مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرها
تصدير
الباب الأول: فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
1 - تركيا والمماليك
2 - فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
3 - إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
4 - ظهور محمد علي: الخطوات الأولى
5 - ظهور محمد علي: المناداة بولايته
تصدير
الباب الأول: فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
صفحه نامشخص
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
1 - تركيا والمماليك
2 - فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
3 - إنجلترا وسياستها الإيجابية في مصر
4 - ظهور محمد علي: الخطوات الأولى
5 - ظهور محمد علي: المناداة بولايته
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الأول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر 1801-1811م (الجزء الأول)
تأليف
محمد فؤاد شكري
صفحه نامشخص
تصدير
إن «مصر في مطلع القرن التاسع عشر» دراسة تتناول تاريخ هذه البلاد خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن، منذ خروج الفرنسيين وانتهاء عهد حملتهم في مصر 1801، إلى وقت القضاء على المماليك في مذبحة القلعة 1811.
وسبب اختيار هذه الفترة، أنها مليئة بالأحداث التي كان لها أثر حاسم في تطور تاريخ البلاد بقية القرن التاسع عشر، ثم خلال قسم هام من القرن الذي يليه، أما هذه السنوات العشر فقد شهدت بداية التنافس بين إنجلترا وفرنسا، أو الصراع الذي نشب بينهما للاستئثار بالنفوذ السياسي في مصر، وهو صراع استمر ظاهرا، ويكاد يدور حوله بمفرده تاريخ البلاد في أخطر مراحله، ولسنوات عديدة بعد ذلك. على أن زيادة حدة هذه الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذ كانت أسوأ النتائج المباشرة التي نجمت من هذه المنافسة الإنجليزية الفرنسية.
ولقد بقيت هذه الفوضى السياسية من المميزات التي اختصت بها الفترة التي ندرسها. ومع أن الرأي الشائع أن تولية محمد علي الحكم في سنة 1805، كان الحادث الذي أنهى الفوضى السياسية؛ فقد تبين أن اعتلاء محمد علي أريكة الولاية لم ينه هذه الفوضى، بل لقد بقيت تسود البلاد إلى وقت جلاء «حملة فريزر» من الإسكندرية (1807)، ثم استمرت بعض أسبابها القوية إلى أن أمكن على وجه الخصوص تطويع الجند، وأخيرا الخلاص من البكوات المماليك (1811).
ولا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن تسجيل هذه الوقائع يعني الإشادة بحادث التولية ، أو بالحكومة التي أقيمت على أشلاء البكوات؛ فلقد تبين أن حادث التولية ذاته لم يكن سوى مغامرة كبرى، استندت على أكبر تمويه عرفه التاريخ، ارتكبه متطلع إلى العرش في حق البلاد التي يريد حكومتها، فقد سبقت هذا الحادث إجراءات «مزورة»، واتبعت أساليب ملتوية مهدت للتولية، ثم استمر التمويه حتى بعد المناداة بولاية محمد علي، فاستطاع بفضله أن يجتاز بسلام ما أسميناه بأزمة النقل إلى سالونيك (1806).
ولقد كانت أزمة النقل إلى سالونيك تضارع في خطورتها أزمة الغزو الإنجليزي ومجيء «حملة فريزر» إلى الإسكندرية في السنة التالية (1807)، فأثبتنا طائفة من الوثائق التي تكشف حقيقة هاتين الأزمتين. ولقد كان أثناء وجود حملة فريزر بالإسكندرية أن صار محمد علي يفكر في تأسيس باشوية وراثية في مصر، ومن المحتمل أن تكون هذه الفكرة قد نبتت في ذهن محمد علي قبل ذلك، ولكنه لم يفصح عنها، وللمرة الأولى قطعا، إلا أثناء مفاوضته مع الإنجليز بشأن جلاء حملتهم.
والرغبة في تأسيس الباشوية الوراثية لم تلبث أن صارت العامل الحاسم الذي سيطر على سياسة محمد علي، من ذلك الحين إلى نهاية الفترة التي ندرسها، فكان شرطا أساسيا لفوزه بهذه الباشوية الوراثية، أن يخلص له الحكم في مصر، وأن تتدعم أركانه، ولا يتهدد البلاد من جديد غزو خارجي، وتربطه أوثق الصلات بالسلطان العثماني، فلا يعود هذا الأخير يفكر في عزله، وحتى تمهد هذه العلاقات لتحقيق غايته.
واسترشدت حكومة محمد علي بهذه الاعتبارات جميعها، وذلك في نشاطها بعد تخطي عاصفة الغزو الإنجليزي خصوصا، ولقد كان بعد أن رفض الإنجليز والفرنسيون أن تنال مصر استقلالها أن اتجه محمد علي صوب تركيا؛ لعله يظفر بمطلبه - الباشوية الوراثية - من صاحب السيادة الشرعية عليه نفسه.
ولقد أتينا بطائفة من الوثائق لإظهار نوع السياسة «السلبية» التي كانت تتبعها وقتئذ الحكومة الفرنسية في مصر، ولبيان أن نابليون بالرغم من «سره» المشهور والأطماع التي صورت له إمكان تشييد إمبراطورية «شرقية» كبيرة إلى جانب إمبراطوريته المترامية في «الغرب»؛ لم يقدم على معاونة البكوات المماليك جديا لينشئوا حكومة مملوكية قوية، ولم يقبل على مؤازرة محمد علي ليظفر بالحكم والسلطة، وكان وقتئذ إنشاء الحكومة الموالية - أو الخاضعة - لفرنسا في مصر، ضروريا في نظر نابليون ورجال دولته كإجراء يمهد لعودة الاحتلال الفرنسي، أو إذا اتضح أن ذلك متعذر، كوسيلة تكفل لفرنسا استعلاء نفوذها السياسي في مصر، وتفويت الفرصة على غريمتها إنجلترا، وكان «دروفتي» القنصل الفرنسي هو الذي فطن إلى أهمية استمالة محمد علي، والعمل لتأييده، ففعل ذلك، ولكن من تلقاء نفسه ودون أن تصله أية تعليمات في ذلك من حكومته. والذي يجب ذكره، أن «دروفتي» لم يسلك هذا المسلك إلا بعد المناداة بولاية محمد علي، وليس قبلها.
ولقد خلف المسعى من أجل الباشوية الوراثية والاتجاه صوب تركيا آثارا عميقة على «اتجاه» السياسة المصرية، من هذا الوقت المبكر (1807-1811)، فصار ميدان النشاط المصري، الشام وبلاد العرب في «الشرق»، ثم النوبة والسودان في «الجنوب»، وانصرف الجهد المصري عن الامتداد صوب «الغرب»؛ أي في أفريقيا الشمالية.
صفحه نامشخص
وكان معنى استقامة الأمر لمحمد علي - وذلك شرط أساسي لنيل الباشوية الوراثية - أن يبذل هذا الباشا كل ما وسعه من جهد وحيلة للاحتفاظ بعرشه، في وجه خصومه وأعدائه الداخليين والخارجيين، ولقد ارتبط في ذهن محمد علي إنشاء الحكومة الموطدة بضرورة الانفراد بالسلطة؛ مما جعله يقضي على كل عناصر المقاومة ضده، سواء كان مبعثها تمرد وعصيان الجند، أو مغامرة بعض قوادهم للاستيلاء على الحكم، أو اعتقاد بعض المتصدرين والأشياخ أن بوسعهم حكومة البلاد بطريق إلزام محمد علي باتباع «نصيحتهم»؛ أو كان مبعثها أخيرا إصرار البكوات المماليك على استخلاص الحكم منه.
والذي لا شك فيه أن سواد المصريين كانوا هم الذين تحملوا أضرار هذه الأحداث والمغامرات، ووقع عليهم بلاء الصراع من أجل تأسيس الحكومة الموطدة التي أرادها محمد علي، وتلك حكومة كانت تتزايد حاجتها الملحة للمال بصورة مستمرة، ويتفنن صاحبها في ابتداع الأساليب التي صار يبتز بها المال من كل الطوائف والطبقات، وامتدت فيها المظالم حتى بطشت ب «الفلاحين» في عقر دارهم، فأقفرت القرى من أهلها، وهام على وجوههم أولئك المنكوبون بحكومة الباشا في القاهرة.
ولقد كان حريا بالمشايخ والمتصدرين بسبب هذا كله أن يحاولوا المعارضة ضد حكومة محمد علي، وهم قد ضيق عليهم الباشا كذلك في أرزاقهم، وسلبهم «المغانم» التي تألفت منها دخولهم، فكان أن فعلوا ذلك، وجاءت معارضتهم في نوعين: سافرة يتزعمها السيد عمر مكرم، وصامتة يمثلها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي. أما هذه المعارضة فكانت ضعيفة الأثر ولا قيمة لها؛ فهي لم تستطع إزالة حكومة محمد علي، وتلك غاية لم يكن في مقدورها إطلاقا بلوغها لأسباب ذكرناها في موضعها، ثم إنها عجزت عن إقناع محمد علي وحكومته برفع المظالم عن المشايخ والمتصدرين، زعماء هذه المعارضة أنفسهم، والذين احتلت المرتبة الأولى في تفكيرهم دائما الرغبة في تأمين معاشهم، وتنمية ثرواتهم، وهي قد عجزت أيضا عن التوسط لدى الحكومة لرفع المظالم عن سواد الأمة.
حقيقة أثبتت الوثائق أنه كانت هناك محاولة قام بها السيد عمر مكرم للتخلص من حكومة محمد علي، عندما جال بذهنه أثناء وجود «حملة فريزر» بالإسكندرية، أن يستعين بالإنجليز للقضاء على حكومة محمد علي، فاتصل لهذا الغرض بقنصل روسيا والنمسا في مصر، ويدعى «ماكاردل»، ولكنه أخفق في مسعاه؛ لأن الإنجليز لم يكونوا يريدون التوغل في البلاد.
واستلزم الكلام عن هذه المعارضة السافرة والصامتة الترجمة للسيد عمر مكرم وللشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وذلك خصوصا لإظهار موقفهما من الأحداث التي عاصراها، وسوف يتضح من سيرة عبد الرحمن الجبرتي أن موقفه من كل الحكومات التي تشكلت في زمانه، كان متسقا في جملته وتفاصيله؛ لأن عاملا واحدا فقط بقي يحدد هذا الموقف، من أيام العهد المملوكي العثماني، قبيل الغزو الفرنسي، ثم أثناء الاحتلال الفرنسي، وفي فترة الفوضى السياسية، إلى قيام حكومة محمد علي؛ ذلك العامل كان نوع الفلسفة السياسية التي أراد بها الشيخ تفسير المجتمع الإنساني والحكومة العادلة التي يجب أن تسوسه، وهي الفلسفة التي استمد الجبرتي عناصرها من قراءاته ودراساته، ثم من تجاربه ومشاهداته.
وعند الكلام عن معارضة البكوات المماليك - وبالأحرى مقاومتهم - حرصنا على أن نتتبع أدوار هذه المقاومة ، في ضوء الوثائق التي يستبين منها كيف صارت الوقيعة بهؤلاء البكوات في النهاية، أمرا لا مفر منه في نظر محمد علي، فكان محمد علي وحده مدبر مذبحة القلعة، والذي يتحمل وحده قطعا مسئولية هذه المذبحة، وقد وقفت هذه الدراسة عند هذا الحادث المروع.
وغني عن البيان أن القصد من وضع هذا الكتاب ليس بحال من الأحوال مجرد التأريخ لعهد معين من عهود الحكم في مصر، أو أنه تمجيد للمغامرات التي أوصلت صاحبها للحكم والسلطان في مصر، بسبب عوامل كانت «استثنائية» بحتة، وفي فترة من تاريخ البلاد تميزت بنوع من الفوضى السياسية «الشاذة» تعذر على المصريين التغلب عليها بسبب «شذوذها» هذا نفسه.
لقد كان غرضنا دائما في كل دراساتنا السابقة رسم صورة جلية لأحوال المجتمع المصري، ولحياة الشعب المصري نفسه، الاقتصادية والذهنية (أو الثقافية) والسياسية والاجتماعية؛ فعلنا ذلك في كتابنا «عبد الله جاك منو وخروج الفرنسيين من مصر»، الذي يسجل تاريخ البلاد في أواخر القرن الثامن عشر، والذي ظهر في سنة 1952. ويعتبر كتابنا الحالي، من وجوه متعددة، امتدادا لهذه الدراسة في السنوات العشر الأولى من القرن التاسع عشر، في حين أن كتابنا الآخر «بناء دولة: مصر محمد علي» الذي ظهر منذ سنة 1948، كان محاولة للتعمق في فهم حياة المجتمع المصري في كل النواحي التي ذكرناها، وذلك في «مقدمة» مطولة مستندة على طائفة من تقارير المعاصرين الهامة، التي نشرناها في هذا الكتاب نفسه، وينتهي هذا التاريخ عند سنة 1848.
وثمة ملاحظة أخيرة عن «المنهج» الذي اتبعناه في هذه الدراسة، مبعثها اعتبارنا أن مهمة كاتب التاريخ، إنما هي تحري الحقائق أولا، والإلمام كل الإلمام، وقبل كل شيء بتفاصيل الحوادث، بالرجوع إلى المصادر الأصلية؛ لأن ذلك ضروري ضرورة قصوى لربط الحوادث ربطا صحيحا، وحتى يأتي «الغرض» أو تفسير الوقائع سليما صحيحا، و«فلسفة التاريخ» في نظرنا هي هذا التفسير السليم والصحيح، والذي يجعل ممكنا إدراك «الغاية» من الأحداث التي وقعت. ولم تكن إطلاقا «فلسفة التاريخ» مجرد استصدار «أحكام» مبتسرة، أو إبداء ملاحظات وآراء سريعة، قد تكون عليها مسحة من الطرافة في بعض الأحايين، ولكنها في أكثر الأوقات متعارضة مع الحقيقة، وذلك لسبب جوهري واحد، هو أن صاحبها لم يكلف نفسه مشقة التنقيب عن تفاصيل ودقائق الوقائع التي يريد أن تستند عليها أحكامه، أو يجري عليها تعليقاته؛ ولذلك فقد آثرنا أن نكون «موضوعيين» في هذه الدراسة، شأننا في كل ما قدمنا من دراسات سابقة، وأن نترك مهمة استصدار الأحكام وإبداء الآراء للقارئ الكريم نفسه، بعد أن يكون قد استعرض «الحقائق» التي سجلنا تفاصيلها.
ولقد استغنينا عن الإشارة في ذيل المتن، في «الهوامش»، عن المصادر والمراجع التي استقينا منها مادة الكتاب، كما استغنينا عن «الحواشي»؛ أي التعليقات التي قد يراد بها زيادة في الشرح أو مجرد استدراك لواقعة معينة، فحاولنا بدلا من ذلك أن يأتي المتن كاملا، ثم رأينا الاستغناء عن إثبات المراجع والمصادر في ذيل الكتاب، فهناك «فهارس» عديدة للمصادر والمراجع الخاصة بحكومة محمد علي، كما أن الوثائق المنشورة معروفة لقارئ التاريخ المصري، مما جعلنا نكتفي بذكر صاحب الوثيقة، وتوضيح الغرض منها، وذكر تاريخها، ومرسلها ومتسلمها، وهكذا الأمر الذي سوف يجعل سهلا على القارئ إذا شاء الاستزادة العثور على هذه الوثائق في مظاعنها، ولقد فعلنا مثل ذلك أيضا في الوثائق غير المنشورة.
صفحه نامشخص
وبعد، فقد كنا بدأنا في كتابة هذا التاريخ أثناء التدريس لطلبة الليسانس بقسم التاريخ بجامعة القاهرة في العام الجامعي 1951-1952، فأتممنا فصوله في سبتمبر 1952، ثم كان الفراغ من نسخه وتهيئته للطبع في غضون العام التالي، وبدأ الطبع فعلا في الشهور الأولى من سنة 1954.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأتقدم بالشكر الجزيل لزملائي الأساتذة الكرام الذين جعلوا ممكنا طبع هذا الكتاب بمطابع جامعة القاهرة، ثم لإخواني وزملائي الذين عاونوني على إنجازه وإصداره: الأستاذ عبد الحليم محمد عبد القوي بوزارة التربية والتعليم، والزميل الأستاذ السيد محمد رجب حراز بقسم التاريخ بجامعة القاهرة، كما أود أن أذكر بالشكر والتقدير الجهود الطيبة التي بذلها السادة الأفاضل مدير مطبعة جامعة القاهرة الأستاذ محمد زكي خليل، ومعاونوه الكرام الذين أشرفوا على طبع الكتاب وإصداره . والله من وراء القصد.
تحريرا بالعباسية، السبت 6 ربيع أول 1378ه، الموافق 20 سبتمبر سنة 1958م
المؤلف
الباب الأول
فترة الفوضى السياسية وظهور محمد علي (1801-1805)
تمهيد: مصر بعد خروج الفرنسيين
عقد الفرنسيون آمالا عظيمة على إرسال حملتهم المعروفة على مصر في مايو 1798، ولكن هذه الآمال ما لبثت أن انهارت عندما اشتركت قوات الأتراك والبكوات المماليك والإنجليز متآزرة جميعها مع المصريين أهل البلاد لطرد الفرنسيين والقضاء على مشاريعهم السياسية والاستعمارية والعسكرية، فلحقت الهزيمة جيش الشرق، وأرغم «بليار» على مغادرة البلاد في أغسطس سنة 1801، ثم تبعه «منو» في أكتوبر من السنة نفسها، وانطوت صفحة «الحملة الفرنسية» كمغامرة جريئة لم يستفد منها «بونابرت» شيئا بعد أن كان يرجو الاحتفاظ ب «فتحه» الجديد حتى يحين على الأقل موعد السلام العام في أوروبا، وإبرام الصلح الذي ينهي تلك الحروب التي نشبت بين فرنسا الثورية والدول، فيتخذ من إخلاء مصر وسيلة للمساومة أثناء مفاوضات الصلح المنتظرة؛ كي يظفر بشروط أكثر ملاءمة للجمهورية، فإنه ما حان موعد عقد الصلح في أميان في 27 مارس سنة 1802، حتى كانت مصر قد خرجت من قبضة الفرنسيين نهائيا.
وأخفقت كذلك مشاريع الفرنسيين الاستعمارية في الشرق بسبب هزيمتهم في مصر، فعجزوا عن إنشاء تلك المستعمرة الجديدة التي كان من أهم أغراض حملتهم على هذه البلاد إنشاؤها على قواعد جديدة، ووفق أساليب جديدة تغاير ما درجوا عليه عند تشييد «إمبراطوريتهم الاستعمارية الأولى» وتعوضهم ما فقدوه، ثم ما كانوا بسبيل فقده في «الأنتيل» وجزر الهند الغربية خصوصا، فكانت البحوث والدراسات العلمية الغزيرة والنافعة التي قام بها علماء الحملة الفرنسية هي الأثر الباقي، بل والخالد الذي أسفرت عنه هذه المغامرة.
وفي مصر ذاتها اعتبر المصريون «الحملة» حدثا من جملة الأحداث التي وقعت ومرت بهم، واختلفت في نظرهم عن الأحداث السابقة منذ أن خضعت البلاد للعثمانيين في أوائل القرن السادس عشر، في أن أصحاب الغلبة الجدد أعداء للسلطان العثماني خليفة المسلمين وصاحب البلاد الشرعي، وأنهم أقوام يختلفون عنهم في أخلاقهم وعاداتهم ولغتهم ودينهم وجنسهم وثقافتهم، وحكام زادوا من ثقل الأعباء الواقعة على الأهلين بدل أن يخففوها عنهم بسبب اعتمادهم في تقرير سلطانهم على موارد البلاد فحسب.
صفحه نامشخص
وكان الأثر العميق الذي أحدثه الفرنسيون بمجيئهم تشتيت قوى المماليك وتسديد ضربة قاصمة إلى بكوات هذه الطغمة الفاسدة المفسدة والتي سيطرت في مصر وأساءت استخدام ما كان لها من سلطة نافذة زمنا طويلا، حتى إن البكوات المماليك - الذين لعب كبراؤهم في العهد العثماني المملوكي بالأمراء - تعذر عليهم بعد خروج الفرنسيين أن يجمعوا أشتاتهم ليصبحوا قوة ذات وزن في توجيه الأمور في السنوات التالية، وزاد من عوامل ضعفهم وانحلالهم تفرق الكلمة بينهم وانقسامهم إلى شيع وأحزاب متنافسة فيما بينها، ولو أن غرضها جميعها كان استرجاع سلطانها ونفوذها المفقود.
وعادت مصر بعد خروج الفرنسيين إلى حظيرة الدول العثمانية مرة ثانية، وكان من مظاهر السيادة العثمانية عقب خروج الحملة، بقاء الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا بالقاهرة لإجراء التنظيمات الحكومية التي تجعل من مصر مقاطعة أو باشوية من مقاطعات أو باشويات الإمبراطورية العثمانية، وبقاء القبطان حسين باشا بعمارته العثمانية في «أبي قير» لتأييد هذه التنظيمات الحكومية، ثم تعيين محمد خسرو باشا أول الولاة على مصر في العهد الجديد.
واعتمد مندوبو الباب العالي في إجراء ترتيباتهم على الجيش العثماني الذي بقي بالبلاد كذلك بعد اشتراكه في طرد الفرنسيين وإجلائهم عنها، وتألف هذا الجيش من خليط من الأجناد الأكراد والإنكشارية والأرنئود (الألبانيين) خصوصا. وكان الأخيرون قوام هذه القوة «العثمانية» لتفوقهم العددي على غيرهم منذ مغادرة الصدر الأعظم البلاد وخروج قسم من العسكر العثمانيين (الإنكشارية) معه.
وصار نجاح الولاة أو الباشوات في دعم باشويتهم والترتيبات الجديدة متوقفا على مدى مؤازرة هؤلاء لهم، ولكن هؤلاء الأجناد ورؤساءهم نظروا للبلاد كأنها «فتح» جديد، لهم بفضل حق الفتح أن ينهبوا ويسلبوا أرزاقها وأموالها، وأن يسيئوا معاملة أهلها أبلغ إساءة، ولم يستطع الباشوات أو «الولاة» كبح جماح الجند؛ لعجزهم عن دفع مرتباتهم أو إنشاء الحكومة القوية التي في قدرتها أخذهم بالحزم والشدة ووقف اعتداءاتهم؛ لأن الاضطرابات التي سببها وجود الفرنسيين ثم الحروب التي أدت إلى خروجهم من البلاد؛ عطلت التجارة والزراعة وكل نواحي النشاط الاقتصادي الأخرى، واستولى البكوات المماليك على موارد الأقاليم التي كانت وقتئذ في حوزتهم، فنضب معين الخزينة وافتقر الباشوات إلى المال اللازم لسد نفقات الحكم والإدارة ولدفع مرتبات الجند، فظل هؤلاء الأجناد عامل اضطراب وفوضى، ولجأ الباشوات إلى تحصيل الفرض والمغارم من الأهلين، وضج الأهلون ورؤساؤهم من المشايخ والأعيان بالشكوى والتذمر، وتحركوا للثورة على سلطة الحكومة المزعزعة، وساعد ذلك على انتشار الفوضى.
ولم يسفر خروج الفرنسيين واسترجاع العثمانيين لهذه البلاد - من الناحية الدولية - عن المساعدة على إنهاء الفتن والاضطرابات منها؛ لأن استقرار الأمور في مصر ارتهن بتقرير السلام الأوروبي العام من جهة، كما كان مرتهنا بقيام الحكومة الموطدة الأركان بها من جهة أخرى، فإن صلح «أميان» لم يكن سوى «هدنة مسلحة»، فقامت الحرب بين فرنسا وإنجلترا بعد أقل من عام واحد (مايو 1803)، وعقدت الثانية محالفة مع روسيا ضد فرنسا في أبريل 1805، انضمت إليها النمسا بعد ذلك وبذل الفرنسيون قصارى جهدهم في القسطنطينية حتى يعلن الباب العالي الحرب على أعدائهم، ونجحوا في مسعاهم فأعلنت تركيا الحرب على روسيا وإنجلترا في ديسمبر سنة 1806، وأرسل الإنجليز أسطولهم بقيادة الأميرال دكوورث
Duckworth
إلى الدردنيل والبسفور في فبراير من العام التالي، كما أرسلوا حملة فريزر
Fraser
إلى الإسكندرية في مارس 1807، وأوقفت إنجلترا عملياتها العسكرية ضد تركيا عندما عقد نابليون مع القيصر إسكندر معاهدة تلست
Tilsit
صفحه نامشخص
في يوليو، ومن شروطها السرية اقتسام أملاك العثمانيين بينهما، ونقض الروس هدنة سلوبودتزي
Solbodizie (المبرمة بينهم وبين الأتراك في أغسطس سنة 1807)، فاستؤنفت الحرب بين الفريقين حتى تم الصلح بينهما في معاهدة بوخارست في 28 مايو سنة 1812، وعندئذ كان نابليون مشغولا بحروبه في إسبانيا، ثم في حملته المشهورة ضد روسيا، وفي حربه القارية العنيفة ونضاله المميت في أثناء ذلك كله مع إنجلترا، حتى لحقت به الهزيمة في «واترلو» في يونيو سنة 1815، واقتاده الإنجليز إلى منفاه في سنت هيلانة.
وكان في أثناء هذه الحروب الطويلة أن ظلت مصر تستأثر باهتمام كل من إنجلترا وفرنسا؛ الأولى لخوفها من أن ينزل الفرنسيون جيشا لغزو هذه البلاد واحتلالها مرة ثانية، فيهددوا بعملهم هذا أملاك الإنجليز في الهند خصوصا. والثانية لرغبتها في تأمين مصالحها التجارية قبل أي اعتبار آخر، وظفرها بالنفوذ الأعلى في البلاد واتخاذها الحيطة لتعطيل أية مشروعات عمرانية قد تكون للإنجليز على هذه البلاد، حينما دخلت في نطاق سياستها حتى عام 1811 وتقويض أركان إمبراطورية الإنجليز في الهند، فبعثت الجنرال ديكان
Decaen
إلى «بوندشيري»
Bondichéry
في أبريل سنة 1802، واستمر «ديكان» يناضلهم هناك حتى عام 1811، كما بعثت بالجنرال جاردان
Gardane
إلى الفرس، فعقد مع الشاه معاهدة طهران في 24 ديسمبر سنة 1807، واستمر بها حتى اضطر لمغادرتها بعد عامين (فبراير سنة 1809) بسبب نجاح الإنجليز في الاتفاق مع الشاه على طرد الفرنسيين من بلاده.
وبذل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون في مصر جهودهم لتأليف الأحزاب من بين البكوات المماليك الذين اعتقدوا أن في وسعهم تأييد مصالحهم، وساعدهم على النجاح تفرق كلمة البكوات بسبب منافساتهم، فانحاز بيت مراد إلى الفرنسيين، وانحاز بيت الألفي إلى الإنجليز، ولو أن كلا الفريقين ظلا يستمعان إلى نصائح «الوكلاء» الإنجليز والفرنسيين على السواء؛ توصلا لتحقيق مآربهم في الظفر بالسلطة العليا في مصر عن أي طريق قد يجدونه.
صفحه نامشخص
واتخذ تدخل هؤلاء الوكلاء صورة بذل الوعود بنجدة دولتيهما للمماليك، أو التوسط لدى الباب العالي لإرجاع سلطانهم القديم على الحكومة إليهم، ونشط الوكلاء الإنجليز نشاطا «إيجابيا» في هذا السبيل، حتى إذا اقتضى الموقف الأوروبي إرسال حملة فريزر كانت جهودهم قد تكللت بالنجاح وقتيا، وقيد التزام الحكومة الفرنسية لخطة عدم التورط في أية ارتباطات مع البكوات نشاط وكلائها معهم حتى صار «سلبيا»، وترتب على تدخل الوكلاء الإنجليز والفرنسيين في شئون البلاد أن صار من المتعذر قيام حكومة مستقرة في مصر، فكان هذا التدخل من أكبر العوامل التي زادت من حدة الفوضى السياسية المنتشرة بها.
على أن انتشار الفوضى السياسية لم يلبث أن هيأ الفرصة لظهور قوة جديدة في هذا الميدان المضطرب في شخص محمد علي، ظل الباشوات العثمانيون لا يأبهون لها حتى وجد «محمد خسرو» نفسه مطرودا من الولاية، ولقي آخر حتفه (طاهر باشا)، واضطر ثالث إلى المضي في طريقه إلى منصبه الأصلي بالحجاز (أحمد باشا)، وظل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون لا يفطنون لها حتى قتل وال ثان (علي باشا الجزائرلي) وطرد البكوات من القاهرة، وانبرى البرديسي لمطاردة الألفي وزاد انشقاق المماليك على أنفسهم، ثم نحي وال آخر عن منصبه (أحمد خورشيد باشا)، ونودي بمحمد علي واليا بالقاهرة.
حضر محمد علي إلى مصر مع الفرقة التي جمعت من «قولة» في الرومللي ومقدونيا مسقط رأسه، وجاءت مع القبطان حسين باشا في عام 1801 لطرد الفرنسيين، وترتب على عودة رئيس هذه الفرقة علي أغا ابن حاكم قولة أو «الجوربجي» إلى بلاده عقب الوصول إلى «أبي قير» أن تسلم محمد علي قيادة فرقته، واشترك بقواته متعاونا مع الإنجليز في العمليات العسكرية ضد الفرنسيين في حملة تلك السنة، واختار القبطان باشا لمهاجمة قلعة الرحمانية، ولكن الفرنسيين بقيادة الجنرال لاجرانج
Lagrange
أخلوها في ليل 10 مايو سنة 1801، قبل الهجوم عليها، فدخلها محمد علي دون قتال، وتوسط أحد أصدقاء محمد علي لدى القبطان باشا فألحقه هذا الأخير بخدمة محمد خسرو باشا أول الولاة أو الباشوات العثمانيين في مصر بعد خروج الفرنسيين.
ثم حدث بعد مكيدة القبطان باشا التي أهلك فيها عددا كبيرا من البكوات المماليك في أبي قير في أكتوبر سنة 1802، أن رقي «محمد علي» قائدا أو سر جيشه في أواخر سنة 1801، وهكذا لم ينقض عام واحد منذ وصوله إلى مصر حتى صار محمد علي مع زميله طاهر باشا القائدين الرئيسيين للجنود الأرنئود (الألبانيين)، عماد القوة العثمانية في مصر.
وشهد محمد علي انتشار الفوضى السياسية في مصر بعد خروج الفرنسيين منها، ولاحظ عن كثب ما يجري بها من حوادث، أقنعته بأن الولاة لن ينجحوا في إنشاء حكومة مستقرة طالما هم يظلون عاجزين عن إخضاع الجنود ورؤسائهم للطاعة والنظام، وما بقي البكوات المماليك ينازعونهم السلطة، ويقبل الوكلاء الإنجليز والفرنسيون على مناصرة هؤلاء البكوات، سواء أكانت هذه المناصرة سلبية أم إيجابية، ودلت حوادث إخراج خسرو من الولاية ومقتل طاهر باشا ، ثم قتال خسرو مع البكوات المماليك في حرب كانت تارة كفته الراجحة فيها، وتارة كفة المماليك، ومحاولة طاهر باشا التفاهم معهم لعجزه عن الاعتماد على ما لديه من قوات متمردة في مقاومتهم؛ دلت هذه الحوادث على أن الجند الأرنئود إذا سلس قيادهم وحسن تحريكهم بحكمة وحذر صاروا قوة فعالة في تغيير الأوضاع القائمة لصالح رؤسائهم، وأن البكوات المماليك إذا أمكن التغيير بهم فتوهموا، أو توهم فريق منهم، أن في وسعهم الاطمئنان إلى معاونة الأرنئود ورؤسائهم له في الظفر بحكومة القاهرة؛ كان ذلك أدعى لإثارة المنافسة بينهم، وبذر بذور الشقاق في صفوفهم، وتأليب بعضهم على بعض، حتى يضعفوا جميعا وتذهب ريحهم، فيتسنى عندئذ هزيمة طوائفهم وأحزابهم متفرقين متبعثرين.
وشهد محمد علي نشاط القناصل والوكلاء الإنجليز والفرنسيين مع البكوات دائما ثم مع الباشوات كذلك، واستنجاد كلا الفريقين بالدول الأجنبية لتوسيطها لدى الباب العالي، إما لإرجاع الأولين إلى وضعهم السابق في البلاد، وإما لتقليد الآخرين منصب الولاية أو تثبيتهم في هذا المنصب، فأدرك أن استمالة هؤلاء الوكلاء تساعده على تحقيق مآربه إذا هو شاء التطلع لمنصب الباشوية.
ولاحظ محمد علي تذمر القاهريين من المغارم والمظالم التي فرضها عليهم الولاة، وسخطهم على الباشوات الذين لم يردعوا الأجناد عن السلب والنهب والاعتداء عليهم، فرأى أنه إذا هو أنشأ الصلات الطيبة مع المشايخ والعلماء ورؤساء هؤلاء القاهريين وزعمائهم الطبيعيين، فكسب ثقتهم؛ سهل عليه أن يقذف بهم في الميدان في الفرصة المناسبة لجعل نصره حاسما، سواء على البكوات المماليك أو على الولاة أنفسهم.
ومن الثابت أن محمد علي اشترك في جميع الحوادث والانقلابات منذ طرد خسرو باشا من الولاية في مايو سنة 1803، إلى وقت المناداة بولايته هو في القاهرة بعد ثلاثة أعوام فقط في مايو سنة 1805، وقد أتيحت له فرصة الظهور بسبب تلك الفوضى السياسية التي ذكرناها، والتي زاد من حدتها ما حدث من تضارب بين سياسة تركيا وسياستي إنجلترا وفرنسا، وقبل كل شيء آخر ما وقع من اصطدام بين المصالح - الفرنسية والإنجليزية - السياسية في مصر.
صفحه نامشخص
الفصل الأول
تركيا والمماليك
اعتقد المماليك أن الأمور سوف تعود إلى حالها السابق بمجرد خروج الفرنسيين من مصر، وأن الفرص قد سنحت لاسترجاع السلطة التي فقدوها والتمتع بالنفوذ الفعلي والمطلق في إدارة شئون البلاد واستعادة الامتيازات القديمة التي كانت لهم قبل الاحتلال الفرنسي.
وكان البكوات قد بدءوا مساعيهم من أجل الاستئثار من جديد بكل سلطة ونفوذ في حكم البلاد من أيام اشتراكهم في الحرب ضد جيش السير رالف أبركرومبي والجنرال هتشنسون (الذي تولى القيادة بعد وفاة أبركرومبي
Abercromby
في موقعة كانوب في 21 مارس سنة 1801)، وجنب القوات العثمانية ضد الفرنسيين.
وغداة وفاة مراد بك في أبريل سنة 1801، كتب عثمان بك البرديسي إلى السير سدني سميث يبلغه هذا النبأ، فبعث بكتابه هذا السير سدني سميث إلى الجنرال هتشنسون الذي بادر بإبلاغ البرديسي في 5 مايو أن لديه تعليمات قاطعة من حكومته لكسبه إلى جانبه وعقد محالفة معه، ووعد بأن يبذل قصارى جهده لمساعدته، وبدأت من ذلك الحين مساعي اللورد إلجين
Elgin
السفير البريطاني بالقسطنطينية من أجل إقناع الباب العالي بأن المماليك هم القوة التي في وسعها الدفاع عن البلاد بعد خروج الفرنسيين منها، ويطلب من الريس أفندي (وزير الخارجية العثمانية) إعطاءهم الحكم في الصعيد (بعد جرجا) مكافأة لهم على ما أبدوه من همة ونشاط في محاربة الفرنسيين، وتوسط في الوقت نفسه الجنرال هتشنسون في القاهرة مع الصدر الأعظم، ثم مع الريس أفندي في القسطنطينية حتى يصفح الباب العالي عن البكوات ويعيد إليهم أملاكهم والأقاليم التي كانت في أيديهم.
ولكن رغبة المماليك في استرجاع نفوذهم وسلطانهم السابق لم تلبث أن اصطدمت برغبة الباب العالي، صاحب السيادة الشرعية على البلاد، الذي كان مصرا بعناد على إرجاع مصر - خمس ممتلكات الدولة العثمانية - كمجرد مقاطعة عادية من مقاطعاتها، وصح عزمه من هذا الوقت المبكر، وبالرغم من اشتراك البكوات في الحرب الدائرة ضد الفرنسيين، على القضاء على كل نفوذ لهم وإقصائهم عن الحكم، بل وإبعادهم عن البلاد كذلك، حتى إن «هتشنسون» سرعان ما صار يشكو إلى الريس أفندي في 17-23 يوليو سنة 1801 من مسلك الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا معهم، الذي لم يكتف بمنع البكوات من الإقامة بمنازلهم في القاهرة، بل طردهم منها وطرد الست نفيسة المرادية أرملة مراد بك، وذلك بالرغم من تأكيدات الصدر الأعظم ووعوده القاطعة بإرجاع كل أملاك البكوات إليهم.
صفحه نامشخص
ويبدو أن «هتشنسون» قد فطن إلى السبب الحقيقي الذي جعل الباب العالي لا يرضى عن استرجاع البكوات لنفوذهم وسيطرتهم السابقة، فكتب في رسالته إلى الريس أفندي في 23 يوليو: «إنه ينبغي للباب العالي أن يكون لديه من الجند ما يكفي لاحتلال المراكز الهامة في البلاد، ولن يبقى الباشا المرسل من القسطنطينية سجينا.» وقد تحدث إلى البكوات المماليك، وجعلهم يشعرون أن إنجلترا تهتم كثيرا بشأنهم، ولكنها لا تستطيع أن تعترف بهم إلا كرعايا للسلطان، وأنه وعدهم ببذل كل جهوده لتخفيف غضب الحكومة العثمانية عليهم، وأن المماليك عليهم في نظير ذلك أن يزيدوا «الخراج» المرسل سنويا للباب العالي.
ونشطت بعد تسليم الجنرال منو بالإسكندرية في أغسطس سنة 1801 مساعي الإنجليز في القسطنطينية من أجل إنشاء حكومة منظمة في مصر بعد جلاء الفرنسيين، وكان عندئذ أن طلب الريس أفندي (شلبي مصطفى أفندي) في أوائل شهر سبتمبر الاجتماع باللورد إلجين لاقتراح عقد مؤتمر يبحث في الوضع المنتظر للحكومة التي يجري إنشاؤها في مصر، وأشار تلميحا في حديثه مع إلجين إلى أنه في وسعه الالتجاء إلى روسيا وطلب نجدة جنود من الروس إذا نشأت حالات معينة متعلقة بالأنظمة الواجب اتخاذها مع المماليك، فهدد إلجين بقطع محادثاته مع الوزراء العثمانيين في موضوع المؤتمر المقترح عقده، إذا كان هناك أي احتمال لاستخدام جنود أجنبية، أو اللجوء إلى نفوذ أجنبي عند وقوع «حالة» غير منتظرة في مصر، غير الجنود أو النفوذ الذي استخدم في إعادة فتح هذه المقاطعة العثمانية، فعدل الباب العالي عن موقفه، وفي 14 سبتمبر عقد المؤتمر فأوضح اللورد إلجين مدى ارتباطات الجنرال هتشنسون مع المماليك، وكان جواب الريس أفندي حاسما، ومنه يتبين إصرار الباب العالي على حرمان البكوات من كل نفوذ وسيطرة في مصر، بل وإبعادهم عنها .
قال الريس أفندي إن المماليك أجانب عن مصر اغتصبوا فيها السلطة، وتجعلهم مبادئهم وأنظمتهم في نضال مستمر ضد كل حكومة منظمة يقيمها الباب العالي في مصر، ومع أن العفو العام الذي صدر منذ دخول الجيش العثماني مصر يشمل المماليك كما يشمل سائر السكان؛ فإن واجب الباب العالي أن يتخذ من الضمانات ما يكفل إزالة الأخطار من ناحيتهم في المستقبل؛ ولذلك يرى الباب العالي أن يكون للمماليك وضع مناسب يسمح لهم بالدخول في خدمة السلطان في الوظائف وبنفس المراتب التي لضباطه، ولكن على شريطة ألا يقيم المماليك بالقاهرة؛ حيث إنهم يكونون إذا ظلوا بها مصدر أخطار ومبعث انزعاج مستمر، أما إذا فصلوا عن رؤسائهم ومعاونيهم فسوف لا يكون هناك سبب للخوف منهم، وفيما يتعلق بعساكرهم فهؤلاء يدخلون كذلك في خدمة الباب العالي.
وقد علل الريس أفندي السبب في تقدمه بهذه العروض، بقوله: إن من المتعذر قطعا إعطاء المماليك كل ممتلكاتهم السابقة من غير أن يحفظ لهم ذلك السلطة والسيطرة التامة في البلاد، وعندما ألح «إلجين» في ضرورة بقائهم بمصر واسترجاعهم لممتلكاتهم، تساءل الريس أفندي عما إذا كان «بلاط إنجلترا» عند تدخله لتخليص مصر من الفرنسيين كان يعتزم إعادة هذه البلاد إلى السلطان أو إعطاءها للبكوات المماليك.
وهكذا لم يكن لدى اللورد «إلجين» أي أمل في نجاح مساعيه في القسطنطينية لصالح البكوات المماليك على أساس إرجاع السلطة والنفوذ إليهم في مصر، وفي أكتوبر فوجئ «إلجين» بأخبار مكيدة القبطان باشا في «أبي قير» والصدر الأعظم في القاهرة للقضاء على المماليك.
فقد كان لدى يوسف ضيا والقبطان حسين باشا تعليمات محددة من الباب العالي لتغيير نظام الحكم القديم في مصر، بإنشاء أربع باشويات تحل محل سلطة البكوات المماليك حتى يتسنى إخضاع هذه البلاد لسلطان الدولة كسائر مقاطعاتها، وطلب الباب العالي إليهما إلقاء القبض على أكبر عدد مستطاع من البكوات، وإرسالهم إلى القسطنطينية على أساس أن يعطيهم الباب العالي من الأملاك هناك ما يعادل إيرادها ما كانوا يعيشون به في مصر، وخيل إليه أن هذا الانقلاب سوف يحدث بسهولة لاعتقاده أن معاهدة التحالف المبرمة بينه وبين الإنجليز (منذ 5 يناير سنة 1799) تجعل هؤلاء الأخيرين يقفون موقف الحياد من مشروعاته.
ولكن الصدر الأعظم والقبطان باشا لم يستطيعا تنفيذ أوامر الباب العالي بشأن المماليك؛ لأن هؤلاء لقوا كل تأييد من جانب القواد الإنجليز في مصر، كما لم يكن من المنتظر إلى جانب هذا أن يوافق الأهلون على حدوث الانقلاب المنشود، بسبب سخطهم على العثمانيين الذين اشتطوا في معاملتهم عند دخولهم القاهرة، واعتدى جنودهم على الأهلين وآذوهم في القاهرة والأقاليم حتى «تمنى أكثر الناس على حد قول الجبرتي - وخصوصا الفلاحين - أحكام الفرنساوية.»
وعلى ذلك فقد عمد الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا - تمهيدا لإجراء التغيير الحكومي المطلوب - إلى أساليب الغدر والوقيعة بالمماليك، وبذر بذور الشقاق بينهم لتفريق كلمتهم قبل البطش بهم، فأعطى «إمارة الصعيد»؛ أي إقطاعة أقاليم الوجه القبلي، إلى محمد بك الألفي، وكانت هذه الأقاليم «ملكا» مشاعا بين البكوات حتى هذا الوقت، ويقتسم «الإمارة» عليها البكوات من بيت مراد، الذين اشتدت المنافسة بينهم وبين البكوات من بيت الألفي دائما، وفضلا عن ذلك، فقد كان البكوات من مرادية أو ألفية متألمين من وقوع الصعيد في قبضة مراد بك وحده، منذ أن عقد معه الجنرال كليبر معاهدة أبريل سنة 1800، التي أعطت مراد «إمارة الصعيد» وجعلته يتمتع وحده بإيرادات هذه الأقاليم القبلية، فجاء تعيين الألفي الآن لهذه الإمارة ضغثا على إبالة، وزاد الانقسام بين البكوات.
وانتهز الصدر الأعظم والقبطان باشا فرصة هذا الانقسام الذي أضعف البكوات؛ ليضربا ضربتهما الأخيرة، فدبر الصدر الأعظم مكيدته المعروفة في القاهرة في 20 أكتوبر سنة 1801 (وفي رواية الجبرتي يوم 19 أكتوبر)، بأن دعا إليه في منزله البكوات الموجودين بالقاهرة، وألقى القبض على «شيخ البلد» إبراهيم بك، ومرزوق بك، وتسعة من البكوات الآخرين، وأرسل على الفور طاهر باشا إلى الصعيد للقبض على محمد بك الألفي. وكان من المفهوم - كما جاء في تقرير القواد الإنجليز عن هذا الحادث، إلى اللورد إلجين بالقسطنطينية بعد وقوعه بيومين - أن يحذو القبطان باشا حذو الصدر الأعظم بالإسكندرية، ولكن مكيدة القبطان باشا تأخرت حتى يوم 22 أكتوبر، وقد دعا القبطان باشا جماعة البكوات هناك لمقابلته، حتى يبلغهم أمر الباب العالي بإلحاقهم بخدمة السلطان بالقسطنطينية، وضرورة ترحيل من لا يرضى منهم بهذه العروض عن مصر إلى أية جهة يشاؤها.
وكان في أثناء نقل البكوات إلى إحدى سفن عمارته أن حدث الفتك بجماعة منهم؛ فقتل عثمان بك الطنبورجي (المرادي)، وعثمان بك الأشقر، ومراد بك الصغير، وإبراهيم كتخدا السناري، وصالح أغا، ومحمد بك، كما جرح كثيرون، واقتيد الجرحى إلى سفينة القبطان باشا؛ حيث أرغموا على القسم على ألا يذهبوا إلى الأجنبي، وحلف يمين الولاء للسلطان العثماني، وكان من بين هؤلاء عثمان البرديسي، واستعد القبطان باشا لإرسالهم إلى القسطنطينية.
صفحه نامشخص
غير أنه ما ذاعت أخبار هاتين المكيدتين حتى أسرع القواد الإنجليز؛ هتشنسون في القاهرة والجنرال ستيوارت في الإسكندرية، بالتدخل لدى الصدر الأعظم والقبطان باشا لإطلاق سراح البكوات الأسرى، واحتجا احتجاجا شديدا على هذه المؤامرة، فأطلق سراح البكوات.
وفي 23 أكتوبر أبلغ القبطان باشا الديوان العثماني ما حدث، فقال إنه وصلت تعليمات الباب العالي المتضمنة الصفح عن جرائم البكوات السابقة، بسبب إلحاح هتشنسون في حمايتهم وعدم إيذائهم - ولو أن هؤلاء يستحقون العقاب فعلا - ولذلك فقد قرر الباب العالي لهم معاشات سنوية من 12، 24، 23 كيسا للبكوات، وستة أكياس للكشاف مع إبعادهم في الوقت نفسه من الديار المصرية، كما تقرر إعطاء من يرغب منهم خدمة الباب العالي وظائف معينة، وأما الذين يرفضون هذا الترتيب فعليهم أن يذهبوا إلى أي مكان آخر يختارونه.
ويستطرد القبطان باشا فيقول إنه وصله من الصدر الأعظم ما يفيد أن جواب السفير الإنجليزي «إلجين» في المؤتمر الذي عقد في القسطنطينية لبحث موضوع المماليك (14 سبتمبر)؛ قطع بأنه لم يكن لدى السفير أية تعليمات من حكومته بشأن وضع البكوات تحت حماية دولته المباشرة، كما أكد السفير أنه لا يجول في خاطر «بلاط إنجلترا» بتاتا التدخل في شئون الدولة الداخلية، وتعهد بإقناع هتشنسون بذلك، على أن الصدر الأعظم أبلغه كذلك أنه بينما كان يبحث حلا لإنهاء مسألة البكوات، اتضح أن هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم لاستمالة الجنود الأرنئود (الألبانيين) إليهم، الأمر الذي دل على أنه لو تأجل موضوع المماليك أكثر من اللازم، استطاع البكوات تقوية أنفسهم بدرجة تمكنهم من إعلان عصيانهم.
فرأى الصدر الأعظم إحباطا لخطتهم أن يلقي القبض على شيخ البلد إبراهيم بك وغيره من البكوات الذين كانوا معه، وحدد لذلك يوم الثلاثاء 12 جمادى الآخرة 1216، الموافق 20 أكتوبر سنة 1801، وطلب من القبطان باشا إرسال البكوات الموجودين لديه بالإسكندرية إلى سفن الأسطول العثماني؛ وبناء على ذلك فقد نقل القبطان باشا هؤلاء في سفن إلى الأسطول يوم 14 جمادى الآخرة/22 أكتوبر، وكانوا خمسة بكوات؛ حامي إبراهيم بك، وكخيا (أو كتخدا، والمعنى واحد)، ومراد بك المنوفي، وثلاثة من الكشاف، ثم آخرين.
ويذكر القبطان باشا أن سبب المقتلة أن عثمان بك الجرجاوي هدد بإطلاق الرصاص، كما ذكر تدخل الجنرال هتشنسون لإطلاق سراح الأسرى بدعوى «أن أوامر ملكية تقتضيه أن يبسط حمايته على البكوات، وأن مليكه سوف يحارب العثمانيين ورجاله»، إذا هم لم يطلقوا سراح البكوات الذين اختطفوهم، وأن جنوده قد اجتمعت - مهيأة للقتال - وأنه يطلب بإصرار تسليم البكوات، وعندئذ سلم القبطان باشا البكوات وكانوا ثلاثة مع ثلاثة من الكشاف وأتباعهم، واستقبلهم الجنرال ستيوارت مع الترجمان تابرنا
Taberna .
وفي القسطنطينية استمر اللورد «إلجين» يتوسط لدى الباب العالي في صالح المماليك بمناسبة الحديث مع الديوان العثماني عن مقدمات الصلح المبرمة في لندن مع فرنسا في أول أكتوبر سنة 1801، وهي التي تلاها عقد صلح أميان في مارس من العام الثاني، الذي نص في مادته الثامنة على تأييد حقوق الباب العالي وسلطانه الكامل على أملاكه بتمامها، وكما كانت قبل الحرب، عظم اهتمام الإنجليز مدة وقت «مقدمات الصلح» بمسألة إنشاء الحكومة المستقرة في مصر، والتي كانوا يرون تعذر إنشائها دون استرجاع البكوات المماليك لسيطرتهم السابقة.
وقد استمر القواد الإنجليز في مصر يؤيدون البكوات ويناصرونهم، حتى إن السلطان سليم الثالث ما لبث أن بعث بكتاب شخصي إلى ملك إنجلترا جورج الثالث في 23 نوفمبر سنة 1801، يرجوه باسم الصداقة والمحالفة التي بينهما أن يأمر قواده وسائر ضباطه بمصر بأن يكفوا عن إعطاء حمايتهم للبكوات وعن إصرارهم على تمكينهم من مصر، ويكفي أن نال معظمهم الصفح والعفو عن جرائمهم وعصيانهم، وأن ترتب لهم الوظائف ويعطوا المعاشات عند دخولهم في خدمة السلطان، وقال سليم: «إن خروج البكوات من مصر بالشكل المعروض الآن يكون مبعث ارتياح له، كما كان خروج الفرنسيين وتخليص مصر من قبضتهم مصدر الارتياح الكامل الذي شعر به.»
وفي 26 يناير سنة 1802 احتج الريس أفندي على مسلك البكوات، فبعث إلى اللورد كافان
Cavan
صفحه نامشخص
الذي تسلم قيادة القوات البريطانية بالإسكندرية خلفا لهتشنسون، يشكو من أن البكوات وقت إقامتهم مع الجنرال ستيوارت بالجيزة (وهو الذي طلب إليه هتشنسون التوسط عند الصدر الأعظم لإطلاق سراحهم عقب مكيدة الصدر المعروفة) أشاعوا في القرى المجاورة، وأبلغوا رؤساءها والبدو كتابة أن الإنجليز «قد تكفلوا بإعادتهم إلى وضعهم السابق»، ويحذرون القرى والبدو من إطاعة أوامر رجال الباب العالي وضباطه؛ لأن مصر كانت وستظل دائما خاضعة لسلطانهم، وهددوا أهل القرى والبدو بالانتقام منهم إذا هم عارضوهم، وطلب الريس أفندي من «كافان» أن يصدر تصريحا رسميا وكتابيا يعلن فيه أن إنجلترا صديقة حميمة وحليفة مخلصة للباب العالي، ولا نسمح بأن يلحق أي أذى بصالح حكومة تركيا؛ ولذلك فإنه بدلا من حماية البكوات وهم الذين ظهر عصيانهم وثورتهم على الباب العالي، لا يسع الحكومة الإنجليزية إلا إظهار عدم موافقتها ثباتا على مسلكهم.
ونفى اللورد كافان في جوابه على رسالة الريس أفندي في 28 يناير، أنه يسمح أو يناصر بأية صورة من الصور البكوات أو غيرهم على سلوك مسلك مناوئ لسلطة «سلطانهم الشرعي، إمبراطور الأتراك، وحليف ملك بريطانيا القديم والمخلص له»، ولكنه من جهة أخرى اعتذر عن عدم إمكانه إصدار التصريح المطلوب، بدعوى أن إصداره بالشكل المقترح إنما يعني التدخل من جانبه في شئون مصر الداخلية، الأمر الذي يخالف ما لديه من تعليمات من جانب حكومته.
ومع ذلك فقد دلت الحوادث التالية على أن استمر السفير الإنجليزي بالقسطنطينية والقواد الإنجليز في مصر، ثم الوكلاء الإنجليز بعد انسحاب القوات البريطانية ؛ يبذلون قصارى جهدهم لمناصرة البكوات المماليك لأسباب أشرنا إليها وسوف يأتي ذكرها مفصلا في حينه، بينما استمر الباب العالي من جهته مصرا على موقفه منهم.
ولكن كان في مصر بسبب الخطة التي اتبعها ممثلو الباب العالي معهم، وبسبب مسلك البكوات أنفسهم واختلافاتهم وانقساماتهم أن تقرر مصيرهم في النهاية، وكان من الواضح أن رغبة الباب العالي في التخلص من المماليك وتحطيم كل قوة لهم، ثم تدبير المؤامرات التي شهدناها للإيقاع بهم، قد قضى على كل أمل في حدوث أي تفاهم بين العثمانيين والمماليك، بل إن مكائد الصدر الأعظم والقبطان باشا في شهر أكتوبر سنة 1801، كانت بمثابة إشارة لقيام الحرب الأهلية في البلاد وبداية عهد من الفوضى السياسية جعل من المتعذر إنشاء الحكومة الموطدة القوية التي تستطيع - في نظر الإنجليز خصوصا - حماية مصر من الاعتداء الخارجي إذا تجدد، ومنع الغزو الأجنبي عنها، بل وأفسحت هذه الفوضى السياسية ذاتها المجال لتدخل كل من الدولتين المتنافستين إنجلترا وفرنسا في شئون مصر لخدمة مآربهما الخاصة.
ولاية خسرو
وكان بعد حادث أكتوبر، أن غادر القبطان حسين باشا مياه «أبي قير» إلى القسطنطينية في أواخر نوفمبر سنة 1801، ثم ما لبث الصدر الأعظم يوسف ضيا أن غادر القاهرة في 8 فبراير سنة 1802، في طريقه إلى الشام، وتوسط القبطان باشا قبل رحيله في تعيين محمد خسرو باشا واليا عثمانيا في مصر، وزوده بالتعليمات اللازمة لإنجاز مهمة «الصدر» مع المماليك وتنفيذ تعليمات الباب العالي بشأنهم، ودخل خسرو القاهرة - وبمعيته محمد علي - في 25 فبراير سنة 1802، وشرع يعمل فورا لتوطيد حكومته وتوسيع سلطان باشويته، وكان المماليك هم العقبة الكأداء التي اعترضت طريقه، فقد ظل هؤلاء يعتمدون على القواد الإنجليز، الذين بقوا مرابطين بقواتهم بمنطقة الإسكندرية، ولم يرحل من البلاد سوى جيشهم الذي حضر من الهند بقيادة الجنرال بيرد
Baird
وقت الحرب مع الفرنسيين، وبقي معسكرا بالجيزة حتى غادرها في 10 مايو سنة 1802، وأبحر من السويس نهائيا في يونيو، كما وجد فريق من البكوات في اهتمام نابليون بأمر مصر وحضور مندوبه إليها في أكتوبر من السنة نفسها، وتعيين قومسييريين - أو مندوبين - تجاريين بالبلاد؛ فرصة لتوثيق علاقاتهم بفرنسا.
ورفضوا في هذه الظروف الاستجابة لرغبات الباب العالي، وصمموا على المقاومة، ووجد خسرو نفسه مضطرا إلى الالتحام معهم، واللجوء إلى المخادعة لإضعافهم ببذر بذور التفرقة بينهم وتحطيم جيشهم.
وبدأ خسرو من أجل توطيد حكومته بتأليف حرس خاص من النوبيين ومن الرقيق الأسود اشتراهم من الجلابة (تجار الرقيق) وعهد بتعليمهم وتدريبهم إلى طائفة من الفرنسيين الذين آثروا البقاء بالبلاد بعد خروج جيش الشرق منها، ثم وجد أن لا سبيل إلى مطاردة المماليك إلا باعتماده على الجند الأرنئود (الألبانيين) بقيادة طاهر باشا ومحمد علي، وكان الأول قد بعث به الصدر الأعظم وقت مكيدته المعروفة لقتال البكوات بالصعيد وتعقب الألفي.
صفحه نامشخص
ولما كان البكوات منقسمين على أنفسهم، وتشتد المنافسة - على وجه الخصوص - بين محمد الألفي وبين عثمان البرديسي؛ فقد استطاع خسرو أن يستميل للتفاهم معه عثمان بك حسن، وكان هذا رجلا مسالما ظل بمنأى عن مشاحنات البكوات ومنافساتهم، واستند خسرو في مفاتحة عثمان بك حسن في موضوع التفاهم والاتفاق معه على كتاب بعث به إليه قائمقام الصدارة العظمى بالآستانة سيد عبد الله باشا في 30 يوليو سنة 1802، يبلغه فيه رسميا قرار الباب العالي بشأن المماليك بعد أن صفح عنهم بسبب وساطة حلفائه وأصدقائه الإنجليز، وهو يطلب من البكوات الخروج من مصر والانسحاب إلى أي مكان يختارونه من بين رودس وكريت وسالونيك وأزمير والقسطنطينية، وأن ينالوا من المرتبات ضعف ما اقترحه لهم الصدر الأعظم سابقا، وقد طلب عبد الله باشا من خسرو أن يعلن للمماليك عفو الباب العالي عنهم إذا قرروا قبول هذه الشروط، وأن يهيئ لهم أسباب الانتقال من مصر مع قبول من يعثر عليه منهم بعد انسحاب البكوات كجند في جيش الدولة.
وكان غرض خسرو من استمالة عثمان بك حسن إغراء البكوات زملائه الآخرين على الحضور إلى القاهرة لإرسالهم إلى القسطنطينية أو إلى أي مكان آخر يريدونه حسب التعليمات المرسلة إليه من الباب العالي، وأفلح مسعى خسرو مع عثمان بك حسن، فحضر إلى القاهرة مع صالح بك الكبير (أو العجوز) وصالح بك الصغير في أواخر يوليو سنة 1802، ومعهم حوالي الثلاثمائة مملوك، وصرحوا لخسروا بأنهم تركوا البكوات الآخرين؛ لأنه لا يجوز في نظرهم مخالفة أوامر السلطان، ولاعتقادهم بأن إخوانهم عاجزون عن مقاومة حكومة السلطان العثماني في مصر.
واعتزم خسرو أن يتخذ من عثمان بك حسن تكأة في تدابيره مع سائر البكوات، فأكرمه إكراما كبيرا على أمل أن تغري هذه المعاملة البكوات الآخرين على الاقتداء به والمجيء إلى القاهرة.
ولكن خسرو - الذي عزا إليه معاصروه الجهل بفنون الحرب والسياسة وشئون الحكم والإدارة - لم يلبث أن ارتكب في معاملته مع المماليك خطأين ظاهرين؛ وذلك أن بكوات الصعيد الذين استمر يطاردهم طاهر باشا بعثوا إلى القاهرة يطلبون هدنة لمدة خمسة شهور، فاتخذ خسرو من هذا الطلب دليلا على أنهم وصلوا إلى درجة من الضعف والبؤس جعلتهم يقبلون التسليم والخضوع لحكومته، فطلب إليهم بدوره أن يحضروا إلى القاهرة حتى يعيشوا بها كرعايا للسلطان العثماني، خاضعين لسيادته إذا شاءوا أن يعيشوا في أمن وسلام كما فعل عثمان بك حسن، وأبلغهم أنه لما كان الباب العالي قد أصدر صفحه وعفوه عنهم، ففي وسعهم إذا قبلوا عروضه عليهم أن يعتمدوا على حماية الباب العالي لهم.
وكان خطأ خسرو الظاهر أنه استثنى من هذا العفو الذي وعد به، ومن هذه الحماية التي ذكرها، رؤساء البكوات وكبارهم: عثمان البرديسي، ومحمد الألفي، وإبراهيم بك (الكبير)، وسليم بك أبو دياب؛ الأمر الذي قرب بين البكوات ثانية، فجمعوا كلمتهم ونبذوا عروضه وأوقعوا بجيشه هزيمة كبيرة في أوائل سبتمبر سنة 1802، في «ألهوه-أولهو» بإقليم بني سويف، ومكنهم هذا النصر من النزول إلى الوجه البحري ينهبون ويسلبون ويفرضون على القرى الغرامات والإتاوات الفادحة.
وأخطأ خسرو مرة ثانية عندما استمر في استعداداته العسكرية للانتقام من هذه الهزيمة، في الوقت الذي اعتزم فيه مفاتحة البكوات في الصلح والاتفاق معهم، فعرض عليهم بواسطة عثمان بك حسن، دون أن يأمر بوقف القتال، إقطاعهم الأراضي الممتدة من إسنا إلى آخر الحدود المصرية، ولما كان هؤلاء قد ساورتهم الشكوك في نواياه، ولم تشتمل عروض خسرو على إقليم جرجا الذي كان قد اقترح الوسطاء الإنجليز على الباب العالي إعطاءه لهم، فقد صمموا على ضم هذا الإقليم بأسره إليهم، ورفض خسرو وصمم بدوره مناجزتهم.
وكان خسرو في أثناء مفاوضته مع البكوات قد سير جيشين إلى الوجه البحري؛ أحدهما بقيادة يوسف بك من أعوانه ومعه طاهر باشا، والآخر بقيادة محمد علي؛ وذلك للإطباق على دمنهور، المكان الذي اجتمعت به - منذ نزولها من الصعيد - قوات المماليك بقيادة البرديسي والألفي، وقصد خسرو من إرسال جيشيه تعزيز مفاوضاته، فلما فشلت هذه المفاوضات ظهر جيش يوسف بك أمام دمنهور، وكان جيشا كبيرا أزعج الإنجليز أصدقاء البكوات، وكانوا - كما قدمنا - لا يزالون مرابطين بالإسكندرية، فنصحوا للألفي أقرب أصدقائهم بضرورة تجنب الالتحام مع الأتراك؛ توقيا للهزيمة التي توقعوها، ولكن الألفي عجز عن إقناع زملائه، وانقسم البكوات مرة أخرى؛ فغادر الألفي دمنهور بأتباعه متجها صوب الإسكندرية، وترك البرديسي لقتال العثمانيين.
واعتمد يوسف بك على اشتراك جيش محمد علي معه في المعركة المنتظرة، ولكن محمد علي لم يجد في سيره، وآثر عند وصوله أن ينال جنده قسطا من الراحة، فخاض يوسف بك المعركة وحده في 23 نوفمبر سنة 1802، ودار القتال في سهل منبسط بالقرب من دمنهور، مكن المماليك من استخدام فرسانهم بصورة ألحقت بجيش يوسف بك هزيمة كبيرة، ونجا يوسف بك نفسه من الهلاك بمشقة عظيمة، ثم صار يشكو شكوى مرة من إبطاء محمد علي وتقاعسه وعدم الدخول بقواته في المعركة.
وفي رأي كثيرين من المعاصرين أن معركة دمنهور تحدد بداية ذلك التطور الذي أخذ يحدث تدريجيا في تفكير محمد علي، وبداية تعيين موقفه من مجريات الأمور في مصر؛ إذ من الثابت أنه لو اشترك في معركة دمنهور لكانت النتيجة على خلاف ما حدث، ولكنه تعمد عدم الدخول في هذه المعركة لإنقاذ البكوات من هزيمة محققة، وذلك لأسباب عدة: فقد لاحظ محمد علي أن الأمور صارت تجري في مصر منذ عودة العثمانيين إليها، كما لو كانت مصر «بلدا مفتوحا»، تخضع لنهب وطغيان عصابات من اللصوص وقطاع الطرق الذين لا هم لهم سوى استنزاف مواردها والاستبداد بالسلطة فيها؛ لتنفيذ مآربهم حتى أضحت الأطماع والمصلحة الذاتية وحدها هي المتسلطة وسط هذه الفوضى الشاملة.
ورسخ في ذهن محمد علي أن الباشا العثماني خسرو محمد رجل محكوم عليه بالفشل سلفا؛ لأنه لن يستطيع جمع زمام الأمور في يده بسبب ما هو واقع فعلا من تنازع على السلطة بينه وبين المماليك من جهة، ثم بينه وبين رؤساء الجند من جهة أخرى، ويعتمد هؤلاء الأخيرون على ما لديهم من قوات يعجز خسرو عن إخضاعها له بسبب مطالبة الجند المستمرة بمرتباتهم المتأخرة، وخلو خزانة الباشا من المال اللازم لدفعها، وفضلا عن ذلك فقد رأى محمد علي أن البكوات مستأثرون بإيرادات البلاد بسبب خضوع القسم الأكبر من الأقاليم المصرية لسلطانهم، ولهم فوق ذلك من الإرادة والعزم - كعنصر شهد بنفسه نشاطه - ما يضمن تفوقهم على الباشا العثماني؛ وعلى ذلك، فقد كان من رأي محمد علي قبل المساعدة على تحطيم البكوات أن يتم أولا تقرير المسألة في القاهرة ذاتها موئل السلطة العثمانية التي يمثلها خسرو باشا؛ أي تحرير خسرو من العوامل المتعددة الضاغطة عليه والتي حكم محمد علي سلفا بأنها قاضية عليه لا محالة.
صفحه نامشخص
ولم يفت على خسرو مغزى امتناع محمد علي عن الاشتراك في معركة دمنهور، وكان مما زاد في حنقه عليه أنه اعتبر «محمد علي» مدينا له بكل شيء، فأضمر له العداوة والكراهية في ذلك الوقت، بل وحاول البطش به عند عودته بعد ذلك من دمنهور، فطلب حضوره في «المساء» إلى القلعة، ولكن «محمد علي» أجابه بأنه يحضر في «وضح النهار» ومعه جنده.
وأما المماليك فإنهم لم يستفيدوا من النصر الذي أحرزوه لعدم زحفهم على القاهرة مباشرة، فآثر البرديسي وزملاؤه أن يجعلوا مركز عملياتهم العسكرية قريبا من الإسكندرية ومن أصدقائهم الإنجليز، ولم يحاولوا الانضمام إلى بكوات الصعيد لتعزيز قوات هؤلاء بهم في وقت كان للأتراك فيه بالصعيد ثلاثة مراكز رئيسية : في المنيا وأسيوط وجرجا ، ولكن الإنجليز ما لبثوا أن أخلوا الإسكندرية وغادرها أسطولهم في 16 مارس سنة 1803، وتسلم أحمد خورشيد باشا حكومتها في اليوم التالي، وكان قد عينه خسرو في هذا المنصب، فأنهى جلاء الإنجليز تردد البكوات فانسحبوا من دمنهور إلى الصعيد، وكان أول أثر لانسحابهم سقوط «المنيا» التي هاجمها البرديسي مع إبراهيم بك.
وكان للمنيا أهمية «استراتيجية» كبيرة؛ لوقوعها على مسافة أربعين فرسخا من حدود الصعيد السفلى، ولتحكمها - إذا وجدت بها حامية قوية - على الملاحة في النهر الأعلى بسبب ضيق مجرى النهر أمامها؛ الأمر الذي يترتب عليه عند استيلاء العدو عليها قطع المواصلات النهرية بين الصعيد وسائر الأقاليم الوسطى والبحرية وتقسيم البلاد إلى شطرين، كما يؤدي سقوطها إلى سقوط أسيوط وجرجا، وعلى ذلك فقد جمع البكوات قواتهم في أبريل سنة 1803، وهاجموا المنيا هجوما عنيفا لم تقو على دفعه بسبب ضعف تحصيناتها فسقطت في يد البرديسي، وبلغ الخبر القاهرة في 17 أبريل ففزع القاهريون فزعا كبيرا؛ لأنهم باتوا يتوقعون الآن عدم مجيء المؤن من الصعيد، وهي التي تعتمد عليها القاهرة في تموينها، وخاف الناس من انتشار المجاعة، وخاف خسرو من سقوط أسيوط وجرجا تبعا لتسليم المنيا فاستدعى جند طاهر باشا ومحمد علي من إقليم البحيرة إلى القاهرة.
وأخطأ خسرو عندما فرق بين جند طاهر باشا وجند محمد علي، وهم المشتبه في أمرهم، فأجاز للأولين أن يدخلوا العاصمة، بينما أبقى «محمد علي» وجنده خارجها معسكرين بالجيزة، وكان وجه الخطأ في هذا التمييز بين الفريقين في المعاملة، مع أنه لم يكن قد بدا من جانب طاهر باشا ما يدل على أنه مخلص حقا لخسرو باشا.
ثم أخطأ مرة ثانية عندما أراد إرجاع الجند الأرنئود إلى أوطانهم من غير أن يدفع لهم مرتباتهم المتأخرة، فقال «مسيت» في رسالته إلى حكومته بتاريخ 4 مايو: «إن سلوك الأرنئود المنطوي على الجبن، كما ظهر في التحاماتهم مع المماليك عدا ما يتكلفونه من نفقات طائلة، جعل الباب العالي يأمر من مدة بإخراجهم من مصر، وعندما وصل فرمان الباب العالي بذلك كان قد صار للأرنئود متأخرات كثيرة، فحصلت «الحكومة» إتاوات عظيمة من أهل البلاد لدفعها، ولكنه ما وضعت هذه المبالغ في خزينتها حتى طمع ضباط الباشا فيها ونصحوه بطرد الألبانيين (الأرنئود) دون دفع مرتباتهم، فجمع خسرو باشا قوات كافية حوله ثم استدعى إليه طاهر باشا زعيم الأرنئود ليبلغهم الأمر بإخلاء القاهرة حالا، وإلا أطلق الباشا عليهم النار إذا عصوا أمره، فكان طاهر باشا الذي آثره خسرو على محمد علي هو الذي تزعم حركة تمرد الجند وعصيانهم، فقد ثار هؤلاء في 23 أبريل يطالبون بمرتباتهم المتأخرة.»
وارتكب خسرو حماقة أخرى عندما أساء التصرف مع هؤلاء الأرنئود الثائرين، فقال «روشتي» (أو راشته كما يسميه الجبرتي) قنصل النمسا في القاهرة في رسالته إلى البارون شتورمر
Stürmer
السفير النمساوي في القسطنطينية في 30 أبريل 1803، إن خسرو باشا أحال الجنود على الدفتردار خليل أفندي الرجائي، فأحالهم هذا بدوره على محمد علي بدعوى أن محمد علي لا بد أن يكون قد جمع بعض المال من تحصيل الضرائب أثناء مروره بالوجه البحري، فلما نفى محمد علي ذلك قويت الفتنة، وحاصر الجند منزل الدفتردار (29 أبريل)، وطلب هذا من خسرو أن يعجل بفك إساره، ويدفع - دون إمهال - للجند مرتباتهم، ولكن خسرو وعد بأن يدفع بعد عشرة أيام، ورفض الجند إمهال خسرو والدفتردار.
وخيل إلى خسرو أن بوسعه المقاومة من القلعة، وعندئذ اقتحم طاهر باشا القلعة معلنا أنه إنما يفعل ذلك «تنفيذا لأوامر الباب العالي»، فكان في ذلك ختام باشوية خسرو، فكتب الوكيل الفرنسي «كاف»
Caffe
صفحه نامشخص
من رشيد في 5 مايو: «إن الأرنئود (جند طاهر باشا الثائرين) هاجموا سراي خسرو وتبادلوا مع حرسه وأعوانه إطلاق المدافع والقنابل، كما استخدم الفريقان البنادق والسيوف، فانتصر الثوار وأحرقوا منزل الباشا - وهو نفس المنزل الذي جعله الفرنسيون مقر قيادتهم العامة بالقاهرة، وكان بيت الألفي القديم بالأزبكية - وانفض جماعة خسرو من حوله، ما عدا بعض الفرنسيين الذين كانوا في خدمته وبعض الضباط الترك، فاضطر الباشا إلى الفرار في 2 مايو، وخرج من القاهرة قاصدا المنصورة ودمياط.»
ولزم محمد علي جانب الحيطة والحذر في أثناء هذه الحوادث ، فترك طاهر باشا يتهور في إعلان عصيانه على ممثل الباب العالي الشرعي في مصر، وقد كان من صالح محمد علي أن يرقب ما يترتب على ذلك من آثار في القسطنطينية، وملاحظة وقع هذا «الانقلاب» على الدول ذات المصلحة في استقرار الأمور في البلاد، ثم موقف البكوات المماليك ومراقبة مسلك الإنكشارية؛ وهم طوائف الأجناد الأخرى الذين لم يشتركوا في هذا الحادث.
وقد دل فرار خسرو من القاهرة على أن العثمانيين عاجزون عن إنشاء تلك الحكومة القوية التي في وسعها صون البلاد من أي غزو أجنبي جديد قد يقع عليها، كما دل عصيان الجند وتمردهم، على أن هذه القوات الألبانية (عماد الجيش العثماني في مصر) لا يمكن الاعتماد عليها في الدفاع عن مصر، وعزز عصيانهم هذا رأي القواد الإنجليز فيهم من أيام القتال ضد الفرنسيين لإخراجهم من هذه البلاد، لا سيما بعد أن دلت هزيمتهم في دمنهور والمنيا على أن المماليك وبكواتهم هم القوة العسكرية المفضلة التي في وسعها رد الغزو الأجنبي، على نحو ما اعتقد القواد والوكلاء الإنجليز خصوصا، فأقبلوا الآن أكثر من ذي قبل على مناصرتهم، وانصرف الوكلاء الفرنسيون بدورهم إلى تعطيل مساعي خصومهم الإنجليز ومحاولة إنشاء الصلات الوثيقة مع البكوات؛ حتى يستطيعوا كذلك تأييد المصالح الفرنسية عن طريقهم، فصارت البلاد مسرحا للصراع بين السياستين: الإنجليزية والفرنسية من أجل الظفر بالنفوذ الأعلى فيها، وكان هذا الصراع من أسباب زيادة حدة الفوضى السياسية في مصر في السنوات التالية.
الفصل الثاني
فرنسا وسياستها «السلبية» في مصر
بدأت المفاوضات بين إنجلترا وفرنسا من أجل الاتفاق على إخلاء الفرنسيين لمصر منذ أن ذاعت وتأكدت أخبار انتصار الإنجليز في موقعة كانوب، فعقدت مقدمات الصلح في لندن في أول أكتوبر سنة 1801 بين الدولتين، على أساس إرجاع مصر إلى تركيا والاحتفاظ بممتلكات العثمانيين للباب العالي بتمامها، وكما كانت قبل الحرب الراهنة. ونجح تاليران وزير الخارجية الفرنسية في عقد مقدمات الصلح بين دولته وتركيا مع السيد علي أفندي السفير العثماني في باريس في 9 أكتوبر من العام نفسه، على أساس إخلاء الفرنسيين لمصر وإرجاعها لتركيا. ولما كانت فرنسا تريد استعادة ما كان لها من سطوة قديمة في حوض البحر الأبيض وأساكل الليفانت، فقد نصت المادة الرابعة من هذه المقدمات على أن يمنع الإنجليز من إطالة بقائهم في مصر، فتبطل بفضل ذلك مساعيهم بها مع البكوات المماليك، وهي المساعي التي خشي بونابرت أن يفيد الإنجليز منها تعزيز نفوذهم بها وإلحاق الأذى بالمصالح الفرنسية، بل إن القنصل الأول في هذه الفترة التي سبقت عقد الصلح العام في أميان في 27 مارس سنة 1802، كان يرى ضرورة طرد البكوات من مصر كلية، وإتاحة الفرصة للباب العالي لإقامة حكومة «عثمانية» قوية في مصر، عقد بونابرت آمالا كبيرة على رعايتها للمصالح الفرنسية، إذا استطاع أن يكسب ود وصداقة الباب العالي بعد عودة السلام بين فرنسا وتركيا.
وعلى ذلك، فقد بادر بإرسال الكولونيل هوراس سباستياني
Sebastiani
إلى القسطنطينية في 21 أكتوبر سنة 1801 مزودا بكتاب من القنصل الأول إلى السلطان سليم الثالث يحمل نفس التاريخ، واستطاع سباستياني في محادثاته مع الريس أفندي ورجال الديوان العثماني أن يوضح لهم مدى الخطر الذي يستهدف له العثمانيون في مصر، وهم الذين لا يحتلون منها سوى القاهرة وما حولها، بينما لدى الإنجليز سبعة آلاف من قوات الهند يحتلون الجيزة والسويس، وألفان وخمسمائة من الإنجليز يحتلون الإسكندرية ودمياط، وأرغم الجنرال هتشنسون القبطان باشا والصدر الأعظم بعد «المكيدة» المعروفة على تسليم البكوات للإنجليز، واستطاع المماليك بفضل ذلك أن يحشدوا قواتهم بالصعيد، واستمع رجال الديوان العثماني لتحذيرات سباستياني، وأكد له «وكيل وزارة الداخلية» بالقسطنطينية أن السير سدني سميث قد عقد معاهدة مع البكوات تحتفظ الحكومة الإنجليزية بالاعتراف بها أو إنكارها حسب الظروف، ورجا الريس أفندي (وزير الخارجية العثمانية) سباستياني ضرورة عدم إغفال هذه المسألة عند عقد مؤتمر الصلح المنتظر في أميان، وأفاد سباستياني من خوف العثمانيين الظاهر من مساعي الإنجليز مع البكوات المماليك، فطلب أن يشترط في معاهدة الصلح النهائية إلغاء «حكومة البكوات» نهائيا وطرد البكوات من مصر إلى الأبد، وتم الاتفاق بينه وبين الحكومة العثمانية على نفس المادة المتعلقة بهذا الموضوع لإدخالها في معاهدة الصلح.
غير أنه سرعان ما تبدل موقف القنصل الأول من البكوات المماليك عند إبرام صلح إميان في 27 مارس من العام التالي، فقد جاء هذا الصلح خلوا من هذه المادة، ولعل السبب في ذلك ما ذكره سباستياني نفسه في تقريره الذي قدمه إلى القنصل الأول عن نتيجة مهمته في القسطنطينية في نهاية عام 1801، أو في بداية العام التالي؛ فقد ذكر في هذا التقرير أن الريس أفندي عندما طلب إليه سباستياني أن يسري مفعول «الامتيازات» على الفرنسيين حتى يستطيعوا الاستفادة منها في معاملاتهم التجارية في مصر كسائر رعايا الدول الأوروبية الأخرى، «لم يخف الريس أفندي أن سكان مصر يشعرون بالود والصداقة نحو الجمهورية الفرنسية، حتى إن اللورد إلجين
صفحه نامشخص
Elgin
عند كلامه مع الريس أفندي عن مصر قال: «إن أهلها يأسفون أسفا شديدا على ذهابهم».»
ولذلك فقد قوي أمل القنصل الأول بعد إبرام الصلح في إمكان إنشاء العلاقات التجارية والسياسية الوثيقة مع مصر، واقتضت سياسته إلى جانب ذلك حمل الإنجليز على تعجيل جلائهم عن مصر وعن سائر المواقع التي يحتلونها في البحر الأبيض المتوسط، واتجهت سياسته منذ مارس سنة 1802 نحو تنفيذ معاهدة الصلح دون إبطاء.
ولما كان المماليك بزعامة مراد بك قد أبرموا الاتفاقات مع القواد الفرنسيين وتعاهدوا معهم أيام الحملة الفرنسية، وذلك قبل انضمام البكوات إلى جانب العثمانيين والإنجليز في القتال الذي دار من أجل طرد جيش الشرق من مصر نهائيا؛ فقد اعتقد بونابرت أن في وسعه أن يستأنف بسهولة علاقاته مع المماليك، وأن يعتمد عليهم في تأييد النفوذ الفرنسي وخدمة المصالح التجارية الفرنسية، فلم يعد من أهدافه الآن طرد البكوات من مصر، بل صار يتوسط لدى الباب العالي من أجل الوصول إلى تفاهم بينه وبينهم يكفل للبكوات ليس البقاء في مصر فحسب، بل واسترجاع نفوذهم وسلطتهم السابقة في الحكومة.
وقد زاد من اهتمامه بهذه المسألة أنه كان يتوقع قيام الحرب بينه وبين إنجلترا سريعا، فصار يرقب باهتمام زائد نشاط الإنجليز خوفا من أن ينزل هؤلاء حملة إنجليزية في مصر، كما فعل الفرنسيون أنفسهم من قبل وبخاصة عندما كان صلح «أميان» هدنة مسلمة في الحقيقة، ومن المتوقع استئناف الحرب بين إنجلترا وفرنسا في أية لحظة، ثم عظم اهتمام القنصل الأول بمصر عندما قامت الحرب فعلا في مايو سنة 1803.
غير أن نشاط بونابرت فيما يتعلق بمصر ظل - بعد صلح إميان - سلبيا في جوهره ولا يعدو إظهار عنايته بدقائق الموقف في مصر، ثم بذل الوعود الطيبة للبكوات وإبداء استعداده لنجدتهم وتمكينهم من استرجاع سلطتهم المفقودة في البلاد، ولكن دون أن «يتورط» معهم في أي عمل إيجابي سوف يكون موجها في هذه الحالة ولا شك ضد الباب العالي، الذي حرص بونابرت كل الحرص بسبب اشتعال الحرب على منعه من الانضمام إلى صفوف أعدائه، فاكتفى بالتوسط من أجل تسوية الخلافات بين الباب العالي وبين المماليك، ثم استمر يبذل الوعود الطيبة فحسب لطائفة البكوات الذين انحازوا برياسة عثمان البرديسي إلى جانب فرنسا بعد حضور ممثليها ومندوبيها إلى مصر، وانحصر اهتمامه في تبصير الباب العالي بجسامة الأخطار التي يتعرض لها سلطانه في مصر بسبب نشاط الإنجليز الذين أفلحوا في كسب جماعة المماليك الأخرى التي يتزعمها محمد الألفي.
ولم يعرض بونابرت على الباب العالي حلولا إيجابية أو عملية لإزالة هذه الأخطار، وكان طبيعيا أن تظل السياسة الفرنسية في مصر سياسة سلبية؛ لأنه تعذر في الحقيقة على بونابرت أن يرتبط مع البكوات أو يشترك معهم في أي عمل قد يدل - ولو من بعيد - على أن فرنسا تعتزم معارضة مصالح الباب العالي في مصر، في الوقت الذي حرص فيه بونابرت - وقبل أي اعتبار آخر - على الحيلولة دون انضمام تركيا إلى أعدائه.
وتفسر هذه السلبية نشاط الدبلوماسية الفرنسية في القاهرة والقسطنطينية في فترة الفوضى السياسية في مصر.
فقد بادر القنصل الأول «وقت عقد الصلح في أميان» بترشيح الجنرال برون
Brune
صفحه نامشخص
منذ مارس 1802، سفيرا لفرنسا بالقسطنطينية وأصدر إليه تعليماته نهائيا في 18 أكتوبر 1802، وفي 29 أغسطس أبلغ رغبته إلى تاليران وزير خارجيته بإيفاد المواطن هوراس سباستياني في مهمة إلى طرابلس الغرب ليحمل الحاكم بها على الاعتراف براية الجمهورية الإيطالية، ثم إلى الإسكندرية للتعرف على الحالة في مصر، ثم منها إلى يافا ليتفقد شئون فلسطين، ثم إلى عكا وأزمير وزنطة وكيفالونيا وكورفو، ومن الأخيرة إلى فرنسا، وفي 5 سبتمبر أصدر إليه تعليماته.
ومع أن بونابرت أراد أن يرسل سريعا قومسييرين (أو مندوبين) تجاريين إلى مصر، لكنه اعتبر ملء منصب القومسيير العام عملا يمس كرامة فرنسا في وقت كان لا يزال فيه الجيش البريطاني بمصر؛ ولذلك فقد اكتفى القنصل الأول بإصدار أوامر من «سان كلو» بتعيين المواطن دروفتي
Drovetti «القاضي بمحكمة تورين» مساعد قومسيير للعلاقات التجارية بالإسكندرية في 20 أكتوبر، ولو أن ذهاب دروفتي إلى مصر قد تعطل إلى أوائل العام التالي.
ويتضح من التعليمات التي أعطاها القنصل الأول لهؤلاء جميعا اهتمامه بتعجيل جلاء القوات الإنجليزية عن مصر، والإبقاء على الصلات التجارية والسياسية بين فرنسا ومصر، واستمالة البكوات المماليك لمناصرة المصالح الفرنسية دون أن يتسبب عن ذلك إغضاب الباب العالي، فطلب بونابرت من الجنرال برون (تعليمات 18 أكتوبر 1802) أن يبعث إليه بكل ما يستطيع جمعه من معلومات عن مجريات الأمور في مصر يوما بيوم مع العناية - على وجه الخصوص - ببيان العوامل التي يعتبرها السفير الفرنسي معوقة لإقامة السيطرة العثمانية في مصر، ثم طلب إليه الوقوف على وجهة نظر البريطانيين بشأن انسحاب قواتهم من مصر وإخلاء البلاد، وبيان مدى ما للإنجليز من علاقات مع البكوات المماليك، مع إظهار ما قد يعتمدون عليه من وسائل للاحتفاظ بمراكزهم في مصر إذا أرادوا البقاء بها بدلا من الجلاء عنها.
وفي التقرير الذي صدر لتاليران في 29 أغسطس 1802 بصدد بعثة سباستياني، طلب إليه القنصل الأول تزويد سباستياني بخطاب إلى باشا القاهرة يخطره بوصول قومسيير (أو مندوب) للعلاقات التجارية إلى الإسكندرية والقاهرة قريبا، كما طلب بونابرت من وزير خارجيته أن يسبق ذلك إيفاد أحد الضباط إلى مصر لمعرفة ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا البلاد وفقا لمعاهدة أميان، وأن الهدوء مستتب ولا يوجد ما يمنع ذهاب القومسيير التجاري لملء منصبه في مصر .
ورأى بونابرت أن يحمل سباستياني معه كتابا من السفير العثماني إلى باشا القاهرة يوضح له فيه الغرض الأعظم أهمية من رحلته؛ وهو ملاحظة ما إذا كان الإنجليز قد أخلوا الإسكندرية أو لا يزالون في احتلالها، وطلب القنصل الأول أن تصحب الفرقاطة التي تحمل سباستياني إلى الإسكندرية مركب بريد حتى يتسنى له إبلاغ حكومته كافة المعلومات الخاصة بمركز الإنجليز، وكل ما يهم الحكومة الفرنسية معرفته عن حالة مصر.
وفي التعليمات التي صدرت لسباستياني نفسه في 5 سبتمبر سنة 1802 طلب إليه بونابرت بمجرد وصوله إلى الإسكندرية أن يدون مذكرات وافية عما قد يجده في مينائها من سفن الحرب، وعن قوات الإنجليز بهذا الثغر، وكذلك قوات الأتراك وحال التحصينات، وأن يسجل تاريخ كل ما وقع من حوادث منذ خروج الفرنسيين من الإسكندرية ومن مصر، وأن يجمع معلومات مفصلة عن حالة البلاد الراهنة، وأن يجتمع بالشيخ المسيري (وهو من أنصار الفرنسيين المعروفين، ومن كبار رؤساء الإسكندرية وأصحاب النفوذ بها) ومع رئيسي القوات الإنجليزية والعثمانية، فيسجل أحاديثه مع هؤلاء جميعا ويبعث بها إلى القنصل الأول.
وأشار عليه بونابرت إذا كان الإنجليز عند وصوله لا يزالون كذلك بالجيزة (وقد سبق أن غادرها هؤلاء منذ 10 مايو)، أن يذهب إليها في حراسة متينة، وأن يتمهل في انتقاله من بلدة إلى أخرى، وأن يتحدث في أثناء سيره مع الأهالي في الرحمانية وطرانة والأماكن الأخرى التي يمر بها ويدون مذكرات بمحادثاته معهم، حتى إذا بلغ الجيزة بادر بالاجتماع بالمشايخ: المصري والشرقاوي والفيومي وغيرهم - وهم المشايخ الذين تعاونوا راضين أو مكرهين مع الحملة الفرنسية - ويسجل محادثاته معهم كذلك، ويدون مذكرات وافية عن حالة قلعة القاهرة والتحصينات المجاورة، وينقل إلى الأهلين الذين يراهم أقوالا طيبة عن لسان القنصل الأول، ولكن دون أن «يورط» حكومته في شيء، كأن يقول مثلا: «إن بونابرت يحب أهل مصر ويريد لهم السعادة والرفاهية، ولا يزال يذكرهم ويتحدث دائما عنهم.»
وأما فيما يتعلق بالبكوات المماليك، الذين اعتمد بونابرت على كسبهم إلى جانبهم لتعطيل مساعي الإنجليز ووقف نشاطهم وتأييد المصالح الفرنسية في مصر، فقد ذكر بصددهم في تعليماته إلى سباستياني: أنه يجب أن يكون لديه (أي سباستياني) كتاب من «تاليران» إلى باشا القاهرة يبلغه رغبة القنصل الأول في إرسال قومسيير إلى القاهرة حالا، واهتمامه بمعرفة ما إذا كانت الأمور هادئة ومستقرة في مصر لحرصه على إسعادها وضمان السلام لها، وحتى يعرف إذا كان في استطاعته (أي بونابرت) التدخل مع البكوات المماليك من أجل تحقيق هذه السعادة، حتى إذا رغب الباشا أن يذهب سباستياني إلى الصعيد للحديث مع البكوات، ذهب بعد أن يمكث في القاهرة ثمانية أيام أو عشرة، يكون قد استطاع في أثنائها مشاهدة كل شيء والحديث مع الناس، وأن يصطحب معه في عودته الفرنسيين الذين بقوا بالمستشفيات، أو أولئك الذين بقوا مع البكوات المماليك ويريدون العودة إلى فرنسا.
وعلى ذلك فقد بدأت - عقب عقد معاهدة إميان واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا وتركيا - مساعي القنصل الأول من أجل تحقيق غرضه الجوهري؛ إجلاء الإنجليز عن الإسكندرية بكل سرعة، ثم التوسط للبكوات المماليك لدى الباب العالي حتى يستطيع الاعتماد عليهم إذا عادت السلطة إليهم في رعاية مصالح فرنسا التجارية والسياسية في مصر.
صفحه نامشخص
تقابل روسان
Roussin
القائم بأعمال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية مع الريس أفندي، واستفسر منه عن سبب تأخر رحيل القوات البريطانية عن مصر، وظفر منه بجواب يوضح وجهة النظر البريطانية. بادر روسان بإرساله إلى «تاليران» في 26 نوفمبر سنة 1802، ويؤخذ منه - كما جاء في إجابة الريس أفندي - أن تأجيل الجلاء عن مصر مبعثه رغبة الحكومة الإنجليزية في الاطمئنان على مصير البكوات المماليك قبل رحيل قواتهم البرية والبحرية من البلاد، وعندما أوضح الريس أفندي للسفير الإنجليزي اللورد «إلجين» أن رعاية شروط المحالفة الأولية المبرمة بين إنجلترا وتركيا منذ يناير سنة 1799 توجب على الإنجليز الانسحاب من مصر مباشرة بعد خروج الفرنسيين منها، قال «إلجين» إنه حدث بناء على اتفاق لاحق أن أضاف الباب العالي وحكومته (أي إنجلترا) أن هذا الانسحاب يحدث «بعد أن يتوطد السلام والهدوء تماما في مصر ويسترضى جميع الملاك بها»، ومع أن الريس أفندي أجاب بأنه لا يجوز تسمية البكوات ب «الملاك» وتمييزهم بذلك عن غيرهم، وهم الذين يؤلفون من قديم الزمان جزءا متمما من حكومة مصر، رفض اللورد إلجين الأخذ بوجهة النظر هذه، ثم استند في معارضته لها على ما أحرزه البكوات من انتصارات على قوات الباب العالي في مصر. فكان من الواضح حينئذ أنه لا معدى من انتظار ما قد تسفر عنه بعثة سباستياني من حيث إقناع الإنجليز من جهة بتعجيل انسحابهم من مصر، ثم الوقوف على حقيقة الأوضاع في هذه البلاد من جهة أخرى.
بعثة سباستياني
أما سباستياني، فكان قد غادر طولون في 21 سبتمبر 1802 قاصدا إلى طرابلس فبلغها في 30 سبتمبر، ثم غادرها بعد يومين فوصل الإسكندرية يوم 16 أكتوبر، وفي نفس اليوم كتب - بوصفه وزيرا مفوضا من القنصل الأول في الليفانت - يطلب مقابلة الجنرال ستيوارت قائد القوات البريطانية بالإسكندرية للتحدث إليه في أمور هامة كلفه بها القنصل الأول، وفي هذه المقابلة أبلغه ما لديه من أوامر من وزير خارجية حكومته «تاليران» الذي طلب إليه الذهاب إلى الإسكندرية حتى إذا وجد الإنجليز لا يزالون بها، طلب منهم إخلاءها بوجه السرعة وتنفيذ معاهدة أميان، ثم أبلغ الجنرال ستيوارت دهشة القنصل الأول من استمرار الإنجليز في احتلال مصر، وسأله عن الأسباب التي دعت إلى إطالة مدة هذا الاحتلال، وحاول ستيوارت التخلص بإجابة مبهمة عن أنه لا خوف من تأخير الانسحاب الذي سوف يحدث فعلا، ولكن سباستياني أصر على جواب أقل إبهاما وغموضا، فذكر ستيوارت أنه ليست لديه أية أوامر من حكومته بإخلاء الإسكندرية، ويعتقد أنه سوف يمضي بها فصل الشتاء، وأنهم (أي الإنجليز) لا يخلون مصر ومالطة - حسب اعتقاده - إلا بعد إبرام معاهدة تجارية بين إنجلترا وفرنسا، فاكتفى سباستياني بهذه البيانات واعتبر مهمته بالنسبة للجنرال ستيوارت ومعرفة نوايا الإنجليز في موضوع الجلاء عن الإسكندرية منتهية.
ولم تترك هذه المقابلة أثرا طيبا في نفس سباستياني عن شخصية القائد الإنجليزي وكفاءته، فقال عنه إنه رجل قليل الذكاء، يتخيل أن بقاءه على رأس القوات البريطانية في مصر يلفت إليه أنظار أوروبا، وأكد سباستياني أنه يعلم يقينا أن ستيوارت يفتش عن إزعاج الوزارة الإنجليزية بكل الوسائل من الموقف في البلاد حتى يمنع الجلاء أو يطيل أمد الاحتلال، وكان في رأي سباستياني أن الجنرال ستيوارت يقع تحت تأثير ياوره الفارس دي ساد
Chevalier de Sades
من المهاجرين الفرنسيين، له ذكاء وعدو لفرنسا.
وفي نفس اليوم قابل خورشيد أحمد باشا حاكم الإسكندرية و«القبطان بك» قائد القوات البحرية العثمانية، فأبلغهما سباستياني بقرب مجيء الوكلاء التجاريين الفرنسيين إلى مصر، وقال سباستياني: «إنهما قد سرا لهذا النبأ سرورا عظيما.» ولم يخفيا عليه أنهما يتألمان من بقاء الإنجليز في هذه البلاد، وأكد لهما سباستياني أن مكثهم بها لن يطول الآن، ولا يترك إبرام الصلح العام (معاهدة إميان) أي شك في أن رحيلهم بات قريبا.
وقابل سباستياني في اليوم التالي (17 أكتوبر) الشيخ المسيري الذي ذكر لسباستياني اعتقاد الناس لحظة وصوله أنه أغا حضر للاستيلاء على المدينة، وأن سكانها قد فرحوا لذلك فرحا عظيما؛ الأمر الذي قال سباستياني إنه لاحظه وشهده بنفسه، ثم قابل في نفس اليوم الشيخ إبراهيم المفتي، وهو رجل قال عنه إنه مخلص كل الإخلاص لفرنسا، وينال من حكومتها معاشا، ولكنه مذموم من الأهالي ويكاد لا يكون له أي نفوذ عليهم.
صفحه نامشخص
وأمضى سباستياني يومه التالي (18 أكتوبر) في زيارة سد أبي قير الذي قطعه الجنرال هتشنسون عند امتناع الجنرال «منو» بالإسكندرية، وأتلف قطع السد ترعة الإسكندرية التي كانت تجري فوقه وتدفقت مياه البحر من ترعة المعدية (أو ترعة أبي قير) إلى بحيرة مريوط التي كان يحجزها هذا السد، وكانت البحيرة الأخيرة تكاد تكون جافة قبل القطع فغمرتها المياه الآن، وذهب عدد كبير من القرى ضحية هذه المياه، وأرسل الباب العالي المهندس السويدي «رودن»
Rhoden
لإصلاحه، وشك سباستياني في قدرته وكفاءته، وقال إن الإسكندرية بسبب قطع السد صارت تعتمد الآن على المياه المجلوبة من آبار مرابط، ويوجد بقلعة مرابط المحصنة الصغيرة حرس من الإنجليز والأتراك لحماية الأهالي الذين يحضرون لأخذ المياه من الآبار، ثم أمضى يوم 19 أكتوبر بالإسكندرية لمشاهدتها ولاستقبال زائريه.
وفي 20 أكتوبر غادرها في طريقه إلى القاهرة في حراسة ضابطين فرنسيين من الفرقاطة التي أحضرته، فقضى في أبي قير اليوم التالي ومساءه وانتهز فرصة إقامته بها لزيارة قلعتها التي وجدها في حالة تخريب كبير. وفي 22 أكتوبر وصل رشيد بعد أن زار قلعة جوليان، فقابل أغا المدينة ومدير جمركها «عثمان» ثم جميع المسيحيين بها، «وأكد له كل من قابلهم أن الأهالي يأسفون أسفا عظيما على ذهاب الفرنسيين، ويقدسون اسم القنصل الأول». وفي 23 أكتوبر كان سباستياني في «فوه»؛ حيث قابل حاكمها والقاضي والمشايخ، وقد أكد له من قابلهم من المشايخ ولاءهم وصداقتهم للقنصل الأول، وفي اليوم التالي وصل سباستياني إلى «الرحمانية» وقابل بها الشيخ «محمد أبو علي»، ولاحظ أن قلعة الرحمانية تكاد تكون مهدمة تماما. وفي 25 أكتوبر بلغ منوف فاجتمع بالشيخ عابدين الذي عينه القنصل الأول قاضيا بها، وقد أكد له الشيخ «أن مصر ترغب في الدخول مرة أخرى تحت سيطرة بونابرت»، وأكد له سباستياني بدوره ما كان يؤكده دائما للمصريين الذين قابلهم؛ وهو اهتمام القنصل الأول بسعادة أهل مصر ورفاهيتهم ومحبته لهم. وقال سباستياني إن الشيخ عابدين وسائر مشايخ منوف الذين جاءوا لزيارته في بيت هذا الشيخ حدثوه في نفس ما حدثه به مشايخ «فوه»، وكان جواب سباستياني: «إن القنصل الأول يشعر نحو بلادكم بحب عظيم، ويتحدث عنها كثيرا، ويهتم بكل ما فيه سعادتكم ولا ينساكم أبدا، وقد أوصى بكم خيرا لدى الباب العالي، وإن «بونابرت» يحكم أغنى وأقوى دولتين في أوروبا: فرنسا وإيطاليا، وقد عقد السلام مع أوروبا، وسوف ترى هذه البلاد مدى اهتمامه بها ومدى الأثر الذي تركته في نفسه ذكرياته الطيبة عن مشايخ مصر السيئي الحظ ...» وقد ذكر سباستياني فيما بعد أن «محمد كاشف» حاكم منوف كان نصيبه القتل وقطع رأسه - بعد مرور سباستياني - بتهمة وجود علاقات بينه وبين المماليك، وأما قلعتا منوف فقد وجدهما سباستياني مخربتين تماما.
وفي نفس اليوم (25 أكتوبر) وصل سباستياني إلى بولاق، وبعث في التو والساعة المواطن جوبير لإخطار باشا القاهرة خسرو محمد بوصوله، فأرسل إليه في صبيحة اليوم التالي (26 أكتوبر 1802) قوة من ثلاثمائة فارس ومائتي جندي من المشاة لاصطحابه في أثناء سيره إلى بيت خسرو باشا، وأطلقت المدافع ترحيبا به.
وكان أول ما فعله سباستياني عند دخوله القاهرة، ومقابلته لخسرو باشا؛ أن أبلغه عقد الصلح بين فرنسا والباب العالي، واستئناف صلات المودة والصداقة والعلاقات التجارية بينهما، وأن بونابرت القنصل الأول قد كلفه بأن يؤكد لخسرو باشا حسن نواياه، وأن ينبئه بخبر وصول المندوبين التجاريين الفرنسيين قريبا إلى مصر.
وشكر خسرو باشا للقنصل الأول نواياه الطيبة ورحب بقدوم مندوبيه التجاريين، وبعد هذه المقابلة انتقل سباستياني إلى المنزل الذي أعده له الباشا، وجاء لزيارته كبار المدينة ورؤساؤها والمباشرون أو المعلمون الأقباط، ثم اجتمع بالباشا مرة أخرى في 27 أكتوبر، وكان اجتماعا طويلا، وذكر له «أن القنصل الأول مهتم به وبالبلاد التي يحكمها أبلغ الاهتمام، ويريد أن يوفر له وللبلاد أسباب السعادة، وأنه لذلك قد كلف «سباستياني» بعرض وساطته على «خسرو باشا» من أجل الصلح بينه وبين البكوات المماليك»، فشكره خسرو على عنايته واهتمام القنصل الأول، ولكنه قال: «إن تعليمات حكومته القاطعة هي حرب الفناء ضد البكوات، وعدم الدخول بتاتا في أية اتفاقات معهم.»
وعندئذ لاحظ سباستياني أن سبب انهزام الأتراك في عملياتهم العسكرية الأخيرة مع البكوات لا أقل من خمس مرات، أن الحالة النفسية التي صار عليها الجنود العثمانيون جعلت مركزهم دقيقا للغاية، وأن العناد والإصرار على المضي في قتال المماليك من شأنه أن يمهد في النهاية لضياع مصر ذاتها، وقال سباستياني: إن الباشا يدرك تمام الإدراك أنه لا يستطيع مقاومة البكوات طويلا، وطلب إليه أن يرجو القنصل الأول حتى يبدأ هذه المفاوضة في القسطنطينية، وأن يصل إلى نتيجة سريعة من هذه المفاوضة (لأجل الصلح مع البكوات)، ثم أطلع سباستياني على ما لديه من أوامر الباب العالي، وكان من رأي سباستياني عندئذ أنه يستحيل على خسرو باشا بسببها قبول أي اتفاق مع البكوات، وفي هذه المقابلة أبلغه سباستياتي عزمه على الاجتماع بمشايخ القاهرة ، وأرملة مراد بك، وكذلك زيارة الجهات المجاورة للقاهرة وتحصينات المدينة، وأمر خسرو بأن يصحب سباستياني في كل مكان يقصد إليه الحرس الذي كان قد خصصه له قائلا: إنه يسره دائما أن يقضي الأخير المدة التي يمكثها بالقاهرة في راحة وسرور.
وفي 27 أكتوبر بدأ سباستياني زياراته بزيارة الشيخ عبد الله الشرقاوي، وحضر للاجتماع به في بيت الشيخ عدد كبير من المشايخ، ودار الحديث حول اهتمام القنصل الأول بمصر، وعظم قوته وما كسبه من أكاليل المجد والفخار، وتقديره واحترامه ورعايته لعلماء القاهرة، وانسجام العلاقات بين السلطان سليم الثالث وبونابرت، وقد أظهر المشايخ في كلامهم مقدار ما يكنونه لشخص القنصل الأول من محبة وود. وعلق سباستياني على هذا الحديث بقوله: «إنه دهش مما أبداه المشايخ من شجاعة في إعلان رغبتهم في أن يصبحوا مرة أخرى رعايا للقنصل الأول.» وفضلا عن ذلك فإنه يكفي للتأكد من صدق رغبتهم هذه وعواطفهم نحو القنصل الأول؛ ملاحظة ذلك الحماس العظيم الذي شاهده سباستياني بنفسه، والذي أظهره المشايخ عند إهدائهم صورة بونابرت. وقد أهدى سباستياني صورة بونابرت لكل كبار المشايخ ليس في القاهرة فحسب، بل وفي البلدان الأخرى التي مر بها، وقد ظهر مثل هذا الحماس في كل مكان مر به.
وفي 28 أكتوبر زار سباستياني السيد «الشيخ» عمر مكرم نقيب الأشراف، وكان مريضا فقابله ابنه، وأما الشيخ الآخر الذي أراد سباستياني زيارته فكان الشيخ البكري، وكان على علاقات سيئة مع الباشا، فرجاه عدم زيارته خوفا من زيادة هذه العلاقات سوءا، وقد قال لسباستياني مثل هذا القول كل من المشايخ: أحمد العريشي ومحمد المهدي ومحمد الأمير، وأما الشيخ سليمان الفيومي فقد رحب بزيارته ترحيبا كبيرا، وأبدى له «إعجابه الذي يفوق كل الحدود بالقنصل الأول».
صفحه نامشخص
وقال سباستياني تعليقا على ما صادفه من ترحيب: «إن مواطنيه جوبير
Jaubert
وبرج
Berge
قد شهدا بأنه لم يسبق بتاتا أن أظهر سكان القاهرة مثل هذه العواطف الودية نحو فرنسا قبل مجيء سباستياني.» وحتى إن كل الناس كانوا ينهضون واقفين عند مرور سباستياني وركبه في شوارع المدينة ، وصار فلكيوها (أو منجموها) يقرءون طالع القنصل الأول.
وزار سباستياني في 29 أكتوبر أرملة مراد بك، وكان في عزم هذه السيدة أن تزور سباستياني في بيته، وقد اشتكت بشدة عند اجتماعه بها من مظالم الأتراك، وألحت عليه في الرجاء أن يعمل لإعادة حكومة البكوات الذين يحفظون في نظير ذلك للفرنسيين وللقنصل الأول حسن صنيعهم معهم إلى أبد الآبدين، فأبلغها سباستياني رغبة بونابرت في توسيطه من أجل الوصول إلى السلام بين البكوات والباب العالي.
ولكن خسرو باشا كانت لديه أوامر قاطعة بمنعه من الدخول في أية مفاوضات معهم، ومع ذلك ففي وسع السيدة أن تؤكد للبكوات - وهي التي قال سباستياني عنها: إنها بمثابة الوكيل لهم في القاهرة - أن القنصل الأول قد تسلم خطاب إبراهيم بك وعثمان بك البرديسي الذي بعثا به إلى بونابرت مؤرخا في 1217ه عقب مكيدتي الصدر الأعظم والقبطان باشا ضد البكوات في أكتوبر سنة 1801، وقد طلب إبراهيم والبرديسي في هذا الخطاب نجدة بونابرت وحمايته للبكوات الذين عقد رئيسهم المتوفى مراد بك معاهدته المعروفة مع الجنرال كليبر، وأبلغوه استعدادهم لقتال العثمانيين إذا منحهم حمايته، واثقين من الانتصار على هؤلاء إذا ظفروا بهذه الحماية، ويرجون القنصل الأول مساعدتهم على الاستمرار في البقاء بمصر، واسترجاع سلطتهم وحكومتهم.
وقد عهدا بتسليم هذا الخطاب لبونابرت إلى المسيو جوزيبي
Guiseppi (يوسف) الذي قالا عنه إنه علم بأحوال البكوات وفي استطاعته تزويد بونابرت بتفصيلات أوفى لا يجرءون على تدوينها خوفا من سقوط رسالتهم في أيدي الإنجليز أو الأتراك الذين يملئون الموانئ؛ السبب نفسه الذي جعلهم لا يرسلون أحد كشافيهم بهذه الرسالة.
فأبلغ سباستياني أرملة مراد بك رد بونابرت على هذه الرسالة، وهو اعتزام التدخل لإنهاء خلافاتهم مع الباب العالي بما يناسب الفريقين.
صفحه نامشخص