رسالة الشكر والكفر
رسالة الأمر والنهي
الوشاية والوشاة
رسالة القصد والغرور
رسالة إلى ...
قلب مغلق
من بعيد
صرعى
نفوس للبيع
كما أنت
مصر بين النعيم والجحيم
الحرية أولا
ويل الشجي من الخلي
لا ونعم
صحائح الأنباء
إخوان الصفاء
رسالة الشكر والكفر
رسالة الأمر والنهي
الوشاية والوشاة
رسالة القصد والغرور
رسالة إلى ...
قلب مغلق
من بعيد
صرعى
نفوس للبيع
كما أنت
مصر بين النعيم والجحيم
الحرية أولا
ويل الشجي من الخلي
لا ونعم
صحائح الأنباء
إخوان الصفاء
مرآة الضمير الحديث
مرآة الضمير الحديث
تأليف
طه حسين
رسائل تنسب إلى الجاحظ، وأراها محمولة عليه لأن تكلف التقليد فيها ظاهر.
رسالة الشكر والكفر
أقبل علي صاحبي مبتهجا باسم الثغر، مشرق الوجه والنفس جميعا، يقول: لقد جئتك بطرفة ما أشك في أنك ستنعم بها بالا، وسترضى عنها كل الرضى، وستؤثرها على كثير من الطيبات في هذه الأيام التي تقل فيها الطيبات.
قلت: وما ذاك؟ قال: كتاب مخطوط لم تعرفه المطبعة بعد. ظفرت به عند بعض الوراقين، وفيه رسائل مختلفة للجاحظ، وغير الجاحظ، من كتاب القرن الثالث والرابع للهجرة. ولم أكد أنظر فيه حتى بهرني، وسحرني، وكرهت أن أوثر نفسي بقراءته؛ فجئت أظهرك عليه، وأشركك في الاستمتاع به. ثم أخذ يقرأ علي منه رسالة للجاحظ كتبها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، وسماها «رسالة الشكر والكفر»، وابتدأها على هذا النحو:
رسالة الشكر والكفر
يسرك الله للخير، ويسر الخير على يديك، وهداك الله إلى الحق، وجعلك إلى الحق هاديا، ودلك الله على الصواب، وجعلك على الصواب دليلا، وعصمك الله من الشر الذي يلقي بأصحابه إلى التهلكة، وجنبك الباطل الذي يوفي بأهله على النار، وحماك من الخطأ الذي يورط أهله في الحيرة، ويشرف بهم على الزيغ، وألهمك الله شكر النعمة، فإنه تمام المروءة، وكمال الرجولة، وسبيل الاستزادة من الخير، وآية الارتفاع عن النقص، والتنزه عما يجعل الرجل نذلا فسلا، وخسيسا لئيما. ولهذا أخبر الله - عز وجل - بقلة الشاكرين للنعمة الذاكرين للعرف، فقال:
اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور . والله - عز وجل - يريد لعباده الخير، ويأبى لهم الشر، ويدعوهم إلى أن يرتفعوا عن النقائص، ويتنزهوا عن الصغائر، فهو يذكرهم بنعمه عليهم، وآلائه فيهم، ويأمرهم ألا ينسوا ما يهدي إليهم من فضل، ويسدي إليهم من معروف، وينذرهم بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم إن كفروا النعمة أو جحدوا الصنيعة. يعجل لهم العذاب في الدنيا، ويؤجل لهم العذاب في الآخرة؛ ولهذا قال عز وجل في سبأ:
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ، وقال في أهل مكة كما روي عن ابن عباس:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
وقد أدب الله رسله المكرمين، وأنبياءه المعصومين بهذا الأدب فجعلهم حراصا على الشكر، أباة للكفر لا يمسهم جناح رحمة إلا شكروا، ولا تنزل بهم النائبات إلا صبروا عليها، وشكروا لله إلهامهم الصبر، وتمكينهم من الاحتمال؛ ولذلك قال عز وجل على لسان سليمان - عليه السلام - لما سخر له الريح، والجن، وعلمه منطق الطير، والحيوان:
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين .
ومن تمام الشكر لله ولي كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان؛ الشكر للمنعم من الناس، والقيام بمكافأته بما أمكن من قول وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبى أن يقبلهما إلا معا لأن أحدهما دليل على الآخر، وموصول به، فمن ضيع شكر ذي نعمة من الخلق فأمر الله ضيع، وبشهادته استخف. ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق
صلى الله عليه وسلم
فقال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله.» ولعمري إن ذلك لموجود في الفطرة قائم في العقل؛ أن من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضا بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له، والشكر لذوي النعم من خلقه.
وقد أدب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه بهذا الأدب، وفقههم في هذا النحو من العلم، فضرب لهم فيه الأمثال الرائعة، وعلمهم فيه الحكمة البالغة. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص، وأعمى، وأقرع بدا لله - عز وجل - أن يبتليهم؛ فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس. قال فمسه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل. فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: شعر حسن، ويذهب مني هذا، قد قذرني الناس. قال فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. قال فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان، وولد هذا فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال؛ بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته، وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا. فرد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، وتقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة؛ أتبلغ بها في سفري. فقال: كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك.»
والشاكرون للنعمة بعد ذلك يختلفون، فمنهم من يرى شكر المنعم من الناس حقا يجب أن يؤدى، ولكنه يؤدى على الكره والمشقة، وتتعرض النفس فيه لما لا تحب، وتؤثر ألا تتلقى النعمة من أحد، فلا تحتاج إلى الشكر والاعتراف باليد المهداة.
ولما أعان بعض المشركين أبا سفيان يوم أحد فأنجاه من حنظلة بن أبي عامر، وقد كاد حنظلة يقتله، قال أبو سفيان:
ولو شئت نجتني كميت طمرة
ولم أحمل النعماء لابن شعوب
أراد أنه خير بين خزي الفرار - وكان رئيس القوم - وبين الصبر، حتى أنقذه ابن شعوب؛ فاضطر إلى أن يعرف له النعمة، ويشكر له الصنيعة، على ما في ذلك من المشقة والكلفة.
ومنهم من يرى في الشكر لذة، وفي الكفر ألما، فهو ينأى بنفسه عن ألم الكفر، وما يورث من نقص المروءة، وهو يمعن في الشكر، ويغالي بالنعمة التي أسديت إليه.
وقد قال العباس الصولي يشكر عمرا بن مسعدة:
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
رأى خلتي من حيث يخفي مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تولت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلت
وقال بعض الحكماء: إذا استطاع الرجل الحر ألا يدينه أحد بنعمة يسديها إليه أو صنيعة يصطنعها عنده فليفعل، فإن شكر النعمة شيء لا يطيقه إلا أولو العزم. وقال أزدشير: الدين على ضربين؛ أحدهما يمكن أداؤه في غير زيادة، ولا نقص، وهو دين المال الذي تقترضه من الذهب، والفضة، والعروض، والثاني لا سبيل إلى أدائه مهما تفعل، ومهما تبذل، وهو دين النعمة المسداة، والصنيعة المهداة؛ لأن المعاني لا تقوم بالثمن، ولا تحدد بالكيل والوزن والعدد. قال أبو إسحاق النظام: فإذا أديت إلى دائنك ما أقرضك من ذهب أو فضة أو عرض، فقد أديت أخف الدينين حملا، وأيسرهما مئونة، وبقى في عنقك دين آخر لن تؤديه إلا بالشكر المتصل، والوفاء الدائم، والثناء الذي لا ينقضي. والهزل في هذا الباب - جعلت فداك - متصل بالجد؛ فحياة الناس في جميع أبوابها، وألوانها قد وصل فيها الهزل بالجد، والحق بالباطل، والحزامة الصارمة بالدعابة الحلوة، والفكاهة المسلية.
وكان لنا صديق يعرف بأبي الرمل، لم أر أجمل منه وجها، ولا أحسن منه منظرا، ولا أحلى منه حديثا، ولا أزكى منه ذكاء، ولا أزكن منه زكانة، ولا أنفذ منه بصيرة، ولا أدق منه فطنة، ولا أصفى منه ذهنا، وكان مع ذلك من أكفر الناس للنعمة، وأجحدهم للصنيعة، وأنساهم للمعروف، وأعقهم للصديق، وأشدهم إنكارا لحق الولي، والتواء بدين المحسن إليه. وقد سمعني أيام كنت أملي على أصحابنا فصولا من كتاب الحيوان في الجن، والغول، وفي السعلاة، والعفاريت، وما قالت العرب في ذلك من الجد، والهزل، ومن الصدق، والكذب، ومن الصحيح، والمحال، فكان يظهر الرضى بما يسمع، والارتياح له. ثم افتقدناه أياما، فلما سألت عنه بعض أصحابنا أخبرت أنه مريض، قد ألزمته العلة داره، فرأيت عيادته علي حقا، وزيارته من بعض ما تفرضه العشرة المتصلة، والمخالطة الطويلة. فسعيت إليه مع أصحابنا، فلم أكد أراه حتى أنكرت من أمره كل شيء. فقد رأيت رجلا غيرته العلة، وأنهكه المرض، حتى ذهبت نضرته، وذوت زهرته، واستحال جماله قبحا قبيحا، وصار إلى شر ما كان يكره له الصديق، ويتمنى له العدو. فلما سألته عن أصل علته، قال: ويحك أبا عثمان عفا الله عنك - وما أراه يفعل - فأنت أصل علتي، ومصدر بلائي، وأنت الذي جر علي المحنة، وصب علي النقمة، وملأ قلب الصديق - وما أقلهم - علي إشفاقا، وأفعم قلب العدو - وما أكثرهم - بي شماتة، فلولا ما حدثتنا به من أخبار الجان، والعفاريت، والغيلان والسعالي لما أصابني شر، ولا نزل بي مكروه. قلت: وما ذاك أبا الرمل! قال لقد أطلت التفكير فيما سمعت منك، وأكثرت إعادته، والحفظ له حتى شغلت به عن كل لون من ألوان العلم، وعن كل ضرب من ضروب المعرفة، وعن كل فن من فنون الحكمة.
ودفعت ذات يوم إلى البادية لا أعرف لذلك سببا إلا إني كنت أحدث نفسي بأني قد ألقى فيها من الأعراب من يحدثني بمثل حديثك عن الجن، والغول. وإني لفي بعض الطريق في الصحراء، وقد ارتفع الضحى، وامتلأت الأرض حرا، ونورا، وترقرق الآل على الكثبان من بعيد ... وإذا امرأة تعرض لي لم أر أحسن منها حسنا، ولا أبرع منها جمالا، ولا أملح منها قدا، وقد اتخذت زي نساء البادية، وتزينت بزينتهن، فأسألها من هي فتنبئني ضاحكة بأنها هي التي خرجت ألتمس الحديث عنها. قلت مرتاعا: يا هذه، أوضحي ما تقولين، فإني لا أفهم عنك منذ اليوم! قالت: ألم تخرج ملتمسا لأنباء الغول متتبعا لأحاديثها؟ قلت: ومن أنبأك بذلك؟ قالت متضاحكة: ويحك أيها الرجل! ألم تعلم أننا نتصور فيما شاء الله من الصور، وأنا نخالط الناس فنسمع منهم، ونتحدث إليهم، ونشاركهم فيما يأتون، وما يدعون من الأمر، نراهم إن شئنا، ولا يروننا، ونسمعهم إن أحببنا، ولا يسمعوننا، ثم ننصرف عنهم إلى ديارنا، والأرض كلها لنا دار، فإني قد سمعت من صاحبك مثل ما سمعت من أخبارنا، وأحاديثنا، فأنكرت منه ما أنكرت، وعرفت منه ما عرفت ورأيتك بهذا الحديث معنيا، وله حافظا، وعليه مقبلا، فعلمت أنك قد خلقت للجن، والغول، ولم تخلق للناس الذين تعيش معهم، وتضطرب بينهم فلزمتك مصبحا وممسيا، ورافقتك غاديا ورائحا، وراقبتك يقظان ونائما، حتى إذا غدوت اليوم لما غدوت له رأيت أن قد بلغ الكتاب أجله، وانتهى أمرك إلى مدته، وآن أن تبلغ ما أنت ميسر له من عشرة الجن والغول، فتراءيت لك ثم أقبلت عليك، ثم إني لن أفارقك منذ اليوم، فستكون لي رفيقا، سواء أرضيت عن ذلك أم سخطت عليه.
وقد وليت عنها مدبرا، وعدت إلى داري مسرعا، ولكني لم أخط خطوة إلا رأيتها تخطو معي مثلها، وحديثها إلي متصل لا ينقطع، وإذا هي تلزمني لزوم الظل، وإذا هي تبلغ معي هذه الدار ، وتقوم بيني وبين أهلي وولدي، لا أقول لهم شيئا إلا ردته علي، ولا يقولون لي شيئا إلا ردت علي غيره، ثم هي تتشكل لي في أشكال مختلفة، وتتلون لي في ألوان متباينة، فإذا أحست مني إنكارا لبعض ما أرى من أمرها قالت بصوت كأنه صوت الشياطين:
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
قال أبو الرمل: فأنت كما ترى أصل علتي، والحق عليك أن تجد لي منها مخرجا، وتلتمس لي منها شفاء. ولم يكد يبلغ هذا الموضع من حديثه حتى ارتعنا جميعا، وأخذنا خوف أي خوف، فقد سمعنا صوتا يأتي من بعض نواحي الحجرة نسمعه، ولا نرى مصدره، وهو يقول: هيهات هيهات أبا الرمل لن يجد لك أبو عثمان من ضيقك مخرجا، ولن ينتهي بك من علتك إلى شفاء إلا أن تتغير نفسك فتصبح شاكرة للنعمة، عارفة للصنيعة، وهي قد فطرت على الكفر والجحود. وقد خرجنا من عند أبي الرمل، وليس منا إلا من يتلو:
قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
قلت لصاحبي: أجاد أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال، وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا؛ فما يمنعني أن أضيف إليه ما لم يقل ...!
رسالة الأمر والنهي
وفقك الله إلى الخير والبر، وعصمك من الشر والإثم، وهداك إلى الرشد المفضي بأهله إلى الجنة، ووقاك من الغي الموفي بأهله على النار، وحبب إليك الحق الذي يملأ العقل نورا وحكمة، وكره إليك الباطل الذي يملأ القلب غرورا وجهالة، وحملك على الجادة التي تنتهي بك في كل ما تعمل إلى خير ما تحب لأمير المؤمنين من نصح، ولرعيته من العافية، ولنفسك من النجح، وارتفاع الذكر، وبعد الصوت، وقهر العدو، والاستعلاء على الخصم.
فقد قال الله عز وجل:
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .
وصرف الله عنك سوء الظن، فإنه مفسد لصدق الإخاء مكدر لسريرة الصديق، منغص لذات النفس. وجعل الله موقع النصح الذي يقدمه إليك الصديق الحميم، والمشير الأمين؛ حلوا في سمعك، عذبا في قلبك، حبيبا إلى نفسك. فقد كان يقال لا يحسن بالوزير الناصح للملك، والمشير الأمين عند السلطان إلا يقبل نصح أوليائه إن رفعوه إليه، فإنه إن أساء الظن بالناس أساء الناس الظن به، وكان خليقا أن يسوء به ظن السلطان.
وحدثني بعض أصحابنا من علماء الهند أن بيدبا الفيلسوف كان يقول لدبشليم الملك: إن علمت أن في بعض وزارئك استبدادا في الرأي، واستكبارا على الإشارة، وازورارا عن نصح الناصحين؛ فاعلم أنه جدير ألا يصدقك الرأي، ولا يخلص لك في النصح، فليس بناصح لك من لا ينتصح، وليس بمخلص لك من يشك في إخلاص الناس له. ولا ينبغي أن تأمن من لا يأتمن الناس، ولا أن تطمئن لمن لا يطمئن إلى أحد.
وكتب أرسطاطاليس صاحب المنطق إلى الإسكندر: لا خير في الصديق إذا لم يؤثرك على نفسه، ولم يظهرك على دخيلة قلبه، ولم ينصح لك في الغيب والشهادة. ولا خير فيه إن أصفاك بكل ذلك، ولم يكن له صديق يقدم له من ذات نفسه مثل ما يقدم إليك. فإن الرجل الذي يصادق من فوقه من ذوي الدرجات، وأصحاب المكانة، ولا يصادق من دونه من الأولياء، والسوقة خليق أن يكون أثرا يحب نفسه، ولا يحب غيره، ويبتغي بما يقدم إليك من النصح والمشورة أن يستأثر بك من دون الأولياء، وأن يختص نفسه بما يجد عندك من معروف أو سلطان.
جعلت فداك، إنما أكتب إليك ما أكتب من هذه الحكمة، وأسوق إليك ما أسوق من هذه الأحاديث لأمر عرفته اليوم في الديوان، فضاقت به نفسي، وحزن له قلبي، وأشفقت عليك من عاقبته، وكرهت لك مغبته، وخشيت أن يتجاوز الديوان إلى مجالس الإشراف في قصورهم، والقواد في جنودهم، والعامة في أنديتهم ومجالسهم، فيتحدث الناس عنك بما لم يتحدثوا بمثله عن الوزراء من قبلك، وتقع في نفوسهم لك مهابة تقوم على الخوف والبغض ، ولا تقوم على المحبة والتجله، وشر ما يتعرض له أصحاب السلطان أن يهابهم الناس خوفا، ورهبا، وخير ما يتاح لأصحاب السلطان أن يهابهم الناس حبا، وإكبارا، وطمعا فيما عندهم من الخير، ورغبة فيما يجدون عندهم من البر، والمعروف.
وقد كان كاتبك الحسن بن وهب يتحدث إلى بعض أصفيائه، وأنا أسمع على غير علم منه بمكاني؛ بأن شعرا قد رفع إليك فيه عيب لك، ونقد لبعض عملك، فغضبت له، وضقت به، وأمرت بالبحث عن قائله لتذيقه غضبك، وتصب عليه عذابك، وتعلمه عاقبة طيشه، ومغبة استخفافه بالسلطان، واجترائه على الحكام. ثم لم يكفك ذلك، ولم يقنعك، فأمرت أعوانك من الكتاب، والعمال أن يتقدموا إلى أصحاب الشعر المنظوم، والكلام المنثور، وإلى ذوي الأقلام المشرعة، والألسنة المنطلقة ألا يذكروك فيما ينظمون من شعر أو يكتبون من نثر أو يديرون من حديث إلا بالخير، فإن جنح منهم عن ذلك جانح أو انحرف منهم عن ذلك منحرف فإن السجن له مهيأ، والعقاب له مرصد، والعذاب عليه محتوم. وهو خليق إن مسه الأذى، ونزلت به العقوبة ألا يذوق للعافية طعما، ولا يجد للحرية روحا، ولا ينعم بلقاء الأهل، ومودة الصديق، ونعمة الدعة، حتى يخرج من هذه الحياة ملوما مدحورا.
جعلت فداك، فإني لم أكد أسمع هذا الحديث يسره الحسن بن وهب إلى بعض خاصته، وذوي مودته فيبسم له حين يتحدث، ويبسمون له حين يستمعون إليه، وتظهر في وجهه ووجوههم آية الطاعة الساخرة، والرهبة المستخفة، حتى جزعت، وفزعت، وحتى ارتعت والتعت، وحتى أشفقت عليه من أمر تعرف موارده، وتوشك ألا تعرف مصادره، وتتبين أوله، وتوشك ألا تتبين آخره.
وهو بعد ذلك لم يتح لأحد من الناس منذ كانت هذه الأمة، وقامت هذه الدولة، واستقر سلطان المسلمين في يثرب أيام الخلفاء الراشدين، وفي دمشق أيام بني أمية، وفي بغداد أيام بني العباس.
وما علمت - أصلحك الله - أن خليفة من الخلفاء أو ملكا من الملوك أو وزيرا من الوزراء تقدم إلى الناس بمثل ما تتقدم به إليهم، وما علمت أن الناس استمعوا لمثل ذلك أو أذعنوا له أو أطاعوه، وقد هم زياد ببعض ذلك فأوعد، وغلا في الوعيد، وأنذر، وأسرف في النذير، وطلب إلى الناس أن يكفوا عنه أيديهم وألسنتهم؛ ليكف عنهم يده ولسانه، فصانعه من صانعه، ونصح له من نصح، وعارضه أبو بلال مرداس، فقال له: إنك تحدثنا بغير ما يحدثنا به الله عز وجل، تزعم أنك ستأخذ البريء بذنب المسيء، والله - عز وجل - يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
قال له أبو بلال ذلك، في جماعة المسلمين، والمسجد بهم ممتلئ، وزياد على منبره لم يفارقه، وعليه شارة الملك، ومن حوله قوة السلطان، ثم انصرف أبو بلال مرداس، لم ينله من زياد كيد، ولم يمسسه منه أذى. وقد كان لزياد ما علمت من القوة والبأس ومن العنف والبطش، ومن اليد التي لم تكن تعرف القصر، والسهام التي لم تكن تعرف الخطأ، وإنما تسدد فتصيب، وترمي فتصمي.
جعلت فداك، وما زال الناس يعدون على عبد الملك قوله حين جد الجد، وعظم الخطب، وانتشر الفساد في الأطراف، وتفرق الناس شيعا، وأصبح في كل جزيرة أمير ومنبر: «من قال لنا اتقوا الله ضربنا عنقه»، يرون أنه تحدث بما لم يكن له أن يتحدث به، وتكثر بما لم يكن يستطيع أن يبلغ من الأمر، وما أكثر ما قال الناس له اتق الله، وما أقل ما ضرب من الأعناق. وما أعرف أنه عاقب على مشورة أو عذب في معارضة، وإنما عاقب من شق عصا المسلمين، وخلع يدا من طاعة، وفرق كلمة الأمة.
جعلت فداك، ولو أن هذا الأمر صدر عن أمير المؤمنين - أيده الله - لما رضينا ذلك له، ولا قبلنا ذلك منه، وهو خليفة رسول الله، وابن عمه، والقائم على سلطان المسلمين أعطوه بيعته عن رضى، ودانوا له بالطاعة عن ثقة، فكيف بك، وقد وليت الوزارة اليوم، وقد يعزلك عنها أمير المؤمنين غدا. وأنت لا تمضي ما تمضي من الأمر إلا عن إذنه ورضاه، فكيف بك إذا نلت أحدا بأذى، وكفه عنه أمير المؤمنين ؟ وكيف بك إذا ألقيت أحدا في سجن، وفتح بابه له أمير المؤمنين؟ وكيف بك إذا تقدمت في تعذيب هذا الشاعر أو هذا الكاتب؟ ثم سعى السعاة إلى أمير المؤمنين بأنك تتهم بالظن، وتأخذ بالريبة، وتعاقب في غير تثبت، وعفو أمير المؤمنين أوسع من سخطتك، ورحمة أمير المؤمنين أوسع من نقمتك، فماذا يقول الناس إن سخطت أنت، ورضي هو، وعاقبت أنت، وعفا هو؟! وعفو أمير المؤمنين لا يصدر عنه إلا مصاحبا بالبر والنعمة، فماذا يقول الناس إذا عاقبت أنت، وعفا أمير المؤمنين؟ ثم أتبع عفوه بالنعمة والجائزة، وبالنائل والنافلة؛ ألست خليقا إذن أن تطلق ألسنة الناس فيك بما لا تحب، وأن تعرض سلطانك للضعف، وعزك للسخرية؟!
جعلت فداك، إن خير الوزراء من عرف لنفسه قدرها، ولم يجاوز بسلطانه حده، ولم يرفع نفسه إلى أعلى من الموضع الذي وضعه فيه أمير المؤمنين، ولم يعرض نفسه بذلك لإنكار المنكر، واحتجاج المحتج. واحذر - جعلت فداك - أن يرقى الشك فيك إلى قلب الخليفة فيظن بك تجاوز الحد، ويتهمك بأنك تعطي نفسك من السلطان ما لم يعطك، وتخولها من القوة ما لم يخولك. وأمير المؤمنين لم يتخذ الوزراء ليبسطوا على الناس أيديهم بالأذى، وليصبوا عليهم النقمة صبا، وإنما اتخذ الوزراء ليشيعوا في الناس رحمته، ونعمته، وينشروا فيهم بره، وعدله، ويرفعوا فيهم ذكره بالخير، ويطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه، ويملئوا قلوبهم بالحب له. والحب لا ينال بالقسوة، والنصح لا يكتسب بالظلم، وليست إشاعة النقمة، وسيلة إلى اكتساب الود، ولا إلى اصطفاء النفوس. فانظر - أصلحك الله - في أمرك، وانصح لنفسك، ولأمير المؤمنين. وانظر بعد ذلك فيما بينك وبين الله من حساب تستطيع أن تجعله يسيرا إن شئت، وتستطيع أن تجعله عسيرا إن أحببت.
واعلم - جعلت فداك - أن الزمان لا يثبت، وإنما هو منطلق دائما، وأن الأيام لا تستقر، وإنما هو نهار يتبعه نهار، والأحداث في أثناء ذلك تحدث، والخطوب في أثناء ذلك تلم، والنوائب في أثناء ذلك تنوب، والوزراء يولون ويعزلون، والحكام ينصبون ويصرفون، والدنيا تقبل وتدبر، والحوادث تحلو وتمر، والرجل اللبيب من اعتبر بهذا كله فلم يسرف على نفسه، ولم يسرف على الناس، ولم يقدم بين يديه من العمل ما يسوءه في الدنيا، ويخزيه في الآخرة. وقد أطلقت لسانك - جعلت فداك - في ابن أبي دؤاد، وتقدمت إلى عمالك في أن يقولوا فيه مثل ما تقول، وفي أن يبثوا حوله الأرصاد، وينثروا عليه، وعلى أصحابه العيون، ويرفعوا إليك من أمره ما ظهر، وما خفي، وينقلوا إليك من حديثه وحديث أصحابه ما قالوا، وما لم يقولوا. فكيف بك إذا دارت الدائرة، وألمت الملمة، ودعي ابن أبي دؤاد إلى الوزارة، وصرفت أنت عنها، وأمر فيك ابن أبي دؤاد غدا بمثل ما تأمر فيه أنت اليوم؟!
جعلت فداك، إن كرام الناس - وأنت منهم - يرفعون أنفسهم عن الصغائر، وينزهونها عن آثام القول والعمل، ويكبرونها عن تتبع الهفوات، والتماس العثرات، ويصمون آذانهم عن عيب العائبين، ولوم اللائمين. ولعلهم أحيانا أن يسمعوا للوم، والعيب أكثر مما يسمعون للحمد، والثناء، يجدون في اللوم والعيب ما يصلحون به أنفسهم، وينقون به ضمائرهم، ويقومون به أعمالهم، ويجدون في الحمد والثناء تملقا يدفع إلى الغرور، ويغري بالصلف، ويخدع عما قد يكون في النفس من خصال السوء.
وإني لأحب لك أن تلام فتعفو، وأن تعاب فتصفح؛ أكثر مما أحب لك أن تمدح فتعطي، وأن يثنى عليك فتكافئ على حسن الثناء.
وأنت بعد ذلك لا تستطيع أن تعقل الألسنة المنطلقة، ولا أن تحطم الأقلام المشرعة، ولا أن تمنع القلوب من الشعور، والعقول من التفكير، فدع الناس، وما يشاءون أن يقولوا فيك من الخير والشر، ومن الحمد والذم، وانتفع بذلك كله في إصلاح نفسك، وفي تجنب ما يشينك إلى ما يزينك.
واذكر قول الشاعر القديم:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وكان بعض حكماء الروم يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
جعلت فداك، إن الله لم يعصم أحدا من الخطأ، ولم ينزه أحدا من الزلل، وإنما وهب الناس عقلا يحسن مرة، ويسيء أخرى، ويخطئ حينا، ويصيب حينا، وجعل من الناس على الناس رقباء يدلونهم على مواضع الخطأ، ومواطن الزلل.
ولست بخير من عمر، وقد قال عمر للناس: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه! فقال له قائلهم: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا!
وقد لام اللائمون عثمان، فقبل اللوم، واعتذر من الخطأ، وتاب إلى الله من السيئات. فما أنت بخير من عمر، وما أنت بخير من عثمان، وما أنت بخير من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد رضي أن ينصف من نفسه.
فأنصف من نفسك إذن، ولا تكلفها ما لا تطيق، وضعها حيث وضعها الله، وحيث وضعها أمير المؤمنين، واذكر أنك لم تكن أمس شيئا فأصبحت اليوم بفضل أمير المؤمنين شيئا مذكورا.
فاشكر لله نعمته عليك، ولأمير المؤمنين يده عندك. وخير شكر لله أن تذيع في الناس العدل، وتشيع فيهم الخير، وخير شكر لأمير المؤمنين أن تشعر الناس بحبه لهم، ورفقه بهم، وأنهم عنده سواء.
وأنا أعلم - جعلت فداك - أن الحق مر، وأن النصح ثقيل، وأن الصدق بغيض إلى أصحاب السلطان. ولكنني أوثرك على نفسي، وأصفيك خالص ودي، وقد علمت ما علمت فكتبت ما كتبت، وأنا مرسل إليك هذا الكتاب، فمرتحل إلى البصرة لأقيم فيها بعيدا عن بغداد. فلأن أكون مغمورا في البصرة أحب إلي من أن أكون مشهورا معروفا في بغداد.
ومضى الجاحظ في رسالته تلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات على ما تعود أن يمضي فيه من الاستطراد، والتنقل بين ألوان الحديث، ولكن وقت القارئ أضيق من أن أتم له هذه الرسالة.
الوشاية والوشاة
هداك الله إلى الرشد، وجعلك إلى الرشد هاديا، وللحق داعيا. وحماك الله من الغي، وجعلك من الغي حاميا، وعن الإثم ناهيا. ودلك الله على الخير، وجعلك على الخير دليلا، وبالبر كفيلا، وعصمك الله من الشر، وجعلك من الشر عاصما، وللفتنة حاسما. ووقاك الله سعي الساعين بالأذى، ودعاء الداعين إلى القطيعة، وإرجاف المرجفين بالكذب، وإسراف المسرفين في الكيد، ومشي الماشين بالنميمة.
فقد كان يقال إن صاحب القلب الذكي، والحكم الراجح ، والبصيرة النافذة؛ خليق أن يحذر الساعين إليه بالناس، وأن يقدر أنهم إن يسعوا إليه اليوم فقد يسعون به غدا، وإن يكيدوا لخصمه عنده، والأيام مقبلة عليه، فقد يكيدون له عند خصمه، والأيام مدبرة عنه. وكان يقال إن الدهر قلب، وإن الأيام لا تؤمن، وإن الزمان كلف بالغدر، موكل بالمساءة، يبسم ليعبس، ويعبس ليبسم! وكان يقال إن الرجل الحذر خليق ألا يؤتى من مأمنه، وسبيله إلى ذلك ألا يطمئن إلى الأيام، ولا يستريح إلى الدهر، وأن يستقبل النعماء مقدرا أنها قد تزول عنه، وأن يستقبل البأساء مقدرا أنها الغمرات ثم ينجلين!
وإذا كان الحزم للرجل اللبيب ألا يأمن الأيام، ولا يطمئن إلى الدهر، فأحزم من ذلك ألا يأمن الناس، ولا يستريح إليهم ... فهم يسعون إلى الرجل ذي السلطان والبأس؛ رغبا إليه أو رهبا منه، يلتمسون عنده الخير، ويبتغون إليه الوسيلة، ويسلكون إليه السبل حراصا على أن يخلو لهم وجهه، ويصفو لهم وده، ويخلص لهم ضميره، فتغمرهم نعمته، وتعدوهم نقمته، وهم يعلمون أن صاحب السلطان والبأس لا بد له من أن ينعم، فهم يحرصون على أن يستأثروا بأنعامه، ولا بد له من أن ينتقم، فهم يجهدون في أن يصرفوا نقمته عن أنفسهم. وهم في كل ذلك يطلبون إلى صاحب السلطان والبأس أكثر مما يطلبون إلى أنفسهم، ويأخذون منه أكثر مما يعطونه؛ يطلبون إليه أن يخصهم بصفو نفسه، وصدق وده، وشامل معروفه، ولا يعطونه من أنفسهم إلا الكدر والرنق، ولا يمنحونه من ودهم إلا التكلف والرياء، ولا يهدون إليه من معروفهم إلا تربص الدوائر به، وانتهاز الفرص فيه، وانتظار اليوم الذي يتحولون فيه عنه إلى من ينافسه ويناوئه. فهم يعرضون قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، وضمائرهم للبيع، ويقبلون ما يعرض عليهم لها من ثمن. فأي الناس أرضاهم مالوا إليه، وأي الناس قصر في إرضائهم انحرفوا عنه، وتألبوا عليه!
ثم هم بعد ذلك لا يحفظون ودا، ولا يرعون حرمة، ولا يذكرون جميلا. وإنما يسرع النسيان إلى قلوبهم فيمحو منها كل ذكرى، ويلقي بينها وبين ما قدم إليهم من الخير، والمعروف حجبا وأستارا. ثم هم بعد ذلك لا يكتفون بالنسيان، ولا يقنعون بنكران الجميل، وكفر النعمة، وإنما يضيفون شرا إلى شر، ونكرا إلى نكر، وجحودا إلى جحود. قد أقاموا حياتهم على الكذب، وأجروا سيرتهم على الرياء، وطووا ضمائرهم على النفاق. فهم لا يستطيعون أن يعيشوا بأنفسهم، وإنما يستمدون حياتهم من المنعمين عليهم، المحسنين إليهم، ومن المغترين بهم، والمنخدعين لهم ... فهم يتملقون من أتيح له السلطان، يسعون إليه من كل سبيل، ويسلكون إليه كل طريق، يرقون إليه على أعناق سادتهم الذين أحسنوا إليهم، وبروا بهم، وغمروهم بالمعروف، لا يتحرجون من غدر، ولا يتأثمون من نكر، قد استحبوا المنافع العاجلة على المنافع الآجلة، وآثروا المكر على الإخلاص، والغدر على الوفاء. فخليق بصاحب السلطان أن يعرفهم حق معرفتهم، وأن يضعهم حيث وضعوا أنفسهم، وأن يخشى أن يمكروا به كما مكروا بمن كان من قبله، وأن يتخذوه وسيلة إلى التماس المنافع عند غيره كما اتخذوا من كان قبله وسيلة إلى التماس المنافع عنده!
وهذا الصنف من الناس - أيدك الله - رذل الطبع، موبوء القلب، مدخول الضمير، لا يحسب لشيء حسابا، ولا يرجو لأحد وقارا، لا يفرق بين خير وشر، ولا يميز عرفا من نكر، وإنما الخير ما انتهى به إلى ما يريد، والشر ما حال بينه وبين ما يريد، وإنما العرف ما أداه إلى غايته، والنكر ما باعد بينه وبين غايته، فليس للفضيلة عنده وزن، وليس للخلق الكريم في نفسه قدر، وهؤلاء الناس ينتهي بهم مراسهم للكيد، وإمعانهم في المكر إلى أن يستعذبوا الإثم، ويستحبوه، وإلى أن يكذبوا حبا في الكذب، ويشوا إيثارا للوشاية. يجدون في ذلك رضى لنفوسهم التي لا ترضى إلا بالشر، ولا تنعم إلا بالوقيعة، ولا تستريح إلا إلى الإفساد بين الناس.
وقد أدب الله - عز وجل - رسوله
صلى الله عليه وسلم
فأحسن تأديبه، ونهاه، ونهى المسلمين معه عن طاعة كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم، فما أجدر المسلم الذي ينظر لأمر دينه كأنه يموت غدا، ولأمر دنياه كأنه يعيش أبدا، أن يتأدب بهذا الأدب الذي أدب الله به الأنبياء، والصديقين، والأبرار الصالحين.
والوشاية - جنبك الله شرها، وعصمك من نكرها، ورد عنك أذاها، وصرف إلى عدوك شباها - تكون على ضروب مختلفة، وألوان مفترقة؛ فمنها ما امتحن به نابغة بني ذبيان في قصر النعمان، وذلك حيث يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وحيث يقول:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وتلك التي تصطك منها المسامع
فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقط في أنيابها السم ناقع
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع!
ومنها وشاية بين الصديق والصديق، وبين الأليف والأليف تحول الصفاء جفاء، والمودة عداء ... ومنها الوشاية بين الحبيبين تلك التي قال فيها الشعراء فأجادوا، وأحسنوا.
والقول في شكوى المحبين من وشاية الوشاة، وعذل العذال، ورقابة الرقباء، خليق أن يطول، وتلتوي مذاهبه، ولكني - أيدك الله - لم أكتب إليك في ذلك، ولم أرد أن أظهرك عليه. وإنما هو شيء عرض أثناء الحديث فألممت به إلماما ... وأعود إلى ما بدأت به من تحذيرك سعي الوشاة إليك، وسعي الوشاة بك، فأذكرك - وما أنت في حاجة إلى التذكرة - بما ترجم ابن المقفع في كليلة ودمنة، وبما روى الرواة عن ملوك العرب والعجم، وبما قالت الحكماء في ذلك من بارع الموعظة، وروائع الحكم. وأنت - حفظك الله - حين تنظر في بعض ذلك خليق أن تستقبل أمرك بالحزم، وأن تقيم سيرتك على الحذر، وأن تسوس أصحابك بالتحفظ، وألا تمضي من أمرك ما تمضي، ولا تدع منه ما تدع، حتى تروي فتطيل الروية، وتستبصر فتحسن الاستبصار.
ومن حقك على نفسك، ومن حق الناس عليك، أن تتهم الذين يسعون إليك، ويطيفون بك. فإن اتهام فريق من الناس، والتثبت قبل الاستجابة إلى ما يدعونك إليه؛ خير لك، وأسلم عاقبة من ظلم البريء، والإساءة إلى المحسن، والإحسان إلى المسيء، والتجاوز عن المجرم. وقد أمر الله - عز وجل - نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم أن يتثبتوا إن جاءهم فاسق بنبأ مخافة أن يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. والله - عز وجل - قد وضع في أعناق العلماء أن ينصحوا للحكام فيخلصوا في النصيحة، وأن يعظوهم فيحسنوا الموعظة، وأن يذكروهم بآيات الله كلما تعرضوا لنسيانها أو هموا أن يتحولوا عنها. ومن أجل هذا كتبت إليك ناصحا لك أمينا في النصيحة، وواعظا لك مخلصا في الموعظة، ومحذرا لك من الله الذي حذر الناس نفسه، ومذكرا لك بآيات الله الذي طلب إليهم أن يتذكروا آياته.
وما أجدر الذين يسوسون الناس، ويدبرون أمورهم، ويقضون في أنفسهم وأموالهم؛ أن يضعوا أمامهم صحيفة يلقون عليها نظرهم بين حين وحين، وقد كتبت فيها هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الحجرات:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم .
ذلك أحرى أن يعصمهم من المظالم، وأن ينزههم عن الكيد، ويجنبهم كثيرا من الظن، ويحملهم على ألا يأخذوا الناس بالشبهات.
رسالة القصد والغرور
يسرك الله للخير، ويسر الخير لك، وصرفك الله عن الشر، وصرف الشر عنك، ودلك الله على الحق، ودل الحق عليك، وساقك الله إلى الصواب، وساق الصواب إليك، وأشاع الله في قلبك الغبطة، وأسبغ على نفسك البهجة، وأنزل على ضميرك السكينة، ونقى دخيلتك من الموجدة والضغينة، وجعل ما ظهر من أمرك بشرا ويمنا، وما خفي من سرك دعة وأمنا، ووطأ كنفك للصديق المقارب، ومهد عفوك للعدو المجانب، ورفع مكانك عن كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وخفض جناحك للائذين بك، واللاجئين إليك، وثبتك على ما ركب في طبعك من إعطاء المحروم، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وتعزية الملتاع، والأخذ بيد الضعيف، والتجاوز عن إساءة المسيء، والإعراض عن جهل الجاهلين. •••
بهذا كله أدعو لك حين ألقاك، وحين أنأى عنك، وبهذا كله أدعو لنفسي حين أخلص لها خاليا إليها، وحين أشغل عنها نافرا منها، فالله يشهد ما أحببت إليها، وحين أشغل عنها نافرا منها، فالله يشهد ما أحببت لنفسي شيئا إلا أحببت لك مثله أو خيرا منه، وما كرهت لنفسي أو من نفسي شيئا إلا تمنيت أن يعصمك الله منه، وينزهك عنه، ويجنبك التورط فيه. فأنت رفيق الصبا، وصديق الشباب، وأنت شقيق نفسي، وأليف قلبي، والشريك في النعمة حين تظل، والحليف على النائبة حين تنوب، والمعين على الخطب حين يدلهم، والظهير على الأيام حين تحدث فيها الأحداث، وتتعقد فيها المشكلات. فما نصحت لك قط، ولا أشرت عليك، ولا رفقت بك إلا رأيتني لها ناصحا، وعليها مشيرا، وبها رفيقا.
وما أعلم أنك احتجت قط إلى نصح الصديق، ومشورة الخليل كما تحتاج إليهما الآن حين ارتفعت منزلتك عند أصحاب الشأن، وألقي إليك الخطير من أزمة الحكم، فطمع فيك الطامعون، وأشفق منك المشفقون، وانعقدت بك الآمال، ولاذت بك الأماني، وأصبحت من وفور النعمة بسطة الجاه بحيث لا تستقبل النهار، ولا تستقبل الليل، ولا تعبر ساعة من ساعاتهما أو لحظة من لحظاتهما إلا فكر فيك مفكر يريد أن يستظل بجناح من نعمتك أو يتقي طائفا من نقمتك، فأنت المرجو المخوف، وأنت المحبب المبغض، وأنت المرموق الموموق، وأنت المغبوط المحسود. وإذا بلغ الإنسان مثل ما بلغت من ارتفاع المنزلة، وعلو المكانة، وانبساط السلطان، وامتداد القوة كان خليقا أن ينأى بنفسه عن الغرور والتيه، ويبرئها من الصلف والكبرياء، ويحميها من الاندفاع في الثقة، والاعتداد بالحول والطول، والاستغناء بالثراء والبأس، ويذكر أنه قد قوي بعد ضعف، وأثرى بعد فقر، واستغنى بعد احتياج، وإن ضمائر الأيام تحفظ للناس من أسرار الغيب ما يحبون وما يكرهون، وتدخر لهم من الأحداث ما يعرفون وما ينكرون. فمن أتيحت له القوة قد يقدر له الضعف، ومن مكن له في الأرض قد تنبو به الدار، ومن ابتسمت له الأيام قد يعبس له الدهر. النعمة وديعة في أيدي أصحابها قد يطلبها من استودعهم إياها، والقوة عارية في أيدي الأقوياء قد تؤخذ منهم لترد على الضعفاء، والله - عز وجل - يقول:
وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وقد قال الشاعر القديم:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
فأحذرك أول ما أحذرك أيها الأخ الصديق، والخليل الشفيق، الاعتداد بالنفس، والاغترار بالحول والطول، والانخداع بابتسامات الدهر، فإنها قد تصدقك اليوم لتكذبك غدا، فاحذر نفسك أول ما تحذر، وأشفق عليها منها قبل أن تشفق عليها من الناس، واذكر قول الله - عز وجل - في قصة يوسف عليه السلام:
وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
فلا تنفذ لنفسك أمرا تتلقاه منها حتى تتدبره، وتفكر فيه فتطيل التفكير. ومهما يواتك الحظ فاذكر حالك قبل أن يواتيك، وقدر أنك قد تعود إلى مثل ما كنت فيه، واذكر رأيك في أصحاب الرأي قبل أن تكون منهم، ونقدك لهم، وحكمك عليهم قبل أن ترقى إلى مكانك بينهم. واعلم أن الناس يقولون فيك مثل ما كنت تقول فيهم، ويحكمون عليك بمثل ما كنت تحكم عليهم. واذكر في أول ما تذكر أن لك ضميرا يرضى ويسخط، ويعرف وينكر، ويحمد ويذم، وأن أعباء الحكم قد تشغلك عنه أو تشغله عنك؛ ما امتدت لك أسباب القوة. ولكنك ستفرغ له كما أنه سيفرغ لك ذات يوم أو ذات ليل، فاحرص على ألا تسمع منه إلا خيرا. •••
وأنت بعد ذلك محتاج إلى نصح الصديق، ومعونة الخليل فيما أحدث الحكم بينك وبين الناس من صلات، فأنت تدبر أمورهم، وترعى مرافقهم، تسوسهم باللين حينا، وتسوسهم بالشدة أحيانا. فأنت تطمع وتخيف، وأنت تشيع الرعب، وتشيع الرهب، وأنت تمد أسباب الرجاء، وترسل إلى القلوب صواعق اليأس. فالناس بين مبتغ إليك الوسيلة، ومتربص بك الدائرة، ومنتهز فيك الفرصة. كلهم يظهر لك المودة، وأكثرهم يضمر الموجدة عليك، ويطوي قلبه لك على شر ما تطوى عليه القلوب .
وأخوف ما أخاف عليك من الناس؛ سعيهم عندك بالنميمة، ومشيهم إليك بالوقيعة، وابتغاؤهم رضاك بالوشاية. فالناس يبتغون إلى الحاكم كل وسيلة، ويتقربون إليه من كل سبيل. يتنافسون فيما عنده، ويغريهم ذلك بأن يكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، ويتكذب بعضهم على بعض، كلهم يريد أن ينال من الحكومة أكثر مما ينال غيره من النظراء، وهم من أجل ذلك في هم مقيم، وتحاسد متصل، وتباغض ملح، يسعون إلى آمالهم بما يستقيم من الطرق وما يعوج، وبما يباح من السيرة وما يحظر، وبما يحسن من القول والعمل وما يقبح، يتبادلون المساءة فيما بينهم، ولكنهم يختصونك بشر ما يتبادلون من النكر والسوء، ويفسدون قلبك على الناس فيفسدون قلوب الناس عليك، ويسيئون رأيك فيهم فيسيئون رأيهم فيك. ثم ينتهون آخر الأمر إلى أن يفسدوا عليك أمرك، ويسيئوا رأيك في نفسك، ويباعدوا بينك وبين ضميرك، وينغضوا عليك راحة الليل، ونشاط النهار. •••
وإذا أوجب عليك أن تحذر نفسك، وأن تحذر الناس، فقد يستبين لك أن الحكم نقمة لا نعمة، ومحنة تبتلى بها النفوس، وتفتن بها القلوب، وتمحص بها الضمائر، فهو عناء لا راحة، وهو شقاء لا سعادة، وهو قلق لا هدوء، وهو خوف لا أمن. واذكر - أصلحك الله - أيام كنا نلتقي فنذكر فلانا وفلانا من الحكام الذين سبقوك، نعيبهم كثيرا، ونثني عليهم قليلا، ونرثي لهم دائما، ونتمنى للصديق منهم أن يجلي الله عنه الغمرة، ويفرج عنه الكربة، ويحط عنه أعباء الحكم وأوزاره، ويرده إلى الحياة الحرة السمحة التي لا يحمل الإنسان فيها إلا أوزار نفسه، والتي لا يثقل الإنسان نفسه فيها بأوزار الناس، وما أكثر أوزار الناس!
ولقد تبسم راضيا أو ساخطا حين تعلم أني أكتب إليك هذه الرسالة، وفي نفسي من الحب لك، والرفق بك، والإشفاق عليك، ما يحملني على أن أسأل الله لك العافية، وأتمنى عليه أن يضع عنك إصر الحكم وأغلاله، وأن يردك إلي من هذه المحنة سالما موفورا، وقانعا من الغنيمة بالإياب. فخير غنيمة للحاكمين أن يخرجوا من الحكم أتقياء كما كانوا قبل أن يدخلوا فيه، لم يغنموا منه إلا سلامة بالإياب.
رسائل وقعت لي لم أعرف، على طول البحث وشدة الاستقصاء، كاتبها ولا من كتبت إليه.
رسالة إلى ...
لست أدري كيف أدعوك! فقد كنت فيما مضى من الأيام أدعوك بالأخ العزيز، والصديق الكريم، وأنا أخشى أن أسوءك، وأن أسوء الحق أن دعوتك بهاتين الصفتين؛ إحداهما أو كلتيهما.
أخشى أن أسوءك بإثارة الحزن، والأسى في نفسك، وبإثارة الندم فيها أيضا، فأنت تعلم أنك لم تبق لي أخا عزيزا لأنك ألغيت هذا الإخاء، ولا صديقا كريما لأنك قطعت أسباب هذه الصداقة. وقد يسوءك تذكيرك بما مضى، وقد يحزنك ردك إلى ما سلف، وقد يشق على نفسك أن تتبين أن لا سبيل إلى استدراك ما فات، ولا إلى استئناف ما فرط، فلأمر ما أرسل القدماء مثلهم المعروف «سبق السيف العذل».
وقد يثير الندم في نفسك إن تصدقك الذكرى بعد أن بعد العهد، وسكت الغضب، ورضيت الأطماع، وتغيرت الظروف، فتنبئك بأنك قد تجنيت في غير موضع للتجني، وتكلفت القطيعة في غير مقتض لتكلفها، وأقدمت عليها حين كان كل شيء يدعوك إلى أن تحجم عنها، وترفع نفسك عن إثمها ...
نعم لست أدري كيف أدعوك! فلست أريد أن أسوءك، ولست أريد أن أسوء الحق، فالحق يعلم أنك كنت لي أخا عزيزا وصديقا كريما، ثم ألغيت الإخاء إلغاء، ومحوت الصداقة محوا. وما أحب أن أدعوك سيدي كما تعود الناس أن يدعوا من ليس بينهم وبينه صلة من مودة أو إخاء، فإني أشق على نفسي، وأكلفها أكثر مما تطيق أن دعوتك بهذا الاسم، وقد أشق على شيء هو أكرم علي من نفسي، وإن لم يكن عليك كريما، وهو الذكرى.
ولعلك لم تنس بعد ما كنا نتحدث به أيام الصفاء من أننا قد بلغنا السن التي يحرص الناس فيها على الذكرى كما يحرصون على أنفس الكنوز؛ لأنها خير من كل ما بقي لهم، أو هي خير ما بقي لهم من حياة قد مضى أكثرها، ولم يبق إلا أقلها، وليس إلى استئنافها من سبيل.
وكنا نقول في أيام الصفاء تلك أنا قد بلغنا السن التي يحتفظ فيها الرجل الكريم بشيئين أشد الاحتفاظ، ويحرص عليهما أعظم الحرص، ويضن بهما أكثر مما يضن البخيل بماله؛ وهما الذكرى التي تستبقي له حياته أو ما يمكن استبقاؤه من هذه الحياة، والصداقة التي تصل بينه وبين الدنيا حين تنقطع الأسباب بينه وبين الدنيا كلما مرت ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكنا نتواصى في أيام الصفاء تلك بأن يخلو كل واحد منا إلى نفسه ما استطاع، فيستحضر الماضي كله، ويعصره عصرا ليستخلص منه ما يستطيع أن يستخلصه من الذكرى، وليسجله في كتاب حتى لا تعبث به الأحداث، وحتى لا تذهب به الأيام، وحتى لا تمحوه هذه الشيخوخة التي تسرع إلينا أو نسرع إليها، والتي تفني كل شيء فينا قليلا قليلا، فكنا نريد أن نستخلص الذكرى من الأحداث والأيام والشيخوخة، ونكرها على البقاء؛ لأننا نجد العزاء كل العزاء في الرجوع إليها، والاستماع لما تقص علينا من أحاديث أنفسنا، والاستمتاع باستحضار ما عملنا، وما لا نستطيع أن نعمل.
وكنت أحبك أشد الحب، وأوثرك على الناس جميعا، وأوثرك على نفسي قبل أن أوثرك على الناس. وكنت تحبني أشد الحب، وتؤثرني على الناس جميعا، وتؤثرني على نفسك قبل أن تؤثرني على الناس. وكان كل واحد منا حريصا من أجل ذلك على أن يعرف من أمر صاحبه كل شيء.
كنت أنت قد بلغت الثلاثين، وكان بيني وبينها أعوام قليلة حين التقينا، وحين اصطفى كل واحد منا صاحبه على غيره من اللدات والأتراب. ومنذ ذلك الوقت لم يخف على أحدنا من أمر صاحبه شيء. ولكن كلا منا كان يجهل صبا صاحبه وشبابه، وكان يحرص على أن يعرف صبا صاحبه وشبابه. وكنا نتواصى في أوقات الصفاء تلك بأن نستقصي فنحسن الاستقصاء، وبأن نحصي فنتقن الإحصاء، وبأن نسأل الأهل عما كان من أمر طفولتنا حتى لا يفوت أحدنا من أمر صاحبه قليل أو كثير. كان كل واحد منا حريصا على أن يعمر قلبه بصورة من صاحبه كاملة إلى أقصى ما يتاح للأشياء الإنسانية من الكمال.
أتذكر هذا كله، أم نسيته كما نسيت كثيرا غيره من الأشياء؟ أما أنا فأذكره كما أذكر نفسي، وأنعم به كما أنعم بنفسي، وأشقى به كما أشقى بنفسي أيضا. فأنت تعلم أن الإنسان المتفكر يجد في نفسه ينبوعين يفيض أحدهما بالسعادة، ويفيض ثانيهما بالشقاء.
لم أنس من هذا كله شيئا، ولن أنسى من هذا كله شيئا، وسأنعم بهذا كله فأجد شقاء في هذا النعيم لأنه لا يزداد ولا ينمو، ولا يتجدد، وسأشقى بهذا كله فأجد نعيما في هذا الشقاء؛ لأنه يستبقي لي سعادة قد بلوتها فحمدت بلاءها، وما زلت أذوقها، وأحرص على استبقاء هذا المذاق.
كل هذا أقوله لأني لا أدري كيف أدعوك ... فلست أخي العزيز، ولست صديقي الكريم لأنك لا تريد أن تكون هذا ولا ذاك، ولست سيدي؛ لأني لا أريد أن أدعوك بهذا اللفظ السخيف الفارغ الذي لا يدل على شيء. وما حاجتي إلى أن أدعوك! وما حاجتك إلى هذا الدعاء! وما يمنعني أن أكتب إليك دون أن أبدأ رسالتي بما تعود الناس أن يبدءوا به رسائلهم من هذه الألفاظ. إنك لتفهم عني، وإن لم أدعك، وإني لأوجه إليك القول، وإن لم تسمع دعائي. وما حاجتي إلى أن أدعوك، وأنا لن أرسل إليك هذا الكتاب في بيتك في القاهرة، أو في مصيفك في الإسكندرية، أو غيرها من مصايف مصر، فلست أعرف أين تصطاف، وقد مضى زمن كنت أسأل فيه عنك في أي فصل من فصول السنة، وفي أي شهر من شهورها، وفي أي يوم من أيام الشهر، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، فأعرف أين تكون ... وأدل سائلي على مكانك من دارك، أو مكتبك، أو ناديك، أو ما شئت من هذه الأماكن التي كنت تضطرب بينها، وتختلف إليها. فأما الآن فأنا أجهل من أمرك كل شيء إلا هذه الأنباء التي أقرؤها في هذه الصحيفة أو تلك.
فأنت رجل تتحدث عنه الصحف فتكثر الحديث، وتروي أنباءه فتحسن رواية الأنباء. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرفه كل قارئ للصحف، ولا ألقاك إلا حين تفرض علينا ظروف الحياة أن نلتقي في هذا الحفل أو ذاك. وقد يقبل أحدنا على صاحبه مكرها فيهدي إليه تحية فاترة ملؤها الاستحياء أو الاستخذاء، وفيها كثير من التعجل، وفيها كثير الرغبة في أن يطرأ طارئ أو يقبل مقبل أو يكون شيء من هذه الأشياء الكثيرة التي يفترق لها الناس بعد اجتماع، ويشغل بها بعض الناس عن بعض في هذه المواطن التي يقوم الأمر كله فيها على التكلف، والتجمل، والرياء. ولا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا كما يلقى بعض الناس بعضا في هذه الاجتماعات السخيفة البغيضة التي تسوء أكثر مما تسر، وتغيظ أكثر مما ترضي، والتي لا أشهدها إلا رجعت منها بالسخط على نفسي، وعلى الناس.
أتذكر؟! لقد كنا نتحدث في ذلك فنطيل الحديث، نضحك منه كثيرا، ونحزن له كثيرا، ونسخر منه دائما. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا في هذا الفصل الذي يلتقي الناس فيه حول مائدة من موائد الشاي أو موائد الطعام. لا أسمع صوتك في التليفون قبل أن يرتفع الضحى، ولا أسمع صوتك في التليفون حين يتقدم الليل، ولا تسعدني زيارتك حين أقيم، ولا تؤنسني رسائلك حين أغترب. ومن أجل ذلك أكتب إليك دون أن أضع عنوانك على هذا الكتاب، ودون أن أسلم هذا الكتاب إلى البريد؛ لأنا فقدنا عادة المكاتبة كما فقدنا عادة التزاور، وكما فقدنا عادة الحديث بالتليفون. وأنا مع ذلك أكتب إليك، وأسلم كتابي إلى مجلة الهلال؛ لأني واثق بأنه سيصل إليك دون أن تعرف مجلة الهلال لمن أكتب أو إلى من أسوق الحديث! ودون أن يعرف أحد من قراء الهلال لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث، إلا أنت، فستعرف حق المعرفة لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث.
ستقرأ هذا الكتاب ما في ذلك شك؛ لأنك تقرأ كل ما أكتب كما أقرأ أنا كل ما تكتب، فأنت مريض بي كما أني مريض بك، لا نلتقي، ولا نتزاور، ولا نتحدث، ولكننا نتصل على رغم هذا كله اتصالا يشوبه الرضى حينا، ويشوبه السخط حينا، ويشوبه الحزن دائما.
ستقرأ هذا الكتاب، وستعلم أنه موجه إليك، وسترى نفسك فيه فتنكرها أشد الإنكار، وتود لو تجهلها، ولو تستطيع أن تفلت منها، وستحاول ذلك ما وسعتك المحاولة، ولكنك لن تبلغ من ذلك شيئا.
فهناك شيئان لا يستطيع الإنسان أن يفلت منهما مهما يجهد، ومهما يحاول ... لا يستطيع الإنسان أن يفلت من نفسه، ولا يستطيع الإنسان أن يفلت من ملك ربه كما يقول أبو العلاء.
سترى نفسك في هذا الكتاب، وستنكرها أشد الإنكار، وسيلذع الندم قلبك على ما أضعت من حق، وما بددت من مودة كان يجب عليك أن تحتفظ بها، ولكنك ستتكلف النسيان، وستنسى أحيانا، وسيعود إليك الندم فيعذب قلبك عذابا شديدا. إنك تود لو تستطيع أن تصل ما انقطع من الأسباب، وتجمع ما تفرق من الشمل، ولكنك ستجد بينك وبين هذا أمدا بعيدا لا سبيل إلى قطعه، وهوة سحيقة لا سبيل إلى عبورها، فالدواعي التي دفعتك إلى القطيعة ما زالت قائمة لم تمحها الظروف بعد، وستمحوها الظروف من غير شك غدا أو بعد غد، ولكنك حينئذ ستستحي من التفكير في وصل ما قطعت من سبب، وجمع ما فرقت من شمل، وستؤثر الموت على العودة إلى صديق قطعت أسباب وده طلبا للمنفعة، وتهالكا على أعراض الحياة، ورغبة في الوصول إلى ما كانت نفسك تتقطع عليه حسرات.
لقد كنت تجهل نفسك جهلا شديدا، وما أرى إلا إنك تجهل نفسك جهلا شديدا، وإن كنت قد بلغت سن «الشيوخ»، وليس عليك من ذلك بأس؛ فالحكمة التي كتبت على معبد دلف لم تكتب عبثا ... طلبت إلى الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه، وقد اجتهد سقراط في أن يستجيب لهذه الحكمة، وفي أن يعرف نفسه، فلم يبلغ ما أراد. وما أحسبك أذكى قلبا، ولا أمضى عزما، ولا أشد جلدا من سقراط.
لقد كنت تجهل نفسك. كنت ترى نفسك رجلا خيرا مؤثرا، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يكون خيرا، ولكنه ليس من الإيثار في شيء، وإنما هو من الأثرة في كل شيء!
كنت ترى نفسك زاهدا في متاع الدنيا، وأعراض الحياة، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يرتفع بنفسه عن المتاع الدنيء، والأعراض المخزية، ولكنه يتتبع الثراء ما استطاع إليه سبيلا، والجاه ما وجد إليه مسلكا، وغرور المنصب ما أتيح له هذا الغرور ... يؤثر هذا كله على كل شيء حتى على الوفاء، وعلى كل إنسان حتى على الأخ العزيز، والصديق الكريم. إنك «أديب»، ولكنك تحب الأدب السهل، وتكره الأدب العسير. ولم يكن شيء يغيظك في أيام الصفاء تلك كما كان يغيظك تحدثي إليك عن بعض آيات الأدب الرفيع. كنت تراني أعيش في السحاب، وكنت تطلب إلي أن أهبط إلى الأرض، وكنت تشكو إلي ما أشق به عليك من هذه المعاني التي لم نألفها في شعر شعرائنا، ونثر كتابنا، ومن هذه الآمال التي لم نألفها في حياتنا المتواضعة الراكدة.
فدعني أشق عليك مرة أخرى ببعض هذا الأدب الرفيع الذي كنت تضيق به أشد الضيق. وعلم الله ما كتبت إليك لأشق عليك، ولكن هذا الأدب الرفيع قد يظهر الناس على نفوسهم أحيانا، وأنا أحب أن أظهرك على بعض نفسك لعلك تتذكر أو تخشى، ولعلك تستقبل أيامك بغير ما تعودت أن تستقبلها به إلى الآن. إني أقرأ في قصة تمثيلية لشاعر يوناني لست في حاجة إلى أن أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء. أقرأ في هذه القصة اليونانية حديث أم إلى ابنها، وقد لقيته بعد نفي طويل ... فهي تسأله عن حياته في المنفى، وتقول له فيما تقول: ألم يعنك أصدقاء أبيك، وهؤلاء الذين نزلت عليهم ضيفا؟ فيجيبها: يجب أن يكون الإنسان سعيدا ليجد مودة الأصدقاء، فإن الأصدقاء لا يغنون عن الصديق البائس شيئا.
وأقرأ في قصة فرنسية لكاتب لا أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء، إن الصداقة تقف الإنسان عن أن يتقدم إلى أمام، وقد ترجع به أحيانا إلى وراء . فمن الخير ألا يستبقي الإنسان صداقة تمنعه من الرقي إلى ما يطمح إلى تحقيقه من الآمال.
أرأيت لم يهجر الصديق الصديق؟ أرأيت لم يعرض الخليل عن ود الخليل؟ أرأيت لم قال الشاعر العربي القديم:
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
عد الآن إلى نفسك، وسلها: متى رثت أسباب الود بينك وبيني، ومتى انقطعت هذه الأسباب؟ ... فستفهم كل شيء، وستعرف من أمر نفسك ما خفي عليك. والله يداول الأيام بين الناس، والأرض تدور، والظروف تتغير، وسترى قوما يألفونك الآن، ويتهالكون عليك كما يتهالك الذباب على الطعام الشهي. ستراهم حين يتم الزمن دورة من دوراته، وحين يبدل الله من قوم لقوم، وحين تذهب ظروف، وتأتي مكانها ظروف أخرى، وقد انصرفوا عنك كما انصرفت أنت عن بعض الناس، وتنكروا لك كما تنكرت أنت لبعض الناس. فإذا مضت الأيام استحيوا منك كما تستحي أنت الآن من بعض الناس.
صدقني إني لا أعرف الرجل الكريم حقا إلا بخصلة واحدة، هي أن يتجنب فيما بينه وبين الناس من صلة، ما من شأنه أن يخزيه أمام نفسه ... فالرجل الذي لا يخزى أمام نفسه خليق ألا يخزى أمام الناس، والرجل الذي يكره أن يستحي أمام ضميره حين يجنه الليل، ويسكن من حوله كل شيء؛ خليق أن يتجنب ما يضطره إلى أن يستحي من الناس.
صدقني إن نفوس الناس معادن، ومن المعادن ما يعلوه الصدأ، ومنها ما لا يجد الصدأ إليه سبيلا. وكم كنت أتمنى أن تكون نفسك أصفى وأنقى وأقوم، وأمتن من أن يعلوها الصدأ أو تعبث بها الخطوب. ولكن لا بد مما ليس منه بد، ولا سبيل إلى إصلاح ما أفسدت الأيام! •••
أفهمت الآن لم لم أرسل كتابي إليك؟ ... أفهمت الآن لم لم أعرف كيف أبدأ كتابي إليك؟ وهناك شيء آخر أحب أن تفهمه، فقد يكون في فهمك إياه بعض هذا العزاء الرخيص؛ لماذا كتبت هذا الكتاب، وقد انقطعت الأسباب بينك وبيني، ولماذا نشرت هذا الكتاب في الهلال؟! لسبب يسير جدا، وهو أن أمثالك في الناس كثيرون بل أكثر جدا مما تظن، فليس هذا الكتاب إلا مرآة لن تكون أنت الشخص الوحيد الذي يرى نفسه فيها.
قلب مغلق
لا تغضب، فلم أرد إلى إغضابك، ولو قد أردت إليه لما استطعته، ولا قدرت عليه، فأنت رجل متئد رزين، شديد الوقار، عظيم الحلم. لا يشبه حلمك بالبرد كما كان يصنع أبو تمام؛ لأنه ليس حلما حضريا مترفا، وإنما يشبه بثبات الصخر، واستقرار الجبال كما كان يصنع الفرزدق، لا لأنه حلم بدوي ساذج كحلم قيس بن عاصم أو الأحنف بن قيس أو معاوية بن أبي سفيان، بل لأنه حلم يأتي من هذا الحجاب الصفيق الذي ضرب بين قلبك وبين الأحداث والخطوب. فأنت رجل لا تبلغك الأحداث، ولا تصل إليك الخطوب. قد ألقيت بينك وبين حياة الناس أستار كثاف، وعشت أنت من دون هذه الأستار مشغولا بنفسك عن كل شيء، ومنصرفا إلى نفسك عن كل إنسان. يستطيع الناس من حولك أن يرضوا، ويسخطوا، وأن يثوروا، ويهدءوا، وأن يأمنوا، ويخافوا، وأن يتجهوا إليك ليشركوك في رضائهم وسخطهم، وليقسموا لك حظا من هدوئهم، وثورتهم، ولينعموا معك بالأمن إن أتيح لهم الأمن، وليستعينوا بك على الخوف إن سلط عليهم الخوف، ولكنهم لن يبلغوا من ذلك شيئا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يتجاوزوا ما ألقي بينك وبينهم من حجب، ولا ما أسدل بينك وبينهم من أستار. •••
إنما أنت رجل محصن، لا يبلغه العدو، ولا يصل إليه الصديق، واكاد أعتقد أن ليس لك عدو، ولا صديق. شغلت بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك؛ فلم يطمع فيك منهم طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فعل لما نالك منه شيء. والناس مع ذلك لا يرون شيئا من هذا الحصن المؤشب الذي حصنت فيه نفسك، ولا من هذه الحجب الصفاق التي قامت بينك وبينهم، ولا من هذه الأستار الكثاف التي ألقيت عليك من دونهم. وإنما هم يرونك مصبحا وممسيا، ويلقونك غاديا ورائحا، يقولون لك فتسمع منهم، وتقول لهم فيسمعون منك، يجاذبونك هذه الأطراف الرثة السخيفة التي يتجاذبها الناس حين يحيون في البيئة الواحدة، ويخضعون للنظام الواحد، ويشاركون في هذا العيش الذي يعيشه المتحضرون، فأنت قريب منهم كأشد ما يكون القرب، تمد إليهم يدك، ويمدون إليك أيديهم، ترد عليهم تحيتهم، ويردون عليك تحيتك. وأنت بعيد عنهم كأقصى ما يكون البعد، تلقاهم وكأنما تحلم بلقائهم، ويلقونك وكأنما يلقون ظلا لك مستعارا. بينك وبينهم أسباب مصنوعة، وصلات متكلفة لا تبلغ النفس، ولا تتصل بالقلب، فهي لا تثير في عقلك تفكيرا، ولا تثير في قلبك شعورا، لمكان هذا الحصن المؤشب الذي لا يرى، ولمكان هذه الأستار، والحجب الكثاف التي لا تحس. وما أدري أحاولت قط أن تعرف أم حاولوا هم قط أن يعرفوا طبيعة هذا الحصن المؤشب، ومادة هذه الحجب الأستار الكثاف. ولكن أنا قد حاولت، وكتب لمحاولتي النجاح والتوفيق. وأنا أكتب إليك لأعلمك من أمر هذا الحصن ما لم تعلم، وأعرفك من أمر هذه الحجب والأستار ما لم تعرف، وما يعنيني أن تنتفع بهذا العلم أو لا تنتفع، وأن تستفيد من هذه المعرفة أولا تستفيد. فلو قد أردت أن أنفعك أو أفيدك لخصصتك بهذا الكتاب من دون الناس، ولكنك ترى أني لم أرسله إليك، وإنما نشرته في الهلال لتقرأه أنت أو لا تقرأه، وليقرأه غيرك من الناس على كل حال. فمن حق الناس أن يعلموا أن بينك وبينهم حصنا مؤشبا، وحجبا صفاقا، وأستارا كثافا، وأن ينظروا لأنفسهم أيطمعون فيك، وينتظرون منك الخير، فيجب عليهم أن يحتالوا في اقتحام هذا الحصن، وإزالة هذه الحجب، وتمزيق هذه الأستار؛ أم يستيئسون منك فيجب عليهم أن يخلوا بينك وبين هذه العزلة التي اخترتها أو اختارتك، وأن يمضوا في طريقهم، ويسعوا إلى غايتهم لا يشغلون أنفسهم بك كما أنك لا تشغل نفسك بهم. •••
فما ينبغي أن يظل الناس من أمرك في هذه الحيرة المتصلة، يرونك واحدا منهم، ويقدرون أنك متضامن معهم في حمل أثقال الحياة، والنهوض بأعبائها، حتى إذا جد الجد افتقدوك فلم يجدوك، وإذا أنت سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده الحزن، واليأس، وخيبة الأمل، وكذب الرجاء. إنهم ينظرون فيرون غنى موفورا، ونعمة واسعة، وعيشا لينا، وثراء عريضا، وإنهم يسمعون فيقع في آذانهم صوت عذب ممتلئ تشيع فيه القوة، وتفيض منه الحرارة، ويحمل إلى قلوبهم ألفاظا حلوة رائقة شائقة، فيها كثير من أمل، وفيها كثير من وعد، وفيها إحياء للطمع الميت، وإيقاظ للطموح النائم، وإشعار بأن الناس قد خلقوا للتعاون والتضامن، وليظاهر بعضهم بعضا حين تنوب النوائب، وليشد بعضهم أزر بعض حين تدلهم الخطوب. ولكنهم يستقبلون من أمورهم ما يظلم وما يشرق، وينهضون من أعمالهم بما يخف، وما يثقل، ويلتمسونك ليستعينوا بك على تبديد الظلمة، ويبتهجوا معك بجمال النور المشرق، ويستمتعوا معك بحمل الأعباء الخفاف في فرح ومرح ونشاط، ويجهدوا معك بحمل الأعباء الثقال في صبر وأيد وحزن وثبات. يلتمسونك فلا يجدونك، أو هم يجدونك حين تشرق النعماء، ويفقدونك حين تظلم البأساء. أنت شريكهم في العيش الرضي، والحياة المقبلة، وأنت أبعد الناس عنهم حين يغلظ العيش، ويعظم البأس، وتدبر الحياة. تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم على أن ذلك حق لك لا ينبغي لأحد أن يردك عنه أو أن يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم - إن أتيح - بحظ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم، وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة، ساخطا عليهم ضيقا بهم، مزدريا لهم، ترى أنهم واغلون يشاركون فيما لا حق لهم أن يشاركوا فيه، ويأخذون مما لا حق لهم أن يأخذوا منه، ولعلك أن تردهم عن هذا النعيم إن استطعت لهم ردا، وأن تذودهم عن هذا الصفو إن استطعت لهم ذيادا. وأنت على كل حال تنظر إليهم شزرا، وتقيم معهم على مضض، تستأثر من دونهم بالكثير، وتحسدهم على ما يتاح لهم من القليل. فإذا أدبرت الدنيا، وأظلمت الحياة، واكتأب الأمل، وجد الجد، والتمس الناس المعين على ما يلم بهم من شقاء وبأس، آويت إلى حصنك هذا المؤشب، وألقيت من دونك هذه الحجب الصفاق، وأسدلت بينك وبين الناس من الأستار الكثاف، ونعمت بعزلتك نعمة هادئة مطمئنة، لا ينغصها منظر البؤس، ولا يكدرها صوت الشكاة، ولا يشوبها تفكير في البائسين، سواء منهم من احتمل البؤس صامتا صابرا جلدا، ومن احتمل البؤس صائحا صاخبا شاكيا إلى الله وإلى الناس.
ما طبيعة هذا الحصن المؤشب، وما مادة هذه الحجب والأستار؟ وكيف السبيل إلى أن يخرجك الناس من عزلتك هذه الراضية؟ لتسعد معهم إذا سعدوا، وتشقى معهم إذا شقوا، وتشاركهم في استقبال الحياة حين تشرق، وحين تظلم.
هذه هي المسألة التي حاولت أن أجد لها حلا، وأتيح لمحاولتي هذه شيئا من التوفيق.
إن حصنك هذا المؤشب يا سيدي، ليس إلا قلبك المقفل الذي لا ينفذ إليه شعور بالتضامن أو حاجة إلى التعاون، والذي لا تصل إليه رحمة حين يحتاج الناس إلى الرحمة، ولا رفق حين يحتاج الناس إلى الرفق، ولا رثاء حين يحتاج الناس إلى الرثاء. إنه قلب قد صور من صخر مجوف تستطيع أن تودعه كل ما شئت من أمل لا حد له، وطمع لا ينتهي إلى غاية، وجشع بشع له قرار، وشهوات جامحة لا سبيل إلى ضبطها، وطموح لا يحده إلا الموت، ولكنه على ذلك مقفل مصمت من جميع جوانبه، لا ينفذ إلى داخله أيسر الضوء، ولا أرق النسيم، ولا سبيل إلى تحطيمه لأنه أقسى، وأصلب من أن تبلغ منه المعاول. فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.
ولكن قلبك لا يتفجر منه نهر على الناس برحمة أو بر أو مودة أو إخاء، ولكن قلبك لا ينشق فتخرج منه قطرة تروي ظمأ الظامئ أو تخفف من لوعة المكروب، قد صور من صخر صلب صلد مصمت من جميع جوانبه.
ولم يكفك ما فطر عليه من صلابة، وصلادة، وإصمات، فوضعت عليه قفلا لا أدري أقصدت به الإغراق في التحفظ والاحتياط، أم قصدت به إلى التأنق، والزينة، وكيد الحسود، فهو قفل رشيق أنيق، تراه العين فتمتلئ النفس له إكبارا، وإعظاما، ويمتلئ القلب به إعجابا، وتتقطع الأفئدة له حسرات. قفل من ذهب نضار ترصعه ضروب الجوهر، والأحجار الكريمة النادرة، قد صاغته لك الأيام في كرها، والليالي في مرها، فأنت به معجب، وله مكبر، وعليه حريص. وأنت به مفاخر، حينا تظهره حتى يملأ النفوس حسدا وحقدا، وأنت به ضنين تخفيه حينا حتى تتقطع القلوب تشوقا إليه، وتفكرا فيه، وأنت في داخل هذا القلب الصلب الصمد المصمت ذي قفل الذهبي المرصع، هادئ لا تحس اضطراب من حولك من الناس، وادع لا تسمع اصطخاب من حولك من البائسين، قد أغمضت عينيك فلا ترى ما يسوءك، وقد سددت أذنيك فلا تسمع ما يؤذيك، وقد ألغيت حواسك كلها أو سخرتها لهواك فلا تحمل إليك إلا ما تحب، وأنت قد تفتح عينيك وأذنيك، وترهف حسك، فترى وكأنك لا ترى، وتسمع وكأنك لا تسمع، وتجد غلظ الحياة وقسوتها، وكأنك لا تجد شيئا. قد حصنت نفسك بهذا القلب الصخري الصلد الذي لا تعمل فيه المعاول، ولا ينفذ منه الضوء أو النسيم، وقد وضعت عليه هذا القفل الذهبي المرصع لتملأ القلوب الأخرى، التي لم تصور من صخر، وإنما صورت من لحم ودم حزنا ويأسا وحقدا وحسدا.
وأنت تنظر إلى هذه القلوب التي يحرقها الحزن، وتمزقها الحسرات في كثير جدا من التعالي والكبرياء، وفي كثير جدا من الاحتقار والازدراء. ولعلك تنعم بما ترى من الشر، ولعلك تسعد بما ترى من البؤس، ولعلك تقول لنفسك حين تتحدث إلى نفسك، وما أقل ما تتحدث إلى نفسك، لقد صرف عني هذا الشر، وعدل عني بهذا البؤس، وأريد أن أحيا هذه الحياة الحلوة التي تشتق حلاوتها مما يحيط بها من مرارة، اللينة التي يستخلص لينها مما يحيط بها من شدة، الناعمة التي يستصفى نعيمها مما يحيط بها من البأساء.
فلأنعم ما دام قد كتب لي النعيم، ولأسعد ما دامت قد أتيحت لي السعادة، وليبتئس غيري، وليشق ما دام قد كتب على غيري البؤس والشقاء.
حدثني، أليست هذه دخيلة نفسك حين تخلو إليها، إن خلوت إليها، وحين تشغل عنها بما تستمتع به لذة، وبما تجمع من ثروة، وبما تحقق من فوز؟
أليست هذه دخيلة نفسك التي لا تتحرج من أن تصارح بها حين يجري الحديث بينك وبين نظرائك، عما يملأ الأرض من بؤس وبغض وشقاء؟ بلى هذه دخيلة نفسك تخفيها كثيرا، وتظهرها قليلا، وتشغل عنها بلذتك، وثروتك في أكثر الأحيان، ولكن انظر، إنك ترى في الأرض أنهارا تجري، وينابيع تفيض، وإنك تستغل هذه الأنهار الجارية، وهذه الينابيع المتدفقة لتمعن في لذاتك، وتزيد إلى ثرائك ثراء، فهل علمت كيف تفجرت هذه الأنهار؟ وهل علمت كيف انشقت الارض عن هذه الينابيع؟ وهل علمت أن قلبك مهما يكن حظه من الصلابة، والصلادة، ومن الإصمات والقسوة، لن يستطيع أن يقاوم الأحداث، ولا أن يثبت للخطوب، ولا أن يحتفظ بهذا القفل الذهبي المرصع الذي علقته أو علقته لك الأيام عليه؟ •••
إن الحوادث والخطوب تعبث بالقلوب مهما تكن قسوتها، ومهما تكن أقفالها، وإن ساعة من الدهر تأتي على هذه القلوب الصلبة الصلدة المصمتة القاسية فتذيبها، أو تحيلها هباء تذروه الرياح. انظر! لقد كانت قبلك قلوب صلبة صلدة مقفلة قد احتبست من ألوان اللذة، والإثم، ومن ضروب الطمع والجشع، ومن خصال الأثرة والبخل ما لا يحصى، ولا يوصف. ثم أتت عليها هذه الساعة من ساعات الدهر فذهبت بها، وبأصحابها. وهذه الساعة آتية عليك وعلى قلبك، فذاهبة بك وبقلبك إلى حيث يذهب الناس، ثم لا يرجعون.
صدقني إن من الخير لك، ولمن حولك من الناس أن تحدث في قلبك هذه المصمت المقفل صدعا يسيرا ينفذ منه الضوء ليبدد بعض ما فيه من ظلمة، وينفذ منه النسيم ليطفئ بعض ما فيه من لظى. وصدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك من الناس أن تدير مفتاحك الذهبي في قفلك هذا المرصع، وأن تفتح قلبك، ولو قليلا ليصل إليه بعض ما في هذا العالم مما يثير الرحمة، ويشيع الرفق، ويعطف بعض الناس على بعض. •••
صدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تشعر من حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم قد خلقت من تراب، وستعود إلى التراب، وإن الذين يستوون قبل أن يدخلوا الحياة، ويستوون بعد أن يخرجوا من الحياة ليسوا في حاجة إلى أن يتمايز بعضهم من بعض، ويبغي بعضهم على بعض، في هذه الطريق القصيرة التي يسلكونها بين المهود واللحود.
من بعيد
لست أدري ما سؤالك عن هؤلاء النفر من أصدقائنا القدماء، إلا أن تكون نفسك في حاجة إلى شيء من الألم بعد أن أغرقت في اللذة، وإلى شيء من الحزن بعد أن أسرف عليها السرور. فأنت رجل قد أتيحت لك الحياة النائية الراضية، وقضت لك الأقدار أن تستقبل النهار مغتبطا حين يشرق نوره، وتستقبل الليل مبتهجا حين تدلهم ظلمته، وتنفق ما بين إسفار الصبح، وإظلام الليل في عمل هادئ مريح، وتنفق ما بين مغرب الشمس، وانتصاف الليل في فنون من اللذات تملأ النفوس بشرا، والقلوب حبورا. وكل شيء منته إلى السأم إذا اتصل، حتى الحياة الراضية، والنعمة السابغة، والعيش الهادئ المطمئن، فلست أنكر منك أن تمل هذا النعيم المقيم، وتطمع في الترفيه على نفسك بقليل من البؤس يأتيك من بعيد، وفضل من الحزن يعبر إليك البحر، ويبلغ نفسك الوداعة الهادئة، كأنه الصدى الضئيل النحيل، والناس يرفهون على أنفسهم كما يستطيعون، والله يقسم الحظوظ بينهم كما يريد.
قوم يتعزون عن النعيم المقيم، واللذة الملحة، بالحزن الطارئ، والألم الملم. وقوم يتعزون عن الشقاء المتصل، والبؤس اللازم، بالنسمات الخفاف اللطاف، يتنسمونها من الشمال والجنوب، إن أتيح لهم إن يتلقوا نسيم الشمال أو نسيم الجنوب. وفيك والحمد لله جموح وجنوح واعوجاج والتواء، وانحراف عن الجادة حين يطول عليك السير في الجادة، وطموح إلى الشر حين تتصل عليك صحبة الخير، ورغبة في البؤس حين يثقل عليك اتصال النعيم. وعلل نفسك إن شئت بما شئت، فقل إنك غريب تريد أن تتصل بذوي مودتك، وتتعرف من أنبائهم ما يخفف عليك ثقل الغربة، وقل إنك وفي لا تنسى الصديق، وقل إنك مؤثر لا تريد أن تنفرد بالسعادة والغبطة، وأن تشغل بنفسك في حياتك الجديدة الناعمة؛ عن الذين شاركوا في حياتك القديمة البائسة. قل ما شئت من ذلك فقد يصدقك غيري من الناس. فأما أنا فقد عرفتك حق المعرفة، وبلوت من سيرتك، وأخلاقك، ومن طبعك، ومزاجك، ما يعصمني من الخطأ في تقدير ما يصدر عنك، من قول أو عمل.
لست غريبا يسأل عن الصديق ليخفف عن نفسه ثقل الغربة، ولست وفيا يسأل عن الصديق ليبرهم، ويسرهم، ويؤذنهم بأنه لم ينسهم، ولن ينساهم. ولست مؤثرا يسأل عن الصديق ليشعرهم بأنه لا يريد أن ينفرد من دونهم، بما أتيح له من الطيبات، وإنما أنت رجل قلق لا يستقر على حال، سئوم لا يطمئن إلى لون من العيش، طلعة لا يستطيع أن يعيش إلا إذا أظهرته الأيام على جديد من الأمر، وأنت بعد هذا كله أثر لا تستمتع بالنعمة التي تتاح لك، إلا إذا عرفت النقمة التي تصب على غيرك، ولا تسيغ اللذة التي تسعى إليك إلا إذا استيقنت أن قوما غيرك يتجرعون من الألم غصصا، ويلقون منه أهوالا. •••
ولقد قرأت كتابك فسرني، وساءني، وفي كل شيء يأتي منك ما يسر، وما يسوء. سرني من كتابك أنك طيب النفس، قرير العين، رضي البال، ولست مثلك أحسد الصديق على ما يتاح لهم من الخير. وسرني من كتابك هذه السذاجة الظاهرة، التي تثير الابتسام، وتبعث الضحك، وتدعو إلى التأمل والتفكير. وساءني من كتابك أنك ماكر تتكلف السذاجة، وغادر تتصنع الوفاء، وخبيث الطوية تتعمل طيبة النفس، وواثق بنفسك إلى أبعد حدود الثقة، تظن أنك وحدك الماهر الماكر، وأن غيرك من الذين تكتب إليهم أغرار محمقون، لا يفهمون ما تضمر، ولا يفطنون لما تريد.
وما أريد أن أغير من أخلاقك شيئا، فليس إلى تغيير أخلاقك من سبيل، ولو تغيرت أخلاقك لضقت بك، وزهدت فيك، ورغبت عنك، فأنت كما أنت تعجبني، وترضيني؛ لأنك معقد النفس ، وأنا أحب النفوس المعقدة، أجد اللذة في حل تعقيدها، وكشف ما يصدر عنها من الرموز والألغاز. وقد أحب النفوس السمحة اليسيرة، وأكلف بما يصدر عنها من الكتب الواضحة الصريحة التي تصدر عن القلوب؛ لتصل إلى القلوب، والتي تملؤها العواطف الحادة، ويفيض فيها الشعور الدقيق، وتتيح للقلوب والنفوس أن يتصل بعضها ببعض في غير مشقة، ولا جهد، ولا عناء، ولكني على ذلك لا أكره النفوس الملتوية المعقدة التي تقول وتريد غير ما تقول، وتعمل وتقصد إلى غير ما تعمل، وتدعو الناس إلى أن يفكروا فيطيلوا التفكير، وإلى أن يرووا فيمعنوا في الروية؛ ليفهموا ما يصدر عنها من قول أو عمل، فعقد نفسك ما وسعك تعقيدها، والتو بقلبك ما استطعت إلى الالتواء به سبيلا، واكتب إلي عن هذه النفس المعقدة، وعن هذا القلب الملتوي ما شئت من الرموز والألغاز، فإني موكل بحل الرموز، وفك الألغاز.
وما أريد بعد هذا أن أبخل عليك بما طلبت إلي من أنباء هؤلاء النفر من أصدقائنا القدماء. فهم على خير ما تحب لهم نفسك المعقدة، وقلبك الملتوي، وهم على شر ما تكره نفوسنا السمحة، وقلوبنا المستقيمة من الأحوال. قد رفعتهم أعراض الحياة إلى أرقى الدرجات، وانحطت بهم حقائقها إلى الدرك الأسفل من الضعة، فهم سادة قادة، يدبرون، ويقدرون، ويأمرون، وينهون، وينفعون، ويضرون. وهم عبيد أرقاء، يملكون من أمور الناس كثيرا، ولا يملكون من أمور أنفسهم شيئا. •••
ولست أدري، أأنت كما عرفتك، محب للقراءة، منوع لما تقرأ، أم أنت قد شغلت بحياتك الجديدة عن القراءة وتنويعها؟ ولست أدري أقرأت قصة ذلك الفتى الذي أفاق من نومه ذات صباح، فإذا هو قد مسخ حشرة بشعة قذرة، كأبشع ما تكون الحشرات، وأقذرها، ولكنه احتفظ على ذلك بحظ من عقل، فهو يعرف ما صار إليه أمره، ويشقى به شقاء بغيضا، وهو يلقى أهله بعد جهد، فإذا هم محزونون عليه، منكرون له، ضائقون به، وهو يلقى الناس الذين يلمون بأهله بين حين وحين، فإذا هم نافرون منه أشد النفور، مبغضون لمنظره أشد البغض، وهو يعلم هذا كله، فتتأذى به نفسه، ويشقى به شقاء لا حد له، وما تزال الخطوب تختلف عليه، والأحداث تؤذيه في جسمه البشع، ونفسه البائسة حتى يستأثر به الموت ذات يوم، وقد هان على أهله، وعلى غيرهم من الناس فلم يحفل به حافل، ولم يلتفت إليه ملتفت، وإنما كان موته فرجا من حرج، وسعة من ضيق. •••
إن لم تكن قد قرأت هذه القصة فاقرأها، واستحضر أثناء قراءتها شئون مواطنيك عامة، وشئون هؤلاء النفر من الأصدقاء القدماء خاصة، فسترى في كثير من الحزن إن كنت خيرا، وفي كثير من الرضى إن كنت شريرا؛ أن كاتب هذه القصة كأنما كان ينظر إلى مواطنيك، وإلى هؤلاء النفر من أصدقائك، ويستمليهم قصته هذه البشعة المروعة، فكل شيء في حياتنا يذكر بالمسخ، ويلفت إليه، ويدعو إلى إطالة التفكير فيه. أتذكر أن وطنك العزيز، قد كان فيما مضى، وطنا مجيدا يهابه الأقوياء، ويستظل به الضعفاء، وطنا خصبا لا يؤثر نفسه بما أتيح له من الخصب، وإنما ينشر النعمة من حوله على غيره من الأوطان، لا ينشر هذه النعمة المادية وحدها، وإنما ينشر معها النعمة المعنوية التي تغزو القلوب والعقول، وتمد ضوء الحضارة إلى أبعد الآماد، أتذكر هذا كله؟ فانظر إلى وطنك الآن، كيف انزوى وتضاءل، وكيف هان أمره على نفسه، وعلى الناس، وكيف أصبح أضعف من أن يستقل بأيسر شئونه، وينهض بأهون أعبائه، وكيف أصبح قليل الخطر، هين الشأن، ينظر إليه الناس ضيقين به، أو مشفقين عليه. أتراه قد مسخ كما مسخ ذلك الفتى، أم تراه قد ظل كما كان مصدرا للخصب، والقوة، والمجد، والبأس، ولكن أهله قد مسخوا، كما مسخ ذلك الفتى، فأصبحوا لا يصلحون للعيش فيه، وأصبح هو لا يصلح لإيوائهم؟! •••
أتذكر هذا البيت الذي يرويه أبو العلاء في رسالة الغفران:
اعجبي أمنا لصرف الليالي
مسخت أختنا سكينة فاره
لقد كنا نضحك حين كنا نقرأ هذا البيت، فأما الآن فلو قد عبرت إلينا البحر، وشاركت في الحياة التي نحياها؛ لأنشدت هذا البيت غير ضاحك، ولا باسم، بل لأنشدت هذا البيت كما كان ينشده صاحبه، في كثير من الحزن والعطف والرثاء؛ لأنه كان يعتقد عن يقين أن أخته سكينة، قد مسخت فأرة، ولأنك سترى كما أرى، أن كثيرا من أخواتنا القدماء، قد مسخوا جرذانا أو حيوانات أخرى، ليست أحسن حالا من الجرذان. كل ما بينهم وبين هذه الجرذان من الفرق، هو أن أجسامهم قد احتفظت بصورها القديمة، فهي معتدلة القامة، تمتد طولا، وعرضا، كما تمتد أجسام الناس، لم يصبها المسخ، وإنما أصاب ما يعيش فيها من النفوس، وذلك أشد نكرا، وأعظم بلاء. وأي شيء أبشع من أن تتقمص نفوس الجرذان أجسام الناس!
صنع الله لصديقنا فلان! لقد كنا نراه ذكي القلب، أبي النفس، نافذ البصيرة، مستقيم الخلق، طموحا إلى الرفيع من الأمر، متنزها عن الدنيات، خرج من بيئته القديمة المتواضعة، فمضى أمامه هادئا مطمئنا، ناظرا دائما إلى أمام، غير ملتفت إلى وراء إلا قليلا، كأنما كان يريد أن يتبين طول الطريق التي قطعها، منذ فارق بيئته تلك، وكأنما كان يريد أن يعتبر بقديمه، ليستقبل جديده في غير غرور ولا كبرياء. وقد استقام له الأمر ما مضى أمامه هادئا مطمئنا، وكان خليقا أن يستقيم له لو أتيح له أن يمضي هادئا مطمئنا، ولكنه دفع في غير أناة، واختطف في غير ريث، ووثب إلى أرقى مما كان يطيق، فارتقى فجأة في غير إعداد ولا تمهيد، وانتهى إلى بيئة جديدة، قد بعدت الآماد، وتقطعت الأسباب، بينها وبين بيئته القديمة، فأصبح أشبه بالديك الذي يوضع موضع النسر، ويراد على أن يحلق في أشد الأجواء ارتفاعا، وليس هو من هذا التحليق في شيء، وإنما قصاراه شرف متواضع، يرقى إليه ليستقبل الصباح بالصياح، ولينفش ريشه كلما أتيح له أن ينفشه. فأما أن يرقى في أجواز السماء فلا؛ لأن جناحيه أضعف من أن يبلغا به هذه المنازل المسرفة في العلو. ولو قد رأيته كما أراه، ديكا يسير سيرة النسر، لضحكت قليلا، وبكيت كثيرا، فقد كان خليقا بمنزلة أخرى غير منزلة الديك ، وخلق آخر غير خلقه، ولكن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وقد انبت صاحبنا، فلم يقطع أرضا، ولم يبق ظهرا. •••
وعفا الله عن صديقنا فلان، لقد كنا نراه نقي النفس، طاهر القلب، صافي الطبع، مصقول الضمير، حريصا أشد الحرص، على أن يتبع الصراط المستقيم، لا ينحرف عنه إلى يمين أو إلى شمال، مهما تكن الظروف والخطوب. وكنا نعجب بحبه للاستقامة، وبغضه للاعوجاج، وكنا نضربه للقصد مثلا، ونراه للاعتدال نموذجا.
ولكن طريق الحياة لا تستقيم إلا لأولي العزم من الناس، أو قل إنها لا تستقيم لأحد، وإنما يكرهها أولو العزم من الناس على أن تستقيم، يقتحمون ما يقوم فيها من العقاب، ويرتفعون عما يعترض فيها من دواعي المحنة والفتنة والفساد. ولم يكن صاحبنا من أولي العزم، ولا من ذوي البصائر، وإنما كان رجلا طيب القلب، ومن طيبة القلب ما يكون ضعفا. فقد مضى في الطريق المستقيمة ما استقامت له، فلما انحرفت به انحرف معها، ولم يستطع أن يمتنع عليها، وقد نثرت الحياة أمامه أشواكا فأشفق منها، ونثرت أمامه أزهارا فتهالك عليها. نشرت أمامه الهول فخاف، ونصبت أمامه المغريات فاندفع، وما هي إلا أن تتصور نفسه بهذه الصورة المرنة اللينة، التي لا تثبت لشيء، ولا تمتنع على شيء، وإنما هي تجزع للنبأة اليسيرة، وتستجيب لأيسر المغريات، تفر عند الفزع، وتقبل عند الطمع، والغريب أنها على ذلك كله ترى في نفسها الخير، وتؤمن لنفسها بالحكمة، ومضاء العزم.
قيل لها ذلك فصدقته، واطمأنت إليه، ولم تنس إلا شيئا واحدا، وهو أنها تبعت أحداث الحياة، وتأثرت بها، في غير مقاومة، حتى أصبحت أشبه شيء بالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. وأشهد ما رأيت هذين الصاحبين القديمين، إلا رجعت من فوري إلى كتاب الحيوان للجاحظ، فقرأت فيه طرفا من احتجاج صاحب الكلب للكلب، وطرفا من احتجاج صاحب الديك للديك. •••
ورفق الله بصديقنا فلان، أتذكره؟ لقد كان في أول عهده بالشباب تقيا نقيا، وسمحا رضيا، حلو العشرة، عذب المنطق، حسن المدخل، سهل القياد. كنا نضحك من سلامة قلبه، وبراءة نفسه، وسذاجة عقله. كنا نغره فيغتر، وكنا نخدعه فينخدع، وكنا نضحك من استجابته لكل دعاء، وتصديقه لكل كلام. ولكن كنا نجهل أن من الحيات ما لا يعيش إلا في كثبان الرمل المتهيلة، التي لا تتلبد، ولا تتجمد، ولا تستطيع الأقدام أن تمضي فيها دون أن تغوص.
نعم، وكنا نجهل أن مظهر صاحبنا ذاك، لم يكن إلا كثيبا من هذا الرمل السهل اللين، الذي تغوص فيه الأقدام، ويعبث به أيسر النسيم، وأن في هذا الكثيب المهيب حية تهدأ فتحسن الهدوء ما جنها الليل، ثم تسعى فتحسن السعي ما أضاءت لها الشمس، وهي في أثناء سعيها وهدوئها موفورة السم، حديدة الناب ... تأزم فتحسن الأزم، ولا يدنو منها أحد، إلا أصابه من سمها حظ موفور.
وإنه على ذلك لعذب اللفظ، لين القول، حلو الحديث، خلاب جذاب، يروق مظهره، ويروع مخبره، ويشقى به القريب منه، والبعيد عنه. •••
حية، وكلب، وديك. هؤلاء هم أصدقاؤنا القدماء. فابك إن كنت خيرا، واضحك إن كنت شريرا، وارسم على ثغرك ابتسامة حزينة مرة، إن كنت شيئا بين الخير والشرير، وثق على كل حال، بأن أصدقاءنا هؤلاء، لم ينفردوا بما كتب عليهم من المسخ، وإنما هي محنة عامة، يمتحن الله بها هذا الوطن البائس في كثير من بنيه.
وقد تسأل عن مصدر هذه المحنة، وأصل هذا البلاء، فاعلم أنه الانتقال السريع، يفسد بعض النفوس، ويغير بعض الأخلاق، ثم لا يلبث أن يمضي بخيره وشره، وأن يرد الشعوب إلى حياة ملائمة لطبائع الأشياء، يكثر فيها الناس الذين يتقمصون أجسام الناس، ويقل فيها الحيوان الذي يتصور في صورة الإنسان.
أما بعد، فإن في مدينتك الجميلة حدائق للحيوان، تستطيع أن تنزه فيها عينك، وعقلك، ولكن حدائقك كلها - على كثرة ما فيها من الغرائب والطرائف ونوادر الأنواع - لن تقدم إليك كلابا، وديكة، وحيات، في صور الناس، فإذا لم يشق نفسك وطنك العزيز، ولم يدفعك الشوق إلى الرغبة في عبور البحر، فلا أقل من أن يدفعك إلى عبور البحر ما يكتظ به وطنك من هذه الطرائف والغرائب، والنوادر التي تمرح على ضفاف النيل، وتستظل بظل الأهرام.
أمقبل أنت لتشهد من قريب، أم قانع أنت بما يأتيك من بعيد ...؟
صرعى
أتذكر قول زياد - رحمة الله - في خطبته المشهورة لأهل البصرة: «وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.»
فإن هذه الجملة الخالدة لم يعرب بها زياد عن ذات نفسه، ولا عما كان بينه وبين أهل العراق من صلة، ولا عما كان قد رسم لحكمة من سياسة عنيفة، ولا عما كان قد فرض على نفسه من الحزم والعزم في تدبير أمور الناس، وحملهم على الجادة راضين أو كارهين. لم يعرب زياد بهذه الجملة عن هذا كله فحسب، وإنما أعرب بها عن شيء أعم وأشمل من سلطانه، وأبقى وأخلد من سيرته عن شيء يتصل بحياة الناس جميعا، ويؤثر في أعمالهم جميعا، بل في آمالهم جميعا، عن شيء وجد منذ وجد الإنسان، وسيبقى ما بقي الإنسان، ولن يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. عبر زياد عن هذا الغرور الذي يدفع الناس إلى أن يعملوا، ويدفع الناس إلى أن يأملوا، ويفسدوا على الناس أعمالهم وآمالهم، ويرديهم آخر الأمر في هوة عميقة غير ذات قرار من البؤس واليأس والقنوط.
لست أدري أيهما استعار من صاحبه هذه الجملة الخالدة التي تصور الموعظة البالغة. أترى أن زيادا قد استعارها من الغرور، الذي كان يلقيها على الناس، وظل يلقيها على الناس في كل لغة، وفي كل بيئة، وفي كل عصر، وفي كل جيل؟ وأية غرابة في ذلك؛ فالخطباء المتفوقون، والكتاب المبرزون، والشعراء الملهمون تتصل أسبابهم بأسباب المعاني الخالدة، فيستعيرون منها ما يشاءون، ويستهدون منها ما تنطلق به ألسنتهم، وتجري به أقلامهم، فيبقى بقاء الدهر، ويتصل اتصال الزمان، أم ترى أن الغرور كان يعظ الناس كما يستطيع، ثم أتيحت له هذه الجملة الخالدة من خطبة زياد فاتخذها لنفسه رمزا، وساق فيها موعظته الخالدة إلى القلوب، والنفوس، والعقول ...
ومهما يكن من شيء فلم يعرب أحد عن حديث الغرور إلى نفوس الناس كما أعرب عنه زياد. والغريب أن الناس استمعوا لزياد؛ فامتلأت قلوبهم خوفا، وروعا، وإشفاقا. وأشفق كل امرئ منهم أن يكون من صرعى زياد، ولكنها أيام أو أسابيع أو شهور تمضي، وإذا الناس ينسون الخوف فيما ينسون، ويجهلون الروع فيما يجهلون، ويعرضون عن الإشفاق فيما يعرضون عنه، وإذا هم يسرعون إلى الهول أو يسرع الهول إليهم، وإذا صرعى زياد يكثرون، تمتلئ ببعضهم السجون، وتمتلئ ببعضهم القبور؛ لأن الناس لم يكادوا يسمعون حديث زياد حتى نسوه. وهم كذلك يسمعون حديث الغرور إلى قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، ثم ينسون هذا الحديث. فيسرعون إلى الخطر أو يسرع الخطر إليهم، ويساقطون في الشر كما يساقط الفراش في النار، ويصبحون من صرعى الغرور، وقد حذرهم الغرور مع ذلك أن يكونوا من صرعاه. ذلك أن الغرور يتحدث إلى الناس حديثين مختلفين فيما بينهما أشد الاختلاف. يسوق أحدهما إلى ما في الناس من تهالك، وضعف، وإلى ما فيهم من طمع وطموح، وإلى ما فيهم من حب للطيبات، وإيثار للعافية، ونزوع إلى ما يرضي الحاجة، ويقنع اللذة، ويتملق الحس، ويخادع الشعور، ويخدع العقل عن حقائق الأشياء.
يسوقه إلى استعدادهم للاستجابة للإغراء حين يوجه إليهم الإغراء. يخيل إليهم أن الحياة قصيرة فيجب أن تنتهز، وأنها إنما منحت للناس ليحيوها هادئة ناعمة، ولينة باسمة، ومشرقة راضية تتحقق فيها الآمال، وترضي فيها الكبرياء.
ويسوق أحدهما الآخر إلى ما في نفوس الناس من قوة وجلد، وصبر على المكروه، وثبات للخطوب، وتعمق للأشياء، ونفوذ إلى حقائقها، وإيمان بأن الحياة لم تخلق عبثا، ولم تمنح للناس سدى، وبأن الفرد لم يخلق لنفسه، وإنما خلق لمواطنيه، وأن الأمة لم تخلق لنفسها، وإنما خلقت للإنسانية، وأن الحياة قصيرة؛ فيجب أن تنتهز لتحقيق النفع، وتعميم الخير، وترقية الحضارة، وإقرار العدل. ذلك أحرى أن يمد قصيرها، ويصل منقطعها، ويجعل زائلها خالدا، وباطلها حقا، والمنقضي منها متصلا.
بهذين الحديثين يتحدث الغرور إلى الناس دائما، يعدهم ويمنيهم، ويطمعهم، ويغريهم، ثم يعظهم، ويحذرهم، ويدعوهم إلى الروية والاعتبار.
فأما أكثر الناس فتستخفهم الوعود، وتزدهيهم الأماني، وتذهب بأحلامهم الأطماع، ويعبث بعقولهم الإغراء، وإذا هم من صرعى الغرور. وأما أقلهم أو الأقلون الأقلون من أقلهم فلا يستجيبون للعدة الكاذبة التي تمر بها من دونهم رياح الصيف كما يقول الشاعر القديم، وإنما يملكون على نفوسهم أمرها، ويصبرونها على ما تحب، وعلى ما تكره، ويوجهونها إلى ما يسرت له من الخير، فينفعون وينتفعون، وينجون من عبث الغرور بهم، وتسلطه عليهم، ويأمنون أن يكونوا من صرعاه.
وابتسم يا سيدي ما شئت أن تبتسم، وأغرق في الضحك ما طاب لك الإغراق في الضحك، وسل نفسك أو لا تسلها عن هذا الحديث ... ما مصدره، وما غايته، وما معناه؟ فليس لهذا الحديث مصدر إلا ما أنت فيه، وليس لهذا الحديث غاية، إلا ما أنت فيه، وليس لهذا الحديث معنى إلا ما أنت فيه. والناس يهنئون أصدقاءهم كما يستطيعون، ويهدون إليهم من التحية ما يملكون. فهذه هي التهنئة التي استطعت أن أسوقها إليك، وهذه هي التحية التي أملك أن أعرضها عليك، فاقبلهما إن شئت، وارفضهما إن أحببت. فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، والله لا يحمل الناس على ما لا يطيقون.
أتذكر تلك الأيام البعيدة المسرفة في البعد حتى كاد ينساها الزمان، القريبة المسرفة في القرب حتى ما استقبل الصباح، ولا استقبل المساء، ولا استقبل عمل من الأعمال بينهما إلا كنت لها ذاكرا، وفيها مفكرا، وبها حفيا؟ لقد بعدت تلك الأيام منك حتى كأنها لم تمر بك أو كأنك لم تمر بها، وحتى كأنك تخلق في كل يوم خلقا جديدا ينسيك اليوم الذي قبله، كما ينسى الناس عادة ما يمكن أن يكون قد اختلف على نفوسهم من الأحداث والخطوب قبل أن يدفعوا إلى هذه الحياة. ولقد قربت هذه الأيام مني حتى كأني لم أخلق إلا لأعيش فيها، وكأنها لم تخلق إلا لتأخذ علي طرق الحياة فلا أستطيع أن أخرج منها، ولا تستطيع أن تنأى عني، وإنما وقفت علي، ووقفت عليها، وقيل للزمن ألا يتقدم حتى لا أتجاوزها، وألا يتأخر حتى لا أرد عنها، فأنا سجينها، وهي سجينتي، قد أكرهنا على أن نصطحب، فلن أجد منها مخرجا، ولن تستطيع عني انصرافا.
أتذكر تلك الأيام؟ ... أنفق شيئا من الجهد لعلك تستحضر منها ظلالا ضئيلة إن أمكن أن تكون للأيام ظلال. أنفق شيئا من الجهد حين تخلو إلى نفسك، إن استطعت أن تخلو إلى نفسك، واستحضر بعض تلك الأيام التي كنا نستقبلها باسمين لها، وكانت تستقبلنا باسمة لنا، وكان في ابتسامنا وابتسامها هدوء مطمئن يملأ القلوب ثقة، ورضى وأمنا. لم نكن نطمع في شيء إلا أن نعلم في كل يوم يقبل علينا أكثر مما كنا نعلم في كل يوم يدبر عنا.
وكان ذلك إلينا وحدنا لا يستطيع أحد أن يردنا عنه، أو أن يرده عنا. إنما هو حب للمعرفة، وإقبال عليها، وإلحاح في طلبها، واستمتاع بهذا الالحاح، وتزيد من هذا الاستمتاع. •••
أتذكر تلك الأيام؟ ... لقد كانت لنا فيها آمال محببة إلى نفوسنا، أثيرة في قلوبنا، متواضعة تواضع العلم، متعالية تعالي العلم، لا يستطيع أحد أن يصدنا عنها، ولا يستطيع أحد أن يصدها عنا. لم نكن نريد إلا أن نهتدي إلى الحق، ونهدي إليه، لم نكن نريد إلا أن نصل إلى الخير، ونوصل إليه، لم نكن نريد إلا أن نملأ قلوبنا علما إن أمكن أن تمتلئ القلوب، ثم ننشر العلم من حولنا ما وجدنا إلى نشره سبيلا. كانت أمامنا من الجهل والغي، والسخف صورة بشعة منكرة، ولكنها لم تكن تخيفنا، ولا تروعنا، وإنما كانت تدعونا إلى نفسها، لا لنحبها بل لنبغضها، لا لنبقيها بل لنلغيها.
أتذكر تلك الأيام؟ ... لقد كانت قلوبنا فيها نقية نقاء الشمس، رخية رخاء النسيم، عذبة عذوبة الماء الذي صفا، فلا يشوبه كدر، ولا يفسده رنق. أتذكر تلك الأيام؟
لقد كانت آمالنا نقية نقاء قلوبنا، رخية رخاء طباعنا، صافية صفاء أمزجتنا. في تلك الأيام البعيدة القريبة آمنت نفوسنا؛ لأن الإصلاح وحده هو الذي سيستأثر بها، وبما تملك من قوة وجهد، ومن غير القوة والجهد مما تملك النفوس.
في تلك الأيام ساق إلينا الغرور حديثيه؛ ساق إلينا حديث الإغراء فأعرضنا عنه إعراضا، وساق إلينا حديث الإباء فأقبلنا عليه إقبالا. في تلك الأيام ثبتنا للمكروه، وصبرنا على الشر، وصب علينا الأذى فلم يبلغ منا، وأطاف بنا الكيد فلم يصل إلينا، وقامت أمامنا العقاب فلم تردنا عن الغاية، ولم تصدنا عن الطريق:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
ما أكثر ما قرأنا هذا البيت من شعر، وما أكثر ما تمثلنا به حين كنا نسمع أحاديث بعض الناس الذين كانوا يستجيبون للغرور فيصبحون من صرعاه. وأقسم ما خطر لي قط أني سأتمثل بهذا البيت ذات يوم حين أقرأ الصحف مصبحا أو ممسيا، فإذا لساني ينطق، وما أردت إنطاقه، بقول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها
ويوم حيان أخي جابر
فرحم الله زيادا، وتجاوز له عن خطيئته. أقدر حين ألقى خطبته تلك أنه كان يعرب أحسن الإعراب عن حديث الغرور إلى أولي العزم من الناس حين قال: «وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي»!
نفوس للبيع
لا ترع يا سيدي لا ترع، فليس في أمر صديقك ما يدعو إلى الروع. لقد وثقت به كما لم تثق بأحد، واعتمدت عليه كما لم تعتمد على أحد، واطمأننت إليه كما لم تطمئن إلى إنسان. ثم نظرت ذات يوم فإذا ثقتك وهم، وإذا اعتمادك هباء، وإذا اطمئنانك غرور، وإذا صديقك الذي أصفيته حبك، واختصصته بودك، وأظهرته على سرك، وأعددته لكل ما يعرض من أمرك؛ يمكر بك، ويكيد لك، ويتخذك وسيلة إلى تحقيق المنافع، وبلوغ الآراب.
وماذا تنكر من ذلك؟! وهو شيء يجري في كل يوم، ويحدث في كل وقت، صورته الآداب القديمة فأحسنت تصويره، وعرضته الآداب الحديثة فأحسنت عرضه، وأنت رجل مثقف قد قرأت من غير شك ما كتب الكتاب، ونظم الشعراء في الوفاء القليل، والغدر الكثير، وفي الأخ الذي يمنحك وده ما احتاج إليك، وإعراضه ما استغنى عنك، وفي الصديق الذي:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وفي الولي الذي يواتيك ما استقامت لك الحياة، ويجافيك حين تعرض عنك الدنيا، وفي الصاحب الذي يرضى عنك ما رضي عنك السلطان، ويسخط عليك ما سخط السلطان. كل هذه أوليات قد قرأتها في الكتب، وسمعتها في حجرات الدرس، وتحدثت بها إلى الناس، وتحدث الناس بها إليك، ثم ها أنت ذا ترتاع لأنك جربت ما جربه الناس من قبلك، ومن حولك، وبلوت في ذات نفسك ما بلاه الناس في كل عصر، وفي كل جيل. أتعرف ما يدل عليه هذا الروع الذي يملأ قلبك، وهذا الحزن الذي يغمر نفسك، وهذا البؤس الذي يفعم ضميرك؟ إنما يدل هذا كله على شيء واحد يسير أولي لا غرابة فيه، ولا مشقة في فهمه، يدل على أنك تقرأ الكتب، وتشهد الأحداث، وترى العبر والمواعظ، فتزعم لنفسك وللناس أنك تنتفع بما تقرأ، وما ترى، وما تشهد. وتخيل إلى نفسك، وإلى الناس أنك تستفيد مما امتلأت به الحياة من التجارب، على حين أنك لم تنتفع، ولم تستفد، ولم تصل الموعظة إلى قلبك، ولم تبلغ العبرة دخيلة نفسك، ولم تؤثر التجربة في ضميرك.
فأنت تؤمن بهذا كله إيمانا ظاهرا لا عمق له، ولا استقرار، حتى إذا دهمتك الأحداث، وألحت عليك الخطوب وجدتك طفلا قليل التجربة ضئيل الاختيار، فروعتك كما يراع الطفل لأيسر ما يعرض له من الوهم. •••
فكر كم شيعت من جنازة، وكم جزعت لفقد صاحب أو أخ أو صديق، وكم استيقنت فيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين الناس أن الحياة باطل، وأن الدنيا غرور، وأن الآمال لعب، وأن الأماني كذب؟ ثم فكر كيف انجلت عنك الغمرات، وكيف استقبلت أيامك راضيا عنها، باسما لها، مبتهجا بها، مجاهدا في سبيل ما تبتغي من المنافع، والمآرب كأنك لم تشيع جنازة، ولم تفقد صديقا، ولم تتعظ بموت، ولم تستيقن أن الحياة، وما فيها باطل، وغرور؟
لا ترع يا سيدي، لا ترع، إن فقد الصديق حين يختطفه الموت إلى غير رجعه يوئسك من الحياة حينا يقصر أو يطول، ولكنه لا يلبث أن يرد إليك الأمل، ويملأ قلبك بالأماني، ويدفعك إلى العمل، ويملأ نفسك نشاطا ومرحا، فكيف بما يعرض لك من فقد الصديق الحي الذي لم يختطفه الموت إلى غير رجعة، وإنما اختطفته المنفعة إلى رجعة قريبة أو بعيدة. إنه يعرض عنك اليوم فقد يقبل عليك غدا، إنه يمكر بك الآن فقد يمكر بعدوك بعد حين، إنه يأتمر بك ليؤذيك في هذه الظروف فقد يأتمر لك لينفعك في ظروف أخرى. •••
خذ الحياة كما هي، وخذ الناس كما هم، وقدر أن مما يلائم طبائع الأشياء أن يموت الناس، وهم أحياء، وأن يحيا الناس، وهم أموات. إنك تأسى لما فقدت من صديقك هذا الذي تنكر لك، وائتمر بك، وألب عليك، ولكنك تنعم بهذه الذكرى التي تستبقي لك أولئك الأصدقاء الذين اختطفهم الموت فتولوا عنك، لم يمكروا بك، ولم يكيدوا لك، ولم يؤلبوا عليك.
قوم يموتون، وهم أحياء فتعز عنهم، واصبر عليهم، فقد ترد إليهم الحياة ذات يوم، وقوم يحيون، وهم أموات فاذكرهم أجمل الذكر، واستبق حبهم في قلبك، وودهم في ضميرك، وامنحهم بين حين وحين كلمة خير، ودمعة وفاء.
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فإن هذا الأمر الذي يؤذيك، ويضنيك، ويشق عليك لا يجري عليك وحدك، وإنما يجري على غيرك من الناس انظر من حولك فسترى نفوسا تعرض للبيع، وأخلاقا تعرض للمساومة، منها ما يباع بثمن بخس، ومنها ما يباع بثمن لا بأس به، ولكنها كلها تباع على كل حال.
وما الذي تنكر من ذلك، وحياة الناس رهينة بمنافعهم ومآربهم، وحضارة الناس شيء مكتسب ليس من الضروري أن يمتزج بدمائهم، ويجري في عروقهم، ويصبح لهم مزاجا، وطبعا، وإنما هو شيء متكلف لا يؤمن به، ولا يؤمن له إلا الأقلون. فأما الأكثرون فيتخذونه وسيلة يتقي بها بعضهم شر بعض، وقد يبتغي به بعضهم شر بعض. •••
فكر، إن هذه الأزمات التي تلح على الناس منذ أول هذا القرن تلقي عليهم دروسا فيها الخوف، وفيها الإغراء، فيها اليأس، وفيها الرجاء ، فيها انتهاز الفرص، وفيها الثبات على الخلق الكريم.
إن هذه الأزمات تعلم الناس أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، فمن الخير انتهازها، والانتفاع بها إلى أقصى آماد الانتفاع. هذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء العدوان، وهذه الملايين التي أرسلت إلى الموت ابتغاء دفع العدوان، وهذه الملايين التي عذبت في معتقلات الأسر، وهذه الملايين التي صب الموت والعذاب عليها صبا؛ لا لشيء إلا لإرضاء حاجة الإنسان إلى البغي، والإثم، واللذة البشعة.
كل هذه الملايين قد أقامت الدليل للناس على أن الحياة قصيرة هينة رخيصة، وأقرت في نفوس كثير من الناس أن الحزم إنما هو في انتهاز الفرصة، واقتضاء المنفعة، والاستمتاع باللذة، مهما تكن النتائج، ومهما تكن الظروف. فما الذي تنكر من أن يدعو هذا كله إلى إهدار القيم التي ألفتها، وضياع المقاييس التي نشأت عليها؟ وما الذي تنكر من أن يتحول عنك الصديق لأنهم لا يجدون عندك منفعة، ولا مأربا، أو لأنهم يجدون عند غيرك من المنافع، والمآرب أكثر مما يجدون عندك؟ •••
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. وإنما أنت خليق أن تختار بين اثنتين، وأن يكون اختيارك عن حزم وبصيرة، وعن روية وتفكير، وعن أناة وتحفظ واحتياط. فإما أن تستبقي ما نشأت عليه من خلق، وما فطرت عليه من مزاج، فتمتنع على الغواية، وتقاوم الإثم، وتصون نفسك من أن تكون سلعة تعرض للبيع، والشراء، وتعصم أخلاقك من أن تكون موضوعا للمساومة، وما يكون في المساومة من ارتفاع الأثمان، وهبوطها، وإذن فأيسر ما يجب عليك إذا اخترت هذه الخصلة؛ أن ترضى بالقليل، وتقنع باليسير، وتروض نفسك على غدر الصديق، وخيانة الإخوان، وتحول الرفاق، وتنكر الخلان. تلقى ذلك باسما له، وساخرا منه إن كنت من أولي العزائم الماضية، والهمم العالية، وتلقى ذلك شقيا به محزونا له، ولكنك تحتمله على كل حال إن كنت من الصادقين الذين لم ترتفع نفوسهم إلى منازل النابغين والأفذاذ. وإما أن تدور مع الزمن، وتساير الحياة، وتنعم حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع حين تسنح الفرصة لك، وتختطف اللذة حين تساق إليك، وتعرض نفسك للبيع فتبيعها بالثمن الغالي إن أتيح لك، وبالثمن الرخيص إن لم تجد بدا من قبول الثمن الرخيص.
لا ترع يا سيدي، لا ترع، فليس في الأمر ما يدعو إلى الروع. إنك قد اخترت الخصلة الأولى إلى الآن فلم تزدهك المنافع، ولم تستخفك اللذات، ولم يستهوك السلطان، ولم تبع نفسك مع البائعين. وقد لقيت في ذلك كثيرا من الأذى، وصبرت نفسك في ذلك على كثير من المكروه، ورأيت أصدقاءك من حولك تتخطفهم المنافع، ويصرعهم حب الشهوات.
ثم إنك تنظر في كل يوم فترى نفسك تسرع إلى الوحدة أو تسرع الوحدة إليها، وترى نفسك مقبلا على العزلة، ممعنا فيها، إما لأن الناس من حولك يضيقون بتحفظك وتزمتك؛ فينصرفون عنك، وإما لأنك تضيق بتهالك الناس، وتهافتهم، وتساقطهم على المنافع الوضيعة، كما يساقط الذباب على العسل أو كما تساقط الفراش في النار، فتنصرف عنهم، وتنشد قول الشاعر القديم:
حي الحمول بجانب الرمل
إذ لا يلائم شكلها شكلي
نعم يا سيدي، أنت قد آثرت الخصلة الأولى، فلم تعرض نفسك للبيع، ولم تطرح أخلاقك للمساومة. وأنت ترى النفوس من حولك تباع، وترى الأخلاق من حولك تعرض للمساومة؛ فيؤذيك ما ترى، ويداخلك الشك فيما اخترت لنفسك من سيرة، وما سلكت بها من طريق.
وما أرى إلا أن هذا الروع الذي يملأ اليوم قلبك، ويفسد عليك أمرك؛ لأن صديقك هذا قد تحول عنك، وجزاك بالوفاء خيانة، وبالبر مكرا وكيدا، ليظفر بمنصب خطير يغل عليه مالا لم يكن يحلم بأقله، ما أرى إلا أن هذا الروع مظهر من مظاهر الشك الذي يخامر نفسك، ويداخل ضميرك، فأنت حائر لا تدري أمخطئ أنت أم مصيب؟ وأنت تسأل نفسك، ولولا الحياء لسألت الناس، أعاقل أنت أم مجنون؟
إن المنافع تسعى إليك، وإن الآمال تتراءى لك، خلابة جذابة براقة، وإنك ترى الناس من حولك يسعون إلى المنافع، ويتهالكون على الآمال، وإنك تهم أن تفعل كما يفعلون ثم ترد نفسك إلى الحزم، وتأبى عليها الهوان. وما أكره لك هذا الروع، وما أشفق عليك من هذا الشك، فلست أحب للرجل الكريم أن تكون كرامته عادة مألوفة، وشيئا يسيرا لا مشقة فيه، وإنما أحب له أن يكسب كرامته كسبا، ويأخذها غلابا، ويفرضها على الناس فرضا، وإن يعرض له الشك في كل يوم فلا يبلغ منه شيئا، وإن يلح عليه الإغراء في كل ساعة فلا يلين له فناة، فهو ناظر لنفسه في كل لحظة، ومدافع عنها في كل حين. فجدد الاختيار لنفسك بين الحياة السهلة اليسيرة الحلوة المواتية وبين الحياة الصعبة العسيرة المرة المجافية.
فإن اخترت الثانية فنعم الصديق، وإن اخترت الأولى فثق بأني لن أروع لفقدك كما روعت أنت لفقد صديقك؛ ذلك لأني وطنت نفسي على موت الأصدقاء، وهم أحياء، وعلى حياة الأصدقاء، وهم أموات، ولأني أنشد نفسي من حين إلى حين هذا الشعر الذي رد معاوية عن الانهزام يوم صفين:
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
كما أنت
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تقم إن كنت قاعدا، ولا تقعد إن كنت قائما، ولا تتحول عن مكانك إلى يمين أو شمال، ولا ترجع إلى وراء، وإنما امض إلى أمام إن أحببت المضي، فإنما هو كلام يقال في كل عصر، وفي كل جيل ... قلناه حين كنا شبابا، فلم نغير مما كان حولنا شيئا بالقول، ويقوله الشباب لنا الآن، فلا يغيرون مما حولهم شيئا بالقول، وسيبلغون في يوم من الأيام ما بلغنا من السن، وسيصلون إلى ما وصلنا إليه من المنازل، وسيقول لهم أبناؤهم وأحفادهم مثل ما يقولون لنا الآن، ومثل ما قلنا نحن لآبائنا وأجدادنا من قبل، فلا يغيرون شيئا بالقول، كما لم نغير نحن شيئا؛ لأن تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يقال عن إخلاص أو عن تكلف، وعن تفكير أو عن اندفاع، وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياء من طور إلى طور، ويضعها إلى حيث يجب أن تكون.
كما أنت إذن أيها الصديق الكريم، لا تغير من حياتك، ولا من سيرتك شيئا، بل لا تغير من رأيك في الأحياء والأشياء إلا أن يدعوك التفكير، وتضطرك الأحداث، وطبيعة الحياة إلى أن تغير من رأيك قليلا أو كثيرا. •••
كما أنت لا تزل عن ثغرك هذه الابتسامة السمحة التي ألفت أن تلقى بها الناس، وما يختلف عليهم من الأطوار، وما يلم من الخطوب، ولا تلق عن وجهك هذا القناع المشرق الوضاء الذي يزيده العزم إشراقا، والحزم وضاءة، والذي تلقى به المصاعب مجاهدا لها حتى تقهرها، وتظهر عليها.
ما أكثر ما كان يقال لك مما تحب، ومما لا تحب، وما أكثر ما كنت تسمع لهذا وذاك، فلا تنحرف عن طريقك حتى تبلغ الغاية، ولا تنصرف عما تممت عليه حتى تنتهي منه إلى ما كنت تريد، فما ينبغي أن تنال الألفاظ منك في هذه الأيام ما لم تكن تستطيع أن تناله فيما مضى من الأيام، إلا أن يكون الضعف قد أصابك، والهرم قد بلغ منك، فأنت حينئذ مضطر إلى أن تريح وتستريح، لا لأن هؤلاء النفر أو أولئك تقدموا إليك في أن تريح وتستريح، بل لأن طبيعة الحياة نفسها هي التي تفرض عليك أن تريح وتستريح.
متى رأيت الشباب يحبون المهل، ويصطنعون الأناة، ويأخذون أنفسهم بالرفق؟ ذلك لا يوافق طبائعهم، ولا يلائم غرائزهم، ولا يتأتى لأمزجتهم. •••
وقد علمنا أرسطاطاليس، منذ أربعة وعشرين قرنا، أن الاندفاع أخص خصائص الشباب، والخير كل الخير في أن يندفع الشباب، ولا يستأنوا، وفي أن يتحمسوا، ولا يفتروا، وفي أن يغامروا، ولا يحاذروا، وفي أن يتعجلوا، ولا يتمهلوا، بغير هذا لا تستقيم للناس حياتهم، ولا تصلح لهم أمورهم. وقد أنبأنا بيريكليس منذ خمسة وعشرين قرنا بأن الشباب ربيع الحياة، ومتى رأيت الربيع يستأني في نشر جماله على الأرض؟ ومتى رأيت الربيع يتمهل في إشاعة الحياة والحرارة والنشاط في الطبيعة؟ ومتى رأيت زهر الربيع يتردد قبل أن يتفتح؟ ومتى رأيت الأغصان الخضر تؤامر نفسها قبل أن تطاوع النسيم حين يريد أن يعابثها فتعابثه، وأن يميل بها فتميل معه حيث يميل؟ إنما يقدم الربيع فجأة على رغم ما يوقت له من المواعيد في المراصد والتقاويم. تصبح ذات يوم أو تمسي ذات يوم، فإذا الحياة قد اندفعت في هذه القطعة من الروض فملأتها قوة وفتوة ونموا، ونشرت عليها زينة وجمالا لم نكن نقدرهما قبل ذلك بأيام، بل قبل ذلك بساعات، كذلك الحياة كلها تندفع في إبان الاندفاع، وتستأني في إبان الأناة، ثم يسعى إليها الفتور أو تسعى هي إلى الفتور فيدركها الذواء الذي لا يبقي منها إلا ذماء يسيرا ثم يصيبها الذبول، ثم يلم بها الحدث الأعظم الذي يجعلها هشيما تذروه الرياح. ونحن نرى ذلك كله يجري على سجيته، ويمضي على أذلاله، لا نستطيع أن نغير قوانينه، ولا أن نقدم أو نؤخر شيئا منه عن موعده المقسوم له. ونحن نبتهج للربيع حين يقبل، ونكتئب للصيف حين يلم، ونبتئس للخريف حين ينثر من حولنا الأوراق، ونستخفي من الشتاء حين يملأ الجو والأرض من حولنا بردا تنكمش له النفوس، وتقشعر له الأجسام، ولكن ابتهاجنا، واكتئابنا، وابتئاسنا، واستخفاءنا لا يغير من مجرى الفصول شيئا. ولو استمع الصيف للربيع لما أقبل، ولو استمع الربيع للشتاء لما ملأ الأرض بهجة وجمالا. فدع الشباب، وما يقولون، وامض أنت لما يسرت له حتى تضطرب الحياة إلى الهدوء ثم إلى الوقوف ثم إلى السكون، والهمود.
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تتحول عن طريقك؛ فإن الحياة لم تحصر في طريق واحدة ضيقة، وإنما انبسطت أمامها طرق لا تحصى، وهي قادرة على أن تسع الأحياء جميعا. والحياة العقلية خاصة أوسع جدا مما يظن المثقفون، والمفكرون، والمنتجون في العلم والأدب والفن. وقد أفهم أن يقول حزب سياسي لحزب سياسي: تنح لي عن طريق الحكم، وانزل عن مناصبه، فأنا أحق بها، وأقدر على تدبيرها منك، ولكن الحكم ليس هو الحياة، وإنما هو فرع ضئيل جدا من فروع الحياة، ولعله أن يكون أشدها ضآلة، وأهونها شأنا، وأقلها خطرا، ولكن الشيء الذي لم أفهمه، ولن أفهمه؛ لأن أحدا لم يستطع قط أن يفهمه، هو أن يقول جيل من المفكرين لجيل آخر من المفكرين: كفوا عقولكم عن التفكير والإنتاج؛ لأستطيع أنا أن أفكر وأنتج، وأن يقول جيل من الفنانين لجيل من الفنانين: كفوا عيونكم عن أن ترى لأنها قد رأت ما يكفيها، وكفوا قلوبكم عن أن تشعر؛ لأنها قد شعرت بما أطاقت أن تشعر به، وكفوا ملكاتكم عن أن تنتج لأنها قد أنتجت ما وسعها الإنتاج، وأفسحوا لي حتى أستأثر من دونكم بإحساس الجمال، والشعور بدقائقه، وتصويره، كما أستطيع أن أصوره أو كما أحب أن أصوره. هذا شيء لم أفهمه قط، ولن أفهمه آخر الدهر، فليس إلى فهمه من سبيل؛ فالكون، وما فيه من حقائق، ودقائق، ومن جمال وقبح، لم يخلق لجيل من الناس دون جيل، ولم يوقف على فريق منهم دون فريق، وهو لا يتحدث، ولا ينبغي أن يتحدث إلى بيئة منهم دون بيئة، ولا أن يظهر روائعه للشيوخ من دون الشباب، ولا للشباب من دون الشيوخ. وإنما هو يتحدث إلى من يريد أو إلى من يستطيع أن يسمع له، ويفهم عنه، وهو يوحي إلى من يريد أو يستطيع أن يتلقى عنه الوحي. وهو يعرض جماله وقبحه لمن يريد أو يستطيع أن يرى الجمال فيقبل عليه، ويدعو إليه، وأن يرى القبح فيصد عنه، ويزهد فيه. •••
إنما الكون آية لمن كان له قلب، أو ألقى السمع، وهو شهيد. والله لم يخلق القلوب في صدور الشيوخ وحدهم، ولا في صدور الشباب وحدهم، ولم يجعل السمع في آذان هؤلاء من دون أولئك، أو أولئك من دون هؤلاء. وما أعرف شيئا يستطيع أن يسع الناس جميعا كهذه الأشياء التي تتصل بالعقول والقلوب، وما تنتج من آيات المعرفة والفن. والناس يتزدحمون، ويتدافعون بالأيدي والمناكب، ويؤذي بعضهم بعضا بهذا الازدحام، والتدافع حول مناصب الحكم، ومصادر الرزق، وموارد المال، فجائز أن يقول فريق منهم لفريق؛ دع لي مكانك، وأفسح لي الطريق، وجائز أن يكره فريق منهم فريقا على أن يدع له مكانه، ويفسح له الطريق، فأما العلم والأدب والفلسفة والفن، فإنها ميسرة لمن أرادها، واستطاع السبيل إليها، وكان لها ميسرا، وبها موكلا، وعليها قادرا، فلا سبيل إلى الازدحام عليها، ولا التدافع إليها بالأيدي والمناكب؛ لأنها تسع الناس جميعا. •••
وإذن فما قول الشباب للشيوخ أفسحوا لنا الطريق إلى الأدب، أو أفسحوا لنا الطريق إلى العلم، أو أفسحوا لنا الطريق إلى الفن؟ فإن الشيوخ فيما أعلم لا يصدون الشباب عن أدب أو علم أو فن، وإنما يدعونهم إليه دعاء فيه كثير من الإلحاح. أليس من الممكن أن يكون الشيء الذي ينفسه الشباب على الشيوخ ليس هو الأدب أو العلم أو الفن، وإنما هو ما قد ينتجه الأدب والعلم والفن من إقبال الناس على الشيوخ أكثر مما يقبلون على الشباب؟ وإذن فالأمر ينتهي إلى ازدحام حول أعراض الحياة الباطلة، وأغراضها المادية الزهيدة؛ حول الشهرة، وبعد الصيت، وما قد تتيح الشهرة، وبعد الصيت من مال قليل أو كثير حول غرور الدنيا، وزخرف الحياة. فيا لها من غاية هنية رخيصة! لا ينبغي أن يكون حولها ازدحام، ولا أن يكون إليها تدافع، ولا أن تتقطع من أجلها الأعناق، ولا أن تتمزق في سبيلها القلوب. ومن حق الشباب على الشيوخ أن يؤدبوهم بما ينبغي أن يؤدب المجربون به من لا حظ لهم من تجربة، وأن يعلموهم أن الشهرة لا تكتسب لأنك تريد اكتسابها. فإذا اكتسبت لذلك فليست هي إلا هباء، وأن المال لا ينبغي أن يؤخذ بغير حقه، فإذا أخذ بغير حقه فذلك هو الغصب، وما يشبه الغصب مما لا يليق بالرجل الكريم. وإن غرور الدنيا، وزخرف الحياة باطل لا معنى للتهالك عليه، ولا للتنافس فيه، إلا أن تفسد القلوب، وتصغر النفوس، وتقصر الهمم، وتفتر العزائم. وإن الرجل الكريم خليق أن يعمل ويعمل، ويشق على نفسه بالعمل حين يصبح، وحين يمسي، وحين يضطرب مع الناس، وحين يخلو إلى نفسه، وأكاد أملي، وحين يستسلم إلى النوم. •••
فالعمل وحده هو الذي يستطيع أن يرضي القلب الذكي، ويقنع النفس الكبيرة، ويزيد البصيرة نفوذا إلى نفوذ، والعزيمة مضاء إلى مضاء، وهنالك تسعى الشهرة إلى العاملين، وهم أشد ما يكونون زهدا فيها، وإعراضا عنها، ويسعى المال إلى العاملين، وهم أشد ما يكونون ابتذالا له، واستهزاء به. وما أقل ما يسعى المال إلى أصحاب الجد، وإنما المال موكل بقوم آخرين ليسوا من العمل، ولا من الجد في شيء، وليسوا من الأدب، ولا من العلم، ولا من الفلسفة، ولا من الفن في شيء؛ إلا قليلا من الذين يحققون القاعدة، ولا يهدمونها. •••
نعم، ومن حق الشباب على الشيوخ أن يؤدبوهم بهذا الأدب اليسير الذي توارثته الأجيال، وتناقلته العصور، وهو أن السلامة في الأناة، وأن الندامة في العجلة، وأن الحياة أشبه شيء بالنهر يجري، ولكن إلى غاية ينتهي عندها حين يصب في البحر العظيم فيصبح ماء من الماء، وإن مياه هذا النهر قد أريد لها أن يجري بعضها أمام بعض، لا يتأخر المتقدم منها على المتأخر، ولا يتقدم المتأخر منها على المتقدم، وإنما يجري بعضها إلى الغاية في إثر بعض. فالشيوخ في طريقهم إلى الراحة الموقوتة أو الدائمة ليس في ذلك شك، وليس عن ذلك محيص، والشباب في طريقهم إلى أن يأخذوا مكان الشيوخ ليس من ذلك بد، وليس عن ذلك متحول، والذوق كل الذوق ألا يتعجل الأبناء مصارع الآباء، فمصارعهم محتومة لا مفر منها، والخير كل الخير أن تقوم الصلات بين الأجيال على المودة والحب، وعلى التعاطف والبر، لا على هذا التنافس الذي يحفظ القلوب، ويفسد الضمائر، ولا يغير من حقائق الحياة شيئا. •••
كما أنت أيها الصديق الكريم، لا تقم إن كنت قاعدا، ولا تقعد إن كنت قائما، ولا ترجع إلى وراء، ولا تنحرف إلى يمين أو إلى شمال، وإنما امض أمامك حازما عازما ثابت الخطو، والتفت بين حين وحين إلى الشباب مهديا إليهم ابتسام ثغرك، وإشراق وجهك، وعطف قلبك، وصفاء نفسك، وأشر إليهم بين حين وحين؛ أن أسرعوا، ولا تبطئوا فليس أشد خطرا على الشباب من التثاقل، والإبطاء.
مصر بين النعيم والجحيم
أقم حيث أنت يا سيدي ... لا تبرح الأرض، ولا تعبر البحر، فإن من ورائه في مصر هولا هائلا، وشرا ماثلا، وبلاء نازلا، وعذابا أليما، وجحيما قد استقر فيها لا تدري أهبط عليها من أطباق الجو أم صعد إليها من أعماق الأرض؟ ولكنها أصبحت ذات نهار، أو أمست ذات ليل، فإذا هو قد اتخذ له في قرية من قراها وكرا، لا يعرف متى اتخذه، ولا كيف اتخذه، ولا من أين سعى إليه. ولكنه اتخذ في تلك القرية ذلك الوكر على كل حال، ثم لم يلبث أن باض فيه وفرخ، ثم لم يلبث أن أرسل رسله المنكرة طلائع له في القرية، وما حولها، ثم أمد الطلائع بطلائع مثلها، ثم اتصلت الأمداد، وجعلت تزحف في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، حتى غمرت مصر كلها بالنكر المنكر، والوباء المبير.
وقد كان المصريون يقدرون في سابق الأزمان، وسالف العصر والآوان، كما يقول أصحاب الأقاصيص، أن الآخرة هي التي تقذف بالأشرار في الجحيم، وتمتع الأخيار بالنعيم. فقد استبان لهم في هذه الأيام أن في الدنيا جحيما، ونعيما، ولكنهما لا يختاران أصحابهما، وإنما يتخطفانهم تخطفا، ويستبقان إليهم استباقا. فجحيم الدنيا هذا الذي تصلاه مصر، لا يتخير الأشرار وحدهم، وإنما يلقي شباكه آناء الليل والنهار، وهو واثق كل الثقة بأنها لن تعود إليه فارغة، ولا خفاقا، وإنما تعود إليه ملأى قد أثقلها الصيد، تصيب من تشاء أو من تستطيع أن تصيبه من الناس لا يعنيها، ولا يعني ملقيها أن يكون صيدها خيرا أو شريرا.
فأما نعيم الدنيا فأثر حذر متحفظ متحرج، لا ينتخب أصحابه بين أهل الخير وحدهم، ولا بين أهل الشر وحدهم. وليس هو من الخير والشر في شيء، وإنما هو نعيم مترف يحب القادرين على الترف، والمؤثرين له، والبالغين منه أقصى ما يستطيع الناس أن يبلغوا. وهو من أجل ذلك مقل لا يحب الإكثار، مترفع لا يحب أن يتسفل إلى الدهماء، ولا أن يمس العامة بجناح من رفقه ولينه. وهو لا ينتخب أصحابه من أهل المعرفة، ولا من أهل الجهل، وليس هو من المعرفة، والجهل في شيء، وإنما يجذبه المال إليه جذبا، ويعطفه الثراء عليه عطفا. فهو مولع بالمال الكثير، والثراء العريض، لا يحب الفقراء، ولا يميل إلى أوساط الناس، الذين يجدون في شيء من الجهد والمشقة ما ينفقون. وإنما هو يؤثر بالحب، والبر، والعطف، الذين لا يكيلون المال كيلا، وإنما يهيلونه هيلا، ثم لا ينتخب أصحابه بين الذين أتيح لهم ذكاء القلب، وصفاء الطبع، ونقاء الذوق، وليس هو من هذه الخصال كلها في شيء، وإنما أصفياؤه، وأخلاؤه أولئك الذين قد كثر عليهم المال حتى أثقلهم، وألح عليهم الثراء حتى أسأمهم، فهم في شغل بالمال، والثراء حين يصبحون، وحين يمسون، وحين يغدون، وحين يروحون، لا يفرغون من العناية بالمال إلا ليعنوا بالترف، ولا يفرغون من العناية بالترف إلا ليعنوا بالمال. يحلمون بالمال في أول الليل، ويحلمون بالترف في آخر الليل، وقد يحلمون بالترف حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، وقد يحلمون بالمال حين يرسل الفجر ضياءه في الآفاق. •••
هؤلاء هم أصحاب النعيم يقيمون في مصر الآن على كره منهم؛ لأن تدبير المال يضطرهم إلى أن يقيموا في مصر، ولأن الاستمتاع بالترف كما يحبون أن يستمعوا به قد لا يتاح لهم في غير مصر. ولو قد استطاعوا أن يفارقوا مصر لاتخذوا لأنفسهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، ويقطعون بها أجواز الفضاء ... ولكن كيف السبيل إلى فراق مصر، وقد أبيح لأجنحة الطائرات أن تحمل الطائرات إلى كل مكان إلا مصر. وقد أبيح لمحركات السفن أن تمخر البحار إلا إلى مصر. وقد حظر على الطائرات والسفن، إن ألمت بمصر، أن تحمل من أهلها أحدا. فقد قضي على المصريين جميعا، من قدر منهم، ومن عجز، من افتقر منهم، ومن استغنى، أن يقروا في بلادهم لا يبرحونها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. أما أصحاب الجحيم ... وما أدراك ما أصحاب الجحيم، فهم الجائعون الضائعون، والبائسون اليائسون، والمأزومون المحرومون الذين لا يحفل بهم أحد، ولا يحفلون بأنفسهم، وإنما عرفت الدنيا وعرفوا معها؛ أنهم قد أرسلوا إلى الأرض ليتجرعوا فيها الشقاء غصصا، وليصادقوا فيها الآلام منذ يقبلون على الحياة إلى أن يخرجوا من الحياة.
كانوا يعذبون في نار هادئة مطمئنة تشويهم في أناة، وتنضجهم على مهل، يبرح بهم الجوع، ولكنه لا يقتلهم، ويلح عليهم الحرمان، ولكنه لا يفنيهم، وإنما يعلقهم بين الموت والحياة. فهم يغدون، ويروحون، وهم يقولون ويعملون، وهم ينامون ويستيقظون، ولكنهم في هذا كله لا يغنون عن أنفسهم شيئا، ولا يكسبون لأنفسهم خيرا، ولا يردون عن أنفسهم شرا، ولا يعصمون أنفسهم من مكروه.
واعجب إن شئت أن تعجب ... فقد يستحيل الجحيم إلى نعيم، كما يستحيل النعيم إلى جحيم. قد يلم الوباء فيلقي في هذه النار الهادئة المطمئنة من الوقود ما يذكيها، ويؤججها، وإذا لهبها يتلظى، وإذا هي تنتشر في الأرض، والجو فتحرق في غير حساب، وإذا الذين كانوا يشوون في تلك النار الهادئة، وينضجون على مهل، ويعلقون بين الموت والحياة، تتقطع الأسباب بينهم وبين الحياة في غير أناة ولا ريث، وتتصل الأسباب بينهم وبين الموت في غير تمهل ولا رفق. وإذا هم يعلقون في منزلة بين المنزلتين، وإنما يلقون إلى الموت إلقاء، ويتهافتون فيه تهافتا، فيخفف عليهم بذلك بعض ما كانوا يحملون من أثقال ذلك العيش البغيض.
نعم، قد يرفق الله بأصحاب الجحيم في هذه الدنيا، فيرسل إليهم الموت مسرعا أو يرسلهم إلى الموت مسرعين لتتلقاهم رحمته من وراء الموت، فتجزيهم من بؤسهم في الدنيا نعيما في الآخرة، ومن شقائهم في الدنيا سعادة في الآخرة، ومن جحيمهم الضيق المهلك في الدنيا جنات واسعة فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. نعم، وقد يحيل الله نعيم الدنيا إلى جحيم يمتحن به المترفين فيما ألفت قلوبهم من راحة آثمة، وفيما أحبت ضمائرهم من هدوء بغيض، فيشغلهم بالحياة عن الحياة، أو قل يشغلهم بالخوف على الحياة عن الحياة، أو قل يشغلهم بحب الحياة عن الحياة، فإذا هم مولهون مفزعون قد دخل الروع عليهم دورهم وقصورهم، فملأها ذعرا ورعبا، ثم اقتحم عليهم قلوبهم، وضمائرهم، فملأها جزعا، وهلعا، وإشفاقا ... فهم لا يفكرون في المال، ولا في الترف إذا استيقظوا، ولا يحلمون بالمال، ولا بالترف إذا ناموا، وإنما يفكرون في الوباء أيقاظا، ويحلمون بالوباء نياما. كل همهم أن يفلتوا من الوباء ما وجدوا إلى الإفلات منه سبيلا. فهم من هذا الخوف المتصل الملح في جحيم، وهم في جحيم آخر لعله أن يكون شرا من جحيم الخوف، هم يجدون في ضمائرهم، بل في أعمق الأعماق من ضمائرهم حسرة ضئيلة، ولكنها ملحة ممضة، مصدرها أصوات يأتيهم بها الجو من كل مكان، حتى تأخذهم من جميع أقطارهم، وحتى لا تصل إلى نفوسهم من الآذان التي تصل منها الأصوات إلى النفوس فحسب، وإنما تصل إلى نفوسهم من كل طريق ... تصل إلى نفوسهم من طريق العيون، والأنوف، وسائر الحواس. وكل هذه الأصوات تنبئهم بأنهم يعيشون في جو من الحسد، والبغض، والحقد، والحفيظة، والموجدة، لا ينفقون درهما، ولا دينارا إلا أحصاه عليهم من حولهم من الناس، ولا يستمتعون بلذة من اللذات إلا سجلها عليهم من حولهم من الناس، ولا يطعمون طعاما، ولا يشربون شرابا، ولا يتخذون ثوبا إلا تمنى الناس من حولهم لو أتيح لهم أن يشاركوهم في بعض ما يطعمون، ويشربون، ويلبسون.
جحيم من الفقر والجهل والمرض والموت للكثرة الكثيرة من المصريين، وجحيم من الخوف والذعر والبغض والحسد للقلة القليلة من المصريين، وحياة تشبه الأعراف بين هذين الجحيمين، يحياها فريق من المصريين لم يبلغ بهم الفقر أن يبتئسوا، ولم يبلغ بهم الثراء أن يترفوا، فهم مذبذبون بين أولئك وهؤلاء من أصحاب الجحيمين. هذه مصر التي سبقتك إليها منذ شهر، وبعض شهر ... فما تفكيرك في العودة إليها، وما حنينك إلى أرضها، وسمائها، ونهرها ... إن أرضها تنبت الموت في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، وإن نيلها يجري بالبؤس، والظمأ، والجوع، وإن سماءها تمطر الوباء إمطارا، وتصبه صبا. •••
أقم حيث أنت يا سيدي ... لا تبرح الأرض، ولا تعبر البحر، فإن من ورائه في مصر هولا هائلا، وشرا ماثلا، وبلاء نازلا، وعذابا أليما. إلا أن تكون من الذين لا يحبون الدعة حين تتاح لهم، ولا يحرصون على الأمن حين يساق إليهم، ولا يكرهون أن يلقوا بأنفسهم في النار لعلهم أن يستنقذوا منها بعض الذين يحترقون، وما أراك من هؤلاء. إنما أنت ما علمت محب للدعة، لا تعدل بها شيئا، كلف بالترف، لا تنسى نصيبك منه مهما تكن الظروف، كاره للمشقة مهما تخف، مشفق من العناء مهما يكن يسيرا، محب للمال على علاته لا تزهد في قليله، ولا تسأم من كثيره.
فما تفكيرك في العودة إلى مصر، وما حنينك إلى أرضها التي أصبحت دارا للجحيم ... لا تخدعك الأماني، ولا تضلك الآمال، ولا يستهوك قول الذين يقولون إن الوباء موكل بالبائسين من دون الناعمين، كلف بالفقراء من دون الأغنياء، فمن مأمنه يؤتى الحذر. ولم يستطع أحد إلى الآن أن يرسم للوباء ما ينبغي أن يسلك من طريق، ولا أن يحرم على الوباء هذه السبيل أو تلك. فأقم حيث أنت ... فليس لك في مصر إرب إن كانت لك حاجة إلى الأمن، والدعة، والسلامة. أم تراك مشتاقا إلى مجالسك تلك التي كنت تغشاها أيام الأمن حين كانت تنوب النوائب، وتلم الخطوب، فتتحدث عما كان، وتتنبأ بما سيكون، وتتندر بما قال هذا، وفعل ذاك، وتشفق مما كتبت هذه الصحيفة، وتسخر مما كتبت تلك الصحيفة، وتنعم بهذه الحياة الفارغة التي ينعم بها المترفون المتبطلون. هيهات هيهات ...
أقم حيث أنت يا سيدي، إن كنت تريد العافية، وتحرص على السلامة، فإن مجالسك تلك ما زالت قائمة حافلة بما ألفت فيها من اللهو، والتبطل، والفراغ، ولكن من وراء ما تحفل به من هذا السخف خوفا يملأ القلوب، ويفرق النفوس، وفيها من وراء هذا الخوف تلك الحسرة الضئيلة، الضئيلة التي استقرت من الضمائر في أعماقها، والتي تثيرها تلك الأصوات التي تبلغ النفوس من طريق الحواس كلها، فتنقل إليها أن في مصر جحيما من الوباء، والموت، والفقر، والجهل، والمرض، وجحيما آخر من الحسد، والحقد، والبغض، والموجدة.
أقم حيث أنت ... لعلك أن تأمن هذين الجحيمين، وإن استطعت أن تمد أسباب الهرب، والنجاة لجماعة من أمثالك فافعل، فإنهم ليتمنون الهرب إن وجدوا إلى الهرب سبيلا. فإذا خمدت جذوة الوباء، وانكسرت حدة الشر، فقد تستطيع أن تعود إلى مصر، وأن تستأنف فيها حياة اللهو، والتبطل، والفراغ. فأما الآن فليس إلى شيء من ذلك سبيل.
الحرية أولا
تريد أن تنشئ الذوق الفني المصفى في نفوس الشباب المصريين ليحبوا الجمال، ويذوقوه، ثم لينشئوا الجمال ويبتكروه، ثم ليضيفوا إلى فنهم القديم فنا حديثا، ثم ليشاركوا في تنمية هذا الترف الفني العالمي الذي يجعل الإنسان إنسانا، ويحببوا الحياة إلى النفوس، ويجعلوا الدنيا شيئا ذا خطر على رغم ما يحيط بها من هذه الظروف البشعة، التي تجعلها أهون على الرجل الكريم من جناح بعوضة، لولا أن فيها أشياء تتصل بالذوق فتجعل لها قيمة، وشأنا ...
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب، ليستقبلوا الحياة راغبين فيها، محبين لها، مؤمنين بها، لا ليقنعوا بما تتيح لهم من إرضاء الغرائز، وقضاء المآرب القريبة، وتحقيق الآمال الوضيعة، بل ليتجاوزوا الحياة إلى ما هو أرفع منها شأنا، وأجل منها خطرا، وأسمى منها منزلا، وهو الاستمتاع، والإمتاع بهذه الثمرات الحلوة التى تجد فيها القلوب راحة، وتجد إليها النفوس روحا، والتى تسمو بالناس إلى حيث ينظرون إلى الحياة مزدرين لها، ساخرين منها، زاهدين فيها، بعد أن كانوا يحبونها أشد الحب، ويكلفون بها أعظم الكلف؛ لأنهم يرونها قد انتهت بهم إلى الغاية، وبلغت بهم آخر الشوط، فلا عليهم من أن يتركوها، ولا عليهم من أن تتركهم، بعد أن أتاحت لهم أن يستمتعوا، ويمتعوا لحظة قصيرة أو طويلة بهذا الجمال الذي لا تؤدي وصفه الألفاظ، وإنما تجد روعته القلوب فتنسى في ذاته كل شيء ...
ثم تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب ليعرفوا أنفسهم، وليقدروا وجودهم، وليلقوا من يلقون من الأوروبيين والأمريكيين فيتاح لهم أن يتحدثوا إليهم، ويسمعوا منهم، وأن يفهموهم ما يريدون أن يقولوا، ويفهموا عنهم ما يقولون، لا يجدون في ذلك مشقة، ولا عناء، وإنما يجدون فيه راحة، ومتاعا، ولا يشعرون في أثناء ذلك بما يغض منهم في أنفسهم، ويخيل إليهم، أو يحقق لهم أنهم أقل من الأجنبي الأوروبي والأمريكي؛ علما بما يجب أن يعلم الناس، وشعورا بما يجب أن يشعر به الناس، وتقديرا بما يجب أن يقدره الناس ...
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب لتبلغ بهم هذه المنازل كلها، ولتشعرهم بأن من حقهم أن يعتدوا بأنفسهم، ويعتزوا بقديمهم وحديثهم، ويطمحوا إلى ما يطمح إليه أترابهم من الشباب في الأمم الراقية الآخرى، وهو أن يتلقوا عن آبائهم تراثا كريما، وأن ينموه، ويزيدوا فيه، ويدفعوه إلى أبنائهم تراثا كريما، لينموه، ويزيدوا فيه، وأن يحققوا بذلك لوطنهم ما ينبغي أن يتحقق للوطن الكريم من هذه الحياة التي تنمو على مر الزمن، وتربو على تعاقب الأيام، وأن يحققوا للإنسانية ما ينبغي أن يتحقق للإنسانية من هذا الرقي المتصل، والسمو الممتاز.
تريد أن تنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب، وأنا أيضا أريد أن أنشئ الذوق الفني في نفوس الشباب لأني أعلم كما تعلم أن مهمتنا في الحياة إنما هي تنشيء الذوق الفني في نفوس الشباب ... على هذه المهمة وقفنا جهودنا، وفي هذه المهمة أنفقنا حياتنا، ولهذه المهمة خصصنا ما بقي لنا من حياة. ولكنك تعلم كما أعلم أن شأننا في ذلك كشأن أبي العلاء حين تقطعت به الأسباب في بغداد فقال هذا البيت الذي يراه النقاد قريبا غاية القرب، وتراه أنت، وأراه أنا بعيدا غاية البعد:
فيا دارها بالكرخ إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
يرى النقاد أن أبا العلاء لم يزد على أن تغزل كما تغزل الشعراء من قبله، ومن بعده فذكر دار حبيبته، وذكر المصاعب التي تقوم بينه وبين زيارتها، وترى أنت كما أرى أنا أن أبا العلاء لم يكن من الحب في شيء، وإنما رمز بدار حبيبته إلى مطامعه البعيدة، وآماله النائية، وإلى تلك العقبات التي تحول بينه وبين بلوغ المطالب، وتحقيق الآمال. فتنشيء الذوق الفني في نفوس الشباب يسير كل اليسر، ولكنه على ذلك عسير كل العسر، وهو قريب كل القرب، ولكنه على ذلك بعيد كل البعد، وأي شيء أيسر، وأقرب من أن تمنح الشباب ما يبنغي لهم من الحرية التي تتيح لهم أن يقبلوا، وأن يرفضوا، وأن يحبوا، وأن يبغضوا، وأن يفعلوا، وأن يتركوا حين يريدون هم لا حين يريد غيرهم، وغيرهم هذا كثير لا يكاد يحصى، منه التقليد الموروث الذي يفرض على الشباب أن يفكر، ويعبر، ويعمل، ويشعر كما تلقى ذلك عن أسرته، وعن بيئته لا كما تريد نفسه، ولا كما يريد طبعه أن يفكر، ويعبر، ويشعر، ويسير، ومنه التقليد الاجتماعي المكتسب الذي يفرض عليه أن يحيا كما يحيا الناس، ويحظر عليه أن ينفرد أو يشذ أو يأتي من الأمر ما يكره النظراء والأتراب، ومنه السلطان الذي يشرع القوانين قاسية مرهقة مقيدة، ثم يصطنع في إنفاذها وسائل أشد منها قسوة وإرهاقا وتقييدا.
حرر الشباب، قبل كل شيء، ولو تحريرا موقوتا من هذه القيود كلها أو بعضها. دعهم يفكرون كما يريدون، ودعهم يحيوا كما يريدون، وأرشدهم بالقدوة الصالحة، والأسوة الحسنة، والنصح الرفيق، وثق بأنك إن فعلت أعددت نفوسهم للذوق الفني الرفيع أحسن إعداد وأقومه.
إنك لتعلم أن الفن حرية قبل كل شيء؛ حرية واسعة إلى أبعد غايات السعة، حرية في نفس المنتج، وحرية في نفس المستهلك، كما يقول أصحاب الاقتصاد خذ من شئت من المبدعين في الفن، واستقص حياته فسترى أنه لم يبدع إلا لأنه شذ وانفرد وامتاز، وخرج على ما ألف غيره من القيود، وليس كل الناس ميسرا للفن، وليس كل الناس قادرا على التفوق والابتكار، ولكن من حق الناس جميعا أن تهيأ لهم الفرص، وتمد لهم أسباب التفوق والابتكار، وأول ما يجب لذلك أن يتاح للشباب، وللشباب خاصة ما ينبغي لهم من الحرية التي تفتح قلوبهم وعقولهم، وضمائرهم لكل ما في الحياة من خير وشر، ولكل ما في الحياة من حسن وقبح، ولكل ما في الحياة من حب وبغض، ليقبلوا على اختيار، لا عن اضطرار، وليحبوا ويبغضوا عن رضا لا عن إكراه، فإذا لم تتح لهم هذه الحرية، فلا تبتغ منهم خيرا، ولا ترج منهم نفعا، ولا تنتظر لهم تفوقا، ولا ابتكارا، وإنما انظر إليهم كما تنظر إلى الرقيق المسخرين، وإلى الحيوان الذي تدفعه غرائزه، ويحد من حريته سلطان المستأنسين له المنتفعين به، فيما يحاولون من المآرب والأغراض. إن الفن حرية لا رق ... فإذا أردت من الشباب أن يذوقوا الفن، ويسيغوه، ويحاولوه، ويبتكروه، فاجعلهم أحرارا؛ لأن الفن أثر من آثار الأحرار، لا من آثار العبيد. •••
أي شيء أيسر من أن تجعل الشباب أحرارا؟! إنك لتريد ذلك، وإني لأريده، ولكن أي شيء أعسر من أن تجعل الشباب أحرارا. إن التقاليد الموروثة، والتقاليد المستحدثة، وسلطان الحكومة، وسلطان الجماعة، وظروف الحياة كلها في هذا الوطن البائس تأبى على الشباب أن يكونوا أحرارا ... فأنشد معي إذن قول أبي العلاء:
فيا دارها بالكرخ إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
والتمس من العزائم، والطلاسم، والتمائم ما يحميك، ويحميني من هذه التهمة الكبيرة الخطيرة تهمة الميل إلى إفساد الشباب، وأي خطر على حياة الشباب في بلد كمصر أشد من أن تلتمس له هذه الحرية التي يستمتع بها الشباب في غير مصر من البلاد التي ألفت الحرية، فلم تستطع أن تتسلى عنها، ولا أن تزهد في ثمراتها الحلوة والمرة جميعا.
ثم لا تنس أنك لن تمنح الحرية للشباب حين تضع عنهم إصرهم والأغلال التي تثقلهم من التقاليد والظروف، فقد ينبغي أن يعيش الإنسان قبل أن يكون حرا، وقد ينبغي أن يعصم الإنسان من الحرمان ليعيش ... فحرر الشباب من البؤس، والجوع، وهم التفكير فيما يقيم الأود، وحررهم من الجهل، وأتح لهم علما، وأدبا، وثقافة، ويسر لهم بعد ذلك أن يعيشوا في جو سمح غير متحرج، ولا متزمت، وخل بينهم وبين الدنيا، وما فيها مما يسر، ومما يسوء، مما يحسن، ومما يقبح، مما يلذ، ومما يؤلم، وثق بأنهم سيحسون، ويشعرون، وثق بأنهم سيرضون، ويسخطون، وثق بأنهم سينعمون، ويبتئسون، وثق بأنهم سيستقبلون هذا كله بأنفسهم لا من طريق غيرهم، وثق بأنهم إن استقبلوا الحياة، ولذاتها، وآلامها، وخطوبها، وأحداثها، فسيصورون ما يستقبلون من ذلك، وسيعبرون عنه، وسيتأثرون به، وسيؤثرون فيه، وسيكون كل واحد منهم إنسانا حرا عاملا، وحيثما وجد الإنسان الحر العامل وجد الذوق الفني، ووجدت آثار الذوق الفني من الاستمتاع، والإمتاع جميعا. •••
أذهبت إلى الجامعة؟ أشهدت الشباب الجامعيين حين يختلفون إلى الدروس، ويستمعون إلى الأساتذة، وحين يتحدثون إلى أساتذتهم، وحين يتحدث بعضهم إلى بعض، أرأيت في هذا كله شيئا يشبه ما تعرف من شئون الشباب الجامعيين في البلاد الأجنبية الراقية؟ ألم تر إلى تزمت الأستاذ حين يلقي الدرس، وتزمت الطلاب حين يستمعون له؟ الدرس عبء ثقيل على الأستاذ يتخفف منه بإلقائه في غير حب ولا كلف ولا ذوق، والاستماع عبء ثقيل على الطلاب يتخففون منه، بإحصاء الدقائق، وانتظار الجرس الذي يرد إليهم ظلا من الحرية، ويخلي بينهم وبين الانطلاق إلى ما هم فيه من سخف الحديث، وفيما يتحدث البائسون في أشياء لا تتصل بالثقافة من قريب أو بعيد، في أشياء لا تتصل بالعلم، ولا بالفن، ولا بالذوق، وإنما تتصل بصغائر الأمور، وسفاسفها ... تتصل بالذات القريبة، والمنافع العاجلة، وقد تتصل بالسياسة فلا تمس إلا أدناها إلى السخف، وأبعدها عن الغناء، تتصل بهذه اليوميات التي لا تقدم، ولا تؤخر في حياة الجماعات، فإذا تركوا الجامعة فإلى الجهود الضائعة، والحياة الفارغة، إلى حرمان المحرومين، وشقاء الأشقياء، وصبر الصابرين على المكروه، ويأس اليائسين حتى من روح الله، فإذا أتيح لبعضهم شيء من اللهو، وفضل من المتاع، فأنت تعلم حيث يلتزمون ذلك، وأنت تعلم ما يكون بين ذلك وبين الذوق الفني المترف الرفيع من صلة، والخير كل الخير أن نطوي الحديث عنه طيا. •••
أذهبت إلى مدرسة الفنون الجميلة؟ أرأيت إلى النقش، والحفر، والتصوير، وغيرها من الفنون، تلقى الدروس فيها على الطلاب كما كانت تلقى عليهم دروس النحو والحساب، يدعوهم إليها الجرس، ويصرفهم عنها الجرس، ويشرف عليهم في أثنائها، وفيما بينها نظام دقيق قد رسمت له اللوائح، وبينت له الحدود ... فهم يسكنون بمقدار، ويتحركون بمقدار، وهم يسكتون بمقدار، ويتكلمون بمقدار، مدرسة عسكرية لا أكثر ولا أقل . فكيف تريد للذوق الفني المترف الرفيع أن ينشأ أو ينمو أو يمتاز في هذه البيئات التي لم تخلق إلا لتقتل الذوق أو لتفسده على أقل تقدير؟! وأي شيء أيسر من أن ترد إلى هذه البيئات في الجامعة، وفي مدرسة الفنون الجميلة، وفي معاهد التعليم كلها، شيئا من اليسر، والإسماح، ومن الدعة، والحرية، لأنك تريد ذلك، ولأني أريده، ولكن هيهات ... دون ذلك اللوائح، والقوانين، والأمن، والنظام، والخوف، والإغراق في الخوف. نفوس الشباب المصريين أشبه شيء بهذا العفريت الذي حبسه نبي الله سليمان في قمقم مطبق من النحاس الصفيق، وختم عليه بخاتمه، وأمر به فألقي في أعماق البحر، كما يحدثنا بذلك القاص في ألف ليلة وليلة. وأجسام الشباب المصريين هي هذه القماقم المطبقة الصفيقة، إلا أنها ليست من نحاس، وإنما هي من لحم ودم، والفرق بين هذه النفوس السجينة في قماقمها وبين ذلك العفريت، هو أن العفريت وجد الصياد الذي استخرج قمقمه من أعماق البحر، وفض عنه خاتمه، ورفع عنه غطاءه، وأتاح للعفريت أن يحدث عهدا بالهواء والنور والحرية. •••
فإلى أن تجد نفوس الشباب المصريين هذا الصياد الذي يخرجها من قماقمها، ويرد إليها الحرية، ويخلي بينها وبين الهواء والنور والجمال، تستمتع به، وتمتع به الأجيال ...
إلى أن يوجد هذه الصياد تستطيع أن تتحدث عن الذوق الفني المترف الرفيع، وعن تنشيئه في نفوس الشباب كما تشاء.
ويل الشجي من الخلي
عن أية عاطفة صدرت يا سيدي، حين كتبت إلي كتابك هذا الذي تلقيته من أيام، فلم أدر ماذا أصنع به، ولم أدر ماذا صنع بي! فلو قد استجبت للعواطف الأولى التي أثارها في نفسي، لمزقته تمزيقا، أو لحرقته تحريقا، أو لألقيته في سلة المهملات كما يقول الذين يتبذلون في الحديث.
ولكني أكره أن أستجيب للعواطف حين تجيش، وللغضب حيت يثور، فلم أمزقه، ولم أحرقه، ولم ألق به بين المهملات، وإنما تركته يوما ويوما، ثم عدت إلى قراءته، فلم يثر في نفسي إلا ما أثاره أثناء القراءة الأولى من الغضب، والحفيظة، والموجدة.
ويل الشجي من الخلي ... إنك لرجل ناعم البال، قرير العين، مطمئن القلب، هادئ النفس، مستريح الضمير، تكتب إلى قوم ليس لهم من هذا كله حظ قليل أو كثير؛ فهم مروعون مفزعون، قد شمل القلق نفوسهم، وملأ الحزن قلوبهم، وشاعت الكآبة في ضمائرهم، حتى ضاقوا بالحياة، وضاقت بهم الحياة، وشتان ما حال المقيمين فيما وراء البحر، تبتسم لهم الشمس المشرقة، ويبتسمون لها، ويحنو عليهم الليل الهادئ، ويطمئنون إليه، لا تشغلهم بين ذلك أحداث النهار ولا خواطر الليل، وإنما هم يستقبلون حياة رائقة شائقة، قد فرغوا فيها لأنفسهم، وفرغت فيها أنفسهم لهم. فهم يمرحون، ويفرحون، ويسرحون، ويروحون ... قد أمنوا كل كيد، واعتصموا من كل مكروه.
ولست أزعم أن الحياة من حولك هادئة راضية، وناعمة باسمة، فإن الهدوء والرضى والنعيم والابتسام أمور لا تتاح الآن لكثير من الشعوب، ولكنك تعيش غريبا فيما وراء البحر، قد بعدت عن وطنك فلم تشارك أهله فيما يجدون من البؤس والشقاء ومن الخوف والإشفاق، ومن القلق والاضطراب، وبعدت عن مضيفيك؛ لأنك غريب بينهم، لا تشاركهم في ألم ولا أمل، ولا تشاطرهم نعيما ولا شقاء، وإنما أنت قريب منهم بعيد عنهم، تنعم بما عندهم من نعيم، وتتجافى عما عندهم من بؤس وشقاء.
فأنت الرجل الحر الطليق، وأنت الرجل الموفق السعيد، يأتيك المال كثيرا موفورا من مصر، ويأتيك النعيم كثيرا موفورا من فرنسا؛ لأنك تقدر بالمال المصري الذي لا يجده أكثر المصريين، على أن تحصل من النعيم الفرنسي ما لا يجده أكثر الفرنسيين، فأنت ناعم على رغم المصريين والفرنسيين جميعا، يستخرج لك المال المصري من شقاء مواطنيك، ويستخرج لك النعيم الفرنسي من شقاء مضيفيك ... وأنت مع ذلك ساخط على أولئك وهؤلاء، لا ترضى عما يجري هنا، ولا تطمئن إلى ما يجري هناك، تنكر المصريين لأنهم لم يبلغوا في رقيهم المادي والعقلي ما بلغ الفرنسيون، ولأنهم لا يستطيعون أن يوفروا لك من وسائل الترف والدعة والأمن ما يوفره لك الفرنسيون.
وأنت من أجل ذلك تهجرهم، وتهاجر من أرضهم، وتكتفي منهم بأن يزرع الزارع ، ويصنع الصانع، ويجوع الجائع، ويبتئس المبتئس، ويشقى الشقي، لتجتمع إليك ألوف من الجنيهات تتبعها ألوف، ولتحول لك هذه المقادير الضخمة من المال، ننفقها فيما يحب الله، وما لا يحب من وسائل الترف ... ومواطنوك في شظف من وسائل الراحة والنعيم، ومواطنوك في عناء وشقاء.
وتنكر الفرنسيين؛ لأنهم لا يخضعون للسلطان كما يخضع له مواطنوك، ولا يستكينون للقوة كما تعودت أن ترى الناس يستكينون لها من حولك في مصر، ولا يعبدون عجول الذهب كما تعودت أن ترى الناس يعبدون عجولا ذهبية كثيرة على ضفاف النيل، كما يقول جوت، إن أتاح لك الفراغ والعبث أن تقرأ ما قال جوت. ولكنك مع ذلك تسعى إلى فرنسا كلما أمكنتك الفرصة، وتقيم فيها ما طابت لك الإقامة. يكفيك من أهلها أن يأخذوا منك مالك الذي شقي المصريون ليرسلوه إليك، وأن يعطوك نعيمها الذي يشقى الفرنسيون ليتيحوه لك.
ولو طلب إليك أو أبيح لك أن تتمنى، وأن تعرب عما تتمنى لتمنيت وطنا يجمع بين ما تحب من الرقي المادي والعقلي الذي تعجب به فرنسا، ومن خصال الخضوع للسلطان، والاستكانة للقوة، وعبادة المال التي تعجب بها في مصر، ويبرأ من هذه الخصال التي تنكرها هنا وهناك، وطنا يلائم حبك لنفسك، وإيثارك لها بالخير كل الخير، وازورارك بها عن كل ما يكره أو يشق أو يسوء، ولكن أرح نفسك من هذا العناء، وأعفها من هذه الأماني الكاذبة التي لن تتحقق؛ لأن تحقيقها شيء ليس إليه سبيل. فحيثما وجد الرقي العقلي والمادي الذي تحبه وجد النزوع الذي تكرهه، وتنكره إلى الحرية الحرة التي لا تبيح لأهلها خضوعا، ولا استكانة، ولا إذعانا لسلطان المال، وحيثما وجد الانحطاط المادي والعقلي الذي تكرهه وجد الإذعان والخضوع والاستكانة، وعبادة المال، والفناء في الثراء إلى غير ذلك من الخصال التي تعرفها وتألفها، وترضاها من مواطنيك.
فأنت بين اثنين يا سيدي، ليست لهما ثالثة ... إما أن تعيش في مصر كما نعيش مواجها ما تنكر من الضعف والقصور والتقصير والانحطاط، محاولا كما نحاول إصلاح ذلك، وإما أن تعيش في فرنسا مستمتعا بما يتوق إليه جسمك من هذا النعيم المادي الفارغ، وإلى ما قد يطمح إليه عقلك من هذا النعيم المعنوي الخصب، محتملا ما تعيب على الفرنسيين من طموحهم إلى الخير، ونزوعهم إلى الحرية، ومطالبتهم بالحق، والتجائهم أحيانا إلى ما يغيظك، ويحفظك من مظاهر التمرد، والغلو في الإضراب، وحرمانك بين حين وحين هذه اللذة أو تلك من لذات الجسم والعقل.
فأنت ترى هذه اللذات حقا لك، لا ينبغي أن ترد عنه، ولا أن تجد مشقة في الظفر به، متى شئت وكيف شئت. والفرنسيون يرون مثل ما ترى، ولكنهم لا يؤثرونك أنت وأمثالك بهذا الحق من دون عامتهم، وإنما يريدون أن يظفروا به كما تظفر به، وأن يحصلوا عليه كما تحصل عليه، متى شاءوا، وكيف شاءوا، وألا يذودهم عنه ذائد من فقر أو جهل أو مرض، ومن ظلم أو بغي أو طغيان.
فاختر لنفسك يا سيدي. وقد اخترت فأحسنت الاختيار ... فأنت لا تعيش في مصر لأنها لم تبلغ من الرقي العقلي والمادي ما تحب. ولكنك تستغل مصر؛ لأنها ترسل إليك المال الكثير الذي تشتري به النعيم الكثير، وأنت لا تعيش في فرنسا؛ لأن أهلها لا يخضعون، ولا يخنعون، ولا يقنعون. وإنما تقيم فيها إقامة الغريب، تستمتع بخيراتها، ولا تحمل مع أهلها شيئا من التبعات.
أنت تحيا على هامش مصر، ولكنك تستمد حياتك من صميمها، وأنت تحيا، وتنعم على هامش فرنسا، ولكنك تستمد حياتك ونعيمك من صميمها. يشقى المصريون والفرنسيون جميعا لتحيا أنت، وتنعم بالحياة، ثم لا يجد أولئك ولا هؤلاء منك معونة حين تنزل بهم النوازل، أو تلم بهم الخطوب؛ لأنك قد تركت مصر بجسمك وعقلك جميعا، وتركت فرنسا بجسمك وعقلك جميعا أيضا، وإن أقمت فيها وأطلت الإقامة؛ لأن إقامة الغريب في وطن لا تحمله من تبعات المواطنين شيئا.
لقد اخترت يا سيدي فأحسنت الاختيار فيما ترى ... عشت على هامش الوطنين، واستمددت حياتك وسعادتك من صميم الوطنين، ورضيت لنفسك هذه المنزلة، منزلة الطفيلي الذي ليس هو من أولئك ولا هؤلاء، ولكنه على ذلك يستغل جهد أولئك وهؤلاء، وليس كل الناس قادرين على أن يرضوا لأنفسهم ما رضيت لنفسك، وليس كل الناس يستطيعون أن يكونوا على هامش الحياة في أوطانهم أو في مهاجرهم، فانعم إن شئت بحياتك هذه التي آثرت بها نفسك، ولكن لا تنكر على غيرك من الناس أن تعيشوا كما يحبون، وانظر إلى الحياة إن شئت على أنها متاع عابث، أو عبث ممتع، ولكن لا تنكر على غيرك من الناس أن ينظروا إلى الحياة على أنها جد وكد، واحتمال للأثقال، ونهوض بالأعباء، ومحاولة للنفع، وسعي إلى الخير، وجهاد في سبيل الإصلاح.
أفهمت الآن لماذا تلقيت كتابك، فهممت أن أمزقه أو أحرقه أو أهمله؟ غاظني ما فيه من سخر بمصر لأنك لا تستطيع أن تجد فيها الفنادق التي تجدها في فرنسا، ولا تستطيع أن تجد فيها الملاهي التي تختلف إليها في فرنسا، ولا تستطيع أن تزور فيها المتاحف الفنية الرائعة الكثيرة التي تزورها في فرنسا، ولا تستطيع أن تنعم فيها بمثل ما تنعم به في فرنسا من ضروب اللهو، وألوان المجون، وفنون النعيم.
وغاظني سخطك على فرنسا؛ لأن العمال يضربون فيها فيكثرون الإضراب، ويضيعون عليك من لذاتك المباحة والمحظورة ما أنت حريص على تحصيله؛ ولأن الأحزاب تختلف فتسرف في الاختلاف، وتختصم فتغلو في الخصومة، وينشأ عن ذلك ما ينشأ من الإضراب والاضطراب والمظاهرات، وتردد الفرنك بين الرفعة والضعة، وبين الغلاء والرخص. ويؤثر ذلك كله في حياتك المادية بما يحدث فيها من العسر، وفي حياتك العقلية والشعورية بما يحدث فيها من الخوف والشك والقلق.
ولكن ما رأيك في أن مصر في حاجة إليك، وإلى أمثالك ليستنقذوها من ضعفها، وليبلغوا بها هذا الرقي الذي تحبه، وتتمناه ... فعد إليها، واعمل فيها واعمل لها، وامنحها وقتك وجهدك ومالك إن استطعت، ولكنك لن تستطيع ... فدعها إذن وما هي فيه، ودع أهلها وما هم فيه، إنك لا تستطيع أن تمنحهم معونة ولا حولا ولا قوة؛ تحول الأثرة بينك وبين ذلك ... فأرحها منك، وأرح نفسك منها . خذ ما ترسله إليك من المال، ولا ترسل إليها مكانه سخرية واستهزاء.
وما رأيك في أن فرنسا لم تخلق لك، ولا لأمثالك من الطارئين النازحين الذين يأكلون وينكرون وينعمون ويعيبون، وإنما خلقت لنفسها وأهلها قبل أن تخلق لغيرها من البلاد، وقبل أن تخلق لغير أهلها من الناس. فخذ منها ما تقدم إليك من ضروب اللهو والمتاع، وأد إليها ثمن هذا كله من المال الذي ترسله إليك مصر، وارض عن نفسك، وأنكر على فرنسا إن شئت، ولكن أخف إنكارك، واجعله شيئا بينك وبين ضميرك، ولا تتحدث به إلى الفرنسيين، ولو قد فعلت لألقوك في غيابات السجن إلقاء، أو لنفوك من الأرض نفيا. لا تتحدث إلي، فإني لا أحب الذين يأكلون وينكرون، وينعمون ويسخطون. وإني بعد هذا كله أعجب أشد الإعجاب وأقواه بما أجد في الفرنسيين من هذا النزوع إلى الحرية، والطموح إلى الكمال، والتوثب إلى الخير.
ويل الشجي من الخلي، وويل العاملين من الكسالى، وويل الجاهدين من القاعدين.
أرح نفسك من الناس، وأرح الناس منك، وافرغ لحياتك الفارغة، وإذا لم تجد بدا من الكتابة إلي، فاكتب إلي بما يرضيني ولا يؤذيني، فإني لست منك، ولا من حياتك الفارغة في شيء ... وأنا أهدي إليك مع ذلك تحية فيها من الرثاء لك أكثر مما فيها من السخر منك.
لا ونعم
إن شئت حدثتك بما يرضيك، فللصديق عند صديقه كل ما يحب، وإن شئت حدثتك بما يؤذيك، فللصديق عند صديقه بعض ما يكره، والناس يخطئون حين يظنون أن الصديق لا ينبغي أن يلقى من صديقه دائما إلا ما يسره ويحبره. فالصداقة نصح، وليس النصح حلوا دائما. وما أرى إلا أن الصداقة أشبه شيء بالفلسفة، في رأي أفلاطون ... لا تخلص للحلاوة الحلوة، ولا تخلص للمرارة المرة، وإنما هي شيء بين ذلك يحلو ويمر، ولعله يحلو ويمر في وقت واحد.
فلك عندي إذن ما يسرك، ولك عندي إذن بعض ما يسوءك، ولقد رضيت عنك أمس كل الرضى في أول الضحى، وسخطت عليك أمس كل السخط حين أوشك النهار أن ينتصف. ولقد هممت أن أطوي عنك ما أرضاني وما أسخطني جملة، أو أن أطوي عنك ما أرضاني وما أسخطني حتى ألقاك، فنستأنف ما تعودنا أن نستأنف من الحديث الحر السمح كلما التقينا، ولكني أشفقت إن لقيتك ألا أصارحك بما في نفسي من لوم لك، ووجد عليك ... فأنت رجل حلو المحضر، عذب الحديث، خلاب جذاب، ماهر الجد، حلو الدعابة، تشغل محدثيك بمحاسنك الكثيرة عن عيوبك القليلة، وتلهيهم بالاستماع لك، والإعجاب بك عن التحدث إليك، فكيف بالعتب عليك ... ولقد سألت نفسي، وأطلت سؤالها، وتستطيع أنت أن تسأل نفسك، وتطيل سؤالها. فما رأيت، وما أحسبك سترى أني واجهتك قط بملامة أو عتاب، إنما أواجهك دائما بالثناء والتقريظ وبالإكبار والإعجاب ... فإن أنكرت منك شيئا طويت عنك إنكاري في أكثر الأحيان، وكتبت إليك ببعضه في أقل الأحيان.
فخذ كتابي هذا على أنه من الكتب القليلة التي أرسلها إليك، فلا تكاد تتلقاها حتى تعلم أنها تحمل إليك لوما أو عتبا أو نكيرا أو دعابة لا تخلو من مرارة مرة، وقد أنبأتني بأنك تتلقى هذه الكتب فتضيق بها أول الأمر، وتتثاقل عن قراءتها، لكنك على تضعها منك غير بعيد، وتختلس إليها نظرات فيها الرغبة وفيها الرهبة، فيها الطمع وفيها الخوف، وتمد إليها يدا تقدم لتحجم وتنبسط لتنقبض، ثم تندفع مغامرة فتفض الغلاف في عنف يكاد يفسد ما وراءه، ثم تلتهم عينك ما في الكتاب التهاما. فاصنع بهذه الرسالة ما تعودت أن تضع بأمثالها أو تعجل قراءتها، فأنت وما تريد من ذلك. ولكني واثق بأنك ستجد فيها إخاء الأخ العطوف، ووفاء الصديق الحميم، ومهما تثقل عليك قراءتها الأولى، فستخف عليك قراءتها الثانية؛ لأني أعلم أنك ستقرؤها مرتين، ولعلك أن تقرؤها أكثر من مرتين. لقد كنت رائعا أمس في أول الضحى، مروعا في آخره. •••
كنت رائعا حين كنت تتحدث إلينا عما امتازت به نفس غاندي من العزة السمحة، والإباء الوديع، وحين كنت تحدثنا بأن جمال الحرية، وجلال الكرامة، وروعة العزة والإباء خصال يظهرها اللين أكثر مما يظهرها العنف، ويجليها الأمن أكثر مما يجليها الخوف؛ لأنها لا تستكمل خصائصها إلا حين تظهر متحضرة مترفة مجلوة من كدر الغرائز، ووضر الطبائع الغلاظ.
والعنف يخرج الإنسان عن طوره، ويرده حيوانا لم تهذبه الحضارة، ولم يصف طبعه أدب أو فن، ولم ينق ضميره علم أو فلسفة أو دين. فحرية الإنسان العنيف في أوقات السلم والحرب ليست من الحرية الصحيحة في شيء.
وإنما هي الغرائز المندفعة، والطبائع الجامحة، والثورة المدمرة التي لا تبقي على شيء، وليس يعنيها أن تبقي على شيء؛ لأنها لا تصدر عن قلب ذكي، ولا عن ضمير نقي، ولا عن عقل رفيع نفاذ. إنما هي شيء يشبه عصف الريح، وقصف الرعد، وهياج البركان. فأما الحرية الحرة حقا، الحرية الخصبة المنتجة، الحرية الرائعة التي لا تكاد تظهر حتى تملأ القلوب شعورا، والنفوس نورا؛ فهي هذه الحرية المروية المستبصرة التي تتأثر بالتفكير والذكاء حتى كأنها هي التفكير والذكاء. وكنت تحدثنا بأن الإنسان الكامل في حريته وعزته وإبائه؛ يمكن أن يختصر كله على ما فيه من عسر وتركيب، وتعقيد في كلمة واحدة قصيرة يسيرة، ولكنها على ذلك شاملة خطيرة، وهي كلمة «لا».
وكنت تقول إن كلمة «لا» هذه كنز لا يفنى، وليس إلى فنائه سبيل؛ لأن حول الإنسان من ضروب الترغيب وألوان الإغراء والدعاء ما لا سبيل إلى إحصائه، ولأن ما يلائم عزته وكرامته من هذا كله أقل من القليل؛ فالإنسان الحر الكريم هو الذي يستطيع أن يقول بقلبه وضميره وعقله ولسانه: «لا» ... يقولها لكل ما يدعوه أو يغريه أو يرغبه فيما لا يلائمه من عمل أو قول أو سيرة أو تأثر أو تأثير، يقولها حين تدعوه المائدة إلى أن يأكل أكثر مما ينبغي، أو إلى أن يشرب أكثر من طوقه، ويقولها حين يدعوه الجمال إلى فتنة الحس، ويقولها حين تدعوه القوة إلى الطغيان والبطش والظلم، ويقولها حين يدعوه الضعف إلى الاستكانة والإذعان والذل، ويقولها حين يدعوه الثراء إلى الطمع والجشع والبخل، ويقولها حين يدعوه الإعدام إلى السؤال والإلحاف والسرقة والمكر ، ويقولها حين يدعوه السلطان والجاه إلى الأثرة والاستئثار والمحاباة، ويقولها حين يدعوه التفوق والامتياز إلى الاستكبار والغرور. وكنا نستمع لك معجبين بك، وقد اتصلت عقولنا بعقلك، وقلوبنا بقلبك، وتعلقت نفوسنا بشفتيك. وما أرى إلا أنك قد أخذت ترضى عن نفسك، وتعجب بها حين بلغت من قراءة رسالتي إلى هذا الموضع، ففيك شيء من الضعف للثناء عليك، يدعوك إلى شيء من العجب والتيه حين تحس الإعجاب بك والرضى عنك. •••
وما أرى إلا أنك قد وضعت الكتاب حين بلغت منه هذه الجملة، فاستأنيت شيئا، ومددت بصرك أمامك، كأنك ذاهل بعض الذهول، ثم انحرفت إلى يمين، فألقيت نظرة سريعة خاطفة على هذه المرآة التي تقوم غير بعيد من سريرك ... فأنت تقرأ كتابي هذا في غرفة نومك؛ لأنك لا تخرج منها إلا بعد أن تفرغ من الصحف، وتقرأ ما يحمل إليك البريد، ثم أنت تعود إلى الكتاب فتقرؤه من أوله، تريد أن تتذوق ما فيه من ثناء عليك، وتقريظ لك، كأنك تجد في هذه القراءة المعادة، أو كأنك تستمد من هذه القراءة المعادة؛ شجاعة تعينك على المضي في الكتاب إلى آخره، وعلى استقبال ما ينتظرك فيه من ملامة وعتاب.
كنت إذن تحدثنا، فتروعنا بألفاظك العذبة، ومعانيك الساحرة، وفطنتك البارعة، وعقلك النافذ إلى أعماق الحياة. ولكن التليفون يدعوك، فلا تكاد تستجيب لمن يتحدث إليك من أقصى الخيط حتى يضعف صوتك بعد قوة، ويلين بعد شدة، ويتهالك بعد امتناع وإباء، وقد عرفنا مما سمعنا من كان يتحدث إليك من أقصى الخيط، فكدنا ننكر، ولكنا لم نفعل، وإنما أحسنا بك الظن، وقدرنا أنه حسن العشرة وجمال الأدب ورقة الحاشية وترف الذوق. ومضيت في حديثك عن كلمة «لا» هذه، تبين لنا تصويرها لحرية الفرد، وتبين لنا تصويرها لحرية الجماعة، وتبين لنا تصويرها لحرية الشعب، وتوازن بينها وبين كلمة «نعم» حين تكثر منها نفس الفرد ولسانه، فيتورط في الموبقات التي تضنيه، وحين تكثر منها نفوس الجماعات وألسنتها فتتعرض للذلة والهوان، وحين تكثر منها سيرة الشعب فيتعرض للظلم والاستبداد، وحين تكثر منها سيرة الحكومات فتتعرض للعدوان، والاستعمار.
وأنت تضرب لهذا كله الأمثال من حياة المصريين، ومن حياة غير المصريين، فيما كان من أمرهم، وفيما هو كائن، وأنت تتمنى علينا أن نعلم المصريين كلمة «لا»، وأن نذيعها في بيئاتهم مهما تختلف، وفي طبقاتهم مهما تتفاوت لعلهم أن يجمعوا عليها فتسلم لهم حريتهم وكرامتهم، ولعل حكومتهم أن تؤمن بها، وتنطق بها، وتصر عليها، فتسلم لمصر سيادتها واستقلالها.
ولكن حاجبك يقبل فينبئك بمقدم الوزير. وإذا أنت تخف في غير أناة، وتسرع في غير وقار، وينظر جلساؤك إليك مسرعين، ثم ينظر بعضهم إلى بعض متباطئين متسائلين، ثم تثور في نفوسهم وقلوبهم خواطر متباينة، وعواطف متناقضة لست في حاجة إلى أن أجلوها لك أو أعرضها عليك، فقد قلد أكثرهم سيرتك، فخف في غير أناة، وأسرع في غير وقار، وإذا أنتم جميعا تهرعون لاستقبال الوزير، وصدق أقلهم مقالتك فتمهل، واستأنى ولبث في مكانه. حتى إذا أقبل الوزير قام في أدب، وتلقى تحيته في احتشام، وردها إليه في ظرف، وعاد إلى مجلسه في وقار. •••
وأنت تذكر بعد ذلك ما كان من سيرتك وسيرة جلسائك مع الوزير، وما كان من سيرة الوزير معك ومع جلسائك، منذ أقبل إلى أن انصرف. وأنت تذكر ما كان من خفتكم لتشييعه في غير أناة، ومن إسراعكم إلى مرافقته في غير وقار، ومن عودتكم بعد ذلك وعلى ثغوركم ابتسام خير منه العبوس، وفي وجوهكم إشراق خير منه الإظلام، ولكن في ألسنتكم انعقادا أفصح من الكلام؛ لأن قلوبكم كانت مستحيية، ولأن ضمائركم كانت مستخذية، ولأن غشاء رقيقا من الكآبة الفاترة كان يقوم دون عقولكم، فيمنع نورها أن ينفذ إلى خارج، ويمنع نور الحياة والحرية أن ينفذ إليها. والحمد لله على أن قلوبكم ما زالت شاعرة تجد الحياء، وعلى أن ضمائركم ما زالت نقية يظهر فيها كدر الاستخذاء، وعلى أن عقولكم ما زالت صافية تغشاها الكآبة بين وقت ووقت، حين ترى ما لا يجمل بكرام الناس، فليس يجمل بكرام الناس أن يحبوا كلمة «لا» إذا خلوا إلى أنفسهم، وأن يقولوا «نعم» إذا لقوا أصحاب الجاه أو السلطان، وليس يجمل بكرام الناس أن يتحدثوا حديث الأحرار، ويسيروا سيرة العبيد، وليس يجمل بكرام الناس أن يناقضوا إلى هذا الحد بين ما يعتقدون في دخائل نفوسهم وأعماق ضمائرهم، وما يظهرون من سيرتهم حين يعاشرون أمثالهم من الناس. فالوزير يا سيدي رجل مثلك مهما يكن حظه من القوة والسلطان، ومهما يكن حظه من الذكاء والحذق، ومهما يكن حظه من التفوق والنبوغ ... هو رجل مثلك، خلق من تراب، وسيعود إلى تراب، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وينام كما تنام، ويستيقظ كما تستيقظ، ويسعى بين الناس كما تسعى أنت بين الناس، ويخلو إلى نفسه كما تخلو أنت في نفسك ... فحقه عليك كحقك عليه، لا ينبغي أن ينقص، ولا ينبغي أن يزيد.
استغفر الله، بل حقه عليك أقل جدا من حقك عليه؛ لأنك قد نصبته لخدمتك، وكلفته النهوض ببعض أمرك، وأجرته على ذلك أجرا يقبضه في كل شهر، حين يأخذ مرتبة هذا الضئيل، ويقبضه في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل لحظة، يستمتع بما تحيطه به الدولة من مظاهر السلطان والجاه.
فأما هو فلن ينصبك لشيء، ولم يكلفك شيئا، ولم يأجرك على شيء، وليس له عندك إلا ما للإنسان عند الإنسان من الرفق الرفيق، والمعاملة الكريمة، والأدب الجميل، ولعمري لئن عجزت عن أن تمسك على نفسك إباءها أمام وزير أنت شاركت في جعله وزيرا، لتعجزن أشد العجز وأشنعه حين تغريك المغريات، وتخوفك المخوفات ... وما أكثر ما في حياة الناس، وفي حياة أمثالك خاصة، مما يغري ويخيف. وعزيز علي أيها الصديق الكريم أن أسوءك بقول أو فعل، ولكن الصداقة نصيحة قبل كل شيء، ولم ينصح لك من أبدى لك ما يسرك، وأخفى عليك ما يسوءك. •••
فاستقبل أمرك ذكيا نقيا أبيا، واجتهد في أن ترى نفسك كما أراها، فتعرف منها مثل ما أعرف، وتنكر منها مثل ما أنكر، وإذا تعلقت علي بما تنكر من أمري، فافرض على نفسك من النصح لي والعنف بي، مثل ما أفرض على نفسي في ذاتك، واذكر أن قوما كانوا في الدهر يصنعون الأصنام ليعبدوها، وأن الزمن قد تقدم وتقدم، وأصبح مما لا يلائم كرامة الناس أن يصنعوا الوزراء ليقدموا إليهم الطاعة والخضوع.
صحائح الأنباء
في أي أنباء مصر تريد أن أكتب إليك أيها الصديق الكريم؟ فيما يرضيك ويلهيك، أم فيما يؤذيك ويضنيك ... فعندي وعند كل مصري من هذه وتلك أطراف. أمرنا في ذلك كأمر غيرنا من الناس في غير مصر من البلاد. فعند كل إنسان مهما يكن، ومهما يكن بلده؛ أنباء تسر وتلهي، وأنباء أخرى تسوء وتؤذي؛ لأن حياة الناس كلهم في عصورهم كلها، وفي أوطانهم كلها مزاج من الجد والعبث، ومن الخير والشر، ومن اللذة والألم، ومن الحزن والسرور.
في أي أنباء مصر تريد أن أكتب إليك إذن؟! أما إن كنت راضي العيش، ناعم البال، مطمئن القلب، فقد ينبغي أن أكتب إليك في أنباء مصر التي تحزن بعض الحزن، وتنغص بعض التنغيص ليعادل ما تحمل إليك من المساءة بعض ما أنت فيه من المسرة. وأما إن كنت ضيق النفس، كئيب الضمير، محزون القلب، فقد ينبغي أن أكتب إليك فيما يسليك ويلهيك، لتجد فيما يلقاك من ذلك راحة تخفف ما أنت فيه من جهد، وسرورا يلطف ما أنت فيه من حزن، ورضى يردك إلى ما ينبغي لك من اعتدال المزاج ...، ولكن لا أعرف من أمرك شيئا، وقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر وبعض شهر. ورسائلك لا تنقطع إلا حين تشغلك السعادة أو حين يشغلك الشقاء، فأنت رجل تؤثر نفسك بما يتاح لك من الخير، وبما يعرض لك من الشر، ولا تفكر في أصدقائك، ولا تكتب إليهم إلا حين تفرغ من السعادة والشقاء جميعا، وتضطر إلى هذه الحياة الهادئة التي تضيق بها، وتضيق بك، فتتسلى عنها، وتسليها عنك بالتفكير في الأصدقاء، والسعي إلى لقائهم إن كانوا قريبا منك، والكتابة إليهم أن نأت بهم عنك الدار. •••
فأنت في هذه الأسابيع الكثيرة التي لم تصل إلي فيها رسائلك؛ مشغول عني وعن غيري بنعمة سيقت إليك أو نقمة صبت عليك. وأنا من أجل ذلك حائر في أمرك وأمري، أخشى أن تكون سعيدا فيشغلك كتابي عن سعادتك، وأخشى أن تكون شقيا فيكون في تأخير الكتابة إليك شيء من التقصير في ذاتك، والتفريط فيما ينبغي لك من الحق علي، إن نابتك النوائب أو ألمت بك الملمات. وما أكره أن تستأثر بما يتاح لك من الخير لأني أحبك، وما أريد أن تستأثر بما يعرض لك من الشر لأني أشفق عليك. فخذ كتابي إذن كما هو وانظر في أوله، فإن كنت سعيدا فدعه حتى تفرغ من سعادتك أو تفرغ منك سعادتك فليس من هذا بد؛ لأن سعادة الناس في هذه الحياة سحابة صيف لا تظل إلا لتنقشع، ولا تلم إلا لتزول، وإن كنت شقيا فاستعن به على دفع ما يغشاك من الشقاء. •••
وفي أنباء مصر - والحمد لله - ما يسلي المحزون عن حزنه، وينغص على السعيد سعادته، ويدعو الرجل العاقل الأريب إلى إطالة التروية والإمعان في التفكير.
لقد بعد عهدك بمصر أيها الصديق الكريم، وطال فراقك لها، وقد جدت فيها أمور وحدثت فيها أحداث غير تلك الأمور وهذه الأحداث التي تنقلها إليك الصحف التي تصدر حيث تقيم، والتي تأتيك من حيث نقيم نحن؛ لأن الصحف لا تنقل من الأحداث والأنباء إلا ظواهرها، فأما حقائقها ودقائقها وأسرارها ومصادرها، فليست من الصحف في شيء، وليست الصحف منها في شيء. وما أكثر الأنباء التي تروى في الصحف قد رواها الكتاب عن غير فهم، وقرأها القراء عن غير فهم أيضا، وتحدث بها المتحدثون، وذهبوا في تأويلها المذاهب عن غير فهم كذلك؛ لأنهم عرفوا ظواهرها، وجهلوا حقائقها، ولأن الصحفين لا يكتبون التاريح، تعجلهم عن ذلك مهنتهم التي تضطرهم إلى الإسراع، وإلى النظام، وإلى أن يملئوا صحفا بعينها في أوقات بعينها، لا ينبغي أن يسبقوها، ولا ينبغي أن يتأخروا عنها. فهم معجلون مهما يتمهلوا، وهم مسرعون مهما يستأنوا، وهم مقصرون مهما يتكلفوا من البحث والاستقصاء. •••
وقد قرأت في الصحف، ونقل إليك الناقلون من غير شك أن في مصر نظاما مبتكرا لا يعرفه بلد من بلاد الأرض، وهو توكيل الشرطة بالجامعات ومعاهد العلم تحرسها حين يسفر الصبح، وتحرسها حين يظلم الليل، وتحرسها بين ذلك حين تستوي الشمس في كبد السماء، وحين يبسط الظلام سلطانه الرهيب على الكون. وزعم لك بعض الصحف، وقال لك بعض القائلين إن هذا النظام المبتكر البديع قد أريد به إلى حصار الجامعات، ومعاهد العلم حتى لا ينفذ إليها أحد من غير أهلها، مخافة أن يشغل الجاهلون طلاب العلم عن علمهم، وزعمت لك صحف أخرى، وقال لك قائلون آخرون إن هذا النظام المبتكر البديع إنما أريد به إلى حماية الجاهلين الغافلين من المتعلمين المتنبهين، مخافة أن ينتشر الجامعيون والمثقفون في الأرض ليملئوها شرا بعد أن ملئت خيرا. وقال لك أولئك وهؤلاء إن في هذا النظام المبتكر البديع عبثا بالحرية وتضييقا على الناس في حياتهم، فبين الجامعيين والمتعلمين وبين الجاهلين والغافلين صلات يجب أن ترعى، وعرى يجب ألا تنفصم؛ صلات الأبوة والبنوة والإخاء وصلات الرحم والقرابة والمودة، وكل هذه الخصال لا ينبغي أن تقطع لأن الله أمر بها أن توصل، فهذا النظام شر، وهذا النظام نكر، وهذا النظام بغيض إلى آخر ما قيل، وإلى آخر ما سيقال ما دام هذا النظام المبتكر البديع قائما، وما دام الصحفيون يكتبون عن غير استقصاء، وما دام الناس يقولون بغير علم، ويخوضون فيما لا يحسنون الخوض فيه، ودعني أستعر من أبي العلاء بيته المشهور:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
وأنا أعلم أنك لن تسعى إلى لقائي؛ لأنك تؤثر غربتك، وتألف ما أنت فيه من كسل. فأنا أسعى إلى لقائك بهذا الكتاب لأسمعك أنباء الأمور الصحائح عن رغبة منك فيها أو انصراف منك عنها، فما أحب لك أن تجهل مع الجاهلين، وتخطئ مع المخطئين. وقد علمت أن مصر ما زالت سباقة إلى الخير، نفاذة من المشكلات، حلالة للألغاز؛ فقد استكشفت مصر في هذه الأيام الشداد أن العلم ينفع ويضر ويحسن ويسيء؛ ينفع إذا استأثر به العلماء الذين يحسنون فهمه وتصريفه، ويضر إذا خلص إلى الجهلاء أو خلص إليه الجهلاء الذين لا يسيغونه، ولا يعقلونه، ولا يحسنون التمثل له، والانتفاع به ... شأنه في ذلك شأن السلاح الخطر الذي لا يحسن استعماله إلا من كان به خبيرا، وشأن العقاقير الخطرة التي لا ينبغي أن يخلى بينها وبين الذين لا علم لهم بالطب وطبائع الأمزجة والأجسام. وما رأيك لو أبيحت القنابل الذرية للناس جميعا، وما رأيك لو أصبحت ألوان السم الزعاف قريبة المتناول من أيدي الناس جميعا. فالعلم أشد خطرا من القنابل الذرية لأنه يبتكرها، وهو أشد خطرا من السم الزعاف لأنه ينشئه ويركبه، ويقدر حظه من كل دواء. •••
وقد لاحظت مصر في هذه الأعوام الأخيرة أن قليلا من علم العلماء قد خلص إلى جهل الجهلاء، ففسدت لذلك أمور الناس وأخلاقهم وصلاتهم وأحكامهم على الأشياء، وتصورهم للحياة. فشكا من لم يألف الشكاة، وسخط من لا يعرف السخط، ورضي من لم يكن له حظ من رضى، وأمن من لم يكن ينبغي له الأمن، وخاف من لم يكن للخوف إليه سبيلا.
ونظرت مصر، فإذا أهلها ساخطون صاخبون قلقون مضطربون، لا يرضون عن شيء، ولا يرضى عنهم شيء، قد عبسوا للحياة، وعبست لهم الحياة، حتى أنكرتهم شمسهم المشرقة، وأنكروا هم شمسهم المشرقة، حتى ضاق بهم نيلهم الهادئ السمح، وود لو تحول عن واديهم فشق مجراه في الصحراء، حتى لا يرى هذه الوجوه العابسة، وهذه النفوس المظلمة، وهذه القلوب التي بعد عهدها بالاطمئنان. •••
هنالك التمست مصر لهذه الآفات الطارئة أسبابها، وبحثت عن مصادرها، فلم تجد لها سببا ولا مصدرا إلا هذه المعرفة التي تنسل من الجامعات ومعاهد العلم ... فتلم بالأندية والدور، وقد تتسكع في الشوارع والحقول، فتصادف عقولا خلقت للجهل والغفلة، وقلوبا خلقت للجمود والهمود، فتفسد على الناس أمورهم كلها. وليس أحب إلى مصر من أن يكون أهلها أحرارا، وليس أحب إلى مصر من أن يكون أهلها علماء، ولكن الحرية والعلم من هذه الأشياء الخطرة التي لا ينبغي أن تعطى للناس بغير حساب، وإنما يجب أن تقطر لهم تقطيرا، وتقدر لهم تقديرا، ويقتر عليهم فيها تقتيرا. من أجل ذلك، ومن أجل ذلك وحده آثرت مصر سلامة أبنائها من أن يسرفوا على أنفسهم في العلم، وما يستتبع من الحرية وتنبه الشعوب، فندبت شرطتها وجيشها لحمايتهم من هذا الخطب الملم والوباء المبيد.
ولهذا، ولهذا وحده ضرب حول الجامعات، ومعاهد العلم بهذه الأسوار الكثاف الصفاق من قوة الشرطة والجند حماية للجاهلين من علم العلماء، وحماية للعالمين من جهل الجهلاء، فمخالطة الجهلاء خطر على المتعلمين، ومخالطة العلماء خطر على الجاهلين، والدولة الرشيدة الحازمة خليقة أن تفرق بين أولئك وهؤلاء، وألا تصل بينهم الأسباب إلا بمقدار. •••
وقد لاحظت مصر أن هذه القصة ستثير لها مشكلة من أشد المشكلات عنفا، وأعظمها تعقيدا، فشرطتها محدودة، وجيشها معدود قليل العدد، وهما لا يكفيان لحماية الناس من علم العلماء، وعدوان المعتدين، وإنما يكفيان لحمايتهم من أحد هذين الشرين لا منهما جميعا. ففكرت، وقدرت، ودبرت، ورأت أن شر العلم أشد خطرا من شر العدوان، فالمجرم الواحد أو المجرمون الكثيرون يصيبون الشخص الواحد أو الأشخاص في الأماكن النائية والمواطن المتباعدة على حين تفسد القطرة الضئيلة من العلم والمعرفة عقولا وقلوبا كثيرة لا يبلغها العدد. من أجل ذلك نقلت إليك الصحف، وقال لك القائلون إن أمور الأمن تضطرب في مصر بين حين وحين، فيصرع هنا قاض، ويخطف هناك معلم، وتسرق دار في هذه المدينة أو تلك، وتقع موقعة في قرية من قرى الشمال أو من قرى الجنوب ... لا ينشأ هذا عن تقصير من أولي الأمر، ولا عن تفريط في جنب الأمن، وإنما ينشأ هذا عن موازنة بين ألوان البشر، واختيار لأخف الضررين، وإذعان لأحكام الضرورات الملجئة، والناس ساخطون دائما ناقدون دائما، تطول ألسنتهم فتسرف في الطول، وتجمح أقلامهم فتغلو في الجموح، وتحميهم الدولة من العدوان فيشكون من انتشار العلم، وتحميهم الدولة من انتشار العلم فيشكون من انتشار الإجرام، وينسون قول الشاعر القديم:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فلا أرى للمضطر إلا ركوبها
هذه يا سيدي هي بعض الأنباء الصحائح التي أشار إليها أبو العلاء، وما أكثر الأنباء الصحائح في هذه الأيام، وما أقل فهم الناس لها، وتعمقهم لحقائقها، وما أجدرني بأن أحدثك بألوان منها؛ لتعلم أين نحن وأين أنت، ولتوازن بين حياتك المطردة وحياتنا المضطربة. ولكن أعلم أنك لا تريد أن توازن، ولا أن تقيس على أن تعرف من أمرنا شيئا، وما أنت وحياتنا هذه الخصبة التي تتعب وتشق لكثرة ما فيها من الخصب الذي يغزو القلوب والعقول.
ألم تحدثني في آخر كتبك إلي بأنك تؤثر نعمة الجهل على شقاء العقل ... فانعم بجهلك حيث أنت، ودع لنا ما نحن فيه، وتقبل تحية كلها رثاء لك، وإشفاق عليك.
إخوان الصفاء
لم أضق بكتابك حين تلقيته، ولا حين قرأته لأني تعودت في هذه الأعوام الأخيرة أن أتلقى أمثاله في غير ضيق، وأن أقرأها في غير ملل، وأن أنشد بعد قراءتها قول أبي العلاء رحمة الله:
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى
لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى
فمتى أودع خلي التوديعا
ولا يثقل عليك هذا البيت الثاني، وما فيه من تكلف، فلا بد من أن تقبل الشعراء على علاتهم، وعلة أبي العلاء أنه عاش في عصر تكلف وتصنع، فلم يكن له بد من أن يتكلف ويتصنع، وقد أراد أن يذكر كثرة توديعه للأصدقاء وضيقه بفراقهم، وأن يتمنى على الدهر، لو أن الدهر يستجيب لمن يتمنى عليه، أن يريحه من الوداع، وما يثير في القلب من الحزن والأسى، وما يغمر النفس به من اللوعة الاكتئاب، فسلك إلى معناه القريب طريقه هذه البعيدة، وزعم أن توديع الأصدقاء قد أصبح له صديقا بغيضا ود لو يخلص من صداقته وعشرته.
فاقبل لفظ أبي العلاء كما تيسر له، وكما نقل إليك، وقف عند معناه فإنه خليق أن تقف عنده؛ لأنه يصور نفسا كريمة، وقلبا ذكيا، وضميرا وفيا، وحرصا أشد الحرص على الوفاء، وهو على ذلك يصور ذات نفسك وذات نفسي في شيء من القصور لا من التقصير، فكلانا حريص مهما تضعه الخطوب على ألا يضيع ود الأصدقاء، وكلانا يجد في استبقاء المودة، والاحتفاظ بالإخاء راحة وروحا ولذة ومتاعا، ولكن كلينا ممتحن، لا بكثرة التوديع للأصدقاء للنوى، ولكن بكثرة التوديع للأصدقاء للموت، أو للقطيعة التي هي شر من الموت. فأنت لا تفقد صديقك الذي يستأثر به الموت من دونك، أو قل إنك لا تفقده كله، وإنما تفقد محضره، وتحرم لقاءه، وتبقى لك منه ذكرى فيها كثير من حسرة، وأسى، ولكن فيها كثيرا من دعة النفس، ورضى القلب وراحة البال. تحزن لأنك لا تلقاه ولا تنعم بعشرته، وترضى لأنك تذكر صفاء مودته، وصدق إخائه، وأنه قد وفى لك، وأنك قد وفيت له، وأنه قد فارقك راضيا عنك، وأنك قد فارقته راضيا عنه، فتجد في هذا الشعور شيئا من عزاء، وتضيف هذه الذكرى إلى هذا الكنز النفيس الذي يغنى به قلبك، وتنعم به نفسك، وتستريح إليه كلما ضاقت بك الدنيا أو كربتك الخطوب.
فأما القطيعة فإنها لا تترك في قلبك إلا الحسرة الخالصة، واللوعة المصفاة. وويل للقلوب من الحسرة الخالصة، فإنها تلتهم الحياة كما تلتهم النار الحطب، وويل للنفوس من اللوعة المصفاة، فإنها أفتك بها من السم الزعاف. •••
وأنت تشكو إلي تنكر فلان لك وازوراره عنك، وتأليبه عليك. وماذا تريد أن أصنع؟ وقد تنكر لي قبل أن يتنكر لك، وازور عني قبل أن يزور عنك، وألب علي قبل أن يؤلب عليك. وهلا سرت فيه سيرتي، ولقيت قطيعته كما لقيتها؟ فإني لم أشك إليك، ولم أشك إلى أحد من تنكره وتنمره وازوراره، وإنما طويت عن هذا كله كشحا، وضربت عنه صفحا، وأضفته إلى هذه المحن التي يمتحن الناس بها في هذه الأيام، والتي لا حاجة إلى إحصائها لأنها أكثر من الإحصاء، ولا إلى التفكير فيها لأنها قد كثرت وكثرت حتى أصبحت أهون من أن نفكر فيها، أو نقف عندها أو نضيع في استعراضها ما بقي لنا من الوقت والجهد والنشاط. فأقبل على الناس ما أقبلوا عليك، وأعرض عنهم ما أعرضوا عنك، وامنحهم من قلبك صفوه وعفوه. لا تضمر لهم كيدا، ولا تبغهم شرا، ولا تدخر عليهم موجدة، وأرح نفسك وأرحني، وأرح الناس من شكوى الزمان، والتبرم بالإخوان، والحزن لقطيعة الصديق، والأسى لغدر الخليل. وألق عن نفسك هذه الفكرة الخاطئة، فإن الزمان لم يتغير، وإن طبيعة الناس لم تتبدل، وليس الزمان الذي تعيش فيه بشر من الزمان الذي عاش فيه أسلافك، وليس الجيل الذي تعاشره بشر من الجيل الذي عاشره الآباء والأجداد؛ فالشمس تجري لمستقر لها منذ كانت الشمس، والنهار والليل يستبقان منذ كان الليل والنهار، والإنسان هلوع منذ كان الإنسان يجزع إن مسه الشر، ويجزع أن ظن أن قد يمسه الشر، ويبخل إن مسه الخير، ويهيء نفسه للبخل إن ظن أن قد يمسه الخير.
وصاحبك هذا الذي جفاك بعد صفاء، ونبا جانبه بك بعد لين؛ هلوع كغيره من الناس، أشفق أن تجر عليه مودتك شرا فاتقاه بسد الذرائع كما يقول الفقهاء، وخاف على ما في يده من الخير أن ينقصه اتصاله بك فاستبقاه بقطيعته لك، وابتغى منه المزيد. ففيم تلومه، وقد جرى مع طبعه، وأرسل نفسه على سجيتها؟! فاتقى الشر ما وجد إلى اتقائه وسيلة، وابتغى الخير ما وجد إلى ابتغائه سبيلا. •••
وحضارة الناس متكلفة، كانت بعد أن لم تكن، واستحدثت شيئا فشيئا بعد أن عاش الناس دهرا لا حظ لهم منها، ولا سهم لهم فيها. فليس غريبا أن تغلبها الغرائز بين حين وحين، وليس غريبا إلا تثبت لقوة الطبع، وسجية النفس، وحب الحياة، والتماس المنافع واستبقائها.
والصداقة أثر من آثار هذه الحضارة المتكلفة المكتسبة. فهي تجري على وتيرتها، وتسلك طريقها، وتتأثر بما تتأثر به من الخطوب والأحداث.
وأنت ترى الخوف يخرج الناس عن أطوارهم، ويذهلهم عن أقدارهم، وينسيهم ما يحسن وما لا يحسن، ويخفي عليهم ما يجمل وما لا يجمل، ويلبس عليهم ما يليق بما لا يليق. والقوانين المشروعة تغفر لهم ما يدفعهم إليه الهلع والفزع من المآثم والموبقات. وقد هلع صاحبك حين رأى الأمر إلى من لا يحبك ولا يدانيك، فمال مع الريح، وانعطف مع المنفعة، وآثر نفسه بالخير، وضحى بالود القديم، فاغفر له، واصفح عنه، ولا تضع نفسك في موضعه، ولا تقل إنك قد امتحنت بمثل محنته فوفيت للصديق، وضننت بالإخاء، فليس كل الشجر يثبت للريح العاصفة، وإنما يثبت لها الشجر الضخم الذي رسخت أصوله في الأرض، وارتفعت فروعه في السماء. فقل إنك شجرة تثبت للريح، وإن صاحبك هذا نجم يميل معها كل ميل.
ولا تقل إن الناس يخطئون حين يسرفون في الصداقة، ومن حقهم أن يبخلوا بها، ويبذرون المودة، ومن حقهم أن يحرصوا عليها، ويقتصدوا فيها لأن حياتهم قصيرة، والصديق الوفي نادر قليل. فكل هذه خواطر وآراء لا تخطر إلا للذين تأصلت في نفوسهم الحضارة، ورسخت في قلوبهم المودة كما رسخت في الراحتين الأصابع على ما يقول قيس بن ذريح. وهؤلاء هم الصفوة القليلة التي لم تخلق لتشيع وتكثر، وإنما خلقت لتقل وتدخر، وتكون مضربا للمثل، وموضوعا لأحاديث الكتب، ومسرحا لخيال الشعراء. •••
وأنت قد قرأت الكتب، ورويت الأخبار، ووعيت الآثار، وحفظت الحكم النادرة، والأمثال السائرة، وعلمت فيما علمت أن من حماقة الناس أن يبخلوا بالمال، ومن حقه أن ينفق في وجوهه بغير حساب، وأن يسرفوا في الصداقة، ومن حقها أن يبخل بها أصحابها أشد البخل وأعظمه وأقساه، لأن المال غاد ورائح يذهب عنهم اليوم، وقد يعود إليهم غدا، ولأن الصداقة ليس من طبيعتها الغدو والرواح، ولا المجيء والذهاب، وإنما طبيعتها الثبات والاستقرار. فإذا رأيت من يبخل بالمال حين يجب إنفاقه، فاعلم أنه أحمق سفيه، وامنحه من نفسك ازدراءها في غير هوادة ولا رفق. وإذا رأيت من يسرف في الصداقة ويبذرها تبذيرا، فاعلم أنه شرير من إخوان الشياطين، وامنحه من نفسك مقتها وغضبها في غير مهل ولا أناة، وارفع نفسك على كل حال عن الاحتفال بمن يبخل بالمال، والالتفات إلى من يسرف في الصداقة، وكلهما جميعا إلى غرائزهما الجامحة وطبائعهما المنحرفة، لا تقدر لهما قدرا، ولا ترج لهما وقارا، ولا تحسب لهما حسابا، ولا تكلف نفسك في سبيلهما حزنا ولا ألما ولا عناء، فهما أهون من ذلك، وأقل شأنا. •••
أما بعد فقد تلقيت كتابك، وأنا أنعم بحياة راضية لا لغو فيها ولا تأثيم، قوامها القراءة ومعاشرة هؤلاء الأصدقاء الذين لا يملون، ولا يثيرون في أنفسنا الملل ... الذين يستجيبون لنا إذا دعوناهم، ويمنحوننا الروح إذا استرحنا إليهم. لا يمنون، ولا يتجنون، ولا يتكلفون المعاذير، ولا يتلمسون العلل، وإنما يستجيبون لنا هونا حين ندعوهم، وينأون عنا هونا حين ننصرف عنهم، لا يتعللون ولا يتعاتبون ولا يتكذبون ولا يفسدون علينا الحياة بالمكر والكيد والرياء والنفاق، يظهروننا على ذات نفوسهم في أصرح الصراحة، وأصدق الصدق، وأوفى الوفاء.
أتعرفهم؟ إنهم إخوان الصفا حقا، إنهم جديرون بأن نمنحهم ودنا في غير تحفظ، ونخلص لهم حبنا في غير اقتصاد. فلن نجني من ذلك إلا خيرا. إنهم الكتب يا سيدي! الكتب التي يكتبها الناس على اختلاف طبائعهم، وتفاوت حظوظهم من نقاء القلوب، وصفاء الطباع، واعتدال الأمزجة، وطهارة الضمائر.
أليس عجيبا أنك تقرأ الكتاب فتجد فيه غذاء قلبك وعقلك وذوقك؟ تجد هذا كله صفوا لا يكدره مكدر، ولا يشوبه شائب، فإذا بحثت عن كاتبه فعسى أن تعرف أنه كان أنكد الناس حياة، وأكدرهم طبعا، وأسوأهم مزاجا.
فاعجب للخير المحض يستخلص من الشر المحض، وللنقاء النقي يستخلص من الدنس الدنس. صدقني إذا ضقت بالناس فتعز عنهم بما يكتب الناس، واحمد لهم بعد هذا كله أنهم يسيئون كثيرا، ولكن بينهم قوما يحسنون كثيرا، وأنهم يجرحون القلوب، ولكن بينهم قوما يأسون الجراح.
فاعرف لهم ذلك، واغفر لمسيئهم شكرا لمحسنهم، واقبلهم آخر الأمر على علاتهم، واذكر دائما قول أبي العلاء:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟!
صفحه نامشخص