325

مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

ژانرها

وضجر عمر مكرم من هذا الدور الذي فرضه عليه تعاونه مع محمد علي، والذي بدأ ينفض الناس بسببه من حوله، ولم يكن في وسعه - وقد تورط كل هذا التورط في تعاونه مع الباشا، وقلب ظهر المجن للبكوات، أصدقاء الأمس وأخصام اليوم، فكان من المشتركين في تفويت فرصة استرجاع الحكم عليهم - أن ينتشل نفسه من الوهدة التي رماه فيها تشبثه بالوجاهة والصدارة وتطلعه إلى المشاركة في الحكم والرياسة، وكأنما فطن محمد علي لما يجول في خاطر عمر مكرم، فاقترح عليه ذات مرة - وقد تظاهر بأنه يريد الخروج لقتال الألفي في أبريل 1806 - أن ينوب عنه، وأن يكون قائما مقامه في الأحكام مدة غيابه، ولكن السيد النقيب كان فطنا حذرا فلم يقبل ذلك وامتنع ونفعه حذره؛ لأن الباشا فترت همته وقتئذ عن الخروج لمحاربة الألفي، وتبين أنها إيهامات لا أصل لها، وأما ضجر السيد النقيب من الدور الذي صار يقوم به، ثم عجزه في الوقت نفسه عن التخلي عنه، فقد أوضحهما الشيخ الجبرتي عند تسجيله حوادث يوم 21 ديسمبر 1806، فقال: إن الباشا «التمس من السيد عمر توزيع أربعمائة كيس برأيه ومعرفته، فضاق صدره، ولكنه شرع في توزيعها على التجار ومساتير الناس؛ حيث لم يمكنه التخلف ولا التباعد عن ذلك.»

ولقد صار يتنازع عمر مكرم عاملان: مبعث أحدهما الاستمرار في تلبية مطالب وأوامر صديقه محمد علي، الذي كان يحرص من جانبه على الحفاوة بالسيد النقيب وتبجيله واحترامه، وإن كان لم يضع موضع التنفيذ تلك الشروط التي اشترطها على نفسه في تعاهده معه وقت انقلاب مايو 1805، بأن يعمل بنصح السيد النقيب وإرشاداته - إلى جانب نصح وإرشادات الأشياخ والعلماء، وما كان هذا الشطر الأخير مما يهتم عمر مكرم بتنفيذه أو يأبه له - وخيل إلى السيد أن من المحتمل أن ينفذ محمد علي ما تعهد به، فلا تعدو المشورة، تفويض تدبير المال الذي يطلبه الباشا إليه برأيه ومعرفته، فيترتب على تحميله مسئولية توزيعه وتحصيله، نفور الناس منه وانفضاض الأهلين من حوله، وتقويض عروش صدارته بنفس اليد المتسببة في الظاهر بإرساء قواعدها، وأما مبعث العامل الآخر، فهو الرغبة في تحطيم السلاسل التي شدته إلى نظام حكومي كان هو نفسه من العاملين على إنشائه، على أساس أن يكون له الرأي والمشورة فيما يجري من أحكام، ولكنه وقد فاتته أعظم فرصة إبان أزمة النقل إلى سالونيك لمحاولة الخلاص من حكومة الباشا، وظهر كأنما قد استقرت هذه الحكومة نهائيا على دعائم ثابتة، فلم يعد هناك مناص من الاستمرار في الدور الذي رضيه لنفسه في مبدأ الأمر، والذي صار يرجو الآن أن يطرأ ما قد يحمل الباشا على تنفيذ وعده.

ووجهت هذه الاعتبارات مسلك عمر مكرم في الحوادث التالية، بصورة أفضت في النهاية إلى اصطدامه مع الباشا ثم إلى نفيه، وزوال تلك البقية الباقية من مظاهر الجاه والصدارة التي دأب طوال حياته على الظفر بها، وضاعت الآن من يده نهائيا.

فقد أذن مجيء حملة «فريزر» إلى مصر، وتعرض باشوية محمد علي لأعظم خطر صادفته خلال سنوات التجربة والاختبار التي تلت المناداة بولايته، بأن يتوهم عمر مكرم أن في وسعه التحرر من قيود الطاعة المذلة التي فرضها عليه تعاونه مع الباشا، وأن هذا - وقد اشتدت المحنة به الآن - سوف لا يجد مناصا من الاعتماد على الرعية وزعماء الشعب للذود عن باشويته، وتخيل عمر مكرم أن حادثة استنفار العامة للجهاد بعصيهم ونبابيتهم وفئوسهم وهراواتهم لدفع الأجانب الغزاة سوف يتكرر الآن، على غرار ما حدث أيام غزو الفرنسيين عندما طرق هؤلاء أبواب القاهرة، بل ومن الثابت أنه قد ومض في ذهنه، أن الإنجليز وقد استولوا على الإسكندرية، سوف يجتاحون جيوش محمد علي، كما اجتاح الفرنسيون من قبلهم جيوش المماليك، وأن أيام الباشا في الحكم قد صارت معدودة، وأنه لا يجدر بالسيد النقيب أن يبذل جهدا لمعاونته على اجتياز هذه الأزمة؛ إذ كفاه ما فعل في الأزمات السابقة دون أن يلقى جزاء ولا شكورا، ولم يكن في اعتباره هذا الجزاء وهذا الشكور سوى المشاركة في الحكم عن طريق إبداء الرأي والمشورة.

آية ذلك أن «دروفتي» القنصل الفرنسي الذي هرب من الإسكندرية إلى القاهرة عند مجيء الحملة الإنجليزية - وكان محمد علي وقتئذ بالصعيد في تجريدته المعروفة ضد البكوات المماليك - وجد السيد النقيب فاتر الهمة متقاعسا، فلم يبد همة ونشاطا إلا بعد أن شاهد نشاط القنصل الفرنسي، والتفاف الأشياخ والأهلين حوله لتحصين القاهرة، ولم يخرجه عن تردده وإحجامه نهائيا سوى ورود الأنباء من الصعيد بأن الباشا متحرك للعودة على جناح السرعة إلى القاهرة، ثم عودة محمد علي فعلا إليها، وإنفاذه جيشه لملاقاة الإنجليز.

وعرض عمر مكرم والأشياخ في مقابلة لهم للباشا (12 أبريل 1807) أن يخرجوا جميعا للجهاد مع الرعية والعسكر، فكان جوابه أن «ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلائف العسكر»، ولقد سبق تفصيل هذا الحادث وغيره من الحوادث المتصلة بانهزام الإنجليز، واضطرارهم إلى الجلاء عن الإسكندرية، كما سبق تفصيل الأساليب التي لجأ إليها محمد علي لجمع المال الذي ظلت حاجته الملحة إليه قائمة.

وسرعان ما تبين للسيد النقيب أن دوره بعد واقعة الحملة الإنجليزية قد صار ثانويا، وأنه يفقد تدريجيا مكان الصدارة الذي كان له، فهو تارة تصله مكاتبة من السيد حسن كريت برشيد يطلب وساطته لدى الباشا حتى يمنع جنده من إيقاع المظالم بأهل رشيد، وتارة يلجأ إليه أيوب فودة كبير القليوبية المتهم بالمضالعة مع أحد قطاع الطرق، ويسمى زغلول للمصالحة على نفسه بمبلغ من المال حتى ينجو من العقاب، ويستعيد سيرته (مايو 1807)، وتارة يشكو إليه خدام الأضرحة وأهل القرافة ما لحق بهم من إيذاء على أيدي الجند لاتهامهم بالاتصال ببكوات الصعيد وإرسال ما يحتاجونه من بضائع وسلاح، وتارة يطلب البكوات وساطته مع غيره من الأشياخ والمتصدرين لإجراء الصلح بينهم وبين محمد علي (يونيو ويوليو 1807)، وتارة يلجأ إليه جماعة من طوائف القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ ليتوسط لهم لدى الباشا في رفع الإتاوة التي فرضها عليهم، وتنجح شفاعة السيد عمر في هذه المرة (8 أغسطس 1807)، وتارة يشكو إليه الأهلون إخراج الجند لهم من بيوتهم واستيلائهم عليها عنوة واقتدارا، فيكتب عمر مكرم والمشايخ عرضا في ذلك إلى كتخدا بك دون نتيجة (أكتوبر 1807)، وتارة يستدعيه الباشا مع المشايخ إلى القلعة لتكليفهم الاحتفاء بشاهين بك الألفي، فيسير السيد النقيب في موكبه الذي دخل به إلى القاهرة (ديسمبر 1807)، وتارة يحضر ديوان الباشا الذي عرض فيه إرادة الدولة للتهيؤ لحرب الوهابيين وضرورة جمع المال لإنجاز الاستعدادات اللازمة (فبراير 1808)، وتارة يخرج مع من خرجوا لصلاة الاستسقاء في جامع عمرو (أغسطس 1808).

ثم إن السيد النقيب إلى جانب ذلك كله، كان عليه بحكم منصبه (نقيبا للأشراف) أن يحضر الاجتماعات الرسمية لقراءة الفرمانات الواردة من الدولة، واحتفالات وفاء النيل، وما إلى ذلك.

وانخفض شأن عمر مكرم رويدا رويدا، فقل اتصال الباشا أو اجتماعه به في غير المناسبات الرسمية، أو التي يستدعيه فيها الباشا مع غيره من المشايخ والمتصدرين، حتى إنه ما صار يوسطه أو يعتمد عليه في إقناع الأهلين بدفع الإتاوات والمغارم التي لم ينقطع فرضها عليهم؛ لأن الباشا اعتمد الآن على جنده في تحصيل ذلك، وكان من المتعذر أن يتحد المشايخ لمقاومة إجراءات الباشا ومشاريعه، فيجد عمر مكرم من اتحادهم وتكتلهم سندا له في معارضته لها، فالخلافات والمنافسات والأحقاد لا تزال تفرقهم، وبلغ من تخاذلهم أنهم لم يجرءوا على الاعتراض على إلغاء مسموح المشايخ، مع ما ألحقه هذا الإجراء من إيذاء لصميم مصالحهم، وكان أكثر المتصدرين من المتمتعين بهذا المسموح من زمن قديم، واستكثروا - كما عرفنا - من شراء الحصص.

ولكن السيد النقيب وإن اضطر الآن إلى التواري عن مسرح السياسة العامة، والانزواء في عزلة تكاد تكون تامة، كان لا يزال يمني النفس بالظهور مرة أخرى، وسؤال الباشا عندئذ الحساب عن نكثه عهده، وعدم طلب مشورة السيد والأشياخ، وإلزامه بتنفيذ الاتفاق الذي قام على أساس تعاون عمر مكرم معه في حادث المناداة بولايته.

صفحه نامشخص