وما أرى إلا أنك قد وضعت الكتاب حين بلغت منه هذه الجملة، فاستأنيت شيئا، ومددت بصرك أمامك، كأنك ذاهل بعض الذهول، ثم انحرفت إلى يمين، فألقيت نظرة سريعة خاطفة على هذه المرآة التي تقوم غير بعيد من سريرك ... فأنت تقرأ كتابي هذا في غرفة نومك؛ لأنك لا تخرج منها إلا بعد أن تفرغ من الصحف، وتقرأ ما يحمل إليك البريد، ثم أنت تعود إلى الكتاب فتقرؤه من أوله، تريد أن تتذوق ما فيه من ثناء عليك، وتقريظ لك، كأنك تجد في هذه القراءة المعادة، أو كأنك تستمد من هذه القراءة المعادة؛ شجاعة تعينك على المضي في الكتاب إلى آخره، وعلى استقبال ما ينتظرك فيه من ملامة وعتاب.
كنت إذن تحدثنا، فتروعنا بألفاظك العذبة، ومعانيك الساحرة، وفطنتك البارعة، وعقلك النافذ إلى أعماق الحياة. ولكن التليفون يدعوك، فلا تكاد تستجيب لمن يتحدث إليك من أقصى الخيط حتى يضعف صوتك بعد قوة، ويلين بعد شدة، ويتهالك بعد امتناع وإباء، وقد عرفنا مما سمعنا من كان يتحدث إليك من أقصى الخيط، فكدنا ننكر، ولكنا لم نفعل، وإنما أحسنا بك الظن، وقدرنا أنه حسن العشرة وجمال الأدب ورقة الحاشية وترف الذوق. ومضيت في حديثك عن كلمة «لا» هذه، تبين لنا تصويرها لحرية الفرد، وتبين لنا تصويرها لحرية الجماعة، وتبين لنا تصويرها لحرية الشعب، وتوازن بينها وبين كلمة «نعم» حين تكثر منها نفس الفرد ولسانه، فيتورط في الموبقات التي تضنيه، وحين تكثر منها نفوس الجماعات وألسنتها فتتعرض للذلة والهوان، وحين تكثر منها سيرة الشعب فيتعرض للظلم والاستبداد، وحين تكثر منها سيرة الحكومات فتتعرض للعدوان، والاستعمار.
وأنت تضرب لهذا كله الأمثال من حياة المصريين، ومن حياة غير المصريين، فيما كان من أمرهم، وفيما هو كائن، وأنت تتمنى علينا أن نعلم المصريين كلمة «لا»، وأن نذيعها في بيئاتهم مهما تختلف، وفي طبقاتهم مهما تتفاوت لعلهم أن يجمعوا عليها فتسلم لهم حريتهم وكرامتهم، ولعل حكومتهم أن تؤمن بها، وتنطق بها، وتصر عليها، فتسلم لمصر سيادتها واستقلالها.
ولكن حاجبك يقبل فينبئك بمقدم الوزير. وإذا أنت تخف في غير أناة، وتسرع في غير وقار، وينظر جلساؤك إليك مسرعين، ثم ينظر بعضهم إلى بعض متباطئين متسائلين، ثم تثور في نفوسهم وقلوبهم خواطر متباينة، وعواطف متناقضة لست في حاجة إلى أن أجلوها لك أو أعرضها عليك، فقد قلد أكثرهم سيرتك، فخف في غير أناة، وأسرع في غير وقار، وإذا أنتم جميعا تهرعون لاستقبال الوزير، وصدق أقلهم مقالتك فتمهل، واستأنى ولبث في مكانه. حتى إذا أقبل الوزير قام في أدب، وتلقى تحيته في احتشام، وردها إليه في ظرف، وعاد إلى مجلسه في وقار. •••
وأنت تذكر بعد ذلك ما كان من سيرتك وسيرة جلسائك مع الوزير، وما كان من سيرة الوزير معك ومع جلسائك، منذ أقبل إلى أن انصرف. وأنت تذكر ما كان من خفتكم لتشييعه في غير أناة، ومن إسراعكم إلى مرافقته في غير وقار، ومن عودتكم بعد ذلك وعلى ثغوركم ابتسام خير منه العبوس، وفي وجوهكم إشراق خير منه الإظلام، ولكن في ألسنتكم انعقادا أفصح من الكلام؛ لأن قلوبكم كانت مستحيية، ولأن ضمائركم كانت مستخذية، ولأن غشاء رقيقا من الكآبة الفاترة كان يقوم دون عقولكم، فيمنع نورها أن ينفذ إلى خارج، ويمنع نور الحياة والحرية أن ينفذ إليها. والحمد لله على أن قلوبكم ما زالت شاعرة تجد الحياء، وعلى أن ضمائركم ما زالت نقية يظهر فيها كدر الاستخذاء، وعلى أن عقولكم ما زالت صافية تغشاها الكآبة بين وقت ووقت، حين ترى ما لا يجمل بكرام الناس، فليس يجمل بكرام الناس أن يحبوا كلمة «لا» إذا خلوا إلى أنفسهم، وأن يقولوا «نعم» إذا لقوا أصحاب الجاه أو السلطان، وليس يجمل بكرام الناس أن يتحدثوا حديث الأحرار، ويسيروا سيرة العبيد، وليس يجمل بكرام الناس أن يناقضوا إلى هذا الحد بين ما يعتقدون في دخائل نفوسهم وأعماق ضمائرهم، وما يظهرون من سيرتهم حين يعاشرون أمثالهم من الناس. فالوزير يا سيدي رجل مثلك مهما يكن حظه من القوة والسلطان، ومهما يكن حظه من الذكاء والحذق، ومهما يكن حظه من التفوق والنبوغ ... هو رجل مثلك، خلق من تراب، وسيعود إلى تراب، يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب، وينام كما تنام، ويستيقظ كما تستيقظ، ويسعى بين الناس كما تسعى أنت بين الناس، ويخلو إلى نفسه كما تخلو أنت في نفسك ... فحقه عليك كحقك عليه، لا ينبغي أن ينقص، ولا ينبغي أن يزيد.
استغفر الله، بل حقه عليك أقل جدا من حقك عليه؛ لأنك قد نصبته لخدمتك، وكلفته النهوض ببعض أمرك، وأجرته على ذلك أجرا يقبضه في كل شهر، حين يأخذ مرتبة هذا الضئيل، ويقبضه في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل لحظة، يستمتع بما تحيطه به الدولة من مظاهر السلطان والجاه.
فأما هو فلن ينصبك لشيء، ولم يكلفك شيئا، ولم يأجرك على شيء، وليس له عندك إلا ما للإنسان عند الإنسان من الرفق الرفيق، والمعاملة الكريمة، والأدب الجميل، ولعمري لئن عجزت عن أن تمسك على نفسك إباءها أمام وزير أنت شاركت في جعله وزيرا، لتعجزن أشد العجز وأشنعه حين تغريك المغريات، وتخوفك المخوفات ... وما أكثر ما في حياة الناس، وفي حياة أمثالك خاصة، مما يغري ويخيف. وعزيز علي أيها الصديق الكريم أن أسوءك بقول أو فعل، ولكن الصداقة نصيحة قبل كل شيء، ولم ينصح لك من أبدى لك ما يسرك، وأخفى عليك ما يسوءك. •••
فاستقبل أمرك ذكيا نقيا أبيا، واجتهد في أن ترى نفسك كما أراها، فتعرف منها مثل ما أعرف، وتنكر منها مثل ما أنكر، وإذا تعلقت علي بما تنكر من أمري، فافرض على نفسك من النصح لي والعنف بي، مثل ما أفرض على نفسي في ذاتك، واذكر أن قوما كانوا في الدهر يصنعون الأصنام ليعبدوها، وأن الزمن قد تقدم وتقدم، وأصبح مما لا يلائم كرامة الناس أن يصنعوا الوزراء ليقدموا إليهم الطاعة والخضوع.
صحائح الأنباء
في أي أنباء مصر تريد أن أكتب إليك أيها الصديق الكريم؟ فيما يرضيك ويلهيك، أم فيما يؤذيك ويضنيك ... فعندي وعند كل مصري من هذه وتلك أطراف. أمرنا في ذلك كأمر غيرنا من الناس في غير مصر من البلاد. فعند كل إنسان مهما يكن، ومهما يكن بلده؛ أنباء تسر وتلهي، وأنباء أخرى تسوء وتؤذي؛ لأن حياة الناس كلهم في عصورهم كلها، وفي أوطانهم كلها مزاج من الجد والعبث، ومن الخير والشر، ومن اللذة والألم، ومن الحزن والسرور.
صفحه نامشخص