مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرها
غير أن البرديسي «ومحمد علي» في الرحمانية، سرعان ما قررا الزحف على رشيد، واضطر السيد علي أمام قواتهما الكبيرة إلى إخلاء البلدة والتحصن في برج مغيزل «قلعة جوليان»، فدخل القائدان رشيد وبادرا بمحاصرة البرج، وأرسل الجزائرلي الإمدادات إلى أخيه، كما أرسل مركبا حربيا من نوع القرويت وآخر من سفن المدفعية للوقوف عند مدخل البوغاز لحماية مرور النجدات من الإسكندرية إلى قلعة جوليان من جهة، ولإحباط أية محاولة قد يقوم بها العدو لإرسال حملة نهرية ضد القلعة من جهة أخرى، وحاول السيد علي المفاوضة والاتفاق مع البرديسي، كما سعى الجزائرلي من ناحيته لهذا الغرض، فإنه لما كان قد صح عزمه منذ قدومه إلى الإسكندرية على الاستعانة بالوكلاء الإنجليز في علاقاته مع البكوات، فقد وسط نائب القنصل البريطاني بالإسكندرية «بريجز»
Briggs
للتفاهم كذلك مع البرديسي، ولكن دون جدوى، ذلك أن البرديسي أعلن أنه لن يقبل إلا أن يأتي علي باشا الجزائرلي إلى القاهرة «على الشرط والقانون القديم» إذا أراد أن يعترف البكوات بباشويته، وشدد الحصار على القلعة، فلم يجد السيد علي مناصا في آخر الأمر من التسليم، فتم ذلك في 12 أغسطس سنة 1803 واقتيد أسيرا إلى القاهرة.
وأخاف سقوط رشيد علي الجزائرلي بالإسكندرية، فنشط في تحصينها، وكسر السد الذي يفصل بين بحيرتي المعدية ومريوط لإغراق الأرض حول الإسكندرية، ثم لجأ من جديد لتوسيط الوكلاء الإنجليز لدى البرديسي وإبراهيم بك، فكتب الوكلاء الفرنسيون في نشرة أخبارهم بتاريخ 22 أغسطس أن الجزائرلي اقترح على البكوات الوصول إلى تسوية واتفاق، «ولكن البرديسي وإبراهيم شيخ البلد يرفضان كل سلام لا يكون على قاعدة إرجاع الحكومة إلى ما كانت عليه قبل مجيء الفرنسيين، فهما يوافقان على وجود باشا في القاهرة، ولكن بشريطة تقييد سلطته بكل القيود التي فرضت عليها في الماضي، ثم يوافقان على دفع الميري للسلطان.»
وأبدى الوكلاء الفرنسيون شكوكهم في موافقة الجزائرلي على هذه الشروط، ولو أنه صار يعرض الآن على البكوات انسحابهم إلى الصعيد الذي وافق على أن يترك لهم امتلاكه نظير مغادرتهم للقاهرة وخروجهم منها ، وكتب السفير الفرنسي «برون» من القسطنطينية إلى حكومته في 25 سبتمبر عن هذه المساعي فقال: إن الجزائرلي بعد سقوط رشيد أوفد «بريجز» للمفاوضة مع البرديسي، فقام برحلتين لمقابلته، وأصر البرديسي في المرة الأولى على ضرورة عودة الوضع السياسي في البلاد إلى ما كان عليه قبل الغزو الفرنسي، كما طلب إعادة تنصيب محمد خسرو باشا في ولاية القاهرة، ثم أظهر في المرة الثانية «نوايا أقل عداء لعلي باشا الجزائرلي؛ حيث قال إنه لا يجد بأسا من استقباله في القاهرة واليا عليها، ولكن بنفس القيود التي فرضت على سلطة الباشوات العثمانيين في مصر من قديم الزمن»، ثم أردف «برون» يقول: وفيما عدا ذلك فإنه لا يعرف شيء عن نتيجة هذه المفاوضة؛ لأن «بريجز» قد لزم الصمت بعد ذلك.
ومع ذلك فقد كان معروفا أن البكوات لن ينزلوا عن مطالبهم، كما كان واضحا أنهم قد صح عزمهم على مهاجمة الإسكندرية بعد استيلائهم على رشيد؛ ولذلك فقد صار يهم الوكلاء الإنجليز معرفة نوايا البكوات الصحيحة، ومدى تأثرهم بالنفوذ الفرنسي، لما كانوا يخشونه من تعرض الإسكندرية لخطر الاحتلال الفرنسي إذا انتهزت فرنسا فرصة امتلاك البكوات لها وأرسلت جيشها لغزو البلاد من جديد، الأمر الذي ظل يقض مضاجع الإنجليز منذ جلائهم عن الإسكندرية في شهر مارس سنة 1803، وعلى نحو ما أوضحنا في الفصول السابقة، وعلى ذلك فقد كلف «مسيت» نائب القنصل البريطاني «بتروتشي» أو البطروشي أثناء وجود البرديسي برشيد، بالاتصال بالأخير لمعرفة مدى انحياز البكوات للإنجليز أو لخصومهم الفرنسيين، فقابل «البطروشي» البرديسي وسليمان أغا، ووصل من أحاديثه معهما إلى أن مماليك إبراهيم بك موالون للإنجليز، بينما يعتمد البرديسي وجماعته المرادية على فرنسا اعتمادا كليا، حتى إن البطروشي بعث من رشيد في 13 أغسطس يقول: «إنه لن يدهشه بتاتا - إذا استولى البكوات على الإسكندرية - أن يطلبوا حماية فرنسا لاعتقادهم الراسخ أنه يستحيل عليهم الاحتفاظ بمصر من غير مناصرة فرنسا لهم، كما أنهم يعتمدون عليها في الوصول إلى اتفاق مع الباب العالي.»
واعتقد البرديسي أن الاستيلاء على الإسكندرية سوف ينهي تماما كل سيطرة للعثمانيين في مصر، بل ويترتب عليه طردهم من البلاد في النهاية؛ ولذلك فقد بادر بالذهاب إلى دمنهور واستعد للزحف على الإسكندرية، معتمدا على قوات حليفه محمد علي في الهجوم عليها، ولم يكن من المنتظر أن يستطيع علي الجزائرلي الدفاع عنها طويلا إذا اتحد جيشاهما ضده، فمع أن الإسكندرية كانت مهددة بخطر دخول الأرنئود والعربان إليها منذ وصول سليمان أغا إلى رشيد، وقبل سقوطها مع قلعتها نهائيا في أيدي البرديسي ومحمد علي؛ فقد كان أول عمل قام به علي الجزائرلي عند وصوله إلى الإسكندرية في يوليو أن سرح الجنود الذين كانوا بها ممن كانوا تحت قيادة خسرو باشا وأحمد باشا خورشيد ونقلهم إلى السفن، مع أنه لم يحضر معه سوى قوة بسيطة من ألف وخمسمائة رجل فحسب «جمعوا على عجل في القسطنطينية».
وقد عزا «ماثيو لسبس» هذا العمل الذي قال عنه - في رسالته وقتذاك إلى الجنرال برون بالقسطنطينية في 15 يوليو - إنه حرم علي باشا نفسه من القوات اللازمة لحمايته هو شخصيا إلى «قلة اهتمام «الجزائرلي» بمراعاة خاطر القبطان باشا «حامي خسرو باشا»، كما يدل على سعة الهوة التي تفصل بين القبطان باشا والصدر الأعظم»، فباتت الإسكندرية ولا قدرة لها على دفع أي هجوم يقع عليها، زد على ذلك أن كسر السد قد أشاع الاضطراب في داخل المدينة التي امتنع عنها بسبب ذلك وصول ماء النيل والأقوات والأرزاق، واضطر كثيرون من أهلها للجلاء عنها والخروج إما إلى أزمير وإما إلى قبرص أو رودس، ولم ينقذ الإسكندرية من الوقوع في قبضة المماليك سوى انسحاب محمد علي بقواته من دمنهور، واضطرار البرديسي بعد ذلك إلى الانسحاب من دمنهور إلى القاهرة.
ولانسحاب محمد علي من دمنهور - بالرغم من محالفته مع البكوات المماليك - أهمية كبيرة في شرح خطة الزعيم الألباني وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى السياسية؛ إذ لا تقل أهمية هذا الانسحاب من هذه الناحية؛ أي إلقاء الضوء على سياسته في هذه السنوات الأولى عن امتناعه عن الاشتراك في معركة دمنهور المعروفة في 20 نوفمبر سنة 1802، ذلك أن نفس السبب الذي أغرى البرديسي بفتح الإسكندرية؛ أي سيطرة المماليك المنتظرة وطرد العثمانيين من البلاد نهائيا نتيجة لهذا الفتح، كان الدافع لانسحاب محمد علي من دمنهور؛ لأن ظفر المماليك بالسيطرة وإخراج البلاد من حوزة العثمانيين، الأمر المترتب على سقوط الإسكندرية كان نتيجة سريعة وحاسمة لم تدخل وقتئذ في حساب محمد علي ولا في تفكيره؛ فقد دلت الحوادث القريبة على أنه كان بوسعه، دون صعوبة تذكر التغلب على الباشوات العثمانيين الذين يبعث بهم الباب العالي إلى مصر، وكان من الواضح أنه سوف يظل قادرا على ذلك بسبب ضعف سلطان الباب العالي في مصر وضعف «الباشا» المرسل، وهو لا جند ولا مال عنده لتعزيز باشويته، وفي استطاعة محمد علي ليس فقط شراء بطانته بالمال، بل والقضاء على «الباشا» نفسه، لا سيما وقد صارت له وحده زعامة الأرنئود أكبر قوة عسكرية عاملة في البلاد، وأما البكوات والمماليك، فقد كان الحال معهم يختلف تماما عن الحال مع الباشا العثماني، فهم أصحاب الحكومة في القاهرة، ويمتلكون القلعة وينبسط نفوذهم على الصعيد، معقلهم القوي، كما صار منبسطا الآن على الوجه البحري بأكمله، فلم يكن خارجا عن سلطانهم به سوى الإسكندرية، ولديهم بفضل اتحادهم وقتئذ من القوتين المادية والمعنوية ما يجعل التغلب عليهم مستحيلا وبخاصة إذا دانت لهم الإسكندرية، زد على ذلك أن البكوات كانوا يعتمدون على مناصرة إنجلترا وفرنسا لهم، ويتوسط هؤلاء لحل مسألتهم مع الباب العالي، ولا يعرف محمد علي ما قد تسفر عنه هذه الوساطة من نتائج ربما جاءت في صالح البكوات، بينما كان محمد علي نفسه لا يزال مفتقرا إلى مناصرة هاتين الدولتين القويتين أو إحداهما له، ففضل في هذه الظروف اتباع خطة «كسب الوقت» دائما، حتى تتاح له فرصة إشاعة التفرقة بين صفوف البكوات ببذر بذور الخلاف والشقاق بينهم، وتقويض دعائم حكومتهم في القاهرة، وصار مما يلائمه كل الملاءمة بقاء الإسكندرية في يد علي الجزائرلي من جهة، وإلزام الجزائرلي نفسه من جهة أخرى بالبقاء بها وعدم الخروج منها والذهاب إلى القاهرة قبل أن يتم له نهائيا إضعاف حكومة البكوات، كي يضمن سيطرته هو الشخصية عندئذ على البكوات وعلى الجزائرلي نفسه عند حضوره إلى القاهرة، وقد اعتمد محمد علي في تنفيذ خطته على محالفته مع البكوات التي تمكنه من بذل النصيحة لهم تحت ستارها، ولم يتوقع محمد علي أن يهمل البكوات نصحه وإرشاده لهم؛ لوثوق عثمان البرديسي به ثقة كاملة طغت على حذر زميله إبراهيم بك الذي لم يرتح في قرارة نفسه للمحالفة مع زعيم الأرنئود، وظلت تساوره الشكوك من جهته، ويخامره سوء الظن من ناحية نواياه، وينظر بعين الريبة لما يسديه للبكوات من نصح وإرشاد.
وإلى جانب هذا كله اعتمد محمد علي في نجاح خططه على ما كان لديه من قوات عسكرية من المشاة والمدفعية بوصفه القائد الأعلى للأرنئود، القوة التي تعتمد على مؤازرتها حكومة البكوات أو الثلاثية الحاكمة في القاهرة.
صفحه نامشخص