3 - هل حقا أنك لم تسمع شيئا من كلام إحسان يا تمراز؟ - كلا يا سيدتي، فإني لم أسمع منه حرفا، ولكن رأيته ينحدر إلى الخور في صمته وسكونه المهيب، مصفر الوجه غائر العينين صامت اللسان. - هنيئا لك أيها الشيخ، فقد عشت من غير أن يتسرب إلى قلبك الحب الأبوي يوما، فيا لسعادتك ويا لهنائك بوحدتك الحزينة الجميلة!
وانهملت من عيني «هنية» الدموع فائضة ملء شئونها. •••
الزمان في شهر آب عام 1891، وفي إقليم الفيوم الجميل، حيث تذهب أشجار النخيل برءوسها المهيبة في السماء وتنفض خيران الأرض أغوارا عميقة، والسيدة «هنية» تخاطب الشيخ تمراز البستاني عن ولدها إحسان الذي تمخضت عن حياته الأقدار في شهر يناير سنة 1861، فهو الآن في فجر العقد الرابع من عمره، صبوح الوجه مفتول السواعد شاحب اللون كبير العينين أقنى الأنف، يتهدل على رأسه شعر كأنه سبائك الذهب الصفراء، قليل الكلام كثير الصمت ثابت الخلق، سيد في كل شيء، حتى في سكونه ونومه، فكان على صغر سنه كامل الرجولة قوي الشكيمة شديد المراس، ولكنه كان كثير الاحترام لأبويه مفرط الخضوع لإرادتهما، حسن المعشر، حلو الحديث في رصانة وتفكير عميق، محبا للصدق والعمل، مقسطا في كل شيء حتى في تصوراته وخطرات نفسه. وكان أبوه قد بلغ بعد الثلاثين عاما ونيفا من سيرته الأولى مبلغ الكهول الذين هدمتهم الأيام، وانتقصت من حيويتهم حوادث الزمان.
قامت «هنية» على تربية ولدها أحسن قيام، فعنيت ببدنه عنايتها بتكوين عقله، وبذلت في سبيل هذه الغاية أقصى الجهد، ذلك لأن الدين كان قد أقل موارد الأب إقلالا أعوز الأم إلى الاقتصاد في كل شيء، ولم يبلغ إحسان الثلاثين حتى كان قد أتم تعليمه وخرج من الدرس والعكوف على الحفظ والتحصيل إلى عالم الحياة العامة، عالم الجهاد والجلاد. ولم تكن نزعات نفسه لتريحه من التفكير في أمر مستقبله، فكثيرا ما ناقش أباه، وكثيرا ما ناقشته أمه في ذلك، غير أنهما لم يريا منه إلا إصرارا على الطموح إلى أعلى المناصب وأرقى الدرجات الاجتماعية، فتركاه لتصوراته وموحيات نفسه، قانعين بأن الأيام سوف تكسر من حدة شبابه، وسورة عقله الكبير.
غير أن الأم لم تلبث على فرحها بولدها قليلا حتى لحظت أن فترات تأمله قد أخذت تطول شيئا فشيئا، وأن صمته أصبح أعمق وأبلغ تعبيرا عن الألم الصارخ من أعماق نفسه، وعن العاصفة النائمة في عينيه؛ فكلمت في ذلك أباه، ولم يكن الأب بأحسن من الأم حظا في الفوز بشيء من سر إحسان. ولما ألحت عليه هذه الأحزان التي لم يجدا لها من باعث معروف، نصح لهما الأطباء بتبديل الهواء فلم يمانع إحسان، على أنه اختار إقليم الفيوم، حيث يقوم قصر منيف تملكه أمه «هنية» عن أبيها، تحيط به حدائق غناء، وتنخفض من حوله خيران ذلك الإقليم الجميل بمياهها الجارية وأشجارها الباسقة ومناظرها الطبيعية الفاتنة.
4
الليل مرخي السدول، والطبيعة صامتة ما ينطق لها لسان، والأرض هامدة كأنها ميت فارقته الحياة، فلحق بمن غبر ممن طوتهم عصور التراب.
وكان المقبل على ذلك القصر الذي يسكنه إحسان يرى نورا ضئيلا ينبعث من حجرة في الطابق السفلي، وقد تخلل الضوء ما بين الشرائح الخشبية القديمة، فإذا أطل من بينها رأى شابا في فجر العقد الرابع مستلقيا على مقعد كبير من فوقه الإله حوريس يظلل إحسانا بجناحيه ليحفظه من سوء ما خبأت له الأيام.
ولكم أحيا ظلام الليل من أمل! وكم ولد من يأس! وأنت إن فتشت في قلب إحسان في تلك اللحظة لما وقعت على أمل ولا على يأس، بل وجدت حيرة وشكا، يزكيهما الأمل ويذهب بهما اليأس، فلم يكن الأمل ولم يكن اليأس إلا حالتين تتناوح من حول الشكوك في قلب إحسان رياحهما، وكان كلما اقتلعت رياح الأمل في قلبه الشكوك هب فتيا قويا، وكم هبت عواصف اليأس على تصوراته فارتد شكوكا شقيا. وكانت ترتسم على وجهه ابتسامة مريبة يعقبها قطوب مخيف؛ أما الابتسامة فكان باعثها الأمل، وأما القطوب فكان باعثه اليأس. فإذا تمعنت في جلسته تلك وفي توارد الصور على وجهه الشاحب، لما تخيلته إلا تمثالا أخرجته كف نقاش ماهر ليعبر لكل عين عن معنى من معاني الحياة، يختلف أثره في النفس باختلاف العين الناظرة إليه.
ولم تك تسمع في تلك الحجرة من حركة، اللهم إلا دقات ساعة ذلك الشاب ودقات قلبه. وكان ينعكس على وجهه ضوء ضعيف منبعث من سراج فيه شموع موقدة على العادة القديمة التي اتبعت في قصور العظماء حتى عهد قريب. وظل على حاله فترة لا يتحرك فيه من شيء، حتى انتبه إلى وقع أقدام تقترب من حجرته فتحرك، ولما أن حقق مصدر الصوت غادر مجلسه إلى باب الغرفة، فإذا بالشيخ تمراز البستاني يمد إليه يده برزمة من الخطابات عليها أختام البريد. - هل أدركك أحد أيها الشيخ وأنت ذاهب إلى القرية لتحضر البريد؟ - كلا يا سيدي، فإني أخذت أتسلل بين الأشجار كالثعلب أروغ في كل ما أشك فيه، وما زلت متمهلا حتى بعدت عن المنزل، ثم أطلقت ساقي للريح. - حسنا فعلت يا تمراز! فخذ هذا الدينار جزاء أمانتك وحسن خدمتك لسيدك الصغير. - إنك تغمرني بفضلك يا سيدي، وسترى من أمانتي ما سوف تضاعف عليه مكافأتي. - بلا ريب. اذهب الآن.
صفحه نامشخص