مصر در آغاز قرن نوزدهم ۱۸۰۱–۱۸۱۱ (بخش اول)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرها
ولقد كان خورشيد مخدوعا في كل ذلك، ولم يلبث أن وجد نفسه محاصرا في القلعة، حقيقة كان لديه ألف وخمسمائة جندي بها بقيادة بعض رؤساء الأرنئود من الذين انحازوا إليه؛ كصالح أغا قوش وعمر بك الأرنئودي الذي غادر مسكنه في بولاق في 14 مايو «وطلع عند الباشا بالقلعة»، وذلك بينما كان حسن باشا الزعيم الأرنئودي الآخر وزميل محمد علي ومؤيده في خطواته إجمالا منذ حضورهما معا من المنيا؛ قد أظهر ميلا الآن للتمسك بموقف الحياد في النزاع القائم، ثم لم تلبث أن قويت الشائعات عن وجود تفاهم سري بينه وبين خورشيد، واستدعى خورشيد سلحداره «علي باشا» بجنده من المنيا، ثم شرع يتفاوض مع بكوات الألفي ومماليكه القريبين من أهرام الجيزة، واعتمد على إقناع البرديسي وإبراهيم وعثمان حسن بنجدته، وكان هؤلاء قد تركوا مراكزهم في الصعيد للزحف على القاهرة منذ أن علموا باضطراب الأحوال بها، وبدأ مساعيه بالقسطنطينية لتثبيته في الولاية ، واتصل «بمسيت» يرجو أن يوصي بمسألته السفير الإنجليزي بالقسطنطينية، وكتب «مسيت» للورد كامدن في 28 مايو «أن الفوائد المنتظرة من تأييد «خورشيد» في الولاية بفضل النفوذ الإنجليزي وتدخلهم ظاهرة»، وكتب خورشيد للدلاة في القليوبية يدعوهم للحضور، وأن واجب الولاء يقتضيهم «معاونته؛ صيانة لعرض السلطنة وإقامة لناموسها وناموس الدين، وأن الفلاحين يحاصرونه ومانعون عنه الأكل والشرب»، وأرسل هؤلاء كتابة إلى محمد علي، ولكن كل هذه الجهود التي بذلها خورشيد لاستبقاء ولايته كانت جهودا فاشلة.
وكان محمد علي في الأيام الأولى يشعر بأن مركزه غير موطد طالما تمسك خورشيد ممثل السلطان الشرعي في البلاد بمنصبه، وأزعجه كثيرا تحرك البكوات المماليك، أولئك المنتشرون منهم بالوجه البحري في الجيزة، ثم في دمنهور وطرانة حيث اتخذ الألفي بها مقره بعد ذلك، ثم أولئك الزاحفون من الصعيد، الذين سرعان ما وصلوا - بعد قليل - إلى منفلوط ومن المنتظر استمرار زحفهم إلى القاهرة، أضف إلى هذا تحرك العسكر الذين أخذوا يطالبونه بمرتباتهم، في الوقت الذي انحازت فيه طائفة منهم مع رؤسائهم إلى خورشيد، وخشي محمد علي انضمام حسن باشا إليه كذلك، زد على ذلك أنه لم يكن هناك معدى عن تسليح الأهلين للدفاع عن أنفسهم ضد الأرنئود الذين بدأت طائفة منهم بتحريض من زملائهم مع خورشيد اعتداءاتها على الأهلين، ولأن الباشا المخلوع كان مصمما على التحصن بالقلعة ويعقد العزم على استرجاع ولايته المفقودة، وأدرك محمد علي أنه إذا استمر تسليح الشعب طويلا، سرعان ما يصبح عامل فوضى وانحلال يهدم سلطته هو نفسه بدلا من تدعيمها؛ ولذلك فقد وجب عليه للخلاص من كل هذه المخاطر أن يصل بكل سرعة لحسم الموقف الذي أوجده عناد خورشيد بحمل هذا الأخير بطريق التفاهم والتراضي على الاعتراف بالوضع الجديد اعترافا كاملا صريحا أو على الأقل التسليم بالأمر الواقع، والتزام الحياد حتى يأتي إقرار الباب العالي - كعادته - بهذا الأمر الواقع.
ولذلك فقد رأى أن يوسط المشايخ في محاولة إقناع خورشيد بترك العناد، وبدأت أولى هذه المحاولات من اللحظة التي عرف فيها إصراره على التمسك بولايته ، فكتب المشايخ ومحمد علي إلى رئيسي الأرنئود المعضدين لخورشيد: صالح قوش وعمر بك «يذكرون لهما ما اجتمع عليه رأي الجمهور» من عزل خورشيد، وأن الواجب يقتضيهما عدم المخالفة والعناد «لما يترتب على ذلك من الفساد العظيم وخراب الإقليم»، ولما كان صالح قوش وعمر بك قد طلبا أن يريا «سندا شرعيا في ذلك» فقد اجتمع المشايخ ببيت القاضي في 16 مايو «ونظموا سؤالا وكتب عليه المفتون»: يثبتون الأسباب التي دفعتهم إلى توجيه الثورة ضد خورشيد، ووقعوه وصدق عليه القاضي، ولكن عمر بك وصالح قوش ومن معهما من سائر الرؤساء الأرنئود بالقلعة «لم يتعقلوا ذلك» وطعنوا في قانونية هذا الإعلام أو السند الشرعي.
وأصر خورشيد على عدم النزول من القلعة «حتى يأتيه أمر من السلطان الذي ولاه»، وطلب من المشايخ تدبير المرتبات المتأخرة للجند الذين هم معه والتكفل بنفقاتهم «إلى حين حضور جواب من الدولة» يحسم الخلاف القائم، وأبلغه المشايخ من جانبهم أن «نحو الأربعين ألف نفس قد حضروا يوم تاريخه بالمحكمة وطالبون نزوله أو محاربته وأنهم لا يمكنهم دفع قيام هذا الجمهور»، وأنذروه بأن هذا آخر المراسلات بينهم وبينه، وبعث المشايخ بالإعلام الذي كانوا قد أعدوه إلى القسطنطينية لتأييد قضيتهم ضد خورشيد باشا وتبرير عزله وتولية محمد علي، ومنذ 19 مايو 1805 بدأ الأخير في حصار القلعة جديا «واجتهد السيد عمر أفندي النقيب وحرض الناس على الاجتماع والاستعداد».
وحاول محمد علي إقناع خورشيد بتسليم القلعة دون حاجة لاستخدام القوة، ولكن هذا الأخير - على نحو ما أبلغ «مانجان» وكيل القومسييرية الفرنسية بالقاهرة «دروفتي» بالإسكندرية في 20 مايو - «أعلن أنه لن ينزل من القلعة إلا بالشروط الآتية وهي: أولا: عدم مطالبته بتقديم أية حسابات، ثانيا: الإقامة في سلام وأمن، بعد نزوله من القلعة، في بيت حسن باشا، ثالثا: وضع ما يلزم من سفن ومؤن ضرورية تحت أمره للذهاب إلى الإسكندرية»، ولكن المشايخ والرؤساء الشعبيين ما لبثوا أن رفضوا بالإجماع الشرط الأول بالرغم من استعداد محمد علي لقبوله؛ لأنهم أرادوا معرفة الوجوه التي أنفقت فيها الأموال التي جمعت من القاهرة وحواليها، واستعد كل فريق للكفاح، وجرت الاستعدادات لمهاجمة القلعة التي أغلقت أبوابها، واقترح علي باشا سلحدار خورشيد - الذي كان قد حضر من المنيا - أن يعود إليها لإحضار جنده الباقين بها، كما دعا المشايخ القاهريين للتسلح ليلا ونهارا وصاروا يطلبون من محمد علي إنهاء هذه المسألة بسرعة - واستطرد «مانجان» يقول - «إن ططريا كما يقال - قد ذهب إلى القسطنطينية برسائل من المشايخ وعلماء القاهرة تطلب عزل خورشيد باشا وتثبيت محمد علي في باشوية مصر.»
وحاصر عدد عظيم من القاهريين المسلحين والأرنئود القلعة، وأقاموا التحصينات، وأطلقت النيران من على الأسطح ومنارات الجوامع لإزعاج حامية القلعة، وثارت حمية السكان، فاستبد الحماس بالشيوخ كبار السن والأطفال واشترك الأغنياء إلى جنب الفقراء، «والكل بالأسلحة والعصي والنبابيت ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات»، ولما كان القاهريون لم ينسوا بعد فعال الأرنئود السيئة فقد صار يخشى من أن ينقلب حماس الشعب ضدهم وتحطيم جهود محمد علي والمشايخ، ونزل الأخيرون إلى الشوارع لتهدئة الجماهير الصاخبة المتحمسة، وبذل محمد علي مجهودا آخر مع خورشيد، ولاحت الفرصة لإنهاء الأزمة وديا عندما توصل إلى اتفاق معه لتسليم القلعة سلما، وتبودلت الرهائن بين الفريقين ضمانا لتنفيذ هذا الاتفاق في 22 مايو.
ولكن خورشيد سرعان ما غير رأيه فجأة في اللحظة الأخيرة وعدل عن النزول دون سبب ظاهر، وأعلن تصميمه على البقاء بها حتى يرجع الرسل الذين ذهبوا إلى القسطنطينية برأي الباب العالي القاطع الأمر الذي كان لا يريده محمد علي عندما كان ظاهرا أن من صالحه التعجيل في سير الحوادث ووضع الباب العالي أمام الأمر الواقع إذا سلم خورشيد وعدل عن عناده، فاستمر الحصار ورفعت المدافع إلى جبل المقطم لضرب القلعة، واعتمد محمد علي في نشاطه على مؤازرة المشايخ وقادته له وخصوصا السيد عمر مكرم الذي تولى تدبير المقاومة الشعبية والإشراف عليها وتوجيهها.
وكان السيد عمر مكرم بفضل ما أوتيه من جرأة وشجاعة وقتئذ أعظم نفوذا على القاهريين من سائر الرؤساء والمشايخ، واستطاع الشعب - أو العامة، أو الرعية، أو الجمهور على حد تعبير الجبرتي - أن يقوم بالمهمة التي عهد بها إليه على خير وجه، من حيث المحافظة على الأمن ودفع اعتداءات الجند على القاهريين بل والانتقام لأنفسهم من الأرنئود، ومنع الجند المحاصرين بالقلعة من الخروج، وقال الوكلاء الفرنسيون إن السكان أنفسهم صاروا يقومون كل ليلة بالحراسة على نحو ما كان يحدث في باريس وغيرها من المدن والقرى أيام الثورة الفرنسية الكبرى، كما قالوا: إن الناس يهرعون كذلك لشراء السلاح ويحذو في هذا الصغار حذو الكبار، ويقيمون المتاريس في الشوارع، وقد قدر هؤلاء عدد السكان المسلحين الذين اشتركوا في هذه الحوادث بأربعين ألفا قالوا عنهم إنهم يطيعون السيد عمر مكرم طاعة عمياء وينفذون أوامره بحذافيرها، حتى إن عمر مكرم صار يعتبره الجميع زعيم القاهرة بأسرها، ولو أن «مسيت» - كما كتب بعد ذلك في 2 يوليو 1805 - كان يعزو ترؤس عمر مكرم لهذه الحركة بفضل ما لديه من نفوذ عظيم على القاهريين، إلى وعد أعطي له بنهب القلعة وأخذ أسلابها عند سقوطها مكافأة له على جهوده.
ثم لاحت فرصة أخرى لتسليم القلعة وديا عندما تدخل حسن باشا لحسم الخلاف بين خورشيد ومحمد علي، وكان حسن باشا «ومن معه من الأرنئود يراعون من بالقلعة من أجناسهم؛ لأن غالبهم منهم»، وأراد الآن التدخل للوصول إلى حل يراعي فيه صالح خورشيد، وكان محمد علي - من جهته - يتوق لإنهاء النزاع وديا ودون حاجة إلى قتاله حتى لا يبدو في صورة الثائر على ممثل صاحب السيادة الشرعية، والباشا الذي كان تقليده قائما من الناحية القانونية، بينما لم يكن في وسع محمد علي أن يقطع برأي فيما إذا كان الباب العالي سيستجيب لإرادة المشايخ والعلماء والرعية فيعزل خورشيد من الولاية، أو أنه سوف لا يقر هذه الرغبة ويعترف بها ويعتبر لذلك «محمد علي» عاصيا وخارجا على القانون، فصار مما يهمه إذن وقد خطا خطوته الكبرى نحو الولاية أن لا يتجدد الآن ذلك الموقف الذي أظهره بمظهر التمرد والعصيان لأوامر الباب العالي عند مقتل علي باشا الجزائرلي، أضف إلى هذا أنه لم يكن مطمئنا كل الاطمئنان إلى متانة مركزه من الناحية العسكرية للانقسام بين الأرنئود - على نحو ما سبق ذكره - وتحريض الفريق المنضم لخورشيد بالقلعة للفريق الآخر، وصعوبة كبح جماح الأرنئود الذين بالمدينة والذين صاروا يعتدون على أهلها ويلتحم معهم القاهريون من وقت إلى آخر، وكان الدلاة علاوة على ذلك لا يزالون منتشرين في الجهات القريبة من القاهرة، بل ولا يزال بعضهم موجودين بالعاصمة، كما كان البكوات المماليك لا يزالون قادرين على القتال وفي وسعهم - إذا اتحدوا وجمعوا صفوفهم - الانتصار على جنده.
وعلى ذلك فقد بعث حسن باشا بأخيه عابدي بك لمقابلة خورشيد (24 مايو)، الذي احتجزه رهينة بالقلعة، بينما أرسل من جانبه عمر بك الأرنئودي للمباحثة والمفاوضة، «وأمروا برفع المتاريس وتفرق من بها وأشيع نزول «خورشيد» من الغد، وبات الناس على ذلك تلك الليلة وهم ما هم عليه من التجمع والسروح والحيرة»، وفي 25 مايو قابل عمر بك السيد عمر مكرم، فوقعت بينهما «مناقشة في الكلام طويلة»، تقررت في أثنائها مبادئ على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفكر السياسي في مصر من حيث إنها أفرغت النتائج الواقعية لحادث خلع خورشيد والمناداة بمحمد علي في «نظرية سياسية» محدودة المعالم هي حق الشعب في عزل حكامه إذا أساءوا الحكم أو بعبارة أخرى، الأخذ بمبدأ استقرار السيادة العليا في الشعب نفسه.
صفحه نامشخص