لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى
فمتى أودع خلي التوديعا
ولا يثقل عليك هذا البيت الثاني، وما فيه من تكلف، فلا بد من أن تقبل الشعراء على علاتهم، وعلة أبي العلاء أنه عاش في عصر تكلف وتصنع، فلم يكن له بد من أن يتكلف ويتصنع، وقد أراد أن يذكر كثرة توديعه للأصدقاء وضيقه بفراقهم، وأن يتمنى على الدهر، لو أن الدهر يستجيب لمن يتمنى عليه، أن يريحه من الوداع، وما يثير في القلب من الحزن والأسى، وما يغمر النفس به من اللوعة الاكتئاب، فسلك إلى معناه القريب طريقه هذه البعيدة، وزعم أن توديع الأصدقاء قد أصبح له صديقا بغيضا ود لو يخلص من صداقته وعشرته.
فاقبل لفظ أبي العلاء كما تيسر له، وكما نقل إليك، وقف عند معناه فإنه خليق أن تقف عنده؛ لأنه يصور نفسا كريمة، وقلبا ذكيا، وضميرا وفيا، وحرصا أشد الحرص على الوفاء، وهو على ذلك يصور ذات نفسك وذات نفسي في شيء من القصور لا من التقصير، فكلانا حريص مهما تضعه الخطوب على ألا يضيع ود الأصدقاء، وكلانا يجد في استبقاء المودة، والاحتفاظ بالإخاء راحة وروحا ولذة ومتاعا، ولكن كلينا ممتحن، لا بكثرة التوديع للأصدقاء للنوى، ولكن بكثرة التوديع للأصدقاء للموت، أو للقطيعة التي هي شر من الموت. فأنت لا تفقد صديقك الذي يستأثر به الموت من دونك، أو قل إنك لا تفقده كله، وإنما تفقد محضره، وتحرم لقاءه، وتبقى لك منه ذكرى فيها كثير من حسرة، وأسى، ولكن فيها كثيرا من دعة النفس، ورضى القلب وراحة البال. تحزن لأنك لا تلقاه ولا تنعم بعشرته، وترضى لأنك تذكر صفاء مودته، وصدق إخائه، وأنه قد وفى لك، وأنك قد وفيت له، وأنه قد فارقك راضيا عنك، وأنك قد فارقته راضيا عنه، فتجد في هذا الشعور شيئا من عزاء، وتضيف هذه الذكرى إلى هذا الكنز النفيس الذي يغنى به قلبك، وتنعم به نفسك، وتستريح إليه كلما ضاقت بك الدنيا أو كربتك الخطوب.
فأما القطيعة فإنها لا تترك في قلبك إلا الحسرة الخالصة، واللوعة المصفاة. وويل للقلوب من الحسرة الخالصة، فإنها تلتهم الحياة كما تلتهم النار الحطب، وويل للنفوس من اللوعة المصفاة، فإنها أفتك بها من السم الزعاف. •••
وأنت تشكو إلي تنكر فلان لك وازوراره عنك، وتأليبه عليك. وماذا تريد أن أصنع؟ وقد تنكر لي قبل أن يتنكر لك، وازور عني قبل أن يزور عنك، وألب علي قبل أن يؤلب عليك. وهلا سرت فيه سيرتي، ولقيت قطيعته كما لقيتها؟ فإني لم أشك إليك، ولم أشك إلى أحد من تنكره وتنمره وازوراره، وإنما طويت عن هذا كله كشحا، وضربت عنه صفحا، وأضفته إلى هذه المحن التي يمتحن الناس بها في هذه الأيام، والتي لا حاجة إلى إحصائها لأنها أكثر من الإحصاء، ولا إلى التفكير فيها لأنها قد كثرت وكثرت حتى أصبحت أهون من أن نفكر فيها، أو نقف عندها أو نضيع في استعراضها ما بقي لنا من الوقت والجهد والنشاط. فأقبل على الناس ما أقبلوا عليك، وأعرض عنهم ما أعرضوا عنك، وامنحهم من قلبك صفوه وعفوه. لا تضمر لهم كيدا، ولا تبغهم شرا، ولا تدخر عليهم موجدة، وأرح نفسك وأرحني، وأرح الناس من شكوى الزمان، والتبرم بالإخوان، والحزن لقطيعة الصديق، والأسى لغدر الخليل. وألق عن نفسك هذه الفكرة الخاطئة، فإن الزمان لم يتغير، وإن طبيعة الناس لم تتبدل، وليس الزمان الذي تعيش فيه بشر من الزمان الذي عاش فيه أسلافك، وليس الجيل الذي تعاشره بشر من الجيل الذي عاشره الآباء والأجداد؛ فالشمس تجري لمستقر لها منذ كانت الشمس، والنهار والليل يستبقان منذ كان الليل والنهار، والإنسان هلوع منذ كان الإنسان يجزع إن مسه الشر، ويجزع أن ظن أن قد يمسه الشر، ويبخل إن مسه الخير، ويهيء نفسه للبخل إن ظن أن قد يمسه الخير.
وصاحبك هذا الذي جفاك بعد صفاء، ونبا جانبه بك بعد لين؛ هلوع كغيره من الناس، أشفق أن تجر عليه مودتك شرا فاتقاه بسد الذرائع كما يقول الفقهاء، وخاف على ما في يده من الخير أن ينقصه اتصاله بك فاستبقاه بقطيعته لك، وابتغى منه المزيد. ففيم تلومه، وقد جرى مع طبعه، وأرسل نفسه على سجيتها؟! فاتقى الشر ما وجد إلى اتقائه وسيلة، وابتغى الخير ما وجد إلى ابتغائه سبيلا. •••
وحضارة الناس متكلفة، كانت بعد أن لم تكن، واستحدثت شيئا فشيئا بعد أن عاش الناس دهرا لا حظ لهم منها، ولا سهم لهم فيها. فليس غريبا أن تغلبها الغرائز بين حين وحين، وليس غريبا إلا تثبت لقوة الطبع، وسجية النفس، وحب الحياة، والتماس المنافع واستبقائها.
والصداقة أثر من آثار هذه الحضارة المتكلفة المكتسبة. فهي تجري على وتيرتها، وتسلك طريقها، وتتأثر بما تتأثر به من الخطوب والأحداث.
صفحه نامشخص