317

مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

ژانرها

ولم يتعين الشيخ في الدواوين التي رتبها بونابرت، وقد كان له في علمه وفضله وجاهه، ما يتيح له فرصة التعيين بها، لا سيما وأن بونابرت دأب على استمالة العلماء والمشايخ تنفيذا لسياسته الوطنية الإسلامية، ولكن الشيخ الذي نعى على المشايخ افتتانهم بالحياة الدنيا لم يشأ أن يكون من بين المتصدرين، ثم إنه وإن اعتقد أن الحكمة الأزلية هي التي هيأت للفرنسيين احتلال البلاد، فإن هؤلاء كانوا ملاحدة بالرغم من تظاهرهم باحترام الدين الإسلامي، وكانوا أجانب ومغتصبين، أنهوا حكم السلطان العثماني (خليفة المسلمين) ونوابه في البلاد، وشرعوا ينظمون أساليب الإدارة والحكم على نهج يغاير ما ألفه الشيخ وخبره، فكان حريا به قبل الإقبال على التعاون معهم أو مقاومتهم، أن يقف على مدى تمسكهم بميزان العدالة وأن يعرف شيئا عن أحوالهم ونشاطهم، وأن يقتنع بفائدة هذا التعاون لصالح سواد الأهلين أو مضرته، وجدوى المقاومة، فيتعاون معهم، وعندئذ يقوم بدور الوساطة الذي اعتقد الشيخ أنه واجب العلماء والأشياخ بين الهيئتين: الحاكمة والمحكومة، أو يحبذ المعارضة والمقاومة.

ولذلك لم يعتكف الشيخ بعد عودته من أبيار، بل حرص على مراقبة سير الحوادث، وشهد احتفالات الفرنسيين، وزار مجمعهم العلمي، وشاهد خزائن كتبهم ومصانعهم مدفوعا بغريزة الاستطلاع، ولأنه كان عالما بارعا يهتم بالرياضيات والطبيعيات والفلك والأرصاد وما إلى ذلك، وأمكنه بفضل صلاته مع المشايخ والمتصدرين أن يعرف أساليبهم الحكومية وأغراضهم وغاياتهم منها، كما أوقفه اهتمامه بمجريات الأمور على عاداتهم وأخلاقهم، وتسنى له بسبب ذلك كله أن يسجل في «تاريخه» تفصيلات كثيرة وصحيحة عن هذا الحكم الأجنبي الذي ابتليت به البلاد، كما تكونت لديه آراء ومبادئ معينة شكلت مسلكه، وحددت موقفه من الاحتلال الفرنسي في سنواته الثلاث.

فقد نعى على الفرنسيين مجونهم وخلاعتهم وانحلال أخلاقهم، وآلمه أشد ما آلمه اقتداء دهماء الناس بهم في مباذلهم، ثم امتداد الفساد إلى طبقات أخرى من الأهلين، وصار ينشد زوال حكمهم، ولكنه لما كانت الحكمة الأزلية هي التي مكنت للفرنسيين من فرض سلطانهم على البلاد، فقد انتظر أن يجيء خلاصها منهم بحكمة أزلية كذلك، وهو الذي شاهد فلول البكوات ومماليك المنهزمين ينتشرون في الشام والصعيد، ويتسلح الفرنسيون بآلات الحرب والقتال الحديثة، ويحصنون الطوابي بها، ويسلكون مسلك من صح عزمه على الإقامة المستمرة وإرساء سلطانه على قواعد قوية راسخة؛ ولذلك لم يكن الشيخ ممن ساهموا في ثورة القاهرة الأولى (أكتوبر 1798)، ونقد تشجيع بعض المتعممين للعامة الذين دبروا هذه الثورة، فقال: إن هذا البعض من المتعممين «لم ينظر في عواقب الأمور، ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور» وزاد من إيمان الشيخ بعدم جدوى أمثال هذه الثورات، ما فعله الفرنسيون بالجامع الأزهر، وإيذاء الأهلين، وأخذهم بالقسوة والعنف بعد ذلك.

وكذلك كان موقف الشيخ من ثورة القاهرة الثانية (مارس وأبريل 1800) على أيام كليبر، فقد توهم الرؤساء العثمانيون والبكوات المماليك والأشياخ المتصدرون، أنهم بتأليب العامة على الفرنسيين، وإشعال نار الثورة ضدهم يستطيعون تملك القاهرة، وإخراج العدو من البلاد، وآلم الشيخ أن ينخدع القاهريون بهذه الأوهام، فيعرضوا أنفسهم لنقمة الفرنسيين، ويذهب العديدون من الأبرياء ضحية لهذه الفتنة الجامحة، وحز في نفسه أن ينقاد الشعب «للدجاجلة» الذين يكثرون في الفتن الهوجاء، ومن هؤلاء رجل مغربي «ليس ممن له في مصر ما يخاف عليه من مسكن أو أهل أو مال أو غير ذلك، كما قيل: لا ناقتي فيها ولا جملي»، آثار العامة على المشايخ الذين سعوا لإنهاء الفتنة بعد أن استفحلت، وعظم بلاء الناس وكربهم بسببها، وظهر عجز العثمانيين والبكوات المماليك عن طرد الفرنسيين، بل انتصر كليبر عليهم - كما هو معروف - في واقعة هليوبوليس وضيق الخناق على القاهرة، فسب الناس المشايخ وشتموهم وضربوهم، والتف العامة حول هذا المغربي؛ «لعدم إدراكهم لعواقب الأمور ... وتعضد كل بالآخر وكان غرضه دوام الفتنة؛ فإن بها يتوصل لما يريده من النهب والسلب والتصور بصورة الإمارة باجتماع الأوغاد عليه.» وكره الشيخ الجبرتي هذه الثورة ومحركيها عندما استطالت أيامها، وزاد النصب والتعب، وانعدمت الأقوات حتى هلكت الناس وخصوصا الفقراء والدواب، وشكا الشيخ من إيذاء عسكر العثمانلي للرعية وخطفهم ما يجدونه معهم، حتى تمنوا زوالهم، ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها. وقد أثلج صدره ما كتبه الشيخ محمد السادات إلى عثمان كتخدا (كتخدا الدولة)، يصب جام غضبه على العثمانيين وعساكرهم، الذين ما إن لاحت الفرصة لاسترجاعهم هذه البلاد، ودخل جماعة منهم القاهرة قبل نقض اتفاق العريش، حتى صاروا يؤذون الناس ويعتدون عليهم، ثم راحوا يشعلون الثورة، ويخدعون القاهريين بأكاذيبهم، ويخفون عنهم هزيمتهم وانقطاع المدد عنهم، وأثبت الجبرتي صورة التذكرة التي بعث بها السادات على يد السيد أحمد المحروقي إلى عثمان كتخدا، ونصها:

حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وما هي من الظالمين ببعيد:

ظننت أنك عدتي أسطو بها

ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي

فرميت منك بغير ما أملته

والمرء يشرق بالزلال البارد

أما بعد، فقد نقضت عهدي، وتركت مودة آل بيت جدي، وأطعت الظلمة السفلة، وامتثلت أمر المارقين السفلة، فأعنتهم على البغي والجور، وسارعت في تنجيز مرامهم الفاسد على الفور، من إلزامكم الكبير والصغير والغني والفقير، إطعام عسكركم الذي أوقع بالمؤمنين الذل والمضرات، وبلغ في النهب والفساد غاية الغايات، فكان جهادهم في أماكن الموبقات والملاهي، حتى نزل بالمسلمين أعظم المصائب والدواهي، فاستحكم الدمار والخراب، ومنعت الأقوات وانقطعت الأسباب، فبذلك كان عسكركم مخذولا، وبهم عم الحريق كل بيت كان بالخير مشمولا، كيف لا وأكابركم أضمرت السوء للمرتزقة في تضييق معايشهم، وأخذ مرتباتهم، وإتلاف ما بأيديهم من أرزاقهم وتعلقاتهم، وقد أخفتم أهل البلد بعد أمنها، وأشعلتم نار الفتنة بعد طفئها، ثم فررتم فرار الفيران من السنور، وتركتم الضعفاء متوقعين أشنع الأمور، فوا غوثاه وا غوثاه! أغثنا يا غياث المستغيثين، واحكم بعد ذلك يا أحكم الحاكمين، وانصرنا وانتصر لنا، فإننا عبيدك الضعفاء المظلومون يا أرحم الراحمين.

صفحه نامشخص