مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرها
ولما كان «دروفتي» قد صح عزمه على إحباط مهمة القبطان باشا بكل وسيلة، ومن عوامل ذلك حتما الحيلولة دون اتحاد بكوات الصعيد مع الألفي في نضال هذا الأخير ضد محمد علي من جهة، وفي مساعيه بمؤازرة الوكلاء الإنجليز لدى القبطان باشا من جهة أخرى، ثم إتاحة الفرصة لمحمد علي حتى يتفرغ لمواجهة الصعوبات التي تواجهه في القاهرة والوجه البحري والإسكندرية، وذلك بتخدير أعصاب بكوات الصعيد وحملهم على البقاء في أمكنتهم فلا يخلقون بنزولهم من مظاعنهم متاعب ومشاكل جديدة، فقد آثر أن يكذب على البرديسي تلك الكذبة التي أحيا بها آماله وجعله بسببها يزيد صلابة وعنادا في رفض أي اتفاق مع الألفي ودفع حصة البكوات القبالي من مبلغ ال 750000 قرش الذي اتفق مندوبو الألفي على دفعه ثمنا للترتيب الجديد مما كان من العوامل ذات الأثر البعيد في مسلكه، فقد أجاب على البرديسي بالصورة التي ذكر لتاليران أنه سوف يجيب بها عليه، فكتب إلى البرديسي يقول: «إن الألفي يعتبر نفسه من الآن سيدا لمصر وأن مهمة القابجي باشا ليست سوى شرك نصب لإيقاعك فيه دون حذر منك أو احتياط، وليس للإنجليز الذين يتولون تدبير هذه المؤامرة من غرض سوى جعلك تعترف بالألفي سيدا عليك، ثم يستولون على مصر باسمك وباسم الألفي، فاحترس إذن وكن حذرا، وفي وسعي فضلا عن ذلك أن أؤكد لك أن فرنسا لم تنس بتاتا الوعود التي بذلتها لك، بل إن الأمر بعكس ذلك تماما لأنك على وشك أن ترى تحقيق هذه الوعود، ومن المنتظر قطعا حضور «ماثيو لسبس» الذي تعرفه بين لحظة وأخرى، وسوف يأتيك بلا شك بكل أنواع النجدات، ثم ما الذي تخاطرون به إذن لو أنكم انتظرتم؟ وأنتم الذين إذا تريثتم أياما قليلة فحسب تصبحون سادة مصر وأصحاب السلطة فيها، أو أنكم تؤثرون باستعجالكم للحوادث أن تكونوا رعايا لإنجلترة وللألفي بك؟»
وقد أخذ المؤرخون على «دروفتي» كذبه على البرديسي في هذا القسم الأخير من رسالته الذي يؤكد له فيه قرب وصول النجدات الفرنسية إليه قطعا بين لحظة وأخرى، ولكن «فولابل»
Vaulabelle
مع استنكاره الشديد لهذا الأسلوب الذي لجأ إليه «دروفتي» في معالجة مسألة بكوات الصعيد أثناء هذه الأزمة، لم يلبث أن وجد ما يمكن اعتباره مبررا لهذه الكذبة التي يبدو أن «دروفتي» لم يجد مفرا في رأي فولابل من ارتكابها، أما وجه التضليل الذي عمد إليه «دروفتي» عندما أكد قرب وصول النجدات الفرنسية فمبعثه أن الإمبراطور نابليون كان منصرفا الانصراف كله إلى مواصلة فتوحه في القارة الأوروبية، فقال فولابل: إنه لم يكن لدى وزارة التويلري في باريس أي تفكير في إرسال جند إلى مصر، وعلاوة على ذلك، فقلما كان الظرف وقتئذ مناسبا؛ فالإنجليز لهم السيطرة في البحر، وبقايا بحريتنا لا تزال سفنها منزوعة الصواري في الموانئ، ونابليون وهو يدفع بجيوشه حتى نهر «النيمن» قد فرق أوصال بروسيا، وأنشأ إقطاعات كبيرة، وأوجد مملكتين أو ثلاث ممالك جديدة، وبكل صعوبة وسط هذه الأعمال العظيمة يكاد يخطر في ذهنه خاطر ولو مبهم عن إفريقية، ووجد وكلاؤنا أنفسهم متروكين للاعتماد على ما توحي به إليهم قرائحهم، ولقد كان من شأن هذا الإغفال إلحاق الأذى البليغ بنفوذنا لولا أن الرجل الذي كلف وقتئذ بتمثيل فرنسا في مصر تلافى نقص التعليمات الصادرة إليه من أرض الوطن بما أبداه من نشاط ذهني عظيم وقدرة نادرة على تعيين الأغراض التي استهدف تحقيقها.
ومع أننا أبعد ما نكون رغبة في قبول الوسائل التي عمد إليها «دروفتي» لتأمين مصالحنا السياسية والتجارية في هذا الجزء من أجزاء الإمبراطورية العثمانية ، ولكنه مع استنكارنا لنواح معينة من الدور الذي قام به في شئون هذا البلد فمن الواجب أن نعترف بكل تلك المصاعب التي وجد نفسه محاطا بها وأن نحيي ذكاءه الممتاز، وعلاوة على ذلك، فإن ميول الألفي بك نحو فرنسا اتسمت بطابع لم يكن من شأنه أن يجعل «دروفتي» كثير التدقيق عند اختيار الوسائل التي يمنع بها انتصار هذا البك ويكفل بقاء محمد علي وامتلاكه مصر إلى أن قال: ومع ذلك، فقد طلب البرديسي في خطابه إلى «دروفتي»، تفسيرا دقيقا وسريعا - عن موقف فرنسا منه وعزمها على تحقيق وعودها له - ثم إنه بات من المحتمل قبل مضي أيام قلائل أن تسفر المقترحات التي كلف بحملها صالح أغا عن وصول بكوات الصعيد إلى قرار يحددون به مسلكهم، ومن المحتمل أنهم قد يتناسون مبعث كل تلك الأحقاد والمنافسات المبنية على الحسد والغيرة التي جعلتهم يثورون على الألفي ويقفون حجر عثرة لتعطيل أطماعه وآماله وإبطال مشروعات الحكومة الإنجليزية، ثم كان من حسن حظ «دروفتي» أنه وجد فيما اتصف به صنيعة الإنجليز الألفي من زهو وصلف مفرطين، ثم في قرب وصول القنصل العام «ماثيو لسبس» تلك الحجج التي ما كان يعثر عليها لو أنه أراد أن يستند في إجابته على البرديسي على وزن صحيح لكل حزب من الأحزاب المتناضلة أثناء هذه الأزمة فقال: «لقد اتخذ الألفي لنفسه علنا لقب سلطان القاهرة، ولتشوقه لممارسة السلطة دون إبطاء صار يتصرف مقدما في إيرادات مصر، ومن الآن عمد إلى إعطاء التزام حصيلة الضرائب المفروضة على السنا والنطرون إلى بيوت تجارية من لندن، ولم ينس «دروفتي» في جوابه على البرديسي كل هذه التفاصيل، بل تحولت هذه بين يديه إلى سلاح قاطع ...»
ومهما يكن من أمر، فقد حققت هذه الكذبة الغرض المقصود منها، وشلت حركة بكوات الصعيد، ومنعتهم من الاتفاق مع الألفي، وجعلت القبطان باشا الذي لم يظفر من البكوات بمبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش يقرر المضي في الاتفاق مع محمد علي، فأوقف استعداداته ضد رشيد وبدأت تفتر همته في تزويد الألفي بالأسلحة والذخائر لإخضاع دمنهور، وانفرجت الأزمة عند وصول إبراهيم بن محمد علي إلى الإسكندرية، وغادر القبطان باشا الإسكندرية في 18 أكتوبر في طريقه إلى القسطنطينية، وحق ل «دروفتي» عندما علم في منتصف نوفمبر 1806 أن «ماثيو لسبس» قد تعين لقنصلية ليفورنة أن يطلب إعطاءه منصب القنصل العام في مصر مستندا في هذا الطلب على ما أداه من خدمات في هذه البلاد لرعاية المصالح الفرنسية.
تلك إذن كانت معالم السياسة الإيجابية التي سار عليها «دروفتي» في مصر من تلقاء نفسه، ومتحملا مسئولتيها هو وحده، ولعل أهم ما تجب ملاحظته أن «دروفتي» لم يندفع اندفاعا في هذه السياسة، كما كان بعيدا كل البعد عن ذهنه مخالفة أوامر حكومته له، ولكنه بنى خطته الإيجابية على عوامل معينة نشأت من تطورات الموقف في مصر، لم يجد في تعليمات حكومته له ما يدل على أن هذه الحكومة قد أخذت بعين الاعتبار ما كان «دروفتي» نفسه يبعث به إليها من تفاصيل الحوادث التي شهدها، ويعرضه عليها من آراء لم تكن مبتسرة بل جاءت بعد دراسة وبحث مستفيضين للموقف، فصار عندئذ واجبا عليه أن يسد هذا النقص - على حد قول فولابل - بالاعتماد على ذكائه ومهارته، وثمة ملاحظة أخرى أنه كان بعد هذا البحث وهذه الدراسة أن انتهت سياسة «دروفتي» الإيجابية إلى الإقبال على تأييد حكومة محمد علي بوصف أنها القوة التي إذا تدعمت أركانها استطاعت إحباط مشاريع الإنجليز والألفي حليفهم ورد الغزو الإنجليزي إذا وقع على البلاد، وما إن رسخ في ذهن «دروفتي» هذا الاعتقاد حتى تخلى نهائيا عن صديق فرنسا عثمان البرديسي، بل ولم يجد أية غضاضة في الكذب والتمويه عليه حتى يصل إلى غرضه.
وأما هذه السياسة الإيجابية والتي وضعت كل ثقلها لترجيح كفة محمد علي خصوصا أثناء أزمة النقل إلى سالونيك فقد بدأت تجني باكورة ثمارها عندما كتب «دروفتي» نفسه إلى «تاليران» في 21 نوفمبر 1806 أنه لينتظر بفارغ الصبر جواب الوزير على الرسائل المنوعة التي بعث بها إليه بشأن النجدات من الأسلحة والرجال التي يطلبها محمد علي من فرنسا، فإن هذا الباشا لا ينقطع يردد مطلبه هذا ويستعجل الجواب عليه بكل سرعة.
وأما مبعث طلب النجدة من فرنسا فكان ما يصادفه محمد علي من صعوبات ناجمة عن تمرد الجند لا سيما في حامية المنيا وحروجة الموقف تبعا لذلك في الصعيد، واستعداد الألفي لتشديد الحصار على دمنهور بعد ذهاب القبطان باشا، والخوف من أن يرسل الإنجليز حملتهم إلى الإسكندرية، تلك الحملة التي استمر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب مجيئها. (3) الموقف قبل مجيء حملة «فريزر»
ولقد ظل «دروفتي» يرقب بيقظة واهتمام الموقف في مصر بعد انقضاء أزمة النقل إلى سالونيك، وكان مما استرعى نظره ونظر نائبه «مانجان» في القاهرة، جسامة الصعوبات التي أحاطت بحكومة محمد علي من كل جانب، وأخطر هذه حاجة الباشا المستمرة إلى المال، وتمرد الجنود الذين يطالبون في عناد بدفع مرتباتهم المتأخرة لهم، ثم ما كان يخشى من نشاط البكوات: الألفي وجماعته في الوجه البحري، والبرديسي وإبراهيم وعثمان حسن وغيرهم من البكوات القبالي في الصعيد، واتحاد الفريقين في عمل مشترك ضد حكومة محمد علي، وذلك كله في وقت تأزمت فيه العلاقات بين تركيا وبين روسيا وإنجلترة بصورة أفضت إلى إعلان الحرب من تركيا على روسيا، وتوقع انضمام إنجلترة إلى حليفتها ضد الباب العالي وحضور الحملة الإنجليزية إلى هذه البلاد على نحو ما أكد الوكلاء الإنجليز.
صفحه نامشخص