مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)

محمد فؤاد شکری d. 1392 AH
146

مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

ژانرها

ووصل هذا الخطاب إلى «مسيت» يوم أول ديسمبر 1806، ثم بادر هذا بإرساله إلى «أربثنوت» في 2 ديسمبر، ولكنه قال تعليقا عليه إنه لا يؤمن بما ذهب إليه الألفي من أن وفاة البرديسي من شأنها انضمام جماعته إلى الألفي، زد على ذلك أنه لا ينتظر أن يرضى خليفة البرديسي بوضع يضعه في مرتبة ثانوية بالنسبة للألفي، ووزراء الباب العالي سوف يعتبرون وفاة البرديسي حادثا سعيدا؛ لأنه كان عدوا ذا مقدرة، ومن المتوقع أن ينظر الباب العالي لهذا الحادث بغير العين التي ينظر بها الألفي له، وفي 27 ديسمبر، كتب «مسيت» إلى «وندهام» يوضح الأسباب التي جعلت الألفي يريد السعي من جديد لدى الباب العالي فقال: إنه يبني آمالا عريضة على وفاة منافسه البرديسي من حيث إن هذا الحادث سوف ينهي العداوة التي استحكمت من مدة طويلة بين جماعته وجماعة البرديسي؛ ولذلك فهو قد قدم عريضة إلى وزراء الباب العالي يذكر فيها حيث إن سبب الخلافات السائدة بين البكوات قد زال الآن فمن السهل على الحكومة العثمانية أن تعيد للمماليك تلك السلطة التي تمتعوا بها سابقا.

على أن هذه المحاولة وقد كانت آخر سهم تبقى للألفي في جعبته لم تأت بأية نتيجة؛ فقد أجاب «أربثنوت» من القسطنطينية في 15 يناير 1807 على رسائل «مسيت» تلك التي بعث بها هذا الأخير إليه بأن وكيل الألفي قد زاره وأخبره بانتصار الألفي على محمد علي، وراح يطلب منه وساطته لدى الباب العالي، ثم استطرد يقول إنه يرفض القيام بهذه الوساطة بسبب الظروف الراهنة (إعلان الحرب بين تركيا وروسيا حليفة إنجلترة وتهيؤ هذه لإرسال الأميرال «داكويرث» إلى مياه القسطنطينية والجنرال «فريزر» إلى الإسكندرية)، ولا سيما بعد كل ما حدث في المفاوضات السابقة بين كتخدا الألفي وبين الباب العالي، وينصح «مسيت» لذلك بعدم التدخل إلا إذا رأت الحكومة الإنجليزية غير ذلك، وفضلا عن ذلك فإنه يجب أن يكون أمرا مقررا ومفروغا منه أنه من المتعذر كلية وضع أية ثقة في الألفي أو غيره من البكوات؛ لأن هؤلاء جميعا سوف يطلبون دائما ودون أي تمييز مساعدة كل دولة قد يتراءى لهم أن بوسعها خدمتهم وتحقيق مآربهم، وكذلك فمن الواجب أن يعتبر أمرا مقررا ومفروغا منه أن الباب العالي لن يوافق بحال من الأحوال على وساطتنا، وقد يطلب هذا مساعدتنا إذا فقد مصر مرة ثانية، وقد يبحث عنها بنفسه وقتئذ، وحتى نجاحنا ذاته سوف يكون مبعث حسدنا؛ لأنه بالرغم من المزايا التي قد تجنيها الإمبراطورية العثمانية من انتصاراتنا فإن الذعر الذي سوف ينشأ من بروز قوتنا بهذه الصورة لن تمكن إزالته من النفوس، فقد لا يريد الباب العالي أن يرى الفرنسيين يبقون في مصر، ولكن طردهم منها على يد الإنجليز سوف يكون بالنسبة للباب العالي بمثابة اختبار بين أحد شرين.

ولكنه قبل وصول هذه التعليمات إلى «مسيت» كان الألفي قد رفع الحصار عن دمنهور وبدأ انسحابه صوب الصعيد.

حقيقة كانت عروض إبراهيم وعثمان حسن له مغرية، وتؤذن بتوليه رئاسة البكوات، لا سيما وأنه كان قد اشترط قبل الدخول في أي اتفاق مع بكوات الصعيد إبعاد شاهين بك المرادي وبعض البكوات الآخرين من بيت البرديسي ونفيهم إلى إبريم كضمان - في رأيه - لقبول سائر البكوات لرئاسته بعد أن عارض إبراهيم وعثمان وحسن في تعيين شاهين المرادي خليفة للبرديسي، ثم كان من المتعذر عليه البقاء في البحيرة بعد أن استنفد كل ما بها من زرع وضرع حتى كادت تكون بلقعا يبابا، ولا سبيل إلى جلب المؤن منها لجيشه، وذلك علاوة على ما تقدم من أسباب جعلت متابعة الحصار مهمة شاقة عسيرة، إلا أنه كان من ناحية أخرى يشعر في قرارة نفسه أنه لا يستطيع الاعتماد على البكوات القبالي في مؤازرته ومعاضدته، أضف إلى هذا أن ذهابه إلى الصعيد سوف يجعله بعيدا من المكان المترقب نزول الحملة الإنجليزية به، ولكن الوكلاء الإنجليز - على نحو ما ذكر «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 10 ديسمبر - لم يلبثوا أن أشاروا عليه بتلبية دعوة وكلاء الصعيد حتى يفيد من الاضطرابات الواقعة في صفوفهم بعد وفاة البرديسي، فقرر الألفي أن يبذل مجهودا أخيرا لإخضاع دمنهور، حتى إذا دانت له بقي بها أو فك الحصار عنها مكرها، وانسحب من البحيرة.

وكان الضيق قد أخذ كل مأخذ بأهل دمنهور لعدم وصول أية نجدات إليهم، حتى إنهم بدءوا من أوائل ديسمبر يفكرون جديا في التسليم، وبعثوا بمندوبيهم إلى الألفي للمفاوضة معه في ذلك، وكادت تنفرج أزمته، ولكنه سرعان ما أضاع الفرصة بسبب جوره وعسفه عندما قتل ثمانية وعشرين من الفلاحين كان العربان قد فاجئوهم في أوقات مختلفة يتسللون من دمنهور ينقلون بعض المؤن إليها، أو قبضوا عليهم وهم يحاولون الخروج منها خفية، فقتلهم الألفي أيام العيد الصغير (12-15 ديسمبر)، ونفر منه بهذه الفعلة الشنيعة أهل دمنهور، فأبطلوا مفاوضاتهم معه، ووطدوا النفس على الدفاع إلى النهاية وحتى آخر رمق فيهم؛ وعلى ذلك، فقد صدوا هجوما عنيفا قام به الألفي في 16 ديسمبر، وخسر في هذا الهجوم الفاشل اثنين من كشافه وسبعة أو ثمانية من مماليكه عدا العشرين من مشاته تقريبا، وهكذا أخفق آخر جهد له في إخضاع دمنهور عنوة، ثم بدأ يحدق به الخطر من كل جانب عندما استولى اليأس على جنده، وشحت الأقوات في معسكره، وخشي الجند والعربان أن تفتك بهم المجاعة، وصاروا يهددون بتركه إذا هو أصر على البقاء أمام دمنهور، ثم خرجت أخيرا حامية رشيد لتعزيز حامية الرحمانية وهي التي في وسعها منع مماليك الألفي وجنده من الخروج إلى الدلتا، وبدأت قوات الباشا تتجمع في إمبابة للزحف على دمنهور وتخليصها من الحصار المضروب عليها، وعندئذ لم يجد الألفي مناصا من رفع الحصار عنها والانسحاب صوب الفيوم والصعيد في 28 ديسمبر 1806.

وكان انسحاب الألفي على هذه الصورة هزيمة شنيعة له، فقال «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في 31 ديسمبر يعلل هذا الانسحاب بقوله: إن محمد علي يستعد استعدادا عظيما لشن هجوم على الألفي، فعبر جزء من جيشه النيل معسكرا عند إمبابة على الشاطئ الأيسر للنهر، ولا يلبث أن يلحق به بقية الجيش، وأعلن الباشا أنه سيتولى بنفسه قيادة الحملة، وهذا بينما لا يعتبر الألفي نفسه قويا بالدرجة التي تمكنه من مقاومة محمد علي وجيشه، فقرر مغادرة البحيرة والانسحاب إلى الفيوم حيث تتاح له الفرصة أن يتلقى وهو بها عند الضرورة الإمدادات من إخوانه بالصعيد، وقد اضطر الألفي اضطرارا لاتخاذ هذه الخطوة، ويشعر بالخجل لتركه حصار دمنهور، ومع أنه كان بوسعه فيما مضى اقتحامها عنوة واقتدارا فقد آثر أن يحاصرها وأن يضطرها إلى التسليم بتجويعها، ولكن الاستياء منه يسود اليوم جنده، وبخاصة العربان الذين معه، حتى إنه صار يخشى إذا هو واجه العدو أن يتركه رجاله، ذلك هو السبب الحقيقي لانسحابه إلى الفيوم ولو أنه يرفض الاعتراف به ويعزو انسحابه إليها إلى قلة المؤن في البحيرة.

وأما الشيخ الجبرتي فقد عزا اندحار الألفي وانصرافه عن دمنهور إلى أسباب أربعة، فقال: ولما تنحت عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر إسكندرية، استأنف أمرا آخر وراسل الإنجليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنوده؛ ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي، فاعتذروا له بأنهم في صلح مع العثماني، وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحا أن يتعدوا على المتصادقين معهم، ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم، فغاية ما يكون المكالمة والترجي، ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر، فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع النفرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إليه يوعدونه بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته، فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور، وكان ذلك أوان القيظ وليس ثم زرع ولا نبات، فضاقت على جيوشهم الناحية، وقد طال انتظاره للإنجليز، فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد، وفي كل حين يوعدهم بالفرج ويقول لهم: اصبروا لم يبق إلا القليل، فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له: إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة، وإما أن تأذن لنا في الرحيل نطلب القوت، فما وسعه إلا الرحيل مكظوما مقهورا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب، الأول مجيء القبودان وموسى باشا على هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل، الثاني عدم ملكه دمنهور، وكان قصده أن يجعلها معقلا ويقيم فيها حتى تأتيه النجدة، الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل، الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه.

وسار الألفي في انسحابه بخطوات بطيئة، يتقدم جيشه شاهين بك الألفي ، ويعيث هذا الحشد من أجناد ومماليك وعربان حوالي السبعة أو الثمانية آلاف بعتادهم وحيوانهم فسادا في كل مكان مروا به، وأحرق شاهين الألفي قريتين بالقرب من طرانة، واقترب هذا الحشد العظيم من وردان (7 يناير 1807)، وبدأت تصله الأنباء عن فشل محاولاته لإبعاد شاهين بك المرادي وزملائه من أنصار البرديسي؛ ذلك أن هذا الشرط الذي اشترطه الألفي للذهاب إلى الصعيد لم يلبث أن أثار تذمر البكوات، فانحاز سليمان بك الجرجاوي إلى شاهين المرادي وضما كل المشاة في بيت البرديسي، وصار لهما حزب قوي، وأبدى محمد علي نشاطا عظيما لمواجهة جيش الألفي، فحشد هو الآخر حوالي الأربعة آلاف من جنده منذ 12 يناير ذهب بهم إلى شبرا الخيمة ثم احتل إمبابة وجعلها مركزه العام، وكان شاهين الألفي قد احتل قبل ذلك بيوم واحد الكوم الأسود وهي قرية تقع إلى الجنوب الغربي من إمبابة وفي سفح الأهرام تقريبا، فدارت بين الفريقين معركة في 13 يناير، وارتد شاهين الألفي بعد أن جرح إلى الكوم الأسود، وبدلا من أن تتعقبه الأرنئود وبالرغم من إلحاح محمد علي عليهم في ذلك آثروا العودة إلى القاهرة ورفعوا عقيرتهم من جديد يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فاستطاع الألفي أن يواصل سيره بسلام، فبلغ كفر حكيم في 27 يناير، وانتشر جيشه بالبر الغربي ناحية إمبابة والجيزة، وغادر الألفي كفر حكيم في اليوم نفسه، ورتب محمد علي وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم، واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم، ومر الألفي في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير على هيئة عسكر الفرنسيين ومعهم طبول بكيفية قرعت عقولهم، وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكبة زائدة، والباشا والعساكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد، والباشا ينظر إليه تارة بعينه وتارة بالنظارة وهو يتعجب ويقول: هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون؟ ثم قال للدلاة والخيالة: تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال ... فلم يتجاسروا على الإقدام، وصاروا باهتين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم، وقد أصابوه بأعينهم.

وكان الألفي قد تأكد لديه قبل ذلك في 26 يناير خبر إخفاق مشروعه الذي أراد منه السيطرة على البكوات في الصعيد، فقد استطاع شاهين المرادي تقوية حزبه، واتخذ من اشتراط الألفي نفي أنصار البرديسي إلى إبريم وسيلة لجمع المؤيدين حوله لمعارضة إبراهيم بك وعثمان حسن بالقوة إذا اقتضى الأمر، وتسلم الشاهين المرادي رئاسة جماعة البرديسي من جديد، بينما انسحب عثمان حسن إلى أبنوب وإبراهيم بك إلى أسيوط، وأدرك الألفي أنه صار من المتعذر عليه جمع بكوات الصعيد حوله، أو انتظار اتحاده معهم في أي مجهود حربي مشترك ضد محمد علي، فأحزنه هذا الفشل، واستبد به الغيظ والغضب، وفي 28 يناير وصل جيشه إلى قرب قناطر شبرامنت.

وخرج يتريض على حصانه وخلفه بعض المشاة خارج المعسكر، وكان ذلك بناحية المحرقة بالقرب من دهشور، فشاهد بعض جمال للبدو في حقل مزروع قمحا، فأحنقه ذلك وقتل بيده في سورة غضبه أربعة من البدو الذين صادفهم في الحقل، وكان من بينهم شيخ قبيلة، فلما عاد إلى خيمته انتابته تشنجات عصبية صحبها قيء من الدم والصفار الكثير، وشعر بدنو أجله فجمع فورا كل بكوات بيته، ورأس عليهم شاهين بك الألفي، وأوصاهم بالاتحاد فيما بينهم، والاستمرار قبل كل شيء على مقاومة محمد علي، والذهاب إلى الصعيد للانضمام إلى سائر البكوات هناك، كما أوصاهم أن يحملوه إذا مات إلى وادي البهنسا، وأن يدفنوه بجوار قبور الشهداء، ثم مات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء 19 ذي القعدة 1221 (27-28 يناير 1807)، وكان عمره عند وفاته خمسا وخمسين سنة، وقال بعض من حضروا وفاته: إنه سرعان ما صار لون جثته داكنا، واستنتجوا من ذلك أنه مات مسموما، واتهموا بسمه إحدى نسائه ابنة شيخ القبيلة العربي الذي قتله الألفي، فانتقمت لأبيها بإعطائه السم، واختلفت الروايات في سبب وفاته، فقال الجبرتي: «إن خلطا دمويا تحرك به وفي الحال تقيأ دما»، وقال آخرون: إنه قضى نحبه من جراء إصابته بالكوليرا، وفي رأي «مسيت» أنه أصيب بالتهاب في الرئة قضى عليه، وقد نجحت هذه الإصابة - على حد قول «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في 7 فبراير 1807 عن المجهود العظيم الذي بذله الألفي في قتاله الأخير مع جند الباشا، وقال «دروفتي» وهو ينقل هذا الخبر إلى حكومته في 2 فبراير: إن الألفي قد مات في 27 يناير، وهناك رأيان في سبب وفاته الفجائية: أولهما استبداد سورة الغضب به بعد أن قتل بيده أربعة من البدو، أحدهم شيخ قبيلة، وثانيهما أن ابنة هذا الشيخ المقتول وكانت من نساء الألفي قد دست له السم.

صفحه نامشخص