جهت‌گیری سیاسی مصر در دوران محمد علی: بنیان‌گذار مصر مدرن

هنري دودويل d. 1360 AH
77

جهت‌گیری سیاسی مصر در دوران محمد علی: بنیان‌گذار مصر مدرن

الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة

ژانرها

وبعد أيام قلائل صرح محمد علي أمام «المندوب الخاص» الفرنسي بنفس الروح السابقة، فقال: «أنا رجل مسالم لا يرمي إلى غرض آخر سوى أن يكرس بقية أيامه في سبيل سعادة البلاد التي حكمها الآن، إنهم يطلبون برهانا على أن هذه نياتي، وإني أقدم لهم البرهان بأن أتوسل إلى أوروبا أن تحمي تركيا من أي اعتداء يأتي من ناحيتي، وأن تحميني في الوقت نفسه من أي اعتداء يأتي من ناحية تركيا.»

48

وقد دارت هذه المفاوضات بكثير من الفتور، ولكنها كانت بمثابة فرصة ثمينة سنحت للباشا لإظهار نياته والتصريح بآرائه؛ لأن الباب العالي قرر في يوم 3 مايو التنازل عن أطنة أيضا. وهكذا سويت كافة المسائل المختلف عليها اللهم إلا مقدار الجزية التي يدفعها الباشا عن الولايات التي تنازلت له تركيا عنها، ولكن الاتفاق قد تم في سبتمبر التالي على هذه المسألة أيضا، وهو يتلخص في أن يدفع الباشا 30000 كيس سنويا عن مصر وأطنة وسوريا وطورسوس.

49

وهكذا وضعت الحرب السورية أوزارها دون أن تعود على أحد بفائدة؛ فالسلطان قد خرج منها بعار الهزيمة على أيدي أحد باشواته الثائرين، بينما لم يحقق محمد علي أحلامه لا من حيث الاستقلال ولا من حيث المركز الممتاز في البلاط العثماني. وبينما كانت الدول الغربية حانقة على انتصارات إبراهيم التي فتحت ثغرة نفذ منها الجنود الروس كانت روسيا نفسها متألمة؛ لأنها لم توطد أقدامها كما ينبغي على ضفاف البسفور، على أن روسيا على كل حال لم تنسحب إلا بعد أن نالت بمقتضى بند سري وارد في معاهدة «أونهكيار يوكليس» المعقودة في 8 يوليو الحق في إقفال بوغاز الدردنيل في وجه البوارج الأجنبية، ولعل هذا على الأرجح هو السر في ذلك التشكك الغريب الذي كان بالمرستون ينظر به إلى سياسة محمد علي. وحتى قبل توقيع المعاهدة المذكورة كان بلمرستون غير ميال لمشروعات محمد علي، وإن لم يكن شديد المعارضة فيها. وفي هذا الصدد كتب بالمرستون يقول: «إن غاية محمد علي الحقيقية ترمي إلى إنشاء مملكة عربية تضم كافة البلاد التي تتكلم العربية، وقد لا يكون هناك وجه للخطر من تحقيق هذا المشروع في حد ذاته، ولكن لما كان تحقيقه يتضمن تمزيق شمل تركيا ولم يبق لنا مناص من معارضته، ومن جهة أخرى لا فرق بين أن تضع تركيا يدها على طريق الهند وبين أن تكون تلك الطريق في يد ملك عربي قوي.»

50

وهذه الخطة طبيعية حيال الأحلام التي كانت تجيش في صدر رجل كانت مطامعه سببا في إثارة مسألة من أعقد المسائل الأوروبية في شكلها الحاد. وهكذا أصبح من غير المحتمل أن يتم ذلك التعاون في المستقبل بين إنجلترا ومصر - وهو ما كان يطمح إليه الباشا - بسبب ضعف تركيا أو بسبب ما بين الدول الأوروبية من التنافس. وليس من ريب أن التمسك بأي مبدأ سياسي كالمطالبة بالاستقلال الوطني أو بإحلال الحرية السياسية محل الظلم والاستبداد - نقول: لا ريب في أن شيئا من هذا القبيل يصلح لأن يتخذه قاعدة لإثارة القلاقل السياسية، ويمكن على الأقل أن يستخدم في اكتساب العطف العام من الشعوب الأخرى - ولكن مجرد المطالبة بإحلال حكم أوتوقراطي صالح محل آخر فاسد لم يكف لإثارة أي عاطفة في صدر حزب الأحرار - ومما يدعو إلى الأسف حقا أن عملية الإصلاح التي بدأها محمد علي وما ترتب من النتائج الحسنة على الحكم الفردي الجاف المنظم وقدرته على أن يدخل في شعب كالشعب المصري مركب من عناصر غير متجانسة، وذلك الشعور المشترك الذي لا سبيل للوطنية بدونه، لا بل إن عوامل التمدين التي كانت تتجلى تدريجيا في إدارته نقول إن مما يدعو إلى الأسف أن ذلك كله قد تنوسي فيما كانت تردده الألسن عن قسوة نظام الجندية الإجباري والشدة التي كانت تتجلى في عقوباته والإرهاق الذي ظهر أثره في امتيازاته، ولا ينبغي ألا نتنحى باللائمة الشديدة على بالمرستون؛ إذ لم يكن قد فهم حق الفهم أهمية حكم محمد علي الذي لم يكن في رأيه سوى الرجل الذي كادت مطامعه البعيدة أن تثبت تقدم الروس في مركز خطير على ضفاف البوسفور.

الفصل الخامس

فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية

كان بالمرستون - على نحو ما مر بك - هو الذي عزا إلى محمد علي فكرة إنشاء «إمبراطورية عربية» تضم شمل كافة الأصقاع التي تنطق بالعربية. ومثل هذه الرغبة كان بديهيا أن تجيش في صدر نائب السلطان؛ فإن فتح سوريا بعد أن دانت له الأمور في مصر والحجاز والسودان لم يترك أمامه ما يستحق الذكر من العقبات في سبيل تحقيق تلك الرغبة؛ إذ لم يبق لإتمام ذلك التوسع الإقليمي إلا أن يحتل الطرق والخليج الفارسي وجنوبي بلاد العرب. وبديهي أن قطرا من تلك الأقطار لم يكن مغريا من الناحية الاقتصادية، اللهم إلا إذا استثنينا مصايد اللؤلؤ في جزيرة البحرين في أنها من الناحية العسكرية آهلة بقبائل رحالة أو شبه رحالة لن ترضى بسهولة عن إنشاء حكومة نظامية ، وخاصة إذا كانت مصحوبة بفرض ضرائب مقررة وسن قانون للخدمة العسكرية الإجبارية. ولكن هذه الأصقاع إذا لم تكن قيمتها كبيرة إلا أن احتلالها كان له من الناحية الأخرى مزايا معينة؛ لأن احتلال الطرق يجعل أملاك نائب السلطان متاخمة لإيران، ثم إنه بواسطة إيران يصبح قريبا من أواسط آسيا، أما احتلال جنوبي بلاد العرب فإنه يكفل له السيادة على البحر الأحمر من ناحية والخليج الفارسي من الناحية الأخرى، ولهما ما لهما من المزايا العسكرية في جميع الأزمان والعصور بحيث إنه قد يستطيع أن يحظر على العمارات البحرية الإنجليزية الموجودة في الشرق المرور فيهما.

صفحه نامشخص