والذي يورطهم في هذا أنهم يحتاجون إلى الكلام في إعجاز القرآن، فيحتاجون إلى معرفة ماهية الفصاحة والبلاغة من غير أن يتقدم لهم علم بذلك، فيفزعون إلى مطالعة ما تيسر لهم من كتب هذه الصناعة. فإذا فرق أحدهم بين التجنيس والترديد، وماز الاستعارة من الإرداف، ظن أنه قد حصل على شيء من هذا العلم، فأخذ يتكلم في الفصاحة بما هو محض الجهل بها. ومثلهم في هذا مثل رجل، شاهدت له هذه القصة التي أذكرها، بمرسيه: وذلك أنه مرض له صاحب كان يعز عليه ويرى في حياته حياته، ولم يكن له علم بالطب والنظر فيها ليعالج صاحبه المريض. فانسلخت عنه ليلة وهو يتعاطى في غدها من المعالجة الطيبة ما لم يكن يتعاطاه في أمسه، إذ كان قد ظن أنه قد اكتسب معرفة صناعة الطب من ليلته. ثم شرع من صبيحته في معالجة صاحبه المريض، فقضى عليه في اليوم الثاني بثريدة أطعمها إياه رأى أنها تصلح به.
فكما أن هذا الرجل أصبح جالينوسا من ليلته كذلك يريد المتكلم في الفصاحة من المتكلمين أن يصبح من ليلته جاحظا وقدامة إن شاء. (الطويل -ق- المتواتر)
وإن كلام المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
١٩- إضاءة: وكيف يظن إنسان أن صناعة البلاغة يتأتى تحصيلها في الزمن القريب. وهي البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار فيها! وإنما يبلغ الإنسان منها ما في قوته أن يبلغه. ألا ترى أن كثيرا من العلوم قد نفذ فيها قوم في أزمنة لا تستغرق إلا جزءا يسيرا من العمر؟! وهذا أبو الطيب المتنبي، وهو إمام في الشعر، لم يستقم شعره إلا من مزاولة الصناعة عشرين سنة، ثم زاولها بعد ذلك زمنا طويلا، وتوفي وهو يصيب فيها ويخطئ. وهذا ليس مختصا به وحده، بل كل إمام ناظم أو ناثر هذه غايته، إذ كانت هذه الصناعة تتشعب وجوه النظر فيها إلى ما لا يحصى كثرة. فقلما يتأتى تحصيلها بأسرها والعلم بجميع قوانينها لذلك. وسائرها من العلوم ممكن أن يتحصل كله أوجله. وليس هذا تفضيلا لصناعة البلاغة على غيرها من العلوم، إذ ليس يلزم إذا كان علم أشد تشعبا من علم آخر أن يكون أفضل منه، بل المفاضلة بين العلوم من جهات أخر وعلى ما ذكرته.
فلو قدرنا أن إنسانا ذكيا ينظر في علم من العلوم شهرا أو عاما لتحصلت له من ذلك العلم مسائل محققة، ولا يحصل له في هذا القدر من الزمان من هذه الصناعة شيء يعتد به، إذ أكثر ما يستحسن ويستقبح في علم البلاغة له اعتبارات شتى بحسب المواضع. فقد يحسن في موضع ما يقبح في موضع ويقبح في موضع ما يحسن في موضع، ولا يقف الإنسان على تلك المواضع إلا بطول المزاولة. ولا يشرف الإنسان على جمل من تلك المواضع يمكنه أن يستنبط بها أحكام ما سواها إلا بكثرة الفحص والتنقيب عما يجب اعتماده في جميع أحوال الصناعة من إيثار ما يجب أن يؤثر وترجيح مت يجب أن يرجح بالنظر إلى الشيء في نفسه أو النظر إلى ما يقترن به أو إلى ما هو خارج عن ذلك مما تقدم التعريف به.
ج- معلم دال على طرق العلم بالأشياء المخيلة
الشعر كلام مخيل موزون، مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك. والتئامه من مقدمات مخيلة، صادقة كانت أو كاذبة، لا يشترط فيها -بما هي شعر- غير التخييل.
١- إضاءة: والتخييل في الشعر يقع من أربعة أنحاء: من جهة المعنى، ومن جهة الأسلوب، ومن جهة اللفظ، ومن جهة النظم والوزن.
وينقسم التخييل بالنسبة إلى الشعر قسمين: تخييل ضروري، وتخييل ليس بضروري، ولكنه أكيد أو مستحب، لكونه تكميلا للضروري وعونا له على ما يراد من إنهاض النفس على طلب الشيء أو الهرب منه.
والتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة الألفاظ. والأكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل الأسلوب وتخاييل الأوزان والنظم، وآكد ذلك تخييل الأسلوب.
٢- تنوير: والتخييل أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها، أو تصور شيء آخر بها انفعالا من غير روية إلى جهة من الانبساط أو الانقباض.
1 / 27