضة فيذهب إلى ذكر الذباب والجزام، وهذا دليل على أن مقتضيات زمانه وظروف حياته قد صرفته عن كل شيء إلا عن الحرب؛ فتراه يجيد وصف المعركة، ولا يجيد وصف كاعب حسناء أخذ حبها بمجامع قلبه.
ثم ارجع معي إلى امرئ القيس، فهو على فروسته، وعلى أنه معدود من فرسان العرب كما يدل على ذلك اسمه، فإن امرأ القيس معناه رجل الشدة والبأس، تراه في كل معلقته لا يذكر إلا الحسان والترامي عليهن، ولم يذكر السيف ولا الحرب، وإن كان أجاد وصف جواده لا خائضا معركة ولا مدركا صيدا. خذ مثلا من تشبيبه:
أفاطم مهلا بعد هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
وإن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «فسلي ثيابي من ثيابك»، أي فانزعي قلبي من قلبك ينتزع. وفي هذا مثال لا للحب ولكن لنزعة المجون والمتعة بالنساء والتشبيب بهن، لا لحبهن ولكن للمتعة بهن من طريق الإغواء والإغراء بالشعر، وإظهار الحب دون حقيقة ما يشعر به القلب، وهي صفات امتاز بها عصر امرئ القيس. وإليك مثلا من معلقته يوم عقر ناقته للعذارى حول غدير ماء، إذ يقول:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
فيا عجبا من كورها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتل
أما وصفه لليل فلا يدل على أنه يناجي حبيبا ملك قلبه وعز لقاؤه، وإنما يدل على حنينه إلى شيء مبهم، ولعله يحن إلى بني أسد قبيلته، وما كان له ولأهله فيها من عز وسؤدد قبل أن يغضب عليه أبوه لإيثاره التسكع مع ذؤبان العرب على العكوف على مآثر آبائه، فيقول:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها
بأمراس كتان إلى صم جندل
وعلى هذا تراه في كل قصيدته العصماء لا يعبر إلا عن نزعات عصره ونفثات بيئته التي حضته على أن يعاقر الخمر ويستغوي النساء، وهما صفتان خص بهما فتيان عصره كما يستدل على ذلك من شعره وشعر معاصريه.
ثم ارجع إلى النابغة الذبياني وعلاقته بالنعمان بن المنذر، وكان قد وشي به عنده لعلاقته ب «المتجردة» على ما يقال؛ إذ وصفها في قصيدته التي مطلعها:
من آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غدا
وبذاك تنعاب الغراب الأسود
لا مرحبا بغد ولا أهلا به
إن كان تفريق الأحبة في غد
وفيها يقول:
قامت تهادى بين سجفي كلة
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته أوثقتنا باليد
ثم مضى في وصفها بما أوسع باب الوشاة للوشاية عند النعمان فأراد قتله وهرب، ثم أرسل إليه بالأبيات الآتية فعفا عنه:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب؟
وهذا شعر وتلك سليقة لا يخلقها في نفسية الشاعر إلا عصر ارتكزت نواة الأدب فيه حول مدنية خاصة، وطابع من الحضارة كان يمثله النعمان في خورنقه بالحيرة.
وكذلك الحال في شعر زهير بن أبي سلمى في معلقته وحولياته. غير أن معلقته في الواقع هي أدل شيء على نزاهة نفسه وعلى تأثير عوامل الحياة التي حوطته في زمانه، ولا تذكر لك شيئا من حكمه، بل تذكر لك حادثة عطف فيها على قوم آذاهم شخص منهم، وهي صفة قليلا ما تظهر في أخلاق العرب، إذ يقول بعد أن ناح على الطلول، وقبل أن يمشي في ذكر حكمياته:
لعمري لنعم الحي جر عليهم
بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوى كشحا على مستكنة
فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي
عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد فلم يفزع بيوتا كثيرة
لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
وشعر زهير كله تتمثل فيه نزعة الحكمة وفاضل الأخلاق. وهكذا إذا سايرت الشعر في كل عصور التاريخ لا تجده يدل على شيء دلالته على صفات الناس الذين يخرجه ذوقهم، وعلى نزعاتهم، وعلى الحالات القائمة حقا فيهم، فالشعر هو عنوان الحياة ومرآتها، وهو صورة مصغرة من نفسية الأمم تظهر متجلية في أوضاع لغتها.
عبث الحياة
1
للقرن التاسع عشر في مصر أسره العريقة في المجد، الأصيلة في العظمة، غير أن هذا العصر لم يكد يشرف على الزوال حتى زالت معه تلك الأسر التي بسم لها الدهر، وغرد لها هزار الأمل البسام أكثر من ثمانية عقود متتالية من الزمان. تلك الظاهرة الاجتماعية تحتاج إلى بحث، وتحتاج فوق ذلك إلى تعمق في النظر لاكتناه الأسباب التي قعدت بتلك الأسر بعد أن رتعت في بحبوحة الغنى وتقلبت في حجر النعمة، ثم لم تلبث أن ضربها الدهر ضرباته القاسية، فسلخ أفرادها بخناجر أعدها لمن يريدون التضحية بأنفسهم على مذبحه العظيم، فأغمدوها في قلوبهم حتى النصاب. ••• «حنفي بك» سليل أسرتين من أعرق الأسر التركية المتمصرة التي نالت حظا من الغنى والجاه، ذلك الغنى الذي ورثه رؤساء الجيش والحكومة في أوائل القرن التاسع عشر عن نظام الفظائع الذي ظل سائدا على البلاد طول عهد المماليك. وهو فتى طويل القامة، حسن الطلعة، جميل الوجه، تعلم في المنزل ثم في المدارس العمومية، فنال من العلم حظا ومن الأدب نصيبا غير وافر، ولكنه كاف لأن يضعه في مصاف المتعلمين.
ورث عن أسرتيه اللتين ينتسب إليهما أرضا واسعة في إقليمي الغربية والجيزة، وأملاكا في كثير من نواحي القاهرة مسقط رأسه ومقر أسرته الأولى. غير أنه شب كما يشب غيره من ذوي الترف مضياعا متلافا، لا يبقي على ما بين يديه إلا ريثما يجد قدرا غيره يبذله رخيصا في سوق الملاذ الموهومة والترف المبتذل. وكان له أب شيخ كبير، قعدت به السنون عن أنه يجد وسيلة يصد بها ابنه عن الاندفاع في سبيل الشهوة العمياء، وطالما أحيا الليالي الطوال تائها في مهامه التفكير غائصا في لجات من الأفكار الحزينة، فكم تواردت على ذهنه ذكرى الوقائع التي صارع فيها الأبطال، والملاحم التي طارت فيها الأرواح، وبيعت فيها النفوس رخيصة في ميدان الجهاد الدنيوي! وكم تخيل نفسه فائضة على حد سيف من تلك السيوف التي كانت تلمع من حوله في شمس بلاد العرب الصافية، أو تحت سماء بلاد الإغريق الشعرية! فتمنى لو أن حلمه وخياله أصبح يقظة وحقيقة واقعة، وكم تمنى لو أنه مات في ميدان الجهاد والعز! على أنه يرى له ولدا وحيدا دفعته يد الأقدار إلى تلك الهوة الاجتماعية العميقة التي لا فرار من التردي في حمأتها إلا بالموت الأدبي أو العوز الشديد والفقر المدقع، وكلاهما كبير على نفوس لم تعرف سوى العظمة، ولا تحط إلا بأبهة الملك والسلطان.
قدر لهذا الشيخ أن يعيش بضع سنوات قضاها في حزن وألم، ولما أدركته الوفاة كان ولده بين كئوسه وقيانه، فلما طير إليه الخبر ومثل بين يدي والده المحتضر، كان الموت قد بلغ من الشيخ مبلغا أعياه عن النطق، ولكن كان في عينيه بقية من شعاع الحياة، فنظر إلى ولده نظرة تنم عن كل أحزان قلبه، ثم أطبقهما، فسالت منهما دمعتان هما آخر ما بذل ذلك الشيخ من جهد في الحياة.
مضى الأب في ذلك السبيل الذي سيسلكه كل حي، ومضى الولد في سبيل كثيرا ما سلكه من قبل العديد الأوفر من أبناء آدم وحواء، سبيل الغواية والهوى، سبيل الشهوة والانفعال.
2 - كيف تستطيع أن تعيش يا بني في هذه الوحدة الأليمة؟ وكيف لا تفكر في أن يكون لك زوجة يسكن إليها قلبك، وتبث لها أحزانك، وتدبر من أمرك ما أنت عاجز عن تدبيره؟ - ما لي وللزوجة يا أماه؟ وما لي ولذلك السجن الأبدي الذي ألقي بنفسي فيه مختارا؟ وما لي ولتكاليف الزوجة وسياستها، وأنت تعلمين أن نفسي قد فطرت طماحة للحرية المطلقة، وثابة إلى الملاذ؟ وإذا كان الزواج مجرد شهوة تقضى، فالتنقل خير من العكوف، وإذا كان تدبيرا لأمر أنا عاجز عن تدبيره، فإني تارك لك تدبير ذلك الأمر. - وهل أنت ضمين ببقائي إلى ما شاء الله، وأنا أم بلغت من الكبر مبلغا لا آمن فيه غدرات الزمان بالكهول؟ وبعد كل هذا، أفتعتقد أن كل متزوج مسلوب الحرية أحمق لأنه ألقى بنفسه في سجن الزواج مختارا؟ - بالله عليك يا أماه لا تكثري على سمعي من هذا الكلام؛ فإني أمقت الزواج كل المقت، بل أمقت كل الآباء لأنهم أزواج. - سمعا وطاعة يا بني، كفى عندي أن أراك بخير، كفى عندي أن أجدك فتيا قويا وضاح الجبين باسم الثغر، وأي شيء أطلب من هذه الدنيا غير هذا؟ أي شيء غير هذا تطلبه أم لولدها الذي خرجت به من كل ما في هذه الدنيا الواسعة في ملاذ الحياة؟ - بورك فيك يا أماه! فذلك ما ينتظر منك ولدك الوحيد في هذه الدنيا، ما لي ولأبناء آدم وبنات حواء؟ ألم تسمعي ما قال فيهم بشار الضرير:
إبليس خير من أبيكم آدم
فتنبهوا يا معشر الفجار
إبليس من نار وآدم طينة
والأرض لا تسمو سمو النار
وكرت على هذا الحديث السنون، فما زاد «حنفي بك» إلا ترديا في حمأة الشهوات، وما زادت أمه إلا إمعانا في وحدتها واسترسالا مع أحزانها. •••
أصبحت الأم ذات يوم وأزمة الصدر تكاد تزهق روحها، فأسرع إليها ولدها في خماره ونشوئه، ولكنه لم يكد يرى حال أمه حتى أفاق للدنيا الحافة به، وتواردت إلى ذهنه الخواطر سراعا متكاثرة، وتمثل له شبح اليتم أما وأبا، فجزع وآلمه الحزن وتملكه الأسى، ذلك أنه لفرط ما أمعن في شهواته كان قد فقد أكثر قوى العقل، ولم يبق له إلا بقية من وجدان قذفت بالدمع إلى عينيه، ففاض هتونا.
راعه شبح اليتم؛ لأنه كان كالطفل يجزع لغير حقيقة، أو هو يجزع من حقيقة لا بد منها، ولم يكن قد قدر للأم أن تموت في تلك الساعة، بل كان أجلها مرهونا إلى وقت قريب، ولكن شاءت الأقدار أن تملكها أزمة الصدر وأن يجزع ولدها ليتكون من مجموع ذلك ظرف تشقى به إحدى بنات حواء، فإن الأم لم تلبث أن تستفيق حتى نسيت ما كانت فيه وبدأت تفكر في أمر ولدها الوحيد، فحادثته في حالها وفي مصيره من بعدها، وكانت ثورة الشعور لا تزال مضطرمة في قلبه، فأذعن لإرادة أمه، وقبل أن تكون له في الحياة شريكة تحمل أحزانه كاملة.
وشاء القدر المحتوم أن تكون زوجته من بنات العظماء، فإن «هنية» بنت النعمة وربيبة الجاه انتقلت من بيت أبيها إلى بيت زوجها، فما رأت إلا أما مشرفة على الموت، وما رأت إلا زوجا هدمته السنون، وحفرت الشهوات تحت قدميه هوة سحيقة من الموت الأدبي، فلاح كالكهل الفاني، وأنه كان لا يزال في ريعان شبابه وميعة صباه؛ فأخذت حرارة قلبها التي بعثت في نفسها الآمال كبيرة تهبط شيئا فشيئا فانية في ثلج ذلك المشيب الذي حفت بها أسبابه. ولكن ما كادت عوامل اليأس تدب في هيكل الأمل الذي ملأ صدرها، حتى شعرت ذات يوم بشيء يختلج في أحشائها، فانتفضت مناجية نفسها: «أي طفلي المعبود، ليعش الأمل في صدري لكي أعيش من أجلك.»
3 - هل حقا أنك لم تسمع شيئا من كلام إحسان يا تمراز؟ - كلا يا سيدتي، فإني لم أسمع منه حرفا، ولكن رأيته ينحدر إلى الخور في صمته وسكونه المهيب، مصفر الوجه غائر العينين صامت اللسان. - هنيئا لك أيها الشيخ، فقد عشت من غير أن يتسرب إلى قلبك الحب الأبوي يوما، فيا لسعادتك ويا لهنائك بوحدتك الحزينة الجميلة!
وانهملت من عيني «هنية» الدموع فائضة ملء شئونها. •••
الزمان في شهر آب عام 1891، وفي إقليم الفيوم الجميل، حيث تذهب أشجار النخيل برءوسها المهيبة في السماء وتنفض خيران الأرض أغوارا عميقة، والسيدة «هنية» تخاطب الشيخ تمراز البستاني عن ولدها إحسان الذي تمخضت عن حياته الأقدار في شهر يناير سنة 1861، فهو الآن في فجر العقد الرابع من عمره، صبوح الوجه مفتول السواعد شاحب اللون كبير العينين أقنى الأنف، يتهدل على رأسه شعر كأنه سبائك الذهب الصفراء، قليل الكلام كثير الصمت ثابت الخلق، سيد في كل شيء، حتى في سكونه ونومه، فكان على صغر سنه كامل الرجولة قوي الشكيمة شديد المراس، ولكنه كان كثير الاحترام لأبويه مفرط الخضوع لإرادتهما، حسن المعشر، حلو الحديث في رصانة وتفكير عميق، محبا للصدق والعمل، مقسطا في كل شيء حتى في تصوراته وخطرات نفسه. وكان أبوه قد بلغ بعد الثلاثين عاما ونيفا من سيرته الأولى مبلغ الكهول الذين هدمتهم الأيام، وانتقصت من حيويتهم حوادث الزمان.
قامت «هنية» على تربية ولدها أحسن قيام، فعنيت ببدنه عنايتها بتكوين عقله، وبذلت في سبيل هذه الغاية أقصى الجهد، ذلك لأن الدين كان قد أقل موارد الأب إقلالا أعوز الأم إلى الاقتصاد في كل شيء، ولم يبلغ إحسان الثلاثين حتى كان قد أتم تعليمه وخرج من الدرس والعكوف على الحفظ والتحصيل إلى عالم الحياة العامة، عالم الجهاد والجلاد. ولم تكن نزعات نفسه لتريحه من التفكير في أمر مستقبله، فكثيرا ما ناقش أباه، وكثيرا ما ناقشته أمه في ذلك، غير أنهما لم يريا منه إلا إصرارا على الطموح إلى أعلى المناصب وأرقى الدرجات الاجتماعية، فتركاه لتصوراته وموحيات نفسه، قانعين بأن الأيام سوف تكسر من حدة شبابه، وسورة عقله الكبير.
غير أن الأم لم تلبث على فرحها بولدها قليلا حتى لحظت أن فترات تأمله قد أخذت تطول شيئا فشيئا، وأن صمته أصبح أعمق وأبلغ تعبيرا عن الألم الصارخ من أعماق نفسه، وعن العاصفة النائمة في عينيه؛ فكلمت في ذلك أباه، ولم يكن الأب بأحسن من الأم حظا في الفوز بشيء من سر إحسان. ولما ألحت عليه هذه الأحزان التي لم يجدا لها من باعث معروف، نصح لهما الأطباء بتبديل الهواء فلم يمانع إحسان، على أنه اختار إقليم الفيوم، حيث يقوم قصر منيف تملكه أمه «هنية» عن أبيها، تحيط به حدائق غناء، وتنخفض من حوله خيران ذلك الإقليم الجميل بمياهها الجارية وأشجارها الباسقة ومناظرها الطبيعية الفاتنة.
4
الليل مرخي السدول، والطبيعة صامتة ما ينطق لها لسان، والأرض هامدة كأنها ميت فارقته الحياة، فلحق بمن غبر ممن طوتهم عصور التراب.
وكان المقبل على ذلك القصر الذي يسكنه إحسان يرى نورا ضئيلا ينبعث من حجرة في الطابق السفلي، وقد تخلل الضوء ما بين الشرائح الخشبية القديمة، فإذا أطل من بينها رأى شابا في فجر العقد الرابع مستلقيا على مقعد كبير من فوقه الإله حوريس يظلل إحسانا بجناحيه ليحفظه من سوء ما خبأت له الأيام.
ولكم أحيا ظلام الليل من أمل! وكم ولد من يأس! وأنت إن فتشت في قلب إحسان في تلك اللحظة لما وقعت على أمل ولا على يأس، بل وجدت حيرة وشكا، يزكيهما الأمل ويذهب بهما اليأس، فلم يكن الأمل ولم يكن اليأس إلا حالتين تتناوح من حول الشكوك في قلب إحسان رياحهما، وكان كلما اقتلعت رياح الأمل في قلبه الشكوك هب فتيا قويا، وكم هبت عواصف اليأس على تصوراته فارتد شكوكا شقيا. وكانت ترتسم على وجهه ابتسامة مريبة يعقبها قطوب مخيف؛ أما الابتسامة فكان باعثها الأمل، وأما القطوب فكان باعثه اليأس. فإذا تمعنت في جلسته تلك وفي توارد الصور على وجهه الشاحب، لما تخيلته إلا تمثالا أخرجته كف نقاش ماهر ليعبر لكل عين عن معنى من معاني الحياة، يختلف أثره في النفس باختلاف العين الناظرة إليه.
ولم تك تسمع في تلك الحجرة من حركة، اللهم إلا دقات ساعة ذلك الشاب ودقات قلبه. وكان ينعكس على وجهه ضوء ضعيف منبعث من سراج فيه شموع موقدة على العادة القديمة التي اتبعت في قصور العظماء حتى عهد قريب. وظل على حاله فترة لا يتحرك فيه من شيء، حتى انتبه إلى وقع أقدام تقترب من حجرته فتحرك، ولما أن حقق مصدر الصوت غادر مجلسه إلى باب الغرفة، فإذا بالشيخ تمراز البستاني يمد إليه يده برزمة من الخطابات عليها أختام البريد. - هل أدركك أحد أيها الشيخ وأنت ذاهب إلى القرية لتحضر البريد؟ - كلا يا سيدي، فإني أخذت أتسلل بين الأشجار كالثعلب أروغ في كل ما أشك فيه، وما زلت متمهلا حتى بعدت عن المنزل، ثم أطلقت ساقي للريح. - حسنا فعلت يا تمراز! فخذ هذا الدينار جزاء أمانتك وحسن خدمتك لسيدك الصغير. - إنك تغمرني بفضلك يا سيدي، وسترى من أمانتي ما سوف تضاعف عليه مكافأتي. - بلا ريب. اذهب الآن.
وعاد إحسان إلى طاولة من خشب الأرو الجيد، وجلس إليها يفحص البريد بعين غير مطمئنة مناجيا نفسه: ها قد مضى أسبوعان، ولم تكتب لي دلال حرفا واحدا، فماذا عسى أن يكون الباعث على هذا؟ لعلها مريضة، أم تكون قد نسيت عهدي وفضت عن قلبها خاتم حبي؟ أيمكن أن يكون لهذه الحياة قيمة بغير الحب؟ وأي سر من أسرار الوجود هو أدعى إلى التأمل من هذا السر الخفي، سر القلب المولع بحب فتاة من بنات حواء يسكن بقربها خفقانه، وينضب مع بعدها ماؤه وتزول حياته؟ وأية عاطفة من عواطف الحياة الإنسانية هي أشرف من هذه العاطفة التي تفيض معها الحياة ملأى بصور الجمال والجلال، وترتد بدونها حزينة جرداء؟ كم أريد أن أشم تلك الزهرة الناضرة التي ألقاها الحظ في سبيل حياتي! وكم أشعر بحاجتي إلى سماع دقات قلبها تجاوب دقات قلبي!
وأخذ يقلب في أوراق متناثرة على مكتبه، فعثر بينها على ورقة أخذ يقرأ فيها خطرات كتبها منذ بضع سنين، وإذا به يقرأ:
لا أقول في هذه الحياة كما قال أبو العلاء «هذا جناه أبي علي»، بل أقول: هذا حكم القضاء، كان سرا حمله الأبد حتى تمخض به زمني، وما أنا بالمضغة اللينة يطحنها الزمن ويبتلعها الدهر بغوائله ونكباته، بل الحصاة الصلبة تقاوم صدمات الأقدار، فلم أجزع؟ إني قوام على نفسي بالإرادة والصبر الجميل، ولكن للصبر وحسن التدبير حدا إن بلغ إليه المرء فقد صبره وساء ما دبر. على أن القول رداف، والحزم عثراته تخاف، والعاقل من وازن بين حدي المنفعة والحاجة، وكلا الأمرين يدعوني لأن أشرك في حياتي نفسا أخرى يكون لها في أيامي شركة وفي حظي من الدنيا نصيب، وإنني لأقدم على أمر إن خانني فيه الحظ فستكون آخر سهامه يوجهها إلى صميم قلبي، وإن بسم لي الزمان وعاضدتني الأحوال، فعند ذلك تقوم في نفسي أول نهضة أضع فيها أساس ما أريد لنفسي من مجد، عندئذ تنبت في غصون حياتي الجافة أوراق الأمل فواحة وضاحة، ويخضر روضي وتبسم حياتي. أريد نفسا خلصت من أكدار الحياة، غضة الإهاب، كبيرة الآمال، محصورة المطامع، تجول في عينيها معاني الفطرة النقية كما تجول من أوراق الزهرة قطرات الفجر الندية. أريد أن يكون قد قذف بها فلك القضاء والقدر إلى عالم الموت والحياة، وقد تنقلت من منازل العمر حتى حطمت العشرين، فيلقيها الحظ في سبيل حياتي كقبس من النور الإلهي الفياض يضيء شعاعه اللامع نواحي في نفسي أحسب أن مصائب الأرض قد أمحلتها حتى ليتعذر أن تصل إليها مراحم السماء. تلك هي التي أود أن يكون لها في حياتي شركة ونصيب، على أنني لم أجدها بعد، ولعلني يوما من الأيام ألقاها.
ثم ألقى بالورقة من يده وملء نفسه اليأس متمتما: «لقد ألقى بها الحظ في سبيل حياتي فعثرت بها، ترى هل الأقدار تنتزعها من بين يدي تارة أخرى؟»
ثم صاح بملء نفسه: «أيتها الأقدار العاتية، صبي علي لعنة الأبد ولا تبق لي على شيء إلا حبي، فإنه يفرج كربتي ويؤنس وحشتي.»
وإذا بالشيخ تمراز يركض عدوا ميمما نحو غرفة سيده الصغير.
5
عزيزي إحسان
لئن تأخرت عليك رسائلي، وانقطعت عنك أخباري حينا من الزمان، فإن قلبي لا يزال يلهج بذكرك، ووجداني يفيض إليك شوقا وحنوا. وكيف أنساك يا من أصبح للقلب سلوة، ولمصائب الحياة عضدا، ولملمات الدهر سندا؟ أفي استطاعة القلب البشري أن يسلو حبيبا أحبه لا لشيء إلا لأنه أحبه؟ وهل في الحياة الإنسانية بأجمعها قلب فتاة انطوى على الطهر أحب ثم سلا؟
ما انقطعت عنك أخباري إلا لأن القدر قطع منذ أيام عمادي ومضى بسنادي إلى حيث يمضي كل حي، مضى بأبي في ذلك السبيل الذي سوف نقطعها، حتى إذا ما بلغنا المنتهى حمدنا السرى وقررنا بسفر الحياة عينا.
أصبحت في الحياة فريدة لولاك، فبين يديك الطاهرتين ألقي بكل ما لي في هذه الحياة، وما لي فيها سوى شرفي وعرضي وعفافي. وهذه أشياء عجز فقر أبي في أواخر أيامه أن ينال منها منالا أو أن يقرع لها بابا. ولقد احتفظت بها أمانة في عنقي حتى ألقيها في عنقك، فإلى أمانتك أعهد بها، وإن كرم أخلاقك وطيب عنصرك وسمو عواطفك كفيلة بأن تحفظ لي في هذه الحياة تراثي الأدبي وميراثي الإنساني.
وما أستطيع أن أزيد على ما كتبت حرفا، فإن قلمي عاجز عن أن يعبر لك عما يختلج بقلبي من الانفعالات الثائرة، أو عما يساور ذهني من التصورات التي امتزج فيها الحزن على الماضي بالأمل في المستقبل.
دلال
وكرت على هذه الحوادث سنوات سبع ما زاد فيها حب إحسان ودلال إلا تمكنا، فكان حبا صفا من أكدار الغرض والمنافع ، وعلاقة بين القلوب هي أشبه الأشياء بالجاذبية التي تحفظ نظام الأجرام بنسبة غير زائدة ولا منقوصة، أو هي كألفة العناصر التي تجذب كل عنصر إلى ما يألف على قاعدة لا ينالها خلل ولا ارتباك.
6
في اليوم السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1898 كانت دلال جالسة في شرفة تطل على حديقة أمام منزلها الصغير، تطيل النظر إلى زهرة من النرجس ألوت برأسها إلى غدير يجري فيه الماء من نافورة في وسط الحديقة، وكانت مستغرقة في أحلامها اللذيذة مناجية نفسها بأسطورة الصدى ونرجس متمتمة:
أيها الفتى «نرجس» الذي مسخته الآلهة في معتقد الإغريق زهرة نعجب بها، كيف صددت عن حب «الصدى» حتى بلي لحمها وفري عظمها؟ ولماذا لم تقابل الحب المحرق بحب مثله؟ وما هو السبب الذي يؤلف بين بعض القلوب وينفر البعض الآخر؟ هل لهذه الحياة التي نحياها الآن سر غير سرها المفضوح أمامنا؟ أم أن الطبيعة لم تجد علينا إلا بقدر ما تسع عقولنا وأحلامنا، في حين أنها جادت عليك بسرها، ثم قلبتك زهرة ليبقى سرها في أعماق جمالك مصونا مكنونا؟
أيها الفتى نرجس الذابل الجميل، كنت في حياتك الأولى شابا فاتن الجمال، وأنت سليل إلهين من آلهة الماء، فسما بك أصلك إلى النجم، فرع طويل صدك عن أن تحب «الصدى» وأن تمنحها من عواطفك بمثل ما منحتك من عواطفها، فهل يمكن أيها الفتى الجميل أن تكون مراتب الشرف ومنازل الجاه حائلة بين القلوب والحب؟ أخطأت أيها الفتى إن كنت صددت عن «الصدى» لمجرد أنك سليل إلهين من آلهة الماء البعيد الأغوار الجم الأسرار، وإلا فلماذا مسخك الإله «زوس» زهرة ما ترى إلا على حوافي الغدران كما كنت في حياتك تطيل الوقوف على حافة الماء الراكد لتنظر جمالك الفتان في صفحته الصافية؟
وأنت أيتها الفتاة الحزينة التي لم يبق منها شيء إلا القدرة على ترديد ما تسمع أو يقال، فإذ قلت إحسان!
ولم تكد «الصدى» تردد نداء دلال حتى فتح الباب وظهر لديه إحسان، كأن «الصدى» جذبته بقوتها السحرية، فلم تردد اسمه بل حملته إلى أحضان دلال ذاتا كاملة الهيكل والجثمان.
ظهر إحسان لدى الباب، ولكنه وقف واجما جامدا، غير أنه على الرغم من احتفاظه بكل ما كان فيه من صفات الرجولة، فإن اصفرار وجهة كان مهيبا مخيفا، فتقدمت إليه دلال في سكون ورهبة ولم تفه بكلمة، بل ألقت بنفسها في أحضانه فائضة الدمع جمة الشجون. «لقد مات أبي بعد أن جرد من أملاكه منذ ساعة، ولحق بمن مضى من أوائلنا، لحق بأبيك وأمي، ولم يبق لي من الحياة سواك، فتأهبي للسفر لأن الحياة هنا غير محمولة في الفقر بعد العزة، والعوز بعد الجاه.»
ثم تركها حائرة وعاد أدراجه ليواري جثة أبيه التراب.
في اليوم الثاني كان إحسان ودلال زوجين تحملهما أجنحة البخار إلى سورية، حيث صمما على أن يقيما إلى آخر حياتهما عاملين بكد سواعدهما ليعيشا.
7
عند مدخل الغابة الملتفة الأغصان كوخ صغير من حوله حقل وحديقة، وبالباب طفل يمرح غردا كأنه الهزار في الربيع، وكان كل ما بالكوخ ساكنا مطمئنا، كأن اطمئنان القلوب التي تسكنه تبعث في جوه السعادة والهناء. وفي هذا السكوت الشامل انبعث صوت شجي في نبراته حنو وجمال قائلا: ليس لدينا وقود، وقد كاد الليل أن يرخي على الطبيعة سدوله. - حسنا يا معبودي، جهزي لي الحبل والفأس.
وحمل إحسان الحبل بيده والفأس على كتفه، ومضى نحو الغابة متغلغلا في الظلام.
كشف الستار عن سر الأسرار
مذكرات عرابي باشا
على الرغم مما تشعر به من سوء الحظ ونكد الطالع الذي حوط قائد الثورة المصرية سنة 1881، فإنك لا تفرغ من قراءة كتاب أو مقال فيما قام به عرابي من الأعمال، ولا تنتهي من قراءة مختلف تلك الآراء القائمة من حول ذلك الرجل؛ حتى تقتنع بأن الدنيا قد أنصفت عرابي كل إنصاف، وكيف لا تكون قد أنصفته وأنت في حين تقرأ أنه بطل كامل البطولة وفي حين آخر تقرأ أنه بطل سيئ الحظ منكود الطالع، ثم تتدرج من هذا إلى أنه رجل مليء طماعية وجشعا وإسفافا في النزعات ؛ ثم تهوي به من بعد ذلك في مهواة الخيانة العظمى، فإذا بك أمام رأي فيه يزعم أنه خائن وأنه صنيعة الإنجليز، وأنه سلم مصر إليهم غنيمة باردة؟ وكل هذا في نظري إنصاف وإقساط، لأن الدنيا لا تعطي الإنسان حيا وميتا أكثر مما في استطاعتها أن تعطيه.
والواقع أن بين صفتي البطولة والخيانة فرجة تتمشى فيها النزعات الإنسانية وتتقلب فيها الأفكار، فتخلق من البطل خائنا ومن الخائن بطلا، وأنت بين هذا وذاك تسير في مضارب من الشك ومناح من الريب غير عالم أي الحزبين في جانب الحق.
ونحن إذا شعرنا اليوم ونحن نكتب في مذكرات بطل الثورة الأولى شعورا كاملا بأنه ليس في مستطاعنا أن نقضي في أي الأحزاب أدنى إلى الحق وأيها أقرب إلى الصواب حكما يرضي نزعات العلم الحديث وموحيات الأسلوب اليقيني الصرف، ونحن بعد لما نبعد عن عهد عرابي إلا نصف قرن من الزمان، فكيف يمكن أن نحكم على حادثات أعرق من هذا قدما وأشد إيغالا في أحشاء الزمان؟
البطل الماثل أمامنا اليوم هو السيد أحمد عرابي الحسيني المصري، قائد الثورة المصرية سنة 1882، وأول من رفع لواء القومية المصرية في وجه العناصر الأجنبية التي استبدت بالبلاد وأرهقت أهلها وناءت عليهم بقوة الاستعمار، تهضم حقوقهم وتستعبدهم استعبادا. تخرج بهذا الرأي إذا أنت فرغت من قراءة الجزء الأول من مذكراته المطبوعة الذي أهدانيه صديقي عبد السميع بك عرابي. والخائن الذي يتمثل أمامك في بضعة آراء حوطت شخصيته بكثير من الأشياء والفكرات الخيالية الغريبة، تلك الآراء التي أذاعها بطبيعة الحال الحزب المقاوم لإرادة عرابي في ثورته؛ هو بعينه بطل القومية وأول من قال بأن مصر للمصريين دون غيرهم من شعوب الأرض قاطبة.
ما أثرت عليه في هذه العقيدة جامعة الدين التي كانت تربطه بالترك والجركس، ولا رابطة السياسة التي كانت تربط مصر بدولة بني عثمان، ولم يبهره زخرف المدنية الأوروبية ولا بهرجها الكاذب، فكان رجال الجيش والإدارة من غير المصريين سواسية في نظره، هم جميعا عنده بمنزلة الدخيل المستعمر الذي يمتص دم بلاده امتصاصا ولا تهزه نحوها أية عاطفة من الوطنية ولا يحركه شعور قومي. وما أنت في كل ذلك بمحتاج إلى دليل تستخلصه من الحوادث ولا برهان تستقرئه من بين الآراء المتضاربة، فإنه يكفي عندك أن تقرأ ما أشار إليه السيد أحمد عرابي باشا من المديح في الضباط المصريين من قواد الجيش المصري، وأنهم لجديرون بمثله في كثير من ظروف التاريخ؛ لتشعر شعورا صادقا يوحي إليك دائما بأن مصرية عرابي كانت مصرية كاملة النواحي متلائمة الأطراف محبوكة على حب عشيرته وتقديس قوميته، وما هو بمسئول مباشرة من بعد هذا عن النتائج التي خبأها له ولمصر القدر، لأن أرقى النزعات الإنسانية من الجائز أن تنتج أسوأ الشرور وأبلغ المصائب، وعكس ذلك قد يتفق أن يكون صحيحا في كثير من الوجوه. ومن الجائز أن يكون عرابي قد خدع، وأي إنسان لم يخدع في هذه الدنيا؟
ألم نركن إلى فرنسا في بدء مقاومتنا للاحتلال بعد سنة 1890 فلوحت فرنسا لإنجلترا تلويحا، ثم لم تلبث الدولتان أن اتفقتا علينا سنة 1904 ونحن بعد من خديو مصر إلى أصغر سياسييها شأنا مخدوعون بفرنسا وبمقدرة فرنسا وشرف فرنسا ... وما إلى ذلك من الخيالات الموهومة؟ فلو أن مصر تبدلت من السلام الذي ساد ربوعها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بثورة حاطمة ومضت في ثورتها واثقة بفرنسا، أيكون في قدرتك أن تعرف أي النتائج كان من الممكن أن تترتب على هذا الوهم الشائع؟ لا مشاحة أنك تعجز عن ذلك عجزك عن أن تعرف في أي الجهات خدع عرابي. على أنه لو كان قد خدع في كل شيء فإن ضميره لم يخنه في مصريته يوما، ولم يتحرك فيه عرق واحد ضد قوميته برهة واحدة. وكفى لمن يرفع لواء القومية المصرية فخرا أن ينتزع سر هذه القومية من جوف أبي الهول القابع في صحراء مصر، بعد أن احتوتها جوانبه الصخرية الصماء ثلاثين قرنا من الزمان حيث تركت نسيا منسيا.
يخص كثير من الكتاب لدى بحثهم الأسباب والنتائج التي قامت من أجلها أو أدت إليها الثورة الفرنسوية، منقبين في حنايا التاريخ القديم والحديث، راجعين بالأسباب إلى أزمان بعيدة قد تفصل عرابي عن عهده نصف قرن ونيف، أو ذاهبين بالنتائج إلى مدى قصي بعيد، وما هم في الحالتين إلا في خطأ مبين، ذلك لأننا نعتقد أن الثورة قد خلقت فجأة، وأنها لم تتكون إلا في قلب عرابي. نعم، إني لا أنكر أن الأسباب تتكون خلال الزمان تدرجا، ولكن هل يمكنك أن تعرف لأي الأسباب هي لا تؤتي نتائجها إلا في زمان محدود، سائل نفسك لماذا لم تقم ثورة القومية المصرية قبل عرابي، ألم تكن الأسباب قائمة من قبله؟ ألم تكن الحالات التي قبرت القومية المصرية واقعة بالفعل قبل عرابي بقرون عديدة من الزمان؟ ونحن إن مضينا قانعين بأن أسباب الثورة قد تكونت خلال أزمان بعيدة عن عهد عرابي، فإن الثورة الحقيقة لم تقم قياما فعليا إلا في قلبه وحده، ومن الجذوة التي اضطرمت نيرانها بين جوانحه فاستنارت بها بقية القلوب.
قامت الثورة في قلب عرابي متأججة قوية، وما هبت رياح الحوادث من حوله إلا لتذكي نيرانها وتبعث بلهيبها المتسعر المضطرم في أنحاء البلاد، وما كان هو على جهل بما يحف مركز مصر السياسي من منازع الاستعمار ورياحه المتناوحة، فإنه قد أنحى على بيع أسهم قناة السويس وعلى من باعها بلومه، وما نسي يوما أن المحافظة على الأجانب ومصالحهم تكأة قوية يدفع بها الخطر الأجنبي، وما غفل عن أن الامتيازات الأجنبية افتئات على حقوق مصر وانتزاع لاستقلالها من بين جنبيها. غير أنه لم يحسب للقوة والمطامع الإنجليزية حسابا ولم يجعل لها وزنا، والغالب أنه ارتكن في ذلك خطأ على فرنسا وعلى تركيا، عالما أنهما لن تسمحا لإنجلترا أن تلج الشرق من بابه فتتحكم قوتها في مصالح الدنيا ومن فيها، ولكن على الضد من هذا الرأي سارت الحوادث، وعلى العكس منه مضت ظروف الدنيا. وأنت بعد حتى اليوم لا تعرف كيف رضيت فرنسا أن تثبت إنجلترا قدمها في مصر، ولا كيف قنعت تركيا بأن تترك درة تاجها نهبا لمطامع الاستعمار الإنجليزي.
ارجع في كل ذلك إلى الأسباب القريبة منك الواقعة في جوك ولا تتلمس لذلك أسبابا بعيدة تلجأ فيها إلى النظريات التاريخية العقيمة، فكما أن الثورة المصرية لم تقم إلا في قلب عرابي، كذلك لم يقم الخوف من التدخل في المسألة المصرية بعد أن اغبر جوها إلا في قلب عبد الحميد أمير المؤمنين - رحمه الله وغفر له - وكيف يمكن أن يرسل عبد الحميد الأناني المستبد جيشا تركيا إلى مصر الثائرة في سبيل حقها المهضوم ليعود إليه مسمما بروح الحرية والدستور؟ ذلك هو السبب الأوحد الذي قام في رأس الطاغية المستبد وحال بينه وبين أن يدرك مصر من خطر الوقوع في يد إنجلترا، لا حوادث السياسة ولا دسائس «دوفرين» ولا مهارة «ماليت» ولا شيء في الدنيا بأجمعها غير هذا، وإلى أي حد كانت تذهب مهارة هؤلاء لو أن هذه المهارة قد لاقت في تركيا قلوبا مشبعة بقوة الإيمان في حق الحرية من الحياة وفي حق الشعوب من الوجود والبقاء؟ أما في فرنسا فإنك لا تجد من سبب إلا سلامة القلب البالغة من السذاجة مبلغ البلاهة في الاكتفاء بوعود الأسد البريطاني المنقلب شاة وادعة، حتى إذا ما تمكن من فريسته انقلب أسدا تارة أخرى.
حول فكرك البعيد القصي باحثا وراء الأسباب الخفية، وقلب صفحات التاريخ من الغزو الفرنسوي إلى محمد علي الكبير إلى معاهدة سنة 1840 وما تقدم ذلك من الحوادث، وتمعن في عصر إسماعيل وفي الوزارة الثنائية وفي البعثات المالية؛ فإنك لا تلمس في كل هذا إلا ظاهر الحياة ولا تقع إلا على العرض دون الجوهر، ولن تقع على الجوهر الكامن في جوف الطبيعة البشرية إلا في قلب عرابي الثائر المصري وأنانية عبد الحميد العاهل التركي وبلاهة فريسنييه الوزير الفرنسوي. •••
الفاصل الزماني بين الثورة الفرنسوية وبين الثورة المصرية قرن واحد من الزمان، وهو عهد قصير في عمر الأمم. ومن غريب ما ترى في حوادث مصر التاريخية أن نتائج الثورة الفرنسوية لم تلحق إيطاليا إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ولم يبزر بزرها في مصر إلا في أواخره. فكأن فكرات الحرية وحقوق الإنسان قد احتاجت إلى قرن كامل من الزمان لتتم هجرتها من فرنسا إلى مصر، فما أبطأ الفكر الإنساني في تقبل الآراء الحديثة، وما أسرعه في العودة دراكا إلى تقاليده الموروثة!
على أنك لا تعجب أن تحركت في نفس عرابي عوامل القومية، ولكنك لا تعرف أية علاقة لهذه النزعة بالفكرات الديمقراطية الدستورية وبحق الأمم في تقرير شكل الحكم الذي تمضي خاضعة له. لا نشك في أن بين الفكرتين؛ فكرة القومية وفكرة الحرية الديمقراطية، علاقة وآصرة، ولكن تدلنا حوادث التاريخ على أن أقرب ما يستعان به على حماية القوميات حكومات تستمد من الشعوب التي تمثل تلك القوميات، وما أشك مطلقا في أن الفكرة الدستورية التي قامت في رأس عرابي كانت مستمدة مباشرة من الفكرات الفرنسوية.
جاء في مذكرات عرابي ص15 بعد أن ذكر عطف المغفور له سعيد باشا عليه ما يأتي:
ولشدة إعجابه بي أهداني تاريخ نابليون بونابرت باللغة العربية، طبع بيروت، وهو بادي الغيظ على أن تمكن الفرنسويون من التغلب على البلاد المصرية والتحريض على وجوب حفظ الوطن من طمع الأجانب. ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سببا في مطالعتي كثيرا من التواريخ العربية.
على أن عرابي إن استطاع أن يضرم نيران الثورة في قلوب ما كانت تعرف للثورة طريقا ولا فهمت للقومية معنى عمليا، فإنه ولا شك أخفق كل الإخفاق في طبع الشعب على الحياة الديمقراطية الدستورية، ولا ريبة في أنه أخفق فيما كان يخفق فيه غيره مهما أوتي من قوة القلب والعقل، لأن تغيير أفكار الشعوب واستعداداتها دفعة واحدة كجرعة الدواء تعطى مرة في حين أنها من الواجب أن تعطى أقساطا. أما الأقساط الدستورية فقد أخذها الشعب المصري من يد ممرضيه العاملين على حفظ نسبة خاصة من الصحة والمرض بقدر حاجتهم فاشية في جثمانه، أخذا في مدى خمسين سنة من الزمان. أما إذا كان الشعب المصري قد بلغ من النقاهة من أمراضه القديمة المزمنة مبلغه الآن، فمن المرجح تغليبا أن الثورة العرابية ما كانت لتسير في ذلك الطريق الذي أسلم بها إلى الفشل وبزعمائها إلى منفى سرنديب شقة وأقصى مزارا. ولكن مزاج الشعب قد تغير وقوته المعنوية قد تطورت وبدا فيها من مجالي النشاط والقوة ما حمل المستبدين على الرضوخ لرأيه في زعمائه. والأمة إن نسيت زعماءها سنة 1881 سراعا وظلت تنساهم ثلاثة عقود ونيف من الزمان وهم في آلام النفي وشقاء الغربة، فإنها لم تنس زعماءها في أصيل الربع الأول من القرن العشرين لحظة واحدة، ولا فاتها أن تمضي في تضحياتها الكبيرة دفاعا عن حقها المهضوم وحماها المستباح. •••
على أن الزعماء والأبطال ليسوا إلا بشرا مخلوقين على ما في الطبيعة الإنسانية من نقائص وكمالات، فهل كان السبب في فشل عرابي أن نفسه لم تتسع بدرجة كافية لتلك الصفات المدنية التي تمد الثورات عادة بكل ما يهيئ لها أسباب النجاح؟ الحقيقة أن المذكرات التي فرغت من قراءتها أمس لا يمكن أن تظهرنا على شيء من نفسية ذلك البطل المنكود الحظ السيئ الطالع. على أن ظروف العالم الذي أحاط به ومشكلات السياسة العامة، ما كانت تفسح لنقائص عرابي مجال الانبعاث في سبيل شهواتها الدنيا، ذلك احتمال قد يكون صحيحا وقد يكون غير صحيح. غير أن الذي نستطيع أن نقضي فيه بحكم ثابت هو أن نفسية عرابي لا تظهر في ذلك الجزء من مذكراته إلا غامضة مبهمة، لهذا نترك الحكم فيها إلى المستقبل الذي نرجو أن يزودنا ببقية تلك المذكرات عما قريب.
أما طبيعة الثورة ذاتها فإنها لا تخرج عن طبيعة كل ثورة عسكرية أخرى تتحكم فيها القوة بما تشاء أن تتحكم. والخطأ الوحيد الذي وقع فيه عرابي أنه لم يترك للقوة المدنية أية فرصة من الانتفاع بنتائج ثورته العسكرية، وهذا الخطأ بعينه هو الذي وقع فيه كرومويل، وهو بعينه الذي اجتاح زعماء الثورة في فرنسا والاتحاديين في تركيا وغيرهم في ممالك أخرى. فلو أن تدخل عرابي في سلطة الحكومة قد وقف عند مظاهرة عابدين وعند انتزاع الدستور وتقرير حق الأمة، ثم ترك السلطة السياسية والسلطة الإدارية كلاهما تسير بالبلاد في جو بعيد عن عواصف الثورة العسكرية؛ لما وجدت في تاريخه كله من خطأ يأخذه عليه التاريخ. والغالب أن هذه الطريقة التي اتبعها في تدخل القوة العسكرية في الإدارة والسياسة المدنية كانت فاتحة لسلسلة أغلاط حوطته بظروف لم يستطع الإفلات في نتائجها ومن ضغطها.
خذ لذلك مثلا تلك المشادة التي وقعت بينه وبين شريف باشا بعد مظاهرة عابدين مباشرة وبعد إعلان الدستور، على تعيين وزير الحربية؛ فقد جاء في مذكراته ص238 ما يلي:
وفي يوم 10 سبتمبر سنة 1881 توجهت إلى سراي شريف باشا وهنأته برياسة الوزارة الجديدة، وطلبت منه أن يعنى بانتخاب من يؤازرونه في سرعة تشكيل مجلس النواب ونشر الحرية في البلاد، ورغبت إليه في تعيين محمود سامي باشا ناظرا للجهادية، ومصطفى فهمي باشا ناظرا للخارجية، لما أعلمه من ميلهما مع العدل والحرية؛ فأبى وقال: إني لا أقبل أن يكون في وزارتي محمود سامي ولا مصطفى فهمي، لأنهما لم يوفيا بالعهد الذي تعاهدنا عليه من قبل، فقد اتفقنا على أنه إذا رفض الخديو الموافقة على تشكيل مجلس النواب استقالت وزارتنا ولا يشترك أحد منا بعد ذلك في الوزارة الجديدة، ولكنهما نكثا بالعهد وقبلا الدخول في وزارة رياض باشا التي قامت بعد وزارتنا والتي سقطت بالأمس، لذلك لا أستطيع أن أشتغل معهما. قلت له: إن لكل وقت حكما وإني واثق بحبهما للحرية والعدل والمساواة (لاحظ أن هذه نغمة فرنسوية)، وفضلا عن ذلك فإن العسكرية لا تطمئن لغير محمود سامي.
فقال: أفلا ترضون أن أكون ناظرا للجهادية، فإني قد تربيت معكم في العسكرية؟ فقلت: لقد اخترناك رئيسا للوزارة ولا بد من مراعاة ميول رجال العسكرية. فلما أصر على عدم قبولهما في وزارته تركته ورجعت إلى أشغالي من غير أن يتم شيء في أمر الوزارة. وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة، فأصر على الرفض ، فقلت له : إن لم تؤلف الوزارة اليوم فسنطلب غيرك، ولا تظن أنه ليس بالبلاد سواك ففيها بحمد الله العلماء والحكماء، ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جوابا، ثم خرجنا من عنده، وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته، الذي نال رتبة باشا في زمن الاحتلال حين كان شريف باشا رئيسا للنظار أيضا)، وقال إن الباشا قبل ما عرضته عليه وإنه يريد مقابلتي، فذهبت إليه مع محمود سامي باشا حيث أعلن تشكيل الوزارة.
هذه الروح الدكتاتورية هي التي أنبتت في الثورة ما أنبتت من مساوئ الثورات العسكرية، وهي روح عاصية حتى على الزعماء، فإنها تجتاحهم وتذهب بهم إلى حيث ينتظرهم الفشل المحتوم، فإن أخطر شيء على ثورة عسكرية روح تحكمية تذهب بها في جو من التنازع والخلاف بين زعمائها وبين زعماء السياسة والإدارة، تذهب إلى حيث تخضعهم ولا تبقى إلا نيرانها العسكرية المتسعرة تأكل بعضها حتى تخمد حيث هي فلا تبقي من نتائجها المنتظرة على عين ولا أثر.
بعد تعيين شريف باشا وإكراهه على تأليف وزارة يرضى عنها الحزب العسكري، نقع في ص271 من مذكرات عرابي على هذه الخطرة الغريبة:
وفي أوائل شهر يناير سنة 1882 خلوت بالمغفور له محمد سامي باشا ناظر الجهادية، فأطنب في الثناء علي لقيامي بنشر راية الحرية في مصر وملحقاتها من بعد مضي خمسة آلاف سنة على المصريين وهم يرسفون في قيود الاستبداد والاستعباد، وأقسم أنه مستعد لأن يضحي بحياته ويجود بآخر نقطة من دمه في تنفيذ رغبتي ويجرد حسامه وينادي باسمي خديوا لمصر إذا رغبت ذلك. فقلت له: مه يا محمود باشا، فإني لا أريد إلا تحرير بلادي، ولا أرى سبيلا لنوالنا ذلك إلا بالمحافظة على الخديو كما صرحت بذلك مرارا وتكرارا، وليس بي طمع أصلا في الاستئثار بالمنافع الشخصية، ولا أريد انتقال الأريكة الخديوية إلى عائلة أخرى لما في ذلك من الضرر، مع علمي بأنك تنتسب إلى الملك الأشرف «برسباي». فقال: أنا لا أقول لك إلا حقا، وأنت أحق بهذا الحديث مني ومن غيري. فشكرته على ثقته بي، وتم الحديث.
وما من شك في أن هذه خطرة غريبة يقف أمامها المؤرخ حائرا، فإن عرابي يقول بأن محمود سامي قد ذكر أنه على استعداد في أن «ينفذ رغبتي»، وأنه رفض أن يكون «خديو» بمسعى سامي نفسه. وأزيد على هذا أن هذه العبارة لم تكتب إلا بعد موت محمود سامي بدليل أنه يقول المغفور له محمود سامي باشا. وفضلا عن هذا فإن محمود سامي لم يطلع على هذا الحديث ليرى فيه رأيه: فهل كان ذلك الحديث حقيقة على ما روى عرابي باشا؟ أم أن له حقيقة أخرى طواها عنا الزمان؟ أم كان الزعيمان يخدعان بعضهما البعض فيعرض كل منهما أريكة الملك على صاحبه ليفوز بثقته وتعضيده؟ على أن في أسلوب هذه القطعة ضعفا يدل دلالة تكاد تكون واضحة على أن ناحية الترجيح في قيامها تغلب على ناحية الشك.
على أنه مهما يكن من أمر فإن عرابي باشا لم ينزل عن نزعات أمثاله من زعماء الثورات العسكرية في أنحاء الدنيا برمتها، فهو من طينتهم ومعدنهم. على أنه بالرغم من هذا بطل، ولكنه سيئ الحظ منكود الطالع.
برقين - 1926
خداع الطبيعة
للطبيعة سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وكل ما في الطبيعة من جماد ونبات وحيوان مندمج فيها، لا يخرج عن قطرها ولا ينفلت عن سلطانها.
وهم الذين يقولون بأن الإنسان سيد الطبيعة، وأنها مسخرة له، وأن السماء والكواكب والسيارات لم تخلق إلا للإنسان، كأن الإنسان، ذلك الدابة المفكرة، محور الكون وأساس النظام العالمي، ذلك مبلغ ما وصل إليه تجبر الإنسان وعنته. والحقيقة الواقعة أن الإنسان لم يخرج عن كونه نتاج تفاعل الظاهرات الطبيعية الخاضعة لحكم السنن العامة، فهو ابن رأي للطبيعة فيه لا يتبدل ولا يتغير، وكل ما في الإنسان من ظاهرة راجع إلى فعل الوراثة الخاضعة لحكم النواميس الطبيعية الثابتة. غير أن الإنسان مهما كان خضوعه لحكم الوراثة الطبيعية ثابتا، فإنه - كما يقول السير «راي لنكستر» - «ابن الطبيعة الثائر »، ولكن ثورته سلبية ، لأن خضوعه لأحكام الطبيعة عام شامل.
نورد لذلك مثلا من عالم النبات نطبقه على الظاهرات النفسية التي تقع تحت حسنا كل يوم.
قسم العلماء مملكة النبات إلى قسمين عظيمين: الأول النباتات اللازهرية «الكربتوجامية»، والثاني النباتات الزهرية «الفنيروجامية»، وميزة القسم الثاني أزهار بهية الألوان أخاذة بالأنظار والألباب، تجذب نحوها العضويات الحية من الحشرات بنضرتها وجمالها وبهي ألوانها.
أما النباتات اللازهرية فلا زهر لها، وجماعها على وجه التقريب من الحشائش ذوات الفلقة الواحدة. وأما النباتات الزهرية فجماعها من الأشجار والأعشاب ذوات الفلقتين، وينطوي تحتها معظم أنواع مملكة النبات وأجناسها. وترى أن النباتات الزهرية كلما انحطت مرتبتها كان الأمر على عكس ذلك، والشواذ في هذه القاعدة نادرة. فما هو السبب الذي جعل ذوات الأزهار العليا تمتاز على ذوات الأزهار الدنيا ببهاء اللون والتناسق والجمال؟
ثم تجد من جهة أخرى أن الأشجار، على الضد من الأعشاب، كلما كانت أسحق في الارتفاع قل جمال أزهارها، وكلما كانت أقل ارتفاعا زاد جمال أزهارها، فما السبب في ذلك؟
السبب في ذلك يعرفه مذهب النشوء والارتقاء، ولا تعليل لهذه الظواهر بغيره. •••
كل ذوات الأزهار تخرج زهرا فيه عضوان: عضو تذكير وعضو تأنيث، فيخرج من عضو التذكير غبار أشبه بالهباء، ويدعى علميا ب «اللقح النباتي»، وفي عضو التأنيث بروز يقال له «الاستحمانة». فإذا نقل اللقح من عضو التذكير إلى الاستحمانة في عضو التأنيث، تم اللقاح وأخرجت الشجرة بزرا يحفظ نوعها ويكثر نسلها، أما إذا تعذر ذلك فإن النوع لا محالة ينقرض ويفنى. وقد تحمل الزهرة الواحدة عضوين، أحدهما للتذكير والآخر للتأنيث معا، بحيث يقارب أحدهما الآخر في الوضع. وقد تختص أزهار في بعض الأنواع بإنتاج أعضاء تذكير صرفة، وأزهار بإنتاج أعضاء تأنيث لا غير. وقد تختص أنواع بأشجار تنتج أزهارا فيها أعضاء تذكير، وأشجار غيرها تنتج أزهارا فيها أعضاء تأنيث فقط. وفي كل هذه الحالات تحتاج الأزهار إلى فعل مؤثر ذي قوة وبأس، يحمل اللقح من زهرة إلى أخرى أو من عضو إلى آخر أو لقح أزهار شجرة إلى أزهار أخرى، ليتم اللقاح ويحفظ النوع من الانقراض والفناء.
ومن أغرب ما في الطبيعة من حكمة تعلل لنا السبب في أن الأشجار الباسقة لا يكون في أزهارها جمال بقدر ما في أزهار الأشجار القصيرة السوق؛ أن الأولى في غير حاجة لتلقيح الحشرات إياها، فتكون أزهارها صغيرة الحجم وألوانها مقاربة إلى درجة ما للون أوراقها، بل إنها لا تكاد تتميز عن الأوراق إلا باعتناء تام، كشجر البلوط والكافور، ولذا كان هبوب الريح طريق تلقيحها الطبيعي، ناهيك بأن الرياح عامل طبيعي لا إرادة له ولا حس فيه بالجمال، ولا دافع له على الحصول على حاجيات للحياة يسوقه إلى ارتياد الأزهار مجذوبا إليها بحسن رونقها وزاهي ألوانها أو شهي عصارتها النباتية. ذلك على العكس من الأنواع القصيرة السوق، فإن حاجتها إلى الحشرات كبيرة، لذلك تكون أزهارها عظيمة الحجم، ذوات ألوان مختلفة متناسقة.
أما الأزهار التي تلقحها الحشرات، ففضلا عن احتياجها إلى بهاء اللون وكبر الحجم، لتظهر على أغصانها جلية لأعين الحشرات؛ فإنها تفرز عصارة شهية تقدم الحشرات على اجتنائها برغبة كبيرة. وهذه العصارة الرحيقية تفرزها غدد خاصة، فتجري من ثم في قنوات خصيصة بذلك أو تظهر مترشحة على ظاهر أعضاء الزهرة داخل التويج غالبا. ولهذه العصارة فائدتان: الأولى أنها تجذب الحشرات إلى الزهرة لتجني رحيقها الشهي، والثانية أن هذه العصارة لزجة كالغراء، فإذا لامست جسم الحشرات أو خراطيمها أو ملامسها أو أرجلها، ثم لامست الحشرات سداة عضو التذكير الذي ينتج اللقح؛ علق اللقح بسهولة بأعضاء الحشرات، فلا يذهب كله سدى، بل يكون نقله إلى الاستحمانة في عضو التأنيث محققا.
هنالك يقع التناحر على البقاء، وهنالك يفتح للطبيعة مجال الانتخاب الطبيعي، فإن الأنواع التي تكون أزهارها أبهى لونا أو أكبر حجما أو أكثر إنتاجا لتلك العصارة، تكون بحكم الضرورة أجذب للحشرات وأكثر لقحا وأكبر إنتاجا للبذر وأقل إسرافا من اللقح، فيكثر عدد أفرادها الناتجة، وبذلك تتغلب على غيرها من الأنواع التي تكون أزهارها أقل بهاء في اللون أو أصغر حجما أو أنضب في إنتاج العصارة النباتية معينا. هذا سر التناحر على البقاء، وهذا ما يؤدي إلى الانتخاب الطبيعي، ومن هنا يستحدث الجمال في طبائع العضويات بحكم الحاجة والضرورة والفائدة لتغاير الأنواع ونشوئها. •••
ارجع بعد ذلك إلى العالم الإنساني، وطبق هذه الظاهرة على الحياة اليومية، وتأمل قليلا في تلك الحالة النفسية التي تجتذب أنظار كثير من الرجال والسيدات إلى واجهات المخازن العمومية الكبرى؛ تجد أن الحالة في الطبيعة المطلقة هي بعينها الحالة في الطبيعة الاجتماعية، فالناس أمام الحوانيت الكبرى متهافتين على باهي ألوان الأقمشة وتناسق الصناعة، كالحشرات في تهافتها على الأزهار ذوات الألوان الجميلة التامة التناسق. وكما أن في الطبيعة تنحارا على الحياة بين الأنواع، فإن في الاجتماع تناحرا على الحياة بين المنتجين، فالمصنوعات كلما كانت أتم نسقا وأبهى لونا وأكثر تآلفا في أجزائها وأجذب لأنظار الناس، امتازت على غيرها بمهيآت البقاء.
لنا بعد ذلك أن نقول إن في الطبيعة قوة للخداع والمخادعة، تنصرف إلى جانب الخير لا إلى جانب الشر، إذ تعود بالنفع على الخادع والمخدوع!
ألا يحق لنا أن نقول بأن في الطبيعة حكمة ترجع إلى إرادة عاقلة تصدر عنها، مصروفة إلى الخير المحض لا إلى النفع الخاص؟ وألا يصح أن نقول بأن الإنسان لا يستطيع أن يخادع الطبيعة إلا ويكون مخدوعا من جانبها؟ ألا يخلق بنا أن نقضي بأن نسبة الفرق بين جمال الصناعة الإنسانية الخارجة من يد المدنية الحديثة وبين جمال الزهرة الطبيعية الوادعة؛ كنسبة الفرق بين بدائع القوة الخالقة العظيمة وبين الصناعات البشرية؟ •••
غير أننا نتساءل ما هو السبب في وجود تلك القوة الخفية التي تصرفها الطبيعة إلى مخادعة الأحياء؟ سببها أن الطبيعة موكلة بحفظ الحياة فوق هذا السيار، حتى من طريق الموت والفناء، فهي تفني صور الحياة وتذهب بأنواع ما إلى الانقراض، وتنثر لقح النبات سدى، لا لشيء سوى أن تحفظ حياة الأنواع متمشية بها في طريق الارتقاء منتحية كل سبيل متذرعة بكل وسيلة تسلم بها إلى تلك الغاية، فهي كما يقول «جوته» كبير مفكري القرن التاسع عشر: «إن الطبيعة إذ تفرط في الإسراف من جهة، تسرف في الاقتصاد من جهة أخرى»، لذلك نقول بأن قوة المخادعة التي تقع عليها في الطبيعة لا سبب لها إلا حاجات الأحياء ومنافعها.
خذ لذلك مثلا مبدأ المحاكاة في الطبيعة -
Mimiery - فإنه مبدأ ينطبق على كثير من الصور الدنيا كما ينطبق على جزء قليل من الصور العليا في عالم الحيوان، كما أن له أثرا في عالم النبات، فمحاكاة الحشرات للبيئة المحيطة بها من أكبر الوسائط التي تتذرع بها الطبيعة لوقاية أنواعها. ولا تقتصر هذه الوقاية على رد غائلة أعدائها عنها، بل تتعدى إلى حفظ حياة بعض الأنواع، إذ تهيئها بفرصة تجعل حصولها على غذائها أكثر سهولة، فإن الحشرات العضوية مثلا، وهي التي تشابه العصا، لا يمكن أن نفرق بينها وبين أي غصن من الأغصان التي اعتادت ارتيادها، وبذلك تتهيأ بفرصتين: الأولى خديعة أعدائها، والثانية مخادعة فرائسها، إذ تنبو عن أنظارهم، فيفوت الأولين افتراسها، ولا يفوتها افتراس الآخرين.
عثرت ذات يوم على حرباء في شمالي مصر، وكانت على غصن شجرة بجواري، ولم ينبهني إليها إلا طفل صغير أمسك بها فأزعجته حركتها البطيئة، إذ كان يتصور أنها جزء من الشجرة لا حيوان متحرك، فنقلتها إلى غصن شجرة أخرى أقل اخضرارا، فامتقع لونها أولا ثم لم تلبث أن أصبحت بلون ورق الشجرة تماما، ولما لففتها بقطعة قماش سوداء اسود لونها بسرعة، ثم نقلتها فجأة إلى صندوق لففته بقطعة قماش حمراء فاحمر لونها إلى درجة ما، وهكذا دواليك لا يحيط بها وسط إلا واندمجت فيه بسرعة حتى ضرب بها المثل في التقلب وعدم الثبات على شيء واحد. والظن الغالب أن الطبيعة لم تحب الحرباء بهذه الصفة إلا لتعوض عليها ما خصتها به من ثقل الحركة وبطء الانتقال، فإنها إذ تقتات على الحشرات دون غيرها لا تستطيع أن تقبض عليها إلا إذا خدعتها الطبيعة عن الحرباء بخداع المحاكاة في اللون. والحرباء لا تهاجم فرائسها، بل تظل إذا ما أخذت لون الوسط المحيط بها واقفة بضع ساعات تنتظر أن تقترب منها حشرة فتلتهمها، فلو أنها خصت بصفة الثبات على حالة واحدة لاستطاعت الحشرات أن تميزها بسهولة، وكان من الواجب في تلك الحال أن تخصها الطبيعة بسرعة الحركة وإلا انقرض نوعها.
ولا تدل المحاكاة في مباحث التاريخ الطبيعي على مشابهة آتية من طريق الإرادة والإدراك، فإنها صفة لا إرادية تتصف بها الحيوانات وتوجه بكليتها إلى نفع الأحياء. وكل ما يعنى بالمحاكاة إنما ينحصر في مماثلة ذات فائدة تعطي الحيوانات المحاكية فرصة للاختفاء عن أعين مفترسيها، أو تزودها بصفة تجعل حصولها على غذائها أكثر سهولة وأسرع متناولا.
وليست المحاكاة صفة شائعة بين الحيوانات العليا، فهي نادرة بين الحيوانات الفقارية، وهي أشد ندرة بين الثدييات، فإن علماء التاريخ الطبيعي لا يروون من حالات المحاكاة بين الثدييات سوى حالة اختص بها جنس يقطن بعض جزر الملايو ويدعى اصطلاحا في اللسان الحيواني «الكلادوبيت
Cladobates » وهو من الحيوانات الحشرية آكلة الحشرات
Insectivora ، فإن كثيرا من أنواعه تحاكي السنجاب العادي في الحجم واللون وفي كثاثة شعر الذيل وكثافته، ولقد قال فيه العلامة «وولاس» زميل «داروين»: إن هذه الصفة قد تساعد تلك الأنواع على أن تفترس الحشرات والطيور التي تغتذي بها بسهولة، إذ تخدع عنها تلك الحيوانات بالسنجاب الذي لا يأكل إلا الثمار. وفي هذه الحال وغيرها من الحالات الشبيهة بها لا تعد المحاكاة صفة واقية، أي صفة سلبية، بل صفة هجومية إيجابية ينتفع بها الحيوان في الحصول على غذائه.
أما في الطيور فقد ذكر مستر «وولاس» أن مشابهة «الكاكو
Cuckoo »، وهو طير ضعيف الجسم فاقد القوة لا يحسن عن نفسه دفاعا، لجنس البازي ولطيور الفصيلة الدجاجية
Gallinaceous Tribe ؛ قد تعد حالة من حالات المحاكاة الحقيقية. غير أن لدينا مثلا آخر من أمثلة المحاكاة بين الطيور، ففي أستراليا وما يجاورها من البقاع يقطن نوع من الطير يقال له في اللسان الحيواني «تروبيدورنكس
Tropidorhynchus »، تكونه أفراد من الطير قوية العضلات كثيرة النشاط، مجهزة بمخالب قوية، ومناسر حادة مرهفة، ومن عاداته أن تجتمع أفراده في جلبة وصياح عال، فتستظهر على أنواع الغربان والبزاة على قوتها في القتال وصبرها عليه، لأن ذلك النوع فيه قدرة على النزال، فضلا عن حبه للمغالبة وخوض المعارك الحامية الوطيس. وفي نفس تلك المنطقة تعيش أنواع أخر من الطيور المغردة تكون جنسا يسمى «ميميتا
Mimeta »، وهي لا تشابه بقية أجناس فصيلتها، فإنها ضعيفة البنية قاتمة اللون، فهي إما سمراء وإما زيتونية إلى خضرة داكنة. وتجد أن أنواع هذا الجنس تشابه في كثير من الحالات أفراد «التروبيدورنكس» التي تقطن وإياها في بقعة ما، ففي جزيرة «بورينو» مثلا تتشابه أنواع الجنسين مشابهة كبيرة، أتى على ذكرها العلامة «وولاس» وأفاض في وصفها ببلاغته المعروفة.
وذكر مستر «وولاس» عند المحاكاة بين الزواحف أمثالا فيها غرابة، فإن في أمريكا نوعا من الأفاعي الاستوائية السامة يدعى في اللسان الحيواني «إيلابس»، مطوق الجسم بدوائر ذات لون بهي لامع، تحاكيه عدة أنواع من الأفاعي غير السامة، ولا تمت إليه بشيء من الخصائص والعادات الحيوية، ولكنها تقطن معه في بقاع ما، فالأفعى السامة التي تقطن مقاطعة «غواتيمالا» وتسمى اصطلاحا «إيلابس فلفوس
Elaps Falvus » لها دوائر سوداء على جسم كهرماني إلى حمرة، أما غير السامة وتدعى اصطلاحا «بليوسيرس إكوالس
»، فتشابه الأولى في اللون تماما، وهذه الصفة تهيئ الأفعى غير السامة المعدومة السلاح بمهيئات الوقاية، لأنه كثيرا ما تنفر منها الحيوانات، وعلى الأخص الطيور التي تغتذي بها، إذ غالب ما تخدع عنها بالأفعى السامة، وبذلك تتهيأ لها فرص البقاء.
على أن المحاكاة لا تقتصر على أنواع الحيوان وأجناسه وفصائله، بل تتعدى إلى النبات. غير أن أغرب ما وقفت عليه من حالات المحاكاة بين النبات نوع من أهليات أمريكا الاستوائية يشابه كثيرا من أنواع العوسج والقتاد التي تنمو في أدغال متقاربة. ومن صفات هذا النوع أنه مهيأ بمعدات للقبض تنكمش إذا ما لامستها أنواع خاصة من الطير كصغار العصافير وغيرها. وهنالك أفعى كمهاء لا تعيش إلا بالقرب من تلك الأشجار، فإذا وقع طير في شراك الشجرة امتدت إليه الأفعى والتهمته غنيمة باردة. فإذا انقرض هذا النوع من الشجر، أو إذا انقرضت الأنواع التي تحاكيه ، أو انقرضت أنواع الطير التي يقبض عليها ويفترسها إذا ما لامسته؛ انقرضت أنواع من الأفاعي الكمهاء التي تعيش في تلك البقاع.
وهكذا تجد في الطبيعة من أمثال هذه العظات البالغة ما يقف أمامه العقل مبهوتا. ويكفي للباحث الخبير أن يقف على سر من تلك الأسرار التي تقوم عليها الحياة العضوية فوق هذه الأرض؛ ليعلم أن جهل الإنسان بحقائق الكون يزيد بنسبة علمه، فالإنسان في دائرة البحث مثله كمثل من يصعد في سلم حلزوني يزداد اتساعا كلما ازداد ارتفاعا، وهو كلما صعد فيه يمتد نظره إلى علم مجهول لا نهاية له.
النهضة الشرقية الحديثة
أظهر مظاهرها وأبقى آثارها
تكاد تكون «النهضة الشرقية» لكثرة ما تلوكها الألسنة اصطلاحا يدل على منحى برأسه في مناحي التاريخ الحديث، فلا تكاد تفتح صحيفة أو تتصفح مجلة حتى تجد «النهضة والشرق» متضايفين متلازمين تلازم أسماء الأعلام المكونة من مضاف ومضاف إليه، ولقد ثبت بجانب هذا الاصطلاح اصطلاح آخر هو اصطلاح «الأدب الجديد». وكلاهما اصطلاح من أوضاع السنوات العشر الأخيرة لم يخرجا بعد عن طبيعة المصطلحات، إذ تحمل أكثر من معنى وتدل على أكثر من فكرة واحدة.
يقول لك قائل إن الشرق في نهضة وإن الأدب في تجديد، فإذا سألته ما هي أظهر مظاهر النهضة الشرقية؟ أو ما هي أظهر مظاهر التجديد في الآداب؟ خرج بك في نظرية إلى أخرى وولج بك من باب إلى باب، من غير أن ينتهي إلى نتيجة محدودة أو غاية معروفة. والحق أن ذلك راجع إلى طبيعة المصطلحات، وهي من طبيعتها قريبة جهد القرب من طبيعة التعاريف والحدود، إذ تتحيز في ذهن كل باحث على مقتضى الآراء التي هي أكثر من غيرها في ذهنه ثباتا وأشد استقرارا.
وقد تدل هذه الفوضى الفكرية على أشياء عديدة، فهي إما أن تدل على اضطراب في الأفكار يخيل إلينا أنه نهضة صحيحة، وإما أن تدل على عجز في أساليبنا الفكرية التي انتحيناها في العهد الحديث يحول بين قوانا المفكرة والكشف عن حقيقة شيء تحيط بنا أسبابه ولا نستطيع تحديده ، وإما أن تدل على نزعة إلى نهضة لم نبلغ بعد أسبابها، وإما أن تدل على أننا أخذنا بأسباب نهضة صحيحة غيرت من أساليبنا العتيقة التي ورثناها عن القرون الوسطى.
لهذا ولكثير من الأسباب أشعر بعبء المسئولية إذ أحاول أن أكتب في أظهر مظاهر النهضة الشرقية خلال الخمسين الفارطة من السنين، وما يرجع شعوري بهذه المسئولية إلى شيء مثل رجوعه إلى الاعتقاد بأننا محتاجون إلى تحديد معنى النهضة تحديدا دقيقا قبل أن نحاول الكتابة في أظهر مظاهرها.
على أنه من الجائز أن أحدد النهضة تحديدا يخالفني فيه كثير من الكتاب والباحثين، غير أني على أية حال لا أستطيع أن أعدو القاعدة قبل أن أفكر في موضوع كثر فيه الجدل واختلفت فيه وجهات النظر اختلافا كبيرا، فلست أجد في استطاعتي أن أحدد معنى النهضة تحديدا يبعد عن مقتضى ما توحي إلي به أشد الآراء في ذهني استقرارا وأكثرها ثباتا، وما أجد في ذهني اليوم من الآراء ما هو أشد ثباتا من رأيين: الأول أن النهضة لن تحدد بأكثر من أنها تغير من الأساليب على مقتضى الحاجات العامة التي تحيط بالجماعات، والثاني أن تغير الأساليب من مجموعها وجزئياتها يجب أن يساير سنن النشوء والارتقاء حتى يصبح أساس النهضة ثابتا بعيدا عن السطوة القائمة على غير أساس طبيعي.
أما إذا حددنا النهضة على مقتضى هذا الرأي وتساءلنا: أمن نهضة في الشرق؟ لم يسعنا إلا أن نسلم بأن الشرق الأدنى قد أخذ بأسباب نهضة كبيرة تناولت كثيرا من الأساليب العتيقة التي ورثناها عن القرون الأولى، غير أننا بجانب هذا لا ننسى أن نذكر أن تغير أساليب الفكر العلمي والأدبي في الشرق بأجمعه لا تزال في درجة فاتها فيها كثير من الأساليب الأخرى التي تكون مهيئات النهضة العامة. أما إذا تساءلنا: هل ماشت أساليب النهضة على مقتضيات النشوء والارتقاء؟ فإننا لا نستطيع أن نجيب جوابا يرضي نزعة المتفائلين، فإن الفوضى التي نرى بواعثها محيطة بنا ليس لها من سبب إلا أننا لم نماش روح النشوء والارتقاء في تهذيب الأساليب القديمة وبناء الأساليب الجديدة. لهذا نقول بأننا في عصر انتقال، وما عصر الانتقال لدى الواقع إلا عصر تتهدم فيه أساليب عتيقة لتحل محلها أساليب مستحدثة، من غير أن يكون لقواعد النشوء والارتقاء نصيب في الهدم والبناء.
نخلص من هذا بنتيجة محصلها أننا بدأنا بنهضة، أو بالأحرى أننا في غمرات نهضة، أثر النشوء والارتقاء في بناء أساليبها الجديدة وتهديم القديمة ضئيل، وأن ذلك هو السبب الأوحد فيما يغشى نهضة الشرق من الفوضى الاجتماعية، بل إننا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا السبب هو الذي يجعل يقيننا بمستقبل النهضة متراوحا بين التشاؤم والتفاؤل والشك واليقين.
الأساليب مثل تقبض على زمام الشعوب بخناق وتأخذ الجماعات، وعلى قدر ما يكون في تلك المثل من الرقي أو الفساد تكون منزلة النهضة التي تقوم على تلك الأساليب بمقتضى الضرورة، فأي الأساليب انتحت أمم الشرق الأدنى فيما نسميه بنهضتها الحديثة؟ وأي أسلوب من تلك الأساليب العديدة كان أبعد غورا في تصوراتها ومشاعرها فكان بالاستتباع أبلغ أثرا في تكوين نهضتها؟ ولا خفاء أن الجواب على هذا السؤال يسلم بنا إلى الحكم في مظاهر النهضة الشرقية أيها كان أمعن في التصور العام تغلغلا وأثبت في هز النفوس نحو النهوض يدا.
وأما إذا تساءلنا هل تورث أساليب الفكر والحضارة كما تورث الصفات العضوية من السلالات القريبة الأنساب؟ لما وسعنا إلا أن نقول بأن أساليب الفكر لا تورث، وما يدلك على شيء من حقيقة هذا الرأي مثل نظرك في وراثة العرب عن العالم القديم، فالعرب ورثة الرومان، والرومان ورثة اليونان. غير أنك تجد أنه بقدر ما كان في الأساليب السياسية والاجتماعية الرومانية من أثر الحضارة اليونانية، تجد أن حضارة العرب كانت أقل الحضارات تأثرا بالأساليب الرومانية واليونانية، ولعل السبب في هذا أن مدنية العرب قد تأثرت بدعوة جديدة قامت على أساليب مغايرة تمام المغايرة لما سبقها من الأساليب. وليس لنا أن نبحث الآن فيما كان من أثر هذه الدعوة في الحضارة العربية، وإن كان إجمال القول فيها ينزع بنا إلى الاعتقاد بأنها كانت ضررا، وأن ضررها قد ظهرت صوره بارزة في كل صفحة من صفحات التاريخ العربي.
ويكفي عندك أن تنظر في الفرق بين أساليب الحكم والقانون في مختلف هذه المدنيات، تجد أن الرومان قد تأثرت أساليبهم بأساليب اليونان السياسية أكثر مما تأثرت قوانينهم، وأن العرب كانوا أبعد كل الأمم الحديثة عن التأثر بشيء من روح تلك الأساليب.
وليس لي أن أستطرد في الشرح والبيان، وإن كنت كثير الشوق إلى الإفاضة في هذه المقارنات التاريخية التي تظهرنا على حقيقة السبب الذي قعد بأمم الشرق عن مجاراة الأمم الغربية في انتجاع الأساليب التي أسلمت بها إلى حضاراتها الحديثة، لهذا نمضي في بحث موضوعنا قانعين بأن أبين مظاهر النهضة في الشرق القريب هو تغلغل روح القانون الروماني وأنظمة الرومان السياسية، وذلك في معتقدي أعظم ما ورث العالم الحديث عن أسلافه الأول، وأهم ما أدمج في تضاعيف الأساليب الحديثة المسايرة لمقتضى الحاجات الاجتماعية التي تحيط أسبابها بأمم الشرق في هذا الزمان. •••
لقد تغيرت الفكرة في القانون تغيرا كاملا في الحضارة الرومانية، فمن فكرة فيه على أنه شيء يجب أن يطاع، لأنه مجرد إرادة شخص أو ذات سادت على الناس ولها من القوة ما تستطيع به أن تفرض عقابا على كل من يحاول الاعتداء على قانونها الإرادي؛ إلى فكرة سامية توحي إلى الناس بأن القانون إنما يمثل تلك الإرادة العامة أو الإدراك العام المستمد من روح الجمعية الإنسانية، وأن الخضوع للقانون إنما هو خضوع للحاجات التي تتطلبها مصالح الأفراد والجماعات، أو هو عبارة عن أسلوب من المكافأة بين الحالات الاجتماعية ومقتضيات الواقع المحسوس.
وبعد أن تغير النظر في القانون وأصبح لأول مرة في تاريخ الدنيا قائما على هذا الأساس الاشتراكي الثابت، ظهرت نتائج عديدة ظلت مؤثرة أثرها المحتوم في كل ما ظهر في النظام الاجتماعي الحديث من الصور، ولقد مضت تلك النتائج ملابسة لمرافق الحضارات منذ بداءة العصر الروماني، وما كنت لترى لها من أثر في كل المدنيات التي قامت وفنيت فوق هذه الأرض من قبل.
كانت أول تلك النتائج الاعتقاد بأن القانون شيء فيه مطاوعات الاشتقاق والنشوء، وأنه ليس بالشيء الجامد المستمد من مصادر ليس للعقل ولا للإرادة الإنسانية أن تمتد إلى آثارها بتبديل أو تغيير. فإن الاعتقاد بأن القانون ليس سوى ذلك التصور الذي يقوم عليه ما نسميه العدل، وأنه ليس بحق الأقوى في فرض إرادته على غيره، قد أدى بالناس إلى معتقد آخر محصله أن القانون شيء ينمو وينشأ على مقتضى الحالات والبيئات، وأنه لا بد من أن يمضي متغيرا حتى تتم الألفة بينه وبين ما يتطلع إليه الناس من بلوغ الغاية المثلى في الآداب العامة.
أما تصور القانون خلال المدنيات القديمة برمتها فكان على نقيض التصور الروماني، فإن القانون في تلك العصور لم يخرج عن أحد أمرين: فإما مجموعة من مختلف الإرادات يفرضها تعصب الفاتحين والأمراء المستبدين بأمرهم، وإما مجموعة من الأوامر والنواهي تستخلص من عالم الغيب تصورا، وتؤخذ على أنها إرادة الآلهة الموكلين بأمر هذا العالم. من هنا ذاع الرأي بأن القانون شيء ثابت لا ينتابه تغير ولا يعتريه تبديل أبدا، وما ذاع هذا الرأي إلا مطاوعة للاعتقاد بأنه النتيجة المباشرة لما تفرضه القوة المتسلطة على رقاب الناس. أما مضى الجماعات قانعة بأنها ملزمة بطاعة القانون فلم يكن راجعا إلى الاعتقاد بأن ذلك مساير لمقتضى الحق والعدل، بل لأن القوة التي تفرضه عليهم لا يمكن مقاومتها، لهذا ظل القانون طول الأعصر التي سبقت العصر الروماني تقليدا جامدا مواتا، لا تغيير ينتابه ولا تبديل يغشاه.
على هذا مضى الإنسان خاضعا لحكم الوراثة والتقليد الذي خرج به عن قانون الجمعيات الإنسانية في عصور الهمجية الأولى، وظلت الجماعات موقنة بأن القانون تفرضه عليهم إرادة خارجة عن إرادتهم، وأن الواجب عليهم إطاعته، لا لأنه حق وعدل بل لأنه تنفيذ لإرادة الأقوى، حتى ظللت العالم مدنية الرومان بظلالها الوارفة، وحينذاك تغيرت الفكرة في القانون، وعلى أثر الرومان سارت الجمعيات البشرية الراقية في كل عصور الحضارات الحديثة. على أن هذا لا ينافي القول بأن اليونان أول من فرخت في عقولهم جرثومة التشريع على قواعد مبتكرة.
هنالك نتيجة أخرى اقتضاها تغير الفكرة في القانون، فإن الجماعات التي تنظر في القانون نظر القانع بأنه ليس خاضعا لإرادة الأفراد ولا لسلطان الأثرة والقوة، ولا لموحيات الغيب، بل تنظر فيه على أنه أداة ينميها العقل وتقضي بها حاجات الاجتماع، وبذلك يصبح خاضعا للنماء قابلا للنشوء؛ لا بد من أن تشفع هذا الاعتقاد بآخر مكمل له، هو أن القانون إنما تلده الآداب العامة، وأن الآداب ليست نتاجا للقانون، فإن القانون أينما نظر فيه نظرة اليقين بأنه شيء قابل للنشوء خاضع للارتقاء، فلن تجده إلا سائرا في سبيل يكافئ من ناحية بين خصائصه الكامنة في تضاعيفه وبين ما تتطلب الآداب العامة من المبادئ خلال كل عصر من العصور. غير أن القانون لا يطفر مطلقا إلى الغايات والمثل التي ينشدها الفلاسفة، ويدعو إليها الخياليون، بل يمضي في هوادة الحكمة وتؤدة النشوء مسايرا لمطاليب الآداب العامة يمثلها السواد الأعظم في جماعة ما، تاركا تصورات الغايات والمثل العليا محصورة في عقول الطبقات المنتقاة.
وبعد أن بلغت الفكرة في القانون هذا المبلغ، وأصبح القانون عبارة عن قوة معنوية تمثل تلك الصور التي تستحيل إليها الآداب العامة في جماعة ما؛ سايرت الفكرة في طاعة القانون مقتضى ذلك الحال، فحملت على ناحية الاقتناع باحترامه لذاته لا لشيء آخر، وأضحت القوات القائمة على صيانة القانون مسخرة لدى الواقع للمحافظة على مصالح الأغلبية الخاضعة له ضد الأقلية الخارجة عليه.
أما النتيجة الثالثة التي اقتضاها تغير النظر في القانون، فشعور الناس بأن القانون، وقد أصبح الحارس المسخر لصيانة مصالح الجماعة، القائم حفيظا على كيانها وحقوقها؛ شيء مقدس يجب أن يبذل كل فرد ما يستطيع في سبيل حمايته، حذر أن تجتاحه نزعات فاسدة تتحكم فيه بمثل ما تحكمت في العصور الأولى. وعلى مقتضى ذلك لم يصبح القانون قوة عمياء تتسلط في رقاب الناس ومصالحهم تسلط الاستبداد والعسف، بل أصبح منفعة عامة من حق كل فرد أن يدافع عنها بالوسيلة التي يراها ناجعة إذا ما امتدت إليها يد طامعة تحاول الافتيات على حرمتها.
ولقد تقوم فى رءوس بعض الأفراد تصورات توحي إليهم بأن ما يتطلب الخضوع للقانون من ضروب الإلزام قواسر تنافي ما تنزع به إليهم مشاعرهم. غير أنه كان لهذه الحالات السلبية نتائج عظمى، فإن الشجار الذي أحدثته ولا تزال تحدثه لم ينتجه إلا ارتقاء في الفكرة القانونية وتطور في تصورات الناس من حيث النظر في مصالحهم العامة. غير أن هذه الحالات نادرة الحدوث، وهي لندرتها لا تؤثر في الفكرة الأصلية التي تقوم عليها الحضارات من ناحية القانون، فكرة أنه ليس من المستطاع أن تبلغ مبلغا من الحضارة ثابتا، من غير أن يعتنق السواد الأعظم من أفرادها مذهب أن الالتزامات القانونية ليس معناها طاعة القانون لمجرد الطاعة القاسرة، بل معناها أن هذه الطاعة يجب أن تكون بمحض الاختيار الذاتي لا خوفا من قوة زمانية ولا روحية، وأن الدفاع عن القانون وحمايته واحد على كل فرد من أفراد الجماعة.
ولما بلغت الفكرة الرومانية في القانون هذا المبلغ تبعتها فكرة أخرى هي أن القانون ما دام عبارة عن تلك القوة التي تقوم حفيظة على مصالح الكل الاجتماعي، وأنه لا بد من أن يمضي متطورا ليحتفظ في تضاعيفه بتلك الألفة التي تتطلبها حاجات المجتمع؛ ترتب على ذلك أنه لا تمس القانون يد غير يد الأمة، أو بالأحرى يد الطبقة المنتقاة من أفرادها بعد انتخابهم على مقتضى ما تتطلب الحريات من الوسائل المشروعة.
هذا ما أدت إليه سلسلة التفكير في القانون على النمط الروماني، على الضد مما قال به خياليو الكتاب، ومن أيد منهم مذهب سلطة الفرد على أن يكون عادلا، فإن النزعة الرومانية كانت تفضل دائما استبداد الجماهير على عدل الأفراد. ولقد أيدت هذه النزعات نظرية أخرى ظلت بارزة في كل العصور، فقد دلت تجاريب الرومانيين العديدة على أن في المساوئ الاجتماعية قوة تذهب بها إلى حد من الصراع والجلاد تفني فيه إحداها الأخرى، كما يستدل على ذلك بتاريخ الصراع بين الطبقات طول عصر الجمهورية والإمبراطورية، فمهما كان في حكم الجماهير من المساوئ فإن نظام التصويت العام يفسح مجال التناحر أمام المساوئ الاجتماعية، حيث يلقي بها في ذلك الجو الذي يمهد السبيل لأقوم النزعات البشرية لكي تسود على غيرها. •••
كان تصور الحرية بعد تصور القانون الأساس الثاني بل الركيزة الثانية التي قامت عليها الحضارة الرومانية. أخذ الرومان الحرية على أنها تصور لا يقوم للإنسانية من معنى سام أو غاية مثلى في نفس فرد أو جماعة من غير أن ينزل منها منزلة التقديس والاعتقاد بأنها من مقومات الحياة الاجتماعية، بل بأنها أول حق من حقوق الإنسان الطبيعية. ومن أجل أنهم اعتقدوا بأن الحرية تصور ثابت يبعث في النفس روحا حية أبدا، وليست بمذهب يجوز أن يجري عليه حكم المذاهب من حيث البقاء والفناء؛ لهذا استعصى عليهم أن يحددوها بالتعاريف، ولهذا تجد أن المعارك التي قامت بها الطبقات الرومانية في سبيل الدفاع عن حريتها والسبل التي سلكتها في هذا الدفاع مشعبة الأطراف كثيرة الحلقات، وهل كان تحطيم قرطاجنة وتشتيت اليهود إلا حلقتين من هذه الحلقات العديدة؟
كان المحور الذي دارت من حوله تصورات الأمة الرومانية هو الاعتقاد بأن الحرية حق طبيعي يقوم بقيام الفرد أو بتكون الجماعة، وأنه ليس لأحد من سلطة في انتزاعه أو انتقاصه من أطرافه. ذلك هو حق الحرية في أن تمضي الجماعة أو يمضي الفرد مقودا بمقتضى ما يوحي إليه به ضميره من تكييف الحالات التي تحيط به في الحياة، وفي توجيه الفرص التي تسنح له كيفما شاء في حدود القانون العام.
أما الحريات عند الرومانيين فثلاث: حرية الإرادة، وهي عبارة عن حرية الفرد في تحديد أفعاله على مقتضى ما تحتمل نفسيته من تصور لغايات الآداب المثلى. وحرية الفكر، وهي حق الفرد في أن يتبع بلا خوف ولا وجل موحيات عقله، من غير أن يعوقه عن ذلك تدخل السلطات ولا كرهية الجماهير ونزعاتها. والحرية السياسية، وهي حق الفرد في أن يتحرر من عسف السلطات الاختيارية وفي أن يشترك في وضع القوانين العامة أو في صبها في قالب تتطلبه المقتضيات، ولا شبهة في أن هذه الحريات الثلاث هي الغايات المثلى التي تتطلبها الجماعات لتكون حائزة لكامل حريتها.
إن النظر في القانون وتصور الحرية على هذه القواعد شيئان لا بد من أن ينتهي بهما الأمر إلى الجلاد والتناحر على البقاء، ولا مرية في أن الجلاد بينهما يكون تاريخ المدنيات الحديثة التي قامت على أساس القانون والحرية متلازمين منذ بداءة العصر الروماني. على أن التناحر بين القانون والحرية لن ينتهي بانتصار أحدهما على الآخر، أو تنتهي صورة من صور المدنية لتقوم أخرى مقامها، فإن القانون إن انتصر على الحرية أصبح استبدادا، وإن انتصرت الحرية على القانون أصبح الأمر فوضى. أما القاعدة الصحيحة في تنازع القانون والحرية من جهة، وتلازمهما من جهة أخرى، فتنحصر في أن الحرية تمد القانون بكل المهيئات التي تحفظ عليه قسطا من قوة الحياة يسير به دائما في مدارج النشوء والارتقاء، في حين أن القانون يمد الحرية بقسط من النظام يوقفها دائما عند الحد الذي إن تعدته انقلبت فوضى. أما النزاع بين المبدأين فباق، وأما التلازم بينهما فخالد، وكلا الأمرين تقتضيه طبيعة الأشياء الإنسانية، وما مثل المدنية في مظاهر الحياة الاجتماعية إلا كمثل الدقائق المادية في مظاهر الطبيعة، فكما أن في الدقائق قوتي جذب ودفع لا بقاء لكيان الدقائق بغيرهما، كذلك المدنية لا بقاء لها بغير قوتي القانون والحرية. وهذه القوى على تنافرها فيها من قوة التأليف ما لا يتفق لغيرها في عالمي الطبيعة والاجتماع.
وأما نصراء القانون في كل أدوار التاريخ فهم المحافظون، وأما نصراء الحرية فهم الأحرار، وهذان الحزبان قائمان في أحشاء كل حضارة تقوم على القواعد الرومانية ولو لم تظهرهما طبيعة النظام الاجتماعي في بعض الأحيان وتحت تأثير بعض الأحوال، ولقد كان لوجود هذين الحزبين في الحضارة الرومانية نتائج لا تزال آثارها حتى اليوم بارزة في جبين المدنيات الحديثة. •••
هذه هي الآثار التي خلفها التشريع الروماني للحضارات التي قامت بعد العصر الذي ازدهت فيه مدنية الرومان ، وتلك هي الأساليب التي انتجعتها الأمم الحديثة في نهضتها القريبة. وما هذه الآثار وتلك الأساليب إلا مبادئ عامة اقتبستها أمم الشرق الأدنى خلال الخمسين الفارطة من السنين، لتجعلها لنهضتها الحديثة أساسا، وهذا في الواقع أظهر ما في النهضة الشرقية من الآثار، قانون من الجماعة وللجماعة يحدد حريتها، وحريات تهيئ القانون بأسباب الحياة، وصراع بين الناحيتين يمدهما بأسباب البقاء ويهيئ للأمم سبل النشوء والارتقاء.
طابع المدنية الحديثة
مدنية الفرد ومدنية الجماهير
يرى كل كتاب العصر الحديث الذين يتجشمون مئونة التفكير في تاريخ التقدم الإنساني أن الشعب اليوناني القديم هو أرقى شعب أقلته الأرض من حيث النضوج الفكري، فما من شيء ابتكر في العلوم، وما من رأي ذاع في موضوع من موضوعات الفلسفة أو نظريتها أو مذاهبها الكثيرة إلا وتجد له بداية في تاريخ الفكر اليوناني. حتى ذلك الشيء الذي يعد من مفاخر القرن التاسع عشر، ذلك الأسلوب اليقيني العلمي الذي ندعي بأن أوغست كونت أول من وضعه، والحقيقة أنه أول من شرحه؛ تجده جليا ظاهرا في مباحث أرسطوطاليس العلمية وفي مقدمات تيوسيديديس التاريخية. وأي كبير فرق بين ما تجد في مقدمات تيوسيديديس وبين ما يدعو إليه اليوم أعلام السوربون في فرنسا من توخي الطريقة العلمية في بحث معضلات التاريخ؟ بل أية ميزة يمتاز بها بحاثو العصر الحديث على أرسطوطاليس في طريقته التي توخاها في شرح المنطق أو التاريخ الطبيعي أو الأخلاق وهي لا تؤمن إلا بما يأتيها من طريق الحواس المستندة إلى المشاهدة وصدق الاختبار؟ لهذا يمضي الكتاب بلا شذوذ معتقدين أن الشعب اليوناني القديم هو أرقى شعوب الأرض من الأسلاف إلى خلائف القرن التاسع عشر.
على هذا نستند إذا نحن مضينا في هذا البحث لنقرر بأن الإنسان لم يرتق منذ العصر اليوناني الأول حتى اليوم في الكفاءات العقلية، فالإنسان في مدى خمسة وعشرين قرنا من الزمان لا يزال يتطلع إلى أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط كأكبر العقول التي أنبتتها الإنسانية في كل عصور تاريخها، وفي ذلك بلاغ بين نستند إليه في ما نريد أن نذهب إليه في بحثنا هذا.
وعلى هذا الرأي ذاته يمكنك أن تعكف إذا أنت أردت أن تنظر في رقي الإنسان الأخلاقي، فإن الأمثال التي ضربها لنا بضعة أفراد أنجبهم الشعب اليوناني القديم لا تزال الأمثال المحتذاة حتى اليوم في آداب السلوك. والسبب في هذا أننا لسنا بأقل منهم معرفة بما يجب علينا من الآداب والأخلاق، بل لأننا نعرف ولكنهم كانوا يعتقدون، كانوا ذوي يقين ثابت في أن الواجب يحتم عليهم اتباع سبيل الفضيلة عملا لا قولا، فهم الذين نفذوا تعريف الأستاذ هكسلي في الدين قبل أن يأتي هكسلي إلى عالم الوجود بخمسة وعشرين قرنا من الزمان، هم الذين عرفوا أن «الدين هو إجلال المثل الأعلى من الأخلاق ومحبة العمل على تحقيقه في الحياة» كما يقول هكسلي أستاذ القرن التاسع عشر. وهم الذين قال لهم شيخ فلاسفتهم الأخلاقيين أرسطوطاليس: «في الشئون العملية ليس الغرض الحقيقي هو العلم نظريا بالقواعد، بل هو تطبيقها، ففيما يتعلق بالفضيلة لا يكفي أن يعلم ما هي، بل يلزم زيادة على ذلك رياضة النفس على حيازتها واستعمالها. ولو كانت الخطب والكتب قادرة وحدها على أن تجعلنا أخيارا لاستحقت، كما كان يقول تيوغنييس، أن يطلبها كل الناس وأن تشترى بأغلى الأثمان، ولكن لسوء الحظ كل ما تستطيعه المبادئ في هذا الصدد هو أن تشد عزم بعض فتيان كرام على الثبات في الخير، وتجعل القلب الشريف بالفطرة صديقا للفضيلة وفيا بعهدها.»
1
ومنذ أن أفلت شمس إغريقية في آسيا وشرقي أوروبا حتى اليوم لا تجد من مثال تحتذيه إلا مثال ذلك الشعب المجيد الذي أورث الإنسانية تراثا من العلم والأدب والفنون لا يفخر به شعب دون شعب، ولا قبيل دون قبيل، بل هو مما يفخر به الإنسان على أنه إنسان ضرب للكون الخالد مثلا أن مستطاعه أن يبلغ من رقي النفس ومن إنكار الذات حد الآداب السقراطية الوضاحة في عصور المدنية اليونانية.
فإذا تركت البحث في الأسباب الخفية الكامنة التي بز بها الشعب اليوناني القديم شعوب الأرض قاطبة ، لما استطعت أن تقع على شيء ينقع غلتك إلا أن تلجأ إلى ما يقول به علماء الوراثة من النشوئيين في هذا الزمان من أن السبب في هذا يرجع إلى صفات توورثت في هذا الشعب ثم نضب معينها شيئا فشيئا حتى تلاشت كوحدة خص بها الشعب اليوناني، وتوزعت على بقية الشعوب التي تخالط دمها بدم اليونانيين القدماء، أو كوراثة تظهر بوادرها من حين إلى حين في بضعة أفراد ما يزالون حتى اليوم أينما ظهروا وحيثما كانوا موضع إجلال الإنسانية وهداتها في ظلمات هذا الوجود. ولكنك إذا لجأت إلى البحث في الأسباب الظاهرة التي ميزت الشعب اليوناني القديم عن كل الشعوب بلا استثناء، وعرجت في بحثك على علم الاجتماع الحديث أمكنك أن تقع على سبب واضح جلي يوقفك على سر ما تريد أن تعرف من أسباب إزاء هذه المسألة التي تظل في نظرك لغزا وعرا ومعضلة معقدة ما دمت بعيدا عن النظر في أسبابها من ناحية اجتماعية صرفة. على أننا لا نريد أن نلف بالقارئ حول الموضوع ضاربين له الأمثال مبينين له الأسباب لنخلص به إلى النتيجة، بل نذهب في بحثنا إلى ضد هذه الطريقة لنقول له: إن الفرق ينحصر في أن الفردية الاستقلالية كانت في العصر اليوناني أقوى منها في كل عصور المدنية، كما أن الاشتراكية الاجتماعية هي طابع هذا العصر الحديث، وهي فوق ذلك نتيجة محتومة للطريقة التي تمشت فيها الجماعات في الأعصر الحديثة.
إن من أكبر الفضائل التي يحسد عليها القدماء - وعلى الأخص الشعب اليوناني القديم - هو بروز الذاتية الفردية واستقلالها فكرا وعملا وبعدها عن التأثر بحياة الجماهير، لهذا تجد أن الفيلسوف منهم ظهر كفيلسوف علم على طريقة من الفلسفة ومضى ثابت اليقين فيما يوحي إليه به عقله وتملي عليه تصوراته ولو ذاق الموت في سبيل مبدئه، ألم يمت سقراط لأنه مضى طوال حياته يحاول أن يفهم الناس أنهم جهلاء وأن الدعوى والغرور أكبر مفاسد النفس وأكبر برهان على الجهل؟ ألم تر كيف جلس ديوجينيس على باب الأكاديمية لأفلاطون مخفيا ديكا عراه عن ريشه حتى إذا ما عرف أفلاطون الإنسان بأنه حيوان أنسل رمى بالديك إلى وسط القاعة قائلا: «هذا إنسان أفلاطون»، وأفلاطون حينئذ ذلك الرجل العظيم الذي كان يبلغ حب تلاميذه له مبلغ حب العباد الصالحين لمعبوداتهم غير المرئية؟ وهل أتاك حديث أرسطوطاليس إذ ناقش أستاذه أفلاطون فأهانه بعض الطلبة، فتركهم حتى إذا انتهز فرصة غيابهم كتب على السبورة هذه الجملة: «نحن نحب أفلاطون ونحب الحق، فإذا اختلفا فأيهما أولى بالمحبة»؟ وهل عرفت حديث ديوجينيس إذ وقف إزاءه الإسكندر المقدوني وهو جالس بجوار برميله الذي كان يعيش فيه وسأله: هل ترهبني؟ فأجابه: هل أنت صالح أم شرير؟ فأجابه: بل صالح. قال: وكيف أرهبك وأنت رجل صالح؟ وسأله: هل تريد مني شيئا؟ فقال: لا، بل تحول قليلا لأنك حلت بيني وبين الشمس. فهم بعض أتباع الإسكندر بإيذائه، فانتهرهم قائلا: «لو لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجينيس»؟
تظهرك هذه الأمثال البسيطة على تكوين شخصياتهم الفردية، وعلى ثبات عقائدهم التي ترضي عقولهم غير ناظرين إلى ما يعتقده غيرهم. وإن أنت علمت أن الكلبيين كانوا يعتقدون أنهم أكثر أهل الأرض ثروة وأعظمهم في الحطام جاها، وهم بعد تلك الفئة التي كانت تعيش عيش الفقر المدقع؛ لتولاك شيء من العجب ولأخذتك نوبة من التفكير العميق، ولكنك لا تلبث أن تقف على تعريفهم الذي وضعوه للثروة حتى تقتنع بأنهم أسمى أهل الأرض نفسا وأعلاهم في المكارم كعبا وأسخاهم أكفا وأندى العالمين بطون راح، كما يقول الشاعر العربي، وإن كانوا أشد الناس فقرا وأشدهم عدما وأمعنهم في الخصاصة؛ يقولون بأن ثروة الإنسان تنحصر في عدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش بغير احتياج إليها، وهو تعريف فيه كثير من الحق الثابت. وهذه الفكرة على غرابتها وعلى بعدها عن المألوف في كل المدنيات لم تعش ولم يعتنقها أفراد يتبعون أحكامها فعلا لا قولا إلا في بلاد اليونان القديمة، والسبب في هذا أن الشخصية الفردية لم تبلغ تمام تكوينها إلا في ذلك العصر الذهبي بحق كما يقولون .
تمثل لك بعض الأسباب الخفية التي كونت شخصيتهم الفردية في معتقد ثابت كانوا يمضون عليه عاكفين، كانوا يعتقدون بأنهم أبناء آلهة تولاهم نزر من الفساد وانتابهم نصيب من الانحطاط، أما نحن في القرن العشرين فنعتقد بأننا أبناء قردة آخذين في أسباب النشوء والارتقاء. وبمقدار ما تجد من الفرق بين نزعاتنا ونزعاتهم، وبين المعتقدين، تجد التباين بين نظاماتنا التي فنيت فيها الشخصيات الفردية في جوف الجماهير وبين نظاماتهم التي فنيت فيها الجماهير في قوة الاستقلال الفردي. وعلى هذا نستطيع وبكثير من الحق أن نقول إن مدنيتنا الحديثة هي مدنية الجماهير.
قلب نظرك في مختلف جهات المدنية الحديثة، وأجل فكرك في نواحيها المشعبة ونظاماتها الكثيرة، ففي أيها تقع على أثر الفرد المستقل بذاته وعقله بعيدا عن تأثير الجماهير؟ بل امض في بحث مستفيض تقضيه في التأمل من تاريخ النظامات الاجتماعية أهلية وقضائية وحربية وغير ذلك، وقل بعد أن تنظر فيها نظرة تأمل عميقة: أي منها لم تنقلب آيته من العمل على حماية الفرد إلى آلة تستعمل لقضاء مآرب الجماهير وإشباع شهواتها الكثيرة؟
غريزة القتال من الغرائز الثابتة في الخلق الإنساني، وهي كغيرها من الغرائز لها بداياتها في عالم الحيوان، فهي من الصفات الموروثة عن آبائنا الأولين، غير أن هذه الغريزة تكيفت في عدة وجوه انتقالية، حتى إذا تكونت الأمم في الأعصر القديمة على أن تكون أمما تسكن المدن وتجمع بين أفرادها مصالح واحدة ونزعات ومشاعر واحدة، نشأت مع ذلك فكرة تكوين جزء من سكان المدنية ليردوا عنها غارات أعدائها ويقومون حراسا على نظامها وعلى كيانها أن تنتابه يد التخريب بمطامع الفاتحين، الذين لم يكونوا ليفتحوا أو يدوخوا بلاد غيرهم من الناس إلا إرضاء لنزوات غريزة القتال الموروثة فيهم كلما حركتها عواملها الخفية. ولما أن ضرب الإنسان بقدمه الثابتة في مدارج المدنية، واتحدت الفصائل الصغيرة فكونت جماعات كبرى، همس وهي الغريزة في ضمير كل فرد من أفراد تلك الجماعات بأنه ملزم بأن يمد يد الحب والعطف وبكل ما أوتي من غرائز الاجتماعية إلى كل أعضاء الأمة التي هو تابع لها ولو لم يكن على صلة بهم، كما يقول العلامة داروين. ولما تكونت مصالح البشر على أن يعيشوا جماعات داخل مدائن العصور الأولى، همس وحي الغريزة فيهم تارة أخرى أن يقاوموا غريزة القتال والفتح بغريزة الاحتفاظ بالذات، فتكونت الجيوش على أن تكون أداة لحماية الأفراد، ولم تقم من حرب هجومية إلا وكان أساسها تخيل الخطر واقعا من ناحية ما، كما حصل في كثير من عصور التاريخ. وعلى الضد من هذا تجد أن أكثر ما تتكون الجيوش في العصور الحديثة، وأكثر ما تلمع حرابها في الأفق أو تبرق سيوفها في ظلام المدنية؛ إنما هو خدمة الجماهير ومصالحها الموهومة، والاعتداء على حرية الشعوب الأخرى اعتداء لا سبب له إلا فتح أسواق جديدة لمتاجر ومصنوعات تزيد على حاجة الجماهير التي تنتجها. وأشد ما تكون اقتناعا بهذا الرأي إذا أنت علمت أن المنتج في العصر الحديث إنما هي الجماهير التي تعيش متطفلة على رءوس الأموال، لا الأفراد الذين استقلوا بعملهم استقلالا يعود به كل الربح الذي ينتج من عمل يدهم عليهم دون غيرهم.
وضعت القوانين والنظامات القضائية في الأزمان الماضية لحماية الفرد المستقل بذاته عن التأثر بحياة الجماهير، أما قضاء عصرنا الحاضر ونظاماته الكثيرة فلم توضع إلا لحماية شركات الاحتكار وأصحاب رءوس الأموال حماية لا خسران فيها إلا على الفرد وعلى استقلاله الذاتي، وما نظام النقابات الحديث الذي أوسعت له القوانين صدرها في العصر الأخير إلا محنة جديدة من محن المدنية، وما تبدل القانون منها بشيء إلا الانتقال من حماية جماهير الشركات إلى حماية جماهير العمال، فالنتيجة حماية الجماهير والقضاء على استقلال الفرد.
ثم ارجع معي إلى النظامات السياسية وقارن بين نظامات العصر القديم والعصر الحديث، قارن بين مشروع وسياسي كسولون، وهو رجل جمع بين العلم والحكمة وبين العمل على سياسة الشعوب بما تمليه عليه حكمته وما يوحي إليه به علمه، وبين سياسي انتهازي من سياسيي العصر الحديث لا يهمه شيء في الوجود إلا أن يعلو منصة الحكم ويظل ما استطاع عاملا على أن يحافظ عليها بكل طريق ممكن. إن سياسي العصر الحديث لا يحتاج إلى علم ولا إلى حكمة أكثر من أن يقف موقف الجاهل القانع بأن تسيره العناصر، غير عالم إلى أين تجتاحه ولا في أية مهواة سوف تلقي به. هو لا يريد أن يعلم من شيء ولا يهمه أن يعرف في العالم شيئا إلا أن يدرس الحالات القائمة من حوله ليعرف من أين سوف تهب رياح الجماهير في الغد ليتقيها بما يستطيع أن يتقيها به من كذب إلى خداع إلى مواربة إلى قوة إن هيأت له الظروف أن يقمع شهوة الجماهير بقوة سلاحه.
لا يعلم سياسي العصر الحديث أن مهمته إرشادية تعليمية، ولا يعلم أنه مسئول عن مصالح الجماهير، ولا يفقه أن الجماهير لا تعقل بل تشعر، ولا يعرف أن استقلال رأيه والتضحية بمصالحه أول ما يطلب منه كمرشد ومعلم معا، لا يعرف شيئا من هذا، هو بعيد عن حكمة الفلسفة، بعيد عن إرشاد العلم، فهو الجاهل بحق ما عليه من المسئولية.
وهكذا الحال إذا تتبعت بقية نظامات الاجتماع على صورتها المدنية الحديثة، مدنية الجماهير، فإنك تجد أن الفرد قد دالت دولته لتقوم عليها دولة الجماعات المنظمة الخاضعة في نظامها لمجموعة من المبادئ الاستبدادية لا أثر لها في شيء إلا في القضاء على حرية الفرد، ذلك الميراث الذي ورثناه عن المدنيات القديمة ولم نحسن القوامة عليه.
على أنك مهما فكرت ومهما أجهدت نفسك في البحث لا تستطيع أن تنظر في مستقبل الإنسان نظرة يرضى عنها معتقدك العلمي ويطمئن إليها ضميرك كفرد تقدس حرية نفسك وحرية غيرك، إلا إذا تبدلت جماعات المدنية الحديثة من نظامها الحاضر السائدة فيه روح الجماهير بنظام يكفل حرية الفرد وينمي كفاياته ومواهبه. على أنني أكاد أتطير إلى حد القول بأن الزمان الذي كان في مستطاعنا أن نرجع فيه عن استعباد الفرد لسلطة الجماهير قد انقضى أجله، وكما بدأ انحطاط زواتوسترا عند «نيتشه» بهبوطه من الجبل الموحش إلى عالم المدنية الإنسانية، كذلك أعتقد أن انقلاب الحال من استقلال الفرد في المدنية القديمة إلى استبداد الجماهير في النظام الاجتماعي أول مدرج سوف تنزلق من فوقه قدم المدنية إلى مهاوي الفساد والسقوط.
القاهرة - 1926
يعقوب صروف
صورة وذكرى - أثره في علم البيولوجيا (1) صورة عامة
بعد أن توفي اسبينوزا هب أصدقاؤه إلى نشر ما خلف من مؤلفات بعد موته، وكان كتابه «الأوبرا بوستيوما» أول ما وقع عليه اختيار الأصدقاء ليطبع وينشر في الناس، ولم يكد ينشر هذا الكتاب حتى هب اللاهوتيون خفافا وثقالا يناهضون آثار الراحل العظيم، ولم يأت يوم 4 فبراير سنة 1678 حتى صب اللاهوتيون لعنتهم على الكتاب زاعمين أنه كتاب «تجديف لم يظهر له من مثيل منذ أن خلق العالم حتى اليوم.» ولم يمض على هذا الحادث قرنان من الزمان حتى تهيأت النفوس وأعدت العقول لأن يقام لاسبينوزا أثر تذكاري كان من حسن الحظ أن يدشنه «رينان» أحد عظماء القرن الماضي ومن أكبر مؤرخي النصرانية، مشيرا بإصبعه إلى النافذة التي كان يطل منها اسبينوزا على ميدان بافلجوين قائلا:
لعل الله كان أقرب إلى هذه النافذة منه إلى أي مكان في الأرض.
وفي يوم الأحد، 10 يوليه سنة 1927، كنت حيث اعتدت أن ألتقي بأستاذي الراحل العظيم الدكتور يعقوب صروف بعد أن وصل إلى سمعي نعيه ببضع دقائق، ولم أكد أقف أمام حجرته حتى رجعت بي الذاكرة إلى حكمة رينان فقلت في نفسي: «لعل الله كان أقرب إلى هذه الحجرة منه إلى أي مكان في الأرض.»
وأي مكان في الأرض يمكن أن يكون الله أقرب إليه، أو هو أقرب إلى الله، من مكان يفيض بالعلم والعرفان والعطف والخلق الرضي والسماحة وحب الأقربين والأبعدين على السواء، كأن منازل العلاقات البشرية قد تساوت فيه، فلا يحس قريب بأنه أكثر دنوا وأوصل رحى من غريب تجمعه بمن حل فيه رابطة علم أو أدب أو أية علاقة من العلاقات الدنيوية التي يشعر بشر فان بأنه إزاءها في حاجة إلى أمل يرجى أو معروف يسري؟
ليت شعري! هل كان الأستاذ الراحل العظيم يحس بدنو الأجل وهو بعد في أظهر مظاهر القوة عقليا وجسمانيا؟ أم كان صفاء نفسه يوحي إليه بأنه قريب لأن يدعى إلى العالم الثاني فيحدثني كلما التقيت به خلال الأشهر الثلاثة التي تقدمت يوم مصرعه في الموت والخلود والفناء وفي الله وفي الأثير؟ كنت وإياه في حجرته قبل أن يختاره الله لجنابه ببضعة أسابيع، وجرى بيننا الكلام في تاريخ الحضارة العربية، ولي فيها رأي كان لا ينفك الأستاذ عن تشجيعي على المضي فيه والتمكين له بكثرة القراءة والبحث، وما زلنا نتنقل من موضوع إلى موضوع حتى عرض لنا الكلام في أثر الثقافة اليونانية في حضارة العرب، وأخذ يكلمني في الدلالات اللغوية التي يمكن أن تكون برهانا على أن العرب ترجموا قواعد علم العروض عن اليونان، ومن ثم طبقوه على البحور العربية، وبعد أن أبدى أسفه لقلة علمه بلغة الإغريق القديمة ليكون أقدر على البحث التفت إلي فجأة بعد صمت قليل كما كانت عادته إذا أراد أن يغير مجرى الحديث، وقال: إذا لم تكن حياة في عالم آخر غير هذا العالم كانت هذه الحياة عبثا في عبث، فقلت: ليس عندنا من برهان علمي يحقق هذه الأحلام، فقال: إذا كانت هذه الحياة مقدمة فلا بد لها من نتيجة، وأية نتيجة يؤيدها القياس المنطقي أكثر من الاعتقاد بحياة أخرى تكمل ما في هذه الحياة من مناحي النقص؟ فأجبته: لعل هذه الحياة لا تكون مقدمة بل تكون نتيجة، إليها المرجع والمنتهى، فأطرق قليلا ثم قال وكأنه يناجي نفسه: الطبيعة سلسلة من السوابق واللواحق، وخط منظوم من المقدمات والنتائج لا تنتهي إلا عند غاية لا نستطيع أن نقف على ماهيتها، فسواء أكانت هذه الحياة مقدمة أم نتيجة فالأمر واحد، لأن المقدمة هي بحكم تسلسل الطبيعة مقدمة ونتيجة تؤدي بدورها إلى مقدمة أخرى، ولا أظن أن نظام الحياة يخرج عن نظام الكون في مجموعه. وكان صمت عميق انسللت بعده إلى ناحية من نواحي المكتبة وأخذت أقلب في كتاب من الكتب العربية القديمة، ولكن فكرتي كانت متجهة بكل ما فيها من قوة الحصر والتذكر إلى هذا الحديث القصير، غير عالم أنه كان مقدمة لنتيجة ظلت حياة الأستاذ الراحل رهنا عليها إلى أجل قريب.
واليوم أكتب هذا الحديث رواية عن الصديق الراحل.
تالله ما أبعد اليوم ما بيننا وبينه! وتالله ما كان أقربه بالأمس إلينا! أفي لحظة واحدة يصبح الإنسان مجرد رواية وخبر بعد أن كان حقيقة ملموسة باليد مرئية بالبصر؟ ولكن من يدرينا، لعل هذه الحياة تكون الخبر عند من يلمس الحقيقة العظمى، بعد أن يفارق السر الكامن فيه هذا الهيكل الترابي؟
وبعد، فلست في موطن أستطيع فيه أن أطنب في الإلمام بذكريات سبع من السنين عقدت خلالها بيني وبين الأستاذ الراحل عرى الصداقة الصحيحة التي حلت عروتها بموته، ولكنها ستظل حية بذكراه. ولو أردت اليوم أن أحيط بكل ما تخلل هذه السنوات السبع من الذكريات العلمية والمباحث العميقة التي تناقشنا فيها، لما وسعني كتاب ضخم ألم فيه بنواحيها العديدة، ولكن حسبي اليوم أن أتكلم فيه كصديق، وأكبر ظني أن هذه الناحية هي أظهر نواحيه كرجل، وفيها تنحصر ماهيته الفردية. ولا أظن أنه كعالم إلا معدود من البيولوجيين أولا، فلا المباحث البيولوجية التي تناولها منذ نيف وخمسين سنة ولا الكلمات الاصطلاحية التي أكب على ترجمتها أو نحتها أو تعريبها، كانت في متناول أحد من المشتغلين بالعلوم الحديثة في الشرق حينذاك، اللهم إلا بضعة أفراد من مجموع الأمم الشرقية التي تنطق بالضاد. وحسبنا اليوم أن نرى فكرة النشوء التي قامت من حولها معارك علم البيولوجيا خلال القرن التاسع عشر بأجمعه، قد أصبحت اليوم من المعارف العامة التي لا يستغني عن الوقوف على دقائقها عقل مثقف على النمط الحديث في أنحاء الشرق العربي كله. •••
أعتقد وأظن أن اعتقادي فيه كثير من عناصر القوة والحق أن الدكتور صروف - رحمه الله - قد حاز أكبر عقل إنسكلوبيذي ظهر بين الأمم الشرقية في العصر الحديث، عقل إنسكلوبيذي من تلك العقول النادرة التي شهد القرن الثامن عشر أعظم من امتازوا به، أمثال ديدرو وفولتير وهولباخ ودالمبير وكوندورسيه، وامتاز به هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر، وباكون وديكارت في حدود العصور الوسطى، وبلينيوس وغيره في العصور القديمة. غير أن لأمثال هذه العقول متجها تتجه فيه، وصبغة تصطبغ بها، بل إن شئت فقل إن لها وحيا وإلهاما يجبرها على أن تتبع خطة لا تحيد عنها وتجد من المتعذر أن تتنكب طريقها المرسوم. فإن امتاز عظماء القرن الثامن عشر بصبغتهم الفلسفية، وإن اصطبغ سبنسر بنزعته التركيبية، وإن عرف ديكارت وباكون بخطتهما الأسلوبية؛ فإن أستاذي الراحل قد امتاز بنزعته العلمية الصرفة التي لم يؤمن بغيرها طوال حياته، فلم يحاربها في عقله أسلوب من أساليب الفكر الأغلب ولا نازلها انفعال من انفعالات النفس على كثرتها إلا قهر وكسر.
على أنه كان في أسلوبه العلمي على نقيض الكثيرين من علماء العصر الحديث، وما نظن إلا أنه كان على حق في أن يناقضهم وأن ينبذ العكوف على طريقتهم كما وضعها فلاسفة القرن الثامن عشر، أولئك الذين وضعوها لا ليؤيدوا بها العلم ولا لينشروا بها المعرفة، بل لينصروا بها نزعتهم الفلسفية التي ساقت بهم إلى الإلحاد وإلى إنكار وجود الله. •••
من مفاخر القرن الثامن عشر أنه حدد الأسلوب العلمي تحديدا دقيقا، غير أن هذا التحديد مع الأسف كاد يلغي الطريقة العقلية الصرفة التي يقوم عليها كثير من العلوم الحديثة، فضلا عن أنها الأساس الذي يقوم عليه صرح العلم في مجموعه، حددوا الطريقة العلمية بقولهم: «كل ما لا تحقق وجوده الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا.» هذه مفخرة القرن الثامن عشر، أما مفخرة القرن التاسع عشر فاعتراف العلماء فيه بأن من الأشياء التي لا ينكر وجودها العقل ما لا يمكن إثباته بالحواس، وأقاموا على ذلك كثيرا من الدلائل العلمية التي لا تنقض، ومن هذه الأشياء: الأثير والعقل ووجود العالم المادي الخارج عن حيز الإنسان والبعد الرابع في النسبية. وكان أستاذي الراحل من أولئك الذين اتبعوا الطريقة العلمية ولم يلغوا العقل، فدل بذلك على مقدار ما كان في نزعاته من حب الحرية العلمية، وما انطوى عليه عقله الكبير من مطاوعات الشك واللاأدرية الفائضة بضروب المرونة الفكرية.
وما يدلك على متجهه الفكري من شيء مثل كراهيته للنزعات المذهبية في أيما متجه اتجهت، فلا المذهبية الفلسفية وجدت إلى عقله طريقا، ولا المذهبية القومية عرفت إلى نفسه سبيلا، ولا المذهبية الطائفية أثرت في وجدانه يوما، ولا المذهبية الدينية قد أخضعت يقينه برهة واحدة، بل ولا المذهبية العلمية تركت في عقله يوما من الأثر ما يمكن أن يكون حائلا يسد في وجهه طريق التفكير المستقل القائم على وزن الحقائق، ثم الحكم فيها حكما بعيدا عن كل المؤثرات التي تبعث بها في النفس رسيس المعتقدات وثابت المذاهب. (2) صروف كعالم بيولوجي (2-1) تمهيد
قلما يستطيع الباحث أن يلم بالآثار الفردية التي يخلفها نابغة كبير في حالات عصره، وعلى الأخص إذا رمى إلى تحديد تلك الآثار من ناحية الفكرة العلمية، فإن الفكر كتيار الكهربائية أو كقبس الضوء أو كشعاع فياض من أشعة الكون، لا نعرف مصدره على وجه التحقيق، ونعجز دائما عن تحديد آثاره التي يخلفها في نفوس الأفراد. أما إذا أردت أن تبلغ الحد المستطاع من تحديد تلك الآثار فارجع إلى القياس الاجتماعي، فإنك في هذا الميدان وحده يمكنك أن توازن بين حالات أجلى ظهورا وأبين صورا.
على أن مهمة الباحث تزداد وعورة إذا أكب على درس الآثار التي يخلفها عقل إنسكلوبيذي تشعبت نواحيه وتفرقت طرقاته وكثرت منعطفاته، فأين يقع في تلك المفاوز الكثيرة على المصدر الذي بعث إلى الحياة بتلك الصور الخالدة المشوبة بروح اليقين، المكسوة بحلل البقاء والخلود؟ لا مرية في أن الوقوع على ذلك المصدر هو المرمى الذي يرمي إليه كتاب التراجم جميعا، غير أن قليلا منهم من استطاع أن يصل إلى ذلك السر الدفين. ولست بطامع في أن أقع على مصدر ذلك الضوء الذي بعث به أستاذي الدكتور صروف في نواحي الشرق العربي وقد أظلمت جنباته وادلهمت طرقاته فأنار السبل للغادي والساري، وأزاح الحجب عن خفي ما أنار لغيرنا السبيل. أما مهمتي فلا أعتقد أنها تتجاوز تصوير تلك الآثار تصويرا يمكن أن نتعقب به النتائج التي خلفها عمل الدكتور الفقيد في عالمي الاجتماع والفكر.
غير أن هذا لا يفوت علي أن ألم ببضعة آثار أخرى خلفها لنا عمله العظيم في نواح تقل أو تزيد علاقتها بالناحية الاجتماعية على حسب المقتضيات وظروف الحالات التي تقوم في المجتمع بين آونة وأخرى، لهذا نتكلم في تلك الآثار واحدا بعد آخر لنحددها على قدر المستطاع. (2-2) الترجمة العلمية
بعد أن انقطعت صلة العالم العربي بالترجمة، وكانت في العصور الأولى مبدأ تلك النهضة الكبيرة التي استمدت من السريانية في مدارس نصيبين والرها وأديرة آسيا الصغرى ومصر والعراق وحران، وأنبتت صلة اللغة العربية بكل لغات العالم تقريبا، وظل المؤلفون والكاتبون قرونا طويلة عيالا على ما كتب الأوائل وما نقل المترجمون. وبعد أن انصرف الشرق العربي كله إلى الاشتغال بالآداب وحدها اشتغالا لم يكن له من قاعدة أو أسلوب اللهم إلا أسلوب الفطرى، أسلوب التقرير دون التحليل، وبعد أن كادت تفتر العزائم حتى عن هذه الأساليب الأولية لكثرة ما لاكتها الألسن وتناولتها به الأقلام من نقل وتغيير، وبعد أن دار الفكر العربي حول دائرة لا يخلص إلى نهاية شوطها حتى يبدأ الشوط ثانيا؛ اتجهت العقول إلى تلك الضجة الكبيرة التي قامت حول مذهب العلامة الكبير داروين، وقد بدأها بنشر مذكراته التي قرئت أمام جمعية لينيوس ثم نشرت في «اللانسيت» وكانت النواة التي اجتمع من حولها الكتاب الخالد «أصل الأنواع». وكان لذلك الاتجاه الجديد أثر عظيم في الشرق، بل أثر لا يمحوه كر الأيام والدهور، أثر أقل ما فيه أنه أخرج عجلة الفكر الشرقي عن دائرتها المحدودة التي كانت تدور فيها فزلت عنها إلى ميدان فسيح مترامي النواحي متسع الجنبات، ذلك ميدان العلم البيولوجي الذي أعتقد بحق أنه محور التقدم العالمي وأن لا ارتقاء لأمة من الأمم أدبيا وعلميا واجتماعيا بغير التوافر على درسه وتطبيق عملياته وتفهم نظرياته العميقة. وكان دكتورنا الكبير أكبر ركن من أركان هذه النهضة الكبيرة، ويدا من أقوى الأيدي التي استقوت على عجلة الفكر فألوت بها عن سمتها الأول وخرجت بها عن قضيب الدائرة القديمة الحديدي فأفلتت تطير في عالم أثيري من الفكر الحديث. على أن الناس في الشرق لم يقدروا حتى اليوم مقدار النتائج التي سوف تترتب على تلك الدفعة التي دفعت بنا فيها تلك اليد القوية، ولا إلى أي حد سوف نبلغ من أطراف ذلك التيه البعيد.
قد يتساءل البعض ما هي تلك القوة التي تزودت بها تلك اليد القادرة على أن تحول عجلة الفكر العربي عن دائرتها القديمة؟ وما هو السر الذي جعل مفتاح العلم يدور مرة أخرى في قفل ذلك الباب الذي أكل الصدأ جوانبه منذ أبعد العصور؟ ولست أجد من شيء هو أهون عندي من الجواب، أما السر فهو تلقيح الأفكار القديمة البالية بأفكار جديدة، وتغيير الأساليب القديمة بأساليب حديثة، وقتل العادات العتيقة التي عكف عليها الفكر بعادات تلائم مقتضى الزمان والمكان. أما الوسيلة فشيء أبسط من هذا كثيرا، وتنحصر في تفهم الجديد من المبتكرات العلمية والفنية والعقلية ونقلها بالترجمة إلى عالم يجهلها. على أننا لا ننسى هنا أن أبسط أشياء هذا العالم هي أكبر معضلاته كما أن في أبسط ذراته تكمن أعظم قواته، أليس هذا وحده بكاف لأن يخلد دكتورنا الفقيد؟ (2-3) العلوم البيولوجية
علم البيولوجيا هو علم الحياة، أو العلم بما هي الحياة. وهذا العلم الحديث، إذا استثنينا الرياضيات والفلك، يكاد يكون العلم الوحيد الذي تربي عملياته على نظرياته بمقدار ما يربي المحيط الزاخر على النهير الصغير، لهذا كان أثره في العالم كبيرا على حداثة عهده.
ومن أعجب ما يقع عليه الباحث المتعمق من طبيعة هذا العلم أن تأثيره في الاجتماع بالذات ثانوي إذا قيس بتأثير فروعه التي تشعبت منه، فالعلم بما في الحياة وما هي الحياة وما هي الكروموسومات وما هي النواة وكيفية التلقيح وما يترتب على كل هذه الأبحاث العلمية من النتائج؛ لا يقاس مثلا بالآثار التي تخلفها في الذهن مباحث علم الحيوان أو التاريخ الطبيعي أو الوراثة أو الحفريات أو الجيولوجيا وغيرها من فروع علم الحياة، تلك العلوم التي تترك أمامك الدنيا والعوالم والحياة كمصور جغرافي لا تستقرئ فيه كيف قامت الإمبراطوريات وكيف دالت ولا كيف ثارت الشعوب وكيف هدأت عاصفتها ولا كيف تكونت المدنيات وكيف انحلت لا غير، بل تقرأ فيها من صور الجمال والعلم ومن ألوان الفن والعظات ما تسكن إليه نفسك سكونها إلى صورة الكون ميدانها والطبيعة فنانها الأعظم.
يقول أرسطوطاليس: «في الشئون العملية ليس الغرض الحقيقي هو العلم نظريا بالقواعد، بل هو تطبيقها، ففيما يتعلق بالفضيلة لا يكفي أن يعلم ما هي، بل يلزم زيادة على ذلك رياضة النفس على حيازتها واستعمالها.» وهذه القاعدة يصح تطبيقها على علوم الحياة كما صح تطبيقها عند أرسطوطاليس على فنون الأخلاق، فليس يكفي في علوم الحياة أن يحوز الإنسان علما بقواعدها، بل يجب أن يتعمق فيها ليحوز ذلك التصور الواسع الذي لا يجعل هذه العلوم قواعد جامدة فقط، بل يعطيك من العالم ونظامه فكرة فنية أساسها الجمال الذي يصدر عن المحسوسات والمرئيات، ويزيدك في الحياة حبا ويزودك فيها بقوات عظمى تستخدمها لترقية النوع الإنساني.
يتبادر إلى ذهن البعض أن العلوم العملية، ومنها علم الحياة بفروعه، هي أشبه الأشياء بالجوامد التي لا تبعث في النفس روعة ولا تخلق فيها جمالا، بل قد يذهبون إلى أبعد من هذا، هم يصورون العلوم بالصخور الصلدة التي تتكسر عليها أمواج الأدب الذي يشبهونه بمياه البحر الناعمة اللطيفة. ولكن الحقيقة الواقعة على الضد من هذا، الحقيقة أن في جوف تلك الصخور الصلدة عالما من الجمال، لا يمكن بحال أن يصل إلى تصويره الأدب مهما ارتقت فنونه ومهما تعددت أساليبه، إنما البلوغ إلى هذا العالم الفني العظيم وقف على أساليب العلم وحدها، وفي حدسي أن هذه الأساليب لا بد من أن يكون لها من الأثر البعيد في الآداب ما لا نستطيع تقدير مداه، وإن كنا على يقين من أنه تأثير سوف يبلغ مدى قصيا من تغير الفكر الإنساني في الحياة.
ولا أستطيع بحال من الأحوال أن أدعي أن هذه الصورة قد قامت في عقول الناس عندما بدأ الدكتور صروف يدافع عن مبدأ النشوء والارتقاء واحدا فردا منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. وهل تعرف ماذا يفهم من نصف «قرن»؟ يفهم منه أن روح التعصب كانت لا تزال بعيدة التأثير في العقول، وكان الجامدون لا يزالون ملتصقين بجدران الزمان يسندون ظهورهم إلى جملة من المذاهب العتيقة التي أخذت لبناتها تتهدم لبنة بعد أخرى، وكان في يدهم قوة التقاليد ينوءون بها على العلم وأهل العلم. وكانت المعركة لا تزال حامية الوطيس بين داروين وأنصاره هربرت سبنسر وهكسلي من ناحية، ومستر سان جورج ميفارت والأسقف ويلبرفورس من ناحية أخرى، ومن حول هذه المعركة دارت معارك أخرى في ألمانيا وفرنسا، بل لا تزال المعركة دائرة حتى اليوم في أمريكا، وليس في أمريكا وحدها، بل في إنكلترا أيضا، فإن المعركة التي دارت وتدور اليوم حول كتاب الصلاة المقرر في الكنيسة الإنكليزية والأثر الذي خلفه خطاب سير أرثر كيث، لا تزال أصداؤها ترن في آذاننا.
هذا ما يعني بنصف قرن من الزمان، في بدايته استمكنت تلك الصورة العلمية الرائعة الجمال من نفس دكتورنا الفقيد - رحمه الله - فقام يدافع عنها بقلمه ولسانه، والناس بعيدون عن أن يدركوا ما انطوت عليه تلافيف دماغه من صور الجمال العميق الثابت، لا الجمال الذي تحمله الكلمات والألفاظ والجمل التي قد تؤدي معنى ما أو لا تؤدي، جمال العلم الثابت الذي هو أشبه بجمال الطبيعة، يخلد ما بقيت صوره الخالدة السرمدية.
الصورة الفردية التي تكونت في ثنايا ذلك الذهن الإنسكلوبيذي الكبير لم تصبح اليوم صورة فردية، بل أخذت تمتد إلى العقول وتغزو الأفكار، كلا، بل غزت عقولا ولقحت أفكارا. وذلك الجمال الذي كونه عقل الأستاذ منذ نصف قرن من الزمان أخذت صوره تنتقل صورة بعد أخرى إلى أذهان أهل الشرق.
على أن لهذا الجمال آثاره العملية البعيدة في إدراك الناس، فليس هو بالجمال الأجوف الرنان الذي يبعث به الشعر، ولا هو بالجمال الذي تعطيه الألفاظ رونقا موقوتا تمحى صوره إذا تراكمت عليها أتربة الزمان، بل هو الجمال المتجدد الدائم، هو النبع الذي يفيض بإكسير الحياة، عجز عن العثور عليه الرواد في صدر التاريخ الحديث، وعثر عليه العلماء في أواسط القرن التاسع عشر، أليس في نقل هذه الصور العلمية عن طريق علم الحياة أثر خالد يخلفه لنا صروف العالم؟ (2-4) تغيير أساليب الفكر
في أوائل القرن الثامن عشر لمع في أوروبا نجم جديد أخذ الناس سناه، لمع في جو فرنسا نجم الفكرة الإنسكلوبيذية بعد أن كاد يأفل ذلك النجم أفول غيره من شموس الفكر المضيئة التي لمعت ثم خبت نارها على مر الزمان، غير أن هذا النجم لم يرسل بأشعته لتبقى وتضيء العالم، بل لمع بهيا زاهيا وكأنه يودع العالم الوداع الأخير، فكان ذلك آخر عهد للفكر الإنساني به.
بزغ هذا النجم في العصر الروماني، وظل قويا خلال القرون الوسطى، ثم زاده اللورد باكون سناء وقوة إشعاع، وفاضت أنواره في أوائل القرن الثامن عشر، وكانت أعمال سبنسر آخر ما بذل من جهد ليبقى ذلك النجم ساطعا في سماء الفكر، ولكن حم قضاؤه ونزلت به صاعقة الموت على يد النشوئيين.
ومن الغريب أن الاتجاه الإنسكلوبيذي في جمع المعرفة وحصرها، قد ملك زمام كل الأمم التي عنيت بالعلم والآداب في عصر ما من عصورها، فإن هذا الطور بنفسه قد مر به العرب، فكانت مدوناتهم وكتبهم الأدبية والتاريخية بل معاجمهم عبارة عن صور إنسكلوبيذية، تقل أو تزيد قيمتها باختلاف الأحوال. ولست أدري بماذا نعلل هذه الظاهرة، غير أنها ظاهرة ملموسة الآثار في التاريخ الفكري على كل حال.
وكان للسياسة أكبر الأثر في جذب مصر وسوريا إلى ناحية فرنسا، وهذه الفكرة لا تزال شديدة الأثر في العقول وفي الآثار العلمية. كان لنا أن نلجأ إلى فرنسا التي تظاهرت بصداقتنا منذ نيف ومائة عام، لنصد بهذه الصداقة تيار الاستعمار الأنجلوسكسوني عن الشرق، ولهذا السبب وحده تظاهرت فرنسا بالصداقة لسوريا، ليكون لها قاعدة تقاوم بها نفوذ إنكلترا التي بسطت سلطانها على الرجل المريض - تركيا - قضاء لمآربها. ومن هذا الطريق ذاعت صور الثقافة الفرنسوية في مصر وسوريا، وكان من أثر هذا أن انتقل إلينا أسلوب الفكر الإنسكلوبيذي لا بكل حسناته وسيئاته بل بسيئاته وحدها.
لم يحفزنا نقل هذا الأسلوب إلى تدوين العلوم الحديثة ولا إلى نقلها فنتخذها في الحياة العلمية أساسا، بل حفزنا إلى أخذ الصور الإلحادية التي أذاعها فولتير وديدرو وغيرهما من زعماء فرنسا في العصر الإنسكلوبيذي، فتخالطت بذلك الصور وتلاشت أساليب الفكرة العلمية، ومضينا نتخبط في هذه الدياجير حتى إذا أسلم بنا الزمان إلى أواخر القرن التاسع عشر واتجهت الفكرة إلى نشر المذهب النشوئي، أخذت العقول سمتا جديدا حولتنا إليه الفكرة الأنجلوسكسونية في الحياة. وعندي أنها ليست فكرة في الحياة، بل هي الحياة بذاتها مصورة على ما يجب أن تكون الحياة الإنسانية في أخص حالاتها العملية، بل إن هذه هي نقطة الانفصال الحقيقي بين القديم والحديث في تاريخ الشرق العربي كله.
لا تعطيك الفكرة الإنسكلوبيذية في الحياة إلا صورة مما تقع عليه في تلك المعاجم الضخمة المشتتة المرامي التي أخرجتها جهود الإنسكلوبيذيين، فإنه من الصعب أن تقع في جماع تلك المجلدات الضخمة على مبدأ ينير للحياة سبيلها ويرسم لها قصدها وغايتها، وما الحياة إذا لم يكن لها قصد وغاية؟
في وسط هذه الفوضى التي نقلها الفكر الشرقي عن فرنسا أشعت أول الأقباس المضيئة منقولة عن النشوئيين في إنكلترا. والحق أنه لا يجدر بنا أن ننسى فضل جامعة بيروت الأمريكية في توجيهنا هذا التوجيه الذي كانت أساسه الحرية الفكرية المطلقة من كل القيود الثقيلة التي ربطتنا بالماضي على اعتقاد أنها النهاية التي لا يمكن أن نبلغ أكثر منها، فبين جدران هذه الجامعة قامت فكرة النشوء في عقل أستاذنا الكبير، وما أفلتت من بين هذه الجدران إلا لتملأ العالم الشرقي ضياء وتفيض عليه بفيوضها الحيوية.
هنا انتقلت المعركة إلى الشرق وما تزال قائمة، غير أن هذه المعركة قد أخذت في الشرق صورة تخالف الصورة التي أخذتها في الغرب، فأثرها في القضاء على الفكرة الإنسكلوبيذية الفرنسوية يكاد يكون تاما الآن، أما أثرها في القضاء على أساليب الشرق القديمة فلا يزال يحتاج إلى كثير من الجهد البالغ. على أن الطريق قد مهد وأزيلت أكثر عقباته ولم يبق إلا السير فيه بقدم ثابتة لنبلغ إلى الحد الذي سبقتنا إليه الأمم.
وهذه خطوة أخرى من الخطى التي خطاها بنا الأستاذ الكبير، أفليست تكفي وحدها لأن تجعل أثره في الشرق خالدا؟ (2-5) الآثار الاجتماعية
ورثنا عن القرون الوسطى فكرة الخلاص الأخروي على أنها الفكرة التي يجب أن تتجه فيها جهود الحياة، فكأننا بهذا فصلنا بين معقول الحياة والحياة، أو بالأحرى فصلنا الفكرة في الحياة عن الحياة.
في القرون الوسطى، وفي بضعة القرون التي تقدمت قيام المعركة بين العلم وصور المعتقدات القديمة، قامت في العقول فكرة أن نهاية العالم تقترب وأن عمر الدنيا ألفان من السنين، وأن القرن العاشر من الميلاد هو نهاية العالم؛ هنالك انصرفت الفكرة إلى الآخرة. ومن الغريب أن انصراف الفكرة إلى الخلاص الأخروي لا تزال آخذة بخناق كثير من الشعوب على الرغم من أن العالم لم ينته بل لم يزل مشبوب القوة بالحياة. والحقيقة أن الوسائل كانت تنقص أهل العلم والذين أكبوا على الأسلوب العقلي يستدرون وحيه، فلما اهتدى العقل الإنساني إلى تعليل كاف لمذهب النشوء أخذت تتداعى جدران القديم حجرا بعد حجر، وأخذت الإنسانية سمتها نحو مبدأ آخر هو أن الخلاص الدنيوي لا ينزل عن الخلاص الأخروي قدرا ولا ينحط عنه مكانة.
ونزل الإنسان عن عرش الملائكة، ولكن ليتربع على عرش آخر، هو عرش الحيوانات، وبان للناس أن السلسلة الطويلة التي انتهت بوجود البريمات وعلى رأسها الإنسان، إذ ترجع بدايتها إلى ملايين كثيرة من السنين؛ لا بد من أن تكون متجهة إلى بلوغ حد قد تنتهي إليه بعد ملايين عديدة من الأعوام في مستقبل عمر الكون. وهذه الفكرة الجديدة، على الرغم من أنها قياس تمثيلي صرف، على حد قول المناطقة؛ كان لها من الآثار الاجتماعية ما تتضاءل أمامه الآثار التي خلفتها الأوهام في مصر وبابل وأشور والكلدان خلال العصور القديمة .
على أن هذه الآثار من المتعذر أن تحصى عدا، ولكن حسبنا أن نقول فيها إنها نقلت الإنسان من الآخرة إلى الدنيا، وكفى بهذا تصويرا لمقدار ما تنطوي عليه من الآثار الاجتماعية الكبرى.
إن هذا الأثر الاجتماعي الكبير هو الذي تتبلور عنده جهود أستاذنا الكبير باعتباره عالما بيولوجيا أدرك إدراكا تاما ما يمكن أن تنتهي إليه نشر الفكرة البيولوجية في أنحاء الشرق. وهنا نتساءل مرة أخرى: أليس هذا وحده بكاف لأن يجعل أستاذنا خالدا؟ (2-6) النتيجة
وبعد، فهذه هي الآثار التي ترتبت على اشتغال الدكتور صروف بعلوم الحياة، وإني ليحزنني أن أكون اليوم راويها، يحزنني أن نفقد ذلك النجم الساطع في ليل أليل وفي عصر نحن أحوج إليه فيه مما كنا إلى أمثاله في كل عصور التاريخ.
ومهما يكن من أمر هذه الصورة التي صورت بها ذلك الجهد الكبير الذي بذله الدكتور العظيم، فإني لأعتقد اعتقادا لا يوهنه الشك بأن المستقبل كفيل بأن تتضاءل هذه الصورة أمام أهله إذا ما اكتملت في العقول كفاءة القياس التاريخي، وأدركوا أن اسم صروف ينزل من تاريخ الشرق منزلة الحركات الفاصلة في تاريخ الفكر الإنساني.
فلسفة الانقلاب التركي الحديث
بحث فلسفي اجتماعي في الأسباب التي قام عليها الانقلاب التجديدي في تركيا وأثره في تغيير أساليب الفكر
من وراء الانقلابات التاريخية والثورات الاجتماعية تكمن البواعث النفسية والانفعالات والمعتقدات وفلسفة الحياة، التي تقسر الجماعات على أن تهدم ما هو قائم لتشيد عليه بناء من لبنات تربط بينهما الأفكار والمنازع العقلية والنفسية التي تكون قد استحدثت على مر الأيام. وليس في التاريخ الحديث كله من انقلاب هو أشبه بالطفرة منه بأي شيء آخر كالانقلاب التركي الحديث، وهو ككل انقلاب أو فورة فجائية تكمن وراءه بواعث نفسية ومعتقدات وانفعالات تكون لدى الواقع في مجموعها فلسفة توجه الفكرات والآراء إلى وجهة في الحياة لا يظهر منها إلا نتائجها التي تتجلى في المعاهد التعليمية والنظامات الأهلية والسياسية والاجتماعية. بهذا يؤمن كل من درس حوادث التاريخ مطبقة على علوم الاجتماع الحديثة. فإذا كان هذا هو الواقع ، وإذا اعتقدنا بأن وراء الظواهر الملموسة في الانقلاب التركي الحديث قد كمنت فلسفة ساقت إليه؛ كان الوقوف على حقيقة هذه الفلسفة أمر ضروري للحكم على قيمة هذا الانقلاب ومقدار ثباته وقوته، ومقدار تأثيره في الإدراك العام، أو كما يدعونه اصطلاحا «العقلية العامة» التي تتكون من مجموع الأغراض التي يرمي إليها زعماء الانقلاب، ومجموع المبادئ التي يؤمنون بصحتها.
ولقد اتبع زعماء الانقلاب التركي نفس الطريقة التي اتبعها زعماء الانقلاب الروسي البلشفي في ترويج دعوتهم بالكتابة والنشر، فظهر خلال الأعوام الخمسة الماضية مؤلفات عديدة تؤيد فلسفتهم الحديثة التي رموا بها إلى إخضاع العقلية الآسيوية أولا ثم القضاء عليها ثانيا؛ لتحل محلها العقلية الأوروبية الحديثة. ومن بين الكتب التي ظهرت كتاب يعده زعماء حزب التجديد في تركيا إنجيلا يوحي إليهم بكل ما يحتاجون إليه من مبادئ الرقي والنهوض، كما يعد الماركسيون والبلاشفة كتاب «كارل ماركس» إنجيل النظام الشيوعي.
وضع هذا الكتاب مؤلف من الظاهر أنه أحاط كثيرا بتاريخ تطور الفكر الإنساني، وعلى الأخص بتاريخ تنازع البقاء بين اللاهوت والعلم في العصور الوسطى، ولقد طبق المبادئ التي استخلصتها العقلية الأوروبية من طريق جهادها الطويل إزاء اللاهوت على الحالة الواقعة في الشرق أحسن تطبيق، وعرف كيف يظهر آراءه وأفكاره في قالب جلي واضح، ونجح كل نجاح في إظهار الفرق بين العقلية الآسيوية كما سماها وبين العقلية الأوروبية، وقضى بأن العقلية الأوروبية ارتقائية في حين أن العقلية الآسيوية رجعية جامدة، فلا مندوحة إذن من غرس العقلية الأوروبية في نفوس الأفراد والجماعات إذا ما أراد شعب أن يخطو نحو الارتقاء على النهج الذي سارت فيه أمم الغرب منذ أربعة قرون من الزمان.
اسم الكتاب «كتاب مصطفى كمال» ومؤلفه «قابيل آدم»، ومن الواضح من اسم الكتاب أن الآراء التي بثت فيه والمبادئ التي دافع عنها هي في حقيقتها فلسفة المصلح الكبير التي كمنت وراء الظواهر الانقلابية التي قامت عليها الثورة التركية الحديثة، والانتصار في ميداني الحرب والاجتماع. وما كان لنا أن نعلق على هذه الآراء بشيء ما ولكن يكفينا أن نستخلص منها لبابها؛ لنظهر القارئين على حقيقة هذا الانقلاب، وما يكمن وراءه من المبادئ الارتقائية والأفكار التشيدية الكبيرة وهي في مجملها لا في مجموعها، مما لا يستطيع عقل مثقف على النمط الحديث أن ينكر أن فيها من عناصر الحق والقوة ما سوف يجعلها دستورا عاما للعقلية التجديدية في أنحاء الشرق كله، على أن تصفى من بعض ما فيها من نزعات التطرف والإفراط.
بدأ المؤلف كتابه بتلخيص عام عن مناحي الفكرة المبثوثة فيه، وحصر الكلام في العقلية التي قامت عليها الثورة التركية الأخيرة. ومن أجل أن نكون أصدق تعبيرا عن حقيقة الآراء والمبادئ التي قامت عليها الثورة الكبرى، نمضي في ترجمة فقرات من كل فصل نلم فيها بلباب ما فيه، بحيث لا يفوت القارئ شيء من حقائق الكتاب وكلياته، قال: (1)
إن العقلية الأوروبية هي العقلية التي تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا، ونحن إنما نتبع ما توحي إلينا به هذه العقلية بحكم أننا موجودون في هذه الحياة. أما العقلية الآسيوية، فالعقلية التي تلائم الحياة الآخرة، فإذا انتقلنا إلى الحياة الباقية فهنالك نتبع ما توحي به هذه العقلية (ص3).
إن الأمم الحية في العصر الحاضر تعيش فيما يلي حدودنا الغربية، بينما يعيش في الشرق مجموع من الأمم لم يعترف لهن بحق الحياة في عصر من عصور التاريخ. إن الناس في الشرق والغرب يتفقون في كل الصفات العضوية ولكل منهم رجلان وساعدان، فمن أين حدث ذلك الفرق البين الواقع بين الناس في الغرب والشرق؟ (ص3).
لا شبهة في أن الغرب وحده هو الذي يمتع الآن بأسعد حالات الحياة، وفيه أقوى النظم الحكومية، والحياة فيه أقرب ما يستطاع إلى ما يجب أن تكون عليه الحياة الإنسانية، إذن يجب علينا أن ندرس فن الحياة الغربية لنعرف حقيقته (ص5).
لقد استأنست أمريكا وأعترف لها بحق الحياة من طريق العلم الغربي، وتحضرت اليابان بأن اتبعت وسائل العقلية الغربية، وكذلك ممالك البلقان فإنها درست هذا الفن وقبلت كل مبادئه، فاستطاعت أن ترفع عن كاهلها نير استعبادنا، فلا مرية إذن في أن هذا الفن قد جرب واختبر، فدلت نتيجة التجاريب العديدة على صدق موحياته.
لقد ناضل الغرب ضد رجال الدين وصارعهم، لا لشيء إلا ليفوز بتكوين هذه العقلية، وما زال يصارع ويناضل حتى استطاع أن يقيم للحياة فنا جديدا، هو الآن قبلة الغرب بل ومعبوده الأعلى (ص6).
لم يكن لمذاهبنا القديمة سوى قاعدة منطقية واحدة، ولم تتكون فيها سوى عقلية بعينها، وتلك القاعدة وهذه العقلية لم ينصرفا طوال الأعصر عن شيء واحد، هو أن يرجعوا بكل شيء استنتاجا واستقراء إلى الكتب الدينية، هذا بينما كانت العقلية الغربية تنظر في الحياة بعين إنسانية، وتنظم الحياة على مقتضى ما ترى هذه العين من حقائق الوجود. وإنه لمن أشد الأشياء خطرا أن نبحث الحياة الغربية بعقلية شرقية، لأن من الجائز أن يغوينا هذا النهج، فنقبل جزءا من مجموع الحياة الغربية أو أجزاء نكيفها تكييفا خاصا أو نرفض قبول ناحية من نواحيها أو نكل تطبيق شيء منها إلى المستقبل، ثم نقول إن لدينا من الحياة الغربية أجزاء ونتفا. وما من شك في أن هذا النهج كان سببا في وقوع أكبر المصائب وأعظم الكوارث التي انتابت تركيا في الماضي. ولقد عملنا بأقصى الجهد لكي نوفق بين الناحيتين، فدلت التجاريب على أن التوفيق بينهما مستحيل، فإن أهل الغرب إنما يعتقدون بأن الناس للناس، أي إنسانيون، بل إن مطامعهم الأولية في الحياة تنحصر في أن يعيشوا في هذه الدنيا على أكمل وجه تتطلبه الرجولة الكاملة، أما أهل الشرق فموقنون بأن الناس ملك لله، ويحاولون دائما أن يحققوا وجود الحياة الأخرى في هذه الحياة. ولا جرم أن هاتين النظرتين لا يمكن التوفيق بينهما (ص7).
على أننا لم نعترف بهذه الحقائق في الماضي، ولم نواجهها بما تتطلب من الشجاعة الأدبية والاستقلال في الرأي، ومن أجل هذا كله نجد أنفسنا في أشد الاحتياج لأن نصطبغ بصبغة العقلية الأوروبية الحديثة. وما من سبب لذلك التنابذ الشديد الذي قام بين فريقي الأمة التركية إلا وجود هذه العقلية في ناحية، حيث تقوم في ناحية أخرى العقلية الدينية العربية، وهذا أخطر ما تتعرض إليه الجمهورية التركية من الأحداث (ص13). (2)
لم تسلم الأمم الآسيوية يوما ما من الفقر والتعاسة، وليس لهذا من سبب سوى أنها اعتادت على أن تستقرئ أحكامها المعاشية كلها من تشريعها الديني المقدس. ولن تقف على طابع آخر غير هذا إذا ما قلبت تاريخ مصر والهند وفارس واليابان القديمة والصين وطوران وبلاد العرب، فإن هذه الأمم لجهلها قد نسبت لأمرائها وسلاطينها أو لغيرهم من مقدمي الانتهازيين صفات قدسية حينا، أو سلطة إيحائية حينا آخر، وكان من نتائج هذه العقلية أن تردت الأمم الآسيوية في وهدة التعاسة والشقاء. (ص14).
أما المعركة القائمة اليوم فموجهة بكل ما فيها من قوة إلى القضاء على هذه العقلية الآسيوية، والحالة جلية واضحة، فلست تجد في أوروبا مثقفا أو غير مثقف يمضي في أعماله متواكلا على سلطة الوحي. أما في آسيا فإنك لا تجد شيئا اللهم إلا الأنبياء
1
والقديسين والحكام الذين يستمدون سلطتهم من الله مباشرة، تجد الأوامر والنواهي القدسية متغلغلة في تضاعيف العديد الأوفر من الشئون الخاصة الصرفة للناس، محتكمة في كل وجه من وجوه حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والإدارية، ولديهم أن هذه الأوامر والنواهي هي أوامر الله ونواهيه، وعلى هذا لا يمكن تبديلها أو تكييفها. فإذا تبدل الزمان وتكيف وجمدت هذه الأوامر والنواهي مقصرة عن اللحاق بروح العصر نشوءا وارتقاء، فإنك لا تجد من شيء اللهم إلا نبيا آخر مرسلا بتعاليم جديدة، ولا مرية في أن تتابع ظهور الأنبياء في آسيا طابع خاص بها، لا تفاضلها فيه بقعة أخرى من بقاع الأرض (ص16).
على أن أعجب ما ترى في كل هذا أن كل نبي من هؤلاء الأنبياء قد نصح للناس وأهاب بهم أن ينكروا حقيقة هذه الحياة بكل ما فيها، وأن يتلظوا حرقة إلى الحياة الآخرة، وفي هذا ينحصر كل ما يقصد بوذا من النرفانا، وكل ما يقصد الإسلام من الفردوس (ص17). وهذه العقلية قتلت في الشرق فكرة النقد، كما غشت على العقول والأفهام بأغشيتها الثقيلة.
بيد أن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا الدول وساسوا الممالك لم يقنعوا بأن يفرضوا على الناس أوامر الدين ونواهيه، بل صبغوهم بأخلاقهم ودهنوهم بطلائهم. فإن الإسلام مثلا قد صبغ المسلمين، فضلا عن الدين، بصبغة الحياة العربية الاجتماعية في كل مكان وآن، واضطر الناس على أن يقبلوا مذعنين لا الله والدين وحدهما بل حياة العرب العائلية والاجتماعية والخلق العربي والعادات العربية بصورة كلية واللغة العربية بصورة جزئية. كذلك لم يفرقوا بين الدين والقومية، فإن الدين والقومية ظلا في الشرق شيئا واحدا طوال الأزمان، ولهذا لا تقع في الشرق على حركة اجتماعية صبغت بالروح القومية على إطلاق القول (ص18).
لقد لعن بوذا هذه الحياة وكذلك مذاهبنا القديمة، فإنها لم تعمل إلا لتمهد الطريق للحياة الأخرى. ولقد أخذت أمم آسيا كلها بموحيات هذه التعاليم النظرية، وعلى هذه القاعدة قيد «اللاما» أمة الصين، والبراهمة أمم الهند، و«الآخوند» أمة الفرس، وأئمة الإسلام تركيا. أما العقلية التي اختفت وراء هذه التعاليم فتتكون من الاعتقاد بما يأتي: (1)
أن الحقيقة لا يمكن معرفتها بالعقل بل بالتقاليد. (2)
أن الحياة يجب أن لا تحكم بمقتضى المبادئ الإنسانية المستمدة من غرائز الإنسان، بل بمقتضى الشرائع المنزلة التي لا تتبدل ولا تتغير. (3)
هذه الحياة فانية، والأخرى باقية. (4)
نسبة كل شيء إلى القضاء والقدر. (5)
رفض الاعتقاد بضرورة الحياة القومية، والعكوف على الخضوع للتقاليد الدينية. (6)
الخضوع الكامل للرئيس الروحي.
وهذه القيود الحديدية والأصفاد الثقيلة لم تترك للأمم الآسيوية من فرصة للخلاص. ولقد كانت هذه العقلية بمثابة تجربة حاول واضعوها أن يعرفوا إن كانت بذاتها وسيلة ناجعة للقضاء على الحياة وعلى الإنسانية، ولا مرية في أنها قطعت كل علاقة كائنة بين الناس والحياة الدنيا (ص15).
ولما كانت علاقة الإنسان بهذه الحياة متينة، وأواصره بها لا تفصم، لم يكن هناك من سبيل لكي تعيش هذه العقلية وتحيا إلا بأن يقتل العقل الإنساني ويلغى من هذا الوجود، ولولا هذا لظهر سريعا أن الشرائع المنزلة لا تتفق وحقائق هذه الحياة، لهذا لم يتوان مشيدو العقلية الآسيوية وواضعو قواعدها عن أن يجعلوا أساسها الاعتقاد بأن الحق في هذه الحياة تقليدي لا عقلي. ولكن نتساءل: ما هي التقاليد؟ ولماذا لا يكون لدينا من الحرية ما نستطيع به أن ننظر في هذه التقاليد نظرة تحليل نحكم فيها العقل، تلك التقاليد التي لم تسم بنا يوما إلى أفق السعادة والحرية والثروة ومعرفة حقيقة الإنسان، بل كثيرا ما عضدت أسباب التعاسة والشقاء وقوت جذور شجرة الاستبداد التي يتمتع بثمراتها الرئيس الروحي خلال كل الأزمان؟ وبما أن هذه التقاليد لم توضع إلا لتطبق على الإنسان، فإن العقل الإنساني يحس ضرورة بأنه مقسور على أن يبحث في أصلها ونشأتها وماهيتها؛ ليعرف إن كانت التقاليد سموما قاتلة أم أنها عقاقير لقمان السحرية! (ص19).
إن من أبلغ السفسطة أن تقول بأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يدرك الحقيقة. إن كل الذين أوصلوا إلينا هذه التقاليد وبثوها في نفوسنا قد اتخذوا العقل الإنساني وسيلة لبثها. وما هذه التقاليد لدى الواقع إلا مجموعة من السخف لا يمكن أن تقاوم قوة النقد ساعة واحدة، ولم يكن في مستطاع أحد من ناقلي هذه التقاليد (الأنبياء) أن يوحي إلينا برسالة تساعدنا على اختراع آلة من الآلات أو استكشاف الكهربائية أو البواخر أو الطيارات أو التليفون اللاسلكي، أو مبادئ الطب التي تساعدنا على مقاومة داء السرطان أو السل أو غيرهما من الأمراض.
ولقد ثبت في روعنا اليوم أن ما يجب أن يوحى إلينا به من العالم المجهول إنما ينحصر في مثل هذه العلوم لخير الإنسان والإنسانية. وإذا قلبت تاريخ آسيا برمته منذ أبعد العصور إلى اليوم، لما استطعت أن تلتقي في سفرك الطويل بقديس واحد من أولئك القديسين الذين اتخذوا العلم للقداسة طريقا، في حين أن تاريخ الدنيا يفيض بذكر الكثيرين ممن هم من هذا الطابع الخالد، أولئك الذين استكشفوا الحق وعرفوا الحقيقة، أولئك الذين آمنوا بأن الحق عقلي لا تقليدي، لا الذين ظلوا طوال الأعصر ينتظرون الوصول إلى الحق من طريق التقاليد. ولا شبهة في أن رجال آسيا، وهذه عقليتهم، لا يستطيعون أن يدركوا من الحقيقة شيئا (ص20).
لنتساءل: لماذا لم يكن في مقدور المذاهب الإسلامية أن تنقذ الإمبراطورية التركية؟ والجواب أن ليس لهذا من سبب إلا أن عقليتها قد عكفت على الاعتقاد بأن الحق تقليدي صرف، أما العلم اليقيني الحديث فيعتبر أن هذه العقلية سم قاتل، لأنها بعد أن تحتكم في الفرد وتستقل بوجدانه وتبعده عن التفكير في أمر نفسه، يكون في مستطاعك أن تجعله يعتقد بصحة أية من الأحكام الدينية فيما يتعلق بحياة الأسرة أو نظام الحكومة. وهذه العقلية هي السبب المباشر فيما ترى من سوء النظام والعادات القبيحة، كتعدد الزوجات في الحياة العائلية وانقسام الناس إلى أحزاب وطوائف في النظام الاجتماعي في الشرق كله. (ص22).
انظر في نظام الحكومات أو تاريخ الشعوب التي مضت عاكفة على هذه العقلية فماذا ترى؟ ملكا مستبدا بعيدا عن التقيد بما توجبه شرائع الآداب، منعوتا دائما بأنه ظل الله فوق الأرض، وقصرا منيف الظاهر مشمخر البناء وما هو في الحقيقة إلا دار بغاء رسمي، تملأ جوانبه السراري والجواري، بل إنهم عبارة عن مجموع من أبناء البشر تعساء بعيدين عن حقيقة الحياة. (ص25).
إن أهل الكلام من المسلمين لم يعنوا بتحرير الضمائر والأفكار، كما أن التشريع الإسلامي لم يحب أهل الإسلام بحق الحياة والعمل، بيد أن كل الأمم الآسيوية قد حكمت بنظامات وتعاليم دينية، وكل القوانين التي فرضت على هذه الأمم قد استمدت من هذا النبع وحده، ولما كانت هذه القوانين بمقتضى ذلك غير متغيرة ولا متحولة، قد قاومت في كل عصور التاريخ جولة هذه الأمم نحو النشوء والارتقاء كلما حاولت أن تخطو نحوه. إن أهل الكلام قد أعاقوا العقل عن النماء والتطور، كما أعاقت النظم التشريعية تطور الشعور الاجتماعي، فنتج عن ذلك أن أصبح من أقصى المستحيلات أن يقع في آسيا انقلاب ثوري لا في الصورة العقلية ولا في النظام الاجتماعي. (ص26).
تحت تأثير هذه العقلية قيدت الإرادة، فقتلت حينا، وأعطيت من الحرية قدرا ضئيلا حينا آخر، في حين أن الإرادة الإلهية ظلت طوال الأعصر القوة الحاكمة بأمرها، وردت الإرادات والأسباب جماعها إلى «القضاء والقدر» الذي تصرفه القوة القدسية الغيبية، وهذا هو السبب في ما يدعى ب «البطالة الشرقية»، تلك الصفة التي يناظرها في الغرب ما نسميه ب «الحضارة الأوروبية». (ص26).
إن كل ما حاول الغرب أن يصل إليه من طريق الإكباب على درس العلوم اليقينية، حاولت الأمم الآسيوية أن تبلغ إليه من طريق الأناشيد والصلوات والسحر والأرواح (ص27).
جب نواحي آسيا وافتح باب أي قصر من قصورها الضخمة، فإنك لا تجد إلا قطيعا من رجال ونساء اتخذوا الزنا حرفة في الحياة، وهذه هي بعينها حال الخليفة والإمام والمشايخ. إن هؤلاء الرؤساء الذين أمروا الناس بأن يصوموا وأن يتعبدوا ابتغاء وجه الله، وفي الوقت ذاته صرفوا الناس عن كثير من خيرات هذه الحياة؛ لم يكن لهم في حياتهم الداخلية من بغية اللهم إلا الحصول على اللذات البدنية من أية طريق وبأية وسيلة، وهذا التناقض الواقع بين ما يأتون من فعل وما يتفوهون به من كلمات قد دل على خبثهم وخيانتهم وفتكهم بعقول الناس، وكان في الوقت ذاته سببا في أن تحتكم النزعات السلفية من خيانة وفجور في إدارة الحكومات. ولهذا تجد أن هذه العقلية قد مضت مستبدة بأمرها في كل طبقة من طبقات السلك الحكومي، حتى لقد اعتبرت الخيانة، كما اعتبر الغش والخداع، من الأمور المشروعة، تأييدا للمآرب الذاتية وخدمة لمصالح الأفراد (ص28).
لم تكن الديانات في تاريخ آسيا كله إلا حركات رجعية أملتها الغيرة التي تزود بها كل رسول جديد ضد الرسل الأقدمين. إن ديانات آسيا كافة واحدة في جوهرها، فإن تعاليم بوذا وكونفوشيوس وبراهما وموسى وعيسى ومحمد كلها واحدة، فإن اختلفت فإنها إنما تختلف في التفاصيل لا في القواعد (ص30).
هذا هو الحق الذي نقع عليه كلما قلبنا تاريخ الأمم الآسيوية، لقد خضعت آسيا لهذه العقلية، ولم يكن لديها من القوة الذاتية ما تستطيع به أن ترمي عن كاهلها ثقل هذه التقاليد. إذن فلا سبيل إلى الخلاص إلا بلقاح يستخلص من العقلية الأوروبية، وهذا هو السر فيما نرى من تقدم اليابان المدهش خلال الخمسين عاما الفارطة إذا قسنا تقدمها بتقدم الصين مثلا، إن الصين لا تزال اليوم واقعة تحت تأثير الذهنية الآسيوية، أما اليابان فقد نفضت عن كاهلها هذه الذهنية واستعاضت عنها بالذهنية الأوروبية إجمالا وتفصيلا. ولقد يظن البعض أنه من المستطاع أن تحوز الأمم هذا التفوق الكبير من طريق الاستعانة بالعلوم العملية وحدها، غير أن هذا مستحيل، لأن المسألة مسألة «عقلية» تتناول كل بناء الفكر والعواطف والمشاعر والحياة، تتكثف وتتراكز خلال الأجيال. إن «العقلية» كل لا يمكن تجزئته إلى أقساط ونتف، وعلى هذا وجب أن تلغى العقلية الآسيوية كلية؛ لتحل محلها العقلية الأوروبية في مجموعها، ولن تجد للخلاص طريقا آخر (ص31 و32). (3)
الأتراك أمة آسيوية، ولذا كان من الطبيعي أن يعيش الشعب التركي وأن يعمل متأثرا بوحي العقلية الآسيوية. وإنما ينحصر غرضنا الآن في أن نبحث حياتنا وتاريخنا لنرى كيف زودتنا الثورة الأخيرة بحياة جديدة، وأن نفهم طبيعة تلك الواجبات والالتزامات التي فرضتها علينا عقلية الثورة، ولنحكم على مقدار ما هو مطلوب منا من تضحيات حتى نستطيع أن نغرس هذه العقلية في نفوس الشعب بشكل قاطع (ص33).
لقد عودنا على أن نلقن بأننا عبيد الملك، ظل الله فوق الأرض، وأننا له ملك ومتاع، وهذا يتضمن بالضرورة الاعتقاد بأنه ليس لدينا من شيء يمكن أن يقاوم قوة خليفة الله الواحد القهار، المتربع فوق عرش الأرض، وأنه لن يكون من نظام اجتماعي أثبت أصولا من اجتماعنا، ولا حياة دنيوية أسعد ولا أمتع من حياتنا. بينما كانت الحقائق الملموسة توحي لنا كل حين بأن في أنحاء مملكتنا فقر وجوع، وأن جزءا بعد جزء من أطراف الإمبراطورية كان يؤخذ عنوة ورغما منا نهبا واغتصابا، وكانت لنا حكومة هي أضعف من أحط الحكومات الأوروبية، متردية في حمأة الرشوة، مفككة الأوصال مضطربة الأحوال، بعيدة عن حكم الشرائع والآداب، وأننا كنا نستجدي الغرب في كل شيء نحتاج إليه، ومع كل هذا فقد كان لدينا «ظل الله فوق الأرض» وأربعون زوجة من زوجاته، وأربعون غلاما ممن تعرف ولا أذكر، لا شغل له إلا أن يحمل الشعب على أن يتجرع فكرة الجنة ونعائمها على ما وصفها رجال المذاهب القديمة. كان قد أصابنا الانحلال في الداخل، ولم يكن لدينا من سبيل لكي نفهم الحق وأن نعرف الحقيقة إلا بأن نتصل من طريق ما بالمعرفة الأوروبية، وأن نعترف بتفوق العقلية الغربية، وأن نكب على درس الأسباب التي غرست الشقاء والتعاسة في أرض من كنا نعتقد أنه «ظل الله فوق الأرض»، ولما فعلنا بان لنا أن «ظل الله فوق الأرض» لم يكن شيئا اللهم إلا صنما مفقود القوة والروح، كأي صنم من أصنام بوذا في الهند. وكان لنا بمحمد أسوة، فكما أنه حطم أصنام مكة والمدينة، كذلك نحن حطمنا أصنام الخلفاء والمذاهب القديمة والتكايا والقبور. هذا هو معنى الثورة، أما منافعها فسوف تكون عظيمة لخير الأمة وسعادتها في المستقبل (ص34).
إن الإمبراطورية التركية القديمة كانت دولة دينية، لقد تبدلت هذه الإمبراطورية من نظام التكية السلجوقي القديم بنظام المذاهب، وأخضعت الناس قسرا إلى المنطق التحكمي الذي اتصف به كل من ندعوه «حجة الإسلام»، وهنا تتجلى لنا صورة من أوضح الصور التي امتازت بها العقلية الآسيوية (ص35).
ومع كل ذلك، فإن هذه الدروشة، وإن شئت فادعها الباطنية، كانت السبب الأقوى الذي نجى الأمتين التركية والفارسية من أن تستعربا بشكل حاسم. وفي هذا المجال وحده بدأ النضال بين الإسلام والقومية، أما القومية فقد تفوقت وانتصرت في النهاية (ص39).
بعد هذا بدأ عصر الملوك العثمانيين، وفي هذا العصر تفوقت المذاهب العربية القديمة وأساليبها كل تفوق، حتى لقد اتبعت أساليب المذاهب البغدادية في الإجمال والتفصيل. وهنا شبت ما ندعوه «الشريعة» التي استمدت كل أحكامها من الأوامر والنواهي القدسية المنزلة، فكان لزاما أن لا تعترف هذه المذاهب بأن تغير الأزمان موجب لتغير الأحكام. لقد نظرت هذه المذاهب إلى القسطنطينية كما نظرت لبغداد، ولم تفكر ساعة واحدة في أن تدرس البيئة التي تحيط بهذه العاصمة وأن تتعرف طبيعتها وأن تكيف مبادئها بما يلائم هذه البيئة. لقد مضت المذاهب تزود الناس بعقاقير استمدتها من مصادر كانت في مكة قبل بغداد، وكانت من قبل أن تكون في مكة بين أعراب البادية، فهل يمكن أن يكون مستطاعا أن تحتمي الشعوب بمثل هذه الشريعة التي لم تدل يوما على أنها ملائمة لتطور الحالة الاجتماعية التي يقتضيها نماء العقل البشري؟ إنه يتعذر أن نناقش هذه الحقيقة، ليس من الممكن أن تتطور قوة ما من القوى وتمضي مرتقية، وهي في الوقت ذاته بعيدة عن التأثر بمبادئ التطور وماهيته، إن مثل هذه القوة لا تنتج من شيء إلا التراجع والاندثار. (ص49).
إن المبادئ التي استمدت من مكة ومن رمال البادية هي التي أعاقت تركيا عن التقدم ستة قرون طوال، لقد حكمت هذه المبادئ الشعب التركي عقليا ومدنيا واجتماعيا وعلميا وسياسيا وإداريا، وعلى الجملة احتكمت في كل مظاهر حياته. ولقد استنفدت المدارس كل موارد تركيا المالية، ولكن ماذا كانت طبيعة الأشياء التي تدرس بين جدرانها؟ لم يدرس بينها حرف واحد من اللغة التركية، بل كانت العربية هي الأساس، وأكب الناس على درس مقاطع من القرآن وتفسيرات فيه قد أربت على المئات والألوف من الصفحات التي كتبها واضعوها وحكموا فيها منازعهم وشهواتهم تحكيما، وكذلك دارسو الحديث، تلك الأحاديث التي وضعها وانتحلها رجال من مختلف الأمم، وفي مختلف الأزمان (ص49).
بيد أن هذه الأساليب التعليمية لم يكن لها من صلة بالشعب التركي، ولا بلغته ولا بثقافته، بل لم يكن لها من صلة بالحياة ذاتها. وليس في تاريخنا من شيء هو أدعى إلى الخجل من أن تفرض السراي - الباب العالي - على الشعب التركي أسلوبا تعليميا عربيا في قوامه ومبناه، ومن الغريب أننا خضعنا لهذا النظام خضوع العبيد والإماء ستة قرون طوال. (ص52).
لقد وضعت المذاهب علما قدسيا بنته على تفسيرات خاصة فسرت بها الأحاديث وآيات القرآن، أما رجالها فقد أعلنوا الحرب والنضال على كل من حاول أن يخرج عن هذه الدائرة، وبهذا سد باب العلم وحظر على الناس ولوجه (ص55).
لقد مضت المذاهب حاكمة بأمرها في السراي وفي التكايا، ولم يكن على المتربع في السراي، خليفة العالم و«ظل الله فوق الأرض»، من واجب إلا أن يحمي بصولته طريقة تطبيق تلك التعصبية الدينية التي تأصلت في بغداد تطبيقا عمليا، وكان من أثر هذا أن ألغيت حرية الضمائر وقتلت طريقة النقد العقلي، وبكثير من الخطأ في التفسير والتلاعب به فصلت المرأة عن الحياة الاجتماعية، وأبيح تعدد الزوجات، فلم يصبح للمرأة في عالم الاجتماع من مكان تشغله (ص62).
كذلك فرضت المدارس على الناس أحكاما شاذة لتقوى بذلك دعامتها وتثبت مركزها، فقد قالت إنه فجور أن تكلم المرأة أحدا من غير أهلها، بل قضت بأن ظهور شعرة واحدة من شعرها ليراها أجنبي سبب كاف للطلاق، في حين أنها لم تذكر أن الخلفاء الذين ولدوا بغير عقد شرعي هم بذاتهم نبت لغرس غير مشروع (ص64). (4)
طالما خيل إلينا بأن المسألة الشرقية التي قامت في دوائر أوروبا السياسية من أكبر المخاطر التي تعرضنا إليها، ولقد جر الخوف من هذه المسألة إلى جهود كثيرة بذلت في سبيل الإصلاح، على أن ضروب هذا الإصلاح لم يكن فيها من روح الانقلاب أو التجديد شيء ما، بل كانت مجرد وسائل سياسية تذرع بها الحاكمون لإنقاذ الدولة. على أن جزءا كبيرا من هذه الإصلاحات بذاتها كانت من عمل الأوروبيين لا من عملنا (ص72).
وفي الحق أن هذه الحركات الإصلاحية لا يمكن أن تعتبر حركات تجديد، لأنها لم تصدر من الشعب مصدر كل إصلاح وتجديد (ص73). وإذا كان قدماء الكتاب والمؤلفين لم يخرجوا عن حد النقل عن منتجات الشرق، فإن كتاب عهد الإصلاح، كما يسمونه، لم يتعدوا حد النقل عن منتجات الغرب، فلم يكن في كلا العصرين نزعة إلى الجديد أو الابتكار (ص74). والدليل على ذلك أن المصلحين لم يحاول أحد منهم أن يلمس بنقد أو تقرير حقيقة الحياة العائلية في تركيا (ص80). نقل هؤلاء مبادئ الثورة الفرنسوية نقلا حرفيا بلا تحوير أو تبديل، على أن الثورة الفرنسوية لم تتناول نظام الأسرة في أوروبا بأي حدث، ذلك لأن حياة الأسرة الأوروبية كانت قد وضعت مرساتها على نظام ثابت لا يقبل التغيير (ص80).
لقد كانت المسيحية ديانة آسيوية، كما كان الإسلام، غير أنها لم تستقو في عصر من العصور على شعب من الشعوب الأوروبية التي اعتنقتها فغيرت مزاجه الاجتماعي. لقد انتقلت المسيحية إلى روما في صورة فكرة، ولكنها لم تنقل معها النظام الاجتماعي الذي خصت به البيئة اليهودية في الشرق، بل على الضد من ذلك، فإن المسيحية قد تطورت، وفقدت جزءا عظيما من ماهيتها الأصلية، بما أثرت فيها البيئة الاجتماعية الرومانية مثال الحياة الأوروبية في ذلك العصر. فلو أن المسيحية كانت قد زحفت على أوروبا من أورشليم بجيوشها وجحافلها كما زحف الإسلام على الغرب، وأخضعت أوروبا لسلطانها وسطوتها؛ إذن لألغيت الحياة العائلية في أوروبا ولحلت محلها شرائع الأعراب من أهل البادية، ولتبدلت أوروبا من حياتها الأولى حياة أخرى، بل ولا نغالي إذا قلنا بأن أوروبا الحديثة لم تكن لتوجد على ما هي عليه اليوم. على أية حال نقول بأن تاريخ أوروبا قد ذهب في متجه وحده، وبذلك أنقذت الحياة العائلية ونجت من تخريب التقاليد خلال كل العصور. (ص81).
أما نحن فلم يكن لدينا شيء من روح هذا النظام العائلي، ذلك النظام الذي ولد في الأمم الأخرى روح الحياة القومية (ص82). وقد حاول المصلحون عبثا أن يوفقوا بين الناحيتين، فإنهم من طريق المدارس القديمة العتيقة قبضوا على زمام التعليم في المعاهد، ومن طريق المحاكم الشرعية الدينية أخضعوا نظام الحقوق المدني، وباتباع ما أوحت به السياسة الإسلامية الصرفة استطاعوا أن يلغوا العقلية التركية إلغاء كاملا (ص83).
لم يكن ذلك الجهد السياسي بشيء إلا جهد القانط اليائس يحاول إنقاذ دولة عملت فيها يد الفساد، إنه لم يكن تجديدا ولا إصلاحا بالمعنى الصحيح (ص86). لقد صم آذاننا إعلان الحكومة النيابية مرتين، ولم يكن لدى الذين أعلنوها من غرض، اللهم إلا أن يخضعوا الطوائف العثمانية المكونة من شعوب وعناصر متباينة لقوة الخلافة أو السلطنة مجتمعة، فلم يفكر المصلحون يوما ما في أن يضعوا حدا حاسما يتفوق على السلطة الدينية، فيحيوا بذلك الشعور القومي في قلوب الأتراك (ص91).
يقوم القانون في فرنسا على فكرة الحق، وفي ألمانيا على فكرة القوة، وفي إنجلترا على فكرة المنفعة (ص92). أما فكرة الحق ففكرة إنسانية صرفة وليست بفكرة قومية. على أننا نعيش اليوم في جو مشبع بفكرة القومية ولا شيء غيرها، ولهذا كان من الواجب بدلا من أن نتبع فرنسا أن نحذو حذو ألمانيا أو إنجلترا. إن القومية ألغت الفكرة العثمانية، وردت فلسفة الذاتية
Subjectivism
إلى حيث أصبحت بلا فائدة أو نتيجة، بل محت الفكرة الفردية في الاقتصاد، وأضحت معها الشرائع المنزلة بلا معنى يلائم الحالة الراهنة. ومع تفوق الروح القومية أصبحت الآداب الدينية لدى الواقع بعيدة عن حكم الآداب المدنية، لهذا وجب أن نلغي الحياة العربية إلغاء تاما، وأن نتنكب طريق السياسة الإسلامية تنكبا، ونتحرز منها تحرزا. (ص107).
كان للموقفين ثلاثة أغراض، تنحصر في أن نتمسلم ونستجدد ونستترك، وكان هذا في حيز المستحيل عمليا، فإن الأخطار التي انتابتنا من جراء القوانين التي استمددناها من الإسلام كانت جلية ظاهرة، واستخدام القوانين التركية التي ذاعت قبل الإسلام كانت موضع الشك، لهذا لم يصبح أمامنا إلا العمل للتجديد، ولم يكن للتجديد من وسيلة إلا ثورة طاحنة (ص109). ولا سبيل للمستقبل إلا هذه السبيل. (5)
ما هي الأسباب الأولية التي أحدثت تلك الفروق الكائنة بين العقلية الآسيوية والعقلية الأوروبية؟ سأحاول أن نعرف السبب من طريق تاريخي.
يجب علينا أن نعي بداءة ذي بدء أنه لم يقم في أوروبا من نبي مثل بوذا أو كونفوشيوس أو موسى أو عيسى أو محمد، ممن حملوا إلى الناس أوامر ونواهي إلهية ثم ألزموهم الخضوع لها قسرا وجبرا. (ص123).
تصادفنا في البدء حضارة رومانية قامت تعقيبا على الحضارة اليونانية التي حازت أرقى ما وصل إليه العقل البشري من الرقي والذكاء في التاريخ، على أن الحضارة اليونانية كانت حضارة إنسانية النزعة في مجملها وفي تفاصيلها. ولقد بحث العقل اليوناني الحياة ووضع من طريق هذا البحث نظاما للحقوق الإنسانية يوافق ما تقتضي هذه الحياة من حاجات. وكذلك الفلسفة اليونانية، فإنها فلسفة صرفت كل همها لخير الإنسانية، ولكنها لم تأت من طريق التنزيل والوحي على أنبياء ورسل، كما هي الحال في الشرق، بل إنك لا تعثر في بلاد اليونان على فيلسوف انتحل لنفسه صفة النبوة أو ألقى على كاهله عبء الرسالة (ص124).
ولقد ورثت روما البربرية هذا التراث عن اليونان، وعلى الرغم من أن اليونان كأمة قد انحلت وزالت، فإن الفلسفة اليونانية ظلت حاكمة بأمرها في العالم الروماني والحضارة الرومانية (ص125). غير أن أنانية روما الاستعمارية قد هزت قواعد روما وخلخلتها، وفي ذلك العهد أمكن لحواري من حواريي المسيح أن يملك منها الزمام، وأن يقبض على أعنتها (ص125).
حقيقة أنه هبط روما وفي يده كتاب، وكان يحمل فضلا عن ذلك نزعات المنطق الديني الآسيوي ليشق به لنفسه طريقا، ولكنه لم ينته إلا بأن بث فكرة مجردة لا غير، ذلك لأن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وكل نظاماتها، والدليل على هذا أنها ليست فكرة الحق المسيحية هي التي تسلطت على أوروبا، بل فكرة الحق الرومانية. وكذلك عاش نظام الأسرة الروماني وأينع وآتى أكله، في حين أنه لم يقو نظام واحد من نظامات آسيا الاجتماعية على أن يلج لروما بابا، وكذلك لم تعرف هناك عادات المسيح، بل إنه لم يتغير في روما من شيء إلا اسم الإله الذي كانوا يعبدون، وهذا الدين على هذه الصورة هو الذي ذاع وانتشر في أنحاء الإمبراطورية الرومانية (ص126).
على هذا النمط ملكت ثانية الديانات المنزلة زمام أوروبا، إنها ديانة قامت كغيرها على الأوامر والنواهي الإلهية، وكانت من الناحية المنطقية على أبعد ما يتصور من الإبهام والغموض والتعقيد، فكان هذا سببا في أن تتسع لكثير من ضروب التفسير الاختياري الذي لا يتقيد فيه مفسر بنص ولا قاعدة. غير أنه على الرغم من كل هذا أنقذت الحضارة الرومانية أوروبا، فإن كل أمة من الأمم التي اعتنقت النصرانية لم تتخل لحظة واحدة عن عقيدتها الأصلية إزاء الحق الإنساني، ولم تبعد قيد أنملة عن نظاماتها العائلية وغيرها من ظواهر الحياة كما ورثت عن الحضارة الرومانية، لهذا قام نضال وكان صراع بين العقلية المسيحية القدسية وبين العقلية اليونانية الرومانية دار حول نظام البابوية (ص126).
لقد نهجت المسيحية نهج كل الديانات الأخر، لقد علمها زعماؤها على أنها تقاليد لا تنقض، وبذلك وقف تيار العلم الارتقائي، وحصر التعليم بين جدران المدارس المسيحية، غير أنه بجانب هذا قامت الحياة الاجتماعية ونظاماتها غير ممسوسة بشيء من هذه الروح. والحقيقة أنه لم يكن للمسيحية من نظامات ومعاهد تتغلب بها على النظامات والمعاهد التي كانت في أوروبا من قبل، وهذا هو السبب في أن أوروبا قد استطاعت أن تنجو بنفسها عن أن تصبغ بالصبغة الآسيوية. فإذا كانت المسيحية قد نقلت معها إلى أوروبا شرائع كشرائع تعدد الزوجات أو الحجاب أو منطق يوحي بالقضاء والقدر أو أوامر منزلة تقضي على حس الجمال وحب الطبيعة والحياة؛ إذن لقضي على أمم أوروبا ب «الدروشة» كما قضي على بلاد فارس والهند وجزيرة العرب. وما كان يغني عنهم أنهم أوروبيون، فإن مسلمي البوسنة ومسيحييها لأبلغ مثال نضربه لنؤيد به ما نقول. وما دام مسلمو البوسنة في هذا العصر قد انتحلوا حياة العرب الاجتماعية وهم بعد في قلب أوروبا، فما الذي كان ينجي أوروبا من مثل ذلك؟ (ص127).
ثم جاء عصر التجديد، وتبعه لوثر؛ إن المزاج الألماني لم توافقه مراسيم روما وطقوسها، فبدأت عهد الإصلاح وشق لها لوثر الطريق، قيل بأن كلمات الله لا يمكن أن تحتكرها اللاتينية، وأن كل اللغات يصح أن تكون لله، وكذلك الطقوس الدينية يجب أن تتبع أحكام العقل، فألغى لوثر كل الطقوس التي لا تتفق ومطالب الحياة، أو لا تتجانس والعقل أو الذوق السليم، إذ كيف يتسنى لأمم متحضرة على النمط الحديث أن تلزم طقوسا ومراسم بشر بها بداءة ذي بدء لشعوب عراة حفاة دأبهم البطالة والكسل، وأخص صفاتهم الجهل، شعوب عاشت بلا نظامات تشريعية أو حكومات؟ لقد فهم لوثر هذه الحقيقة، ولذا سلك أقوم سبيل (ص218).
ليس الإصلاح الديني - الذي قام به لوثر - إلا جزءا من التأثير الروماني العظيم الذي برز إلى الوجود من خلال الحضارة اليونانية. وعلى هذه القاعدة عينها قامت الثورة الفرنسوية، فإن كان زعماء الثورة في فرنسا كانوا جميعا من المؤتمرين بما أوحى به فلاسفة اليونان لعالم البشرية، فكتاباتهم ملأى بكلمات تفوه بها فلاسفة اليونان، وحياتهم مثل لمبادئ وضعوها. إنك لا تقع فيما كتبوا على استشهاد اقتطع من كتاب منزل، لأنهم لم يجدوا لا في الأناجيل أو التوراة ولا في كتاب زرادشت حقائق كالتي وقعوا عليها في مؤلفات اليونان. لقد كمن هذا الحق الثابت في تضاعيف الفطرة الإنسانية، والثورة الفرنسوية إنما استكشفت هذا الحق وعكفت عليه (ص129).
لقد استكشفت أن الحق عقلي لا تقليدي، وأن العلم يمكن استنباطه واستقراؤه من أعمال الناس وحاجات الجماعة وكنوز الطبيعة، وأن ليس للملوك ولا للبابوات من حق في الادعاء بأن لهم من قدرة على فهم الحق والعصمة من الخطأ أكثر مما لكل الناس، لقد نزعت الثورة عن الدين سلطة الدنيا وتركته في حيزه الطبيعي، في صدر الجماعات ومشاعرها (ص130).
وما كان لشيء أن ينتج عن هذا إلا القومية، لقد كانت الثورة الفرنسوية لكل الإنسانية، ولكنها انتهت بالقومية. وفيها تعثر إذا ما بحثت على الأسس التي قامت عليها العقلية القومية في أوروبا (ص132). هذه هي العقلية الأوروبية، ولن تجد لها من مثل في آسيا. على أننا قادرون على انتحالها، فإننا بشر مثلهم والواجب علينا أن ننتحل هذه العقلية كما هي جملة وبلا تجزئة (ص133).
ولكن كيف يتيسر لنا ذلك؟ يتيسر لنا بأن نسلك الطرق الثورية الانقلابية. إن الحاجة تدعونا لأن نلغي العقلية الآسيوية وأن نحل محلها العقلية الأوروبية. إننا تواجهنا الآن مصاعب ومشكلات كتلك التي قامت في وجه الثورة الفرنسوية، لهذا وجب علينا أن نستخدم الوسائل الثورية، وليس في الدنيا من ثورة حبت أعداءها بنعمة الحرية، إنما الحرية الشخصية تكون بيقين حقا للجميع بعد أن تضع الثورة أوزارها وتثبت أصولها، لهذا لا نستطيع أن نترك بزرة الحركات الرجعية تنمو حبتها في العصر الحاضر، وإلا فإن الثورة لن تنجح (ص135).
إن الحضارة الأوروبية تقوم على ثلاثة أسس عظمى: الأول حقوق الإنسان، والثاني الثقافة القومية، والثالث الاقتصاد والمالية القومية. ولنبحث كلا من هذه الأسس على حدة:
أولا:
حقوق الإنسان: تنحصر في أن كل شخص تابع لرعوية الحكومة، يولد ويعيش حرا، وهذا هو المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه كل جماعة متحضرة. وهذه الحرية تطبق على كل المعاهد التي يقوم عليها النظام الاجتماعي فرديا وعائليا وحكوميا: (1)
الحرية الفردية: تقيد هذه الحرية بكل الأشياء التي لا يجب لشخص أن يستعملها ضد شخص غيره. ولم يبق في أوروبا أمة واحدة لم تقبل مبدأ الحرية الفردية محددا هذا التحديد. ومن غير الحرية الفردية وحرية الضمير وحرية النشر لا يمكن أن تمضي أمة متحضرة في سبيل الارتقاء (ص140). (2)
أما الوجه الثاني من أوجه الحرية الفردية فذو علاقة بالحياة العائلية (ص145). أما العقلية الأوروبية فقد حلت هذه المشكلة أيضا، فإن الحياة العائلية في أوروبا إنما تقوم على مبدأ التساوي في الحقوق، لأن الحياة لم تعط الرجل حقا أكبر، ولم تحرم المرأة حقا، مهما كان نوعه، فإن الحياة مرح وسعادة، إذن وجب أن تعطى المرأة حرية الرجل، والرجل حرية المرأة، وليس على غير هذا الأساس تقوم الحياة العائلية الحرة. وهذه العقلية بالطبيعة ترفض الاعتراف بحق تعدد الزوجات، وتسع بالضرورة مبدأ مساواة حقوق المرأة بحقوق الرجل في الاجتماع. (ص146). المرأة والرجل أحرار فرديا، وما الزواج إلا اشتراك يحدث بتوحيد مصالحهما وحقوقهما بمحض الاختيار، والطلاق عبارة عن فسخ هذه الشركة، إذن وجب أن يكون للزوج والزوجة نفس هذه الحقوق المشتركة، والزواج موجه بكليته إلى خير الجماعة، ويجب أن يقوم على هذه المبادئ (ص184). (3)
حرية الحكومة: بحكم وجود أكثر من فردين اثنين في هذه الحياة فرض نظام الحكم، ولهذا لزم أن تقوم الحكومة على صورة تضمن حق كل الناس، ووجب أن يمثل في نظاماتها كل شخص من أشخاص الرعية، وهذه هي الديمقراطية، ينبغي للحكومة أن تمثل شرائع الأفراد وأن تقوم حفيظة على مصالح الجماعة، وأن مصالح الجماهير لا يجب أن تعبث بمصالح الأفراد، ولا يجب أن تعبث مصالح الأفراد بمصالح الجماهير. وعلى هذا لا ترى حكومة أوروبية تستطيع أن تفكر في أن تعتدي على مصالح الأفراد (ص149).
ثانيا:
الثقافة القومية: إننا نعيش اليوم في عصر القومية، ولم نصل بعد إلى عصر «الإنسانية». إن الحضارة الأوروبية تستهدي في كل أعمالها وحركاتها بوحي القومية وحدها، إذن يجب علينا أن نسير على نهجها ونعمل عملها. لم تعترف أمة بحق أخرى بعد، ولم تشفق أمة على غيرها، ولم يهب شعب لنجدة آخر، وما الحروب الطاحنة التي قامت في أوروبا إلا دليل حي على صحة ما نذهب إليه. ولقد حاول البعض أن يفسر موقف أوروبا العدائي إزاءنا بأنه راجع إلى بواعث دينية، وهذا ليس بصحيح، فإن الحضارة الأوروبية ليست بشعوبية مسيحية، ولا هي بجمعية نصرانية، فإن مثل هذه الأساليب التفكيرية قد زالت وانمحت من الذهنية الأوروبية، وليس أسخف من الحركات التي تقوم مناقضة لهذا المبدأ في تاريخ الدنيا الحديثة. وما جمعية الأمم إلا مثال محزن يؤيد صحة مذهبنا، فإن العقلية الإنسانية لم تقم بعد في ضمائر الشعوب، ولهذا يتعذر علينا أن نعمل مؤتمين بموحيات المنطق الإنساني، ليس لدينا إلا القومية والمنطق القومي وحدهما ... وهذا هو نتيجة التناحر على الحياة، وما التناحر إلا أساس الحياة في كل مكان، هذا مبدأ ثابت لا مبدل له (ص155).
ثالثا:
الاقتصاد القومي (160-171): إن الاعتراف بحقوق الإنسان قد مهد السبيل للحضارة الحديثة، فإن الثقافة القومية قد خلقت في الناس طابعا خاصا، أما الاقتصاد القومي فقد حفظ ذلك الطابع، وزوده بالقوة التي بها يستطيع أن يشغل في نظام هذه الدنيا أعلى مكانة، إذن فسنادة الحضارة الحديثة في الواقع هو الاقتصاد القومي، وكل الدنيا إنما تعمل اليوم على هذا المبدأ. وهذا نظام لم تتمتع به كل الأمم على السواء، إنه نظام يكاد يكون خاصا بأسرة الأمم الأوروبية، وهو في الواقع نتاج للعقلية الأوروبية. (ص161).
إن هذا مبدأ من أقوى المبادئ التي قامت عليها الحضارة الحديثة، وهو مبدأ على أية حال مخالف تمام المخالفة للمبادئ التي قامت عليها حياة الشعوب القديمة. أما إذا كانت الشيوعية قد قامت خلال الزمان الذي ظهر فيه المسيح مثلا لكفت حاجات الناس لعهده، ولكنها كانت تحفظ على الجماعات طابعها الفطري الأول على الدوام، فإن المسيحية اتبعت مبدأ الإنتاج على قدر الكفاية والكفاف. أما مبادئ الاقتصاد الحديث فمناقضة لهذا المبدأ تماما، إنها لا تقوم على قاعدة الإنتاج على قدر الحاجة، بل على مبدأ الاستهلاك بقدر الإنتاج، والفرق بين المبدأين شاسع بعيد، إنها تزيد الإنتاج وفي الوقت ذاته تنوع فيه (ص176).
هذا هو نظام الحضارة الأوروبية، وليس من شأننا أن نبحث فيما إذا كانت حضارة بحق أم أنها بربرية ووحشية، كلا، يكفينا أن الحياة الإنسانية تقوم على هذا الوجه في العصر الحاضر. والواجب على تركيا أن تندمج في هذه الأسرة المتحضرة، وأن تقيم حقوقها وثقافتها واقتصادها على أسس أوروبية. إن الحياة منطق صرف، وجهد متواصل، ولكنها بينة الطرق ممهودة السبيل.
هذا هو ملخص الكتاب ولبه، نترك الحكم فيه لحرية الباحثين.
صفحه نامشخص