313

مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

ژانرها

ومع ذلك، فقد دل الاستقراء على أن الوقائع التي سجلها الجبرتي بنفسه وبخاصة عن عهدي الحملة الفرنسية ومحمد علي، ويشغل هذان العهدان الجزأين الثالث والرابع من تاريخه الذي يقف عند آخر ذي الحجة 1236 / 27 سبتمبر 1821، صحيحة في جوهرها وتفاصيلها، ومتفقة مع ما ذكره عنها غيره من المعاصرين الأجانب، ووجه الاختلاف بين ما دونه الشيخ وهؤلاء المعاصرون أنفسهم، وبين ما أظهره البحث الحديث، أن مرد ما قد يلاحظ من نقص في سرد بعض الوقائع، أو في استيفاء تفسيراتها إنما هو إلى عجز الشيخ وغيره من الكتاب الأجانب المعاصرين عن معرفة خفايا الأمور، وأسرار السياسة، التي كانت من شأن الحكام والمسئولين وحدهم فحسب، والتي لا سبيل لمعرفتها وإدراكها إلا بالرجوع إلى التقارير والوثائق الحكومية، مما لم يكن في متناول الشيخ أو متناولهم، أضف إلى هذا أن الجبرتي لم يكن - كما قال هو نفسه - من المقربين من أصحاب الحكم والسلطان أيام محمد علي، فاستمد المعلومات التي دونها عن عهده من أصدقائه وإخوانه والمشايخ، أو من المتصلين بالبكوات المماليك، وقد كان هو نفسه على صلة بكثيرين منهم، أو اعتمد على مشاهداته الخاصة، أو صار يقيد الأخبار التي قدر لها الذيوع والانتشار، وذلك بعد التدقيق في التحري عن مبلغ صحتها، وتفسير هذه الحقيقة خلو «عجائب الآثار» من المسائل الخاصة بصلات محمد علي السياسية بالدول الأجنبية إلا النذر اليسير منها. (4-3) التفكير السياسي عند الجبرتي

ولقد كان من شأن الثقافة التي تثقف بها الشيخ عبد الرحمن على يد والده، ثم جناها من اشتغاله بالتاريخ، منذ أن توفر على التنقيب عن تراجم الأعيان الذين أراد الترجمة لهم، وجمع شوارد الحوادث التي أراد تنسيقها وتسجيلها في «مظهر التقديس» أولا، ثم في «عجائب الآثار» ثانيا، إلى جانب الخبرة والتجربة اللتين كسبهما من حياته العامة والخاصة - وقد كان الشيخ أحد أعضاء الديوان الذي أنشأه الجنرال منو، كما كان صديقا لعديدين من البكوات، وأتاح له فضله كأحد نوابغ العلماء في عصره، وجاهه كأحد سراته، أن يعرف أو يصادق أكثر الأشياخ - نقول إنه كان من شأن ذلك كله أن صارت للشيخ فكرة واضحة محددة في أصول الدولة والسياسة شكلت موقفه من الحوادث التي شهدها، وتأثرت بها الأحكام التي أصدرها على المسئولين في عهده، سواء كان هؤلاء من المشايخ - وقد اعتبرهم في عداد أصحاب المسئولية - أم من البكوات المماليك، أم من الحكام الفرنسيين، أم من الباشوات العثمانيين، وعلى رأس هؤلاء الآخرين محمد علي.

ولقد تأثر الجبرتي في تفكيره أكثر ما تأثر - على ما يبدو - بآراء ابن خلدون، وهو الذي أعجب الشيخ بتاريخه ومقدمته، وسماه العلامة ابن خلدون، وقال إن تاريخه في ثمان مجلدات ضخام ومقدمته مجلد على حدة، من اطلع عليها رأى بحرا متلاطما بالعلوم، مشحونا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم. ولم يختص الشيخ أي تصنيف آخر من الكتب والتواريخ التي ذكرها بمثل ما وصف به مقدمة ابن خلدون، لكتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».

ومع ذلك، فلا يجب الاعتقاد بأن الشيخ لم يتأثر بغير ابن خلدون، من أصحاب التواريخ والتصنيفات التي ذكرها، أو بالآراء الذائعة المعروفة في أوساط علماء هذا العصر عن الخلافة والإمامة وما إلى ذلك من الأنظمة المتصلة بأصول الحكم والسياسة، والتي دان بها وأوضحها قادة الفكر والرأي من الفقهاء والمؤرخين العرب، بل إن تجارب الشيخ المستمدة من واقع الحياة، وما تخلف عنها من انطباعات في نفسه، كان ذا أثر في تكييف وجهات النظر التي أخذ بها، وبناء الرأي الذي صار له في كل هذه المسائل. على أن ثمة حقيقة أخيرة، هي أن العبر والعظام التي استخلصها الشيخ من تجاريبه ومن الحوادث التي وقف عليها بالبحث والتنقيب أو شاهدها بنفسه، كانت مبنية على تلك القيم والمثل التقليدية الذائعة في الأوساط العلمية والفقهية في عصره، فكان الجديد في تنسيق فكرته السياسية، نتيجة لهذا المزج كله، أن جعل العلم والعدل بالمعنى المتفق عليه عند علماء التفسير قوام المجتمع البشري وأساس الحكم الصالح والسياسة الرشيدة، وأن اتخذ من مقياس العلم والعدل أداة لتقسيم المجتمع إلى طبقات، ترتفع بعضها فوق بعض درجات.

ولما كان السبيل المتعارف عليه بين المتصدين لتفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية في العمران البشري، لاستخلاص العبر والعظات منها، توطئة لبسط الرأي في أصول الحكم وسياسة الدولة، وتعزيزا له، هو الوقوف على تاريخ البشر منذ خلق العالم، فقد عنى الجبرتي - كما فعل الذين سبقوه - بتعريف التاريخ وبيان الغرض من تسجيله ودراسته، وذكر منافعه، ولم يأت الشيخ بجديد، بل يبدو أن مقالته في هذا الشأن لا تعدو كونها تلخيصا موجزا لما قاله ابن خلدون نفسه.

وقد عرف الجبرتي التاريخ بأنه «علم يبحث فيه عن معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائعهم وأنسابهم ووفياتهم، وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكام والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم، والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي وكيف كانت، وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليتحرز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويجتنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني، ويجتهد في طلب الباقي»، وهو علم شريف «فيه العظة والاعتبار، وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار ... ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني تعتني بتدوينه سلفا عن سلف وخلفا من بعد خلف»، وفن التاريخ «علم يندرج فيه علوم كثيرة، لولاه ما ثبتت أصولها، ولا تشعبت فروعها»، ثم يقول: إنه «ما ألف في فن من الفنون مثل ما ألف في التواريخ؛ وذلك لانجذاب الطبع إليها، والتطلع على الأمور المغيبات، ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتناقهم بحب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك، مع ما لهم من الأحوال والسياسات وغير ذلك»، وقد أثبت الشيخ قائمة طويلة بالكتب المصنفة في التاريخ. وأما نظرة الجبرتي في نشأة المجتمع الإنساني وأصول الحكم، وشروطه، فقد أوجزها في قوله: «اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها كل دابة وقدر أقواتها، أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومأكلهم وتحصيل ملابسهم ومساكنهم؛ لأنهم ليسوا كسائر الحيوانات التي تحصل ما تحتاج إليه بغير صنعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفا، لا يستقل وحده بأمر معاشه لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح، فجعلهم الله تعالى يتعاضدون ويتعاونون في تحصيلها وترتيبها، بأن يزرع هذا لذاك، ويخبز ذاك لهذا، وعلى هذا القياس تتم سائر أمورهم ومصالحهم، وركز في نفوسهم الظلم والعدل.

ثم مست الحاجة بينهم إلى سائس عادل وملك عالم يضع بينهم ميزانا للعدالة، وقانونا للسياسة، توزن به حركاتهم وسكناتهم، وترجع إليه طاعاتهم ومعاملاتهم، فأنزل الله كتابه بالحق، وميزانه بالعدل، كما قال تعالى:

الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .»

وواضح أن الجبرتي في تفسير نشأة المجتمع الإنساني، قد ذهب مذهب من سبقوه من مفكري العرب إجمالا، من حيث اعتبار الحرية المطلقة قوام الحياة البدائية، يتمتع بها فرد، فلا يحدها سوى الحرص على سلامة الفرد نفسه؛ إذ يفضي عدم الحد منها إلى هلاكه، ويتم هذا التقليد بداهة وطبيعيا، ودون حاجة إلى عقد، وذلك بالإضافة إلى أن هذا الحد نفسه من حرية الأفراد قانون للسياسة وميزان للعدالة، ويترتب على هذه الحالة حصول الاجتماع للبشر، ثم يرتبط بوجود هذا الاجتماع، ظهور وازع يدفع بعضهم عن بعض. ومما تجدر ملاحظته أن الجبرتي كان متفقا في هذا كله مع ابن خلدون، ولكنه لم يلبث أن خالفه في اعتبار أن لا مناص من أن يكون الحكم في يد ذلك الملك العالم والسائس العادل بشرع مفروض من عند الله، بينما يرى ابن خلدون أن «الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته»، وجلي أن الشيخ لو سلم بهذا القول، لانهدم أحد الأركان التي بنى عليها نقده اللاذع لحكومة محمد علي، الذي وإن أنابه الملك أو السلطان في حكم هذه البلاد، فقد ملك لنفسه باشوية، فرض حكمه عليها بعصبيته، واقتدر بها - في نظر الشيخ - على قهر أهل البلاد وحملهم على جادته.

ويستبين مما عمد إليه الجبرتي من تمييز صفات معينة دون سائر الصفات المشترطة في الخلافة والإمامة، وبالتالي - في نظره - لصاحب الحكم الذي ينوب عن الخليفة صفات اهتم بها اهتماما خاصا، أراد أن يتخذها معايير يقيس عليها سلوك المسئولين عن الحكم في وقته - من إيثاره صفتي العلم والعدل على سواهما، ثم إنه عند تفسيره لهاتين الصفتين، تمسك بفكرته القائلة بأن الملك أو الحاكم العالم والسائس العادل، إنما هو مستخلف على الأرض من عند الله تعالى، وبشرع مفروض من عنده، وقد اقترب الشيخ في فكرته هذه من المذهب القائل بحق الملوك الإلهي أو المقدس في الحكم، وهي نظرية قد يدعو الأخذ بها إلى التسليم بالحكم المطلق، الذي لا يلزم صاحب الحكم باتباع مشورة الغير أو يطلبها منهم ويوجب على الرعية طاعته طاعة تامة، ولكنه كان واضحا من ناحية أخرى، أن الشيخ بتفسيره للعلم والعدل كان يهدف إلى بيان وجوب عزل من يتجرد منهما، ولو أنه لم يفصح عن ذلك إفصاحا، فقد قال ابن خلدون عند ذكر الشروط المطلوبة في الخلافة والإمامة أو في الملك والحاكم ما نصه: «فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها، ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدا؛ لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال، وأما العدالة فلأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه.» وقد عمل بهذا الرأي وطبق هذا المبدأ تطبيقا عمليا، من وجهة نظر الشيخ وسائر المشايخ في وقته عند تنحية خورشيد باشا عن الحكم والمناداة بولاية محمد علي في مايو 1805، فضلا عن أن الأساس الذي ارتكزت عليه مطالبة المشايخ ببقاء محمد علي في الباشوية أثناء أزمة النقل إلى سالونيك في العام التالي، كان تحليه بالعلم والعدل، الأمر الذي زاد من حنق الجبرتي على الباشا وعلى المشايخ المتصدرين معا؛ لأن محمد علي لم يكن في اعتباره عالما ولا عادلا.

صفحه نامشخص