وأنا أعلم - جعلت فداك - أن الحق مر، وأن النصح ثقيل، وأن الصدق بغيض إلى أصحاب السلطان. ولكنني أوثرك على نفسي، وأصفيك خالص ودي، وقد علمت ما علمت فكتبت ما كتبت، وأنا مرسل إليك هذا الكتاب، فمرتحل إلى البصرة لأقيم فيها بعيدا عن بغداد. فلأن أكون مغمورا في البصرة أحب إلي من أن أكون مشهورا معروفا في بغداد.
ومضى الجاحظ في رسالته تلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات على ما تعود أن يمضي فيه من الاستطراد، والتنقل بين ألوان الحديث، ولكن وقت القارئ أضيق من أن أتم له هذه الرسالة.
الوشاية والوشاة
هداك الله إلى الرشد، وجعلك إلى الرشد هاديا، وللحق داعيا. وحماك الله من الغي، وجعلك من الغي حاميا، وعن الإثم ناهيا. ودلك الله على الخير، وجعلك على الخير دليلا، وبالبر كفيلا، وعصمك الله من الشر، وجعلك من الشر عاصما، وللفتنة حاسما. ووقاك الله سعي الساعين بالأذى، ودعاء الداعين إلى القطيعة، وإرجاف المرجفين بالكذب، وإسراف المسرفين في الكيد، ومشي الماشين بالنميمة.
فقد كان يقال إن صاحب القلب الذكي، والحكم الراجح ، والبصيرة النافذة؛ خليق أن يحذر الساعين إليه بالناس، وأن يقدر أنهم إن يسعوا إليه اليوم فقد يسعون به غدا، وإن يكيدوا لخصمه عنده، والأيام مقبلة عليه، فقد يكيدون له عند خصمه، والأيام مدبرة عنه. وكان يقال إن الدهر قلب، وإن الأيام لا تؤمن، وإن الزمان كلف بالغدر، موكل بالمساءة، يبسم ليعبس، ويعبس ليبسم! وكان يقال إن الرجل الحذر خليق ألا يؤتى من مأمنه، وسبيله إلى ذلك ألا يطمئن إلى الأيام، ولا يستريح إلى الدهر، وأن يستقبل النعماء مقدرا أنها قد تزول عنه، وأن يستقبل البأساء مقدرا أنها الغمرات ثم ينجلين!
وإذا كان الحزم للرجل اللبيب ألا يأمن الأيام، ولا يطمئن إلى الدهر، فأحزم من ذلك ألا يأمن الناس، ولا يستريح إليهم ... فهم يسعون إلى الرجل ذي السلطان والبأس؛ رغبا إليه أو رهبا منه، يلتمسون عنده الخير، ويبتغون إليه الوسيلة، ويسلكون إليه السبل حراصا على أن يخلو لهم وجهه، ويصفو لهم وده، ويخلص لهم ضميره، فتغمرهم نعمته، وتعدوهم نقمته، وهم يعلمون أن صاحب السلطان والبأس لا بد له من أن ينعم، فهم يحرصون على أن يستأثروا بأنعامه، ولا بد له من أن ينتقم، فهم يجهدون في أن يصرفوا نقمته عن أنفسهم. وهم في كل ذلك يطلبون إلى صاحب السلطان والبأس أكثر مما يطلبون إلى أنفسهم، ويأخذون منه أكثر مما يعطونه؛ يطلبون إليه أن يخصهم بصفو نفسه، وصدق وده، وشامل معروفه، ولا يعطونه من أنفسهم إلا الكدر والرنق، ولا يمنحونه من ودهم إلا التكلف والرياء، ولا يهدون إليه من معروفهم إلا تربص الدوائر به، وانتهاز الفرص فيه، وانتظار اليوم الذي يتحولون فيه عنه إلى من ينافسه ويناوئه. فهم يعرضون قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، وضمائرهم للبيع، ويقبلون ما يعرض عليهم لها من ثمن. فأي الناس أرضاهم مالوا إليه، وأي الناس قصر في إرضائهم انحرفوا عنه، وتألبوا عليه!
ثم هم بعد ذلك لا يحفظون ودا، ولا يرعون حرمة، ولا يذكرون جميلا. وإنما يسرع النسيان إلى قلوبهم فيمحو منها كل ذكرى، ويلقي بينها وبين ما قدم إليهم من الخير، والمعروف حجبا وأستارا. ثم هم بعد ذلك لا يكتفون بالنسيان، ولا يقنعون بنكران الجميل، وكفر النعمة، وإنما يضيفون شرا إلى شر، ونكرا إلى نكر، وجحودا إلى جحود. قد أقاموا حياتهم على الكذب، وأجروا سيرتهم على الرياء، وطووا ضمائرهم على النفاق. فهم لا يستطيعون أن يعيشوا بأنفسهم، وإنما يستمدون حياتهم من المنعمين عليهم، المحسنين إليهم، ومن المغترين بهم، والمنخدعين لهم ... فهم يتملقون من أتيح له السلطان، يسعون إليه من كل سبيل، ويسلكون إليه كل طريق، يرقون إليه على أعناق سادتهم الذين أحسنوا إليهم، وبروا بهم، وغمروهم بالمعروف، لا يتحرجون من غدر، ولا يتأثمون من نكر، قد استحبوا المنافع العاجلة على المنافع الآجلة، وآثروا المكر على الإخلاص، والغدر على الوفاء. فخليق بصاحب السلطان أن يعرفهم حق معرفتهم، وأن يضعهم حيث وضعوا أنفسهم، وأن يخشى أن يمكروا به كما مكروا بمن كان من قبله، وأن يتخذوه وسيلة إلى التماس المنافع عند غيره كما اتخذوا من كان قبله وسيلة إلى التماس المنافع عنده!
وهذا الصنف من الناس - أيدك الله - رذل الطبع، موبوء القلب، مدخول الضمير، لا يحسب لشيء حسابا، ولا يرجو لأحد وقارا، لا يفرق بين خير وشر، ولا يميز عرفا من نكر، وإنما الخير ما انتهى به إلى ما يريد، والشر ما حال بينه وبين ما يريد، وإنما العرف ما أداه إلى غايته، والنكر ما باعد بينه وبين غايته، فليس للفضيلة عنده وزن، وليس للخلق الكريم في نفسه قدر، وهؤلاء الناس ينتهي بهم مراسهم للكيد، وإمعانهم في المكر إلى أن يستعذبوا الإثم، ويستحبوه، وإلى أن يكذبوا حبا في الكذب، ويشوا إيثارا للوشاية. يجدون في ذلك رضى لنفوسهم التي لا ترضى إلا بالشر، ولا تنعم إلا بالوقيعة، ولا تستريح إلا إلى الإفساد بين الناس.
وقد أدب الله - عز وجل - رسوله
صلى الله عليه وسلم
صفحه نامشخص